المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌مناسبتها لما قبلها - التفسير القرآني للقرآن - جـ ١١

[عبد الكريم يونس الخطيب]

فهرس الكتاب

- ‌الآيات: (46- 51) [سورة العنكبوت (29) : الآيات 46 الى 51]

- ‌الآيات: (52- 55) [سورة العنكبوت (29) : الآيات 52 الى 55]

- ‌الآيات: (56- 60) [سورة العنكبوت (29) : الآيات 56 الى 60]

- ‌الآيات: (61- 69) [سورة العنكبوت (29) : الآيات 61 الى 69]

- ‌30- سورة الرّوم

- ‌مناسبتها لما قبلها

- ‌الآيات: (1- 10) [سورة الروم (30) : الآيات 1 الى 10]

- ‌الآيات: (11- 19) [سورة الروم (30) : الآيات 11 الى 19]

- ‌الآيات: (20- 27) [سورة الروم (30) : الآيات 20 الى 27]

- ‌[الليل.. وما وسق]

- ‌الآيات: (28- 32) [سورة الروم (30) : الآيات 28 الى 32]

- ‌الآيات: (33- 40) [سورة الروم (30) : الآيات 33 الى 39]

- ‌الآيات: (40- 45) [سورة الروم (30) : الآيات 40 الى 45]

- ‌الآيات: (46- 53) [سورة الروم (30) : الآيات 46 الى 53]

- ‌الآيات: (54- 60) [سورة الروم (30) : الآيات 54 الى 60]

- ‌31- سورة لقمان

- ‌الآيات: (1- 11) [سورة لقمان (31) : الآيات 1 الى 11]

- ‌الآيات: (12- 19) [سورة لقمان (31) : الآيات 12 الى 19]

- ‌الآيات: (20- 28) [سورة لقمان (31) : الآيات 20 الى 28]

- ‌الآيات: (29- 34) [سورة لقمان (31) : الآيات 29 الى 34]

- ‌32- سورة السجدة

- ‌الآيات: (1- 11) [سورة السجده (32) : الآيات 1 الى 11]

- ‌الآيات: (12- 21) [سورة السجده (32) : الآيات 12 الى 21]

- ‌الآيات: (22- 30) [سورة السجده (32) : الآيات 22 الى 30]

- ‌33- سورة الأحزاب

- ‌مناسبتها لما قبلها

- ‌الآيات: (1- 5) [سورة الأحزاب (33) : الآيات 1 الى 5]

- ‌الآيات: (6- 8) [سورة الأحزاب (33) : الآيات 6 الى 8]

- ‌الآيات: (9- 20) [سورة الأحزاب (33) : الآيات 9 الى 20]

- ‌الآيات: (21- 27) [سورة الأحزاب (33) : الآيات 21 الى 27]

- ‌الآيات: (28- 30) [سورة الأحزاب (33) : الآيات 28 الى 30]

- ‌الآيات: (31- 35) [سورة الأحزاب (33) : الآيات 31 الى 35]

- ‌الآيات: (36- 40) [سورة الأحزاب (33) : الآيات 36 الى 40]

- ‌الآيات: (41- 48) [سورة الأحزاب (33) : الآيات 41 الى 48]

- ‌الآيات: (49- 52) [سورة الأحزاب (33) : الآيات 49 الى 52]

- ‌الآيات: (53- 55) [سورة الأحزاب (33) : الآيات 53 الى 55]

- ‌الآيات: (56- 59) [سورة الأحزاب (33) : الآيات 56 الى 59]

- ‌الآيات: (60- 71) [سورة الأحزاب (33) : الآيات 60 الى 71]

- ‌الآيتان: (72- 73) [سورة الأحزاب (33) : الآيات 72 الى 73]

- ‌34- سورة سبأ

- ‌الآيات: (1- 9) [سورة سبإ (34) : الآيات 1 الى 9]

- ‌الآيات: (10- 14) [سورة سبإ (34) : الآيات 10 الى 14]

- ‌الآيات: (15- 21) [سورة سبإ (34) : الآيات 15 الى 21]

- ‌الآيات: (22- 30) [سورة سبإ (34) : الآيات 22 الى 30]

- ‌الآيات: (31- 33) [سورة سبإ (34) : الآيات 31 الى 33]

- ‌الآيات: (34- 39) [سورة سبإ (34) : الآيات 34 الى 39]

- ‌الآيات: (40- 45) [سورة سبإ (34) : الآيات 40 الى 45]

- ‌الآيات: (46- 54) [سورة سبإ (34) : الآيات 46 الى 54]

- ‌35- سورة فاطر

- ‌الآيات: (1- 7) [سورة فاطر (35) : الآيات 1 الى 7]

- ‌الآيات: (8- 14) [سورة فاطر (35) : الآيات 8 الى 14]

- ‌الآيات: (15- 23) [سورة فاطر (35) : الآيات 15 الى 23]

- ‌الآيات: (24- 28) [سورة فاطر (35) : الآيات 24 الى 28]

- ‌الآيات: (29- 37) [سورة فاطر (35) : الآيات 29 الى 37]

- ‌الآيات: (38- 41) [سورة فاطر (35) : الآيات 38 الى 41]

- ‌الآيات: (42- 45) [سورة فاطر (35) : الآيات 42 الى 45]

- ‌36- سورة يس

- ‌الآيات: (1- 12) [سورة يس (36) : الآيات 1 الى 12]

- ‌الآيات: (13- 27) [سورة يس (36) : الآيات 13 الى 27]

- ‌فهرس الموضوعات

الفصل: ‌مناسبتها لما قبلها

‌33- سورة الأحزاب

نزولها: مدنية..

عدد آياتها: ثلاث وسبعون آية..

عدد كلماتها: ألف ومائتان وثمانون كلمة..

عدد حروفها: خمسة آلاف وسبعمائة وستة وستون حرفا..

‌مناسبتها لما قبلها

مع أن هذه السورة مدنية، ومع أن السورة التي قبلها (السجدة) مكية، ومع الفاصل الزمنى الممتد بينهما، فقد اتصلت السورتان بعضهما ببعض، والتقى ختام السابقة منهما ببدء التالية، حتى لكأنهما سورة واحدة.. وهذا مما يدل على أن ترتيب السّور في المصحف توقيفى كترتيب الآيات في السور.. وهذا يعنى أن الصورة التي نزل عليها القرآن تختلف جمعا وترتيبا- وإن لم تختلف مادة وموضوعا- عن الصورة التي انتظم عليها نظام القرآن، بعد أن تم نزوله، فى العرضة الأخيرة التي كانت بين جبريل وبين النبىّ- صلوات الله وسلامه عليهما- على ما سنرى ذلك عند تفسير السورة.

وهنا يلقانا أمر نحبّ أن نقف عنده، وننظر فيه، وفي الآثار التي تنجم عنه..

[فتنة الترتيب النزولى للقرآن] فهناك دعوة جديدة محمومة بدأت تظهر في آفاق مختلفة في محيط العالم الإسلامى، وفي خارج هذا المحيط، تدعو إلى إعادة نظم القرآن وجمعه على حسب ترتيب نزوله.. بمعنى أن يكون المصحف القرآنى المقترح، مبتدئا بأول آية تلقاها

ص: 632

النبي الكريم، وحيا من ربه، ثم الآية التي تليها، وهكذا آية آية، وآيات آيات، حتى آخر آية نزلت على النبي..

وهذا أمر يبدو في ظاهره أنه دراسة من الدراسات التي تخدم القرآن، مثل تلك الدراسات التي قامت حول الكتاب الكريم، كأسباب النزول، والناسخ والمنسوخ، والمكي والمدني، والنهارى والليلى، وما نزل ببيت المقدس، وما نزل بالطائف، وما نزل بالسفر، وما نزل بالحضر، إلى غير ذلك من تلك الدراسات الكثيرة، التي تدور في فلك القرآن، ولا تمس الصميم منه..

ومن هنا كان خطر هذه الدعوة، التي قد ينخدع لها كثير من المسلمين، والتي ربما اندفع في تيارها، بعض العلماء، عن نية حسنة، ومقصد سليم، إذ كان الأمر في ظاهره دراسة في كتاب الله، وفتحا جديدا، يعد كشفا من كشوف العلم الحديث في دراسة القرآن..

ويبدو الخطر الذي يتهدد القرآن من الفتنة، ماثلا من وجوه:

فأولا: استحالة ضبط صورة القرآن على حسب الترتيب النزولى لآياته..

حيث لم يعرف الترتيب النزولى إلا لعدد محدود من آيات القرآن، لا تمثل إلا أقل القليل منه.. قد لا تتجاوز بضع آيات، أو عشرات من الآيات على أكثر تقدير.. وحتى هذا القليل الذي يقال إنه معروف الترتيب، لم يقع الإجماع بين العلماء عليه، وحتى أنهم لم يتفقوا على أول ما نزل به الوحى، كما لم يتفقوا على آخر ما نزل به.. فبينما يقول أكثرهم إن أول ما تلقى النبي من وحي، هو قوله تعالى:«اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ» - بينما يقول أكثرهم هذا، يقول بعضهم- كما في صحيح مسلم- إن أول ما نزل من القرآن «المدثر»

ص: 633

كما يقول آخرون، إن أول ما نزل من القرآن «الفاتحة» ثم نزل بعدها المدثر، ثم الآيات الثلاث الأولى من سورة «نوح» .

وبينما يقول أكثر العلماء، إن آخر القرآن نزولا هو قوله تعالى:«الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً» (3:

المائدة) إذ يقول آخرون إن آخر ما نزل من القرآن هو: «إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ» ويقول غيرهم إن آخر القرآن نزولا هو قوله تعالى: «وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ» (281: البقرة) وفي البخاري أن آخر القرآن نزولا:

«يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ» (176: النساء) .

فإذا كان المسلمون لم يتفقوا على أول آيات نزلت من القرآن، كما لم يتفقوا على آخر ما نزل منه، فكيف يقع اتفاقهم فيما وراء ذلك؟ والمعروف أن أوائل الأمور، وأواخرها أكثر إلفاتا للناس وشدّا لانتباههم، وإيقاظا لمشاعرهم، وتعلقا بذاكرتهم، من غيرها! ثانيا: لو سارت هذه الفتنة إلى غايتها، وسلّم لأصحابها أن يمضوا بها كما يشاءون- ومع افتراض النية الحسنة فيهم- فإن الذي سيحدث من هذا هو أن تتغير صورة القرآن تغيرا كبيرا، لا يصبح معه القرآن قرآنا، بل سيكون هناك عشرات، بل مئات وألوف من المصاحف التي تسمى قرآنا، والتي لا يلتقى واحد منها مع آخر.. وكل ما فيها أنها آيات القرآن، انفرط عقدها، وتناثرت آياتها، كما تتناثر أجزاء آلة من الآلات الميكانيكية أو الكهربية، ثم تتناولها أيدى أطفال، يجمعونها ويفرقونها كما يشاءون! ونضرب لهذا مثلا من القرآن، لصورة من تلك الصور التي يمكن أن نجىء عليها سورة كسورة العلق مثلا، وهى التي يكاد يتفق العلماء على أن الآيات الأولى منها كانت أول ما نزل من الوحى.. وهى قوله تعالى: «اقْرَأْ بِاسْمِ

ص: 634

رَبِّكَ»

إلى قوله تعالى: «عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ» .. ثم نصل هذه الآيات بما قيل إنه كان أول ما تلقاه النبي بعدها من آيات، وهى قوله تعالى:«يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ» ثم لنصل بها ما كان تاليا لها في النزول، وهى الآيات الثلاث من أول سورة «نوح» .

ونقرأ هذا القرآن:

«اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ» «قالَ يا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذا جاءَ لا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ» ..

هذه صورة، أو سورة، مما يمكن أن يقرأ عليه القرآن، لو أخذ بالترتيب النزولى، الذي تدعو إليه تلك الفتنة، وذلك على قول واحد من تلك الأقوال الكثيرة المختلفة في هذا الترتيب

فكيف لو أخذ بكل قول؟ ثم كيف لو أخذ بالأقوال المختلفة كلها في القرآن كله، فى ترتيب نزوله؟ إنه- والأمر كذلك- لا تكاد تجتمع آية إلى آية، حيث لا تلتقى رواية على رواية، ولا يتفق قول مع قول.. وبهذا يكون أىّ ترتيب لآيات القرآن، صالحا لأن يقبل أي دعوى تدّعى أنه الترتيب الذي نزل عليه.. وتستوى في هذا جميع الدعاوى التي تدعى، إذ كانت كلها ترجع إلى غير مستند صحيح، يعول عليه..

ومن هذا يتسع المجال للكيد، وتنفسح السبيل للأهواء.. وإذا الذي في أيدى

ص: 635

المسلمين أعداد لا تحصى من كتاب الله.. حتى ليكاد يكون لكل مسلم قرآن يقرؤه على الترتيب الذي يراه..

وانظر، ماذا يكون وراء هذا من بلاء، وفتنة! فمثلا إذا قرأ قارئ آية، ثم أتبعها أخرى، وجد مئات، وألوفا من الخلاف عليه، هذا يقول: إن الآية التالية هى كذا، وذاك يقول إنها هكذا.

وثالث، ورابع.. إلى مئات المقولات وألوفها.. وحسب المسلمين من هذا فرقة وشتاتا..! مع أن هذا أقل ما يرد عليهم من شرور هذه الفتنة، إذا كان هذا الخلاف في غير آيات الأحكام.. أما إذا وقع ذلك في آيات الأحكام، وهو واقع لا محالة، فهيهات أن تقوم للمسلمين شريعة، أو ينتظم لهم له رأى في حكم من أحكام دينهم..

وخذ مثلا لهذا، الآيات الواردة في الخمر، أو الربا، والتي روعى في نزولها أخذ المسلمين بالرفق والحكمة، فى تحريم هذين المنكرين.. فجاء الحكم في تحريمهما متدرجا، من التنزه والتعفف، إلى الكراهية، ثم إلى التحريم..

إن لقائل أن يقول: إن آيات الخمر نزلت على هذا الترتيب:

«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ.. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ.. وَلا جُنُباً إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا غَفُوراً يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما وَيَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ

ص: 636

تَتَفَكَّرُونَ

فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ» .

وإن لقائل هذا القول لمنطقا، إذ أن له أن يقول، إن آيات الخمر نزلت جملة واحدة، جمعت أطراف الأمر كله! وعلى هذا يكون النظر في حرمة الخمر وحلّه.. ثم إن له أن يقول- وإن لقوله لمنطقا-: إن الخمر ليس حراما حرمة مطلقة، إلا أن يسكر منه شاربه، ثم يصلى وهو سكران! ويقال: مثل هذا كذلك في الربا، على اعتبار أن آخر الآيات نزولا هى قوله تعالى:«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً» .. فالربا لا يكون- على هذا الاعتبار حراما إلا إذا كان أضعافا مضاعفة.

وهكذا يمكن أن تعرض أحكام الشريعة كلها على آيات القرآن، وتستدار لها الآيات على أي وجه يقيمه الناس عليه..

وثالثا: لو سلّم جدلا، بإمكان ترتيب القرآن ترتيبا زمنيا بحسب نزوله- وهو أمر مستحيل استحالة مطلقة- فما جدوى هذا؟ وماذا يعود على دارسى القرآن منه؟

لقد أشرنا إلى بعض الأخطار المزلزلة التي تهدد الإسلام- شريعة وعقيدة- من هذه الفتنة فهل وراء هذه المجازفة شىء من الخير، يقوم إلى جوار هذه الشرور العظيمة الناجمة منها؟ إن كل شر يقوم إلى جواره بعض الخير، الذي قد يجعل للشر وجها يحتمل عليه، ويبّرر الأخذ به..

فهل في هذا الشر أية لمحة من لمحات الخير؟.

والذي نقطع به أن هذا العمل شر محض، وإن زين أهله ظاهره بهذا

ص: 637

الطلاء الزائف، تحت شعار الدراسة التاريخية للقرآن، على نحو الدراسة الجغرافية، أو الدراسة النفسية، أو غير ذلك من الدراسات التي تضاف إلى القرآن، وتدور في فلكه، دون أن تمس الصميم منه..

ولا نقف طويلا في مواجهة هذه الفتنة، ولا نمعن النظر كثيرا في وجهها الكئيب المشئوم.. وننظر في كتاب الله، الذي في أيدينا، نظرا مباشرا، على ما تركه فينا من أنزل إليه هذا الكتاب- صلوات الله وسلامه عليه- فهذا هو القرآن الذي أمرنا بالتعبد به تلاوة، والعمل بأحكامه، وآدابه على ما نتلوه عليه.. فهذا هو قرآننا، وهذا هو ديننا الذي نتلقاه من كتابنا.. وإن أية تلاوة تقوم على غير هذا الوجه، هى كلام، لا قرآن، وإن أية شريعة تقوم على غير هذه التلاوة ليست من شريعة الإسلام، ولا من دين الله، سواء التقت مع شريعة الله أو لم تلتق معها، وسواء أوافقت دين الإسلام، أو خالفته..

نقول هذا، ونحن على علم، وعلى إيمان بأن القرآن الكريم نزل منجما، ولم ينزل جملة واحدة، وأنه كان في مرحلة نزوله، على ترتيب غير هذا الترتيب الذي انتهى إليه، بعد أن تم نزوله!.

فهناك دوران قام عليهما بناء القرآن الكريم.. دور الدعوة.. ثم الدور الذي تلاها.. ولكل من الدورين أسلوبه، وغايته.

القرآن في دور الدعوة:

ونزول القرآن في دور الدعوة، قام على أسلوب خاص، من حيث تنجيم النزول، وترتيبه معا..

ص: 638

فمن حيث التنجيم.. لم ينزل القرآن جملة واحدة.. بل نزل آية آية، وآيات آيات، حسب مقتضيات الدعوة، ومستلزمات أحداثها.. وقد بين الله سبحانه وتعالى الحكمة في هذا، فقال تعالى:«وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلًا» (106: الإسراء) كما زاد ذلك بيانا في قوله سبحانه: «وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً؟ .. كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلًا وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً» (32- 33 الفرقان) .

ومن حيث ترتيب النزول.. فقد نزل القرآن لغاية تحقق أمرين:

أولهما: اقتلاع الشرك، الذي كان قد استولى على الحياة الإنسانية كلها، واغتال مواطن الإيمان في كل بقعة منها.. ليقيم في الأرض مكانا للإيمان بالله، حتى يعتدل ميزان الإنسانية، ويكون لها نهار يدور في فلكها، مع هذا الليل الطويل الذي تعيش فيه..

وثانيهما: إقامة شريعة في تلك المواطن التي قام فيها الإيمان، حتى تثبت أصوله، وتطلع ثمراته، فيكون منها زاد طيب لأهل الإيمان، يعيشون فيه، وتطيب لهم وللناس الحياة معه..

ولتحقيق الأمر الأول، كانت معركة الإسلام الأولى منحصرة في ميدان الشرك.. ومن هنا كانت آياته التي تنزل في هذه المرحلة من مراحل الدعوة، جندا مرسلة من الله، تدكّ معاقل الشرك، وتهدم حصونه، وتفتح للعقول والقلوب، الطريق إلى الله..

وقد استغرقت هذه المرحلة الجزء الأكبر من الدعوة الإسلامية، فى إقامة الحجج على وجود الله، وكشف البراهين على وحدانيته، وما له سبحانه من

ص: 639

صفات الكمال والجلال.. ثم في فضح الشرك، وتعرية آلهة المشركين من كل ما ألقوه عليهم من أوهام وضلالات..

وفي أثناء هذا الدور كانت تتنزل بعض الآيات في الدعوة إلى مكارم الأخلاق، وفي إقامة مشاعر الناس على الأخوة الإنسانية، وعلى الصبر، والرفق، والإحسان إلى غير ذلك مما يليق بمن يعرف الله، ويؤمن به، ويدخل في زمرة عباده الذين يبتغون مرضاته، ويرجون وحمته..

فلما انكسرت شوكة الشرك، وأوشكت دولته أن تدول، أخذت آيات الله تتنزل بأحكام الشريعة التي تقوم عليها الحياة الروحية والمادية لهذا المجتمع الذي آمن بالله، وأجلى الشرك من موطنه، فكان ما ينزل من آيات الله في هذا الدور، يكاد يكون مقصورا على بناء أحكام الشريعة، من عبادات، ومعاملات، وحدود، ومن سلم، وحرب، وغنائم، وغير ذلك مما ينتظمه قانون الشريعة الإسلامية..

وكان من مقتضيات حكمة الشريعة القائمة على اليسر، ورفع الحرج، أن جاءت كثير من أحكام الشريعة متدرجة في تكاليفها من السهل إلى الصعب، لأنها كانت تتعامل مع أناس قطعوا شطرا كبيرا من حياتهم في الجاهلية، ورسب في نفوسهم، واختلط بمشاعرهم كثير من ضلالاتها..

فكان مما اقتضته الحكمة الإلهية أخذ هؤلاء الذين لقيهم الإسلام على أول دعوته- بالرفق، والتلطف، حتى بألفوا هذا الدين، ويتعقلوا أحكامه، ويأخذوا أنفسهم بها.. ولو أخذوا بغير هذا الأسلوب، لتغير موقفهم من الشريعة، ولما أحدثت فيهم هذه الآثار العظيمة التي أخرجت منهم خير أمة أخرجت للناس.

هذا هو الخطّ الذي قامت عليه سيرة الدعوة الإسلامية، وعلى هذه

ص: 640

المسيرة كانت تتنزل آيات الله بالزاد الذي تحتاج إليه كل مرحلة.. حتى كانت آخر آية نزلت من كتاب الله، كانت الدعوة قد بلغت غايتها، وآتت الثمر المرجو منها.. فنزل قوله تعالى:

«إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْواجاً فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ.. إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً» مؤذنا بمصافحة السماء للأرض، مصافحة وداع، بعد أن أودعت فيها هذا الزاد العتيد.. ثم كانت آية الختام:«الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً» !.

القرآن بعد دور الدعوة:

وإلى هنا كان الرسول، قد تلقى القرآن الكريم كله من ربه، وحفظه فى قلبه، كما حفظه كثير من المسلمين معه، كما كان كتّاب الوحى قد استكملوا كتابته.

والسؤال هنا: على أية صورة كان القرآن عند آخر آية نزلت؟ وهل كان على ترتيب النزول، أم على هذا الترتيب الذي هو عليه الآن؟.

والجواب على هذا:

أولا: من المقطوع به أن القرآن عند ما نزلت آخر آية منه لم يكن على هذا الترتيب الذي هو عليه الآن، كما أنه لم يكن على ترتيب النزول.. وذلك أن الرسول- بوحي من ربّه- كان خلال العشرين سنة أو تزيد، التي نزل فيها القرآن، يرتب الآيات، فيضع- بوحي من ربّه- آيات مدنية في سور مكية، كما يضع آيات مكية في سور مدنية.. فكانت عملية النقل هذه تغيّر من صورة السّور، طولا وقصرا، فينقل من هذه السورة آيات إلى تلك، ومن تلك إلى أخرى، وهكذا في اتصال دائم بدوام نزول القرآن.

ص: 641

وثانيا: بعد أن تم «نزول القرآن» ، ولم تعد ثمة آيات أخرى يوحى بها، كان عمل الوحى، مع النبىّ صلوات الله وسلامه عليه، هو ترتيب القرآن على هذا الترتيب الذي أراده الله سبحانه وتعالى عليه، وهو ما نجده بين دفتى المصحف، كما تركه الرسول، بعد تلك العرضة أو العرضتين أو الثلاث، التي كانت بين جبريل وبين النبىّ.

وثالثا: لم يترك النبي صلى الله عليه وسلم هذه الدنيا، ويلحق بالرفيق الأعلى، حتى كان صحابة رسول الله، وحتى كان كتّاب الوحى، قد أخذوا الصورة الكاملة، فى تحديد دقيق، للقرآن الكريم، وعرفوا مكان كل آية من سورتها، ومبدأ كل سورة وختامها، وما بين بدئها وختامها..

ومن الموافقات العجيبة، التي نعدّها نفحة من نفحات القرآن الكريم، أننا نعرض لهذا البحث- من غير تدبير- فى سورة الأحزاب.. ففى سورة الأحزاب هذه مقولات تقال، وروايات تروى..

ففى مسند أحمد عن رزين بن حبيش، قال: قال لى أبىّ بن كعب كائن (أي كم) تقرأ سورة الأحزاب، أو كائن (أي كم) تعدّها؟ قلت: ثلاثا وسبعين آية

فقال (أي أبىّ) : لقد رأيتها وإنها لتعادل سورة البقرة.. ولقد قرأنا فيها: «الشيخ والشيخة إذا زنيا فاجلدوهما البتة نكالا من الله والله عزيز حكيم» فرفع فيما رفع..!!

ولقد بنى على هذه الرواية أن قرآنا كثيرا نسخ تلاوة، وأن قرآنا آخر نسخ تلاوة ولم ينسخ حكما، كهذه التي يقال إنها كانت آية قرآنية:«الشيخ والشيخة» .. وقد عرضنا لموضوع النسخ في أكثر من موضع.. فلا نعرض له هنا..

ص: 642

وإنما الذي نقف عنده من هذا الخبر- على اعتبار صحته- هو: كيف كانت سورة الأحزاب تعادل سورة البقرة؟ فما تأويل هذا؟ وكيف أصبحت سورة الأحزاب ثلاثا وسبعين آية بينما سورة البقرة تبلغ مائتين وستا وثمانين آية؟

والجواب على هذا، أن سورة الأحزاب كانت تعدل في طولها أو امتدادها سورة البقرة، وأنه في العرضة أو العرضات التي كانت بين جبريل، وبين النبي أخذت كثير من الآيات في سورة الأحزاب مواضعها من سور القرآن المكّى، أو المدنىّ، حتى صارت على هذه الصورة التي هى عليها..

وعلى هذا فلم يكن قرآن رفع منها، رفع نسخ، تلاوة وحكما، بل الذي كان هو قرآن رفع منها إلى مواضع أخرى من القرآن.. كما حدث ذلك في كثير من آيات القرآن..

ونعود إلى ما كنا فيه من ترتيب القرآن بعد دور الدعوة، فنقول: إنه وقد انتهى دور الدعوة، وأدى الرسول رسالة ربه، ودالت دولة الشرك، ودخل الناس في دين الله أفواجا- كان لا بد أن ترتب آيات الله، على هذا الترتيب الذي أمر الله به، بعد أن نزلت آخر آية من القرآن الكريم.. فقد كان الترتيب النزولى مقدّرا بحاجة الدعوة في مسيرتها من مبدئها إلى ختامها، وموقوتا بهذا الوقت الذي يكمل فيه نزول القرآن.. فلما تم نزول القرآن، وختم الرسول دعوته، أخذ القرآن هذا الترتيب السّماوى، الذي يعيش في ظله، مجتمع مسلم، آمن بالله، وبآيات الله، ورسول الله.. ولم بعد من تدبير القرآن أن يواجه الناس آية آية، أو آيات آيات، أو يلقاهم حالا بعد حال، وحدثا إثر حدث، وإنما الذي يلقاهم منذ ختام الرسالة كتاب الله جميعه.. كأنه آية واحدة هى شريعة الله، ودستور المسلمين..

ص: 643