المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الآيات: (1- 11) [سورة السجده (32) : الآيات 1 الى 11] - التفسير القرآني للقرآن - جـ ١١

[عبد الكريم يونس الخطيب]

فهرس الكتاب

- ‌الآيات: (46- 51) [سورة العنكبوت (29) : الآيات 46 الى 51]

- ‌الآيات: (52- 55) [سورة العنكبوت (29) : الآيات 52 الى 55]

- ‌الآيات: (56- 60) [سورة العنكبوت (29) : الآيات 56 الى 60]

- ‌الآيات: (61- 69) [سورة العنكبوت (29) : الآيات 61 الى 69]

- ‌30- سورة الرّوم

- ‌مناسبتها لما قبلها

- ‌الآيات: (1- 10) [سورة الروم (30) : الآيات 1 الى 10]

- ‌الآيات: (11- 19) [سورة الروم (30) : الآيات 11 الى 19]

- ‌الآيات: (20- 27) [سورة الروم (30) : الآيات 20 الى 27]

- ‌[الليل.. وما وسق]

- ‌الآيات: (28- 32) [سورة الروم (30) : الآيات 28 الى 32]

- ‌الآيات: (33- 40) [سورة الروم (30) : الآيات 33 الى 39]

- ‌الآيات: (40- 45) [سورة الروم (30) : الآيات 40 الى 45]

- ‌الآيات: (46- 53) [سورة الروم (30) : الآيات 46 الى 53]

- ‌الآيات: (54- 60) [سورة الروم (30) : الآيات 54 الى 60]

- ‌31- سورة لقمان

- ‌الآيات: (1- 11) [سورة لقمان (31) : الآيات 1 الى 11]

- ‌الآيات: (12- 19) [سورة لقمان (31) : الآيات 12 الى 19]

- ‌الآيات: (20- 28) [سورة لقمان (31) : الآيات 20 الى 28]

- ‌الآيات: (29- 34) [سورة لقمان (31) : الآيات 29 الى 34]

- ‌32- سورة السجدة

- ‌الآيات: (1- 11) [سورة السجده (32) : الآيات 1 الى 11]

- ‌الآيات: (12- 21) [سورة السجده (32) : الآيات 12 الى 21]

- ‌الآيات: (22- 30) [سورة السجده (32) : الآيات 22 الى 30]

- ‌33- سورة الأحزاب

- ‌مناسبتها لما قبلها

- ‌الآيات: (1- 5) [سورة الأحزاب (33) : الآيات 1 الى 5]

- ‌الآيات: (6- 8) [سورة الأحزاب (33) : الآيات 6 الى 8]

- ‌الآيات: (9- 20) [سورة الأحزاب (33) : الآيات 9 الى 20]

- ‌الآيات: (21- 27) [سورة الأحزاب (33) : الآيات 21 الى 27]

- ‌الآيات: (28- 30) [سورة الأحزاب (33) : الآيات 28 الى 30]

- ‌الآيات: (31- 35) [سورة الأحزاب (33) : الآيات 31 الى 35]

- ‌الآيات: (36- 40) [سورة الأحزاب (33) : الآيات 36 الى 40]

- ‌الآيات: (41- 48) [سورة الأحزاب (33) : الآيات 41 الى 48]

- ‌الآيات: (49- 52) [سورة الأحزاب (33) : الآيات 49 الى 52]

- ‌الآيات: (53- 55) [سورة الأحزاب (33) : الآيات 53 الى 55]

- ‌الآيات: (56- 59) [سورة الأحزاب (33) : الآيات 56 الى 59]

- ‌الآيات: (60- 71) [سورة الأحزاب (33) : الآيات 60 الى 71]

- ‌الآيتان: (72- 73) [سورة الأحزاب (33) : الآيات 72 الى 73]

- ‌34- سورة سبأ

- ‌الآيات: (1- 9) [سورة سبإ (34) : الآيات 1 الى 9]

- ‌الآيات: (10- 14) [سورة سبإ (34) : الآيات 10 الى 14]

- ‌الآيات: (15- 21) [سورة سبإ (34) : الآيات 15 الى 21]

- ‌الآيات: (22- 30) [سورة سبإ (34) : الآيات 22 الى 30]

- ‌الآيات: (31- 33) [سورة سبإ (34) : الآيات 31 الى 33]

- ‌الآيات: (34- 39) [سورة سبإ (34) : الآيات 34 الى 39]

- ‌الآيات: (40- 45) [سورة سبإ (34) : الآيات 40 الى 45]

- ‌الآيات: (46- 54) [سورة سبإ (34) : الآيات 46 الى 54]

- ‌35- سورة فاطر

- ‌الآيات: (1- 7) [سورة فاطر (35) : الآيات 1 الى 7]

- ‌الآيات: (8- 14) [سورة فاطر (35) : الآيات 8 الى 14]

- ‌الآيات: (15- 23) [سورة فاطر (35) : الآيات 15 الى 23]

- ‌الآيات: (24- 28) [سورة فاطر (35) : الآيات 24 الى 28]

- ‌الآيات: (29- 37) [سورة فاطر (35) : الآيات 29 الى 37]

- ‌الآيات: (38- 41) [سورة فاطر (35) : الآيات 38 الى 41]

- ‌الآيات: (42- 45) [سورة فاطر (35) : الآيات 42 الى 45]

- ‌36- سورة يس

- ‌الآيات: (1- 12) [سورة يس (36) : الآيات 1 الى 12]

- ‌الآيات: (13- 27) [سورة يس (36) : الآيات 13 الى 27]

- ‌فهرس الموضوعات

الفصل: ‌الآيات: (1- 11) [سورة السجده (32) : الآيات 1 الى 11]

‌32- سورة السجدة

نزولها: مكية عدد آياتها: ثلاثون.. آية عدد كلماتها: ثلاثمائة وثلاثون.. كلمة عدد حروفها: ألف وخمسمائة وتسعة وتسعون.. حرفا مناسبتها لما قبلها جاء في آخر السورة السابقة- سورة لقمان- قوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ، وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ، وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ، وَما تَدْرِي نَفْسٌ ماذا تَكْسِبُ غَداً، وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ، إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ» .. وقد تضمنت هذه الآية أمورا خمسة، جعلت علمهن مما استأثر الله سبحانه وتعالى بعلمه وليس لعلم الإنسان سبيل إليهن..

وقد جاء في هذه السورة- سورة السجدة- بيان شارح لهذه الأمور..

ومؤكد لتقريرها.. كما سنرى.

بسم الله الرحمن الرحيم

‌الآيات: (1- 11)[سورة السجده (32) : الآيات 1 الى 11]

بسم الله الرحمن الرحيم

الم (1) تَنْزِيلُ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (2) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (3) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ ما لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ (4)

يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (5) ذلِكَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (6) الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ (7) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ (8) ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (9)

وَقالُوا أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ كافِرُونَ (10) قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (11)

ص: 598

التفسير:

قوله تعالى:

«الم تَنْزِيلُ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ» .

«الم» مبتدأ. وقوله تعالى: «تَنْزِيلُ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ» خبر محذوف، لمبتدأ آخر، دل عليه ما قبله، والجملة من المبتدأ المقدّر وخبره، خبر «الم» ..

وتقدير هذا: «الم» ذلك «تنزيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين» - أي على هذا الأسلوب نزل كتاب الله.. مجملا ومفصلا، محكما ومتشابها.

فألف، لام، ميم.. حروف مفصلة، و «الم» كلمة واحدة..

وألف، لام، ميم، محكمة، إذ لكل حرف منها دلالته.. و «الم» متشابهة، إذ لا يعلم تأويلها في هذه الصورة المركبة، إلا الله، والراسخون في العلم.

ومعنى «تنزيل» أي النزول الذي نزل القرآن على صفته من رب العالمين.

- وقوله تعالى: «لا رَيْبَ فِيهِ» جملة حالية، من الكتاب.. وهى بمنزلة

ص: 599

الصفة للكتاب، بمعنى أن الكتاب الذي نزل من عند الله، «لا رَيْبَ فِيهِ» .

أي ليس فيه موضع لريبة أو شكّ، لأنه الحق الذي لا شبهة فيه.. ويجوز أن يكون معنى «لا ريب فيه» نفى الريب والشك عن نزوله من الله، أي لا ريب فى أنه نزل من عند الله.

- وقوله تعالى: «مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ» متعلق بقوله تعالى: «تَنْزِيلُ» أي أن ذلك الكتاب منزل من رب العالمين.. وكفى بإضافته إلى الله سبحانه وتعالى، جلالا وشرفا لهذا الكتاب.. وفي إضافته إلى «رب العالمين» إشارة إلى ما يحمل إلى الناس جميعا من فضل ربهم وإحسانه إليهم، فهو- سبحانه- الرب، وهم المربوبون له، المنشّئون في ظل رعايته..

قوله تعالى:

«أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ.. بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ» .

الضمير في «يقولون» يعود إلى المشركين، وهم وإن لم يجر لهم ذكر، مذكورون في هذا المقام، الذي لا يرى فيه غير أهل الشرك والضلال والعناد، الذين ينكرون الحق، ويمارون فيه..

- وفي قوله تعالى: «افْتَراهُ» عدول من الخطاب إلى الغيبة، وهذا على غير ما يقتضيه النظم، إذ كان قوله تعالى:«تَنْزِيلُ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ» خطابا للنبى، لأن القرآن كله خطاب من ربه إليه، ثم ما جاء بعد ذلك فى قوله تعالى:«لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ» يقضى بأن يكون مقام النبي هنا مقام حضور، لا مقام غيبة..

والسؤال هنا: ما سر هذا الاختلاف في النظم؟ ولم خوطب النبي- صلوات الله وسلامه عليه- خطاب غيبة في قوله تعالى: «أَمْ يَقُولُونَ

ص: 600

افْتَراهُ»

؟ ولم لم يجر الخطاب على هذا النسق في قوله تعالى: «بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ..؟»

والجواب على هذا- والله أعلم- هو أنه لما كان الافتراء، مما لا يليق بمقام النبوة، ولا يصح أن يطوف بحماها، فقد كان إكرام الله سبحانه وتعالى لنبيه الكريم، وإحسانه إليه، ورفعه لقدره، أن عزل سمعه عن أن يواجه بهذا المكروه من القول الذي يقوله المشركون فيه، وحتى أنهم وإن أرادوا النبي به، فإنما هو مصروف عنه إلى غيره، ممن يصح أن يكون منه افتراء.. وهذا- فوق أنه تكريم للنبى، وإعلاء لقدره- هو أدب سماوى، وإعجاز قرآنى، فى تصوير الوقع، وضبطه على أحكم ميزان، وأعدله، وأقومه..

أما حين يكون الأمر مما يخص النبي، ويتعلق برسالته، ويحقق صفته، فإنه يكون من مقتضى الحال أن يواجه النبي بالخطاب، وأن يتلقى ما يخاطب به فى مشهد وحضور، فذلك أرضى لنفسه، وأهنأ لقلبه.. ولهذا جاء قوله تعالى:

«بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ» .

- وقوله تعالى: «أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ» هو إنكار لتلك المقولة المنكرة التي يقولها المشركون في كتاب الله.. فهم في هذه القولة، يرتكبون جنايتين:

أولاهما: اتهام النبي بالكذب والافتراء.. وهم على علم بأنهم كاذبون مفترون، إذ أنهم يعرفون صدق هذا النبي، الذي لم يعرف الكذب في حياته، ولم يجربوا عليه كذبة منذ عرفوه، صببا، وشابا، وكهلا.. وثانيتهما: أنهم يفترون الكذب على هذا الكتاب، وهم يرون بأعينهم آيات الحق مشرقة في كل كلمة من كلماته، ومع كل آية من آياته! فلو أنهم اتهموا النبي لردّهم عن هذا ما رأوا من صدق الكتاب نفسه، ولو أنهم اتهموا الكتاب لصدّهم عن ذلك ما عرفوا

ص: 601

من صدق النبي.. ولكنه العناد الذي يورد أهله موارد الضلال، ويرمى بهم فى مواطن السوء.

- وقوله تعالى: «بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ» .. إضراب على مقولتهم تلك، واعتبارها من لغو الكلام، وسقط القول، وإزالة هذا القول المنكر من هذا المقام، وإقامة الحق مقامه.. «بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ» .

- وقوله تعالى: «لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ» يتعلق بقوله تعالى: «تَنْزِيلُ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ» أي أن هذا الكتاب المنزل من ربك بالحق، إنما أنزل إليك لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك.. والقوم هنا هم قوم النبي.. وفي ذكرهم هذا الذكر المنكر «قوما» بدلا من إضافتهم إلى النبي هكذا:«لتنذر قومك» .. إشارة إلى أنهم كانوا على حال من الضلال والضياع، بحيث كادت تذهب معالمهم، وتضيع إنسانيتهم، وفي هذا ما يدعوهم إلى النظر إلى أنفسهم، وإلى البحث عن وجودهم الضائع، حتى يجدوه في ضوء هذا النور المرسل إليهم.

- وقوله تعالى: «ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ» .. إشارة إلى أن هؤلاء المشركين لم يأتهم نبى قبل هذا النبي يحمل كتابا من عند الله، يدعوهم به إلى دين الله.. وليس يرد على هذا ما كان من مقام إبراهيم وإسماعيل في هؤلاء القوم، وما كان لآبائهم الأولين من اتصال بهذين النبيين الكريمين، ومن الإيمان بهما، والأخذ عن شريعتهما، وذلك لأمرين:

أولهما: أن إبراهيم عليه السلام لم يلقهم لقاء مباشرا، ولم يكن من شأنه معهم أن يبشر فيهم بشريعته، وإنما أقام البيت الحرام، مع إسماعيل، وترك لإسماعيل مهمة القيام على هذا البيت، ودعوة من يلمّون به، إلى الإيمان بالله،

ص: 602

والأخذ بشريعة أبيه إبراهيم.. وقد كان من هذا أن تابع إسماعيل على شريعة أبيه، كثير من العرب، وعبدوا الله حنفاء مخلصين له الدين.

وثانيهما: أنه لما طال العهد بهؤلاء القوم، تفلتوا من شريعة إبراهيم شيئا فشيئا، حتى لم يبق في أيديهم منها إلا ظلال باهتة، وإلّا رسوم دارسة، وحتى لقد زحف الشرك على موطن الإيمان، وأجلاه من مواقعه، وأصبح بيت الله مجمعا لآلهة الضلال التي جلبوها إليه، من أصنام وأنداد.

وعلى هذا تكون رسالة إسماعيل إلى العرب، رسالة قاصرة، محدودة الزمن، قد أدت دورها في فترة، لم تتجاوز جيلا أو جيلين، ثم غربت شمسها، إذ لم يكن وراءها كتاب، يقوم في القوم مقام الرسول بعد موته.

وبهذا يكون المراد بالقوم في قوله تعالى: «لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ» هم هؤلاء المخاطبون من المشركين، ويدخل معهم في هذا الخطاب آباؤهم الأقربون، إذ لو كان قد جاء إلى آبائهم الأقربين رسول، لكانوا محسوبين مع آبائهم هؤلاء، داخلين في دعوة الرسول الذي لقى آباءهم..

وهذا ما يشير إليه قوله تعالى. «لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ فَهُمْ غافِلُونَ» (6: يس) .

- وفي قوله تعالى: «لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ» . إطماع لهؤلاء المنذرين في الاهتداء إلى الله، وانتفاع بهذا الكتاب الذي يتلى عليهم، وأنه كتاب يرجى منه الهدى لكثير منهم، الأمر الذي تحقق فيما بعد، فآمن كثير منهم به، ودخلوا فى دين الله أفواجا..!

قوله تعالى:

«اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى

ص: 603

عَلَى الْعَرْشِ ما لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ» .

هذا من بعض ما يحمل الكتاب من نذر ينذر بها الرسول قومه..

ففى هذا النذير إلفات إلى قدرة الله، وإلى سلطانه القائم على هذا الوجود، وأنه سبحانه هو الذي خلق السموات والأرض، وقام بسلطان قدرته عليها، وعلى تصريف كل شىء فيهما.. فليؤمنوا إذن بهذا الإله المتفرد بالألوهة، وليتركوا ما هم عاكفون عليه من أصنام.. فإن لم يفعلوا أخذهم الله بعذابه الذي لا يدفعه عنهم «ولىّ» أي قريب أو حليف، ولا يشفع لهم من بأس الله «شفيع» من تلك المعبودات التي يعبدونها من دونه، ليقربوهم إلى الله زلفى..

- وقوله تعالى: «اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ» . قد عرضنا لتفسيره من قبل، فى غير موضع، وقلنا إنه ليس المراد بالستة الأيام هنا اشتغال الله سبحانه وتعالى بعملية الخلق طوال هذه المدة، كما فهم ذلك كثير من المفسرين، نقلا عن التوراة، وما جاء في أول سفر التكوين منها، من أن الله خلق المخلوقات في ستة أيام، ثم استراح في اليوم السابع..

تقول التوراة: «فى البدء خلق الله السماوات والأرض..»

ثم تقول وهى تعرض ما خلق الله في السموات والأرض: «وكان مساء وكان صباح.. يوما واحدا.. وكان مساء وكان صباح يوما ثانيا وكان مساء.. وكان صباح يوما ثالثا.. وهكذا إلى اليوم السادس، ثم تقول:

«فأكملت السماوات والأرض وكل جندها، وفرغ الله في اليوم السابع من عمله الذي عمل، فاستراح في اليوم السابع من جميع عمله الذي عمل» !! وهذا فهم خاطئ لقدرة الله، وتحديد لتلك القدرة، ومقايسة لها بقدرة

ص: 604

المخلوقين، حتى إنه سبحانه- ليعمل في كل يوم عملا، ثم يستريح بعد أن يعمل، وحتى لكأنّ العمل قد أجهده وأتعبه.. وتعالى الله عما يقول الضالون علوا كبيرا.. «إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ» (82: يس) .

وقد قلنا إن هذه الأيام، هى العمر الذي نضج في بوتقته خلق السموات والأرض، تماما كما يتخلّق كل مخلوق في زمن محدد.. من النطفة إلى الوليد، ومن البذرة إلى الثمرة.. فلكل جنين زمن يتم فيه تكوينه، ولكل ثمرة وقت تبلغ به تمامها ونضجها.. وهكذا كل مخلوق مما خلق الله!.

أما حصر الخلق في الستة الأيام هذه، فذلك شأن من شئون الله في خلقه، لا يسأل عما يفعل.. «يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ» (68: القصص) .

- وفي قوله تعالى: «ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ» ما يسأل عنه: ألم يكن الله سبحانه وتعالى عرش يستوى عليه قبل أن يخلق السموات والأرض؟ ألم يكن هناك سلطان لله قبل أن يخلق ما خلق؟.

ومع أن هذا التساؤل لا محل له، لأنه مما يتعلق بذات الله، ومما لا تناله العقول، ولا تدركه الأفهام.. فالسؤال شطط، والجواب عنه إمعان في هذا الشطط- مع هذا، فإننا لكى نرضى هذا التطلع والفضول منا، نقول: إن سلطان الله قائم أبدا، وجد هذا الوجود أم لم يوجد.. فالعلم، والقدرة، والحكمة، والسمع، والبصر، وغير ذلك من صفات الله، هى صفات أزلية قائمة بالذات، سواء ظهرت آثارها أو لم تظهر.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى:«الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى» (50: طه) .. فهداية

ص: 605

الله للمخلوقات قائمة قبل الخلق، ولكنها تتجلى حين يظهر المخلوق، ويأخذ الانجاه الذي توجهه قدرة الله، وعلمه، وحكمته إليه..

ومثله قوله تعالى: «اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ، ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ» (40: الروم) .

فهذا الخلق، ثم الرزق، ثم الإماتة، ثم الإحياء، كلها واقعة في علم الله، مقدورة لقدرته، ولكنها تتجلى في كل مخلوق، حالا بعد حال، وزمنا بعد زمن، حسب علم الله وتقديره.

واستواء الله سبحانه وتعالى على العرش، هو تجلّيه سبحانه على هذه المخلوقات التي خلقها، وإجراؤها على النظام الذي قدره لها..

قوله تعالى:

«يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ» .

تدبير الأمر، قضاؤه، والأمر بإنفاذه..

والمراد بالسماء هنا، الإشارة إلى متنزل هذا الأمر المدبر، وهو أنه من سلطان عال متمكن..

والمراد بالأرض: الإشارة إلى ما يقضى به الله في شأن الناس، وما يتصل بعالمهم الأرضى، إذ كانوا هم المخاطبين بهذا، والمدعوين إلى النظر فيه، وتلقّى العبرة منه..

وعروج الأمر إلى الله، هو الرجوع إليه، بعد أن يقع على الصورة التي أرادها، فيعلمه سبحانه على الصورة التي وقع عليها، وهذا العلم ليس

ص: 606

حادثا، بل هو علم قديم، لأمور حادثة.. فكل الأمور تصدر عن الله، ثم تعود إليه، بعد أن تدور دورتها المقدورة لها، كما يقول سبحانه:

«أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ» (53: الشورى) .

- وقوله تعالى: «فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ» - اختلفت الأقوال في هذا اليوم، وهل هو يوم القيامة، أم هو يوم من أيام الله في هذه الدنيا..

واليوم، هو وحدة من وحدات الزمن عند الناس، فى هذه الدنيا، وهو محدود بأربع وعشرين ساعة، تدور فيها الأرض دورة كاملة حول الشمس، من الغرب إلى الشرق.

وقد ورد في القرآن الكريم موازنة بين أيام الدنيا هذه، وأيام أخرى عند الله، فكان من تلك الأيام ما يوازى ألف سنة من أيام دنيانا، كما يقول الله تعالى في هذه الآية، وكما يقول جل شأنه في آية أخرى:

«وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ» (47: الحج) .

وجاء في موضع آخر من القرآن الكريم، أن من الأيام عند الله ما يعدل خمسين ألف سنة من أيامنا.. كما يقول سبحانه:«تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ» (4: المعارج) .. وهناك أيام تعدل ما لا حصر له من أيامنا في دنيانا تلك..

والذي نطمئن إليه في تأويل هذا اليوم الذي مقداره ألف سنة، واليوم الذي مقداره خمسون ألف سنة- هو أن هذين اليومين يوقّتان دورتين من دورات الأجرام السماوية في أفلاكها، وأن اليوم الذي مقداره ألف سنة من

ص: 607

أيام الأرض، هو يوم كوكب من الكواكب السماوية، حيث تتم دورته فى فلكه في ألف سنة.. ويمكن أن يكون هذا الكوكب في السماء الدنيا..

ويكون في الحديث عن هذا الكوكب، أو عن يومه وطوله بالنسبة ليوم الأرض- إشارة إلى قصر الحياة على هذه الأرض، ومع هذا، فإن الناس يستعجلون مقامهم فيها، ويستحثون مطاياهم للارتحال عنها:«خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آياتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ» .

وإذا كان في الكواكب ما يتمّ دورته في يوم. مثل فلك الأرض، وكان فيها ما يتم دورته في ألف سنة، مثل كثير من الكواكب- فإن هناك من الكواكب ما يتم في دورته في خمسين ألف سنة.. وهناك ما يتم دورة في آلاف آلاف من السنين..

فهناك أيام كثيرة في علم الله، لدورات الكواكب والنجوم المبثوثة فى ملك الله.. ولعل هذا هو السرّ في تنكير «يوم» فى المواضع الثلاث التي جاء فيها تحديد الزمن اليومي، بألف سنة، وبخمسين ألف سنة.. فكل يوم منها، هو بعض أيام الله، فلله سبحانه أيام لا تحصى في النظام الذي أقام عليه حركات الكواكب والنجوم، التي لا يعلمها إلا الله.

قوله تعالى:

«ذلِكَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ» .

الإشارة هنا إلى الذي يدبر الأمر من السماء إلى الأرض، ثم يعرج إليه فى يوم كان مقداره ألف سنة من أيام دنيانا وهو الله سبحانه وتعالى..

وقوله تعالى: «عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ» خبر لمبتدأ محذوف تقديره هو، أي ذلك المشار إلى قدرته في تدبير الأمور، هو عالم الغيب والشهادة، وهو العزيز الرحيم

ص: 608

وقدم علم الغيب على الشهادة، للإشارة إلى أن علم الله علم مطلق، لا تحدّه حدود، فيستوى لديه القريب والبعيد، والظاهر والخفىّ، إذ لا قرب وبعد، ولا خفاء وظهور.. لأن ذلك إنما يكون بالإضافة إلى العلم القاصر المحدود، الذي يتناول شيئا ويقصر عن شىء.. أما العلم الكامل المطلق، فحقائق الأشياء كلها واقعة في دائرة هذا العلم كحقيقة واحدة!.

وفي وصف الله سبحانه بالعزة والرحمة، إشارة إلى أن عزته سبحانه وتعالى، عزة رحمة وإحسان، وليست عزة تسلط وقهر، فإن من شأن العزة القهر والجبروت، وفي المثل:«من عزّ بزّ» .. وتعالت عزة العزيز الحكيم عن ذلك علوا كبيرا..

قوله تعالى:

«الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ» .

أي أن من عزة الله ورحمته قيام هذا الوجود على أحسن نظام، وأكمله..

والمراد بالحسن هنا ليس مجرد حسن السورة، وإنما هو الحسن الذي يتجلى فى إحكام الصنعة، ودقة التنسيق، وروعة التأليف، وتجاوب النغم، ووحدة الغاية، وإن اختلفت الاتجاهات، وتعددت الأنغام.. «ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ» .. فدبيب النملة على مسارها، وجريان الشمس في فلكها، وتدفق النهر في مجراه، وحفيف الأوراق على أشجارها، وكل همسة، وكل حركة في هذا الوجود، فى أرضه وسماواته، تؤلّف جميعها لحنا علوىّ النعم، يروع القلب جلاله، ويأسر الفؤاد حسنه وجماله.. سواء أنظر الإنسان إليها في اجتماعها أو افتراقها، وسواء استعرضها على تفصيلها أو إحمالها.

- وفي قوله تعالى: «وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ» إلفات إلى وحدة من وحدات هذا الخلق، وإشارة إلى مواطن هذا الحسن منه، وهو خلق الإنسان من طين

ص: 609

ففى هذا الطين الذي قد تنبو عنه العين، ويتحاشاه النظر حسن رائع، وجلال مهيب، إذا استطاع الناظر أن ينفذ إلى ما وراء هذا الظاهر الذي يراه، وأن يتجاوز هذه القشرة السوداء المعتمة من الطين.. فإن وراء هذه القشرة، عالما يموج بألوان زاخرة، زاهية من الحياة.. فما هذه الأناسىّ التي تتحرك على ظهر الأرض، وتملأ الحياة حركة وعمرانا، إلا بعض هذا الطين الذي نمشى عليه، وننطلق فوقه!! .. وإذا عجز إدراك الإنسان عن أن يرى في مرآة هذا الطين صورته، ويعرف الرّحم الذي تفتق عنه، فلينظر في وجوه الأرض، وما عليها من ألوان الزهر، وأصناف الشجر، وأنواع الثمر.. «وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوانٌ وَغَيْرُ صِنْوانٍ يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ» (4: الرعد) .

فهذا الطين، ليس في عين ذوى البصائر طينا، جامدا، صامتا، كئيبا، وإنما هو الجمال كله، والحسن كله، تفتقت عنه- بقدرة العزيز الرحيم- هذه الحياة المتدفقة من إنسان، وحيوان، ونبات! فبدء خلق الإنسان من طين، هو نقطة الابتداء، التي يبدأ العقل مسيرته منها، إلى حيث يلتقى بالإنسان في أكمل صورته، وأعظم مواقفه.. وعندئذ يرى كيف تدبير الله، وقدرته، وكيف علمه، وإحسانه، ورحمته.. فما أبعد ما بين الطين والإنسان، فى عين من لا يحسن النظر، ويمعن التفكير، وما أقرب ما بين الطين والإنسان، فى عين من ينظر، فيحسن النظر بعقله وبقلبه جميعا.. فمن هذا الطين، كان الأنبياء والرسل، والقادة، والمصلحون، والعباقرة.. ومن هذا الطين كانت تلك الشموس المضيئة التي زينت الأرض كما زينت الكواكب والنجوم وجه السماء!

ص: 610

قوله تعالى: «ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ» ..

وهذه لفتة أخرى إلى قدرة العزيز الرحيم، يرى فيها الإنسان نفسه، لا في هذا الطين، الذي ربما كانت كثافته حائلا بينه وبين نظره الكليل أن يرى وجوده فيه.. فهناك النطفة، التي يعلم الإنسان- كل إنسان- عن يقين أنه ثمرتها، وأنها البذرة التي جاء منها.. فأين تلك النطفة.. من هذا الإنسان؟

«فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ» . (5- 7 الطارق) .

وفي وصف النطفة بأنها ماء مهين، إشارة إلى أنها شىء رخيص مبتذل، لا يرى فيها الإنسان شيئا ذابال، فما هى إلا ماء مستقذر.. هكذا يبدو في ظاهر الأمر.. ولكن إذا نظر إليه نظرا متأملا متفحصا، رأى أنه هو هذا الإنسان، قد أجمل في هذه القطرة من الماء! ثم فصّل فكان هذا الخلق السّوىّ، الذي توّج بتاج الخلافة من الله على هذه الأرض! قوله تعالى:

«ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ» .

وهذه أيضا لفتة أخرى، يرى فيها الناظر إلى الإنسان في مسيرته من النطفة إلى الوجود البشرى- يرى كيف تحركت هذه النطفة، وكيف نمت كما ينمو النبات، حتى إذا بلغت في رحم الأمّ مرحلة محددة، نفخ فيها الخالق من روحه، فبعث فيها الحياة، حتى إذا تم نضجها، دفع بها الرحم إلى هذه الدنيا، قطعة من لحم، مصورة في هيئة بشر، لا سمع، ولا بصر، ولا إدراك.. ثم لا يلبث هذا الوليد حتى يكون له السمع والبصر والإدراك.. وإذا هو هذا الإنسان، كما هو في كل موقع من مواقع الحياة..

ص: 611

وقدّم السمع على البصر، لأنه أسبق من البصر ظهورا في الكائن الحي بعد الميلاد، حيث تبدأ وظيفة السمع في كيان الطفل، قبل أن يبدأ البصر في أداء وظيفته- وهذا من إعجاز القرآن، الذي كشف عنه العلم- ثم يجىء بعد هذا دور الوعى والإدراك! وفي إفراد السمع، وجمع البصر، والفؤاد، إشارة إلى أن معطيات السمع تكاد تكون واحدة عند الناس جميعا، وذلك على خلاف البصر، الذي يختلف من إنسان إلى إنسان، حيث يكون النظر عند بعض الناس مجرد عين ترى الأشياء رؤية حيوانية لا تتجاوز ظاهر المرئيات، على حين يكون النظر عند بعض آخر بصيرة نافذة، تبلغ الأعماق، وتصل إلى اللباب.. وكذلك الشأن في الفؤاد، وهو موطن المدركات! وذلك أظهر من أن يكشف عنه.

- وقوله تعالى: «قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ» أي قليل منكم من يعرف لله قدره، ويذكر له إحسانه وفضله، فيؤدى الشكر لله، إيمانا به، وإفرادا له بالألوهة، وفي هذا يقول سبحانه وتعالى:«وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ» (13: سبأ) قوله تعالى:

«وَقالُوا أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ كافِرُونَ» .

الضلال في الأرض: الضّياع، والفناء في ترابها.. وذلك بما يحدث للأجساد بعد الموت من تحلل وفناء.

والحديث هنا عن المشركين، الذين ينكرون البعث، ويرون أن انحلال أجسادهم بعد الموت، وتحولهم إلى تراب من تراب الأرض، يجعل من المستحيل أن يعودوا مرة أخرى إلى ما كانوا عليه، إذ ما أبعد ما بين هذه الأجساد

ص: 612

التي أبلاها البلى، وبين الحال التي ستصبح عليها لو صحّ أنهم سيبعثون..

ولو أنهم نظروا إلى ما دعاهم الله سبحانه وتعالى إليه، من النظر في قوله تعالى:«وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ» .. وفي قوله: «ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ» - لوجدوا أن لا فرق بين هذا التراب الذي جاءوا منه، أو تلك النطفة التي تخلقوا منها، وبين هذا التراب الذي صارت إليه أجسادهم.. بل إن فى أجسادهم الغائبة تحت التراب، إشارات تشير إليهم، وتاريخا يحدث عنهم! إنهم- وهم في التراب- أشبه بغائب ترجى له عودة، وهم لم يكونوا من قبل شيئا! وشىء يعود إلى أصله، أقرب في التصور من توقع وجود شىء من عدم! - وفي قوله تعالى:«بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ كافِرُونَ» - إشارة إلى أن هؤلاء المشركين على ضلال في حياتهم الدنيا.. قد فتنوا بها، وأذهبوا طيباتهم فيها، وأطلقوا لهواهم العنان يذهب بهم كلّ مذهب.. وهذا ما أوقع في تفكيرهم أن لا حياة بعد الموت، وأن لا حساب ولا جزاء

لأن ذلك يعنى أن يعملوا حسابا لهذا الحساب، وأن يتخففوا كثيرا مما هم فيه من ضلال، وأن يستبقوا من يومهم شيئا لما بعد هذا اليوم.. وإنه ليس لهم إلى ذلك من سبيل، وقد غلبتهم أهواؤهم، واستولت عليهم دنياهم.. وإذن فلا يوم بعد هذا اليوم، ولا حياة بعد هذه الحياة.. إنهم- والحال كذلك أشبه بالجند في ليلة الحرب.. يقضونها ليلة صاخبة معربدة، حتى الصباح، ينفقون فيها كل ما معهم.. ثم ليكن في الغد ما يكون!! قوله تعالى:

«قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ» .

توفية الشيء: استيفاؤه وأخذه كاملا وافيا، وعبّر عن الموت بالتوفى،

ص: 613