المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ منهاج السورة - التفسير المأمون على منهج التنزيل والصحيح المسنون - جـ ٤

[مأمون حموش]

الفصل: ‌ منهاج السورة

‌13 - سُوْرَةُ الرَّعَدِ

وهي سورة مكية مدنية، فيها المدني وفيها المكِّي - جمعًا بين أقوال أهل التأويل -، وعدد آياتها (43).

‌موضوع السورة

- تخويف الله عباده ببديع قدرته ومخلوقاته -

"والرعد مَلَكُ من جند الله"

-‌

‌ منهاج السورة

-

1 -

انتصار الله تعالى لهذا القرآن، واستواؤه تعالى على العرش بلا تكييف ولا تمثيل ولا تجسيم.

2 -

المخلوقات الكبيرة في هذا الكون تدعو إلى التفكر والاعتبار، والإخبات للجبار.

3 -

عجب الله تعالى من تكذيب المشركين بالمعاد، والمكذبون هم وقود النار.

4 -

استعجال المشركين العذاب، وتنطعهم بطلب المعجزات للسخرية لا للإيمان.

5 -

تأكيد علم الله تعالى الغيب وبما في داخل الأرحام، وتسخيره الملائكة لحفظ الأنام.

6 -

لا يغير الله حال قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، وعقوبة الله نازلة بالكافرين ولا ناصر لهم.

ص: 187

7 -

تخويف الله عباده ببعض آياته، كالبرق والرعد والصواعق ليفردوه بالعبادة والتعظيم، فله يسجد ما في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم.

8 -

الإيمان بالربوبية يقتضي الإيمان بالألوهية، ولا يملك ما يُعبد من دون الله كشف الضر ولا جلب النفع، والحق له البقاء والنصر، والباطل له الفناء والذل.

9 -

الخلود في الجنان لأهل الإيمان، ولا فداء من العذاب لأهل الكفر والطغيان، ولا يستوي الأعمى والبصير، وإنما يتعظ أولو الألباب.

10 -

أولو الألباب: هم أهل الوفاء بالعهد والميثاق، وأهل الوصل والخشوع والصبر وإقام الصلاة والإنفاق في سبيل الله، ومتابعة السيئات بالحسنات، أولئك يدخلون ويستقرون في الجنات، ومن تبعهم من الذرية والزوجات.

11 -

أهل النفاق: هم أهل نقض العهد وتقطيع ما أمر الله بوصله، وأهل المكر والفساد في الأرض، وأهل الفرح بهذه الحياة الدنيا، ولهم في الآخرة سوء الحساب والعقاب.

12 -

تَنَطُّعُ المشركين بطلب المعجزات، والإيمان نور يقذفه الله في القلب، وبذكره تعالى تطمئن القلوب، والمؤمنون لهم البشرى والكرامة في الدارين.

13 -

تسلية الله نبيه بوصله بسلسلة النبوة ومنهاج المرسلين، والقوارع لا تزال تنزل بالمشركين، حتى يأتي الله بالنصر المبين.

14 -

الله تعالى هو القائم على كل نفس بأرزاقها وأجلها وأعمالها، وآلهة المشركين هزيلة مهزومة، والمشركون في عذاب السعير.

15 -

فرح الصحابة بهذا القرآن، ومن أهل الكتاب من ينكر بعضه ظلمًا وزورًا، وتحذير الله نبيّه من متابعة أهل الأهواء.

16 -

بشرية الرسل، والمعجزات بيد الله، وهو تعالى ينسخ الشرائع بحكمته وعنده أم الكتاب.

17 -

تهديد المشركين وتوعد لهم بأن الفتح سينال قريبًا أرضهم.

18 -

إحاطة الله بمكر الطغاة في الأمم، وسيعلم الكفار لمن عقبى الدار.

19 -

لا يزال الكفار يكذبون بالنبوة، وكفى بالله شهيدًا على رسله.

20 -

علماء أهل الكتاب يقرون بالنبوة لرسولنا صلى الله عليه وسلم بما يجدونه في كتبهم.

ص: 188

{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}

1 -

4. قوله تعالى: {المر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (1) اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ (2) وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (3) وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (4)}.

في هذه الآيات: انتصار للقرآن الكريم، نَزّله الله على محمد صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين. إنه - تعالى - الذي رفع السماوات بغير عمد ثم استوى على العرش وسخر الشمس والقمر، يدبر الأمر ويفصل الآيات، وقد مهّد الأرض وجعل فيها الجبال الثوابت وأنشأ الأزواج من كل الثمرات، وفي الأرض قطع متجاورات وجنات، وزروع ونخيل وطعوم متنوعات، كل ذلك آيات لقوم يؤمنون بلقاء ربهم ويستعدون لذلك ويتفكرون ويعتبرون.

فقوله: {المر} - هو كما قيل هي شأن الحروف المقطعة أوائل السور، والراجح أن ذكرها من باب الإعجاز والبيان، ليتجلى عظمة ما بعدها من التنزيل.

وقوله: {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ} . أي: هذه آيات هذا الكتاب المعجز، وهو القرآن العظيم. وقوله:{وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ} . - قال مجاهد: (القرآن). وقال قتادة: (أي هذا القرآن). فهو عطف صفات على ما سبق ذكره.

ص: 189

وقوله: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ} . وَصْفٌ لطبيعة الكثرة من الناس، فالغالب من بني آدم على الشك واتباع الشهوات، كما قال جل ثناؤه:{وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ: 13]. وكقوله سبحانه: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} [يوسف: 103].

قال ابن كثير: ({وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ} - أي: مع هذا البيان والجلاء والوضوح لا يؤمن أكثرُهم لما فيهم من الشّقاق والعناد والنفاق).

وقوله: {اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا} .

قال قتادة: (رفعها بغير عمد). والآية خبر من الله تعالى عن عظيم قدرته وكمال سلطانه، وأن السماوات قامت بأمره وبإذنه دون أعمدة.

وقوله: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} - أي علا وارتفع سبحانه كما يليق بجلاله، وهو غير محتاج إلى العرش ولا إلى الكرسي، وإنما وصف العرش في القرآن كثيرًا لأنه أعظم مخلوقاته. قال ابن جرير:{ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} ، فإنه يعني: علا عليه).

أخرج محمد بن أبي شيبة بسند صحيح عن أبي ذر الغفاري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ما السماوات السبع في الكرسي إلا كحلقة ملقاة بأرض فلاة، وفضل العرش على الكرسي كفضل تلك الفلاة على تلك الحلقة](1).

وأخرج ابن خزيمة في "التوحيد"، وعبد الله بن أحمد في "السنة"، بسند صحيح عن ابن عباس قال:[الكرسي موضع القدمين، والعرش لا يقدر أحد قدره](2).

وقوله: " {وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى} ". قال القاسمي: (أي لغاية معينة ينقطع دونها سيره، وهو قيام الساعة). وقيل: المراد إلى مستقرهما تحت العرش.

قلت: ويُجمع بين التفسيرين، بأن الله تعالى أجرى الشمس والقمر في السماء وسخّرهما لمصالح خلقه، ليعلموا عدد السنين والحساب، ويفصلوا به بين الليل والنهار، ولكل منازل، وكذلك بقية الكواكب، وإنما ذكر الشمس والقمر لأنهما أظهر

(1) حديث صحيح. أخرجه ابن أبي شيبة في "كتاب العرش"(114/ 1)، والبيهقي في "الأسماء والصفات" ص (290). وانظر سلسلة الأحاديث الصحيحة (109).

(2)

صحيح موقوف. انظر مختصر العلو ص (102)، وكتابي: أصل الدين والإيمان (2/ 1161).

ص: 190

هذه الكواكب، ويبقى كل في حركته إلى أن يقلب الله نظام الكون مع قيام الساعة، فتبدل الأرض والسماوات بعد أن تطلع الشمس من مغربها.

ففي التنزيل:

1 -

قال تعالى: {وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف: 54].

2 -

وقال تعالى: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} [يس: 38].

3 -

وقال تعالى: {وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (39) لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [يس: 39، 40].

ومن السنة الصحيحة في آفاق هذا المعنى أحاديث، منها:

الحديث الأول: روى مسلم عن عبد الله بن عمرو قال: حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثًا لم أَنْسَهُ بعد: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: [إن أول الآيات خروجًا طلوع الشمس من مغربها، وخروج الدابة على الناس ضحًا، وأيتهما ما كانت قبل صاحبتها، فالأخرى على إثرها قريبًا](1).

الحديث الثاني: أخرج الإمام مسلم - أيضًا - عن أبي ذرِّ: [أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال يومًا: أَتَدْرون أين تَذْهب هذه الشمس؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: إن هذه تجري حتى تنتهيَ إلى مستقرها تحتَ العرش، فَتَخِرّ ساجدة، فلا تزال كذلك حتى يُقالَ لها: ارْتفعي، ارْجِعي من حيثُ جِئت فتَرْجع، فتصبح طالعة من مَطْلَعِها، ثم تجري حتى تنتهي إلى مستقرها تحت العرش، فتخِرُّ ساجدة، فلا تزال كذلك حتى يقال لها: ارتفعي، ارْجِعي من حيث جِئت، فترجع فتصبح طالعة من مَطْلَعِها، ثم تجري لا يَسْتَنْكِرُ الناسُ منها شيئًا حتى تنتهي إلى مستقرها ذلك تحت العرش فيقال لها: ارتفعي، أصبحي طالعةً من مغربِك، فتصبِحُ طالعة من مغربها. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أتدْرون متى ذاكُم؟ ذاك حين {لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا} [الأنعام: 158]] (2).

(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم في الصحيح. انظر مختصر صحيح مسلم (2053)، وكتابي: أصل الدين والإيمان (1/ 1063) - بحث: علامات الساعة - لمزيد من التفصيل.

(2)

حديث صحيح. أخرجه مسلم (159) - كتاب الإيمان - باب بيان الزمن الذي لا يقبل فيه الإيمان.

ص: 191

وقوله: {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ} .

قال النسفي: ({يُدَبِّرُ الْأَمْرَ} أمر ملكوته وربوبيته {يُفَصِّلُ الْآيَاتِ} يبين آياته في كتبه المنزلة: {لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ} لعلكم توقنون بأن هذا المدبر والمفصل لا بد لكم من الرجوع إليه).

وقوله: {وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا} .

قال القرطبي: (لما بيَّن آيات السماوات بيَّن آيات الأرض، أي بسط الأرض طولًا وعرضًا. {وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ} أي جبالًا ثوابت، واحدها راسية، لأن الأرض ترسو بها، أي تثبت. {وَأَنْهَارًا} أي مياهًا جارية في الأرض، فيها منافع الخلق).

وقوله: {وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ} . أي: من الذكور اثنان، ومن الإناث اثنتان.

قال ابن كثير: (وأجرى فيها الأنهار والجداول والعيون لسقي ما جعل فيها من الثمرات المختلفة الألوانِ والأشكال والطعوم والروائح، من كل زوجين اثنين، أي: من كلِّ شكل صنفان).

وقوله: {يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ} . قال قتادة: (أي يلبس الليل النهار).

قال ابن جرير: (يجلِّل الليلُ النهارَ فيلبسه ظلمته، والنهارُ الليلَ بضيائه).

وقوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} .

أي: إن في هذه العجائب من الخلق وتلك البدائع من التكوين لدلالات وعظات وحججًا لقوم يعتبرون فيستدلون على واجبهم نحو بارئهم عز وجل الذي أبدع كل شيء، فيفردوه بالعبادة والتعظيم.

وقوله: {وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ} . أي: متقاربات يجاور بعضها بعضًا، منها الطيبة الخصبة ومنها السبخة المالحة. ومن أقوال أهل التأويل:

1 -

قال مجاهد: (السَّبَخَة والعَذِية (1)، والمالح والطيب). أو قال:(سِبَاخٌ وَعَذَويّة).

2 -

وقال ابن عباس: ({وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ} - يعني الأرض السبخة،

(1) العذية: الأرض التربة الكريمة المنبت التي ليست بسبخة، والسَّبَخَة: المالحة.

ص: 192

والأرض العَذِية، يكونان جميعًا متجاورات، يُفَضِّل بعضها على بعض في الأكل).

وقال: (العذية والسبخة، متجاورات جميعًا، تنبت هذه، وهذه إلى جنبها لا تُنْبت).

وقال أيضًا: (الأرض تنبت حُلوًا، والأرض تنبت حامضًا، وهي متجاورة تسقى بماء واحد).

3 -

وقال قتادة: ({وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ}، قُرئ قرُبت متجاورات بعضها من بعض).

قال ابن كثير: (وكذا يدخل في هذه الآية اختلافُ ألوان بقاع الأرض. فهذه تربة حمراء، وهذه بيضاء، وهذه صفراء، وهذه سوداء، وهذه مُحْجَرةٌ، وهذه سهلة، وهذه مرمِلَةٌ، وهذه سميكة، وهذه رقيقة، والكل متجاورات، فهذه بصفتها، وهذه بصفتها الأخرى، فهذا كلُّه مما يدل على الفاعل المختار، لا إله إلا هو، ولا ربَّ سواه).

قلت: ويؤيد هذا ما روى أحمد والترمذي بسند صحيح عن أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [إن الله خلق آدم من قُبْضَةٍ قَبَضها مِنْ جميع الأرض، فجاء بنو آدم على قَدْر الأرض، فجاء منهم الأحمرُ، والأبيضُ، والأسودُ، وبين ذلك، والسَّهلُ، والحَزْنُ، والخبيثُ، والطيِّبُ](1).

وقوله: {وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ} . قرأها بالرفع أهل البصرة "وزرعٌ ونخيلٌ" عطفًا على الجنات، والمعنى: وفي الأرض قطعٌ متجاورات، وجناتٌ من أعناب، وفيها زرعٌ ونخيل.

وأما عامة قراء المدينة والكوفة فقرؤوها بالخفض: "وزرعٍ ونخيلٍ" - بالجر عطفًا على الأعناب، والتقدير: وفي الأرض قطع متجاورات وجنات من أعنابٍ ومن زرعٍ ونخيل. وكلاهما قراءتان مشهورتان متقاربتان في المعنى.

وقوله: {صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ} . أي: مجتمعة في أصل واحد ومتفرقة.

قال ابن عباس: (يعني بالصنوان: النخلة يخرج من أصلها النخلات، فيحمل بعضه ولا يحمل بعضه، فيكون أصله واحد ورؤوسه متفرقة). وقال البراء: (الصنوان:

(1) حديث صحيح. أخرجه أحمد (4/ 406)، والترمذي (3143) - في التفسير، وانظر صحيح سنن الترمذي - حديث رقم - (2355)، وسلسلة الأحاديث الصحيحة - حديث رقم - (1630).

ص: 193

النخلتان أصلهما واحد، {وَغَيْرُ صِنْوَانٍ} ، النخلة والنخلتان المتفرِّقتان). أو قال:(الصنوان: النخلة إلى جنبها النخلات، {وَغَيْرُ صِنْوَانٍ}، المتفرق).

والخلاصة: الصنوان: هي الأصول المجتمعة في مَنْبَتٍ واحد، كالرُّمان والتين وبعض النخيل، ونحو ذلك، وغير الصِّنوان: ما كان على أصل واحد، كسائر الأشجار، ذكره ابن كثير وقال:(ومنه سُمِّيَ عم الرجل صِنْوُ أبيه. كما جاء في الحديث الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعمر: "أما شَعَرْتَ أنَّ عَمَّ الرجل صِنْوُ أبيه").

وقوله: {يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ} . قال مجاهد: (ماء السماء، كمثل صالح بني آدم وخبيثهم، أبوهم واحد). وقرأها عامة قراء المدينة والبصرة: "تسقى" - أي الجنات والزرع والنخيل. وأما قراء الكوفة وبعض المكيين فقرؤوها بالياء: "يسقى".

وقوله: {وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ} .

قال سعيد بن جبير: (الأرض الواحدة يكون فيها الخوخ والكمثري والعنب الأبيض والأسود، وبعضها أكثر حملًا من بعض، وبعضه حلو وبعضه حامض، وبعضه أفضل من بعض).

يروي الترمذي بسند حسن عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله:{وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ} قال: [الدَّقَلُ، والفارِسيُّ، والحُلْوُ، والحامِضُ](1).

فاختلاف الأجناس من الثمرات والزروع في الأشكال والألوان، والروائح والطعوم، والأوراق والأزهار، والحلاوة والحموضة، والعذوبة والمرارة، كل ذلك آيات كبيرة تدل على قدرة الواحد الأحد، الذي فاوت بين خلق الأشياء وإظهارها، ولهذا قال في آخر الآية:{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} - أي فيحملهم هذا التفكر والنظر على إفراد الله تعالى بالعبادة والتعظيم.

5 -

7. قوله تعالى: {وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (5) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ

(1) حديث حسن. أخرجه الترمذي في "التفسير". صحيح الترمذي (2493) - سورة الرعد - آية (4).

ص: 194

الْمَثُلَاتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ (6) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ (7)}.

في هذه الآيات: عَجَبُ الله تعالى من تكذيب قومك - يا محمد - بالبعث بعد الموت بعد ذكر هذه الأمثال، وهؤلاء المكذبون هم وقود النار. إنهم يستعجلونك نزول العذاب بطرًا واستكبارًا، وقد خلت من قبلهم الأمثال الكثيرة عن أشباههم الذين دمرهم الله بالعذاب. إنهم يتنطعون بربط إيمانهم بالمعجزات وإنما أنت منذر ولكل قوم هاد.

وعن قتادة: (قوله: {وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ}، إن عجبت، يا محمد، {فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ}، عجب الرحمن تبارك وتعالى من تكذيبهم بالبعث بعد الموت).

وقال ابن زيد: (إن تعجب من تكذيبهم، وهم قد رأوا من قدرة الله وأمره وما ضرب لهم من الأمثال، فأراهم من حياة الموتى في الأرض الميتة، إن تعجب من هذه فتعَجَّب من قولهم: {أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ}، أولا يرون أنا خلقناهم من نطفة؟ فالخلق من نطفة أشدُّ أم الخلق من تراب وعظام؟ ).

والخلاصة: إن خلق السماوات والأرض وما فيهما من بدائع وآيات أكبر من خلق الناس، فالعجب كل العجب من إنكار هؤلاء المشركين إعادة الله لهم ولأجسامهم للبعث بعد الممات.

وفي التنزيل:

1 -

قال تعالى: {لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [غافر: 57].

2 -

وقال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الأحقاف: 33].

وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[قال الله تعالى: شتمني ابن آدم، وما ينبغي له أن يشتمني، وكذّبني، وما ينبغي له أن يكذبني، أما شتمه إياي فقوله: إن لي ولدًا، وأنا الله الأحد الصمد الذي لم ألد ولم أولد، ولم يكن لي كفوًا أحد. وأما تكذيبه إياي، فقوله: ليس يعيدني كما بدأني، وليس أول الخلق بأهونَ عليَّ من إعادته].

ص: 195

وله شاهد من حديث ابن عباس، ذكره البخاري في كتاب التفسير من صحيحه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[قال الله: كذبني ابن آدم ولم يكنْ له ذلك، وشتمني ولم يكن له ذلك، فأمّا تكذيبُه إياي فَزَعَمَ أني لا أقدِرُ أن أُعيدَهُ كما كان، وأما شتمه إياي فقوله: لي ولدٌ، فسبحاني أن أتّخِذَ صاحبةً أو ولدًا](1).

وقوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ} . أي: هؤلاء الذين أنكروا البعث والحساب والثواب والعقاب، وعاندوا ما رأوا من قدرة الله تعالى بغيًا واستكبارًا.

وقوله: {وَأُولَئِكَ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ} - يقيدون بها في نار جهنم.

وقوله: {وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} . أي: وهم سكان النار يوم القيامة ماكثون فيها أبدًا، لا يخرجون منها ولا يموتون، بل هم في شقاء مقيمون.

وقوله: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلَاتُ} .

قال قتادة: (وهم مشركو العرب، استعجلوا بالشر قبل الخير، وقالوا: {اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأنفال: 32]، {وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلَاتُ}، وقائع الله في الأمم فيمن خلا قبلكم).

أي: يستعجل المكذبون بنزول العذاب بهم بطرًا واستكبارًا، وقد علموا ما أوقع الله بمن مضى من الأمم العاصية قبلهم، وضرب لهم في هذا القرآن الأمثال الكثيرة عن أسلافهم.

وفي التنزيل:

1 -

قال تعالى: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلَا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (53) يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ} [العنكبوت: 53، 54].

2 -

وقال تعالى: {يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ} [الشورى: 18].

3 -

وقال تعالى: {وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ} [ص: 16].

وقوله: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ} .

(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (4482) - كتاب التفسير - وانظر روايات أخرى في صحيح الجامع الصغير - (4199)، (4203) - من حديث ابن عباس وأبي هريرة رضي الله عنهما.

ص: 196

قال ابن جرير: (يقول تعالى ذكره: وإن ربك، يا محمد، لذو سِتر على ذنوب من تاب من ذنوبه من الناس، فتاركٌ فضيحته بها في موقف القيامة، وصافحٌ له عن عقابه عليها عاجلًا وآجلًا، {عَلَى ظُلْمِهِمْ}، يقول: على فعلهم ما فعلوا من ذلك بغير إذني لهم بفعله، {وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ}، لمن هلك مُصِرًّا على معاصيه في القيامة، إن لم يُعَجِّل له ذلك في الدنيا، أو يجمعهما له في الدنيا والآخرة).

والآية تهديد ووعيد للكفار والمشركين إن لم يتوبوا من ظلمهم ويرجعوا إلى طاعة ربهم وعبادته. وفي صحيح مسلم من حديث أبي ذر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل: [يا عبادي: إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعًا فاستغفروني أغفر لكم](1).

وفي الصحيحين عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [إن الله يدني المؤمن فيضع عليه كنَفَهُ (2) ويَسْتُرُه فيقول: أتعرف ذنبَ كذا؟ أتعرف ذنب كذا؟ فيقول نعم أي ربّ، حتى قَرَّرَهُ بذنوبه، ورأى في نفسه أنه قد هلك، قال: سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم، فيُعطى كتاب حسناته. وأما الكفار والمنافقون فينادى بهم على رؤوس الخلائق: {هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ}](3).

قلت: وقد قرن سبحانه في كثير من الآيات مغفرته وغضبه، وعفوه وسخطه، ليعتدل الرجاء والخوف في حياة عباده، وليتنبه لذلك أولو الألباب. ومن ذلك:

1 -

قال تعالى: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ} [الحجر: 49، 50].

2 -

وقال تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [الأعراف: 167].

وفي مسند البزار بسند حسن عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [قال الله تعالى: وعزتي وجلالي لا أجمع لعبدي أمنين ولا خوفين، إن هو أمنني في الدنيا أخفته يوم أجمع عبادي، وإن هو خافني في الدنيا أمّنْتُه يوم أجمع عبادي](4).

(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم في الصحيح (8/ 17)، وأحمد في المسند (5/ 160).

(2)

أي: حفظه وستره.

(3)

حديث صحيح. أخرجه البخاري (2441)، ومسلم (2768)، وأخرجه أحمد (2/ 74).

(4)

حديث حسن. أخرجه البزار كما في "مجمع الزوائد"(10/ 308)، وكذلك أبو نعيم في "الحلية"(6/ 98). وانظر صحيح الجامع الصغير - حديث رقم - (4208).

ص: 197

وقوله تعالى: {وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ} .

أي: يريدون التعنت وربط الإيمان بالمعجزات الكونية والحجج والبراهين الحسية، كما سأل أهل مكة أن يجعل لهم الصفا ذهبًا، وأن يزيل عنهم الجبال ويجعل مكانها مروجًا وأنهارًا.

وفي التنزيل: {وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا} [الإسراء: 59].

ثم يقول الله لنبيه: يا محمد، إنما أنت منذر تنذرهم بأس الله وعذابه أن يحل بهم إن أصروا على كبرهم وشركهم، ولكل قوم إمام يأتمون به، وهادٍ يتقدمهم فيهديهم إما إلى خير وإما إلى شر.

قال قتادة: (هذا قول مشركي العرب. قال الله: {إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ}، لكل قوم داعٍ، يدعوهم إلى الله). وقال أبو العالية: (الهادي القائد، والقائد الإمام، والإمام العمل). وقال عكرمة: ({وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ} قال: هو محمد صلى الله عليه وسلم) وقال الضحاك: (المنذر: محمد صلى الله عليه وسلم، والهادي: الله عز وجل. وقال مجاهد: ({وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ}، لكل قوم نبي، والمنذر محمد صلى الله عليه وسلم).

وفي التنزيل:

1 -

قال تعالى: {وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ} [فاطر: 24].

2 -

وقال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا مُنْذِرٌ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} [ص: 65].

وفي صحيح البخاري عن أبي موسى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [مَثلي ومثلُ ما بعثني الله كمثل رجل أتى قومًا فقال: رأيتُ الجيشَ بعيني، وإنى أنا النذير العُريانُ، فالنَّجَاءَ النَّجَاءَ. فأطاعه طائفة فأدلجوا على مَهْلِهم فنَجَوْا، وكذَّبَتْهُ طائفة فَصَبَّحَهُم الجيش فاجتاحهم](1).

8 -

11. قوله تعالى: {اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا

(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (6482) - كتاب الرقاق -، باب الانتهاء عن المعاصي، ورواه مسلم في الصحيح (2283) - كتاب الفضائل - من حديث أبي موسى.

ص: 198

تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ (8) عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ (9) سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ (10) لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ (11)}.

في هذه الآيات: تَأْكيدُ علم الله تعالى بما في داخل الأرحام، وهو المتفرد بعلم الغيب والشهادة على مر الدهور والأيام. إنه - تعالى - يعلم الجهر من القول وما خفي منه ومن جميع الأعمال الصالحة أو الآثام. له الملائكة المختصة بحفظ الأنام، إنه - تعالى - لا يُغَيِّر ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، وإذا أراد إنزال العقوبة بقوم فمالهم من ولي ولا ناصر يدفع بأسه عنهم.

فقوله: {اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى} - يشمل كل إناث الخلق من الإنس والجن والبهائم وسائر الحيوانات. قال النسفى: (أي يعلم ما تحمله من الولد على أي حال هو من ذكورة وأنوثة وتمام وخداج وحسن وقبح وطول وقصر وغير ذلك).

وقوله: {وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ} - يشمل عدد الولد داخل الرحم وتمام المولود أو خداجه، ومدة الحمل وغير ذلك.

ومن أقوال أهل التأويل في هذه الآية:

1 -

قال ابن عباس: {وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ} ، يعني السِّقْط، {وَمَا تَزْدَادُ} ، يقول: ما زادت الرَّحِمُ في الحمل على ما غاضت حتى ولدته تمامًا. وذلك أن من النساء من تحمل عشرة أشهر، ومنهن من تحمل تسعة أشهر، ومنهن من تزيد في الحمل، ومنهن من تنقص، فذلك الغيض والزيادة التي ذكر الله، وكل ذلك بعلمه).

2 -

قال مجاهد: (الغيض: الحامل ترى الدم في حملها فهو "الغيض"، وهو نقصانٌ من الولد. وما زاد على تسعة أشهر فهو تمام لذلك النقصان، وهي الزيادة).

وقال أيضًا: ({وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ}، قال: خروج الدم {وَمَا تَزْدَادُ}، قال: استمساك الدم). وقال: ({وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ}، إراقة المرأة حتى يخِسَّ الولد، {وَمَا تَزْدَادُ}، قال: إن لم تُهْرِق المرأَةُ تَمَّ الولد وعَظُمَ).

3 -

وكان الحسن يقول: ("الغيضوضة"، أن تضع المرأة لستة أشهر أو لسبعة

ص: 199

أشهر، أو لما دون الحدّ). قال قتادة:(وأما الزيادة فما زاد على تسعة أشهر).

قلت: وفي لغة العرب - غاض الماء أي قلَّ ونقص، والغيض النقصان، فقوله:{وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ} أي ما تنقص، ويشمل ذلك السقط والدم النازل واكتمال جسد الجنين وأعضائه، كل ذلك بعلم الله تعالى.

يروي البخاري في صحيحه عن ابن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: [مفاتيح الغيب خمسٌ لا يعلمها إلا الله: لا يعلم ما في غد إلا الله، ولا يعلمُ ما تغيضُ الأرحام إلا الله، ولا يعلم متى يأتي المطرُ أحدٌ إلا الله، ولا تدري نفس بأي أرض تموتُ، ولا يعلمُ متى تقوم الساعة إلا الله](1).

وفي الصحيحين عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [إنَّ أحدكم يُجْمَعُ في بطن أمه أربعين يومًا، ثم يكون علقة مثلَ ذلك، ثم يكون مضغةً مثل ذلك، ثم يُبْعثُ إليه مَلَكٌ فيؤمَرُ بأربع كلماتٍ: بِكَتْبِ رِزْقِه، وعُمُرِه، وعمله، وشقيّ أو سعيد](2).

وفي لفظ لمسلم: [فيقول الملك: أي ربّ، أذكر أم أنثى؟ أي ربِّ، أشقيٌّ أو سعيدٌ؟ فما الرزق؟ فما الأجل؟ فيقول الله، ويكتب الملك](3).

وقوله: {وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ} . قال قتادة: (إي والله، لقد حفظ عليهم رزقهم وآجالهم، وجعل لهم أجلًا معلومًا).

قلت: وقد حفلت السنة الصحيحة بآفاق هذا المعنى في أحاديث كثيرة، منها:

الحديث الأول: روى مسلم عن عبد الله قال: [قالت أم حبيبة زوجُ النبي صلى الله عليه وسلم: اللهم أمْتِعْني بزوجي رسول الله صلى الله عليه وسلم وبأبي أبي سفيان وبأخي معاوية. قال: فقال النبي صلى الله عليه وسلم: قد سألتِ الله لآجال مضروبة وأيام معدودة وأرزاق مقسومة لن يُعَجِّل شيئًا قَبْل حِلِّهِ أو يؤخر شيئًا عن حِلِّهِ، ولو كنت سألت الله أن يعيذك من عذاب في النار أو عذاب في القبر كان خيرًا وأفضل](4).

(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (4697)، وأحمد (2/ 24)، وابن حبان (70)(71)، وغيرهم.

(2)

حديث صحيح. أخرجه البخاري (3208)، (3332)، (6594)، ومسلم (2643)، وأخرجه أبو داود (4708)، والترمذي (2138)، وابن ماجه (76)، وأحمد (1/ 382).

(3)

حديث صحيح. أخرجه أحمد ومسلم - واللفظ له - (2646)، وله شواهد عند الطبراني وغيره.

(4)

حديث صحيح. أخرجه مسلم في الصحيحِ (8/ 56) - كتاب القدر. وانظر مختصر صحيح مسلم - حديث رقم - (1846)، باب: في ضرب الآجال وقسم الأرزاق.

ص: 200

الحديث الثاني: يروي ابن عاصم في كتاب "السنة"، ورجاله رجال الشيخين، عن أبي هريرة:[أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: يا رسول الله! أنعمل في أمر نأتَنِفُه، أم في أمر قد فرغ منه؟ قال: بل في أمر قد فرغ منه. فقال: ففيم العمل؟ فقال: يا عمر، كلا لا يدرك إلا بعمل. قال: فالآن نجتهد يا رسول الله](1).

الحديث الثالث: أخرج البخاري عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال: [أرسلت بِنْتُ النبي صلى الله عليه وسلم إليه: إن ابنًا لي قُبِضَ فائتنا. فأرسلَ يُقرئ السلام ويقول: إن لله ما أخذ وله ما أعطى، وكُلُّ عنده بأجلٍ مُسَمّى، فلتصبر ولتحتسب](2).

الحديث الرابع: أخرج أحمد وابن حبان بسند جيد عن أبي الدرداء، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[إنَّ الله تعالى فرغ إلى كل عبد من خلقه من خمس: من أجله ومن عمله ومن رزقه ومن أثره ومن مضجعه](3).

وقوله تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ} .

قال ابن جرير: (يقول تعالى ذكره: والله عالم ما غاب عنكم وعن أبصاركم فلم تروه، وما شاهدتموه فعاينتم بأبصاركم، لا يخفى عليه شيء، لأنهم خلقه وتدبيره، "الكبير"، الذي كل شيء دونه، "المتعال"، المستعلي على كل شيء بقدرته).

وقوله تعالى: {سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ} .

إخبارٌ منه سبحانه عن علمه السر وأخفى، وإحاطته بكل مناجاة سمعًا وعلمًا.

قال مجاهد: ({سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ}، يقول: السر والجهر عنده سواء، {وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ}، أما "المستخفي" ففي بيته، وأما "السارب" الخارج بالنهار حيثما كان، المستخفي غَيْبَه الذي يغيب فيه والخارجُ، عنده سواء).

وفي لغة العرب: "السَّارب" - الذاهب على وجهه في الأرض. ومن ثمّ فقوله

(1) حديث صحيح. أخرجه ابن أبي عاصم في كتاب "السنة" - (165) - ورجاله ثقات، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وله شواهد كثيرة في السنن.

(2)

حديث صحيح. أخرجه البخاري (1284) - في كتاب الجنائز -، وأخرجه مسلم (923)، ورواه أحمد في المسند (5/ 204) من حديث أسامة بن زيد رضي الله عنه.

(3)

حديث صحيح. أخرجه أحمد (5/ 197)، وابن حبان (1811)، وابن أبي عاصم في "السنة"(303).

ص: 201

تعالى: {وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ} أي ظاهر. والمقصود: أنه لا يخفى على الله تعالى من هو مختف في قعْر بيته في ظلام الليل ومَنْ هو ظاهر ماشٍ في بياض النهار وضيائه، فكلاهما في علم الله سواء، فإن الله تبارك وتعالى لا يستسرّ عنده شيء ولا يخفى.

قال ابن عباس: ({وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ}، ظاهر). وقال خصيف: ({مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ}: راكب رأسه في المعاصي، {وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ، قال: ظاهر بالنهار).

وفي التنزيل:

1 -

قال تعالى: {وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى} [طه: 7].

2 -

وقال تعالى: {وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ} [النمل: 25].

3 -

وقال تعالى: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} [المجادلة: 1].

4 -

وقال تعالى: {أَلَا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلَا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [هود: 5].

5 -

وقال تعالى: {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [يونس: 61].

وفي صحيح السنة المطهرة في آفاق معنى الآية أحاديث:

الحديث الأول: أخرج الإمام أحمد والنسائي عن عروة عن عائشة قالت: [الحمد لله الذي وسع سمعه الأصوات، لقد جاءت المجادلة إلى النبي صلى الله عليه وسلم تكلمه وأنا في ناحية البيت ما أسمع ما تقول، فأنزل الله عز وجل: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا} إلى آخر الآية](1).

الحديث الثاني: روى مسلم في صحيحه من حديث عمر - قال جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم

(1) حديث صحيح. أخرجه أحمد (6/ 46)، والبخاري (7385) تعليقًا، والنسائي (3460)، وفي "التفسير"(590)، وأخرجه ابن ماجه (188)، (2063)، وعبد بن حميد (1514)، وأخرجه ابن جرير في "التفسير"(33726)، وإسناده على شرط مسلم.

ص: 202

أخبرني عن الإحسان؟ قال: [الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك]- ورواه من حديث أبي هريرة (1).

الحديث الثالث: أخرج ابن ماجه بسند صحيح عن النواس بن سمعان الكِلابي قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: [ما مِنْ قلب إلا بين إصبعين من أصابع الرحمن. إن شاء أقامه وإن شاء أزاغه. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: يا مثبت القلوب ثبت قلوبنا على دينك. قال: والميزان بيد الرحمن يرفع أقوامًا ويخفض آخرين إلى يوم القيامة](2).

وقوله: {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} - هي الملائكة المختصة بحفظ العبد من المصائب والطوارئ ما لم يسبق القدر.

قال ابن عباس: (والمُعَقِّباتُ من أمر الله، وهي الملائكة. قال: ملائكة يحفظونه من بين يديه ومن خلفه، فإذا جاء قدَرُ الله خَلَّوا عنه).

وقال مجاهد: (ما من عبد إلا له ملك موكل، يحفظه في نومه ويقظته من الجن والإنس والهوام).

وقوله: {مُعَقِّبَاتٌ} من التعاقب، أي ملائكة تعتقب في حفظه، والأصل معتقبات فأدغمت التاء في القاف، أو هو مفعلات من عقبه لأن بعضهم يعقب بعضًا {مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ} أي قدامه ووراءه.

قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: (أي للعبد ملائكة يتعاقبون عليه، حرسٌ بالليل وحرسٌ بالنهار، يحفظونه من الأسواء والحادثات، كما يتعاقب ملائكةٌ آخرون لِحِفْظِ الأعمال من خير أو شر، ملائكةٌ بالليل وملائكة بالنهار. فاثنان عن اليمين والشمال يكتبان الأعمال، صاحب اليمين يكتب الحسنات، وصاحب الشمال يكتب السيئات، وملكان آخران يحفظانه ويحرُسانه، واحدٌ من ورائه وآخر من قدامه، فهو بين أربعة أملاكٍ بالنهار، وأربعةٍ آخرين بالليل، بَدَلان حافظان وكاتبان، كما جاء في الصحيح: "يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار ويجتمعون في صلاة الصبح وصلاة العصر، فيصعد إليه الذين باتوا فيكم فيسألهم وهو أعلم بكم: كيف تركتم عبادي؟

(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم وأهل السنن. انظر مختصر صحيح مسلم (2) ص (7)، وصحيح سنن ابن ماجه - حديث رقم - (53).

(2)

حديث صحيح. أخرجه ابن ماجه في السنن - حديث رقم - (199) - باب فيما أنكرت الجهمية - وانظر صحيح سنن ابن ماجه - حديث رقم - (165).

ص: 203

فيقولون: أتيناهم وهم يُصَلّون، وتركناهم وهم يُصَلّون" (1)).

وقوله: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} .

قال النسفي: ({إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ} من العافية والنعمة {حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} من الحال الجميلة بكثرة المعاصي).

قال البغوي في "معالم التنزيل"(6/ 184): (وذكر ابن إسحاق وابن جريج ومقاتل، وبلغوا به ابن مسعود يرفعه قال: ليس من سنة بِأَمَرَّ من أخرى، ولكن الله قسم هذه الأرزاق، فجعلها في السماء الدنيا، في هذا القطر، ينزل منه كل سنة بكيل معلوم، ووزن معلوم، وإذا عمل قوم بالمعاصي حول الله ذلك إلى غيرهم، فإذا عصوا جميعًا صرف الله ذلك إلى الفيافي والبحار).

قلت: ويشهد له ما أخرج الحاكم وابن جرير بسند صحيح على شرط الشيخين عن ابن عباس قال: [ما من عام بأكثرَ مطرًا من عام، ولكن الله يصرفه بين خلقه حيث يشاء، ثم قرأ: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا} [الفرقان: 50] الآية] (2).

وقوله: {وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ} .

أي: فإذا نزل قدر الله بمصيبة قوم فقد وقع عليهم ما قُدِّر ثم لا سبيل لهم للهروب من ذلك الخزي، وليس لهم من وال يلي أمرهم أو ينصرهم.

قال القرطبي: ({وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا} أي هلاكًا وعذابًا، {فَلَا مَرَدَّ لَهُ}. وقيل: إذا أراد بهم بلاء من أمراض وأسقام فلا مردّ لبلائه. وقيل: إذا أراد الله بقوم سوءًا أعمى أبصارهم حتى يختاروا ما فيه البلاء ويعملوه، فيمشون إلى هلاكهم بأقدامهم، حتى يبحث أحدهم عن حتفه بكفه، ويسعى بقدمه إلى إراقة دمه. {وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ} أي ملجأ، وهو معنى قول السُّدي. وقيل: من ناصر يمنعهم من عذابه).

(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (555)، ومسلم (632)، والنسائي (1/ 240)، وأحمد (312)، و (486)، وأخرجه مالك (1/ 170)، وابن خزيمة (321)، وابن حبان (1728) كلهم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(2)

حديث صحيح. أخرجه الحاكم (2/ 403)، وابن جرير في "التفسير"(19/ 15)، وإسناده صحيح على شرط الشيخين كما قال الحاكم ووافقه الذهبي، وأقرّه الألباني في السلسلة الصحيحة (2461).

ص: 204

12 -

15. قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ (12) وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ (13) لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (14) وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (15)}.

في هذه الآيات: تَخْويفُ الله تعالى عباده ببعض آيات قدرته كالبرق والرعد والصواعق ليعبدوه وحده، فله دعوة الحق والذين يدعون من دونه دعوتهم باطلة، فله - تعالى - يسجد من في السماوات والأرض طوعًا وكرهًا فهو العظيم القهار الجبار.

فقوله: {هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا} .

إِخْبَارٌ من الله تعالى عن كمال قدرته، وأن تأخيره عقوبة من جحد أمره ونعمه ليس عن عجز، فالبرق: هو ذلك النور الساطع اللامع المخيف الذي يسطع من خلال السحاب.

قال قتادة: ({هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا}، يقول: خوفًا للمسافر في أسفاره، يخاف أذاه ومشقته، {وَطَمَعًا}، للمقيم، يرجو بركته ومنفعته، ويطمع في رزق الله).

وقوله: {وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ} . أي: يثير السحاب المثقل بالمطر.

قال مجاهد: ({وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ}، قال: الذي فيه الماء). وقال ابن كثير: (أي: ويَخْلُقها مُنشأةً جديدة، وهي لكثرة مائها ثقيلةٌ قريبة إلى الأرض).

وقوله: {وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ} .

تعريف باشتراك الرعد والملائكة بتنزيهه وتسبيحه سبحانه، كسائر الخلق صغيره وكبيره، كما قال تعالى:{وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} [الإسراء: 44].

وكقوله جل ذكره: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ} [النور: 41].

ص: 205

أخرج الإمام أحمد والطبراني بسند صحيح من حديث ابن عباس قال: [أقبلت يهود إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا أبا القاسم إنا نسألك عن خمسة أشياء، فإن أنبأتنا بهن عرفنا أنك نبي واتبعناك، فأخذ عليهم ما أخذ إسرائيل على بنيه إذ قالوا الله على ما نقول وكيل. قال: هاتوا، قالوا: أخبرنا عن علامة النبي؟ قال: تنام عيناه ولا ينام قلبه. قالوا: أخبرنا كيف تؤنث المرأة وكيف تذكِّر؟ قال: يلتقي الماءان فإن علا ماء الرجل ماء المرأة أذكرت، وإذا علا ماء المرأة ماء الرجل أنثت. قالوا: أخبرنا ما حرّم إسرائيل على نفسه؟ قال: كان يشتكي عرق النّسا فلم يجد شيئًا يلائمه إلا ألبان كذا وكذا. قال عبد الله: قال أبي، قال بعضهم: يعني الإبل فحرّم لحومها. قالوا صدقت. أخبرنا ما هذا الرعد؟ قال: ملك من ملائكة الله عز وجل موكل بالسحاب بيده أو في يده مخراق من نار يزجر به السحاب يسوقه حيث أمر الله. قالوا: فما هذا الصوت الذي يسمع؟ قال: صوته. قالوا: صدقت، إنما بقيت واحدة، وهي التي نبايعك إن أخبرتنا بها، فإنه ليس من نبي إلا له ملك يأتيه بالخبر فأخبرنا من صاحبك؟ قال: جبريل عليه السلام. قالوا: جبريل ذاك الذي ينزل بالحرب والقتال والعذاب عدونا، لو قلت ميكائيل الذي ينزل بالرحمة والنبات والقطر لكان. فأنزل الله عز وجل: {مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ} إلى آخر الآية](1).

وأخرج الإمام أحمد والبيهقي بسند صحيح عن إبراهيم بن سعد قال: أخبرني أبي قال: كنت جالسًا إلى جَنْب حُميد بن عبد الرحمن في المسجد، فَمَرَّ شيخٌ من بني غفار، فأرسل إليه حُميد، فلما أقبل قال: يا ابن أخي، وَسِّع فيما بيني وبينك، فإنه قد صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم. فجاء حتى جلس فيما بيني وبينه، فقال له حُميد: ما الحديث الذي حدثتني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال الشيخ: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: [إنَّ الله يُنشِئ السَّحاب فينطِقُ أحسنَ النطق، ويضحكُ أحسن الضحك](2).

وروى مالك عن عامر بن عبد الله عن أبيه (3): (أنه كان إذا سمع صوت الرعد قال:

(1) حديث صحيح لشواهده. أخرجه أحمد (1/ 274)، والترمذي (3117)، وانظر:"الصحيح المسند من أسباب النزول" - الوادعي - سورة البقرة - آية (97)، وقد مضى بتمامه.

(2)

حديث صحيح. أخرجه أحمد (5/ 435)، والبيهقي في "الأسماء والصفات"(988)، وأورده ابن كثير في التفسير وقال:(والمراد - والله أعلم - أن نطقَها الرعدُ، وضحِكها البرقُ).

(3)

هو ابن الزبير. والأثر ذكره القرطبي في "التفسير"(سورة الرعد، آية "13").

ص: 206

سبحان الذي يسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته، ثم يقول: إن هذا وعيد لأهل الأرض شديد).

قلت: وأما عند رؤية السحاب والمطر فقد ثبت الدعاء فيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فقد أخرج ابن ماجه بسند صحيح عن المقدام بن شريح عن أبيه: [أن عائشة أخبرته أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا رأى سحابًا مقبلًا من أفق من الآفاق، ترك ما هو فيه. وإن كان في صلاته، حتى يستقبله. فيقول: "اللهم إنا نعوذ بك مِنْ شَرِّ ما أُرْسِلَ به" فإن أمطر قال: "اللهم سَيْبًا نافعًا" موتين أو ثلاثًا. وإن كشفه الله، عز وجل، ولم يمطر، حمد الله على ذلك](1).

وقوله: {وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ} .

أخرج أبو يعلى والبزار، واللفظ لأبي يعلى، بسند صحيح من حديث أنس قال:[بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلًا من أصحابه إلى رجل من عظماء الجاهلية يدعوه إلى الله تبارك وتعالى فقال: أيش ربك الذي تدعوني من حديد هو؟ من نحاس هو؟ من فضة هو؟ من ذهب هو؟ فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره فأعاده النبي صلى الله عليه وسلم الثانية، فقال مثل ذلك، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره فأرسله إليه الثالثة، فقال مثل ذلك. فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله قد أنزل على صاحبك صاعقة فأحرقته، فنزلت هذه الآية: {وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ}](2).

وبنحوه رواية البزار، إلا أنه قال:(إلى رجل من فراعنة العرب - وقال الصحابي فيه: يا رسول الله! إنه أعتى من ذلك، وقال: "سحابة"، فوجع إليه الثالثة فأعاد عليه ذلك الكلام - قال: فبينما هو يكلمه إذ بعث الله سحابة حيال رأسه فرعدت فوقعت منها صاعقة فذهبت بقحف رأسه).

(1) حديث صحيح. أخرجه ابن ماجه (3889) - كتاب الدعاء - باب ما يدعو به الرجل إذا رأى السحاب والمطر. والسَّيْب والصَيِّب المطر الجاري على وجه الأرض من كثرته. وانظر صحيح سنن ابن ماجه (3137)، وكذلك (3138)، (3139) من الباب نفسه.

(2)

حديث صحيح لشواهده. أخرجه أبو يعلى برقم (3468)، وأخرجه الطبري (13/ 125)، وذكره الهيثمي في "المجمع" (7/ 42) وقال:(رواه الطبراني في الأوسط والبزار ورجال البزار رجال الصحيح غير ديلم بن غزوان وهو ثقة).

ص: 207

ورواه الطبراني في "الأوسط" - نحوه - وقال: (فرعدت فأبرقت).

وله شاهد قوي أخرجه ابن أبي عاصم في "السنة" عن ثابت، عن أنس قال:[أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلًا من أصحابه إلى رأس المشركين يدعوه إلى الله تعالى، فقال المشرك: هذا الذي تدعوني إليه من ذهب أو فضة أو نحاس! فتعاظم مقالته في صدر رسولِ رسولِ الله، فرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره فقال: ارجع إليه، فرجع إليه بمثل ذلك وأرسل الله تبارك وتعالى عليه صاعقة من السماء فأهلكته، ورسول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الطريق لا يدري. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: إن الله قد أهلك صاحبك بعدك، ونزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم: {وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ}](1).

وقوله: {وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ} - أي يشكون في عظمته، وأنه لا إله إلا هو الكبير المتعال، وأما المحال فمن الحيلة، والمعنى كما قال مجاهد:({وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ}، قال: شديد القوة). وقال علي رضي الله عنه: (شديد الأخذ) - رواه ابن جرير بسنده إليه، وقال ابن عباس:(شديد الحَوْل). وقال قتادة: (أي القوة والحيلة)، وعن الحسن:({شَدِيدُ الْمِحَالِ}، يعني الهلاك. قال: إذا محل فهو شديد. وقال قتادة: شديد الحيلة).

وفي التنزيل:

1 -

قال تعالى: {وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (50) فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ} [النمل: 50، 51].

2 -

وقال تعالى: {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [آل عمران: 54].

3 -

وقال تعالى: {إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا (15) وَأَكِيدُ كَيْدًا} [الطارق: 15، 16].

ومن كنوز السنة الصحيحة في آفاق هذا المعنى أحاديث:

الحديث الأول: أخرج الشيخان عن أبي موسى، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[إن الله تعالى ليُملي للظالم، حتى إذا أخذه لم يُفْلته](2).

(1) إسناده صحيح. أخرجه ابن أبي عاصم في "السنة"(692)، وأبو يعلى في "مسنده"(2/ 846)، وابن جرير (13/ 84)، وقال الألباني في تحقيق كتاب "السنة" (304): إسناده صحيح، رجاله ثقات رجال الشيخين غير ديلم بن غزوان وهو ثقة، وقد توبع.

(2)

حديث صحيح. أخرجه البخاري (4686)، ومسلم (2583)، والترمذي (3110)، وابن ماجه (4018)، وابن حبان (3175)، وأخرجه البيهقي (6/ 94).

ص: 208

الحديث الثاني: أخرج أبو داود بسند صحيح عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [إذا أراد الله بالأمير خيرًا جعل له وزير صدق، إنْ نَسِيَ ذكَّره، وإن ذكر أعانه، وإذا أراد به غيرَ ذلك جعلَ له وزيرَ سوء، إن نسيَ لم يذكِّرْه، وإن ذكر لم يُعِنْه](1).

الحديث الثالث: أخرج الترمذي بسند صحيح عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [إذا أراد الله بعبده الخير عجل له العقوبة في الدنيا، وإذا أراد بعبده الشَّر أمسك عنه بذنبه حتى يوافى به يوم القيامة](2).

وقوله: {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ} .

قال ابن عباس: ({دَعْوَةُ الْحَقِّ}: لا إله إلا الله). وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: ({لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ}، قال: التوحيد).- رواه ابن جرير وقال: {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ} : (والآلهة التي يَدْعوها المشركون أربابًا وآلهة. وإنما عنى بقوله: {مِنْ دُونِهِ}: أنها مُقصِّرة عنه، وأنها لا تكون إلهًا، ولا يجوز أن يكون إلهًا إلا الله الواحد القهار. {لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ}، يقول: لا تجيب هذه الآلهة، التي يدعوها هؤلاء المشركون آلهةً، بشيء يريدونه من نفع أو دفع ضرّ).

وقوله: {إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ} - فيه أقوال متكاملة:

1 -

قال علي رضي الله عنه: (كالرجل العطشان يمد يده إلى البئر ليرتفع الماء إليه، وما هو ببالغه). وقال مجاهد: (يدعو الماء بلسانه، ويشير إليه بيده، ولا يأتيه أبدًا). أو قال: (يدعوه ليأتيه، وما هو بآتيه، كذلك لا يستجيب من هو دونه).

2 -

وقال ابن عباس: (هذا مثل المشرك مع الله غيره، فمثله كمثل الرَّجل العطشان الذي ينظر إلى خياله في الماء من بعيد، فهو يريد أن يتناوله ولا يقدر عليه).

3 -

وقال قتادة: ({إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ}، وليس الماء ببالغ فاه، ما قام باسطًا كفيه لا يقبضهما).

وقوله: {وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ} .

قال ابن كثير: (ومعنى هذا الكلام أنّ هذا الذي يبسُط يده إلى الماء إما قابضًا وإما

(1) حديث صحيح. أخرجه أبو داود (2932) - كتاب الخراج والإمارة والفيء -، باب في اتخاذ الوزير.

(2)

حديث صحيح. أخرجه الترمذي (2/ 64)، والبيهقي في "الأسماء"، ص (154)، وله شاهد عند ابن حبان (2455)، وانظر سلسلة الأحاديث الصحيحة (1220).

ص: 209

متناولًا له من بُعد، كما أنه لا ينتفع بالماء الذي لم يصل إلى فيه، الذي جعله محلًا للشرب، فكذلك هؤلاء المشركون الذين يعبدون مع الله إلهًا غيره، لا ينتفعون بهم أبدًا في الدنيا ولا في الآخرة، ولهذا قال:{وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ} ).

وقوله تعالى: {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ} .

أي: إن الله تبارك وتعالى قد قهر كل شيء بعظمته وجبروته، ودان له كل شيء، فسجد له {مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ} أي ملائكته ومن في {وَالْأَرْضِ} من الجن والإنس، طوعًا من المؤمنين، وكرهًا من المشركين حين يُكرهون على السجود. كما يسجد له أيضًا ظلالُ كل من سجد طوعًا وكرهًا بالغُدوات والعَشايا. والغدو: البُكر، والآصال: جمع أصيل وهو آخر النهار.

فعن قتادة: {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا} قال: (فأما المؤمن فيسجد طائعًا، وأما الكافر فيسجد كارهًا).

وعن ابن عباس: {وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ} ، يعني: حين يفيء ظلُّ أحدهم عن يمينه أو شماله). وقال مجاهد: (ظل المؤمن يسجد طوعًا وهو طائع، وظلُّ الكافر يسجد طوعًا وهو كاره).

وقال ابن زيد: (ذُكِرَ أن ظلال الأشياء كلها تسجد له، وقرأ: {سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ}. وقال: تلك الظلال تسجد لله).

والآية التي أشار إليها هي من سورة النحل وهي بتمامها: {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ} [النحل: 48].

16 -

17. قوله تعالى: {قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (16) أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ

ص: 210

جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ (17)}.

في هذه الآيات: تقرير الله تعالى أن الاعتراف بالربوبية يقتضي الإقرار له تعالى بالألوهية، وأن ما يُعبد من دونه لا يملك كشف الضر ولا جلب النفع، فهو سبحانه الواحد القهار. لقد أنزل الماء من السماء فسالت بذلك الأودية، فعلا الماء زبد وكذلك ما يوقد في النار مما يسبك فيها من الذهب أو الفضة ابتغاء حلية من نحاس أو حديد يعلوه زبدٌ كذلك، وكلا الزبدين يتلاشى، وهذا شأن الباطل في اضمحلاله وتلاشيه، وشأن الحق في ثباته وبقائه، كذلك يضرب الله الأمثال.

فقوله: {قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا} .

قال ابن كثير: (يقرر تعالى أنه لا إله إلا هو، لأنهم معترفون أنه هو الذي خلق السماوات والأرض، وهو ربها ومُدَبِّرها، وهم مع هذا قد اتخذوا من دونه أولياء يعبدونهم، وأولئك الآلهة لا تملك لنفسها ولا لعابديها بطريق الأولى، {نَفْعًا وَلَا ضَرًّا}، أي: لا تُحَصِّلُ منفعة ولا تدفع عنهم مضرةً. فهل يستوي من عَبَدَ هذه الآلهة مع الله ومن عبد الله وحده لا شريك له وهو على نور من ربه؟ ! ).

وقوله: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ} .

قال مجاهد: (أما {الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ}، فالكافر والمؤمن، وأما {الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ}، فالهدى والضلالة).

وقوله: {أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ} .

قال مجاهد: (ضربت مثلًا. قال: خلقوا كخلقه، فحملهم ذلك على أن شكُّوا في الأوثان).

قال النسفي: (أي أنهم لم يتخذوا لله شركاء خالقين قد خلقوا مثل خلق الله - فاشتبه عليهم مخلوق الله بمخلوق الشركاء، حتى يقولوا قَدَرَ هؤلاء على الخلق كما قدر الله عليه فاستحقوا العبادة فنتخذهم له شركاء ونعبدهم كما يعبد، ولكنهم اتخذوا له شركاء عاجزين لا يقدرون على ما يقدر عليه الخلق فضلًا على ما يقدر عليه الخالق).

وقوله: {قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} .

أي: ما وجه إشراككم ما لا يخلق ولا يضر، والله تعالى هو الفرد الذي لا ثاني

ص: 211

له، وهو القهار الذي خلق كل شيء وقهره بأمره، فهو وحده المستحق للتأليه والعبادة.

وقوله: {أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا} . قال مجاهد: (بقدر ملئها).

وقال ابن جريج: (بقدر صغرها وكبرها).

قال القاسمي: ({أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ} أي المزن {مَاءً} أي مطرًا {فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا} أي: بمقدار ملئها في الصغر والكبر، أي أخذ كل واحد بحسبه، فهذا كبير وسع كثيرًا من الماء، وهذا صغير وسع بقدره). وقال ابن كثير: (وهو إشارة إلى القلوب وتفاوتها، فمنها ما يَسَعُ علمًا كثيرًا، ومنها ما لا يَتَّسِعُ لكثير من العلوم بل يضيق عنها).

وقوله: {فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ} .

يشتمل على مثلين اثنين ضربهما الله مثلًا للحق والباطل. فالمثل الأول: {فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا} - أي فَعَلا المَاءُ زبدٌ في تلك الأودية. والمثل الثاني: {وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ} مما يسبك فيها من الذهب أو الفضة {ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ} ومن نحاس أو حديد فإنه يعلوه زبدٌ أيضًا. وكلا الزَّبَدين يضمحل بسرعة ويتلاشى. وكذلك الباطل في اضمحلاله وفنائه، والحق في ثباته وبقائه.

وقوله: {كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ} .

قال ابن عباس: (قوله {أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا}، فهذا مثل ضربه الله، احتملت منه القلوب على قدر يقينها وشكّها. فأما الشك فلا ينفع معه العمل، وأما اليقين فينفع الله به أهله، وهو قوله: {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً}، وهو الشك، {وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ}، وهو اليقين، كما يُجْعل الحَلْيُ في النار فيؤخذ خالصُه ويترك خبثه في النار. فكذلك يقبل الله اليقين ويترك الشك).

قال ابن جرير: ({فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً} ، يقول: فأما الزبد الذي علا السيل والذهب والفضة والنحاس والرصاص عند الوقود عليها، فيذهب بدفع الرياح وقذف الماء به، وتعلُّقه بالأشجار وجوانب الوادي، وأما ما ينفع الناس من الماء والذهب والفضة والرصاص والنحاس، فالماء يمكث في الأرض فتشربه، والذهب والفضة

ص: 212

تمكث للناس، {كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ} ، يقول: كما مثَّل هذا المثل للإيمان والكفر، كذلك يمثّل الأمثال).

وقوله: {كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ} .

المعنى: هذا مثل ضربه الله للحق وأهله والباطل وحزبه، فمثل الحق وأهله بالماء الذي ينزل من السماء فتسيل به أودية الناس فيحيون به وينفعهم بأنواع المنافع وبالفلز الذي ينتفعون به في صوغ الحلي منه واتخاذ الأواني والآلات المختلفات وذلك ماكث في الأرض باق بقاء ظاهرًا، يثبت الماء في منافعه وكذلك الجواهر تبقى أزمنة متطاولة، وشبه الباطل في سرعة اضمحلاله ووشك زواله بزبد السيل الذي يرمى به، وبزبد الفلز الذي يطفو فوقه إذا أذيب. أفاده النسفي ثم قال:(قال الجمهور: وهذا مثل ضربه الله تعالى للقرآن والقلوب والحق والباطل، فالماء القرآن نزل لحياة الجنان، كالماء للأبدان، والأودية للقلوب، ومعنى بقدرها بقدر سعة القلب وضيقه، والزبد هواجس النفس ووساوس الشيطان، والماء الصافي المنتفع به مثل الحق، فكما يذهب الزبد باطلًا ويبقى صفو الماء كذلك تذهب هواجس النفس ووساوس الشيطان، ويبقى الحق كما هو. وأما حلية الذهب والفضة فمثل للأحوال السنية والأخلاق الزكية، وأما متاع الحديد والنحاس والرصاص فمثل للأعمال الممدة بالإخلاص المعدة للخلاص، فإن الأعمال جالبة للثواب دافعة للعقاب، كما أن تلك الجواهر بعضها أداة النفع للكسب وبعضها آلة الدفع في الحرب، وأما الزبد فالرياء والخلل والملل والكسل).

قلت: وفي القرآن كثير من ضرب الأمثال للحق والباطل، والإخلاص والنفاق، والإيمان والكفر، وغير ذلك.

1 -

قال تعالى في وصف المنافقين: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ} [البقرة: 17].

2 -

وقال تعالى في نعتهم أيضًا: {أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ} [البقرة: 19].

3 -

وقال جل وعز في نعت الكافرين: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [النور: 39].

ص: 213

وفي صحيح السنة من تلك الأمثال أحاديث:

الحديث الأول: أخرج البخاري ومسلم عن أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [مَثَلُ ما بعثني الله من الهدى والعلم كمثلِ الغيث الكثير أصاب أرضًا، فكان منها نَقِيّةٌ، قبلت الماء، فأنبتتِ الكلأ والعُشْبَ الكثير، وكانت منها أجادِبُ، أمسكت الماء، فنفع الله بها الناس فَشربوا وسَقوا وزرعوا، وأصاب منها طائفة أخرى، إنما هي قيعان لا تُمْسِكُ ماءً ولا تُنْبِتُ كلأً، فذلك مثلُ من فَقُهَ في دين الله ونفعه ما بعثني الله به فعَلِمَ وعَلَّمَ، ومثلُ مَنْ لمْ يَرفَعْ بذلك رأسًا ولم يقْبَلْ هدى الله الذي أُرْسِلتُ به](1).

الحديث الثاني: أخرج الإمام مسلم عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [مَثَلُ المُنافقِ كمثلِ الشاةِ العائرةِ بين الغَنَمَيْنِ، تَعِيرُ إلى هذه مَرَّةً، وإلى هذه مَرَّةً](2).

الحديث الثالث: أخرج الإمام أحمد في المسند، ومسلم في الصحيح عن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:[مثلي ومثلُكم كمثل رجل استوقد نارًا، فلما أضاءت ما حولَه جعلَ الفراشُ وهذه الدواب التي يقعن في النار يَقَعْنَ فيها، وجعل يَحْجُزُهُنَّ ويغْلِبْنَه فَيَتَقَحَّمْنَ فيها، قال: فذلكم مثلي ومثلكم، أنا آخذ بحُجَزكم عن النار، هَلُمَّ عن النار، هَلُمَّ عن النار، هَلُمَّ، فتغلبوني، فتَقْتَحِمونَ فيها](3).

18 -

19. قوله تعالى: {لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (18) أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (19)}.

في هذه الآيات: إثبات الله تعالى بلوغ الجنة لأهل طاعته، والخلود في مستقر

(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (79)، كتاب العلم، وأخرجه مسلم في الصحيح (2282)، ورواه أحمد في المسند (4/ 399).

(2)

حديث صحيح. أخرجه مسلم (2784) - كتاب صفات المنافقين -. والعائرة: المترّددة، الحائرة لا تدري أيهما تتبع، ومعنى تعير أي تتردد وتذهب.

(3)

حديث صحيح. أخرجه أحمد (2/ 312)، ومسلم (2284) ح (18)، وانظر صحيح البخاري (3426)، وسنن الترمذي (2874)، وصحيح ابن حبان (6408).

ص: 214

رحمته. وبلوغ النار لأهل معصيته، ولا فداء لهم من العذاب ولو جاؤوا بما في الأرض جميعًا ومثله معه لفديته. إنه لا يستوي من آمن بالوحي وانتفع به، ومن هو أعمى القلب جاهل بالوحي كافر به، إنما يتعظ بآيات الله أولو الألباب.

فعن قتادة: ({لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى}، قال: وهي الجنة).

فالحسنى الجنة، أو الجزاء الحسن.

كما في التنزيل:

1 -

قال تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس: 26].

2 -

وقال تعالى: {وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى} [الكهف: 88].

قال القرطبي: (وقيل: من الحسنى النصر في الدنيا، والنعيم المقيم غدًا).

وقوله: {وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ} .

فيه تهويل حالة الخسران التي يلقاها المجرمون يوم القيامة، الذين كفروا بالله ورسله وتحاكموا للطاغوت.

قال القاسمي: ({وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ} وهم الكفرة {لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ} أي: بما في الأرض ومثله معه من أصناف الأموال، ليتخلصوا عما بهم. وفيه من تهويل ما يلقاهم ما لا يحيط به البيان، ولأجله عدل عن أن يقال: وللذين لم يستجيبوا السوءى، كما تقتضيه المقابلة).

وفي التنزيل:

1 -

قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا} [آل عمران: 10].

2 -

وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ} [آل عمران: 91].

وقوله: {أُولَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ} .

أي مناقشة حسابهم صعبة ومخيفة، ثم مرجعهم بعد انتهاء المحاسبة إلى النار، وبئس المكان الممهد مثوى لهم وبئس المستقر.

وعن فرقد السبخي قال: قال إبراهيم النخعي: (يا فرقد، أتدري ما "سوء

ص: 215

الحساب"؟ قلت: لا -! قال: هو أن يحاسب الرجل بذنبه كله لا يغفر له منه شيء) - ذكره ابن جرير بسنده إليه.

وقوله: {أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ} .

قال قتادة: (هؤلاء قوم انتفعوا بما سمعوا من كتاب الله وعقلوه وَوَعَوْه، قال الله: {كَمَنْ هُوَ أَعْمَى}، قال: عن الخير فلا يبصره).

وقوله: {كَمَنْ هُوَ أَعْمَى} . قال القرطبي: (والمراد بالعمى عمى القلب، والجاهل بالدين أعمى القلب).

وقوله: {إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} . قال ابن جرير: (يقول: إنما يتعظ بآيات الله ويعتبر بها ذوو العقول، وهي {الْأَلْبَابِ}، واحدها "لُبٌ").

20 -

24. قوله تعالى: {الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ (20) وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ (21) وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ (22) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ (23) سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ (24)}.

في هذه الآيات: نَعْتُ الله تعالى أولي الألباب: فهم أهل الوفاء بالعهد والميثاق، وأهل الوصل لما أمرهم الله بوصله، وأهل الخشوع والخوف من سوء الحساب. وهم أهل الصبر ابتغاء وجه ربهم، وأهل إقامة الصلاة والإنفاق في سبيل الله، ومتابعة السيئات بالحسنات، فأولئك لهم عقبى الدار. جنات عدن يدخلونها ومن وافقهم على منهاج الإيمان من الآباء والأزواج والذرية، والملائكة يدخلون عليهم من كل باب، ويحيونهم بالسلام مقابل صبرهم وجهادهم فنعم عقبى الدار.

فقوله: {الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ} - صفة لأولي الألباب، والعهد اسم للجنس، والمقصود بجميع عهود الله. قال القرطبي:(وهي أوامره ونواهيه التي وصّى بها عبيده، ويدخل في هذه الألفاظ التزامُ جميع الفروض، وتجنب جميع المعاصي).

وقوله: {وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ} . قال النسفي: (ما أوثقوه على أنفسهم وقبلوه من

ص: 216

الإيمان بالله وغيره من المواثيق بينهم وبين الله وبين العباد، تعميم بعد تخصيص).

وقوله: {وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ} . قال ابن كثير: (من صلة الأرحام، والإحسان إليهم وإلى الفقراء والمحاويج وبذل المعروف).

وقوله: {وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ} .

أي: يخافون ربهم في جميع أعمالهم ويحذرون مناقشة الحساب يوم القيامة وتدقيق الأعمال.

قال أبو الجوزاء: ({وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ}، قال: المقايسة بالأعمال).

قال ابن جرير: (يقول: ويحذرون مناقشة الله إياهم في الحساب، ثم لا يصفح لهم عن ذنب، فهم لرهبتهم ذلك جادُّون في طاعته، محافظون على حدوده).

أخرج البخاري ومسلم عن عائشة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[ليس أحدٌ يحاسَبُ يومُ القيامة إلا هلك. قلت: أوليس يقول الله: {فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا} فقال: إنما ذلك العرض، ولكن من نوقش في الحساب يهلك](1).

وفي الصحيحين أيضًا عن عديِّ بن حاتم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ما منكم أحد إلا سيكلمه ربه، ليس بينَه وبينه ترجمان، ولا حجاب يَحْجُبُه، فينظُرُ أيمنَ منه فلا يرى إلا ما قَدَّمَ من عمله، وينظرُ أشأمَ منه فلا يرى إلا ما قدَّم، وينظر بين يديه فلا يرى إلا النار تلقاءَ وجهه، فاتقوا النار ولو بشِقِّ تمرة](2).

وفي رواية: (فمن لم يجد فبكلمة طيبة).

وقوله: {وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً} .

قال ابن زيد: (الصبر، في هاتين، فصبرٌ لله على ما أحبَّ وإن ثقل على الأنفس والأبدان، وصبرٌ عمَّا يكره وإن نازعت إليه الأهواء. فمن كان هكذا فهو من الصابرين. وقر أ: {سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} [الرعد: 24]).

وعن ابن عباس: ({وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ}، يعني الصلوات الخمس، {وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً}، يقول: الزكاة).

(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري في صحيحه (4939)، وأخرجه مسلم في الصحيح (2876).

(2)

حديث صحيح. أخرجه البخاري (3/ 225)، (13/ 397)، ومسلم (1016)(67) و (68).

ص: 217

والمقصود: ذِكْرُ مآثر المؤمنين الذي فطموا أنفسهم عن المحارم والمآثم ابتغاء مرضاة الله تعالى وتعظيمًا لوجهه الكريم وحياءً منه، ثم إنهم أقاموا الصلاة بأركانها وفروضها وسننها وخشوعها، وأنفقوا مما رزقهم الله على من وجب عليهم الإنفاق عليهم من الزوجات والأولاد والأرحام والقرابات والفقراء والمساكين منْ زكاة مفروضة ونفقات واجبة أخرى، وذلك في الخفاء وفي الظاهر حسب طبيعة الحال.

وقوله: {وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ} - أي يدفعون الإساءة ضدهم بالإحسان.

قال ابن زيد: (يدفعون الشر بالخير، لا يكافئون الشّر بالشّر، ولكن يدفعونه بالخير).

وفي التنزيل: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت: 34].

وقوله: {أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ} .

هو كقوله تعالى: {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [فصلت: 35].

قال ابن جرير: {لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ} : هم الذين أعقبهم الله دارَ الجنان، من دارهم التي لو لم يكونوا مؤمنين كانت لهم في النار، فأعقبهم الله من تلك هذه. وقد قيل: معنى ذلك: أولئك لهم عَقِيبَ طاعتهم ربَّهم في الدنيا، دارُ الجنان).

وقوله: {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ} .

أي: جنات إقامة - والعدنُ: الإقامة - يخلدون في نعيمها وروضاتها هم ومن كان معهم على الهدى والإيمان من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم.

قال الضحاك: ({جَنَّاتُ عَدْنٍ}، قال: مدينة الجنة، فيها الرسل والأنبياء والشهداء وأئمة الهدى، والناسُ حولهم، بعدد الجنات حوْلها).

وقوله تعالى: {وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ (23) سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} .

أي: وتدخل الملائكة على هؤلاء المؤمنين في الجنان من كل باب من أبوابها، تسلم عليهم وتحمل لهم البشرى بما صبروا على إقامة الدين وجاهدوا في سبيل الله، بأن لهم الخلود في دار النعيم، فنعم دار القرار بعد دار الاختبار.

ص: 218

قال ابن زيد: ({سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ}، قال: حين صبروا بما يحبه الله فقدّموه، وصبروا عما كره الله وحرم عليهم، وصبروا على ما ثقل عليهم وأحبه الله، فسلم عليهم بذلك). وعن أبي عمران الجوني: {فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ (24)} ، قال: الجنة من النار).

والخلاصة: كما قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: (أي: وتدخل عليهم الملائكةُ من ها هنا وها هنا للتهنئة بدُخول الجنة، فعند دخولهم إيّاها تَفِدُ عليهم الملائكة مُسَلِّمين مُهَنِّئين لهم بما حصل لهم من الله من التقريب والإنعام، والإقامة في دار السلام، في جوار الصدِّيقين والأنبياء والرسل الكرام).

وقد حفلت السنة الصحيحة بأحاديث من جوامع الكلم النبوي في آفاق هذا المعنى:

الحديث الأول: أخرج الشيخان عن أبي هريرة مرفوعًا: [من أنفق زوجين في سبيل الله دعاه خزنة الجنة كل خزنة باب أي فهلم. قال أبو بكر: يا رسول الله ذاك الذي لا توى عليه - أي لا خسارة ولا هلاك - فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إني لأرجو أن تكون منهم](1).

الحديث الثاني: روى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [ينادي مناد: إن لكم أن تصحوا فلا تسقموا أبدًا. وإن لكم أن تحيوا فلا تموتوا أبدًا. وإن لكم أن تَشِبُّوا فلا تهرموا أبدًا. وإن لكم أن تَنْعموا فلا تبأسوا أبدًا. وذلك قوله عز وجل: {وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الأعراف: 43]] (2).

الحديث الثالث: أخرج الإمام أحمد بسند حسن عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: [هل تدرون أوّل من يدخل الجنة من خَلْقِ الله؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: أَوَّل مَن يدخلُ الجنة من خلقِ الله الفقراء المهاجرون الذين تُسَدُّ بهم الثغورُ، وتُتَّقى بهم المكاره، ويموت أحدُهم وحاجتهُ في صدره لا يستطيع لها قضاءً، فيقول الله تعالى لمن يشاء من ملائكته: ائتوهم فَحَيُّوهم. فتقول الملائكة: نحن سُكَّان سمائِك، وخيرَتُك من خلقك، أفتأمرنا أن نأتي هؤلاء فَنُسَلِّمَ عليهم؟ قال: إنهم كانوا عبادًا يعبدونني لا يشُركون بي شيئًا، وتُسَدُّ بهم الثغور، وتُتَّقَى بهم المكاره، ويموت أحدُهم وحاجتُه في صَدْره فلا يستطيع لها

(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري في صحيحه - حديث رقم - (1897)، (2841)، (3216). وأخرجه مسلم (1027) - كتاب الزكاة.

(2)

حديث صحيح. أخرجه مسلم (2837)، كتاب الجنة ونعيمها، باب في دوام نعيم أهل الجنة.

ص: 219

قضاء. قال: فتأتيهم الملائكةُ عند ذلك، فيَدخلون عليهم من كلِّ باب، {سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} ] (1).

وفي رواية: [أولُ ثُلَّةٍ يدخلون الجنة فقراء المهاجرين، الذين تُتَّقى بهم المكاره، وإذا أمِرُوا سَمِعوا وأطاعوا، وإن كانت لرجل منهم حاجة إلى سلطان لم تُقْضَ حتى يموتَ وهي في صدره، وإن الله يدعُو يومَ القيامة الجنة فتأتي بزخرفها وزينتها، فيقول: أين عبادي الذين قاتلوا في سبيلي، وأوذوا في سبيلي، وجاهدوا في سبيلي؟ ادخلوا الجنة بغير عذاب ولا حساب، وتأتي الملائكة فيسجدون ويقولون: رَبَّنا نحن نُسَبِّحُكَ الليل والنهارَ، ونقدِّسُ لك، مَنْ هؤلاء الذين آثرتَهم علينا؟ فيقول الربُّ عز وجل: هؤلاء عبادي الذين جاهدوا في سبيلي، وأوذوا في سبيلي. فتدخل عليهم الملائكة من كلِّ باب: {سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ}].

الحديث الرابع: أخرج الحاكم والبيهقي بسند صحيح على شرط مسلم عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [أتعلمُ؟ أولُ زمرةٍ تدخل الجنة من أمتي؟ قلت: الله ورسوله أعلم؟ فقال: المهاجرون، يأتون يوم القيامة إلى باب الجنة ويستفتحون، فيقول لهم الخزنة: أوقد حوسبتم؟ فيقولون: بأيِّ شيءٍ نحاسبُ وإنما كانت أسيافنا على عواتقنا في سبيل الله حتى متنا على ذلك؟ قال: فيفتح لهم فيقيلون فيها أربعين عامًا قبل أن يدخلها الناس](2).

25 -

26. قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (25) اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ (26)}.

في هذه الآيات: ذَمُّ الله تعالى أهل نقض العهد وتقطيع ما أمر الله بوصله وأهل الفساد في الأرض، وتوعدهم باللعنة وسوء العاقبة في الآخرة. إن الله هو الذي يبسط الرزق لعباده ويقدر لهم، وأهل الغفلة في فرح بهذه الحياة الدنيا، وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور.

(1) حديث حسن. أخرجه أحمد (2/ 168)، وذكره الهيثمي في المجمع (10/ 259) وقال: رواه أحمد والبزار والطبراني، ورجاله كلهم ثقات، وانظر صحيح ابن حبان (7421)، وصفة الجنة لأبي نعيم (81)، والبيهقي في "البعث"(414) وسنده حسن.

(2)

حديث صحيح. أخرجه الحاكم (2/ 70) وهو على شرط مسلم، وانظر السلسلة الصحيحة (853).

ص: 220

قال ابن عباس: (أكبر الكبائر الإشراك بالله، لأن الله يقول: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ} [الحج: 31]، ونقض العهد، وقطيعة الرحم، لأن الله تعالى يقول: {أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ}، يعني سوء العاقبة).

وقال أبو العالية: ({وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ}. . . الآية، قال: هي ست خصالٍ في المنافقين إذا كان فيهم الظَّهرة على الناس أظهروا هذه الخِصال: إذا حَدَّثوا كَذَبوا، وإذا وعدوا أخلَفُوا، وإذا اؤتمنوا خانُوا، ونقضوا عهد الله من بعد ميثاقه، وقطعوا ما أمر الله به أن يوصل، وأفسدوا في الأرض، وإذا كانت الظَّهْرَةَ عليهم أظهروا الثلاث الخصال: إذا حدّثوا كذبوا، وإذا وعدوا أخلفوا، وإذا اؤتمنوا خانُوا).

وقد ثبت نحو هذا المعنى في صحيح السنة في أحاديث:

الحديث الأول: أخرج البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة مرفوعًا: [آية المنافق ثلاث: إذا حَدَّثَ كذَبَ، وإذا وعَدَ أخلف، وإذا اؤْتُمِنَ خان](1).

الحديث الثاني: أخرج الشيخان وأحمد وأكثر أهل السنن عن عبد الله بن عَمْرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [أربعٌ مَنْ كُن فيه كان مُنافقًا خالِصًا، ومَنْ كانت فيه خَلَّةٌ مِنْهُنَّ كانت فيه خَلَّةٌ من نِفاق، حتى يَدَعَها: إذا حَدَّثَ كَذَبَ، وإذا عاهد غَدَرَ، وإذا وَعَدَ أخْلَفَ، وإذا خاصمَ فَجَرَ](2).

الحديث الثالث: أخرج ابن ماجه والبزار والبيهقي من حديث ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [يا معشر المهاجرين خصالٌ خمسٌ إذا ابتليتم بهنَّ، وأعوذ بالله أن تدركوهن: لم تظهر الفاحِشة في قوم قطّ، حتى يعلنوا بها، إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مَضَت في أسلافهم الذين مَضَوا، ولم ينقُصُوا المكيال والميزان إلا أخذوا بالسنين وشِدّة المؤنة، وجَور السلطان عليهم، ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلا مُنِعوا القَطْرَ من السماء، ولولا البهائم لم يُمطَروا، ولم يَنْقُضُوا عهدَ الله وعهدَ رسوله إلا سلَّط الله عليهم عدوَّهم من غيرهم، فأخذوا بعض ما كان في أيديهم، وما لم

(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (33)، (2682)، ومسلم (59)، وأحمد (2/ 357)، وغيرهم.

(2)

حديث صحيح. أخرجه البخاري (34)، ومسلم (58)، وأبو داود (4688)، والترمذي (2632)، والنسائي (8/ 116)، وأحمد (2/ 189)، وابن حبان (254)، وغيرهم.

ص: 221

تحكم أئمَّتُهم بكتاب الله عز وجل ويتحَرَّوا فيما أنزل الله إلا جعل الله بأسهم بينهم] (1).

قال ابن جرير: ({وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ}، فسادهم فيها، عملهم فيها بمعاصي الله، {أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ}، يقول: فهؤلاء لهم اللعنة، وهي البعد من رحمته، والإقصاء من جنانه، {وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ}، يقول: ولهم ما يسوءهم في الدار الآخرة).

وقوله تعالى: {اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ} .

أي: يبسط الله الرزق لبعض عباده ويُقَتِّر على بعضهم، وكل ذلك مقسوم بحكمته سبحانه، فربما كان لا يصلح حال بعضهم إلا بسعة الرزق ووفرته، وربما كان الإقتار هو الأنسب لبعضهم، وقد يفرح هؤلاء الذين بُسِطَ لهم على كفرهم ويغيب عنهم أن هذا استدراج من الله لهم، فإنما الحياة الدنيا متاع قليل للفريقين.

قال مجاهد: ({وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ}، قال: قليل ذاهب).

وقال عبد الرحمن بن سابط: ({وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ}، قال: كزاد الرّاعي يُزَوِّدُه أهله: الكفّ من التمر، أو الشيء من الدقيق، أو الشيء يشربُ عليه اللبن).

وفي التنزيل:

1 -

قال تعالى: {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ (55) نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ} [المؤمنون: 55، 56].

2 -

وقال تعالى: {قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا} [النساء: 77].

3 -

وقال تعالى: {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (16) وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [الأعلى: 16، 17].

ومن كنوز السنة الصحيحة في مفهوم هذه الآية، أحاديث:

الحديث الأول: أخرج الإمام أحمد بسند حسن عن عقبة بن عامر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [إذا رأيت الله يعطي العبد من الدنيا على معاصيه ما يحبُّ، فإنما هو استدراجٌ. ثم

(1) حديث صحيح. رواه ابن ماجه (4019)، والحاكم (4/ 540)، وأبو نعيم في "الحلية":(8/ 333 - 334)، وله طرق كثيرة، وانظر سلسلة الأحاديث الصحيحة (106).

ص: 222

تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ} ] (1).

الحديث الثاني: أخرج البخاري ومسلم عن أبي موسى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [إنَّ الله عز وجل يُمْلي للظالم، فإذا أخذه لم يُفْلِتْه. ثم قرأ: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود: 102]] (2).

الحديث الثالث: أخرج الإمام مسلم في صحيحه عن قيس قال: سمعت مُسْتَورِدًا أخا بني فِهْرٍ يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [والله! ما الدنيا في الآخرة إلا مِثْلُ ما يَجعَلُ أحدُكُمْ إِصْبَعَهُ هذه - وأشار يحيى بالسَّبابة - في اليَمِّ، فلينظُرْ أحدُكُم بم ترجِع؟ ](3).

الحديث الرابع: روى مسلم عن جابر بن عبد الله: [أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم مَرَّ بالسوق، داخِلًا مِنْ بعضِ العالية، والناس كَنَفَتَهُ، فمَرَّ بِجَدْيٍ أسَكَّ مَيِّتٍ، فتناوله فأخذ بأُذُنِه، ثم قال: أيُّكُم يُحبُّ أنَّ هذا له بدِرْهَم؟ فقالوا: ما نحب أنّه لنا بشيءٍ، وما نصنَعُ به؟ قال: أَتُّحِبُّونَ أنه لكم؟ قالوا والله! لو كان حَيًّا، كان عَيْبًا فيه، لأنّه أسَكُّ، فكيف وهو ميت؟ فقال: فوالله! للدّنيا أهونُ على الله، من هذا عليكم](4). والأسَكّ: هو صغير الأذنين. ومعنى "كنفته" أي: جانبه.

27 -

29. قوله تعالى: {وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ (27) الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28) الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ (29)}.

في هذه الآيات: تَنَطُّعُ المشركين في اقتراحهم رؤية آية أمام وضوح الأدلة الكثيرة

(1) حسن لشواهده. أخرجه أحمد (4/ 145)، والطبري (13243)، والطبراني (17/ 330)، وأخرجه البيهقي في "الشعب"(4540) من طرق، وله شواهد، وقد مضى بتمامه.

(2)

حديث صحيح. أخرجه البخاري (4686)، ومسلم (2583)، والترمذي (3110)، وابن ماجه (4018)، وأخرجه ابن حبان (5175)، والبيهقي (6/ 94).

(3)

حديث صحيح. أخرجه مسلم (2858)، كتاب الجنة ونعيمها، باب فناء الدنيا، وبيان الحشر يوم القيامة. وأخرجه أحمد (4/ 228 - 229)، والترمذي (2323)، وابن ماجه (4108).

(4)

حديث صحيح. أخرجه مسلم (2957)، كتاب الزهد والرقائق، وانظر مسند أحمد (1/ 329)، ومسند أبي يعلى (2593).

ص: 223

الدالة على صدق النبوة، فقل لهم - يا محمد - إن الله قد يخذل من يشاء عن الإيمان والتصديق بالآيات، ويهدي إلى الإيمان من تواضع لله وأناب. إن المؤمنين الصادقين تطمئن قلوبهم بذكر الله، وبذكر الله تطمئن القلوب. إن الذي آمنوا وعملوا الصالحات لهم البشرى والخير والكرامة في الآخرة.

فقوله: {وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ} - هو من قول المشركين للنبي صلى الله عليه وسلم.

أي: هلاّ أنزل ربك عليك - يا محمد - آية من آياته، إما ملك يكون معك نذيرًا، أو كنز يلقى إليك، أو تحوّل الصفا ذهبًا، أو تجري لنا ينبوعًا، أو تزيح الجبال من حول مكة ليصير مكانها المروج والبساتين.

قال القرطبي: (بين في مواضع أن اقتراح الآيات على الرسل جهل، بعد أن رأوا آية واحدة تدل على الصدق).

وفي التنزيل:

1 -

قال تعالى: {وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا (7) أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا} [الفرقان: 7، 8].

2 -

وقال تعالى: {وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ} [الإسراء: 59].

أخرج الإمام أحمد في المسند، والحاكم في المستدرك، بسند صحيح عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال:[سأل أهل مكة النبي صلى الله عليه وسلم أن يجعل لهم الصفا ذهبًا، وأن ينحِّي الجبال عنهم فَيَزْدَرِعوا، فقيل له: إن شِئْتَ أن تَسْتَأنيَ بهم، وإن شئمت أن تؤتيهم الذي سألوا، فإن كفروا أُهْلكوا كما أَهْلَكْتُ مَنْ قبلهم! قال: لا، بل أستأني بهم، فأنزل الله عز وجل هذه الآية: {وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً}](1).

(1) حديث صحيح. أخرجه النسائي في "التفسير"(310)، وأحمد في المسند (1/ 258)، والطبري (2298)، وصححه الحاكم (2/ 362) ووافقه الذهبي.

ص: 224

وقوله: {قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ} .

أي: قل لهم يا محمد، إن الله يخذل من يشاء عن الإيمان والتصديق بالآيات، ويوفق من يشاء للهداية ممن رجع إليه وصدق التوبة والإقبال.

وعن قتادة: (قوله: {وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ}، أي: من تاب وأقبل).

وقوله: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ} .

قال قتادة: (يقول: سكنت إلى ذكر الله واستأنست به). وقال مجاهد: (بالقرآن).

وقال سفيان: (بأمره). وقال مقاتل: (بوعده). وقال ابن عباس: (بالحلف باسمه، أو بذكر فضله وإنعامه، كما تَوْجل بذكر عدله وانتقامه وقضائه).

و"الذين" في محل نصب مفعول به ليهدي، والتقدير، يهدي الله الذين آمنوا، أو في محل نصب بدل من قوله:"مَنْ أناب".

وقوله: {أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} . قال مجاهد: (لمحمد وأصحابه). قلت: بل الآية عامة.

أي: قلوب المؤمنين المخبتين إلى ربهم، فإن ذكر الله تعالى يؤنس وحشة القلوب المضطربة، والنفوس المتألمة، ويرجع على الروح بسعادة وطمأنينة.

وذكر الله يشمل القرآن وتلاوته وتدبر آياته، وكذلك التفكر في وعد الله ووعيده، وثوابه وعقابه، وجنته وناره، كما يشمل المبادرة إلى العمل بطاعته والقيام بتعظيم أوامره، وكذلك فإنه يشمل طلب العلم النافع الذي فيه بيان شرعه وهديه.

وقوله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ} .

هو ابتداء وخبره، أو التقدير: لهم طوبى، {وَحُسْنُ مَآبٍ} معطوف عليه. وفي معنى "طوبى" أقوال عند المفسرين:

1 -

قال عكرمة: ({طُوبَى لَهُمْ}، قال: نعم مالهم).

2 -

وعن الضحاك: ({طُوبَى لَهُمْ}، قال: غِبطة لهم).

3 -

وعن ابن عباس: (قوله: {طُوبَى لَهُمْ}، يقول: فرحٌ وقُرَّة عين).

4 -

وعن قتادة قال: (يقول: حسنى لهم، وهي كلمة من كلام العرب). وقال: (هذه كلمة عربية، يقول الرجل: "طوبى لك"، أي: أصبتَ خيرًا).

ص: 225

5 -

وقال إبراهيم النَخَعِيّ: ({طُوبَى لَهُمْ}، خير لهم. قال: الخير والكرامة التي أعطاهم الله).

6 -

وعن ابن عباس قال: ({طُوبَى لَهُمْ}: اسم أرض الجنة، بالحبشية). وقال مجاهد: (الجنة).

7 -

قال ابن عباس وأبو هريرة: ({طُوبَى لَهُمْ}: شجرة في الجنة).

قلت: وفي كلام العرب "طوبى" مشتق من "طيب"، وهو من الطَّيِب: ضد الخبيث، فيكون "طوبى" فُعلى من الطّيب قلبوا الياء واوًا لضمة ما قبلها، وطوبى اسم شجرة في الجنة أيضًا. فيكون المعنى: الطيِّب للمؤمنين الذين عملوا الصالحات في الجنة، من الغبطة والفرح وقرة العيون والتلذذ بألوان النعيم والخير والكرامة، كما أن لهم "طوبى": شجرة في الجنة مسيرة مئة عام، تخرج ثيابهم من أكمامها، كما جاء ذلك في صحيح السنة العطرة، في أحاديث:

الحديث الأول: أخرج أحمد في المسند، بسند حسن، عن أبي سعيد، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[طوبى شجرة في الجنة، مسيرةَ مئة عام، ثياب أهل الجنة تخرج من أكمامها](1).

الحديث الثاني: أخرج ابن جرير بسند حسن لغيره، عن فرات بن أبي الفرات عن معاوية بن قرة عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [{طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ} شجرة غرسها الله بيده، ونفخ فيها من روحه بالحلي والحلل، وإن أغصانها لتُرى من وراء سور الجنة](2).

الحديث الثالث: أخرج البخاري وغيره عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [إن في الجنة شجرة يسيرُ الراكبُ في ظلها مئة عام لا يقطعها، إن شئتم فاقرؤوا: {وَظِلٍّ مَمْدُودٍ (30) وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ}](3).

وله شاهد عنده من حديث أبي سعيد الخُدْري، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [إن في الجنة

(1) حديث حسن في الشواهد. أخرجه أحمد (3/ 71)، وابن جرير (13/ 101)، وابن حبان (2625)، وانظر سلسلة الأحاديث الصحيحة (1985). والأكمام: غلاف التمر والحب قبل أن يظهر.

(2)

حسن لغيره. أخرجه الطبري (20393)، ويشهد له الحديث الذي قبله، وانظر المرجع السابق.

(3)

حديث صحيح. أخرجه البخاري (3251)، وأخرجه الترمذي في السنن (3293).

ص: 226

شجرةً يسير الراكبُ الجوادَ المضمَّرَ السريع مئة عام ما يقطعها] (1).

الحديث الرابع: أخرج الإمام أحمد بسند حسن من حديث عبد الله بن عمرو قال: [جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! أخبرنا عن ثياب أهل الجنة خلقًا تخلق أم نسجًا تنسج؟ فضحك بعض القوم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وممّ تضحكون من جاهل يسأل عالمًا؟ ثم أكبّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال: أين السائل؟ قال: هو ذا أنا يا رسول الله! قال: لا بل تشقق عنها ثمر الجنة "ثلاث مرات"](2).

وعن الضحاك: ({وَحُسْنُ مَآبٍ}، قال: حسن منقلب).

30 -

32. قوله تعالى: {كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهَا أُمَمٌ لِتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ (30) وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعًا أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ (31) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ (32)}.

في هذه الآيات: تَسْلِيَةٌ من الله تعالى لنبيِّه صلى الله عليه وسلم في وصله بسلسلة النبوة ومنهاج الدعوة الذي مضى عليه المرسلون قبله وصبرهم على الأذى، وهؤلاء قومك - يا محمد - يكفرون بالرحمان، فأعلن إيمانك بالله الواحد الأحد وحسن توكلك عليه وأوبتك إليه. إنه لو كان كتاب مما أنزل الله تُسَيَّرُ به الجبال أو تُشَقّ به الأرض أو تُكَلّم به الموتى لكان هذا القرآن، وإنما أمْرُ ما يَلتمسونه بيد الله، أفلم يتبين المؤمنون أن حجة هذا القرآن تكفي لإيمان جميع الخلق لو شاء الله ذلك، إنه لا تزال البلايا والقوارع تنزل بالكفار أو قريبًا منهم حتى يأتي وعد الله بموتهم أو قيام الساعة والله لا يخلف الميعاد.

(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (6552 - 6553)، وأخرجه مسلم (2827 - 2828).

(2)

أخرجه أحمد (2/ 202)، (2/ 224 - 225) عن حنان بن خارجة عن عبد الله بن عمرو، وانظر سلسلة الأحاديث الصحيحة (4/ ص 640) عقب الحديث (1985).

ص: 227

ولقد استهزئ - يا محمد - برسل قبلك فصبروا حتى قطع الله استدراجه للكافرين وأخذهم أخذ عزيز مقتدر.

فقوله: {كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهَا أُمَمٌ لِتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} .

أي: كذلك - يا محمد - أرسلناك في قومك كما أرسلنا من قبلك من الرسل في أقوامهم وأممهم لتنذرهم بهذا الوحي مغبة استرسالهم في غيِّهم وشركهم، فكذبوك كما كذب الأقوام رسلهم من قبلك، فصبر إخوتك الرسل صلوات الله وسلامه عليهم على ما كُذِّبوا، فلك بهم أسوة في الصبر والاحتساب.

وفي التنزيل: {وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ} [الأنعام: 34].

وقوله: {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ} . قال ابن كثير: (أي: هذه الأمةُ التي بعثناك فيهم يكفرون بالرحمن لا يُقرُّون به لأنهم كانوا يَأنَفُونَ من وصف الله بالرحمن الرحيم).

وعن مجاهد قال: (هذا لمّا كاتب رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشًا في الحديبية، كتب: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}، قالوا: لا تكتب {الرَّحْمَنِ}، وما ندري ما {الرَّحْمَنِ}، ولا تكتب إلا: "باسمك اللهم". قال الله: {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ}، الآية).

قلت: وأصل ذلك في صحيح البخاري من حديث المسور ومروان، وكذلك في مسند الإمام أحمد من حديث المسور.

فقد روى البخاري - في صلح الحديبية - قال الزهري: [فجاء سهيل بن عمرو فقال: هات اكتُبْ بيننا وبينكم كتابا. فدعا النبي صلى الله عليه وسلم الكاتب - وهو علي رضي الله عنه فقال النبي صلى الله عليه وسلم: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}. (وفي رواية أحمد: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اكتب {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}) فقال سهيل: أما الرحمن فوالله ما أدري ما هو، ولكن اكتب باسمك اللهم كما كنت تكتب] الحديث (1).

و"الرحمن" اسم مشتق من الرحمة على وجه المبالغة.

(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (2731)، (2732)، كتاب الشروط، وأخرجه مسلم في صحيحه (1784)، كتاب السير، وأخرجه أحمد في المسند (4/ 325).

ص: 228

وفي التنزيل:

1 -

قال تعالى: {قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [الملك: 29].

2 -

وقال تعالى: {الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا} [الفرقان: 59].

3 -

وقال تعالى: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [الإسراء: 110].

ومن كنوز السنة الصحيحة في اسم {الرَّحْمَنَ} وأحاديث، منها:

الحديث الأول: أخرج الإمام أحمد في المسند، بإسناد جيد عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [قال الله عز وجل: أنا الرحمن وهي الرحم، شققت لها من اسمي، من يصلها أصله ومن يقطعها أقطعه فأبته](1).

الحديث الثاني: أخرج الإمام مسلم عن عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [إنّ أحبَّ الأسماء إلى الله تعالى عبد الله وعبد الرحمن](2).

وقوله: {قُلْ هُوَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ} .

قال ابن جرير: (يقول: إن كفر هؤلاء الذين أرسلتك إليهم، يا محمد، بالرحمن فقل أنت: الله ربي {لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ}، يقول: وإليه مرجعي وأوبتي).

وقوله: {وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى} . مَدْحٌ للقرآن، وثناءٌ عطرٌ على إعجازه، وتفضيل له على سائر الكتب المنزلة قبله.

والمقصود: لو كان كتاب مما أنزل من قبل تُسَيَّرُ به الجبال فتزول عن أماكنها، أو تُقَطَّعُ به الأرض وتنشقُّ، أو تُكَلَّمُ به الموتى في قبورها، لكان هذا القرآن، لأنه الكتاب الأعلى في إعجازه في هذا الكون، وهو كلام الله العظيم الذي تتصدع أمامه جميع المخلوقات كبيرها وصغيرها.

(1) أخرجه أحمد (2/ 498)، وإسناده جيد، رجاله ثقات رجال الشيخين انظر الصحيحة (2) ص (38).

(2)

حديث صحيح. أخرجه مسلم (2132)، وأبو داود (4949)، والترمذي (2835)، وابن ماجه (3728) من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.

ص: 229

وفي التنزيل: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} . وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:[ما من نبيّ من الأنبياء إلا قد أُعطِيَ من الآيات ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحيًا أوحاه الله إليّ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعًا يوم القيامة](1).

فائدة: القرآن يُطلق على كل من الكتب المتقدمة، لأنه مشتق من الجميع. ذكره الحافظ ابن كثير - ثم أورد حديث الإمام أحمد عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [خففت على داودَ القراءةُ فكان يأمرُ بدابَّته أن تُسرَجَ، فكان يقرأ القرآن من قبل أن تُسْرَجَ دابته، وكان لا يأكل إلا من عمل يديه](2).

قلت: والحديث رواه البخاري أيضًا بلفظ: [خُفِّفَ على داودَ عليه السلام القرآنُ فكان يأمرُ بِدوابِّهِ فَتُسْرَجُ فيقرأُ القرآنَ قبل أن تُسْرجَ دَوابُّه، ولا يأكل إلا من عمل يده]. ولا شك أن المقصود بالقرآن هنا الزَّبور.

وقوله: {بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعًا} . قال القرطبي: (أي هو المالك لجميع الأمور، الفاعل لما يشاء منها، فليس ما تلتمسونه مما يكون بالقرآن، إنما يكون بأمر الله).

وقوله: {أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا} .

أي: أفلم يعلم المؤمنون ويتبينوا أن حجة هذا القرآن وبيانه وإعجازه يكفي لإيمان جميع الخلق لو شاء الله ذلك. قال ابن عباس: ({أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا}، يقول: يعلم).

وقال قتادة: (أفلم يعلم الذين آمنوا). أو قال: (أفلم يتبيّن الذين آمنوا).

وقال أبو العالية: (قد يئس الذين آمنوا أن يَهدُوا، ولو يشاء الله لهدى الناس جميعًا).

وقوله: {وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ} - فيه تفسيران عند المُفَسِّرين:

(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (4981)، (7274)، وأخرجه مسلم - حديث رقم - (152).

(2)

حديث صحيح. أخرجه أحمد (2/ 314)، والبخاري (3417)، كتاب أحاديث الأنبياء، وأخرجه ابن حبان في صحيحه (6225).

ص: 230

1 -

أي: لا تزال البلايا والمصائب والقوارع تنزل بالكفار بسبب كفرهم وخُبْثِ أعمالهم، أو تنزل قريبًا منهم فيفزعون ويتطاير عليهم شررها حتى يأتي وعد الله بموتهم أو قيام الساعة.

2 -

أي: لا يزال ينزل بكفار مكة من المصائب والقوارع نتيجة ما صنعوا برسول الله صلى الله عليه وسلم فيصيب المسلمون منهم ويختطفون منهم بإغارتهم على مواقعهم حول مكة ويغنمون ويأسرون، أو تحل أنت يا محمد قريبًا من دارهم بجيشك يوم الحديبية حتى يأتي وعد الله بفتح مكة ودخولك منتصرًا مُظفّرًا، وعد الله، ولا يخلف الله الميعاد.

قلت: والبيان الإلهي يحتمل التأويلين معًا، فكلاهما ضمن آفاق مفهوم الآية.

فعن ابن زيد: ({وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ}، قال: قارعة من العذاب). وعن قتادة قال: قال الحسن: ({أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ}، قال: أو تحل القارعة قريبًا من دارهم). وقوله: {حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ} - قال الحسن: (يوم القيامة).

وعن ابن عباس: (قوله: {وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ}، يقول: عذابٌ من السماء ينزل عليهم، {أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ}، يعني نزول رسول الله صلى الله عليه وسلم بهم وقتاله إياهم). وعن سعيد بن جبير: {تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ} ، قال سرية، {أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ} ، قال: أنت يا محمد). وقال عكرمة عن ابن عباس: ({قَارِعَةٌ} - قال: السرايا).

وقال مجاهد: (سرية، أو قال: كتيبة). وقال: {حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ} - قال: فتح مكة).

وفي التنزيل: {فَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ} [إبراهيم: 47].

وقوله تعالى: {وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ} .

تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم عما يلقاه من تكذيب قومه، وسؤالهم الآيات تنطعًا واستهزاء وبطرًا.

يقول: إن لك بإخوتك الرسل من قبلك أسوة في صبرهم على أذى أقوامهم ومكرهم واستهزائهم، ثم بما آلت إليه أحوال المعاندين والمتكبرين بعد إمهالهم وتأجيلهم،

ص: 231

فكيف بلغك ما صنعت بهم وما كان من إهلاكهم وتدميرهم.

وفي التنزيل: {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ} [الحج: 48].

وفي الصحيحين من حديث أبي موسى، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[إن الله ليُمْلي للظالم حتى إذا أخذه لم يُفْلِتْه، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود: 102]] (1).

33 -

35. قوله تعالى: {أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَمْ بِظَاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (33) لَهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ وَمَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ (34) مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ (35)}.

في هذه الآيات: إِعْلَامٌ من الله تعالى أنه القائم على كل نفس في أرزاقها وأجلها وأعمالها ومع ذلك يعبد المشركون الأوثان التي لا تملك لهم ضرًا ولا نفعًا، فقل لهم - يا محمد -: سمّوا ما أشركتم في عبادة الله؟ فإن قالوا: هي آلهة، فقد كذبوا، لأن الله هو الإله الحق الواحد القهار، وآلهتهم هزيلة مهزومة ضعيفة، فهل تخبرونه سبحانه أن في الأرض إلهًا لا يعلمه أم تفترون الكذب والباطل! لقد زَيّن الشيطان للكافرين افتراءهم على الله وصدهم عن سبيله، ومن ثم فمن خذله الله عن الهدى فماله إلى الهداية من سبيل. إن لهؤلاء المشركين الخزي والعذاب في الدنيا، ثم يردون إلى أشد العذاب في الآخرة، وما لهم من الله من ولي ولا نصير. وأما المؤمنون المتقون فهم في روضات الجنات، تجري من تحتها الأنهار، منغمسون في ألوان النعيم، على النقيض من أحوال أصحاب الجحيم.

(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (4686)، ومسلم (2583)، والترمذي (3109)، وابن ماجه (4018)، وابن حبان في صحيحه (5175)، وأخرجه البيهقي (6/ 94).

ص: 232

فقوله: {أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} - هو الله تعالى قائم على كل نفس في أرزاقها وأجلها وأعمالها.

قال قتادة: (ذلكم ربكم تبارك وتعالى، قائمٌ على بني آدم بأرزاقهم وآجالهم، وحفظَ عليهم والله أعمالهم). وقال ابن عباس: (يعني بذلك نفسه، يقول: هو معكم أينما كنتم، فلا يعمل عاملٌ إلا والله حاضِرُه. ويقال: هم الملائكة الذي وُكلوا ببني آدم).

وقال الضحاك: (فهو الله قائم على كل برّ وفاجر، يرزقهم ويَكلؤهم، ثم يشرك به منهم من أشرك).

وفي التنزيل:

1 -

قال تعالى: {وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا} [الأنعام: 59].

2 -

وقال تعالى: {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ} [يونس: 61].

3 -

وقال تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [هود: 6].

4 -

وقال تعالى: {سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ} [الرعد: 10].

5 -

وقال تعالى: {يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى} [طه: 7].

6 -

وقال تعالى: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [الحديد: 4].

ومن كنوز السنة الصحيحة في آفاق معنى هذه الآية أحاديث:

الحديث الأول: أخرج الإمام أحمد بسند صحيح من حديث عبادة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: [إن أول ما خلق الله القلم، ثم قال له: اكتب، فجرى في تلك الساعة بما هو كائن إلى يوم القيامة](1). وفي لفظ: [إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن أول ما خلق الله القلم فقال له: اكتب. قال: يا رب وما أكتب؟

(1) حديث صحيح. أخرجه أحمد في المسند (5/ 317)، والترمذي في التفسير (2/ 232)، وانظر تخريج المشكاة (94)، وكتابي: أصل الدين والإيمان (2/ 807) لتفصيل الروايات المختلفة.

ص: 233

قال: اكتب القدر وما هو كائن إلى الأبد]. وفي لفظ آخر: [اكتب مقادير كل شيء حتى تقوم الساعة].

الحديث الثاني: أخرج الإمام مسلم في صحيحه، عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [إن الله كتب مقادير الخلق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة. وكان عرشه على الماء](1).

الحديث الثالث: يروي الطبراني بسند صحيح من حديث أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [فرغ الله عز وجل إلى كل عبد من خمس: من أجله ورزقه وأثره ومضجعه وشقي أو سعيد](2). وفي رواية: (من عمله وأجله ورزقه وأثره ومضجعه).

وقوله: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَمْ بِظَاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ} . أي: عبدوا تلك الأصنام والأوثان وهي لا تضر ولا تنفع، ولا تبصر ولا تسمع، ولا تملك كشف الضر عن نفسها ولا تحويلًا. فقل لهم يا محمد: سمّوا ما أشركتم في عبادة الله؟ فإن قالوا: هي آلهة، فقد كذبوا، لأنه لا إله إلا الله الواحد القهار لا شريك له، وهو خلق كل شيء، ومن ثمّ فإن ما زعمتم آلهة مخلوق ضعيف مقهور بأمر الله، فهل تخبرونه سبحانه أن في الأرض إلهًا لا يعلمه! ! أم تقولون الكذب والباطل! !

وفي التنزيل: {إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى} [النجم: 23].

وعن ابن عباس: ({وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ}، والله خلقهم). قال الضحاك: (ولو سمَّوهم آلهةً لكذبوا وقالوا في ذلك غير الحق، لأن الله واحدٌ ليس له شريك. قال الله: {أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَمْ بِظَاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ}، يقول: لا يعلم الله في الأرض إلهًا غيره). وعن مجاهد: ({بِظَاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ}، بظن). وقال قتادة: (والظاهر من القول هو الباطل). وعن الضحاك قال: (يقول: أم بباطل من القول وكذب، ولو قالوا: قالوا الباطل والكذب).

وقوله: {بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} .

(1) حديث صحيح. انظر مختصر صحيح مسلم (1841) بلفظ: (كتب الله مقادير الخلق. .)، وانظر صحيح مسلم (8/ 51)، باب: كتب المقادير قبل الخلق، وروى أحمد نحوه.

(2)

حديث صحيح. أخرجه الطبراني كما في "المجمع"(7/ 195)، وبنحوه أحمد (5/ 197). انظر تخريج الطحاوية (78)، وصحيح الجامع الصغير (4077)، (4078) - (4079).

ص: 234

أي: بل زين للكافرين افتراؤهم الكذب على الله وصدهم عن سبيله، ومن ثمّ فإن من أضلّه الله عن إصابة الحق وخذله عن الهدى فلا سبيل لهدايته.

وعن مجاهد: ({بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ}، قال: قولهم). يعني ما افتروه على الله من الشرك به والدعوة إلى الضلال والإلحاد.

وقرأ الكوفيون: {وصُدُّوا عن السبيل} بضم الصاد، أي وصدّهم الله عن سبيله بسبب تماديهم في الكفر والمكر. وأما قراء البصرة والحجاز فقرؤوه بالفتح:{وصَدّوا} ، أي إنَّ المشركين لم يكتفوا بكفرهم بل صدوا الناس أيضًا عن سبيل الله - والقراءتان مشهورتان.

قال ابن جرير: (وقوله: {وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ}، يقول تعالى ذكره: ومن أضَلَّهُ الله عن إصابة الحق والهدى بخذلانه إياه، فما له أحدٌ يهديه لإصابتهما، لأن ذلك لا يُنال إلا بتوفيق الله ومعونته).

وفي التنزيل:

1 -

قال تعالى: {وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا} [المائدة: 41].

2 -

وقال تعالى: {إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} [النحل: 37].

3 -

وقال تعالى: {كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ} [غافر: 34].

وفي صحيح مسلم من حديث حذيفة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [تعرض الفتن على القلوب عرض الحصير عودًا عودًا، فأي قلب أُشربها نكتت فيه نكتةٌ سوداء، وأيّ قلب أنكرها نكتت فيه نكتة بيضاء، حتى يصيرَ القلب أبيض مثل الصفا لا تضره فتنة ما دامت السماوات والأرض، والآخر أسود مُرْبدًا كالكوز مُجَخِّيًا لا يعرف معروفًا ولا ينكر منكرًا إلا ما أشرب من هواه](1).

وقوله تعالى: {لَهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ وَمَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ} . أي: لهؤلاء المشركين بالله الصادّين عن سبيله عذاب في الحياة الدنيا بالقتل والأسر والآفات، وما ينتظرهم من عذاب الآخرة أشد ثم لا ولي ولا شفيع ولا نصير.

(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم في الصحيح (1/ 89 - 90). وانظر مختصر صحيح مسلم (1990) - كتاب الفتن، من حديث حذيفة رضي الله عنه.

ص: 235

وفي التنزيل:

1 -

قال تعالى: {إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا (12) وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا (13) لَا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا} [الفرقان: 12 - 14].

2 -

وقال تعالى: {فَيَوْمَئِذٍ لَا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ (25) وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ} [الفجر: 25، 26].

3 -

وقال تعالى: {وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} [الزمر: 47].

ومن السنة الصحيحة في آفاق معنى الآية أحاديث:

الحديث الأول: أخرج الإمام مسلم في صحيحه عن أنس بن مالك، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[يقول الله تبارك وتعالى لأَهْونِ أهل النار عذابًا: لو كانت لك الدنيا وما فيها أكُنْتَ مفتديًا بها؟ فيقول: نعم، فيقول: قد أردتُ منكَ أهونَ من هذا وأنت في صُلْب آدم - أن لا تشركَ، ولا أدخِلَكَ النار، فأبيتَ إلا الشرك](1).

الحديث الثاني: أخرج النسائي والترمذي بسند صحيح عن ابن عباس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية:{اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [لو أن قطرة من الزقوم قطرت في دار الدنيا لأفسدت على أهل الأرض معايِشَهم، فكيف بمن يكون طعامه](2).

الحديث الثالث: أخرج الترمذي بسند حسن عن عبد الله بن عمرو، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[يُحشرُ المتكبرون يوم القيامة أمثالَ الذر في صور الرجال، يغشاهم الذل من كل مكان، يُساقون إلى سجن في جهنم يسمى بولس، تعلوهم نار الأنيار، يُسقون من عُصَارة أهل النار، طينةِ الخبال](3).

وقوله تعالى: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ} .

(1) حديث صحيح. رواه مسلم في الصحيح (8/ 134). وانظر مختصر صحيح مسلم (1955) - كتاب صفة القيامة. باب: في كثرة العرق يوم القيامة.

(2)

حديث صحيح. انظر تخريج "مشكاة المصابيح"(5683)، وصحيح الجامع الصغير (5126).

(3)

حديث حسن. أخرجه الترمذي في السنن (2492). انظر صحيح سنن الترمذي (2025)، وصحيح الجامع الصغير (7896)، ورواه أحمد.

ص: 236

تفريقٌ بين المصيرين، فهذا مصير السعداء المتقين، في جنان النعيم، تجري من تحتها الأنهار، دائمة الظلال والأكل والملذات، على النقيض من أحوال أهل الجحيم والحسرات.

وفي التنزيل:

1 -

{مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ} [محمد: 15].

2 -

وقال تعالى: {وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ (32) لَا مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ} [الواقعة: 32، 33].

ومن صحيح السنة المطهرة في آفاق ذلك أحاديث:

الحديث الأول: أخرج البخاري ومسلم من حديث سهل بن سعد، وأبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [في الجنة شجرةٌ يسيرُ الراكب في ظلها مئة سنة. اقرؤوا إن شئتم: {وَظِلٍّ مَمْدُودٍ} [الواقعة: 30]] (1).

الحديث الثاني: روى مسلم عنِ جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [يأكل أهل الجنة ويشربون، ولا يمتخطُون ولا يتغَوَّطون ولا يبولون، طعامهم ذلك جُشَاء كريح المسك، ويُلهمون التسبيح والتقديس كما يُلهمون النفس](2).

الحديث الثالث: أخرج الطبراني والبزار عن ثوبان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [إن الرجل إذا نزعَ ثمرةً من الجنة عادت مكانها أخرى](3).

36 -

37. قوله تعالى: {وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الْأَحْزَابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلَا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ

(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (3252)، ومسلم (2826)، والترمذي (2523)، وأحمد (2/ 418) من حديث سهل بن سعد وأبي هريرة رضي الله عنهما.

(2)

حديث صحيح. أخرجه مسلم (2835)، وأبو داود (4741)، وأحمد (3/ 316)، وغيرهم.

(3)

أخرجه الطبراني (1449) والبزار (3530)، وذكره الهيثمي في "المجمع" (10/ 414) وقال: رواه الطبراني والبزار إلا أنه قال: "عيد في مكانها مثلاها"، ورجال الطبراني وأحد إسنادي البزار ثقات.

ص: 237

مَآبٍ (36) وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا وَاقٍ (37)}.

في هذه الآيات: إثبات الله تعالى فرح الصحابة بهذا القرآن ومسارعتهم للعمل به، ومن أهل الكتاب وغيرهم من الطوائف من ينكر بعض ما في القرآن ظلمًا وزورًا، فأعلن - يا محمد - إفرادك الله بالتعظيم والدعاء، فإليه الرجوع والمآب. لقد شَرَّفك ربك - يا محمد - بهذا القرآن المحكم بلسان العرب فحذار متابعة أهل الأهواء بعدما جاءك من العلم، فإنه لا ناصر لك حينئذ ولا يقيك من الله واق.

فقوله: {وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ} - يعني الصحابة فرحوا بالقرآن وعملوا به. قال قتادة: (أولئك أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، فرحوا بكتاب الله وبرسوله وصدّقوا به).

وقوله: {وَمِنَ الْأَحْزَابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ} - يعني اليهود والنصارى وغيرهما من الطوائف.

قال مجاهد: (من أهل الكتاب، و {الْأَحْزَابِ}، أهل الكتب يقرّبهم تحَزُّبهم. {يُنْكِرُ بَعْضَهُ} قال: بعض القرآن).

وعن ابن زيد: {وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ} ، قال: هذا مَنْ آمَنَ برسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل الكتاب، فيفرحون بذلك. وقرأ:{وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهِ} [يونس: 40].وفي قوله: {وَمِنَ الْأَحْزَابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ} ، قال:{الْأَحْزَابِ} ، الأممُ، اليهود والنصارى والمجوس، منهم من آمن به، ومنهم من أنكره).

وقوله: {قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلَا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ} .

أي: قل لهم يا محمد، أما أنا فأفرد الله تعالى بالتعظيم والعبادة ولا أشرك به، وإلى طاعته وإخلاص العبادة له أدعو الناس، إليه مصيري ومآلي ومرجعي.

قال قتادة: ({وَإِلَيْهِ مَآبِ}، وإليه مصير كلّ عبد).

وقوله: {وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا} . قال النسفي: (حكمة عربية مترجمة بلسان العرب).

وقال ابن كثير: (أي: وكما أرسلنا قبلَكَ المرسلين، وأنزلنا عليهم الكتب من

ص: 238

السَّماء، كذلك أنزلنا عليك القرآن مُحكمًا مُعْربًا، شرّفناك به وفَضَّلْنَاك على من سِواك بهذا الكتاب المبين الواضح الجَليّ الذي {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت: 42]).

وقيل: نظم الآية - (وكما أنزلنا الكتب على الرسل بلغاتهم كذلك أنزلنا إليك القرآن حكمًا عربيًا، أي بلسان العرب، ويريد بالحكم ما فيه من الأحكام) - حكاه القرطبي.

قلت: والبيان القرآني يحتمل كل ما سبق من التأويل، فالقرآن كلام عربي مبين يفصل بين الحق والباطل، ويحكم على كل شيء، وفيه حكمة بالغة لكل شيء، أنزله الله بلسان عربي فصيح، لغة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.

وقوله: {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا وَاقٍ} .

قال القاسمي: (أي: لئن تابعتهم على دين، ما هو إلا أهواء بعد ثبوت العلم عندك بالبراهين والحجج، فلا ينصرك ناصر، ولا يقيك واق. وهذا من باب الإلهاب والتهييج والبعث للسامعين على الثبات في الدين والتصلب، وأن لا يزلّ زالّ عند الشبهة بعد استمساكه بالحجة، وإلا فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم من شدة الشكيمة بمكان).

38 -

40. قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ (38) يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ (39) وَإِنْ مَا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ (40)}.

في هذه الآيات: ردُّ الله على المشركين رفضهم النبوة إلا من مَلَك، بإثبات بشرية الرسول شأن الرسل قبله: يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق ويأتون الزوجات ويولد لهم، وما يقدر رسول أن يأتي بآية أو معجزة إلا بأمر الله، ولكل أجلٍ أمرٍ قضاه الله كتابٌ قد كتبه تعالى فهو عنده. وهو تعالى ينسخ الشرائع ويثبت ما يشاء منها وعنده أم الكتاب.

إن الذي عليك - يا محمد - هو تبليغ الرسالة سواء أراك ربك مصارع المعاندين أو توفاك قبل ذلك، فإلى الله الإياب وعليه الحساب.

ص: 239

فقوله: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً} . أي: إن شأنك يا محمد شأن الرسل الذين أرسلناهم قبلك، كانوا بشرًا يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق ويأتون الزوجات ويولد لهم، وجعلنا لهم أزواجًا وذرية.

قال القاسمي: (وهو ردٌّ لقولهم: لو كان نبيًا لكان من جنس الملائكة كما قالوا: {مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ} [الفرقان: 7]، وإعلامٌ بأن ذلك سنة كثير من الرسل، فما جاز في حقهم لمَ لا يجوز في حقه؟ وقد قال تعالى له: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ} [الكهف: 110]).

وقوله: {وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ} .

قال ابن جرير: (يقول تعالى ذكره: وما يقدر رسولٌ أرسله الله إلى خلقه أن يأتي أمَّتَهُ بآية وعلامة، من تسيير الجبال، ونقلِ بَلْدَةٍ من مكان إلى مكان آخر، وإحياء الموتى، ونحوها من الآيات، {إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ}، يقول: إلا بأمر الله الجبال بالسير، والأرضَ بالانتقال، والميتَ بأن يحيَا، {لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ}، يقول: لكل أجلٍ أمرٍ قضاه الله، كتابٌ قد كتبه فهو عنده).

وقوله تعالى: {يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} - له أكثر من تأويل عند المفسرين:

التأويل الأول: قيل يمحو الله ما يشاء من أمور عباده فيغيره، إلا الشقاء والسعادة، فإنهما لا يُغَيّران.

قال ابن عباس: (يدبر الله أمر العبادة، فيمحو ما يشاء إلا الشقاء والسعادة والحياة والموت). وفي لفظ: (يدبر أمر السنة، فيمحو الله ما يشاء إلا الشقاء والسعادة والحياة والموت). وقال مجاهد: (إلا الحياة والموت والسعادة والشقاوة، فإنهما لا يتغيران).

التأويل الثاني: يمحو الله ما يشاء ويثبت من كتاب سوى أم الكتاب الذي لا يُغَيَّرُ منه شيء. وأم الكتاب هو اللوح المحفوظ، فكأن المحو والإثبات من الصحف التي بأيدي الملائكة.

قال عكرمة: (الكتاب كتابان: كتاب يمحو الله منه ما يشاء ويثبت، وعنده أم الكتاب).

التأويل الثالث: قيل بل يمحو كلّ ما يشاء، ويثبت كل ما أراد.

ص: 240

يروي ابن جرير بسنده عن أبي عثمان النَّهدي: (أن عمر بن الخطاب قال وهو يطوف بالبيت ويبكي: اللهم إن كنت كتبت علي شقْوة أو ذنبًا فامحه، فإنك تمحو ما تشاء وتثبت وعندك أم الكتاب، فاجعله سعادة ومغفرة).

ثم روى عن ابن عباس قوله: (هو الرجل يعمل الزمان بطاعة الله، ثم يعود لمعصية الله، فيموت على ضلاله، فهو الذي يمحو. والذي يثبت: الرجل يعملُ بمعصية الله، وقد كان سبق له خير حتى يموت وهو في طاعة الله، فهو الذي يثبت).

التأويل الرابع: قيل بل معنى ذلك يمحو من قد حان أجله ويثبت من لم يجئ أجله إلى أجله.

قال الحسن: (يمحو من جاء أجله فذهب، والمثبت الذي هو حيّ يجري إلى أجله).

التأويل الخامس: يغفر ما يشاء من ذنوب عباده، ويترك ما يشاء فلا يغفر. فعن عطاء، عن سعيد قال:(يثبت في البطن الشقاء والسعادة، وكلَّ شيء، فيغفر منه ما يشاء، ويؤخر ما يشاء).

التأويل السادس: ينسخ الله ما يشاء من أحكام كتابه، ويثبت ما يشاء فلا ينسخه.

قال ابن عباس: ({يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ} من القرآن. يقول: يبدل الله ما يشاء فينسخه، ويثبت ما يشاء فلا يبدله، {وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} يقول: وجملة ذلك عنده في أم الكتاب، الناسخ والمنسوخ، وما يبدل وما يثبت، كل ذلك في كتاب).

قلت: والسياق يدل على التأويل السادس، فقوله تعالى:{وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ} - فيه إخبار أن الرسول لا يأتي بالآيات من قبل نفسه بل من عند الله الذي قدّر للشرائع أجلًا وغاية ثم ينسخها بالشريعة الأخرى ويثبت ما يشاء منها.

وقوله تعالى: {وَإِنْ مَا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ} .- خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم للقيام ببلاغ قومه وإنذارهم والله يتولى مكرهم وحسابهم. قال النسفي: (وكيفما دارت الحال أريناك مصارعهم وما وعدناهم من إنزال العذاب عليهم أو توفيناك قبل ذلك {فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ} - فما يجب عليك إلا تبليغ الرسالة فحسب {وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ} - وعلينا حسابهم وجزاؤهم على أعمالهم لا عليك فلا يهّمنك إعراضهم ولا تستعجل بعذابهم).

ص: 241

41 -

43. قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (41) وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعًا يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ (42) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ (43)}.

في هذه الآيات: تَهْديِدٌ للمشركين وتَوَعُّدٌ لهم! أولم يروا كيف نفتح لمحمد صلى الله عليه وسلم فتحًا بعد فتح حتى أوشك الفتح أن يطال أرضهم؟ والحكم لله وهو سريع الحساب. وقد مكر الطغاة في الأمم قبلهم فأحاط بهم مكر الله وطوّقهم وسيعلم الكفار لمن تكون العاقبة الحميدة. وما يزال هؤلاء الكفرة يكذبون نبوتك - يا محمد - فقل حسبي الله يشهد بما أرسلني به، وكذلك يشهد علماء أهل الكتاب بما يجدونه في كتبهم من صدق رسالتي ونبوتي ونعتي.

فقوله: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا} - فيه أكثر من تأويل:

التأويل الأول: أولم ير مشركو مكة كيف نفتح لمحمد صلى الله عليه وسلم أرضًا بعد أرض حتى أوشك أن يفتح أرضهم وهم لا يزالون متنطعين يسألون الآيات.

قال ابن عباس: ({أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا}، قال: أولم يروا أنا نفتح لمحمد الأرض بعد الأرض). قال: (يعني بذلك ما فتح الله على محمد. يقول: فذلك نُقْصَانها).

وقال الحسن: (هو ظهور المسلمين على المشركين). وقال الضحاك: (يعني أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يُنْتقَصُ له ما حوله من الأرَضِين، ينظرون إلى ذلك فلا يعتبرون، قال الله في "سورة الأنبياء": {نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ} [الأنبياء: 44]، بل نبي الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه هم الغالبون).

التأويل الثاني: أولم يروا أنا نأتي الأرض فنخرِّبها، فأوشكوا أن نخرب أرضهم ونهلكهم؟ قال ابن عباس:(أولم يروا إلى القرية تخربُ حتى يكون العُمْران في ناحية؟ ).

وقال مجاهد: ({أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا}، قال: خرابُها). وقال ابن جريج: (خرابُها وهلاك الناس). وقال عكرمة: (تُخرب من أطرافها).

ص: 242

التأويل الثالث: ننقص من بركتها وثمرتها وأهلها بالموت.

قال الشعبي: (لو كانت الأرض تُنْقَص لضاق عليك حُشُّك، ولكن تُنْقَصُ الأنفس والثمرات). وقال مجاهد: ({نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا}، قال: في الأنفس، وفي الثمرات، وفي خراب الأرض). وعن ابن عباس: (يقول: نقصان أهلها وبركتها). وقال عكرمة: (هو قَبْضُ الناس). وقال: (هو الموت. ثم قال: لو كانت الأرض تنقص لم نجد مكانًا نجلسُ فيه).

التأويل الرابع: ننقصها بذهاب فقهائها وخِيارها.

قال عطاء، عن ابن عباس:(ذهابُ علمائها وفقهائها وخِيار أهلِها).

وقال مجاهد فيها: (موتُ العلماء).

قلت: والتأويل الأول أقواها وأنسبها للسياق، فالآيات قبلها في تهديد المشركين وتوعدهم، واختاره ابن جرير، وابن كثير وقال:(والقول الأول أولى، وهو ظهور الإسلام على الشرك قرية بعد قرية. كقوله: {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى} [الأحقاف: 27] الآية). واختاره النسفي وقال: ({نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا} بما نفتح على المسلمين من بلادهم فننقص دار الحرب ونزيد في دار الإسلام وذلك من آيات النصرة والغلبة، والمعنى عليك البلاغ الذي حملته ولا تهتم بما وراء ذلك، فنحن نكفيكه ونتم ما وعدناك من النصرة والظفر).

وقوله: {وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} .

قال القرطبي: (أي ليس يتعقب حكمه أحد بنقص ولا تغيير. {وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} أي الانتقام من الكافرين، سريع الثواب للمؤمن. وقيل: لا يحتاج في حسابه إلى رَوِيّة قلب، ولا عقد بَنان).

وقوله تعالى: {وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعًا يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ} .

تَهْدِيدٌ وَوَعِيدٌ لمشركي مكة في مكرهم وغيّهم وعنادهم، شأن من سبقهم من أقوام الرسل وتمادوا في الغيّ والكبر والمكر، فحاق المكر بأهله ونصر الله تعالى الرسل ونجّاهم من ذلك المكر وجعل العاقبة للمتقين.

ص: 243

وفي التنزيل:

1 -

قال تعالى: {وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (50) فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ (51) فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا} [النمل 50 - 52].

2 -

وقال تعالى: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال: 30].

3 -

وقال تعالى: {إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا (15) وَأَكِيدُ كَيْدًا} [الطارق: 15، 16].

وفي صحيح السنة في مفهوم المكر والكيد من الله بالكافرين أحاديث:

الحديث الأول: أخرج الترمذي بسند صحيح عن أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[إذا أراد الله بعبده الخير عجَّل له العقوبة في الدنيا، وإذا أراد بعبده الشرَّ أمسك عنه بذنبه حتى يُوافى به يوم القيامة](1).

الحديث الثاني: أخرج أبو داود بسند صحيح عن عائشة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[إذا أراد الله بالأمير خيرًا جعل له وزير صدق، إن نَسِيَ ذكَّرَه، وإن ذكرَ أعانه، وإذا أراد به غيرَ ذلك جعلَ له وزيرَ سوء، إن نَسِيَ لم يذكِّرْه، وإن ذكر لم يُعِنْه](2).

الحديث الثالث: أخرج الشيخان من حديث أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [إن الله تعالى ليُملي للظالم، حتى إذا أخذه لم يُفلته](3).

فقوله: {فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعًا} - كما قال القرطبي: (أي هو مخلوق له مكر الماكرين، فلا يضر إلا بإذنه). وقال القاسمي: ({فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعًا} إشارة إلى ضعف مكرهم وكيدهم لاضمحلاله وذهاب أثره، وأنه مما لا يسوء، وأن المكر المرهوب هو ما سيؤخذون به من إيقاع فنون النكال، وهم نائمون على فرش الإمهال، مما لا يخطر لهم على بال، كما يومئ إليه قوله تعالى: {يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ

(1) حديث صحيح. رواه الترمذي (2/ 64)، والبيهقي في "الأسماء والصفات" ص (154)، وأخرجه ابن حبان (2455)، وأبو نعيم في "أخبار أصبهان"(2/ 274).

(2)

حديث صحيح. أخرجه أبو داود (2932) - كتاب الخراج والإمارة والفيء -. باب في اتخاذ الوزير.

(3)

حديث صحيح. أخرجه البخاري (4686)، ومسلم (2583)، والترمذي (3110)، وأخرجه ابن ماجه (4018)، وابن حبان (5175)، والبيهقي (6/ 94).

ص: 244

نَفْسٍ} أي فيوفيها جزاءها المعدّ لها على ما كسبت من فنون المعاصي التي منها مكرهم، من حيث لا يحتسبون {وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ} أي العاقبة الحميدة، وعلى من تدور الدائرة).

وقوله تعالى: {وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ} .

إِخْبَارٌ عن تكذيب الكفار برسالة النبي صلى الله عليه وسلم ونبوته - فقل لهم يا محمد -: حسبي الله يشهد بما أرسلني به، وكذلك يشهد بذلك علماء أهل الكتاب فيما يجدونه عندهم من صدق رسالتي ونبوتي ونعتي.

قال القرطبي: (وهذا احتجاج على مشركي العرب لأنهم كانوا يرجعون إلى أهل الكتاب - من آمن منهم - في التفاسير).

تم تفسير سورة الرعد

بعون الله وتوفيقه، وواسع مَنِّه وكرمه

° ° °

ص: 245