المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ منهاج السورة - التفسير المأمون على منهج التنزيل والصحيح المسنون - جـ ٤

[مأمون حموش]

الفصل: ‌ منهاج السورة

الحديث الثالث: أخرج الإمام أحمد بسند صحيح عن معدان، عن أبي الدرداء رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[من قرأ العشر الأواخر من سورة الكهف عُصِمَ من فتنة الدَّجال](1).

الحديث الرابع: أخرج الإمام مسلم عن النواس بن سمعان قال: [ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الدجال فقال: إن يخرج وأنا فيكم فأنا حجيجه دونكم، وإن يخرج ولست فيكم فامرؤ حجيج نفسه والله خليفتي على كل مسلم، إنه شاب قطط عينه طافية كأني أشبهه بعبد العزى بن قطن، فمن أدركه منكم فليقرأ عليه بفواتح سورة الكهف فإنها جواركم من فتنته. .] الحديث (2).

الحديث الخامس: أخرج النسائي بإسناد صحيح عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [من قرأ سورة الكهف في يوم الجمعة أضاء له من النور ما بين الجمعتين](3).

ورواه الدارمي موقوفًا على أبي سعيد بلفظ: [من قرأ سورة الكهف ليلة الجمعة أضاء له من النور ما بينه وبين البيت العتيق].

‌موضوع السورة

قصة أصحاب الكهف منهاج الفئة المؤمنة، وسنن الله في أهل الإيمان والكفر وإهلاك القرى الظالمة.

-‌

‌ منهاج السورة

-

1 -

الحمد والثناء على الله منزل الكتاب، نذيرًا للعباد يوم الحساب، وبشيرًا للمؤمنين بالجنة والنجاة من العقاب، وإنذارًا للذين نسبوا لله الولد من أهل الكتاب.

(1) حديث صحيح. أخرجه أحمد (6/ 446)، ومسلم (809)، والنسائي في "الكبرى"(10786).

(2)

حديث صحيح. انظر مختصر صحيح مسلم - حديث رقم - (2048)، كتاب الفتن.

(3)

أخرجه الحاكم (2/ 368)، والبيهقي في "السنن"(3/ 249)، وأخرجه الدارمي (2/ 454) موقوفًا، كما في الرواية بعده، وانظر صحيح الجامع - حديث رقم - (6347).

ص: 552

2 -

تثبيت الله تعالى نبيّه صلى الله عليه وسلم في جهاده قومه الذي تمردوا عن الإيمان، وكذبوا بالنبوة والقرآن، فهذه الدنيا دار فانية، مزينة بزينة زائلة.

3 -

قصة أهل الكهف قصة فتية مؤمنين، فروا بدينهم من مكر الظالمين، وقد ضرب الله عليهم النوم سنين طويلة، ثم بعثهم لإظهار آية من آيات قدرته العجيبة.

4 -

ذكر تقلب الشمس حول الكهف بأمر الله حفظًا على الفتية المؤمنين، وكلبهم باسط ذراعيه بالباب ولو أبصرتهم لكنت من الهاربين.

5 -

مجيء وقت إيقاظهم، وإرسال بعضهم للمجيء بطعام لهم، وأَمْرُهُ بالتلطف لئلا يفطن الطغاة إلى أمرهم.

6 -

كشف الله أمرهم، ليعلم من كذب بهذا الحديث أن وعد الله حق والساعة لا ريب فيها.

7 -

اتخاذ أهل النفوذ عليهم مسجدًا، وتنازع القوم في عددهم دون جدوى.

8 -

تنبيه الله العباد إلى ذكره وربط الأمور بمشيئته تعالى، فمشيئته قاهرة لكل مشيئة.

9 -

إخباره تعالى عن لبث أهل الكهف في كهفهم ثلاث مئة وتسع سنين، والله هو العليم الحكيم لا يخفى عليه شيء وله الحكم لا شريك له.

10 -

أمْرُ الله رسوله بتلاوة القرآن، والصبر في الحياة مع أهل الإيمان، وعدم الافتتان بأهل الزينة أهل الكبر والحرمان.

11 -

من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر، والعاقبة للمتقين، والعذاب على الكافرين.

12 -

ذكر قصة الرجلين: لأحدهما جنتان فهو مستكبر مفتخر على صاحبه بالمال والثمر والنفر، شاك بالبعث بعد الموت وأنه لو حصل لكان له حسن المنقلب والمستقر، وصاحبه يحذره مغبة الشرك والكبر، وهو يُصِرّ على كفره حتى أرسل الله عليه الجوائح والمصائب وهلك المال والثمر، وصار في الندم والبؤس وذاق عاقبة من كفر وما شكر.

13 -

تمثيل بديع لهذه الحياة الدنيا الفانية، والباقيات الصالحات هي البقية الباقية.

ص: 553

14 -

وَصْفُ الله أحوال القيامة: تسيير الجبال وبروز الأرض وموقف الحشر وتوزيع الصحف والتحسر والندامة.

15 -

أمْرُ الله الملائكة السجود لآدم، وقصة امتناع إبليس وعداوته، وتقريع المشركين في شركهم وذلهم يوم القيامة.

16 -

تصريف الله الأمثال في هذا القرآن، وتكذيب الناس الرسل بطرق متوارثة عبر الزمان. قوامها العناد والفلسفة وسؤال المعجزات والاستهزاء بالرسل الكرام.

17 -

التحذير من التغافل عن حجج الله وما يعقب ذلك من الختم والطبع على القلوب والإقفال على الآذان، ورحمته تعالى بعدم معاجلة المذنبين.

18 -

سنة الله في إهلاك القرى الظالم أهلها في وقت وأجل مسمى.

19 -

قصة لقاء موسى بالخضر، وبيان المشاهد والمواقف في ذلك.

20 -

قصة ذي القرنين وسياحته في البلاد، يقيم الحق والميزان بين العباد، وخبر يأجوج ومأجوج.

21 -

تفصيل إبراز جهنم يوم القيامة للكافرين، الذين كانوا في تغافل وتكذيب بيوم الدين.

22 -

الأخسرون الأخسرون الذين بطل عملهم يوم القيامة وهم يظنون أنهم محسنون.

23 -

تعظيم كلمات الله وآفاقها ومعانيها وروائع علومها، وعجز البحر أن يكفي مدادًا لها.

24 -

إثبات بشرية الرسول صلى الله عليه وسلم، وتلقيه الوحي من الله رب السماوات والأرض.

25 -

ذِكرُ سر النجاة وسعادة الدارين: إفراد الله تعالى بالعبادة والتعظيم، والتماس العمل الصالح على منهاج الوحيين.

° ° °

ص: 554

بسم الله الرحمن الرحيم

1 -

8. قوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا (1) قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا (2) مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا (3) وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا (4) مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا (5) فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا (6) إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا (7) وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا (8)}.

في هذه الآيات: كل الحمد والشكر لله منزل الكتاب عدلًا قيمًا، نذيرًا وبشيرًا، ومحذرًا الذين تطاولوا على الله ونسبوا له الولد كذبًا وزورًا. فلا تهلك نفسك - يا محمد - بحزنك على قومك في تمردهم عن الإيمان، والتكذيب بالنبوة والقرآن، فإن هذه الدنيا دار فانية، مزينة بزينة زائلة، لا تستقيم لأحد لأنها دار اختبار، وليست بدار قرار، وستصير بعد الزينة إلى الخراب والدمار.

فقوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا} . حَمْدٌ وتقديس من الله لنفسه الكريمة على إنزاله هذا الكتاب العزيز.

قال ابن جرير: (يقول تعالى ذكره: الحمد لله الذي خصّ برسالته محمدًا وانتخبه لبلاغها عنه، فابتعثه إلى خلقه نبيًا مرسلًا، وأنزل عليه كتابًا قيمًا، ولم يجعل له عِوَجًا).

وعن ابن عباس: ({وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا (1) قَيِّمًا} يقول: أنزل الكتاب عَدلًا قيمًا، ولم يجعل له عِوَجًا). وقال ابن إسحاق:(أي: معتدلًا لا اختلاف فيه). وعن الضحاك: (قيمًا: قال: مستقيمًا).

ص: 555

قال ابن كثير: (فإنه - أي القرآن - أعظم نعمةٍ أنعمها الله على أهل الأرض، إذ أخرجهم به من الظلمات إلى النور، حيث جعله كتابًا مستقيمًا لا اعوجاجَ فيه ولا زيغَ، بل يَهدي إلى صراط مستقيم، بَيِّنًا واضِحًا جليًا، نذيرًا للكافرين وبشيرًا للمؤمنين، ولهذا قال: {وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا}، أي: لم يجعل فيه اعوجاجًا ولا زَيغًا ولا مَيْلًا، بل جعله معتدلًا مستقيمًا. ولهذا قال: {قَيِّمًا}، أي: مستقيمًا).

وقوله: {لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ} . تهديد للكافرين بعذاب من عند الله في الدارين. قال محمد بن إسحاق: (عاجل عقوبة في الدنيا وعذابًا في الآخرة). وقال قتادة: ({مِنْ لَدُنْهُ}: أي: من عنده).

وقوله: {وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا} . بشارة للمؤمنين أهل العمل الصالح بالثواب الجزيل في جنات النعيم يوم القيامة. ولهذا قال: {مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا} . قال ابن إسحاق: (أي: في دار خلد لا يموتون فيها، الذين صدقوك بما جئت به عن الله، وعملوا بما أمرتهم).

وفي الصحيحين عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [إذا دخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار، يجاء بالموت كأنه كبش أملحُ، فيوقف بين الجنة والنار، فيقال: يا أهل الجنة هل تعرفون هذا؟ فيشرئبون فينظرون ويقولون: نعم هذا الموت وكلهم قد رآه، ثم ينادى: يا أهل النار هل تعرفون هذا؟ فيشرئبون فينظرون فيقولون: نعم هذا الموت وكلهم قد رآه، فيؤمر به فيذبح، ويقال: يا أهل الجنة خلود ولا موت، ويا أهل النار خلود ولا موت](1).

وقوله تعالى: {وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا} . أي: من مشركي قومه وغيرهم.

قال ابن إسحاق: (يعني قريشًا في قولهم: إنما نعبد الملائكة، وهنّ بنات الله). وفي صحيح البخاري عن أبي موسى رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[ليس أحدٌ أصبرَ على أذى سَمِعَهُ من الله، إنهم ليَدْعون له ولدًا، وإنه ليُعافيهم ويرزقُهم](2).

وقوله تعالى: {مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ

(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (6548) - كتاب الرقاق، وأخرجه مسلم (8/ 153)، وغيرهما.

(2)

حديث صحيح. أخرجه البخاري (6099) - كتاب الأدب، باب الصبر في الأذى.

ص: 556

إِلَّا كَذِبًا}. أي: لا حجة لهؤلاء القائلين هذا القول ولا لأسلافهم، وإنما يقولون كبيرًا من الإثم ويفترون على الله أعظم الكذب.

قال محمد بن إسحاق: (ما يقول هؤلاء القائلون اتخذ الله ولدًا بقيلهم ذلك إلا كذبًا وفرية افتروها على الله).

ونُصبت {كَلِمَةً} على التمييز، والتقدير: كبرت كلمتُهم هذة كلمةً. وقيل: على التعجب، والتقدير: أعظِمْ بكلمتهم كلمة.

وفي صحيح البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[قال الله: كَذَّبَني ابنُ آدم ولم يكنْ له ذلك، وشَتَمني ولم يكنْ له ذلك، فأما تكذيبُه إياي فزعَمَ أني لا أقْدرُ أن أُعِيدَهُ كما كان، وأما شَتْمُهُ إيّايَ فقوله: لي ولدٌ، فسبحاني أنْ أتَّخِذَ صاحِبَةً أوْ ولَدًا](1).

وقوله تعالى: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا} .

أي: فلعلك يا محمد مهلك نفسك بحزنك على آثار قومك في تمردهم عن الإيمان بالنبوة والتصديق بهذا القرآن.

قال قتادة: ({فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ}، يقول: قاتل نفسك). وقوله: {أَسَفًا} قال: (غضبًا). وقال مجاهد: (جزعًا). وقال قتادة أيضًا: (حزنًا عليهم).

والآية تسلية من الله تعالى لنبيّه الكريم، على حزنه على إصرار المشركين، على عقائد الجاهلية ومحاربة هذا الدين، وترك التصديق بالقرآن الكريم، وهو مفهوم قوله:{بِهَذَا الْحَدِيثِ} .

وفي التنزيل نحو ذلك:

1 -

قال تعالى: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [الشعراء: 3].

2 -

وقال تعالى: {وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ} [النمل: 70].

3 -

وقال تعالى: {فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} [فاطر: 8].

(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (4482) - كتاب التفسير - سورة البقرة، آية (116).

ص: 557

وفي الصحيحين عن أبي موسى، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[إنّ الله تعالى ليُملي للظالم، حتى إذا أخذه لم يُفلته](1).

وقوله تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} .

إخبار من الله جل ذكره أن هذه الدنيا دار فانية، مزينة بزينة زائلة، لا تستقيم لأحد لأنها دار اختبار وليست بدار قرار.

وفي صحيح مسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[إنَّ الدنيا حُلْوَةٌ خَضِرَةٌ، وإنَّ الله مُسْتَخْلِفُكم فيها فينظرُ كيف تعملون، فاتقوا الدنيا واتقوا النساء، فإنّ أول فتنةِ بني إسرائيل كانت في النساء](2).

وفي جامع الترمذي بسند حسن عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ما يزال البلاء بالمؤمن والمؤمنة في نفسه وولده وماله حتى يلقى الله تعالى وما عليه خطيئة](3).

وقوله تعالى: {وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا} - فيه أقوال متقاربة.

1 -

قال ابن عباس: (يهلك كل شيء عليها ويبيد). وقال مجاهد: ({صَعِيدًا جُرُزًا}: بلقعًا).

2 -

قال قتادة: (الصعيد: الأرض التي ليس فيها شجر ولا نبات).

3 -

قال ابن إسحاق: (يعني: الأرض، إن ما عليها لفانٍ وبائد، وإن المرجع لإليّ، فلا تأس، ولا يحزنك ما تسمع وترى فيها).

4 -

قال ابن زيد: (الجُرز: الأرض التي ليس فيها شيء، ألا ترى أنه يقول: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا} [السجدة: 27]. قال: والجرز: لا شيء فيها، لا نبات ولا منفعة. والصعيد: المستوي).

وخلاصة المعنى: هذه الدنيا ستصير بعد الزينة إلى الخراب والدمار، وإلى الفناء

(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (4686)، ومسلم (2583)، والترمذي (3110)، والبيهقي (6/ 94) من حديث أبي موسى رضي الله عنه.

(2)

حديث صحيح. أخرجه مسلم في صحيحه - حديث رقم - (2742)، وقوله:"مستخلفكم" أي: جاعلكم ذرية تخلفون القرون الذين قبلكم.

(3)

إسناده حسن. أخرجه الترمذي في السنن - حديث رقم - (2401)، وقال: حديث حسن صحيح.

ص: 558

والزوال، وفي ذلك تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم عَمّا يلقاه من قومه: أن لا عليك أن سيهلكوا جميعًا، فلا تحزن عليهم ولا تضيق من مكرهم وعنادهم.

9 -

12. قوله تعالى: {أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا (9) إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا (10) فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا (11) ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا (12)}.

في هذه الآيات: إخبار الله تعالى نبيّه محمدًا صلى الله عليه وسلم عن قصة أصحاب الكهف وما فيها من العبر والآيات والمعجزات. يقول: وليس - يا محمد - أمرهم عجيبًا في قدرتنا وسلطاننا، فإن خلق السماوات والأرض، وتسخير الشمس والقمر والنجوم، وتعاقب الليل والنهار، وخلق الجبال الشواهق والأنهار والبحار، أكبر من ذلك. لقد أوى الفتية المؤمنون إلى الكهف فرارًا بدينهم، راجين رحمة ربهم، فضرب عليهم النوم سنين طويلة، ثم بعثهم سبحانه لإظهار آية من آيات قدرته العجيبة، وليستفيد من بعدهم في تعظيم الله والمثابرة على عبادته والتوكل عليه.

وقوله تعالى: {أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا} - فيه أقوال متقاربة:

1 -

قال مجاهد: (يقول: قد كان من آياتنا ما هو أعجب من ذلك).

2 -

قال ابن عباس: (يقول: الذي آتيتُكَ من العلم والسُّنَّة والكتاب أفضل من شأن أصحاب الكهف والرقيم).

3 -

وقال محمد بن إسحاق: (ما أظهرتُ من حُججي على العباد أعجبُ من شأن أصحاب الكهف والرقيم).

قال النسفي: (والكهف: الغار الواسع في الجبل، والرقيم: اسم كلبهم أو قريتهم أو اسم كتاب كتب في شأنهم أو اسم الجبل الذي فيه الكهف).

ص: 559

وقوله تعالى: {إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا} .

إخبار عن قلة مؤمنة فروا بدينهم من قومهم لئلا يفتنوهم عنه، فلجؤوا إلى غار في جبل متضرعين إلى ربهم عز وجل: أن يبسط عليهم حمايته ورحمته ويجعل لهم من أمرهم فرجًا ومخرجًا، وفي عاقبة صبرهم سترًا ورشدًا.

وقوله تعالى: {فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا} .

قال ابن كثير: (أي: ألقينا عليهم النوم حين دخلوا إلى الكهف، فناموا سنين كثيرة).

وقوله تعالى: {ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا} .

أي: ثم بعثنا هؤلاء الفتية من رقدتهم لنعلم واقعًا ما علمنا أنه سيقع، من اختلاف الطائفتين من مدة مكثهم. قال مجاهد:(أمدًا: عددًا). وقال ابن عباس: ({لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا} يقول: بعيدًا). وقال ابن جرير: (ويعني بالأمد: الغاية).

وخلاصة المعنى كما قال القاسمي: (أي لنعلم واقعًا ما، علمنا أنه سيقع. وهو أي الحزبين المختلفين في مدة لبثهم، أشد إحصاءً، أي إحاطة وضبطًا لغاية مدة لبثهم فيعلموا قدر ما حفظهم الله بلا طعام ولا شراب، وأمنهم من العدوّ، فيتمّ لهم رشدهم في شكره، وتكون لهم آية تبعثهم على عبادته).

13 -

16. قوله تعالى: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى (13) وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا (14) هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا (15) وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقًا (16)}.

في هذه الآيات: إخبارُ الله تعالى نبيّه صلى الله عليه وسلم أنّ ما يقصه عليه من خبر هؤلاء الفتية المؤمنين، إنما هو بالصدق واليقين، وقد زادهم إيمانًا إلى إيمانهم، وربط على

ص: 560

قلوبهم، إذ صبروا على هجران الديار، إلى كهف بأحد الجبال، حفاظًا على دينهم، وخلاصًا من شرك قومهم، فآواهم سبحانه وأيدهم برحمته وجعل لهم من أمرهم فرجًا ومخرجًا.

فقوله تعالى: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى} .

قال ابن جرير: (يقول تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: نحن يا محمد نقص عليك خبر هؤلاء الفتية الذين أووا إلى الكهف بالحق، يعني: بالصدق واليقين الذي لا شك فيه. {إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ} يقول: إن الفتية الذين أوَوا إلى الكهف الذين سألك عن نبئهِم الملأ من مشركي قومك، فتية آمنوا بربهم {وَزِدْنَاهُمْ هُدًى} يقول: وزدناهم إلى إيمانهم بربهم إيمانًا وبصيرة بدينهم، حتى صبروا على هجران دار قومهم، والهرب من بين أظهرهم بدينهم إلى الله، وفراق ما كانوا فيه، من خفض العيش ولينه، إلى خشونة المكث في كهف الجبل).

وفي الآية فائدتان جليلتان:

الفائدة الأولى: أهمية الشباب لحمل هذا الدين والبذل من أجله.

وهذا جلي في قوله تعالى: {إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ} ، فالشباب قوة الإسلام ومستقبله القادم. ولهذا كان أكثر المستجيبين لله تعالى ولرسوله شبابًا. وقد لاحظ العباس عمّ النبي صلى الله عليه وسلم أن معظم رجال بيعة العقبة كانوا من الشباب فقال لابن أخيه:(ما أدري ما هؤلاء القوم الذين جاؤوك؟ إني ذو معرفة بأهل يثرب. هؤلاء قوم لا أعرفهم، هؤلاء أحداث)(1).

إن الشباب مصدر قوة الأمة ومحل طاقتها الكامنة، فَإنْ صَلَحَ الشباب فإن ذلك يُبَشِّرُ بأمة قوية تريد أن تشغل مكانها تحت الشمس، وإن فسد الشباب وتعلقت قلوبهم بالفواحش والآثام، أو سُلِّطَت عليهم عوامل الهدم والشد إلى الخلف، كان ذلك نذير سوء ومصدر قلق وتهديد لتلك الأمة.

ومن هنا حرص الإسلام على تربية الشباب على روح الجهاد والشهادة في سبيل الله، فإنه لا أعلى من ذلك ولا أرفع، فإذا ارتبط قلب الفتى بحب الله ونصرة دينه كان ذلك جامعًا لخيري الدنيا والآخرة.

(1) حديث حسن. أخرجه أحمد (3/ 339 - 340) - في أثناء حديث بيعة العقبة، ورجاله ثقات.

ص: 561

ففي الصحيحين عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: إمام عادل، وشاب نشأ في طاعة الله، . . .](1).

وفي مستدرك الحاكم بإسناد صحيح عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[اغتنم خمسًا قبل خمس: حياتكَ قبل موتك، وصحتك قبل سقمك، وفراغَك قبل شغلك، وشبابك قبل هرمك، وغناك قبل فقرك](2).

الفائدة الثانية: الإيمان يزيد وينقص.

وهو مأخوذ من قوله تعالى: {وَزِدْنَاهُمْ هُدًى} . وفي القرآن آيات كثيرة نحو ذلك، منها:

1 -

قال تعالى: {وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا} [الأنفال: 2].

2 -

وقال تعالى: {وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى} [مريم: 76].

3 -

وقال تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ} [الفتح: 4].

ومن كنوز السنة الصحيحة في ذلك:

الحديث الأول: أخرج البخاري ومسلم عن أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحبَّ إليه من والده وولده والناس أجمعين](3).

الحديث الثاني: أخرج البخاري عن أنس مرفوعًا: [لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه](4). وفي صحيح مسلم: [لا تؤمنوا حتى تحابوا]. [من حمل علينا السلاح فليس منا].

الحديث الثالث: رورى البخاري عن ابن مسعود قال: (اليقين: الإيمان كله)(5). وعن معاذ كان يقول: (اجلس بنا نؤمن ساعة).

(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (1423) - كتاب الزكاة، وأخرجه مسلم (1031) - كتاب الزكاة.

(2)

حديث صحيح. رواه الحاكم والبيهقي عن ابن عباس، وروَاه أحمد في "الزهد"، وأبو نعيم من حديث عمرو بن ميمون مرسلًا. انظر صحيح الجامع الصغير - حديث رقم - (1088).

(3)

حديث صحيح. أخرجه البخاري (15) - كتاب الإيمان، وانفر مختصر صحيح مسلم (23).

(4)

حديث صحيح. أخرجه البخاري في صحيحه (13) - كتاب الإيمان. وانظر مختصر صحيح البخاري (13)، ومختصر صحيح مسلم (42)(1235) لما بعده.

(5)

حديث صحيح. انظر مختصر صحيح البخاري (ص 6 - 7) - تحقيق الألباني. وكذلك لما بعده.

ص: 562

وقد فصلت ذلك في كتابي: أصل الدين والإيمان، فلله الحمد والمنة.

وقوله: {وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ} . أي: ثبتناها. قال قتادة: (يقول: بالإيمان). أي: ألهمناهم الصبر وشددنا قلوبهم بنور الإيمان حتى عزفت أنفسهم عما كانوا عليه من خفض العيش.

وقوله: {إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا} .

قال ابن جرير: (يقول: حين قاموا بين يدي الجبار دقينوس فقالوا له إذ عاتبهم على تركهم عبادة آلهته: {رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}). قال ابن كثير: ({لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا}. ولن: لنفي التأبيد، أي: لا يقع منا هذا أبدًا، لأنا لو فعلنا ذلك لكان باطلًا، ولهذا قال عنهم: {لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا}، أي: باطلًا وكذبًا وبهتانًا).

وعن قتادة: (قوله: {لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا} يقول: كذبًا). وقال ابن زيد: (قال: لقد قلنا إذن خطأ، قال: الشطط: الخطأ من القول).

وقوله: {هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ} .

هو من قيل الفتية أصحاب الكهف عن قومهم: أنهم اتخذوا آلهة يعبدونها من دون الله، فلولا يأتون على عبادتها بسلطان بين. قال قتادة:(يقول: بعذر بين). وقال ابن جرير: (يقول: هلا يأتون على عبادتهم إياها بحجة بينة).

وقوله: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} .

قال قتادة: (ومن أشد اعتداءً وإشراكًا بالله، ممن اختلق، فتخرّص على الله كذبًا، وأشرك مع الله في سلطانه شريكًا يعبده دونه، ويتخذه إلهًا).

وقوله: {وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ} .

قال ابن كثير: (أي: وإذ فارقتُموهم وخالفتُموهم بأديانكم في عبادتهم غيرَ الله، ففارقُوهم أيضًا بابدانكم، {فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ} أي: يبسط عليكم رحمة يستركم بها من قومكم، {وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ} ، الذي أنتم فيه، {مِرْفَقًا} ، أي: أمرًا تَرتفِقُون به. فعند ذلك خَرَجوا هُرَّابًا إلى الكهف، فأوَوْا إليه، فَفَقدهم قومهم

ص: 563

من بين أظهرهم، وتَطلَّبهم الملك، فيقال: إنه لم يظفر بهم، وعَمَّى الله عليه خبرهم).

قلت: والهروب من الفتن والفرار بالدين إلى حيث الأمن على الإيمان هو عمل منهجي صحيح عند اختلاط الرايات وظهور الدعاة على أبواب جهنم.

ففي التنزيل: {إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا} [الكهف: 20].

وفي صحيح السنة المطهرة في مفهوم ذلك أحاديث:

الحديث الأول: أخرج الإمام البخاري في صحيحه عن أبي سعيد الخدري أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [يوشِكُ أن يكون خَيرَ مالِ المسلمِ غَنَمٌ يَتْبَعُ بها شَعَفَ الجبال، ومواقِعَ القَطْرِ، يَفِرُّ بدينه من الفتن](1).

الحديث الثاني: أخرج الإمام مسلم في صحيحه، والترمذي في جامعه، من حديث حذيفة مرفوعًا:[تكون دعاة على أبواب جهنم، مَنْ أجابهم إليها قذفوه فيها. فقلت: يا رسول الله! صِفْهم لنا، قال: نَعَمْ، هُمْ قومٌ مِنْ جِلْدَتِنا، ويتكلَّمون بألسنتنا. قلت: يا رسول الله! فما ترى إن أدركني ذلك؟ قال: تلزَمُ جماعة المسلمين وإمامهم. فقلت: فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام؟ قال: فاعتزل تِلكَ الفِرَق كُلَّها، ولو أن تَعَضَّ على أصلِ شجرة، حتى يدرككَ الموتُ، وأنت على ذلك](2).

الحديث الثالث: أخرج ابن ماجه بسند صحيح عن عبد الله بن عمرو، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:[كيف بكم وَبِزَمانٍ يوشِكُ أن يأتيَ، يُغَرْبَلُ الناسُ فيه غَرْبَلَةً، وتَبْقَى حُثالةٌ مِنَ الناس، قَدْ مَرِجَتْ عُهودُهُمْ وأماناتُهم، فاختلفوا، وكانوا هكذا؟ (وشبَّك بين أصابعه) قالوا: كيف بنا يا رسول الله! إذا كان ذلك؟ قال: تأخذون بما تَعْرِفون. وتدعون ما تُنكرون. وتقبلون على خاصَّتِكم. وتذرون أمْرَ عَوَامِّكُمْ](3).

(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري في الصحيح - حديث رقم - (19) - كتاب الإيمان، باب: من الدين الفِرار من الفتن. وأخرجه أيضًا برقم (3300)، (3600)، ورواه أبو داود (4237)، والنسائي (8/ 123 - 124)، وأحمد (3/ 43).

(2)

حديث صحيح. أخرجه مسلم في الصحيح - حديث رقم - (1847) - كتاب الإمارة، باب وجوب ملازمة جماعة المسلمين عند ظهور الفتن، وفي كل حال. .، وذلك في أثناء حديث طويل، ورواه الترمذي وغيره من أهل السنن.

(3)

حديث صحيح. أخرجه ابن ماجه في السنن (3957) - كتاب الفتن. باب التثبت في الفتنة. انظر صحيح سنن ابن ماجه - حديث رقم - (3196).

ص: 564

17 -

18. قوله تعالى: {وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا (17) وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا (18)}.

في هذه الآيات: تَقَلُّبُ الشمسِ حول الكهف بأمر الله حفظًا على الفتية المؤمنين، فهم في نوم عميق وكلبهم باسط ذراعيه بالباب فلو أبصرتهم لوليت منهم وكنت من الهاربين.

فعن ابن عباس: ({وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ}. يقول: تميل عن كهفهم يمينًا وشمالًا). وقال: (لو أن الشمس تطلق عليهم لأحرقتهم، ولو أنهم لا يقلبون لأكلتهم الأرض). وقال سعيد بن جبير: ({وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ} تتركهم ذات الشمال).

قال ابن جرير: (وإنما معنى الكلام: وترى الشمس إذا طلعت تعدل عن كهفهم، فتطلع عليه من ذات اليمين، لئلا تصيب الفتية، لأنها لو طلعت عليهم قبالهم لأحرقتهم وثيابهم، أو أشحبتهم. وإذا غربت تتركهم بذات الشمال، فلا تصيبهم).

وهناك قراءتان مشهورتان لقوله: {تَزَاوَرُ} . فهي بالتخفيف {تَزَاور} في قراءة الكوفيين، وهي بالتشديد {تَزَّاور} في قراءة قراء المدينة ومكة والبصرة. وهما متقاربتان في المعنى.

قال ابن عباس: (تزاور: تميل). قال ابن كثير: (هذا فيه دليل على أن باب الكهف كان من نحو الشمال، لأن الله تعالى أخبر أن الشمس إذا دخلته عند طلوعها تَزْوَرّ محنه {ذَاتَ الْيَمِينِ}، أي: يتقلّص الفيءُ يمنة. قال: وذلك أنها كلّما ارتفعت في الأفق تقلَّصَ شعاعُها بارتفاعها حتى لا يبقى منه شيء عند الزوال في مثل ذلك المكان. ولهذا قال: {وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ}، أي: تدخل إلى غارهم من شمال بابه، وهو من ناحية الشرق).

ص: 565

وقوله: {وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ} . قال سعيد بن جبير: (في مكان داخل).

أي: هم في متسع منه داخلًا، بحيث لا يَمسّهم حر الشمس الذي لو أصابهم لأحرق ثيابهم وأجسامهم.

وقوله: {ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ} . قال النسفي: (أي ما صنعه الله بهم من ازورار الشمس وقرضها طالعة وغاربة آية من آيات الله). وقال ابن كثير: ({ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ}، حيث أرشدهم تعالى إلى هذا الغار الذي جعلهم فيه أحياء، والشمس والريح تدخل عليهم فيه لتبقى أبدانُهم).

وقوله: {مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا} .

أي: من يهد الله إلى الحق فيوفقه لسلوك سبيله فهو المهتدي حقًا، شأن هؤلاء الفتية الذين أرشدهم سبحانه إلى طريق الهداية والنجاة من بين قومهم، ومن يضلل الله عن سبيله ممن أهملوا سبيل الحق والتماسه من الله تعالى بالرجاء والدعاء، فلن تجد له ناصرًا ومؤيدًا وهاديًا ومعينًا.

وقوله: {وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ} . قال القاسمي: (خطاب لكل أحد. أي: تظنهم، يا مخاطب، أيقاظًا لانفتاح أعينهم، وهم رقود مستغرقون في النوم، بحيث لا ينبههم الصوت).

وقوله: {وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ} . أي: نقلبهم أثناء نومهم مرة للجنب الأيمن، ومرة للجنب الأيسر. قال سعيد بن جبير، عن ابن عباس:(لو أنهم لا يقلَّبون لأكلتهم الأرض).

وقوله: {وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ} . قال ابن هشام: (الوصيد الباب).

قال القرطبي: (والوصيد أيضًا الفناء). وعن ابن عباس: ({وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ} قال: بالباب، وقالوا بالفناء).

وقوله: {لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا} .

أي: لو نظر إليهم أحد وهم في أثناء رقدتهم لولّى هاربًا من هيبة المنظر، ولاعتراه من الذعر والرعب الكثير، لما ألبسوا من الحال المهيب لئلا يدنو منهم أحد ولا تمسهم يد لامس، حتى يقضي الله بحكمته أجلًا ضربه لذلك.

ص: 566

19 -

20. قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا (19) إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا (20)}.

في هذه الآيات: إيقاظُ الله أهل الكهف ليسأل بعضهم بعضًا عما صُنِع بهم ويستدلوا بذلك على قدرة ربهم عز وجل فيشكروه على ما أنعم عليهم. وإرسالُ الفتية أحدهم ببعض الفضة والدراهم التي كانت معهم إلى مدينتهم التي خرجوا منها ليتخيّر لهم من الطعام الطيب الحلال، مع الوصية له بأخذ الحذر والتلطف عند الدخول والخروج لئلا يفطق الطغاة إلى أمرهم فينالوا منهم.

فقوله: {وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ} . قال النسفي: (أي: وكما أنمناهم تلك النومة كذلك أيقظناهم إظهارًا للقدرة على الإنامة والبعث جميعًا {لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ} ليسأل بعضهم بعضًا ويتعرفوا حالهم وما صنع الله بهم فيعتبروا ويستدلوا على عظم قدرة الله ويزدادوا يقينًا ويشكروا ما أنعم الله به عليهم).

وقوله: {قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ} . أي: كم مدة ما رقدتم، وهذا يدل على عدم استنكارهم لهيئاتهم وأحوالهم وأبشارهم وأشعارهم وصحة أبدانهم.

وقوله: {قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} - إجابة منهم عما هو طبيعي في حياة الناس عند الرقود. قال المهايمي: (فمن نظر إلى أنهم دخلوا غدوة وانتبهوا عشية، ظن أنهم لبثوا يومًا، ومن نظر إلى أنه قد بقيمت من النهار بقية، ظن أنهم لبثوا بعض يوم).

وقوله: {قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ} . قال القاسمي: (إنكار عليهم من بعضهم، وأن الله أعلم بمدة لبثهم. كأن هؤلاء قد علموا بالأدلة، أو بإلهام من الله، أن المدة متطاولة، وأن مقدارها مبهم، فأحالوا تعيينها على ربهم).

وقوله: {فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا

ص: 567

فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ}. أي: فأرسلوا واحدًا منكم ببعض ما استصحبتم من الفضة والدراهم إلى مدينتكم التي خرجتم منها، ليتخيَّر لكم من الطعام الطيب الحلال فيأتيكم به لتطعموه وتسدوا به الجوع بعد النوم.

وقوله: {وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا} .

قال ابن جرير: (يقول: وليترفق في شرائه ما يشتري، وفي طريقه ودخوله المدينة. يقول: ولا يعلمن بكم أحدًا من الناس).

وقوله تعالى: {إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا} . سنة عظيمة بين أهل الحق والباطل، فإن الباطل يتبعه الطغاة والمتكبرون، وهم يرون في أهل الحق والصدق خصومهم، فيهمّون بهم بكل وسيلة ليثنوهم عما هم فيه من التمسك بالحق وتعظيم الله وحده لا شريك له، فإن تابعوهم على مرادهم فلا فلاح لهم في الدنيا والآخرة.

قال ابن جريج: ({إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ} قال: يشتموكم بالقول، يؤذوكم).

وقال الزجاج: ({يَرْجُمُوكُمْ} معناه بالحجارة، وهو أخبث القتل) - وهذا المعنى أقوى وأرجح، لوجود العزم على قتلهم من قبل.

قال القرطبي: (والرجم فيما سلف هي كانت على ما ذكر قبله عقوبة مخالفة دين الناس إذ هي أشفى لجملة أهل ذلك الدِّين من حيث إنهم يشتركون فيها).

قلت: وهذه الآية الكريمة تشكل منهجًا في الحذر والتهيؤ للتصدي لمحاولات أهل الباطل، فإن أهل الحق أهل ذكاء وفطنة، أهل وعي وحنكة، يفهمون الواقع الذي يعيشون فيه، ويدركون طبيعة الأعداء وما يخططون، وليسوا بالسذج ولا البسطاء الذين يسهل الضحك عليهم، أو يكون من السهل خداعهم.

وفي التنزيل: {وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا} . قالى القرطبي: (هذا وصاة بالحذر. . . لئلا ينال العدو أمله ويدرك فرصته).

ومنه قول عمر رضي الله عنه: (لست بالخِبِّ ولا الخِبُّ يخدعني).

فدعا الإسلام العظيم إلى الحذر والدقة ومنع الطيش والغباء، وأخرج رجالًا هم مثال البشرية في الدقة والعلم والإتقان.

ص: 568

أخرج البيهقي بسند حسن عن كليب، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[إن الله يحب من العامل إذا عمل أن يُحْسِن](1).

ورواه من طريق عائشة بلفظ: [إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملًا أن يتقنه].

وله شاهد عن ابن سعد في الطبقات بلفظ: [وإن العبد إذا عمل عملًا أحب الله أن يتقنه].

21 -

24. قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا (21) سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا (22) وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا (24)}.

في هذه الآيات: إخبارُ الله تعالى عن كشفه خبر أهل الكهف ليعلم من كذب بهذا الحديث أنَّ وعد الله حق والساعة آتية لا ريب فيها، وإعلامُه تعالى عن اتخاذ أهل النفوذ عليهم مسجدًا، وتنازع القوم في عددهم دون جدوى. وتنبيه الله العباد إلى ذكره وربط الأمور بمشيئته تعالى، فإنه لا يكون أمر إلا بإرادته وقضائه عز وجل.

فعن قتادة: ({وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ} يقول: أطلعنا عليهم ليعلم من كذب بهذا الحديث، أن وعد الله حق، وأن الساعة لا ريب فيها).

وقوله: {لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا} - ردٌّ على من أنكر البعث

(1) حديث حسن. أخرجه البيهقي في "الشعب"، ورواه الطبراني في الكبير كما في المجمع (4/ 98)، وله شاهد عند ابن سعد في "الطبقات"(8/ 155)، وانظر سلسلة الأحاديث الصحيحة - حديث رقم - (1113)، وصحيح الجامع الصغير - حديث رقم - (1876).

ص: 569

وأمر القيامة من أهل ذلك الزمان. قال عكرمة: (كان منهم طائفة قد قالوا: تُبْعَثُ الأرواح ولا تُبْعث الأجساد).

وقوله: {إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ} - يعني: الذين أعثروا على الفتية في تنازعهم في أمر القيامة. قال ابن كثير: (فمن مُثْبت لها ومِنْ مُنْكر، فجعل الله ظهورَهم على أصحاب الكهف حُجَّة لهم وعليهم).

وقوله: {فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ} . أي: سُدّوا عليهم باب كهفهم الذي هم فيه، وذروهم على حالهم.

قيل: لما استغرب الرجل الذي أرسلوه ليشتري لهم طعامًا تغير الأحوال، عمد إلى رجلٍ ممن يبيع الطعام فأنكر ضرْب تلك النقود، فدفعها إلى جاره، وجعلوا يتداولونها، حتى حملوه إلى ولي الأمر، فلما أرشدهم إلى الكهف دخل وأخفى الله أمرهم، وقيل بل سلّم عليهم الملك وفطن أمرهم وكان مسلمًا، ثم ودَّعوه وسلموا عليه وعادوا إلى مضاجعهم وتوفاهم الله عز وجل، والله أعلم بحقيقة ذلك. فهنالك قال أصحاب الكلمة والنفوذ فيهم كما حكى الله تعالى:{قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا} . قال النسفي: (يصلي فيه المسلمون، ويتبركون بمكانهم).

قلت: وليس في الذي صنعوه حجة على دفن الصالحين في المساجد أو اتخاذ القبور فيها أو بناء المساجد عليها. فإن ذلك لم يكن تصرف أهل العلم في ذلك الزمان بل أهل النفوذ، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن شريعتنا ناسخة لما قبلها. وقد جاءت رسالة النبي صلى الله عليه وسلم بالوعيد الشديد على من فعل ذلك.

ففي التنزيل: قال تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} [الجن: 18].

وفي صحيح السنة المطهرة في الترهيب من ذلك أحاديث:

الحديث الأول: أخرج البخاري ومسلم عن عائشة قالت: [لما نُزِلَ برسول الله صلى الله عليه وسلم طفِقَ يطرح خميصة له على وجهه، فإذا اغتمَّ بها كشفها فقال: - وهو كذلك - لعنة الله على اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، يحذِّر ما صنعوا، ولولا ذلك أُبرِزَ قبره، غير أنه خَشِيَ أن يُتَّخَذَ مسجدًا](1).

(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري في صحيحه (1/ 444) في الصلاة، ومسلم (531) في المساجد ومواضع الصلاة، من حديث عائشة رضي الله عنها.

ص: 570

الحديث الثاني: أخرج الإمام أحمد في المسند، بسند صحيح، عن أبي عبيدة قال:[كانَ آخِرُ ما تكلمَ به أن قال: قاتل الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجدَ، لا يبقَيَنَّ دينان بأرض العرب](1).

الحديث الثالث: أخرج الإمام مالك في الموطأ، والإمام أحمد في المسند، عن أبي هريرة مرفوعًا:[اللهم لا تجعل قبري وثنًا، لعن الله قومًا اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد](2). هذا لفظ أحمد. ولفظ مالك: [اللهم لا تجعل قبري وثنًا يعبد، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد].

وقوله: {سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ} .

إخبار من الله تعالى عن اختلاف الناس في عِدّة أهل الكهف على ثلاثة أقوال. ويبدو من إشارة الآية ضعف القولين الأولين. قال قتادة: ({رَجْمًا بِالْغَيْبِ}: أي قذفًا بالغيب). أو قال: (قذفًا بالظن). والمراد محاولة للقول بلا علم قد يصيب وقد يخطئ.

وأما القول الثالث: {سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ} فقد جاء الأثر عن ابن عباس في قوله: {قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ} قال: (أنا من القليل الذي استثنى الله عز وجل، كانوا سبعة) - وفي روايات ذلك أسانيد صحيحة إلى ابن عباس. وإنما الأحسن من كل هذا ما أرشد الله تعالى إليه بقوله: {فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا} إذ العبرة بمعاني القصة ومنهاجها لا بِعدّة أصحابها وأسمائهم وصفاتهم.

وعن ابن زيد: ({فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ} قال: لا تمار في عدتهم). وعن مجاهد: ({إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا}: أي حسبك ما قصصنا عليك من شأنهم، {وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا} من يهود، قال: ولا تسأل يهود عن أمر أصحاب الكهف، إلا ما قد أخبرتك من أمرهم). وعن ابن عباس: ({وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا} قال: هم أهل الكتاب).

وقوله تعالى: {وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} .

(1) إسناده صحيح. أخرجه أحمد في المسند (1/ 195)، وانظر كتابي: السيرة النبوية على منهج الوحيين: القرآن والسنة الصحيحة (3/ 1771) لتفصيل البحث.

(2)

حديث صحيح. أخرجه أحمد في المسند (2/ 246) من حديث أبي هريرة، ومالك (85) في الصلاة، وانظر المرجع السابق (3/ 1771).

ص: 571

إرشادٌ من الله سبحانه لرسوله صلى الله عليه وسلم وأمته من باب الأولى - الأدب فيما يُعزم عليه من الفعل في المستقبل، وذلك برد المشيئة دومًا إلى علام الغيوب تبارك وتعالى. قال القرطبي:(فإنه إذا قال: لأفعلن ذلك ولم يفعل كان كاذبًا، وإذا قال: لأفعلن ذلك إن شاء الله خرج عن أن يكون محقّقًا للمخبر عنه).

وفي الصحيحين عن أبي هريرة مرفوعًا: [قال سليمانُ بن داودَ عليهما السلام: لأطوفَنَّ الليلة بمئة امرأة، تَلِدُ كُلُّ امرأة غلامًا يقاتل في سبيل الله. فقال له المَلَكُ: قُلْ: إنْ شاءَ الله، فلم يقل ونسِيَ، فأطافَ بِهنَّ، ولم تَلِدْ مِنْهُنَّ إلا امرأةٌ نِصْفَ إنسان. قال النبي صلى الله عليه وسلم: لو قال إنْ شاءَ الله، لمْ يحنَثْ، وكانَ أرْجَى لحاجته](1).

وفي لفظ مسلم: [فلم تحمِلْ منهن إلا امرأة واحدة، فجاءت بشق رجل، وَايْمُ الذي نفس محمد بيده! لو قال: إن شاء الله، لجاهدوا في سبيل الله فُرْسَانًا أجمعون].

وفي لفظ آخر: [فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لو كان استثنى، لولدت كُلُّ واحدةٍ منهن غلامًا فارسًا، يُقاتِل في سبيل الله].

وفي سنن أبي داود بإسناد صحيح عن ابن عمر، يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم، قال:[مَنْ حَلَفَ على يمينٍ، فقال: إن شاء الله فقد استثنى](2).

وله شاهد عنده عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [مَنْ حَلَفَ فاستثنى، فإن شاء رَجَعَ، وإن شاء ترك غيرَ حِنْثٍ].

وقوله: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} - أمر بالذكر بعد النسيان.

قال الحسن: (إذا ذكر أنه لم يقل: إن شاء الله، فليقل: إن شاء الله).

وقال عكرمة: (اذكر ربك إذا عصيت).

قلت: فإن صح تفسير الحسن فهو خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم، وإلا فالاستثناء المفيد لا يصح إلا متصلًا في مجلس الذكر. والأولى حمل الآية على ذكر الله تعالى الذي يطرد الشيطان، وذلك أن منشأ النسيان من الشيطان، كما في التنزيل: {وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا

(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (5242) - واللفظ له - كتاب النكاح. ورواه مسلم (1654) بروايات كثيرة، ورواه النسائي (7/ 31)، وأحمد (2/ 275)، وأبو يعلى (6244).

(2)

حديث صحيح. أخرجه أبو داود (3261) - (3262) - كتاب الأيمان والنذور، باب الاستثناء في اليمين. ورواه ابن ماجه (2105)، وانظر صحيح سنن أبي داود (2794) - (2795).

ص: 572

الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ}. ومن ثم فالخطاب يعمّ جميع الأمة.

وفي الحديث: [إذا نسيَ أحدُكم اسمَ الله على طعامه فليقل إذا ذكر: باسم الله أولَه وآخره](1).

وقوله: {وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا} .

قال ابن كثير: (أي: إذا سُئلت عن شيء لا تعلمه، فاسأل الله تعالى فيه، وتوجَّه إليه في أن يوفقك للصواب والرشد في ذلك. وقيل غير ذلك في تفسيره، والله أعلم).

25 -

26. قوله تعالى: {وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا (25) قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا (26)}.

في هذه الآيات: إخبارُ الله تعالى عن لبث أهل الكهف في كهفهم ثلاث مئة وتسع سنين، وأنه تعالى الأعلم بذلك والأبصر بكل موجود والأسمع لكل مسموع، ولا يخفى عليه شيء، وأنّه الحكم لا يشاركه أحد في قضائه وحكمه عز وجل.

فقوله تعالى: {وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا} .

قال النسفي: (الجمهور على أن هذا إخبار من الله سبحانه وتعالى أنهم لبثوا في كهفهم كذا مدة). وفي الآية إشارة إلى تفاوت ما بين السنين الشمسية والسنين الهلالية، فإن الفرق بين كل مئة سنة بالقمرية إلى الشمسية هو ثلاث سنين. ومن ثمّ فقوله:{وَازْدَادُوا تِسْعًا} تفصيل ثلاث مئة سنة بالشمسية أنها ثلاث مئة سنة وتسع سنين بالهلالية، والله تعالى أعلم.

وقوله: {قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} .

أي: لا يعلم مدة لبث أصحاب الكهف في كهفهم إلا الله علام الغيوب، فسلموا له علم ما غاب عنكم ولا تخوضوا به دون علم، ولا تتكلفوا علم ما لا يفيدكم.

وقوله: {أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ} - مبالغة في المدح.

قال قتادة: ({أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ} فلا أحد أبصر من الله ولا أسمع، تبارك

(1) حديث صحيح. أخرجه أبو يعلى في مسنده. انظر الإرواء (1965)، وصحيح الجامع (818).

ص: 573

وتعالى). وقال ابن زيدة (يرى أعمالهم، ويسمع ذلك منهم سميعًا بصيرًا). قال القاسمي: (أي ما أبصره لكل موجود! وأسمعه لكل مسموع، لا يخفى عليه شيء ولا يحجب بصره وسمعه شيء).

وقوله: {مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا} .

قال ابن جرير: (يقول جلّ ثناؤه: مَا لِخَلْقِهِ دون ربهم الذي خلقهم ولي، يلي أمرهم وتدبيرهم، وصرفهم فيما هم فيه مُصَرَّفون، {وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا} يقول: ولا يجعل الله في قضائه، وحكمه في خلقه أحدًا سواه شريكًا، بل هو المنفرد بالحكم والقضاء فيهم، وتدبيرهم وتصريفهم فيما شاء وأحبّ).

27 -

28. قوله تعالى: {وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا (27) وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا (28)}.

في هذه الآيات: أمْرُ الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم بتلاوة كتابه وإحكام الصلة به، فإنه لا مُغَيِّر لما أوعد بكلماته، ولا ملجأ منه إلا إليه. وكذلك أَمْرُه بالصبر في الحياة مع المؤمنين المستضعفين الذين يرجون رحمته تعالى ويخشون عذابه، وعدم الافتتان بأهل الزينة والمتاع ممن اتبع هواه وكان أمره باطلًا.

فقوله: {وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ} - أَمْرٌ من الله تعالى رسولَه صلى الله عليه وسلم بتلاوة كتابه الكريم وزيادة الصلة به لإبلاغه إلى الناس.

وقوله: {لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ} - قال ابن جرير: (يقول: لا مغير لما أوعد بكلماته التي أنزلها عليك أهل معاصيه، والعاملين بخلاف هذا الكتاب الذي أوحيناه إليك).

وقال ابن كثير: ({لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ}، أي: غير مُغَيِّر لها ولا محرف ولا مؤوّل).

وقوله: {وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا} . قال مجاهد: (ملجأ). وقال قتادة: (موئلًا). وقال ابن زيد: (لا يجدون ملتحدًا يلتحدونه، ولا يجدون من دونه ملجأ ولا أحدًا يمنعهم). وأصل الملتحد من اللحد، يقال: لحدت إلى كذا، إذا ملت إليه. ومنه اللحد يكون في القبر.

ص: 574

وقوله: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ}

أي: اصبر نفسك يا محمد على مجالسة أصحابك الذين يتضرعون إلى الله تعالى بالتهليل والتحميد والتسبيح والتكبير صباح مساء يبتغون نصره ورضاه، سواء كانوا فقراء أو أغنياء أو أقوياء أوضعفاء.

وقد كان بعض أشراف قريش يتكبرون عن مجالسة النبي صلى الله عليه وسلم والسماع منه طالما جلس معه ضعفاء المؤمنين كبلال وعمار وصهيب وخباب وابن مسعود، فحدّث نفسه بشيء من ذلك، فأنزل الله تعالى:{وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} [الأنعام: 52].

ففي صحيح مسلم عن سعد رضي الله عنه قال: [فيَّ نزلت: {وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ}، قال: نزلت في ستة: أنا وابن مسعود منهم، وكان المشركون قالوا: تدْني هؤلاء](1).

وفي سنن ابن ماجه بسند صحيح عن أبي الكَنود، عن خباب. في قوله تعالى:{وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ} . . إلى قوله: {فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنعام: 52]. قال: [جاء الأقرع بن حابس التميمي، وعيينة بن حِصْنٍ الفزاري، فوجدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم مع صُهيب وبلال وعمار وخباب، قاعدًا في ناس من الضعفاء من المؤمنين. فلما رأوهم حول النبي صلى الله عليه وسلم حقروهم. فأتوه فَخَلوا به وقالوا: إنا نريد أن تجعلَ لنا منك مجلسًا، تَعْرِفُ لنا به العرب فضلنا. فإن وفود العرب تأتيك فنسْتحي أن ترانا العرب مع هذه الأعبد. فإذا نحن جئناك فأقمهم عنك. فإذا نحن فرغنا، فاقعد معهم إن شئت. قال: "نعم"، قالوا: فاكتب لنا عليك كتابًا. قال: فدعا بصحيفة، ودعا عليًا ليكتب، ونحن قعود في ناحية، فنزل جبرائيل عليه السلام فقال: {وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنعام: 52]. ثم ذكر الأقرع بن حابس وعيينة بن حصن فقال: {وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ} [الأنعام: 53]. ثم قال: {وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} [الأنعام: 54].

(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم في صحيحه (4/ 1878) - حديث رقم - (2413).

ص: 575

قال: فدنونا منه حتى وضعنا رُكَبَنا على ركبته. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجلس معنا. فإذا أراد أن يقوم قام وتركنا. فأنزل الله: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ} (ولا تجالس الأشراف){تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا} (يعني عيينة والأقرع){وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} . (قال: هلاكًا)، قال: أمْرُ عيينة والأقرع. ثم ضرَب لهم مثلَ الرجلين ومثلَ الحياة الدنيا.

قال خباب: فكنا نقعد مع النبي صلى الله عليه وسلم. فإذا بلغنا الساعة التي يقوم فيها، قمنا وتركناه حتى يقوم] (1).

وفي سنن ابن ماجه أيضًا بإسناد صحيح عن سعد قال: [كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ستة نفر، فقال المشركون للنبي صلى الله عليه وسلم: اطرد هؤلاء لا يجترئون علينا. قال: وكنت أنا وابن مسعود ورجل من هذيل وبلال ورجلان لست أسميهما، فوقع في نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم ما شاء الله أن يقع فحدّث نفسه، فأنزل الله عز وجل: {وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ}](2).

وقوله: {وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} . قال ابن عباس: (لا تجاوزهم إلى غيرهم). أي: لا تتعدهم إلى غيرهم تبغي بمجالستهم الشرف والفخر. وعَن ابن زيد: ({تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} قال: تريد أشراف الدنيا).

وقوله: {وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ} .

أي: ولا تطع يا محمد من غلب الشقاء على قلبه ممن يسألونك طرد المؤمنين ليقبلوا مجالستك، وممن يؤثرون اتباع هوى نفوسهم على طاعة ربهم وعبادته.

وقوله: {وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} .

قال مجاهد: (ضياعًا). وقال عباد بن راشد عن داود: (ندامة). وقال أبو الكنود، عن خباب:({وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا}: هلاكًا). وقال ابن زيد: (مخالفًا للحق، ذلك الفُرُط). واختار ابن جرير أن يكون المعنى: (ضياعًا وهلاكًا). وقال ابن كثير: ({وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} أي: أعماله وأفعاله سفَهٌ وتفريطٌ وضياع، ولا تكن مطيعًا له ولا مُحِبًّا لطريقته، ولا تَغْبطه بما هو فيه، كما قال تعالى: {وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا

(1) حديث صحيح. انظر صحيح سنن ابن ماجه (3329) - كتاب الزهد - باب مجالسة الفقراء.

(2)

حديث صحيح. انظر سنن ابن ماجه (2/ 1383)، ورواه أحمد والحاكم من حديث سعد رضي الله عنه. انظر كتابي: السيرة النبوية (1/ 243) لتفصيل البحث والروايات.

ص: 576

بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [طه: 131]).

29 -

31. قوله تعالى: {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا (29) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا (30) أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا (31)}.

في هذه الآيات: توجيهُ الله تعالى نبيّه صلى الله عليه وسلم إلى الأسلوب الأمثل في مواجهة قومه بوضعهم أمام اختيار أحد السبيلين: سبيل الهدى والإيمان، وسبيل الكفر والطغيان. فالسبيل الأول مآل أهله إلى الجنان، حيث الأنهار وأساور الذهب وأنعم الثياب وأسعد الأيام. والسبيل الثاني مآل أهله إلى صلي النيران، حيث الأغلال والحريق وماء المهل وأتعس الأزمان.

فقوله: {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ} - إرشادٌ من الله تعالى لنبيّه كيف يواجه هؤلاء المتكبرين من قومه. قال ابن جرير: (- يقول -: الحق أيها الناس من عند ربكم، وإليه التوفيق والخذلان، وبيده الهدى والضلال يهدي من يشاء منكم للرشاد، فيؤمن، ويضل من يشاء عن الهدى فيكفر، ليس إليّ من ذلك شيء، ولست بطارد لهواكم من كان للحق متبعًا).

وقوله: {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} . أي: فإن شئتم فاختاروا الإيمان وطريق الجنان، وإن أبيتهم إلا الكفر فقد اخترتم طريق الهلاك والخسران. ولا شك أن مشيئتكم مقهورة بمشيئة الله العزيز الحكيم.

قال ابن عباس: (من شاء الله له الإيمان آمن، ومن شاء الله له الكفر كفر. قال: وإنما هو تهديد ووعيد).

وقوله: {إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا} . أي: سورها وجدارها.

قال ابن عباس: (هي حائط من نار). وقال ابن زيد: (يقول: أحاط سرادق النار

ص: 577

التي أعدّها الله للكافرين بربهم، وذلك فيما قيل: حائط من نار يطيف بهم كسرادق الفسطاط).

وقوله: {وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ} .

المهل: سائل أسود مُنْتِنٌ غليظٌ حارٌّ، يشوي وجه الكافر إذا قرّبه من وجهه ليشرب منه. قال ابن عباس:(المهل: ماء غليظ مثل دُرْدِيِّ الزيت). وقال مجاهد: (هو كالدم والقيح). وقال عكرمة: (هو الشيء الذي انتهى حَرُّه). وقال الضحاك: (ماء جهنم أسود، وهي سوداء، وشجرها أسود، وأهلها سود). وكلها أقوال متكاملة.

والمعنى: هذا غياث الظالمين في نار جهنم من شدة العطش، فإنه إذا طلبوا الماء يغاثون بماء المُهْل الذي يشوي الوجوه ويسقط ما عليها من لحم وجلد من شدة حرّه.

وقوله: {بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا} .

أي: بئس الشراب هذا الماء الملتهب الذي يغاث به أهل جهنم، وساءت النار لهم متكأ ومنزلًا ومقيلًا. قال مجاهد:({مُرْتَفَقًا}: أي مجتمعًا). والارتفاق لغة من المرفق أو الرفق. قال الرازي: (مُرتَفِقًا: أي مُتَّكِئًا على مِرْفق يده). والعرب تقول: ارتفق فلان أىِ: اتكأ. أو بات على مرفقه لا يأتيه نوم.

وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا} .

بيان لحال السعداء بعد ذكر حال الأشقياء، فالمؤمنون الذين آمنوا بالله وصدقوا المرسلين وعملوا على منهاج النبوة أولئك يحفظ الله لهم أجور أعمالهم ليوافيهم بها.

وقوله: {أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ} . أي: جنات إقامة. {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ} . أي: من تحت غرفهم ومنازلهم في صور بديعة وسعادة كبيرة.

وقوله: {يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ} .

أي: يلبسون فيها من الحلي أساور من ذهب، ومن الثياب الديباج والحرير الأخضر اللون.

قال ابن كثير: (فالسندس: ثياب رِفاعٌ رِقاقٌ كالقمصان وما جَرَى مجراها، وأما الإستبرق فغليظ الديباج وفيه بريق).

وقوله: {مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا} .

قال قتادة: ({عَلَى الْأَرَائِكِ} : هي الحجال. قال معمر، وقال غيره: السُّرُرُ في

ص: 578

الحجال). قال النسفي: (خَصَّ الاتكاء لأنه هيئة المتنعمين والملوك على أسرتهم). وقال القاسمي: ({نِعْمَ الثَّوَابُ} أي: الجنات المذكورة {وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا} أي متكأً. وقيل المرتفق المنزل والمستقر، لآية: {إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا} [الفرقان: 66]، وآية: {حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا} [الفرقان: 76]).

32 -

36. قوله تعالى: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا (32) كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا (33) وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا (34) وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا (35) وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا (36)}.

في هذه الآيات: خطاب الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: واضرب - يا محمد - لهؤلاء المشركين المستكبرين من قومك، الذي يترفعون عن مجالسة ضعفاء المسلمين ومساكينهم ويفتخرون عليهم بالأموال والأحساب، مثلًا رجلين جعلنا لأحدهما جنتين محفوفتين بالنخل، ممتلئتين بالزرع، تجري خلالهما الأنهار، فافتخر صاحبهما على صاحبه بالمال والثمر والنفر، ودخل جنته في هيئة الكبر، مستبعدًا هلاك الأرض وقيام الساعة، ظانًا - إن حصلت القيامة - حسن المنقلب، وأسعد المستقر.

فقولُه تعالى: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا} .

قال القرطبي: (قوله تعالى: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ} هذا مثل لمن يتعزز بالدنيا ويستنكف عن مجالسة المؤمنين، وهو متصل بقوله: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ}). قال ابن كثير: (فضرب لهم مثلًا برجلين، جعل الله {لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ}، أي: بستانين من أعناب، محفوفَتين بالنخل المحدقة في جنباتهما، وفي خلالهما الزُروع، وكُلٌّ من الأشجار والزروع مثمر مُقبِلٌ في غاية الجودة).

وقوله تعالى: {كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا} .

أي: كلتا الجنتين أخرجت ثمارها بوفاء دون نقصان، والأنهار تتخَرَّق في

ص: 579

أرجائهما. قال قتادة: ({وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا}: أي لم تنقص منه شيئًا).

وقوله تعالى: {وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا} .

قرأ أهل الحجاز والعراق: {ثُمُرٌ} . وقرأها غيرهم: {ثُمْرٌ} ، وقرأها آخرون:{ثَمَرٌ} . فعلى القراءة الأولى قيل المراد المال. قال مجاهد: ({وكان له ثُمُرٌ} قال: ذهب وفضة). وقال ابن عباس: (يعني أنواع المال). وقيل بل يدخل في المراد الثمار. قال قتادة: (الثمر من المال كله يعني الثمر، وغيره من المال كله).

وعلى القراءة الثانية: {ثُمْرٌ} جمع ثَمرَة. والمقصود الثمار.

والقراءة الثالثة: {ثَمَرٌ} بفتح الثاء والميم. وهي قراءة مشهورة. قرأها عاصم وشيبة ويعقوب وأبو جعفر وابن أبي إسحاق. والمقصود بالثمر جمع ثمرة.

قلت: والقراءة الثالثة: {ثَمَرٌ} أحبُّ إلي، وينصرف المعنى إلى الثمار وهو أنسب للسياق، لقوله تعالى بعدها:{وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ} .

وعن قتادة: ({فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا}: وتلك والله أمنية الفاجر: كثرة المال، وعزّة النفر).

وقوله تعالى: {وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا} .

قال النسفي: ({وَدَخَلَ جَنَّتَهُ} وإحدى جنتيه، أو سماها جنة لاتحاد الحائط، وجنتين للنهر الجاري بينهما {وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ} ضار لها بالكفر {قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا} أي أن تهلك هذه الجنة، شك في بيدودة جنته لطول أمله وتمادي غفلته واغتراره بالمهلة، وترى أكثر الأغنياء من المسلمين تنطق ألسنة أحوالهم بذلك).

والخلاصة: هذه صورة غفلة المتكبر المتجبر إذا رأى المال والزروع والثمار والأنهار يتملك منها، فيحمله اغتراره على المبالغة في الكبر والعجب والكفر بالله ونعمه.

وقوله تعالى: {وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا} .

هو تتمة طغيان المتكبر الغافل، يحمله غرروه وما هو عليه من العجب على الكفر بالمعاد والحساب، وإن آمن به على سبيل الشك فيفترض لنفسه خير المنقلب عند ربه، قياسًا على ما هو فيه من الفتنة في الدنيا.

قال قتادة: ({وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً} كفور لنعم ربه، مكذّب بلقائه، متمنّ على

ص: 580

الله). وقال ابن زيد: ({وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً} شكّ، ثم قال: {وَلَئِنْ} كان ذلك ثم {رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا} ما أعطاني هذه إلا ولي عنده خير من ذلك).

وفي التنزيل نحو ذلك:

1 -

قال تعالى: {وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى} [فصلت: 50].

2 -

وقال تعالى: {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا} [مريم: 77].

أي: في الدار الآخرة، فهو يتألى على ربه عز وجل.

وفي المسند بإسناد صحيح عن عقبة بن عامر رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[إذا رأيت الله تعالى يُعطي العبد من الدنيا ما يحب، وهو مقيم على معاصيه، فإنما ذلك منه استدراج](1).

37 -

41. قوله تعالى. {قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا (37) لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا (38) وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا (39) فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا (40) أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا (41)} .

في هذه الآيات: تحذيرُ الصاحب المؤمن صاحبه المستكبر من مغبة الجحود والكفر، مذكرًا له مراحل خلقه حتى صار رجلًا يتكلم بالقوة والكبر، ناصحًا له التواضع لله ونسب القوة له تعالى والقهر، فلربما انتقم الجبار وأحال الجنة إلى أرض قفر، وأغار الماء في الأرض فلا سبيل لبلوغه ولا حيلة في ذلك ولا أمر.

فقوله تعالى: {قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا} - هو قول صاحب ذلك الرجل صاحب الجنتين، الأقل منه مالًا وولدًا، يخاطبه ويكلمه كيف تكفر بالله خالق أبيك آدم من تراب، ثم أنشأك من نطفة أبيك في رحم

(1) أخرجه أحمد في المسند (4/ 145)، وابن جرير في "التفسير"(7/ 115)، وسنده قوي. وانظر سلسلة الأحاديث الصحيحة - حديث رقم - (414).

ص: 581

أمك، ثم عدّلك بشرًا سويًا، رجلًا قويًا. قال ابن جرير:(يقول: أكفرت بمن فعل بك هذا أن يعيدك خلقًا جديدًا بعد ما تصير رفاتًا).

وقوله تعالى: {لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا} .

هو قول ذلك الصاحب المؤمن يعترف لربه تعالى بالربوبية ولا يشرك به في الألوهية، بل يعبده وحده لا شريك له. قال ابن كثير:(أي: أنا لا أقول بمقالتك، بل أعترف لله بالربوبية والوحدانية، {وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا}، أي: بل هو الله المعبود وحده لا شريك له).

وقوله: {وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ} .

ردٌّ من المؤمن على الكافر وتوبيخ ووصية له، ويُحْمَلُ المعنى في قوله:{مَا شَاءَ اللَّهُ} على تأويلين:

التأويل الأول: {مَا} في موضع رفع، والتقدير: هذه الجنة هي ما شاء الله. قال الزجاج والفراء: (الأمر ما شاء الله، أو هو ما شاء الله، أي الأمر مشيئة الله تعالى). وقال النسفي: (ما موصولة مرفوعة المحل على أنها خبر مبتدأ محذوف تقديره: الأمر ما شاء الله. . .).

التأويل الثاني: قيل بل الجواب محذوف، والتقدير: ما شاء الله كان، وما لا يشاء لا يكون.

قال ابن جرير: (يقول عز ذكره: وهلا إذ دخلت بستانك، فأعجبك ما رأيت منه، قلت ما شاء الله كان). وذكر النسفي أيضًا هذا التأويل فقال عن {مَا} في قوله تعالى {مَا شَاءَ اللَّهُ} : (أو شرطية منصوبة الموضع والجزاء محذوف، يعني: أي شيء شاء الله كان. والمعنى: هلا قلت عند دخولها والنظر إلى ما رزقك الله منها، الأمر ما شاء الله اعترافًا بأنها وكل ما فيها إنما حصل بمشيئة الله، وأن أمرها بيده، إن شاء تركها عامرة وإن شاء خربها).

وتأول الحافظ ابن كثير المعنى أنه حَضٌّ على هذا النوع من الذكر عند رؤية النعم من المال والولد فقال: (هذا تحضيض وحثٌّ على ذلك، أي: هلا إذ أعجبتك جَنّتُك حين دَخَلْتَها وَنَظرْتَ إليها حَمدْت الله على ما أنعم به عليك، وأعطاك من المال والولد ما لم يُعْطِ غيرك، وقلت:{مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ} ، ولهذا قال بعض السلف: من أعجبه

ص: 582

شيء من حاله أو ولده أو ماله، فليقل:{مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ} . وهذا مأخوذٌ من هذه الآية الكريمة).

قلت: والسياق في الآيات لا يدل على هذا التأويل، فإن الآية في موضع الردّ من المؤمن على تنطع الكافر وغروره وعجبه، حيث دخل جنته وهو ظالم لنفسه بكبره وكفره وقوله ما أظن أن تبيد هذه أبدًا وما أظن الساعة قائمة، فأجابه المؤمن بأن الأصل في ذلك الإخبات لله الخالق الأحد الصمد، ونَسْبُ كل وجود إلى مشيئته وإرادته سبحانه، فكان الأَوْلى إذ دخلت جنتك أقررت بأن وجودها وبقاءها ما كان إلا بمشيئة الله، وأن ما اجتمع لك من المال والثمر والبناء والإعمار فهو بتوفيق الله وقوته وتأييده. وأما خشية العين عند النظر إلى بديع المال والجمال فقد أرشدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى التبريك، وهو الدعاء بالبركة. وبذلك جاءت الأحاديث الصحيحة:

الحديث الأول: أخرج الإمام أحمد بسند صحيح من حديث أبي أمامة بن سهل بن حنيف أن أباه حدثه: [أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج وساروا معه نحو مكة، حتى إذا كانوا بشعب الخرّار من الجحفة اغتسل سهل بن حنيف، وكان رجلًا أبيض حسن الجسم والجلد، فنظر إليه عامر بن ربيعة أخو بني عدي بن كعب وهو يغتسل فقال: ما رأيت كاليوم ولا جلد مخبأة (1)، فلبط سهل، فَأُتيَ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقيل له: يا رسول الله هل لك في سهل! والله ما يرفع رأسه ولا يفيق، قال: هل تتهمون فيه من أحد؟ قالوا: نظر إليه عامر بن ربيعة، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عامرًا فتغيظ عليه وقال: علام يقتل أحدكم أخاه، هلا إذا رأيت ما يعجبك بركت؟ - ثم قال - اغتسل له. فغَسَل وجهه ويديه ومرفقيه وركبتيه وأطراف رجليه وداخلة إزاره في قدح، ثم صب ذلك الماء عليه فصبّه رجل على رأسه وظهره من خلفه، ثم يكفأ القدح وراءه، ففعل ذلك فراح سهل مع الناس ليس به بأس](2).

وفي لفظ في الموطأ: [علامَ يقتل أحدكم أخاه؟ ألا برّكت إن العين حق. توضأ له، فتوضأ عامر، فراح سهل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس به بأس].

(1) المخبأة: العروس العذراء التي لا تظهر على الناس، وفي لفظ عند مالك في الموطأ:"ما رأيت كاليوم ولا جلد عذراء".

(2)

حديث صحيح. أخرجه أحمد في المسند، ومالك في الموطأ، انظر تخريج المشكاة (4562)، وصحيح الجامع الصغير - حديث رقم - (3908)، وتفصيل هذا البحث في كتابي: منهج الوحيين في معالجة زلل النفس وتسلط الجن (335).

ص: 583

الحديث الثاني: أخرج الطبراني والحاكم بسند صحيح عن عامر بن ربيعة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[إذا رأى أحدكم من نفسه أو ماله أو من أخيه ما يعجبه فليدع له بالبركة، فإن العين حق](1). وفي رواية أنه قال لعامر بن ربيعة: [ألا برّكتَ؟ ].

وفي لفظ لأحمد: [إذا رأى أحدكم ما يعجبه في نفسه أو ماله فليُبَرِّك عليه، فإن العين حق]. وفي لفظ آخر: [إذا رأى أحدكم من أخيه أو من نفسه أو من ماله ما يعجبه فليبرك فإن العين حق].

وأما قوله: {لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ} . أي: ما اجتمع هذا المال والخير إلا بقوة الله وقدرته.

قال القرطبي: (أي ما اجتمع لك من المال فهو بقدرة الله تعالى وقوته لا بقدرتك وقوتك، ولو شاء لنزع البركة منه فلم يجتمع). وقال النسفي: ({لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ} إقرارًا بأن ما قويت به على عمارتها وتدبير أمرها هو بمعونته وتأييده).

وفي كنوز السنة الصحيحة من آفاق هذا المعنى أحاديث:

الحديث الأول: أخرج البخاري ومسلم عن أبي موسى رضي الله عنه: [قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا عبد الله بن قيس، ألا أعَلِّمُكَ كلِمةً هي من كنوز الجنة؟ لا حول ولا قوة إلا بالله](2).

الحديث الثاني: أخرج أحمد والحاكم بسند حسن عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: [ألا أدلك على كلمة من تحت العرش من كنز الجنة؟ تقول: لا حول ولا قوة إلا بالله، فيقول الله: أسلم عبدي واستسلم](3).

الحديث الثالث: أخرج أحمد والترمذي بسند صحيح عن قيس بن عبادة: [أن أباه دفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم يخدمه، قال: فمرّ بي النبي صلى الله عليه وسلم وقد صليت، فضربني برجله وقال:

(1) حديث صحيح. أخرجه الطبراني والحاكم بإسناد صحيح. انظر صحيح الجامع الصغير (570)، وتخريج الكلم الطيب (243)، والمرجع السابق.

(2)

حديث صحيح. أخرجه البخاري (6610)، ومسلم (2704)، وأبو داود (1526)، والترمذي (3461)، وابن ماجه (3824)، وأحمد (4/ 418)، وابن حبان (804).

(3)

حديث حسن. أخرجه أحمد في المسند (2/ 469)(2/ 535) من حديث أبي هريرة، ورواه الحاكم، وذكره الهيثمي في المجمع (10/ 99).

ص: 584

ألا أدلك على باب من أبواب الجنة؟ لا حول ولا قوة إلا بالله] (1).

الحديث الرابع: أخرج أبو داود والترمذي بسند حسن عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [من قال - يعني إذا خرج من بيته - باسم الله توكلت على الله لا حول ولا قوة إلا بالله، يُقال: كُفيت وَوُقِيتَ وتنحى عنه الشيطان](2).

وقوله: {إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا (39) فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ} .

هو قول المؤمن للكافر: إن ترن أيها الرجل أقل منك مالًا وولدًا. فعسى ربي أن يرزقني خيرًا من بستانك هذا، وما ذلك على الله بعزيز. قال النسفي:(في الدنيا أو في العقبى).

وقوله: {وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ} . قال قتادة: (عذابًا). وعن ابن عباس، قال:(الحسبان: العذاب). قال ابن كثير: (والظاهر أنه مَطَرٌ عظيم مزعج، يقلعُ زَرْعَها وأشجارها).

وقوله: {فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا} . قال ابن عباس: (مثل الجُرُز). وقال ابن زيد: (صعيدًا زلقا وصعيدًا جُرُزًا واحد ليس فيها شيء من النبات). وقال قتادة: (أي قد حُصِدَ ما فيها فلم يُترك فيها شيء).

والمقصود: يحولها الحسبان من السماء إلى أرض ملساء بلاقع، فتعود خرابًا {زَلَقًا} أي لا يثبت في أرضها قدم لامْلِسَاسِها ودروس ما كان نابتًا فيها.

وقوله تعالى: {أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا} . الغَوْر مصدر بمعنى غائر. أي: أو يصبح ماؤها غائرًا في طبقات الأرض لا وسيلة لإخراجه والاستفادة منه. قال قتادة: ({أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا}: أي ذاهبًا قد غار في الأرض. وقوله: {فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا} يقول: فلن تطيق أن تدرك الماء الذي كان في جنتك بعد غوْره، بطلبك إياه).

والغائر ضدّ النابع، فالنابع يندفع إلى وجه الأرض ويراه الناس، وأما الغائر فيطلب اسفل الأرض ويغيب. وفي التنزيل:{قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ} ، أي: جار وسائح.

(1) حديث صحيح. أخرجه الترمذي (4/ 284)، والحاكم (4/ 290)، وأحمد (3/ 422)، وانظر سلسلة الأحاديث الصحيحة - حديث رقم - (1746).

(2)

حسن لشواهده. أخرجه الترمذي (3426)، وأبو داود (5095)، والنسائي في الكبرى (9917)، وأخرجه ابن حبان (822) من حديث أنس، وله شواهد كثيرة.

ص: 585

42 -

44. قوله تعالى: {وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَالَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا (42) وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا (43) هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا (44)}.

في هذه الآيات: إهلاكُ الله أرض المستكبر وإرسال الجوائح على المال والثمر، فإذا بالرجل يقلب كفيه ويندم على الشرك والكفر، ولكن بعد ضياع الفرصة والوقوع في العجز حيث لا نصير من أهل ولا نفر.

فقوله: {وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ} أي: أحاط الهلاك والجوائح بأمواله وثماره، ووقع ما كان يحذر، وصدق حدس المؤمن فيه، من حلول الدمار ونزول المصيبة به، وبما ألهاه عن طاعة الله عز وجل.

وقوله: {فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا} . أي: يضرب إحدى يديه على الأخرى ندمًا وحسرة.

قال قتادة: (أي يصفق كفيه متأسفًا مُتَلهِّفًا على الأموال التي أذهبها عليها).

وقوله: {وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا} . قال ابن جرير: (يقول: وهي خالية على نباتها وبيوتها).

وقوله: {وَيَقُولُ يَالَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا} . قال قتادة: (يقول: يتمنى هذا الكافر بعدما أصيب بجنته أنه لم يكن كان أشرك بربه أحدًا، يعني بذلك: هذا الكافر إذا هلك وزالت عنه دنياه وانفرد بعمله، ودّ أنه لم يكن كفر بالله ولا أشرك به شيئًا).

وقوله: {وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ} .

قال مجاهد: (عشيرته). وقال قتادة: (أي جند ينصرونه. يقول: يمنعونه من عقاب الله وعذاب الله إذا عاقبه وعذّبه).

وقوله: {وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا} أي: ممتنعًا. أي لم يكن ممتنعًا من نزول العذاب به. وقيل: لم يكن مسترِدًّا بدل ما ذهب منه.

وقوله: {هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ} - فيه أكثر من تأويل حسب القراءة.

ص: 586

قرأ قراء الكوفة: {الوِلاية} - أي: هنالك الحكمُ لله الحق. فالوِلاية بكسر الواو: من الملك والسلطان. واختار ابن جرير هذه القراءة.

وقرأ قراء من المدينة والبصرة وبعض الكوفيين {الوَلاية} بفتح الواو، أي: هنالك المُوالاة لله. قال ابن كثير: (أي: هنالك كلُّ أحد من مؤمن أو كافر، يرجع إلى الله وإلى موالاته والخضوع له إذا وقع العذاب).

وأما لفظ {الْحَقِّ} فمن رفعه كان صفة للولاية، ومن كسر القاف كان نعتًا لله عز جل، ومثال الرفع قوله تعالى:{الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ} [الفرقان: 26]. ومثال الكسر قوله تعالى: {ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ} [الأنعام: 62].

وقوله: {هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا} .

قال ابن جرير: (يقول عزّ ذكره: خير للمنيبين في العاجل والآجل ثوابًا {وَخَيْرٌ عُقْبًا}، يقول: وخيرهم عاقبة في الآجل إذا صار إليه المطيع له، العامل بما أمره الله، والمنتهي عما نهاه الله عنه، والعقب هو العاقبة).

وهناك قراءتان لقوله تعالى: {عقبًا} بضم العين والقاف، أو ضم العين وتسكين القاف، وهما مشهورتان في قراء الأمصار ولهما المعنى نفسه.

45 -

46. قوله تعالى: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا (45) الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا (46)}.

في هذه الآيات: تمثيل الله تعالى هذه الحياة بماء نزل من السماء فاختلط بالحب في الأرض فخرج النبات والزرع ثم يبس وكسرته الرياح والله على كل شيء قدير. وتقريره تعالى أن المال والبنين زينة هذه الحياة الدنيا وأن الباقيات من الأعمال الصالحات هي الخير المستمر نفعه، المضمون ثوابه.

ص: 587

فقوله: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ} الآية.

أي: صف يا محمد لهؤلاء المتكبرين الذين سألوك طرد فقراء المؤمنين مثلَ الحياة الدنيا ليفهموها على صورتها الحقيقية: إنها كالماء النازل من السماء اختلط به نبات الأرض من الحبِّ الذي هو مدفون في التراب حتى استوى النبات فالتف وتكاثف، وخالط بعضه بعضًا.

قال القاسمي: (فشبَّ وحسن وعلاه الزهر والنور والنضرة {فَأَصْبَحَ} أي: بعد ذلك الزَّهو {هَشِيمًا} أي: جافًا يابسًا مكسورًا {تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ} أي: تفرقه وتنسفه ذات اليمين وذات الشمال كأن لم يكن، وهكذا حال الدنيا وحال مجرميها، فإن ما نالهم من شرف الحياة كالذي حصل للنبات من شرف النموّ، ثم يزولون زوال النبات).

قلت: والتشبيه لتقلب أحوال الدنيا على الناس بالماء وحركته تشبيه بليغ، فإن الماء لا يستقيم على حالة واحدة وكذلك الدنيا، فالماء لا يبقى ويذهب وكذلك تفنى هذه الدنيا، والماء إذا جاوز مقداره حدًا معينًا أصبح مهلكًا، وكذلك الدنيا إذا أسرف الإنسان في تحصيلها وجمع حطامها انقلبت عليه.

وفي التنزيل:

1 -

قال تعالى: {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [يونس: 24].

2 -

وقال تعالى: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [الحديد: 20].

3 -

وقال تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ} [الزمر: 21].

ص: 588

ومن صحيح السنة العطرة في ذلك أحاديث:

الحديث الأول: أخرج الإمام مسلم في صحيحه عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: [قد أفلح مَنْ أسْلَمَ، وَرُزِقَ كَفَافًا، وَقَنَّعَهُ الله بما آتاه](1).

الحديث الثاني: أخرج الإمام مسلم عن أبي سعيد الخدري، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[إنَّ الدنيا حُلْوَةٌ خَضِرَةٌ، وإن الله مُسْتَخْلِفُكُمْ فيها، فينظُرُ كيف تعملون، فاتقوا الدنيا واتقوا النساء، فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء](2).

الحديث الثالث: أخرج ابن ماجه بسند صحيح عن سهل بن سعد، قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بذي الحُلَيْفَةِ. فإذا هو بشاة ميتة شائلة برجلها. فقال: [أَتُرَوْنَ هذِهِ هَيِّنَةً على صاحِبِها؟ فوالذي نفسي بيده! للدنيا أهْوَنُ على الله، من هذهِ على صاحِبِها. ولو كانت الدنيا تَزِنُ عِنْدَ الله جناحَ بعوضَةٍ، ما سقى كافِرًا مِنْها قَطْرَةً أبدًا](3).

وقوله: {وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا} . قال القرطبي: (من الإنشاء والإفناء والإحياء، سبحانه! ).

وقوله: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} .

ردٌّ على عُيينة بن حِصْن والأقرع بن حابس وأمثالهما لما افتخرا على سلمان وصهيب وخباب وتكبرا على مجالستهم. ومن ثمَّ فهي عامة في شأن كل المستكبرين في الأرض المفتخرين بما فتنهم الله به من المال والولد. قال النسفي: ({الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} لا زاد القبر وعدة العقبى).

قلت: وفي المال جمال ونفع، وفي البنين قوةٌ ودفع، فإن استفاد العبد من ذلك في طاعة الله كان ذلك زينة له في الدنيا وثوابًا في الآخرة. ولكن أغلب الناس يُفتنون بالمال والولد في دنياهم ولا يقيمون بهما ما يصلحون أخراهم. ولذلك قال تعالى:{وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا} .

(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم (1054) - كتاب الزكاة. باب في الكفاف والقناعة. وأخرجه أحمد (2/ 173)، والترمذي (2348)، وابن ماجه (4138)، وابن حبان (670)، والبيهقي (4/ 296).

(2)

حديث صحيح. أخرجه مسلم (2742) - كتاب الذكر والدعاء، أو كتاب الرقاق. باب أكثر أهل الجنة الفقراء، وأكثر أهل النار النساء، وبيان الفتنة بالنساء.

(3)

حديث صحيح. أخرجه ابن ماجه في السنن - حديث رقم - (4110) - كتاب الزهد. باب مثل الدنيا. وانظر صحيح سنن ابن ماجه - حديث رقم - (3318).

ص: 589

وفي هذه الآية أكثر من تأويل:

1 -

قال ابن عباس: (الباقيات الصالحات: الصلوات الخمس).

2 -

وقال سعيد بن جبير وعطاء عن ابن عباس: (سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر).

وكذلك رواه ابن جرير عن أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه.

3 -

وقيل: الباقيات الصالحات النيات والهمات، لأن بها تقبل الأعمال وترفع. قاله الحسن.

4 -

وقيل: الباقيات الصالحات: الأعمال الصالحة، والكلم الطيب، والولد الصالح.

قلت: وأكثر ما ذكر يدخل في مفهوم الباقيات الصالحات. وفي التنزيل:

1 -

قال تعالى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ} [آل عمران: 14].

2 -

وقال تعالى: {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} [التغابن: 15].

وفي صحيح السنة المطهرة ما يدل أنّ "سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر" هي عنوان الباقيات الصالحات:

الحديث الأول: أخرج الإمام أحمد بسند جيد من حديث الحارث مولى عثمان رضي الله عنه قال: [جلس عثمانُ يومًا وجلسنا معه، فجاءه المؤذن، فدعا بماء في إناء، أظنّهُ أنه سيكون فيه مُدُّ، فتوضأ ثم قال: رأيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ وُضوئي هذا، ثم قال: مَنْ توضأ وُضوئي هذا، ثم قام فصلى صلاة الظهر، غفرَ له ما كان بينها وبين الصبح، ثم صلّى العصر غُفر له ما بينها وبين الظهر، ثم صلّى المغرب غُفِرَ له ما بينها وبين العصر، ثم صلّى العشاء غُفِرَ له ما بينها وبين المغرب، ثم لعله يبيتُ يتمرَّغُ ليلته، ثم إن قام فتوضا وصلى صلاة الصبح غُفِرَ له ما بينها وبين صلاة العشاء، وهن الحسنات يذهبن السيئات. قالوا: هذه الحسناتُ، فما الباقيات الصالحات

ص: 590

يا عثمان؟ قال: هي لا إله إلا الله، وسبحان الله، والحمد لله، والله أكبر، ولا حَوْلَ ولا قوة إلا بالله] (1).

الحديث الثاني: أخرج النسائي والحاكم بسند صحيح عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:[خذوا جُنَّتَكُمْ مِنَ النار، قولوا: سبحان الله، والحمدُ لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، فإنهن يأتين يومَ القيامة مُقَدِّماتٍ، ومُعَقِّباتٍ، ومُجَنِّباتٍ، وهنَّ الباقيات الصالحات](2).

الحديث الثالث: أخرج ابن ماجه بسند صحيح عن سمرة بن جندب، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[أَرْبَعٌ، أفضلُ الكلامِ. لا يَضُرُّكَ بأيِّهِنَّ بدأتَ: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر](3).

وأما ما ورد في بقية الأعمال الصالحة مما يستمر أجره:

الحديث الرابع: أخرج أحمد والطبراني بسند حسن عن أبي أمامة مرفوعًا: [أربعة تجري عليهم أجورهم بعدَ الموت: مَنْ ماتَ مرابطًا في سبيل الله، ومَنْ عَلَّمَ علمًا أُجريَ لهُ عمله ما عملَ به، ومَنْ تصدَّق بصدقة فأجرُها يجري له ما وجدتْ، ورجل ترك ولدًا صالحًا فهو يدعو له](4).

وله شاهد عن ابن ماجه من حديث أبي هريرة مرفوعًا: [إنَّ مما يلحقُ المؤمنَ من عمله وحسناته بعدَ موته: عِلمًا نشره، وولدًا صالحًا تركهُ، ومُصْحفًا وَرَّثَهُ، أو مسجدًا بناه، أو بيتًا لابن السبيل بناه، أو نهرًا أجراه، أو صدقةً أخرجها من ماله في صحته وحياته، تلحقُه من بعد موته].

الحديث الخامس: أخرج الإمام مسلم في صحيحه عن أبي هريرة، أن

(1) رجاله ثقات. أخرجه أحمد في المسند (1/ 71) من حديث الحارث مولى عثمان، وذكره الهيثمي في "المجمع" (1/ 297) وقال: ورجاله رجال الصحيح.

(2)

حديث صحيح. أخرجه النسائي والحاكم عن أبي هريرة. انظر صحيح الجامع الصغير - حديث رقم - (3209)، وتخريج الترغيب (2/ 248).

(3)

حديث صحيح. أخرجه ابن ماجه في السنن - حديث رقم - (3811) - في فضل التسبيح، وانظر صحيح سنن ابن ماجه (3073)، وأصله في صحيح الإمام مسلم.

(4)

حديث حسن. أخرجه أحمد والطبراني من حديث أبي أمامة مرفوعًا. انظر تخريج الترغيب (1/ 71)، وصحيح الجامع الصغير - حديث رقم - (890). وانظر للشاهد كذلك صحيح الجامع (2227)، والإرواء (1079)، وأحكام الجنائز (176) - الألباني.

ص: 591

رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: [إذا ماتَ الإنسانُ انقطع عنه عَمَلُهُ إلا مِنْ ثلاثةٍ: إلا مِنْ صَدَقَةٍ جارِيةٍ، أو عِلْمٍ يُنْتَفَعُ به، أو وَلَدٍ صالحٍ يدعو له](1).

قال القرطبي: ({خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا} أي أفضل {وَخَيْرٌ أَمَلًا} أي أفضل أملًا من ذي المال والبنين دون عمل صالح، وليس في زينة الدنيا خير).

47 -

49. قوله تعالى: {وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا (47) وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا (48) وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَاوَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا (49)}.

في هذه الآيات: نَعْتُ الله الأحوال قرب القيامة: من تسيير الجبال، وبروز الأرض، ثم موقف الحشر، ثم العرض في صفوف، ثم توزيع الصحف، وما يعقب ذلك من الخزي على المجرمين، والتحسر والتندم على الخوض في سبيل الكافرين، ولا يظلم الله أحدًا من العالمين.

فقوله: {وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً} .

قال ابن جرير: (يقول تعالى ذكر: {وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ} عن الأرض، فَنَبُسُّها بَسًّا، ونجعلها هباء منبثًا {وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً} ظاهرة، وظهورها لرأي أعين الناظرين من غير شيء يسترها من جبل ولا شجر هو بروزها). وعن مجاهد: ({وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً} قال: لا خمَرَ فيها ولا غيابة ولا بناء، ولا حجر فيها). وقال قتادة: (ليس عليها بناء ولا شجر).

وتسيير الجبال عن أماكنها هو من الأمور العظام وعظيم أهوال يوم القيامة.

وفي التنزيل:

1 -

قال تعالى: {يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا (9) وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا} [الطور: 9، 10].

(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم في صحيحه - حديث رقم - (1631) - كتاب الوصية. باب ما يلحق الإنسان من الثواب بعد وفاته.

ص: 592

2 -

وقال تعالى: {وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ} [النمل: 88].

3 -

وقال تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا (105) فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا (106) لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا} [طه: 105 - 107]. قال ابن كثير: (يقول تعالى: إنه تذهب الجبالُ، وتتساوى المهادُ، وتبقى الأرض {قَاعًا صَفْصَفًا}، أي: سطحًا مستويًا لا عِوجَ فيه، {وَلَا أَمْتًا}، أي: لا وادي ولا جبل. ولهذا قال تعالى: {وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً}، أي: باديةً ظاهرة، ليس فيها مَعْلم لأحد ولا مكان يوارِي أحدًا، بل الخلق كلهم ضاحون لربهم، لا تخفى عليه منهم خافية).

وقوله: {وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا} . أي: جمعناهم لموقف الحساب فلم نترك أحدًا منهم تحت الأرض صغيرًا ولا كبيرًا، ذكرًا ولا أنثى.

وفي التنزيل:

1 -

قال تعالى: {لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (94) وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا} [مريم: 94، 95].

2 -

وقال تعالى: {ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ} [هود: 103].

3 -

وقال تعالى: {قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ (49) لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ} [الواقعة: 49، 50].

وفي صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: [يحشر الناس يوم القيامة حُفاةً عُراةً غُرْلًا. قلت: يا رسول الله! الرجال والنساء جميعًا ينظر بعضهم إلى بعض؟ فقال: يا عائشة: الأمر أشد من أن ينظر بعضهم إلى بعض](1).

وقوله: {وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا} . قال النسفي: (مصطفين ظاهرين ترى جماعتهم كما ترى كل واحد لا يحجب أحد أحدًا، شبهت حالهم بحال الجند المعروضين على السلطان).

وقوله: {لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} - تقريع بالمشركين المنكرين لهذا المشهد على رؤوس الأشهاد، وتوبيخ لكل من كفر بالمعاد.

(1) حديث صحيح. انظر مختصر صحيح مسلم - حديث رقم - (1950)، وقوله:"غُرْلًا" - أي: دون ختان كما خلقهم الله، ورواه البخاري.

ص: 593

وقوله: {بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا} .

ظاهر الخطاب لعموم الناس، وإنما المراد به الخصوص، وهم المنكرون للبعث وقيام الساعة.

وفي سنن الترمذي بإسناد صحيح عن أبي هريرة، وعن أبي سعيد قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [يؤتى بالعبد يومَ القيامة فيقول له: ألمْ أجعلْ لك سمعًا وبَصَرًا، ومالًا وولدًا، وسخّرتُ لك الأنعام والحرثَ، وتركتك ترأسُ وتَرْبعُ، فكنتَ تظُنُّ أنك مُلاقِيَّ يَوْمَكَ هذا؟ فيقول: لا. فيقول له: اليوم أنساكَ كما نسيتني](1).

قال أبو عيسى: ومعنى قوله: "اليوم أنساك كما نسيتني": اليوم أتركك في العذاب.

وقوله: {وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ} .

أي: يضع الله تعالى كتاب أعمال عباده في أيديهم، فمن آخذٍ كتابه بيمينه، ومن آخذِهِ بشماله، وحينئذ ترى المجرمين المشركين خائفين مما تضمنته كتبهم من جرائم أعمالهم التي عملوها في الدنيا.

وقوله: {وَيَقُولُونَ يَاوَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا} .

قال السدي: (الصغيرة ما دون الشرك، والكبيرة الشرك). وقال سعيد بن جبير: (إنَّ الصغائر اللَّمَمُ كالمسيس والقُبَل، والكبيرة المواقعة والزِّنى).

والمعنى: يتحسر المجرمون يوم الحساب عند استلام كتب أعمالهم، وقد اشتملت على الجليل والحقير، والفتيل والقِطمير، والصغير والكبير، أحصاها الله عليهم فضبطها وحفظها وضمّنها كتبهم.

وقوله: {وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا} .

قال القرطبي: (أي وجدوا إحصاء ما عملوا حاضرًا. وقيل: وجدوا جزاء ما عملوا حاضرًا).

وفي التنزيل: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا} [آل عمران: 30].

(1) حديث صحيح. أخرجه الترمذي في السنن (2558) - أبواب صفة القيامة. انظر صحيح سنن الترمذي (1978)، ورواه مسلم بنحوه في أثناء حديث طويل.

ص: 594

وقوله: {وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} .

قال ابن جرير: (يقول: ولا يجازي ربك أحدًا يا محمد بغير ما هو أهله، لا يجازي بالإحسان إلا أهل الإحسان، ولا بالسيئة إلا أهل السيئة، وذلك هو العدل).

وعن الضحاك: (أي لا يأخذ أحدًا بجرم أحد، ولا يأخذه بما لم يعمله). وقيل: (لا ينقص طائعًا من ثوابه، ولا يزيد عاصيًا في عقابه).

وفي التنزيل:

1 -

قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 40].

2 -

وقال تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} [الأنبياء: 47].

3 -

وقال تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت: 46].

ومن صحيح السنة المطهرة في آفاق هذه الآية أحاديث:

الحديث الأول: أخرج ابن ماجه والحاكم بسند صحيح عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [يُصاح برجل من أمتي يوم القيامة على رؤوس الخلائق، فينشر له تسعةٌ وتسعون سجِلًا، كل سجل مَدُّ البصر، ثم يقول الله تبارك وتعالى: هل تُنْكر من هذا شيئًا؟ فيقول: لا يا رب، فيقول: أظلمك كتبتي الحافظون؟ فيقول: لا يا رب، ثم يقول: ألك عذرٌ، ألك حسنةٌ؟ فيهاب الرجل فيقول: لا، فيقول: بلى، إن لك عندنا حسنة، وإنه لا ظُلمَ عليك اليوم، فَتُخرجُ له بطاقة فيها أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا عبده ورسوله، فيقول: يا ربِّ ما هذه البطاقة مع هذه السجلات؟ فيقول: إنك لا تظلم، فتوضع السجلات في كفة، والبطاقة في كفة، فطاشت السجلات، وثقلت البطاقة](1).

(1) حديث صحيح. أخرجه ابن ماجه في السنن - حديث رقم - (4300) - كتاب الزهد. باب ما يرجى من رحمة الله يوم القيامة. وانظر صحيح سنن ابن ماجه (3469)، وصحيح الجامع الصغير - حديث رقم - (7951). ورواه الحاكم وغيره.

ص: 595

الحديث الثاني: أخرج الإمام أحمد في المسند، بسند جيد، عن عبد الله بن محمد بن عَقِيل، أنه سَمِعَ جابر بن عبد الله يقول: بلغني حديثٌ عن رَجُلٍ سَمِعَه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاشتريت بعيرًا ثم شَدَدْتُ عليه رحلي، فَسِرْتُ عليه شهرًا، حتى قدمت عليه الشام، فإذا عبدُ اللهِ بن أُنَيسٍ. فقلت للبواب: قل له: جابرٌ على الباب. فقال: ابنُ عبد الله؟ قلت: نعم. فخرج يَطَأُ ثوبه، فاعتَنَقني واعتنقته، فقلت: حديثٌ بلغني عنك أنك سمِعتَه من رسول الله صلى الله عليه وسلم في القصاص، فَخَشيتُ أن تموتَ أو أموتَ قبل أن أسمَعَه. فقال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: [يَحشُر الله عز وجل الناسَ يومَ القيامة، أو قال: العبادَ، عُراةً غُرْلًا بُهْمًا - قلتُ: وما بُهْمًا؟ قال: ليس معهم شيء - ثم يناديهم بصوت يسمَعُه من بَعُدَ، كما يسمَعُه من قَرُبَ: أنا الملك، أنا الدَّيان، لا ينبغي لأحدٍ من أهل النار أن يدخلَ النار وله عند أحدٍ من أهل الجنة حقٌّ، حتى أُقِصَّهُ منه، ولا ينبغي لأحد من أهل الجنة أن يدخل الجنة، وله عند أحدٍ من أهل النار حقٌّ حتى أُقِصَّهُ منه حتى اللَّطمةُ. قال: قلنا: كيف، وإنما نأتي الله عُراةً غُرْلًا بُهْمًا؟ قال: بالحسنات والسيئات](1).

الحديث الثالث: أخرج الإمام مسلم من حديث أبي ذر، عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل:[قال الله تعالى: يا عبادي إني حَرَّمْتُ الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرمًا فلا تظالموا] الحديث (2).

50 -

53. قوله تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا (50) مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا (51) وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا (52) وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا (53)}.

في هذه الآيات: أمْرُ الله تعالى الملائكة السجود لآدم، فسجدوا إلا إبليس - وهو

(1) أخرجه أحمد في المسند (3/ 495)، وقال الهيثمي في "المجمع" (10/ 345): ورجاله وثقوا.

(2)

حديث صحيح. أخرجه مسلم في صحيحه (8/ 17)، وأخرجه أحمد في المسند (5/ 160).

ص: 596

من الجن - اعترته الحمية، واستكبر عن أمر ربه، فحذّر سبحانه من عداوته. وتوبيخ للمشركين في اتخاذهم الشياطين أولياء وهم خلق من خلق أمثالهم، وتقريعٌ لهم يوم الحشر حين يُدعون لمناداة الشركاء الذين أشركوا فيهم بالله لينصرونهم وينقذونهم من الخزي والهلاك الذين هم مقبلون عليه، فإذا بينهم وبين آلهتهم المزعومة مهلك وهَوْل عظيم وأمر كبير، وكلاهما في نار السعير.

فقوله: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ} . أي: سجود تكريم، والخطاب لجميع الملائكة.

قال النسفي: (سجود تحية أو سجود انقياد). وقد كان هذا السجود فيما احتج به موسى على آدم عليهما السلام.

ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [احتجّ آدم وموسى عليهما السلام عند ربهما. فحجّ آدمُ موسى. قال موسى: أنت آدم الذي خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه، وأسْجَدَ لَكَ ملائكته، وأسكنك في جنته، ثم أهبطت الناس بخطيئتك إلى الأرض. قال آدم: أنت موسى الذي اصطفاك الله برسالته، وبكلامه، وأعطاكَ الألواح فيها تبيان كل شيء وقرَّبكَ نَجِيًّا، فبكم وجدتَ اللهَ كتب التوراة قبلَ أن أُخلق؟ قال موسى: بأربعين عامًا. قال آدم: فهل وجدت فيها: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى}؟ قال: نعم. قال: أفتلومني على أن عَمِلْتُ عملًا كتبه الله عليَّ أن أعمله قبل أن يخلُقَني بأربعين سنة. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فَحَجَّ آدم موسى](1).

وقوله: {فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} .

أي: فسجد الملائكة ممتثلين أمر ربهم، إلا إبليس - وهو من الجن، كان يعيش مع الملائكة فجاء اللفظ للتغليب - فقد أبى أن يسجد لآدم عداوة وحسدًا، وغرورًا وكبرًا، وتعزّز بخلقة النار، واستوهن خلق الصلصال.

وفي صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:[خُلِقَت الملائكة من نور، وخُلقَ إبليس من مارج من نار، وخُلِقَ آدم مما وُصِفَ لكم](2).

وقوله: {فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} . أي: خرج عن طاعته. والفسق في كلام العرب:

(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم في الصحيح (8/ 50). وانظر مختصر صحيح مسلم (1842) - كتاب القدر. باب: في إثبات القدر، وتحاجّ آدم وموسى عليهما السلام.

(2)

حديث صحيح. أخرجه مسلم (2996) - كتاب الزهد. وفي لفظ: "وخلق الجان من مارج من نار".

ص: 597

الخروج، يقال: فسقت الرُّطبة: إذا خرجت من أكمامها. "وفسقت الفأرة من جُحرها" إذا خرجت منه للعَيْث والفساد.

وقوله: {أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا} .

قال القاسمي: (أي فتستبدلونهم بي فتطيعونهم بدل طاعتي، وهم لكم عدوٌّ يبغون بكم الغوائل ويوردونكم المهالك؟ وهذا تقريع وتوبيخ لمن آثر اتّباعه وإطاعته. ولهذا قال تعالى: {بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ} أي الواضعين الشيء في غير موضعه {بَدَلًا} بئس البدل من الله إبليس، لمن استبدله فأطاعه بدل طاعته).

قلت: وعداوة إبليس لذرية آدم عميقة وكبيرة، حتى إنه يبعث كل يوم سراياه ليخربوا بيوت بني آدم بكفر أو قتل أو طلاق أو نشر للرذيلة والفواحش وغير ذلك.

ففي صحيح مسلم عن جابر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[إنَّ إبليس يضع عرشه على الماء ثم يبعث سراياه، فأدناهم منه منزلة أعظمهم فتنة، يجيء أحدهم فيقول: فعلت كذا وكذا، فيقول ما صنعتَ شيئًا، ويجيء أحدهم فيقول: ما تركته حتى فرقت بينه وبين أهله، فيدنيه منه ويقول: نِعْمَ أنت](1).

وله شاهد عند ابن حبان من حديث أبي موسى الأشعري، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[إذا أصبح إبليس بثَّ جنوده، فيقول: من أضَلَّ اليوم مسلمًا ألبستُه التاج، فيخرجُ هذا فيقول: لم أزل به حتى طلَّقَ امرأته فيقول: أوشك أن يتزوج. ويجيء هذا فيقول: لم أزل به حتى عقّ والديه فيقول: يوشك أن يَبَرَّهما. ويجيء هذا فيقول: لم أزل به حتى أشرك، فيقول أنت أنت، ويجيء هذا فيقول: لم أزل به حتى قتل، فيقول: أنت أنت ويُلبِسُه التاج](2).

وقوله: {مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ} .

توبيخ للمشركين في اتخاذهم الشياطين أولياء وهم خلق من خلق أمثالهم، وردٌّ على المتعالمين الذين يريدون أن يجزموا بنظرياتهم العلمية المتأرجحة فيقرّروا حقائق في الخلق لا يعلمها إلا الله. قال ابن كثير: (يقول تعالى: هؤلاء الذين اتخذتموهم أولياء من دوني عَبيدٌ أمثالكُم، لا يملكون شيئًا، ولا أشهدتهم خَلْقِي للسماوات

(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم (2813)، وأخرجه أحمد في المسند (3/ 314) من حديث جابر.

(2)

حديث صحيح. أخرجه ابن حبان (65)، ورجاله ثقات رجال البخاري. انظر سلسلة الأحاديث الصحيحة - حديث رقم - (1280).

ص: 598

والأرض، ولا كانوا إذْ ذاك موجودين، يقول تعالى: أنا المستقل بخلق الأشياء كُلِّها، ومُدَبِّرُها ومُقَدِّرها وَحْدي، ليس معي في ذلك شريك ولا وزير، ولا مشير ولا نظير، كما قال:{قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ} الآية [سبأ: 22]).

وقوله: {وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا} . قال قتادة: (أي: أعوانًا).

وقوله: {وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ} . تقريع وتوبيخ آخر للمشركين. أي: ادعوا اليوم الذين كنتم تزعمون في دار الدنيا أنهم شركائي في العبادة لينصروكم وينقذوكم مما أنتم مقبلون عليه من الخزي والهلاك.

وقوله: {فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ} . أي: فاستغاثوا فلم يغيثوهم.

وقوله: {وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا} . قال ابن عباس: (مَهْلِكًا). وقال ابن زيد: (الموبق: المهلك، الذي أهلك بعضهم بعضًا فيه). وقال مجاهد: (واديًا في النار).

قال القاسمي: ({وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ} أي بين الكفار وآلهتهم {مَوْبِقًا} أي مهلكًا يشتركون فيه، وهو النار. أو عداوة في الشدة نفس الهلاك).

وخلاصة المعنى: أنه لا سبيل لهؤلاء المشركين إلى نصرة يوم القيامة، بل بينهم وبين آلهتهم المزعومة مهلك وهوْلٌ عظيم وأمر كبير، وكلاهما في نار السعير.

وفي التنزيل نحو ذلك:

1 -

قال تعالى: {وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ} [القصص: 64].

2 -

وقال تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ (5) وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} [الأحقاف: 5، 6].

3 -

وقال تعالى: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} [الأنعام: 94].

وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[قال الله تعالى: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، مَنْ عمل عملًا أشرك فيه معي غيري تركتُه وشِركَه](1).

(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم (2985) - كتاب الزهد - باب: تحريم الرياء. ورواه ابن ماجه وغيره.

ص: 599

وقوله: {وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا} . قال قتادة: (علموا).

أي: لما رأى المجرمون النار يوم القيامة علموا أنهم داخلوها، وأيقنوا لا محالة أنهم مستقرون فيها، {وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا}. قال ابن جرير:(يقول: ولم يجدوا عن النار التي رأوا معدلًا يعدلون عنها إليه، يقول: لم يجدوا من مواقعتها بدًّا، لأن الله قد حتم عليهم ذلك).

أخرج الإمام أحمد في المسند، بسند حسن في الشواهد، عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [يُنْصَب الكافر مقدار خمسين ألف سنة كما لم يعمل في الدنيا. وإن الكافر ليرى جهنم، ويظنُّ أنها مواقعته من مسيرة أربعين سنة](1).

وله شاهد عن ابن جرير في التفسير قال: حدثني يونس، أخبرنا ابنُ وهب، أخبرني عمرو بن الحارث، عن دَرَّاج، عن أبي الهيثم، عن أبي سعيد، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:[إن الكافر ليرى جهنَّم فيظن أنها مواقعته من مسيرة أربعين سنة](2).

54 -

56. قوله تعالى: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا (54) وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلًا (55) وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنْذِرُوا هُزُوًا (56)}.

في هذه الآيات: تصريفُ الله الأمثال في هذا القرآن، وتكذيب الناس الرسل بطرق

(1) أخرجه أحمد (3/ 75)، وأبو يعلى (1385)، والحاكم (4/ 597)، وحسّنه الهيثمي (10/ 336) في "المجمع"، مع أنه من رواية درّاج عن أبي الهيثم، وفيها ضعف، لكن ورد من طريق آخر عن دراج عن ابن حجيرة، وهو ثقة، عن أبي هريرة مرفوعًا، أخرجه ابن حبان (7352)، ودراج حسن الحديث في روايته عن غير أبي الهيثم. وقد حسّن إسناده الشيخ شعيب، وانظر تفسير ابن كثير (4405) - تحقيق المهدي.

(2)

أخرجه الطبري في "التفسير"(23154) بهذا الإسناد، وانظر الحديث السابق.

ص: 600

متوارثة عبر الزمان، قوامها العناد والجدل وسؤال المعجزات والاستهزاء بالرسل الكرام.

فقوله تعالى: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا} . أي: ولقد وضحنا في هذا القرآن للناس وفصلنا أسباب النجاة والسعادة في الدنيا والآخرة، ومع ذلك فإن الإنسان كثير المجادلة والمخاصمة والمعارضة للحق بالباطل، يحب التقلل من التكاليف الشرعية التي هي سرّ سعادته وسرّ منزلته عند ربه، ولا ينجو من ذلك إلا من نوّر الله قلبه وهدى بصيرته. قال ابن زيد:(الجدل: الخصومة، خصومة القوم لأنبيائهم، وردّهم عليهم ما جاؤوا به). قلت: بل وكثير من المسلمين اليوم واقعون في مرض الجدل بدل الإخبات للحق.

وفي الصحيحين والمسند عن عَليّ بِن حُسين، أن حُسَيْنَ بنَ عليٍّ أخبره: أَنَّ عليَّ بن أبي طالب أخبره: [أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طَرَقَهُ وفاطِمةَ بنتَ النبي صلى الله عليه وسلم ليلةً فقال: ألا تُصلِّيان؟ فقلت: يا رسولَ الله، أنفسنا بيدِ الله، فإذا شاء أن يَبْعَثَنا بَعَثَنا، فانصرف حين قلتُ ذلك ولم يَرْجِعْ إليَّ شيئًا، ثم سَمِعْتهُ وهو مُوَلٍّ يَضْرِبُ فَخِذَه وهو يقولُ: {وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا}](1).

وقوله تعالى: {وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلًا} . قال مجاهد: (فجأة). وقال ابن زيد: (قبلًا معاينة ذلك القبل) - وهو أرجح. قال ابن كثير: (يخبر تعالى عن تَمَرُّد الكفرة في قديم الزمان وحديثِه، وتكذيبهم بالحق البَيِّن الظاهر، مع ما يشاهدون من الآيات والآثار والدلالات الواضحات، وأنه ما منعهم من اتباع ذلك إلا طلبهم أن يشاهِدُوا العذابَ الذي وُعِدُوا به عِيانًا، كما قال أولئك لنبيهم: {فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [الشعراء: 187]، وآخرون قالوا: {ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [العنكبوت: 29]. وقالت قريش: {اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأنفال: 32]، {وَقَالُوا يَاأَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (6) لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [الحجر: 6 - 7] إلى غير ذلك من الآيات الدالة على ذلك. ثم قال عز وجل: {إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ

(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (1127)، كتاب التهجد، وكذلك (4724)، وأخرجه مسلم (775)، والنسائي في "التفسير"(325)، وأخرجه أحمد (1/ 91)، وابن حبان (2568).

ص: 601

الْأَوَّلِينَ}، مِنْ غِشْيانهم بالعذاب، وأَخْذِهم عن آخرهم، {أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلًا} أي: يَرَوْنَهُ عيانًا مواجهة ومقابلة).

وقوله تعالى: {وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنْذِرُوا هُزُوًا} .

قال القاسمي: (أي وما نرسلهم، قبل إنزال العذاب، إلا لتبشير من آمن بالزلفى والكرامة، وإنذار من كفر بأن تأتيه سنة من مضى {وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ} كاقتراح الآيات {لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ} أي ليزيلوا بالجدال، الحقّ الثابت عن مقره. وليس ذلك بحاصل لهم. قال: {وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنْذِرُوا} أي وإنذارهم. أو والذي أنذروا به من العقاب {هُزُوًا} أي استهزاء وسخرية وهو أشد التكذيب. وصف بالمصدر مبالغة).

وأصل الإدحاض في كلام العرب إزلاق القدم وإزالتها عن موطئها. قال الرازي: (دَحَضَتْ رِجْله: زَلِقَتْ). فاستعير ذلك المفهوم من زلل القدم إلى زلل العقل والمنهج والتفكير.

وفي صحيح مسلم من حديث أبي سعيد مرفوعًا: [ثم يُضرب الجسر على جهنم وتحل الشفاعة. . قيل يا رسول الله! وما الجِسْرُ؟ قال: دَحْضٌ مَزِلَّةٌ](1).

57 -

59. قوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا (57) وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا (58) وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا (59)}.

في هذه الآيات: التحذير من التغافل عن آيات الله وحججه وقوارعه وما يعقب ذلك من الختم والطبع على القلوب وإقفال الآذان عن سماع الحق، وأنه تعالى برحمته لا يعاجل بالعذاب بل يحلم ويستر والموعد للحساب يوم القيامة. وإنّ من سننه تعالى

(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم (183) - كتاب الإيمان - في أثناء حديث الشفاعة، وفي رواية:"دَحْضٌ مَزْلقة" أي تزلَقُ فيه القدم. انظر صحيح البخاري (4581)، ومسند أحمد (3/ 56).

ص: 602

إهلاك القرى الظالم أهلها في وقت مكتوب وأجل مسمّى.

فقوله: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ} . أي: لا أحد أشد ظلمًا ممن تغافل عن آيات الله وسننه وحججه ولم يلق لها بالًا. قال قتادة: ({وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ}: أي نسيَ ما سلف من الذنوب). وقال ابن جرير: (يقول: ونسي ما أسلف من الذنوب المهلكة فلم يتب، ولم ينب).

وقوله: {إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا} . أي: لقد جعلنا على قلوب هؤلاء المعاندين للحق أغطية وفي آذانهم ثقلًا عن استماع هذا الوحي وفهمه. قال القرطبي: (بسبب كفرهم، أي نحن منعنا الإيمان من أن يدخل قلوبهم وأسماعهم).

وقوله: {وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا} .

قال النسفي: ({وَإِنْ تَدْعُهُمْ} يا محمد {إِلَى الْهُدَى} إلى الإيمان {فَلَنْ يَهْتَدُوا} فلا يكون منهم اهتداء البتة {إِذًا أَبَدًا} مدة التكليف كلها).

وقوله: {وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ} الآية.

أي: وربك - يا محمد - غفور ذو رحمة واسعة، لو أخذ هؤلاء المسرفين المستكبرين المعرضين عن الحق وعاجلهم بنقمته وعقابه لما ترك لهم من أثر، ولكنه يحلُم على عباده ويسترُ ويغفر. قال ابن كثير:(وربما هدى بعضهم من الغي إلى الرشاد، ومن استمرّ منهم فله يومٌ يشيب فيه الوليد، وتضَعُ كل ذات حمل حملها، ولهذا قال: {بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا} أي: ليس لهم عنه محيدٌ ولا مَحيصٌ ولا مَعْدِلٌ). وعن ابن عباس: ({مَوْئِلًا} يقول: ملجأ). وقال مجاهد: (محرزًا). وقال قتادة: (أي لن يَجِدوا من دونه وليًا ولا ملجأ). وعن ابن زيد: (ليس من دونه ملجأ يلجؤون إليه).

وفي التنزيل نحو ذلك:

1 -

قال تعالى: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا} [فاطر: 45].

2 -

وقال تعالى: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ} [النحل: 61].

ص: 603

3 -

وقال تعالى: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ} [الرعد: 6].

ومن صحيح السنة العطرة في ذلك أحاديث، منها:

الحديث الأول: أخرج البخاري في صحيحه عن أبي موسى رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[ليس أحَدٌ - أو ليس شيْءٌ - أصْبَرَ على أذى سمِعَهُ من الله، إنهم ليَدْعونَ له ولدًا، وإنه ليعافيهم ويرزُقُهم](1).

الحديث الثاني: أخرج الشيخان وبعض أهل السنن عن أبي بُردة، عن أبي موسى رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [إن الله ليُملي للظالم حتى إذا أخذه لم يُفْلِتْهُ، قال: ثم قرأ: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود: 102]] (2).

وقوله تعالى: {وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا} .

قال القاسمي: ({وَتِلْكَ الْقُرَى} أي قرى عاد وثمود وأضرابهم {أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا} بالكفر والطغيان {وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا} أي وقتًا مُعَيَّنًا لا محيدَ لهم عنه).

قلت: والخطاب وإن كان لقريش وهي تكذب أشرف رسول وأعظم نبي، إلا أنه ينسحب إلى جميع الأمم التي تحيد عن الحق وتتكبر عليه، فإن الظلم ظلمات في الدنيا والآخرة.

60 -

65. قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا (60) فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا (61) فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا (62) قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي

(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري في صحيحه - حديث رقم - (6099) - كتاب الأدب - باب الصبر في الأذى. وكذلك أخرجه برقم (7378) - كتاب التوحيد -.

(2)

حديث صحيح. أخرجه البخاري (4686) - كتاب التفسير - سورة هود، آية (102). ورواه مسلم.

ص: 604

الْبَحْرِ عَجَبًا (63) قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا (64) فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا (65)}.

في هذه الآيات: ذِكْرُ قصة لقاء موسى عليه الصلاة والسلام بالخضر، وما كان من ترتيب لذلك اللقاء بإذن الله، وإنما دفع موسى لهذا اللقاء حرصه على جمع خصال الخير والسبق إلى المعالي، وطلب العلم، والله هو العليم الحكيم.

أخرج الحاكم بسند صحيح على شرط مسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: حدثني أبي بن كعب، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[لما لقِيَ موسى الخَضِرَ عليهما السلام، جاء طَيْرٌ، فألقى مِنْقارَهُ في الماء، فقال الخَضِرُ لموسى: تَدْري ما يقولُ هذا الطَّيْر؟ قال: وما يقول؟ قال: يقول: ما عِلْمُكَ وعلمُ موسى في علم الله إلا كما أخذ منقاري من الماء](1).

فقوله: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ} .

قال ابن زيد: (لا أبرح: لا أنتهي). وقال قتادة: (والبحران: بحر فارس وبحر الروم. وبحر الروم مما يلي المغرب، وبحر فارس مما يلي المشرق). وقال محمد بن كعب القُرَظي: (مجمع البحرين عند طنجَةَ). أي في أقصى بلاد المغرب، والله تعالى أعلم.

وإنما مفهوم الآية: أن موسى عليه السلام قال لفتاه - يوشع بن نون -: لا أزال سائرًا حتى أبلغ هذا المكان الذي فيه مجمع البحرين، فقد ذُكِرَ لموسى أن فيه عبدًا عنده من العلم ما ليس عند موسى.

وقوله: {أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا} . قال ابن عباس: (دهرًا). وقال قتادة: (الحقب: زمان). وقال ابن زيد: (الحقب: الزمان). وقيل: الحقب سبعون سنة أو ثمانون سنة. والمقصود: أي لا أزال أسير حتى أبلغ ذلك المكان، ولو أني أسير حقبًا من الزمان. قال القاسمي:(أي لا أزال أسير حتى أبلغ مجمع البحرين. أي المكان الذي فيه ملتقى البحرين. فأجد فيه الخضر. أو أسير زمانًا طويلًا إن لم أجده ثمة، فأتيقن فوات المطلب).

(1) حديث صحيح. أخرجه الحاكم (2/ 369) بإسناد على شرط مسلم. وانظر: "الصحيحة"(2467).

ص: 605

قلت: وإنما دفع موسى عليه السلام إلى تلك الرحلة الشاقة حرصه على جمع خصال الخير وسبقه إلى المعالي بين أهل زمانه.

فقد أخرج ابن حبان في صحيحه بإسناد حسن عن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: [سأل موسى ربّه عن ست خصال، كان يظن أنها له خالصة، والسابعة لم يكن موسى يحبُّها:

1 -

قال يا رب! أي عبادك أتقى؟ قال: الذي يذكرُ ولا يَنْسى.

2 -

قال: فأيُّ عبادك أهدى؟ قال: الذي يتبع الهدى.

3 -

قال: فأيُّ عبادك أحكم؟ قال: الذي يحكم للناس كما يحكُمُ لنفسه.

4 -

قال: فأيُّ عبادك أعلم؟ قال: الذي لا يشبع من العلم، يجمع عِلْمَ الناس إلى علمه.

5 -

قال: فأيُّ عبادك أعزّ؟ قال: الذي إذا قَدَرَ غَفَر.

6 -

قال: فأيُّ عبادك أغنى؟ قال: الذي يرضى بما يؤتى.

7 -

قال: فأيُّ عبادك أفقر؟ قال: صاحب منقوص (1).

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ليس الغِنى عنْ ظَهْر، إنما الغنى غنى النفس، وإذا أراد الله بعبد خيرًا، جعل غناه في نفسه، وتُقاه في قلبه، وإذا أراد الله بعبد شرًا جعل فقره بين عينيه] (2).

وقوله تعالى: {فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا} .

أي: فلما بلغ موسى وفتاه مجمع البحرين أضلا حوتهما الذي سلك في البحر مسلكًا. قال مجاهد: (يعني بالسرب: المسلك والمذهب، يَسْرب فيه: يذهب فيه ويسلكه).

قال ابن كثير: (وذلك أنه كان قد أُمِرَ بحمل حُوت مملوح معه، وقيل له: متى فقدت الحوت فهو ثَمَّة. فسارا حتى بلغا مجمع البحرين، وهنالك عين يقال لها: عين الحياة، فناما هنالك، وأصابَ الحوتَ من رَشَاش ذلك الماء، فاضطرب، وكان في

(1) أي فقير النفس، يحب لنفسه ولا يحب لغيره.

(2)

حديث حسن. أخرجه ابن حبان في "صحيحه"(50/ 86 - موارد)، والديلمي (1/ 1/ 92)، وكذلك (2/ 102/ 2)، وانظر سلسلة الأحاديث الصحيحة (3350).

ص: 606

مِكْتَلٍ مع يُوشَع، وطَفَرَ (1) من المِكْتلِ إلى البحر، فاستيقظ يُوشَع عليه السلام وسقط الحوت في البحر وجعل يسير فيه، والماءُ له مثل الطاق لا يلتئم بعده، ولهذا قال تعالى:{فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا} أي: مثل السَّرَبِ في الأرض).

وقوله تعالى: {فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا} .

أي فلما تركا حدود المكان الذي نسيا فيه الحوت وغادراه، قال موسى لفتاه آتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا عناء وتعبًا.

وقوله تعالى: {قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا} .

أي: أجاب الفتى موسى بقوله: أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة فهنالك نسيت الحوت وما كان ذلك النسيان إلا من الشيطان، فاتخذ الحوت طريقه إلى البحر سربًا، وكان لموسى وفتاه عجبًا. قال قتادة:(فكان موسى لما اتخذ سبيله في البحر عجبًا، يعجب من سرب الحوت).

وقوله تعالى: {قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا} .

أي: قال موسى لفتاه - حينئذ - هذا الذي نطلب فرجعا أدراجهما يشقان طريقهما ويَقُصّان أثر مشيهما، ويقفُوان أثرهما، ليصلا إلى مرادهما.

وقوله تعالى: {فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا} .

أي: فلما انتهيا إلى الصخرة قافلين إذا رجل مُسَجّى بثوب فسلم عليه موسى، فإذا هو الخَضِرُ عليه السلام، قد وهبه الله رحمة من عنده، وعلّمه من عنده علمًا.

أخرج البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[إنما سُمِّيَ الخَضِرُ لأنَّه جَلَسَ على فَرْوَةٍ بَيْضَاءَ فإذا هيَ تَهْتَزُّ مِنْ خَلْفِهِ خَضْراءَ](2).

قال القرطبي: (الفروة هنا وجه الأرض، قاله الخطابي وغيره. والخضر نبيّ عند الجمهور. وقيل: هو عبد صالح غير نبيّ، والآية تشهد بنبوّته، لأن بواطن أفعاله لا تكون إلا بوحي. وأيضًا فإن الإنسان لا يتعلم ولا يَتَّبع إلا من فوقه، وليس يجوز أن يكون فوق النبي من ليس بنبي).

(1) طفر: أي وثب، والمِكتل: زنبيل يُعمل من خوص.

(2)

حديث صحيح. أخرجه البخاري (3402) - كتاب أحاديث الأنبياء، ورواه الترمذي (3151).

ص: 607

66 -

78. قوله تعالى: {قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا (66) قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (67) وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا (68) قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا (69) قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا (70) فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا (71) قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (72) قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا (73) فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلَامًا فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا (74) قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (75) قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا (76) فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا (77) قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا (78)}.

في هذه الآيات: تفصيلُ الحوار الذي دار بين موسى والخضر عليهما السلام، وتفصيل المشاهد والمواقف التي أتيا عليها والتي تحمل الآيات والدروس والعبر عبر الأيام.

أخرج البخاري في صحيحه عن سعيد بن جبير قال: [إنا لَعِنْدَ ابنِ عَبّاسٍ في بَيْتِه. إذْ قال: سَلوني، قلتُ: أيْ أبا عَبَّاسٍ، جعلني الله فِداءَكَ، إنَّ بالكوفة رَجُلًا قاصًّا يقال له: نَوْفٌ، يَزْعُمُ أَنَّهُ ليس بموسى بني إسرائيل - وفي لفظ: إنَّ نَوْفًا البَكاليَّ يَزْعُمُ: أن موسى نبي الله ليس بموسى الخَضِر -، فقال ابن عباس: كذَبَ عَدُوُّ الله، حَدّثنى أُبَيّ بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

موسى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: ذَكَّرَ الناس يومًا حتى إذا فاضَتِ العيونُ وَرَقَّتِ القُلوبُ، ولّى فَأَدْرَكَهُ رَجُلٌ فقال: أيْ رسولَ الله، هل في الأرض أحدٌ أعلمُ منك؟ قال: لا، (وفي لفظ: فقيل له: أي الناس أعلم؟ قال: أنا)، فَعُتِبَ عليه إذ لم يَرُدَّ العلمَ إلى الله. (وفي لفظ: فَعَتَبَ الله عليه إذ لم يَرُدَّ العلمَ إليه)، وأوحى الله إليه: بلى

ص: 608

عَبْدٌ من عبادي بِمجْمعِ البَحْرين هو أعْلمُ منك، قال: أي رَبِّ، كيف السبيل إليه؟ قال: تأخُذُ حُوتًا في مِكْتَلٍ فَحَيْثُما فَقَدْتَ الحوتَ فاتّبِعه. (وفي لفظ: خُذْ حوتًا مَيِّتًا حيثُ يُنْفَخُ فيه الروح). قال: فخرج موسى ومعه فتاه يُوشَعُ بن نُونٍ، ومعهما الحوت، حتى انتهيا إلى الصخرة فنزلا عندها. (وفي لفظ: فقال موسى لفتاه: لا أكلّفُكَ إلا أن تُخْبرني بِحيث يفارقك الحوت، قال: ما كَلَّفْتَ كثيرًا، فذلك قوله جلّ ذِكْرهُ:{وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ} ).

قال: فوضع موسى رأسه فنام. وفي أصل الصَّخرة عَينٌ يُقالُ لها: الحَياةُ، لا يُصيبُ منْ مائها شَيْءٌ إلا حَيِيَ، فأصابَ الحوتَ مِنْ ماء تلك العين، قال: فتحرّك وانسلَّ مِنَ المِكْتَلِ فدخل البحر، فلما استيقظ {قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا} الآية، قال: ولم يجد النّصَبَ حتى جاوزَ ما أُمِرَ به، قال له فتاه يوشعُ بنُ نون:{أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ} الآية.

قال: فرجعا يَقُصّان في آثارِهما فوجدا في البحر كالطّاقِ - مَمَرَّ الحوت -، فكان لفتاه عجبًا وللحوت سَربا. وفي لفظ:(فكان للحوت سربًا ولموسى ولفتاه عجبًا. فقال موسى: {ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا}).

فَلَمَّا انتهيا إلى الصخرة، إذا هُما برجلٍ مُسَجّىً بثَوْبٍ، فَسَلَّمَ عليه موسى، قال: وأنَّى بأرْضِكَ السّلامُ! ؟ فقال: أنا موسى، قال: موسى بني إسرائيل؟ قال: نعم (1). قال: هَلْ أَتَّبِعُكَ على أن تُعَلِّمني مما عُلِّمْتَ رشدًا؟ قال له الخَضِرُ: يا موسى إنَّكَ على عِلْمٍ مِنْ عِلْمِ الله عَلَّمَكَهُ الله لا أعْلَمُهُ، وأنا على عِلْمٍ مِنْ عِلمِ اللهِ عَلَّمَنِيهِ الله لا تعلَمُه، قالَ: بلْ أَتَّبِعُكَ، قال:{قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا} . فانطلقا يَمْشيان على السّاحِل، فَمَرت بهما سَفينةٌ فعُرِفَ الخَضِرُ، فَحَملوهم في سفينتهم بغَير نَوْلٍ - يقول: بِغَير أجْرٍ - فرَكِبا السفينة.

قال: ووقَعَ عُصْفورٌ على حَرْفِ السَّفينة فَغَمَسَ مِنْقارَهُ في البحر، فقال الخَضِرُ لموسى: ما عِلمُكَ وعِلْمي وعِلْمُ الخلائقِ في علمِ الله إلا مقدارُ ما غَمَسَ هذا العصفور مِنْقَارَهُ.

(1) وفي رواية: قال فما شأنك؟ قال: جئتُ لتعلمني مما علمت رشدا. قال: أما يكفيك أن التوراة بيديْكَ وأن الوحي يأتيك يا موسى؟ إن لي علمًا لا ينبغي أن تعلمَهُ وإنّ لك علمًا لا ينبغي لي أن أعلمه.

ص: 609

قال: فلم يَفْجأْ موسى إلّا إذْ عَمَدَ الخَضِرُ إلى قَدُوم فخرق السفينة، فقال له موسى: قَوْمٌ حملونا بغيرِ نَوْلٍ عَمَدْتَ إلى سفينتهم فخرقتها. (وفي لفظ: قال موسى: {أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا} - قال مجاهد: مُنْكرًا - قال: {أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا} كانت الأولى نِسيانًا، والوُسْطى شَرْطًا، والثالثةُ عَمْدًا).

فانطلقا إذا هما بغلام يلعبُ مع الغِلمان، فأخذ الخَضِرُ برأسه فقطعه، (وفي لفظ: قال سعيد: وجد غلمانًا يلعبون فأخذ غلامًا كافرًا ظريفًا، فأضجعه ثم ذبحه بالسكين)، قال له موسى:{أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا (74) قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا} إلى قوله: {فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ} فقال بيده هكذا، فأقامه، فقال له موسى: إنا دخلنا هذه القرية فلم يُضَيِّفونا ولم يُطْعِمُونا {لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا (77) قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا} . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وَدِدْنا أنَّ موسى صَبَرَ حتى يُقَصَّ علينا من أمْرِهِما (1). قال: وكان ابن عباس يقرأ: "وكان أمامهم ملك يأخذ كل سفينة صالحة غصبًا". وأما الغلام فكان كافرًا] (2).

وقوله: {مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا} . أي: مما هو رشاد إلى الحق ودليل على هدى.

وقوله: {حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا} . قال ابن جرير: (يقول: حتى أحدث أنا لك مما ترى من الأفعال التي تستنكرها أذكرها لك وأبين لك شأنها، وأبتدئك الخبر عنها).

وقوله: {لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا} . قال قتادة: (نكرًا). أو قال: (عجبًا). وقال مجاهد: (منكرًا). وعن ابن عباس: ({قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ} أي: بما تركت من عهدك). وقوله: {وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا} أي: لا تضيق عليّ أمري معك، وصحبتي إياك.

وعن ابن عباس: ({أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً} قال: والزكية التائبة). وفي قراءة أهل الحجاز والبصرة: (زاكية). قال سعيد بن جبير: (مسلمة). وقيل: ({أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً} أي صغيرة لم تعمل الخبث، ولا حملت إثمًا بعد فقتلتَه).

(1) وفي لفظ: "وَدِدْنا أنّ موسى كان صَبَرَ حتى يَقُصَّ الله علينا من خبرهما".

(2)

حديث صحيح. أخرجه البخاري في "كتاب التفسير" - حديث رقم (4725)، (4726)(4727) - في روايات متقاربة. وأخرجه أحمد (5/ 117 - 118)، ومسلم (2380)، وأخرجه أبو داود (4707)، والترمذي (3149)، وابن حبان (6220) من طريق عن سفيان به.

ص: 610

وقوله: {بِغَيْرِ نَفْسٍ} . قال ابن جرير: (يقول: بغير قصاص بنفس قتلت، فلزمها القتل قودًا بها). وقال ابن كثير: (أي: بغير مُسْتند لقتله).

وعن قتادة: ({لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا} والنُّكْرُ أشدّ من الإمر). والمعنى: لقد جئت أمرًا منكرًا، وأقدمت على فعل ليس من المعروف في شيء. وقال البخاري:(نكرًا: داهية).

وقوله: {قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا} . أي: قد بلغت العذر في شأني، أو قد أعذرت إليَّ مرة بعد مرة.

وفي سنن أبي داود بسند صحيح عن أبي بن كعب قال: [كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دعا بدأ بنفسه، وقال: رحمة الله علينا وعلى موسى لو صبر لرأى من صاحبه العجب، ولكنه قال: {إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا} مثقَّلَةً](1).

وقوله: {يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ} . أي: يسقط ويقع. أي وجدا في القرية حائطًا يوشك على الانهيار فأقامه وأصلحه رغم أنهم لم يطعموهم. قال قتادة: ({فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ} وتلا إلى قوله {لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا} شرّ القرى التي لا تُضيف الضيف، ولا تعرف لابن السبيل حقه). وفي الحديث: (حتى إذا أتيا أهل قرية لئامًا)(2)، أي بخلاء. وعن سعيد بن جبير:({فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ} قال: رفع الجدار بيده فاستقام). قال ابن كثير: (إسْنادُ الإرادة ها هنا إلى الجِدار على سبيل الاستعارة، فإن الإرادة في المحدَثات بمعنى الميل. والانقضاض هو السقوط).

وفي النهاية قال الخضر لموسى عليهما السلام {هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ} - لأنك شرطت ذلك على نفسك عند قتل الغلام ألا تسألني عن شيء بعدها وإلا {فَلَا تُصَاحِبْنِي} ، فهذا أوان فراق بيني وبينك، وسأنبئك بتفسير ما لم تستطع عليه صبرًا.

79 -

82. قوله تعالى: {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا (79) وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا

(1) حديث صحيح. أخرجه أبو داود (3984)، والنسائي في "الكبرى"(11310)، وابن جرير (23232)، وابن حبان (989)، وأخرجه مسلم (2380) ح (172)، في أثناء حديث طويل.

(2)

جاء في رواية مسلم (2380) ح (172)، دون البخاري.

ص: 611

أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا (80) فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا (81) وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا (82)}.

في هذه الآيات: تأويل الخضر المواقف التي لم يصبر عليها موسى عليهما السلام، فَخَرْقُهُ السفينة كان لحمايتها لأصحابها من ملك ظالم غاصب، وقتلُ الغلام كان رحمة بأبويه من مستقبل فاسد، وصلاحُ الأبوين كان سببًا في حماية الله كنزهما لذريتهما من بعدهما، وكل ذلك من وحي الله العليم الحكيم.

أخرج البخاري في صحيحه من حديث سعيد بن جبير عن ابن عباس: [{وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ}: وكان أمامهم، قرأها ابن عباس: "أمامهم ملك". قال البخاري: يزعمون عَنْ غير سعيد: أنهُ هُدَدُ بن بُدَدَ، والغلام المقتول، يزعمون: اسمُه حَيْسُورُ، {مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا} فأردت إذا هي مَرَّت به أن يَدَعَها لِعَيْبِها، فإذا جاوزوا أصلحوها فانتفعوا بها - ومنهم من يقول: سدّوها بقارورة، ومنهم من يقول: بالقار، {فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ} وكان كافرًا. {فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا} أن يحملهما حبّه على أن يتابعاه على دينه، {فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً} لقوله: {أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً} {وَأَقْرَبَ رُحْمًا}: هما به أرحَمُ منهما بالأول الذي قتل خَضِرٌ. وزعم غيرُ سعيد أنهما أبدِلا جارية. وأما داود بن أبي عاصم فقال: عن غير واحد: إنَّها جارية](1).

وفي صحيح مسلم عن أبيّ بن كعب، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[الغلامُ الذي قتلهُ الخَضِرُ طُبِعَ يومَ طبع كافرًا](2).

والخلاصة: كان خرق الخضر عليه السلام للسفينة عن حكمة غير ظاهرة، وهذا ما حمل موسى عليه السلام على الإنكار، فقد خرق السفينة ليعيبها لأنهم كانوا يمرون بها على ملك ظالم يأخذ كل سفينة صالحة لنفسه، فأراد بعيبها أن يرده عن أخذها لينتفع بها أصحابها المساكين. وأما الغلام الذي قتله الخضر فإنه كان طُبعَ

(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (4726) - كتاب التفسير - سورة الكهف، الآية (61) وما بعدها.

(2)

حديث صحيح. أخرجه مسلم (2380) ح (172)، والترمذي (3148) في أثناء حديث طويل. وأخرجه أبو داود (4705)، (4706)، وابن جرير (23247)، وابن حبان (6222).

ص: 612

- بعلم الله - كافرًا. فخشي أن يحملهما حُبُّهُ على متابعته على الكفر.

قال قتادة: (قد فَرح به أبواه حين ولد، وحزنا عليه حين قتل، ولو بقي فيه هلاكهما، فليرض امرؤ بقضاء الله، فإن قضاء الله للمؤمن فيما يكره خير له من قضائه له فيما يحب).

وأما الجدار فإنما أصلحه لأنه كان لغلامين يتيمين في المدينة (1)، وكان تحته كنز مدفون لهما، فأراد الله ببركة صلاح والدهما أن يحفظ ذريته من بعده. قال ابن عباس:(حفظا بصلاح أبيهما، ولم يذكر لهما صلاح). قال ابن كثير: ({فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا}، ها هنا أسند الإرادة إلى الله تعالى، لأن بلوغهما الحلم لا يقدر عليه إلا الله. وقال في الغلام: {فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ} وقال في السفينة: {فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا}، فالله أعلم).

وقوله: {رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} . أي: إنما كان ما فعلته في الأحوال الثلاثة رحمة من الله بأصحاب السفينة ووالدي الغلام ووَلدي الرجل الصالح.

وقوله: {وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي} - دلالة على نبوة الخضر عليه السلام، أي إنما أمرت بفعل ما أمرت به وَوُقِفْتُ عليه.

وقوله: {ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا} . أي: ذلك تفسير ما ضقت به ذرعًا ولم تعلم حكمته. وفيه مقابلة كل مقام بما يقابله، فإن قوله:{تَسْطِعْ} جاء بعد حل الإشكال وتوضيح ما وراء الستار، وقبل ذلك كان الأمر مُحَيِّرًا ثقيلًا فناسب القول:{سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا} .

83 -

85. قوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا (83) إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا (84) فَأَتْبَعَ سَبَبًا (85)}.

في هذه الآيات: يسألك يا محمد بعض مشركي قومك عن خبر ذي القرنين فقل سأقص عليكم من أمره خبرًا موثوقًا. إنَّه رجل صالح من عباد الله الصالحين، دانت له

ص: 613

البلاد، وخضعت له ملوك العباد، وتحرك بأمر الله في أرجاء هذه المعمورة، شرقًا وغربًا، وآتاه الله تعالى مثل ما يؤتى الملوك، ومن الأسباب والطرق والوسائل القوية لفتح الأقاليم والرساتيق والبلاد والأراضي وكَسْر الأعادي، وكبْتِ ملوك الظلم وإذلال أهل الشرك، ومن كل شيء يُحتاج إليه لإقامة الحق ومنهاج العدل في الأرض. فتابع المسير في أرجاء هذه المعمورة شرقًا وغربًا.

فقوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا} .

قال ابن جرير: (يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: ويسألك يا محمد هؤلاء المشركون عن ذي القرنين ما كان شأنه، وما كانت قصته، فقل لهم: سأتلو عليكم من خبره ذكرًا).

وقوله تعالى: {إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا} . قال ابن عباس: (سببًا: يعني علمًا). وقال قتادة: (منازلَ الأرض وأعلامها). وقال ابن زيد: (تعليم الألسنة، قال: كان لا يغزو قومًا إلا كلَّمهم بلسانهم).

قال ابن كثير: (أي: أعطيناه مُلكًا عظيمًا متمكنًا، فيه له من جميع ما تُؤتى الملوك، من التمكين والجنود، وآلات الحرب والحصَارات. ولهذا مَلكَ المشارِقَ والمغارِبَ من الأرض، ودانت له البلادُ، وخَضَعت له ملوك العِباد، وخَدَمته الأمم، من العَرَب والعَجم. ولهذا ذكر بعضُهم أنه سُمِّيَ ذا القرنين لأنه بلغ قَرْني الشمس مشرقها ومغربها).

وقوله تعالى: {فَأَتْبَعَ سَبَبًا} . قال ابن عباس: (يعني بالسبب المنزل). وقال مجاهد: (منزلًا وطريقًا ما بين المشرق والمغرب). وقال مجاهد أيضًا: ({سَبَبًا}: طرَفي الأرض). وقال قتادة: (أي اتَّبع منازِلَ الأرض ومعالمها).

قال النسفي: (والسبب ما يتوصل به إلى المقصود من علم أو قدرة، فأراد بلوغ المغرب فأتبع سببًا، يوصله إليه حتى بلغ. وكذلك أراد المشرق فأتبع سببًا، وأراد بلوغ السدين فأتبع سببًا).

قلت: والذي يظهر من عجائب ما صنع ذو القرنين ومن قوله تعالى: {قُلْنَا يَاذَا الْقَرْنَيْنِ} أنه نبيٌّ يوحى إليه، وقد تحرك في الأرض بأمر الله.

ص: 614

أخرج أبو داود والحاكم والبيهقي بسند صحيح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ما أدري تُبَّعٌ ألعينًا كان أم لا؟ وما أدري ذا القرنين أنَبِيًّا كان أم لا؟ وما أدري الحُدود كفاراتٌ أم لا؟ ](1).

قال ابن عساكر (2): (وهذا الشك من النبي صلى الله عليه وسلم كان قبل أن يبين له أمره، ثم أخبر أنه كان مسلمًا، وذاك فيما أخبرنا. . . ثم ساق الحديث: "لا تسبُّوا تبعًا فإنّه كان قد أسلم" (3)).

وبنحوه قال الهيثمي: (يحتمل أنه صلى الله عليه وسلم قاله في وقت لم يأته فيه العلم عن الله، ثم لما أتاه قال ما رويناه في حديث عبادة وغيره). يعني قوله صلى الله عليه وسلم: ". . . ومن أصاب من ذلك شيئًا فعوقب فهو كفارة له. ." أخرجه الشيخان وغيرهما.

وقال القشيري أبو نصر: (قوله تعالى: {قُلْنَا يَاذَا الْقَرْنَيْنِ} - إن كان نبيًا فهو وحى، وإن لم يكن نبيًا فهو إلهام من الله تعالى).

قلت: والراجح عندي من هذه الآية والحديث السابق أنه نبيٌّ، والله تعالى أعلم.

86 -

88. قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا قُلْنَا يَاذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا (86) قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا (87) وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا (88)}.

في هذه الآيات: وصولُ ذي القرنين إلى أقصى الغرب من الأرض، ورؤيته الشمس تغرب في البحر المحيط، وعندها قوم من الناس فعرفوا قَدْرَه وتحاكموا إليه، فحَكَمَ على المشرك بربه المفسد في الأرض بالقتل، ثم يُرَدُّ إلى ربه ليحكم بأمره يوم القيامة. وأما المؤمن العامل بالصالحات فله التوقير في الدنيا وحسن المنقلب في الآخرة.

فقوله: {حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ} . قال ابن كثير: (أي: فسلك طريقًا حتى وصل

(1) حديث صحيح. أخرجه أبو داود (4674) - دون الجملة الثالثة - والحاكم في "المستدرك"(1/ 36)، وعنه البيهقي (8/ 329)، وانظر سلسلة الأحاديث الصحيحة (2217).

(2)

انظر: تاريخ ابن عساكر (3/ 251/ 1)، (6/ 57/ 1)، (11/ 302/ 1)، (16/ 66/ 2).

(3)

حسن لشواهده. أخرجه أحمد (5/ 340)، ورواه ابن عساكر - انظر المرجع السابق.

ص: 615

إلى أقصى ما يُسلك فيه من الأرض من ناحية المغرب، وهو مغرب الأرض).

وقوله: {وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ} . قال ابن عباس: (ذات حَمْأة) وهو الطين الأسود. وقال كعب الأحبار: (أنتم أعلم بالقرآن مني، ولكني أجدها في الكتاب تغيب في طينة سوداء). وهناك قراءة لابن عباس: {في عين حامية} (1) يعني حارة. ولا منافاة بين القولين - كما ذكر ابن كثير والقاسمي -: إذ قد تكون حارَّةً لمجاورتها وَهجَ الشمس عند غروبها، وملاقاتها الشعاع بلا حائل. قال ابن كثير:(أي: رأى الشمس في منظره تغربُ في البحر المحيط، وهذا شأن كل من انتهى إلى ساحله، يراها كأنها تغرُبُ فيه، وهي لا تفارق الفلك الرابع الذي هي مُثَبتَة فيه لا تُفارِقُهُ).

وقوله: {وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا قُلْنَا يَاذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا} .

أي: إنه رأى عندها أمة من الأمم. قال القاسمي: (ثم أشار تعالى إلى أنه مكَّنَهُ منهم، وأظهره بهم، وحكَّمَهُ فيهم، وجعل له الخيرة في شأنهم، بقوله: {قُلْنَا يَاذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ} أي بالقتل وغيره {وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا} بالعفو. ثم بَيّنَ عدله وإنصافه، ليحتذى حذوه، بقوله سبحانه).

وقوله: {قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ} . قال قتادة: (بالقتل).

أي: أما من استمر على الكفر والشرك بربه والإفساد والظلم في الأرض فسوف نعاقبه بالقتل.

وقوله: {ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا} . قال النسفي: (في القيامة، يعني أما من دعوته إلى الإسلام فأبى إلا البقاء على الظلم العظيم وهو الشرك فذاك هو المعذب في الدارين).

وقوله: {وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى} . أي: وأما من تابعنا على الإيمان بالله والعمل الصالح فإن جزاءه الجنة في الدار الآخرة.

وقوله: {وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا} . قال مجاهد: (معروفًا).

قال ابن جرير: (يقول: وسنعلمه نحن في الدنيا ما تيسر لنا تعليمه مما يقربه إلى الله ويلين له من القول).

(1) قلت: وفي جامع الترمذي بسند صحيح عن ابن عباس، عن أُبي بن كعب:[أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قرأ: "في عَيْنٍ حَمِيئةٍ"]. صحيح الترمذي (2337).

ص: 616

89 -

91. قوله تعالى: {ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (89) حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا (90) كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا (91)}.

في هذه الآيات: يتابع ذو القرنين مسيره من مغرب الشمس إلى مطلعها، يقيم الحق وميزان العدل في الأرض، وكلما مَرَّ بأمَّةٍ قهرهم وغلبهم ودعاهم إلى الله عز وجل، فإن دانو له بالطاعة تركهم، وإلا أذلهم وأرغم أنوفهم وكسر شوكتهم، واستباح أموالهم وأمتعتهم، وربما استخدم من كل أمة ما يستعين به في جيوشه على قهر القرى المتاخمة لهم، فلما بلغ مطلع الشمس وجدها تطلع على قوم لا بناء يحجب الشمس عنهم، ولا مضارب أحد من الناس تكون بينهم وبين الشمس، فإذا اشتدت عليهم الشمس دخلوا في أسراب لهم، فإذا ذهبت حِدّتها أو زالت خرجوا من أسرابهم إلى أعمالهم في حروثهم ومعايشهم. والله تعالى عليم بكل أحوال هذا الرجل القائم بأمره وبكل شؤون جيشه ومسيرهم وأحوال الأقوام التي يقيم فيهم حكم الله عز وجل.

فقوله تعالى: {ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا} . قال القرطبي: (أي سلك طريقًا ومنازل).

وقوله تعالى: {حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا} . قال قتادة: (ذكرَ لنا أنهم بأرض لا تُنْبِتُ لهم شيئًا، فهم إذا طلعت الشمس دخلوا في أسراب، حتى إذا زالت الشمس خرجوا إلى حُروثهم ومعايشهم).

وقال الجوهري: (المعنى أنه انتهى إلى موضع قوم لم يكن بينهم وبين مطلع الشمس أحد من الناس. والشمس تطلع وراء ذلك بمسافة بعيدة).

وقوله تعالى: {كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا} . قال مجاهد: (عِلْمًا).

قال ابن كثير: (أي: نحن مُطَّلِعونَ على جميع أحواله وأحوال جيشه، لا يخفى علينا منها شيء، وإن تفرّقَت أُمَمهم وتقطَّعت بهم الأرض، فإنه تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ} [آل عمران: 5]).

92 -

99. قوله تعالى: {ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (92) حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا (93) قَالُوا يَاذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ

ص: 617

فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا (94) قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا (95) آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا (96) فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا (97) قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا (98) وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا (99)}.

في هذه الآيات: وصول ذي القرنين إلى منطقة بين السدين، وقصة استجارة القوم به من فساد يأجوج ومأجوج، وتفصيل بنائه السد الذي يحجبهم عن الناس إلى يوم ميعاد خروجهم آخر الزمان بإذن الله.

فقوله تعالى: {ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (92) حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا} . أي: ثم سار ذو القرنين فسلك طرقًا ومنازل من مشارق الأرض حتى بلغ بين السدين. قال ابن كثير: (وهما جبلان متناوحان بينهما ثُغْرَةٌ يخرج منها يأجوج ومأجوج على بلاد الترك، فيعيثون فيهم فسادًا، ويُهلكون الحرث والنسل). وعن قتادة: ({حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ} وهما جبلان). قال ابن جرير: ({وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا} يقول عز ذكره: وجد من دون السدين قومًا لا يكادون يفقهون قول قائل سوى كلامهم).

وقوله تعالى: {قَالُوا يَاذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا} .

قرأ عاصم والأعرج {يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ} ، وأما قراء الحجاز والعراق فقرؤوا:"ياجوج وماجوج" بغير همز. وهما قراءتان معروفتان في الأمصار. ويأجوج ومأجوج قوم من نسل نوح عليه الصلاة والسلام من أولاد يافث، تُركوا وراء السد الذي بناه ذو القرنين.

والخلاصة: إنه لما وصل ذو القرنين {بَيْنَ السَّدَّيْنِ} - وهما جبلان بينهما ثغرة، يخرج منهما يأجوج ومأجوج فيعيثون فيها فسادًا - وجد العبد الصالح في رحلته في تلك الأرجاء قومًا لا يكادون يفقهون قولًا لاستعجام لسانهم وبعدهم عن الناس، وشكوا إليه أمر فساد هؤلاء القوم يأجوج ومأجوج، فقالوا له:{يَاذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا} - قال ابن عباس: (أجرًا عظيمًا) - {عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا} فتحجبهم عنا وتخلصنا من سوئهم وشرورهم، وكان الله سبحانه قد أعطى

ص: 618

ذا القرنين قوة وسلطانًا، فكان - كما مضى - يقيم الحق والعدل ويحكم بين الناس.

فأجابهم ذو القرنين بعفة وديانة وصلاح وقصد للخير: {قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ} . أي: ما أعطاني سبحانه وتعالى من الملك والتمكين في الأرض خير لي من الذي تجمعونه وتفكرون بإهدائه لي. وهذا كقول سليمان عليه الصلاة والسلام لوفد بلقيس الذين حاولوا حجب نفوذه وسلطانه بهداياهم فقال لهم: {أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ} .

وقال لهم ذو القرنين: {فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا} . أي: ساعدوني بقوة بعملكم وبآلات البناء. قال مجاهد: ({أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا} يقول: أجعل بينكم وبين يأجوج ومأجوج ردمًا. والردم: حاجز الحائط والسد، إلا أنه أمنع منه وأشد). وعن ابن عباس قال: ({رَدْمًا}: هو كأشدّ الحجاب).

وقوله: {آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ} . أي: قطع الحديد - قاله ابن عباس ومجاهد، فإن الزبر جمع زبرة وهي القطعة منه. قال مجاهد:(وهي كاللبنة)، يقال كل لبنة زنة قنطار.

وقوله: {حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ} . قال مجاهد: (رؤوس الجبلين). أي وضع بعضه على بعض من الأساس، حتى إذا حاذى به رؤوس الجبلين طولًا وعرضًا {قَالَ انْفُخُوا} أي أَجَّجَ عليه النار {حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا} أي صار كله نارًا {قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا}. قال مجاهد وقتادة:(هو النحاس المذاب).

وقوله تعالى: {فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا} .

قال قتادة: ({فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ} من فوقه {وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا} أي من أسفله). أي: فما قدروا أن يصعدوا ويرتقوا فوق هذا السد المنيع ولا قدروا على نقبه من أسفله، فقد صنعه ذو القرنين بأحدث وسائل زمانه واستخدم في بنائه أشد وأمتن مَواد البناء، فقد دخل في إنشائه الحديد والحجارة والنار والنحاس، فيا له من سد متين ذي مقاومة حدية عالية.

قال الحافظ بن كثير: (ولما كان الظهور عليه أسهلَ من نقبه قابل كلًا بما يناسبه فقال: {فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا}).

لقد حجب ذو القرنين عليه السلام بهذا البنيان العظيم أشدَّ الناس شرورًا وفاحشة في الأرض، فإن يأجوج ومأجوج قوم مفسدون، خَبأهم الله فتنة في آخر الزمان لمن ضل أو من كفر، وجعل خروجهم من علامات يوم القيامة، وجعل نهايتهم من الأرض من

ص: 619

أشد أيام الفرح بهجة في الدنيا، ليضيفها إلى فرحة التخلص من مكر اليهود في الأرض وجنسهم، ليفرح بها عيسى بن مريم ومن سيكون معه في الطور من المؤمنين.

إن يأجوج ومأجوج قوم أحياء يحفرون في كل يوم في محاولة منهم للخروج من ذلك السجن الذي كتبه الله عليهم قسطًا وعدلًا، إلا أنهم يمكرون ويمكر الله بهم وهو خير الماكرين، إلى أن يأذن الله بخروجهم.

وفي التنزيل: {وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ} . قال ابن عباس: (أي يسرعون في المشي إلى الفساد). والحدب المرتفع من الأرض.

وأخرج الإمام أحمد في المسند، بسند صحيح، عن أبي هريرة مرفوعًا:[إن يأجوج ومأجوج يحفرون كُلَّ يوم، حتى إذا كادوا يَرَوْن شعاع الشمس قال الذي عليهم: ارجعوا فسنحفره غدًا، فيعيده الله أشَدَّ ما كان، حتى إذا بلغت مُدَّتُهم وأراد الله أن يبعثهم على الناس حفروا، حتى إذا كادوا يرون شعاع الشمس قال الذي عليهم ارجعوا فسنحفره غدًا إن شاء الله تعالى، واستثنوا، فيعودون إليه وهو كهيئته حين تركوه فيحفرونه ويخرجون على الناس، فينشفون الماء ويتحصَّنُ الناس منهم في حصونهم. فيرمون بسهامهم إلى السماء فترجع عليها الدمُ الذي احفَظَّ، فيقولون: قهرنا أهل الأرض وعلونا أهل السماء، فيبعث الله نغفًا في أقفائهم فيقتلون بها. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده، إن دواب الأرض لتَسْمَنُ وتَشْكَرُ شَكَرًا من لحومهم](1).

وقد فُصِّلَ ذلك الحدث تفصيلًا رائعًا في حديث الإمام مسلم عن النواس بن سمعان، حيث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: - بعد أن يقتل عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام المسيح الدجال -: [ثم يأتي عيسى إلى قوم قد عصمهم الله منه، فيمسح عن وجوههم، ويحدثهم بدرجاتهم في الجنة، فبينما هو كذلك إذ أوحى الله إلى عيسى: إني قد أخرجت عبادًا لي لا يدان لأحد بقتالهم فَحَرِّز عبادي إلى الطور، ويبعث الله يأجوج ومأجوج {وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ} . . فيمر أوائلهم على بحيرة طبرية فيشربون ما فيها، ويمر آخرهم ويقول: لقد كان بهذه مرة ماء. ثم يسيرون إلى جبل

(1) حديث صحيح. أخرجه أحمد في المسند (2/ 510 - 511)، والترمذي في الجامع (3153)، وابن ماجه (4199) في السنن، والحاكم (4/ 488)، ورجاله ثقات. وانظر سلسلة الأحاديث الصحيحة - حديث رقم - (1735)، وصحيح الجامع (2272).

ص: 620

الخَمَر (وهو جبل بيت المقدس) فيقولون: لقد قتلنا من في الأرض هَلُمَّ فلنقتل من في السماء، فيرمون بنشابهم إلى السماء فيرد الله عليهم نشابهم مخضوبة دمًا، ويُحْصَرُ نبيُّ الله عيسى وأصحابه، حتى يكون رأس الثور لأحدهم خيرًا من مئة دينار لأحدكم اليوم، فيرغب نبيُّ الله عيسى وأصحابه، فيرسِلُ الله عليهم النغف في رقابهم، فيصبحون فرسى كموت نفس واحدة، ثم يهبط نبي الله عيسى وأصحابه إلى الأرض فلا يجدون في الأرض موضع شبر إلا ملأه زَهَمُهم ونتنُهم، فيرغب نبي الله عيسى وأصحابه إلى الله، فيرسل الله طيرًا كأعناق البُخْت فتحملهم فتطرحهم حيث شاء الله] (1).

وفي رواية: [تطرحهم بالنهبل - اسم موضع -، ويستوقد المسلمون من قُسِيِّهم ونُشَّابِهم وجعابهم سبع سنين، ثم يرسل الله مطرًا لا يَكُنُّ منه - أي لا يمنع من نزوله - بيتُ مدر ولا وبر، فيغسل الأرض حتى يتركَها كالزَّلفة - أي كالمرآة - ثم يقال للأرض: أنبتي ثمرتك ورُدّي بركتك، فيومئذ تأكل العصابة من الرّمانة، ويستظلون بِقِحْفِها ويبارك في الرِسْلِ، حتى إنَّ اللِّقْحة من الإبل لتكفي الفئام من الناس، واللِّقْحة من البقر لتكفي القبيلة من الناس، واللقحة من الغنم لتكفي الفَخْذَ من الناس، فبيناهم كذلك إذ بعث الله ريحًا طيبة فتأخذهم تحت آباطهم فتقبِضُ روحَ كُلِّ مؤمن وكُلِّ مسلم، ويبقى شرارُ الناس يتهارجون فيها تهارجَ الحُمُر فعليهم تقوم الساعة].

وأما قوله: "ثم يأتي عيسى إلى قوم قد عصمهم الله منه فيمسح عن وجوههم". قال النووي في شرح صحيح مسلم: (قال القاضي: يحتمل أن هذا المسح حقيقة على ظاهره فيمسح على وجوههم تبركًا وبرًا، ويحتمل أنه إشارة إلى كشف ما هم فيه من الشدة والخوف).

وقوله: "لا يدان لأحد بقتالهم" - أي لا طاقة لأحد على حربهم. قال النووي: (يقال ما لي بهذا الأمر يد، وما لي به يدان، لأن المباشرة والدفع إنما يكون باليد).

وقوله: "فحرّز عبادي إلى الطور". أي: اجعل الطور لهم حرزًا بأن ينضموا إليه من هؤلاء القوم الذين هم من كل حدب ينسلون، أي من كل نشز يمشون مسرعين. والخَمَر: الشجر الملتف، والمراد بالحديث جبل بيت المقدس. وأما النَغَفَ فهو دود

(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم في الصحيح (8/ 197 - 198) من حديث النواس بن سمعان. وانظر مختصر صحيح مسلم - حديث رقم - (2048)، كتاب الفتن.

ص: 621

يكون في أنوف الإبل والغنم، واحدته نغفة، وقوله "فرسى": أي قتلى، واللّقحة: بكسر اللام وفتحها لغتان معروفتان، والكسر أشهرها، وهي القريبة العهد بالولادة، واللقوح ذات اللبن. وأما الفئام فهم الجماعة من الناس، وكذا الفخذ في اللغة الجماعة من الأقارب. قال النووي:(وهم دون البطن، والبطن دون القبيلة).

وفي سنن ابن ماجه بسند صحيح عن النواس بن سمعان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [سيوقِدُ المسلمون من قِسِيِّ يأجوج ومأجوج ونُشَّابهم وأتْرِسَتِهم سبعَ سنين](1).

لقد حذّرَ النبي صلى الله عليه وسلم من هذه الفتنة - فتنة يأجوج ومأجوج - تحذيرًا كثيرًا، وخاف منها على أمته خوفًا كبيرًا، واستيقظ يومًا فزعًا لذلك كأنه يرى أمامه شرًا مستطيرًا.

فقد أخرج الإمام البخاري في صحيحه عن زينب بنتِ جحش رضي الله عنها أنها قالت: [استيقظ النبي صلى الله عليه وسلم من النوم مُحْمَرًا وَجْهُهُ يقول: لا إله إلا الله، ويل للعرب من شر قد اقترب، فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوجَ مثل هذه، وعقد سفيان تسعين أو مئة. قيل: أنهلِكُ وفينا الصالحون؟ قال: نعم إذا كَثُرَ الخَبَثُ](2).

وقوله تعالى: {قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا} .

قال ابن جرير: (قال: هذا الذي بنيته وسوّيته حاجزًا بين هذه الأمة ومن دون الردم رحمة من ربي رحم بها من دون الردم من الناس، فأعانني برحمته لهم حتى بنيته وسوّيته ليكفّ بذلك غائلة هذه الأمة عنهم. . . فإذا جاء وعد ربي الذي جعله ميقاتًا لظهور هذه الأمة وخروجها من وراء الردم لهم، جعله دكاء، يقول: سوّاه بالأرض).

قال قتادة: ({جَعَلَهُ دَكَّاءَ}: لا أدري الجبلين يعني به، أو ما بينهما). وكان وعد الله، في دكّ هذا الردم وخروج هؤلاء القوم فتنة للناس عند استهتارهم بدينهم، وعدًا حقًا والله لا يخلف الميعاد.

وقوله تعالى: {وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا} - فيه تأويلان:

1 -

أن يعود الضمير على يأجوج ومأجوج. والمعنى كما ذكر السدي، قال:(ذاك حين يخرجون على الناس). قال ابن كثير: (أي: يوم يُدَكُّ هذا السَّدُ ويخرجُ هؤلاء

(1) حديث صحيح. انظر صحيح سنن ابن ماجه (3295)، وكتابي: أصل الدين والإيمان - عند الصحابة والتابعين لهم بإحسان (1056 - 1062) - لتفصيل البحث.

(2)

حديث صحيح. أخرجه البخاري (13/ 9 - 10)، وأخرجه مسلم في الصحيح (8/ 165 - 166).

ص: 622

فيموجون في الناس ويفسدون على الناس أموالهم ويتلفون أشياءهم).

2 -

أن يكون الوصف لحالة الخلق قبيل النفخ في الصور لقيام الساعة. واختاره ابن جرير.

قال ابن زيد: (هذا أول القيامة، ثم نفخ في الصور، على أثر ذلك فجمعناهم جمعًا).

قلت: وكلا المعنيين حق، فإن خروج يأجوج ومأجوج وإفسادهم من علامات اقتراب الساعة، والساعة لا تقوم إلا على شرار القوم وهم يتهارجون فيها تهارج الحمر. وفي ذلك أحاديث:

الحديث الأول: أخرج ابن ماجه بسند حسن عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: [تفتحُ يأجوجُ ومأجوجُ. فيخرجون كما قال الله تعالى: {وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ} فيعمُّون الأرض، وينحازُ منهم المسلمون، حتى تصيرَ بقية المسلمين في مدائنهم وحصونهم، ويضمون إليهم مواشيهم، حتى أنهم ليمرون بالنَّهر فيشربونه، حتى ما يذرون فيه شيئًا فيمرُّ آخِرُهُمْ على أثرهم، فيقول قائلهم: لقد كان بهذا المكان، مرة، ماءٌ. ويَظْهَرون على الأرض. فيقول قائلهم: هؤلاء أهل الأرض، قد فرغنا مِنْهم، ولَنُنَازِلَنَّ أهلَ السماء. .] الحديث (1).

الحديث الثاني: أخرج الإمام مسلم عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[لا تقوم الساعة إلا على شرار الناس](2).

قلت: فإذا نفخ في الصور واجتمع الجن والإنس جميعًا بين يدي ربهم، نادى الله آدم أن أخرج بعث النار، فتمتلئ جهنم من يأجوج ومأجوج. وتفصيله في:

الحديث الثالث: أخرج البخاري ومسلم عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [يقول الله عز وجل: يا آدَمُ! فيقول: لبيكَ وسَعْديكَ! والخيرُ في يديك! قال: يقول: أخرج بَعْثَ النار، قال: وما بَعْثُ النار؟ قال: مِنْ كل ألف تِسْعَ مئة وتِسْعَةً وتسعين، قال: فذاك حين يشيب الصغير، {وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} قال: فاشتد ذلك عليهم. قالوا: يا رسول الله أيُّنا

(1) حسن صحيح. انظر صحيح سنن ابن ماجه (3307)، وكتابي: أصل الدين والإيمان (2/ 1061) - لتفصيل البحث في علامات الساعة، وصفات يأجوج ومأجوج.

(2)

حديث صحيح. أخرجه مسلم في الصحيح (8/ 208). وانظر مختصر صحيح مسلم - حديث رقم - (2022)، والمرجع السابق (2/ 1064) - شهود شرار الناس لقيام الساعة.

ص: 623

ذاكَ الرجل؟ فقال: أبشروا. فإن من يأجوجَ ومأجوجَ ألْفٌ، ومنكم رجلٌ. قال: ثم قال رسول الله: "والذي نفسي بيده! إني لأَطْمَعُ أن تكونوا رُبُعَ أهل الجنة" فحمدنا الله وكبَّرْنا. ثم قال: "والذي نفسي بيده! إني لأطمع أن تكونوا ثُلُثَ أهل الجنة" فحمدنا الله وكبَّرنا. ثم قال: "والذي نفسي بيده! إني لأطمع أن تكونوا شَطْرَ أهلِ الجنة". إنَّ مَثَلَكُم في الأمم كمثل الشَّعْرَةِ البيضاء في جِلدِ الثوْرِ الأسودِ أو كالرَّقْمَةِ (1) في ذراع الحمار] (2).

100 -

106. قوله تعالى: {وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكَافِرِينَ عَرْضًا (100) الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا (101) أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلًا (102) قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (104) أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا (105) ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُوًا (106)}.

في هذه الآيات: تفصيلُ إبراز جهنم يوم القيامة للكافرين، الذين كانوا في غفلة وعناد وتكذيب بيوم الدين. فهل ظنوا أن اتخاذهم عباد الله - كالملائكة وعيسى عليهم السلام أولياء نافعهم أو صارف عنهم العذاب المهين. إنّ الأخسرين الذين بطل عملهم وهم يحسبون أنهم من المحسنين. أولئك الذين كفروا بآيات ربهم ووعده ووعيده المبين، فاستحقوا جهنم يصلونها مع المستهزئين.

فقوله تعالى: {وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكَافِرِينَ عَرْضًا} . أي: أبرزناها للكافرين أمام أعينهم قبل أن يدخلوها، ليكون ذلك أبلغ في تعجيل الهم والضيق في نفوسهم والهلع في قلوبهم، ولها يومئذ سبعة أبواب لكل باب أهله في صليها وولوجها.

(1) كالرقمة: قال أهل اللغة: الرقمتان في الحمار هما الأثران في باطن عضديه. وقيل: هي الدائرة في ذراعيه. وقيل: هي الهنة الناتئة في ذراع الدابة من الداخل.

(2)

حديث صحيح. أخرجه البخاري (6530)، وأخرجه مسلم (222) - واللفظ له - كتاب الإيمان، وأخرجه أحمد في المسند (3/ 32 - 33) من حديث أبي سعيد الخدري.

ص: 624

وفي التنزيل: {وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ (43) لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ} قال قتادة: (هي والله منازلهم بأعمالهم).

وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [يؤتى بجهنم يومئذ لها سبعون ألف زمام، معَ كل زمام سبعون ألف ملك يجرُّونها](1).

وقوله تعالى: {الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا} .

قال ابن جرير: (يقول تعالى: وعرضنا جهنم يومئذ للكافرين الذين كانوا لا ينظرون في آيات الله، فيتفكَّرُون فيها ولا يتأمَّلون حججه، فيعتبرون بها، فيتذكرون وينيبون إلى توحيد الله، وينقادون لأمره ونهيه، وكانوا لا يستطيعون سمعًا، يقول: وكانوا لا يطيقون أن يسمعوا ذكر الله الذي ذكَّرَهم به، وبيانه الذي بَيَّنَهُ لهم في آي كتابه، بخذلان الله إياهم، وغلبة الشقاء عليهم، وشُغْلهم بالكفر بالله وطاعة الشيطان، فيتعظون به، ويتدبرونه، فيعرفون الهدى من الضلالة، والكفر من الإيمان).

والمقصود: إنه لما تعامى هؤلاء الكفار وتغافلوا وتصامّوا عن سماع الحق وإبصار الهدى واتباع سبيل المرسلين، أصَمَّ الله أسماعهم عن سماع الحق فخذلهم عن فهمه وعقله. قال مجاهد:({لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا}: لا يعقلون). أو قال: (لا يعلمون).

وفي التنزيل: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} [الزخرف: 36].

قلت: والاستطاعة الواردة في الآية بمفهوم خلق القدرة على ذلك العمل، وتأتي بمعنى التوفيق. والمعنى: إن الله يخذل الكافرين نتيجة استهزائهم بالحق وتماديهم بالباطل فلا يستفيدون من سمعهم في الحق، وكذلك يخذل المنافقين عن السجود له في أرض المحشر. كما قال تعالى:{يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ (42) خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ} [القلم: 42، 43].

وفي صحيح البخاري عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: [يكشف ربنا عن ساقه، فيسجد له كل مؤمن ومؤمنة، ويبقى من كان يسجد في الدنيا رياء وسمعة، فيذهب ليسجد، فيعود ظهره طبقًا واحدًا](2).

(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم (2842)، وانظر مختصر صحيح مسلم - حديث رقم - (1975).

(2)

حديث صحيح. أخرجه البخاري في صحيحه - حديث رقم - (4919) - كتاب التفسير - سورة القلم. وانظر كذلك - حديث رقم - (22) منه.

ص: 625

وقوله تعالى: {أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلًا} . قال النسفي: (أي أفظن الكفار اتخاذهم عبادي يعني الملائكة وعيسى عليهم السلام أولياء نافعهم بئس ما ظنوا). وقال القاسمي: ({إِنَّا أَعْتَدْنَا} أي هيأنا {جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلًا} أي شيئًا يتمتعون به عند ورودهم. و"النزل" ما يقام للنزيل أي الضيف. وفيه استعارة تهكمية. إذ جعل ما يعذبون به في جهنم كالزقوم والغسلين، ضيافة لهم).

وفي التنزيل: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (81) كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا} [مريم: 81، 82].

وفي صحيح ابن ماجه عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[قال الله تعالى: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، مَنْ عملَ عملًا أشرك فيه معي غيري تركتُه وشِركَهُ](1).

وفي لفظ: [قال الله عز وجل: أنا أغنى الشركاء عن الشِّرك. فَمَنْ عَمِلَ لي عَمَلًا أشْركَ فيه غَيْري، فأنا منه بريءٌ. وهو للذي أشرك].

وفي الباب عن أبي سعد بن أبي فضالة الأنصاري، وكان من الصحابة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [إذا جمع الله الأولين والآخرين، يومَ القيامة، لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فيه، نادى مُناد: مَنْ كان أشْرَكَ في عملٍ لَهُ لله، فليطلب ثوابَهُ من عِنْدِ غير الله. فإن الله أغنى الشركاء عن الشِّرك](2).

وقوله تعالى: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} .

أي: هل أخبركم بالأخسرين من الخلق؟ إنهم الذين سلكوا مناهج غير مشروعة وعملوا أعمالًا باطلة غير مرضية في ميزان الشريعة، وهم يظنون أنهم مقبولون مرضيون محبوبون، وإنما يفاجَؤون ببوارها يوم القيامة. وهي آية عامة تشمل كل من ضل عن منهاج النبوة، ولو أخلص لأي منهاج آخر.

قال البخاري في صحيحه: حَدَّثني محمدُ بنُ بَشَّار: حَدَّثنا محمدُ بن جَعْفَر: حَدَّثنا شُعْبَةُ عَنْ عَمْرٍو، عن مُصْعَب قال: [سألت أبي {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا} هم

(1) حديث صحيح. أخرجه ابن ماجه (4202) - كتاب الزهد. باب الرياء والسمعة. وانظر صحيح سنن ابن ماجه (3387) - وأصله في صحيح الإمام مسلم.

(2)

حديث حسن. أخرجه ابن ماجه (4203)، الباب السابق. وانظر صحيح سنن ابن ماجه (3388).

ص: 626

الحَرُوريَّة؟ قال: لا، هم اليهودُ والنصارى، أما اليَهودُ فكذَّبُوا محمدًا صلى الله عليه وسلم، وأمَّا النَّصارى كَفَروا بالجنة وقالوا: لا طعامَ فيها ولا شرابَ، والحَرُورِيَّهُ الذين يَنْقُضُون عَهْدَ الله مِنْ بَعْدِ ميثاقه، وكان سَعْدٌ يُسَمِّيهم الفاسقين] (1).

قال الحافظ ابن كثير: (فإن هذه الآية مكية قبل خطاب اليهود والنصارى وقبل وُجود الخوارج بالكلية، وإنما هي عامَّة في كل من عبدَ الله على غير طريقة مَرْضِيّة يَحْسب أنه مصيبٌ فيها، وأن عمله مقبول، وهو مخطىٌ وعملهُ مردودٌ، كما قال تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ (2) عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ (3) تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً} [الغاشية: 2 - 4]، وقوله تعالى:{وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} [الفرقان: 23]، وقال تعالى:{وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا} [النور: 39]).

وقوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا} .

أي: إنهم الذين جحدوا التنزيل وحجج الله التي تدعوهم إلى إفراده تعالى بالتعظيم والعبادة، وكفروا بلقائه في يوم يضع سبحانه فيه أعمال العباد على الميزان، فما وافق الحق رجح وما كان على غير ميزان الشريعة جعله هباء منثورًا.

أخرج البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:[إنه ليأتي الرَّجُلُ العظيم السمينُ يَوْمَ القيامة، لا يَزِنُ عِند الله جَناحَ بعوضة - وقال -: اقرؤوا: {فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا}](2).

وقوله تعالى: {ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُوًا}

قال ابن جرير: (يقول تعالى ذكره: أولئك ثوابهم جهنم بكفرهم بالله، واتخاذهم آيات كتابه، وحجج رسله سخريًا، واستهزائهم برسله).

(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (4728) - كتاب التفسير - سورة الكهف - آية (103).

(2)

حديث صحيح. أخرجه البخاري (4729) - كتاب التفسير - سورة الكهف - آية (105)، ورواه الإمام مسلم في صحيحه - حديث رقم - (4678).

ص: 627

107 -

108. قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا (107) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا (108)}.

في هذه الآيات: إخبار عن الصورة المقابلة لأصحاب الجحيم، صورة السعداء في جنات النعيم، في الفردوس سرّ الجنة وأعلاها ووسطها تحت عرش الرحمن الكريم، {نُزُلًا} أي ضيافة لهم خاصة بهم من ربهم العلي العظيم. وهم فيها مقيمون لا يظعنون عنها أبدًا ولا يرحلون.

وفي صحيح البخاري من حديث أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[من آمنَ بالله ورسوله، وأقام الصلاةَ، وصامَ رمضان، كان حقًا على الله أن يدخله الجنة، هاجر في سبيل الله أو جلسَ في أرضه التي وُلِدَ فيها. قالوا: يا رسول الله، أفلا نُنَبِّئُ الناسَ بذلك؟ قال: إنَّ في الجنة مئةَ درجةٍ أعَدَّها الله للمجاهدين في سبيله، كُلُّ درجتين ما بينهما كما بين السماء والأرض، فإذا سألتم الله فَسَلوه الفِردوس، فإنهُ أوسطُ الجنة وأعلى الجنة، وفوقَه عرشُ الرحمن، ومنه تَفَجَّرُ أنهار الجنة](1).

وله شاهد عند الطبراني من حديث العرباض، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[إذا سألتم الله تعالى فاسألوه الفردوس فإنه سرّ الجنة].

قال القاسمي في "التفسير": ({خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا}: أي تحولًا، لبلوغهم الكمال في نعيمها. فلا شوق لهم فيما وراءها. وفيه تنبيه على شدة رغبتهم فيها، وحبهم لها. مع أنه قد يتوهم، فيمن هو مقيم في مكان دائمًا، أنه يسأمه أو يمله. فأخبر أنهم، مع هذا الدوام والخلود السرمديّ، لا يختارون عن مقامهم متحوَّلًا).

109 -

110. قوله تعالى: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ

(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (7423) - كتاب التوحيد، وكذلك (2790)، وأخرجه أحمد في المسند (2/ 335)، وابن حبان (4611). وانظر للشاهد صحيح الجامع (606).

ص: 628

تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا (109) قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا (110)}.

في هذه الآيات: تعظيمُ كلمات الله وآفاق معانيها وروائع علومها، وإثبات بشرية الرسول صلى الله عليه وسلم وتلقيه الوحي من الله رب السماوات والأرض وباريها، وذِكْرُ سرّ النجاة وسعادة الدارين: إفراد الله تعالى بالعبادة والتعظيم، والتماس العمل الصالح على منهاج الوحيين.

فعن مجاهد: ({الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي} للقلم). قال قتادة: (يقول: إذًا لنفد ماء البحر قبل أن تنفد كلمات الله وحكمه).

والمقصود: قل - يا محمد - مخبرًا عن عظمة كلمات ربك وصفاته وآياته وحكمه: لو كان ماء البحر مدادًا للقلم الذي تكتب به كلمات الله وحكمه وما يخبر عن آياته ومعاني أسمائه وصفاته لنفد البحر قبل الفراغ من ذلك، ولو رفدته بحور الدنيا ومحيطاتها.

وفى التنزيل نحو ذلك: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [لقمان: 27].

قال الربيع بن أنس: (إن مثلَ علم العباد كُلِّهم في علم الله كَقَطْرَةٍ من ماء البحور كُلِّها، وقد أنزل الله ذلك: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا} يقول: لو كان البحر مِدَادًا، والشجر كُلُّها أقلامٌ، لانكسرت الأقلام وفنيَ ماءُ البحر، وبَقِيت كلماتُ الله قائمةً لا يُفنيها شيء، لأن أحدًا لا يستطيع أن يقْدُرَ قدرها وَلا يُثني عليه كما ينبغي، حتى يكونَ هو الذي يُثني على نفسه، إن رَبَّنا كما يقول وفوق ما نقول، إنَّ مَثَلَ نعيم الدنيا أولها وآخرها في نعيم الآخرة كحبَّةِ من خَرْدَلٍ في خلال الأرض).

وقوله: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} . قال القرطبي: (أي لا أعلم إلا ما يعلِّمني الله تعالى، وعلم الله تعالى لا يحصى، وإنما أمرت بأن أبلغكم بأنه لا إله إلا الله).

وقال ابن كثير: (يقول تعالى لرسوله محمد - صلوات الله وسلامه عليه -: {قُلْ} لهؤلاء المشركين المكذبين برسالتك إليهم: {إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} فمن يَزْعُمُ أني كاذب

ص: 629

فَلْيَأتِ بمثلِ ما جئتُ به، فإني لا أعلمُ الغيب فيما أخبرتكم به من الماضي، عما سألتم من قصة أصحاب الكهف، وخَبَر ذي القرنين، مما هو مطابق في نفس الأمر، لولا ما أطلعَني الله عليه. وأنا أخبركم {أَنَّمَا إِلَهُكُمْ} الذي أدعوكم إلى عبادته، {إِلَهٌ وَاحِدٌ} لا شريك له).

وقوله: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} .

أي: فمن كان يرجو لقاء الله فيخاف الموقف بين يديه، ويأمل الفوز بثوابه وجناته، والظفر بلذة النظر إلى وجهه، فليعمل عملًا خالصًا لوجهه موافقًا لشريعته، ولا يشرك بعبادته أحدًا.

والآية دليل على ركني العمل الصالح المتقبل:

الركن الأول: أن يكون العمل خالصًا لوجه الله العظيم.

الركن الثاني: أن يكون موافقًا للشريعة المطهرة، كما جاء في التنزيل وهدي الرسول الكريم.

قال الفضيل بن عياض: (فإن العمل إذا كان خالصًا ولم يكن صوابًا، لم يقبل، وإذا كان صوابًا ولم يكن خالصًا لم يقبل، حتى يكون خالصًا صوابًا. والخالص أن يكون لله، والصواب: أن يكون على السنة).

وقال شيخ الإسلام - ابن تيمية -: (وإذا كانت جميع الحسنات، لا بد فيها من شيئين: أن يراد بها وجه الله، وأن تكون موافقة للشريعة، فهذا في الأقوال والأفعال. في الكلم الطيب، والعمل الصالح، في الأمور العلمية، والأمور العملية العبادية).

وفي التنزيل:

1 -

قال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [البينة: 5].

2 -

وقال تعالى: {قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ} [آل عمران: 29].

3 -

وقال تعالى: {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ} [الحج: 37].

ومن كنوز السنة المطهرة في ذلك أحاديث:

الحديث الأول: أخرج الإمام مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال:

ص: 630

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [إن الله تعالى لا ينظر إلى أجسامكم، ولا إلى صوركم وأموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم](1).

الحديث الثاني: أخرج الإمام أحمد في المسند، والإمام مسلم في الصحيح، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم يرويه عن ربِّه عز وجل، أنه قال:[أنا خيرُ الشركاء، فمن عمل عملًا أشرك فيه غيري، فأنا منه بريءٌ، وهو للذي أشرك](2).

الحديث الثالث: أخرج الترمذي وابن ماجه بسند حسن عن أبي سعيد بن أبي فَضَالَةَ الأنصاري - وكان من الصحابة - أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: [إذا جَمَعَ الله الأولين والآخرين ليوم القيامة، ليوم لا ريب فيه، نادى منادٍ: من كان أشركَ في عملٍ عملهُ لله أحدًا فليطلبْ ثوابه من عند غير الله، فإن الله أغنى الشركاء عن الشرك](3).

الحديث الرابع: أخرج أحمد والطبراني بسند جيد عن أبي بكرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [مَنْ سَمَّعَ سَمَّعَ الله به، ومن راءى راءى الله به](4).

وفي رواية من طريق ابن عمرو: [من سَمَّعَ الناس بعمله، سَمَّعَ الله به مسامعَ خلقه وصغّره وحقّره].

وعن سفيان: ({وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} قال: لا يرائي) - رواه ابن جرير.

تم تفسير سورة الكهف

بعون الله وتوفيقه، وواسع مَنِّه وكرمه

° ° °

(1) حديث صحيح. رواه مسلم (2564)(33)، وكذلك رقم (34).

(2)

حديث صحيح. أخرجه مسلم (4/ 2289)، وأحمد (2/ 301 - 435)، والطيالسي (2559)، وأخرجه ابن ماجه (4202)، وأخرجه ابن حبان في صحيحه (395).

(3)

حديث حسن. أخرجه الترمذي (3154)، وابن ماجه (420)، وأحمد (3/ 466)، وأخرجه البيهقي في "الشعب"(6817)، وله شواهد كثيرة.

(4)

إسناده جيد. أخرجه أحمد (5/ 45)، والبزار (3563)، والطبراني كما في "المجمع"(10/ 222)، وقال الهيثمي: وأسانيدهم حسنة. وأصل معناه في صحيح مسلم.

ص: 631