المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ منهاج السورة - التفسير المأمون على منهج التنزيل والصحيح المسنون - جـ ٤

[مأمون حموش]

الفصل: ‌ منهاج السورة

‌15 - سُورَةُ الحِجْرِ

وهي سورة مكية، وعدد آياتها (99).

‌موضوع السورة

قصة الإنسان، وإغواء الشيطان

نصر الله المرسلين، وهلاك ثمود - أصحاب الحجر - كبقية الأقوام المجرمين.

-‌

‌ منهاج السورة

-

1 -

انتصار الله لكتابه الكريم، وإخبار عن الندامة التي ستلحق الكافريق، وتمنّيهم لو كانوا مسلمين.

2 -

تهديد ووعيد للمستكبرين، الذين هم في شهواتهم وملذاتهم يرتعون.

3 -

اتهام الكفار محمدًا بالجنون، وسؤالهم نزول الملائكة، وردّ الله عليهم، وتكفله تعالى بحفظ هذا الذكر العظيم.

4 -

تسلية الله رسوله بوصله بسنن المرسلين، وجهادهم أقوامهم المستهزئين.

5 -

تذكير الله عباده ببعض آياته البديعة من خلقه، السماء وطبقاتها ونجومها، والأرض وبَسْطها وجبالها ونباتها.

6 -

إثبات خزائن منافع العباد بيد الله تعالى، والرياح والأمطار والأرزاق والآجال والأعمال تمضي بأمره وهو الحكيم الخبير.

ص: 300

7 -

إخبار الله عن خلق الإنسان من طين، والجان من نار السموم، وذِكْر امتثال الملائكة أمر الله تعالى السجود لآدم، إلا إبليس اعترته الحميّة، وتعزّز بخلقة النار، واستوهن خلق الصلصال، وسأل الله النظرة، فأعطاه الله ذلك امتحانًا للذرية إلى يوم الدين.

8 -

تَعهُّدُ إبليس إغواء ذرية آدم، وحماية الله عباده المخلصين، وجهنم ذات الأبواب السبعة موعد أتباع إبليس اللعين.

9 -

نَعْتُ الله حال المتقين، في خلودهم في جنات النعيم.

10 -

ذِكْرُ الله خبر ضيوف إبراهيم، وإهلاك قوم لوط المجرمين.

11 -

انتقام الله من قوم شعيب وقوم صالح لما كفروا وكذبوا رسلهم.

12 -

إثبات الله تعالى خلقه السماوات والأرض بالعدل والإنصاف، وأن الساعة قادمة، فالصفح أولى حتى يأتي أمر الله، واختصاص الله نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم بفاتحة الكتاب وهي السبع المثاني والقرآن العظيم.

13 -

الأمر بالصدع بالحق والجهر بالدعوة والله يكفيك - يا محمد - أمر المستهزئين.

14 -

تسلية الله نبيّه لئلا يقع في الضيق مما يقولون، فإنهم سوف يعلمون.

15 -

الاستعانة على الأمر ومشقة الطريق بالتسبيح والسجود والعبادة حتى مجيء الموت وهو اليقين.

° ° °

ص: 301

بسم الله الرحمن الرحيم

1 -

5. قوله تعالى: {الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ (1) رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ (2) ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (3) وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ (4) مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ (5)}.

في هذه الآيات: انْتِصارُ من الله تعالى لهذا الكتاب العظيم، وإِعْلامٌ منه سبحانه عن الندامة التي ستلحق الكافرين، وأنهم سيتمنّون يومًا لو كانوا مسلمين، وتَهْدِيْدٌ وَوَعِيدٌ للمستكبرين الذين يأكلون وينغمسون في ألوان الشهوات معرضين عن الحق وسنن الأولين، فإنه ما تسبق من أمة أجلها وما يستأخرون.

فقوله: {الر} . قد سبق بيان مفهوم ذلك من الحروف المقطعة أول السور وأنه دلالة على إعجاز هذا القرآن العظيم، الذي آياته وكلماته من جنس هذه الأحرف، ولا قدرة لأحد على معارضته ولا بسورة نحوه.

وعن مجاهد: ({الر} فواتح يفتتح بها كلامه {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ} قال: التوراة والإنجيل).

وقال قتادة: ({الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ} قال: الكتب التي كانت قبل القرآن).

وقوله: {وَقُرْآنٍ مُبِينٍ} . أي: وآيات قرآن بيّن الدلالة والهدى والرشاد. قال قتادة: (تبيّن والله هداه ورشده وخيره).

وقوله تعالى: {رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ} . قال ابن كثير: (إخبار عنهم أنهم سيندَمُون على ما كانوا فيه من الكفر، ويَتَمَنَّونَ لو كانوا مع المسلمين في الدنيا. ونقل السدِّي في تفسيره بسنَدِه المشهور عن ابن عباس، وابن مسعود، وغيرهما من الصحابة: أنَّ الكفار لما عُرِضوا على النار تمنوا أن لو كانوا مسلمين. وقيل

ص: 302

المرادُ أن كلَّ كافر يَوَدُّ عند احتضاره أن لو كان مؤمنًا. وقيل: هذا إخبار عن يوم القيامة، كما في قوله تعالى:{وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَالَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنعام: 27]). وقيل: هو في القيامة إذا رأوا كرامة المؤمنين وذل الكافرين. وقال سعيد بن جبير: (إذا أُخْرِجَ أهلُ التوحيد من النار وأُدخلوا الجنة، يَوَدُّ الذين كفروا لو كانوا مسلمين) - ذكره الترمذي.

قلت: وكل ما سبق محتمل ممكن يتسع له مفهوم الآية. وقرأ نافع وعاصم {رُبَمَا} مخفّف الباء، والباقون قرؤوها بالتشديد، وهما لغتان. أي يودّ الكفار في أوقات كثيرة لو كانوا مسلمين.

وقوله تعالى: {ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} .

تهديد ووعيد للكفار وهم يعيثون فسادًا في الأرض. أي: ذر يا محمد هؤلاء المشركين يأكلوا في هذه الدنيا وينغمسوا في ألوان الشهوات والملذات منشغلين بها عن طاعة الله وتعظيمه حتى تفجأَهم آجالهم ويروا العذاب.

وفي التنزيل: {كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلًا إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ} [المرسلات: 46]. {قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ} [إبراهيم: 30].

قال الحسن: (ما أطال عبد الأمل إلا أساء العمل) - ذكره القرطبي ثم قال: (وصدق رضي الله عنه! فالأمل يكسل عن العمل ويورث التراخي والتواني، ويعقب التشاغل والتقاعس، ويخلد إلى الأرض ويميل إلى الهوى. وهذا أمر قد شوهِدَ بالعيان فلا يحتاج إلى بيان ولا يُطْلَب صَاحبه ببرهان، كما أن قصر الأمل يبعث على العمل، ويُحيل على المبادرة، ويحثّ على المسابقة).

ويروى عن أبي الدرداء رضي الله عنه أنه قام على درج مسجد دمشق فقال: (يا أهل دمشق، ألا تسمعون من أخ لكم ناصح، إنَّ من كان قبلكم كانوا يجمعون كثيرًا ويبنون مشيّدًا ويأملون بعيدًا، فأصبح جمعهم بُورًا وبنيانهم قبورًا وأملهم غرورًا. هذه عاد قد ملأت البلاد أهلًا ومالًا وخيلًا ورجالًا، فمن يشتري مني اليوم تركتهم بدرهمين! وأنشد:

يا ذا المؤمل آمالًا وإن بَعُدَت

منه ويزعم أن يحظى بأقصاها

أنَّى تفوز بما ترجوه وَيْكَ وما

أصبحت في ثقة من نَيْل أدناها)

ص: 303

أخرج ابن أبي الدنيا بسند حسن من حديث ابن عمرو مرفوعًا: [نجا أوَّلُ هذه الأمة باليقين والزهد، ويَهلكُ آخرُها بالبُخْل والأمل](1).

وقوله تعالى: {وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ} .

تنبيه لأهل مكة ولمن سار على منهاجهم في الكفر والطغيان وتكذيب الرسل: بأنه ما أهلك الله قرية إلا بعد إقامة حجّته البالغة على أهلها، وبأنه سبحانه لا يؤخر هلاك أمة حان أجل عقابها ونزول الدمار فيها.

وقوله تعالى: {مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ} .

قال الزهري: (نرى أنه إذا حضر أجله، فإنه لا يؤخر ساعة ولا يقدّم، وأما ما لم يحضر أجله، فإن الله يؤخر ما شاء ويقدّم ما شاء).

وقال ابن جرير: (يقول تعالى ذكره: ما يتقدّم هلاك أمة قبل أجلها الذي جعله الله أجلًا لهلاكها، ولا يستأخر هلاكها عن الأجل الذي جعل لها أجلًا).

6 -

9. قوله تعالى: {وَقَالُوا يَاأَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (6) لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (7) مَا نُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَا كَانُوا إِذًا مُنْظَرِينَ (8) إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9)}.

في هذه الآيات: اتِّهامُ الكفار محمدًا صلى الله عليه وسلم بالجنون، وتنطُّعهم بطلب نزول الملائكة تشهد له بالنبوة إن كان من الصادقين، وردُّ الله تعالى عليهم طلبهم بأن الملائكة إنما تنزل بالرسالة على النبيين، أو بالعذاب على المجرمين، وتأكيدُ الله سبحانه أن هذا القرآن أنزله وتكفل بحفظه ولو كره الكافرون.

وعن الضحاك: ({وَقَالُوا يَاأَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ} قال: القرآن).

قال النسفي: ({إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ} يعنون محمدًا عليه السلام، وكان هذا النداء منهم على وجه الاستهزاء، كما قال فرعون: {إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ}).

(1) حديث حسن. أخرجه ابن أبي الدنيا في اليقين (3)، والأصبهاني في الترغيب (165)، والديلمي في زهر الفردوس (4/ 123)، وانظر صحيح الجامع - حديث رقم - (6622).

ص: 304

وقوله تعالى: {لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} .

أي: هلّا تأتينا بالملائكة شاهدة لك على صدق ما تقول إن كنت صادقًا في دعواك النبوة والرسالة واختيار الله لك بالوحي.

وفي التنزيل: - قال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا (21) يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ لَا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا} [الفرقان: 21، 22].

وقوله تعالى: {مَا نُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَا كَانُوا إِذًا مُنْظَرِينَ} .

قال مجاهد: ({مَا نُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ}، قال: بالرسالة والعذاب).

وهناك قراءات ثلاث متقاربات المعاني لقوله {نُنَزِّلُ} . فقد قرأها قراء المدينة والبصرة "ما تَنَزَّلُ"، أي الفعل للملائكة. وقرأها بعض أهل الكوفة:"ما نُنَزِّل"، وبعضهم قرأها "ما تُنَزَّلُ".

قال ابن جرير: (فتأويل الكلام: ما ننزل ملائكتنا إلا بالحق، يعني بالرسالة إلى رسلنا، أو بالعذاب لمن أردنا تعذيبه، ولو أرسلنا إلى هؤلاء المشركين على ما يسألون إرسالهم معك آية فكفروا لم ينظروا فيؤخروا بالعذاب، بل عوجلوا به كما فعلنا ذلك بمن قبلهم من الأمم حين سألوا الآيات فكفروا حينِ أتتهم الآيات، فعاجلناهم بالعقوبة). وقال القاسمي: ({وَمَا كَانُوا إِذًا مُنْظَرِينَ} أي مُؤخَّرِين).

وقوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} .

تقرير وتأكيد أن هذا القرآن أنزله الله وتكفل حفظه من التغيير والتحريف والتبديل.

قال قتادة: (فأنزله الله ثم حفظه، فلا يستطيع إبليس أن يزيد فيه باطلًا ولا ينتقص منه حقًا، حفظه الله من ذلك). قال: (وقيل: الهاء في قوله: {وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} من ذكر محمد صلى الله عليه وسلم، بمعنى: وإنا لمحمد حافظون ممن أراده بسوء من أعدائه).

قال النسفي: ({وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} وهو ردّ لإنكارهم واستهزائهم في قولهم: {يَاأَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ} ، ولذلك قال:{إِنَّا نَحْنُ} فأكّد عليهم أنه هو المنزل على القطع وأنه هو الذي نزله محفوظًا من الشياطين، وهو حافظه في كل وقت من الزيادة والنقصان والتحريف والتبديل، بخلاف الكتب المتقدمة فإنه لم يتول حفظها وإنما استحفظها الربانيين والأحبار فاختلفوا فيما بينهم بغيًا، فوقع التحريف، ولم يكل

ص: 305

القرآن إلى غير حفظه، وقد جعل قوله:{وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} دليلًا على أنه منزل من عنده آية، إذ لو كان من قول البشر أو غير آية لتطرق عليه الزيادة والنقصان كما يتطرق على كل كلام سواه. أو الضمير في "له" لرسول الله صلى الله عليه وسلم كقوله:{وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ} ).

وقال القاسمي: ({إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} أي من كل مَنْ بغى له كيدًا. فلا يزال نور ذكره يسري، وبحر هداه يجري، وظلال حقّيّته في علومه تمتد على الآفاق، ودعائم أصوله الثابتة تطاول السبع الطباق، رغمًا عن كيد الكائدين، وإفساد المفسدين. {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [الصف: 8]. وفي إيراد الجملة الثانية اسميةً، دلالة على دوام الحفظ).

قلت: والحفظ للذكر يتناول حفظ التأويل، وإقامة الحجة على مدار الزمان بصواب التفسير، وهذا يتضمن حفظ الوحي الثاني - ألا وهو السُّنة - المفسرة للوحي الأول: القرآن. كيف لا، وقد جاءت كلمة "الذكر" في موضع آخر من القرآن لتدل على ذلك.

قال تعالى في سورة النحل: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل: 44].

أي: وأنزلنا إليك السنة وهي السيرة، لتفسر بها للناس هذا القرآن.

قال الحافظ ابن كثير: ({لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} أي: من ربهم لعلمك بمعنى ما أنزل الله عليك وحرصك عليه).

فكلاهما في كِلاءة الله وحفظه، وقد تكفل الله بحماية فهم كتابه، ليبقى الدين بهذا النقاء والصفاء حجة الله على عباده.

فقد أخرج الإمام أحمد في المسند، عن أبي سعيد الخدري قال:[كنا جلوسًا ننتظر رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فخرج علينا من بعض بيوت نسائه، فقمنا معه، فانقطعت نعله، فتخلَّفَ عليها عليٌّ يَخْصِفُها، فمضى رسول الله صلى الله عليه وسلم ومضينا معه، ثم قام ينتظره، وقمنا معه، فقال: "إنَّ منكم من يقاتل على تأويل هذا القرآن كما قاتلت على تنزيله". فاستشرفنا وفينا أبو بكر وعمر، فقال: لا، ولكنه خاصف النعل. قال: فجئنا نبشِّرُه](1).

وفي رواية: (إنّ منكم من يقاتل على تأويله كما قاتلت على تنزيله. فقام أبو بكر

(1) حديث صحيح. أخرجه النسائي في "خصائص علي" ص (29)، وأخرجه أحمد في المسند (3/ 33)، وصححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة (2487).

ص: 306

وعمر، فقال: لا، ولكن خاصف النعل، وعليٌّ يخصِفُ نعله).

وجاء في تدريب الراوي للسيوطي، وفي "الباعث الحثيث" شرح اختصار علوم الحديث، عن عبد الله بن المبارك:(وقد سئل: هذه الأحاديث الموضوعة؟ فقال: تعيش لها الجهابذة: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}).

وجاء في: "الروض الباسم في الذّب عن سنة أبي القاسم" عن العلامة محمد بن إبراهيم الوزير قال: ({إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}: وهذا يقتضي أن شريعة رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تزال محفوظة، وسنّتَه لا تبرح محروسة).

وفي سنن أبي داود والبيهقي عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[إنّ الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مئة سنة مَنْ يُجَدِّدُ لها دينها] وسنده صحيح (1).

وأخرج ابن عدي في الكامل عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [يحمل هذا العلم من كل خلف عُدولُهُ، ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين](2).

10 -

15. قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ (10) وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (11) كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (12) لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ (13) وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (14) لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ (15)}.

في هذه الآيات: تَسْلِيةُ الله تعالى نبيّه بِوَصْلِهِ بسنن المرسلين، وقد جاؤوا أقوامهم بالبلاغ المبين، فكذبوهم وآذوهم واستهزؤوا بهم حتى طبع الله على قلوب المجرمين. فهم لا يؤمنون ولو أبصروا عظيم آيات الله في هذا الكون لقالوا نحن قوم مسحورون.

فعن ابن عباس: ({وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ} يقول: أمم الأولين). و {شِيَعِ} جمع شيعة، وشيعة الرجل: أولياؤه، والمقصود: تسلية النبي صلى الله عليه وسلم عما

(1) حديث صحيح. أخرجه أبو داود (4291)، والحاكم (4/ 522)، والبيهقي في "معرفة السنن والآثار"(ص 52)، وانظر سلسلة الأحاديث الصحيحة (599).

(2)

حديث حسن. انظر تخريج "مشكاة المصابيح"(248)، وصحح بعض طرقه الحافظ العلائي في "بغية الملتمس"، وانظر كتابي: أصل الدين والإيمان (1/ 269).

ص: 307

يلقاه من تكذيب قومه، بأنه ما أتى رسولٌ قبله في أمة إلا استهزؤوا به وكذبوه وعاندوه، وسخروا به وبمن تبعه، وتمردوا وعتوا في الأرض بغيًا وكبرًا. وهو قوله تعالى:{وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} .

وقوله تعالى: {كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (12) لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ} .

قال قتادة: (إذا كذبوا سلك الله في قلوبهم أن لا يؤمنوا به). وقال ابن جريج: ({كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ} قال: التكذيب). وقال الحسن: (الشرك). وقال ابن زيد: (هم كما قال الله، هو أضلهم ومنعهم الإيمان).

قال ابن جرير: (يقول تعالى ذكره: كما سلكنا الكفر في قلوب شيع الأولين بالاستهزاء بالرسل، كذلك نفعل ذلك في قلوب مشركي قومك الذين أجرموا بالكفر بالله {لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ} يقول: لا يصدّقون بالذكر الذي أنزل إليك. والهاء في قوله: {نَسْلُكُهُ} من ذكر الاستهزاء بالرسل والتكذيب بهم).

قلت: والآية دلالة على بعض عقوبات الله في حرمانه الهدى والهداية لمن استهزأ بفرصها وضيّعها، فإن للإيمان بالله ومتابعة الرسل مواسم وعزائم تتوجه نحو القلب فإن فوّتها ولم يكترث بها ربما لم تعد مرة أخرى، وكان الضياع والحرمان ثم الشقاء.

ففي صحيح مسلم عن حذيفة رضي الله عنه قال: كنا عند عمر فقال: أيكم سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر الفتن؟ فقال قوم: نحن سمعناه. فقال: لعلكم تَعْنون فتنةَ الرجل في أهله وماله وجاره؟ قالوا: أجل. قال: تِلكَ تُكفِّرُها الصلاة والصيام والصدقة، ولكن أيكم سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر التي تَموجُ موج البحر؟ قال حذيفة: فَأَسْكَتَ القومُ، فقُلتُ: أنا. قال: أنت لله أبوك؟ قال حذيفة: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: [تُعرض الفِتَنُ كالحصير عودًا عودًا، فأيُّ قَلبٍ أُشْرِبَها نُكِتَ فيه نكتةٌ سوداء، وأيُّ قَلب أنكرها نُكِتَ فيه نكتةٌ بيضاء، حتى يصير على قلبين: على أبيضَ مثل الصفا فلا تضرّه فتنةٌ ما دامت السماواتُ والأرضُ، والآخر مُرْبادًّا كالكوز مُجَخِّيًا، لا يعرف معروفًا ولا يُنْكِرُ منكرًا، إلّا ما أُشرِبَ من هواه](1).

وقوله: {وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ} .

قال قتادة: (وقائع الله فيمن خلا قبلكم من الأمم). وقال النسفي: (مضت طريقتهم

(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم. انظر مختصر صحيح مسلم (1990) - كتاب الفتن - باب: عرض الفتن على القلوب ونكتها فيه. وقوله "مربادًا": شدة البياض في سواد. و"مجخيًا": منكوسًا.

ص: 308

التي سنّها الله في إهلاكهم حين كذبوا رسله، وهو وعيد لأهل مكة على تكذيبهم).

وقوله تعالى: {وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (14) لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ} .

أي: ولو أريناهم أكبر آية - نحو فتح باب من السماء - ويسرنا لهم معراجًا يصعدون فيه إليها، وأبصروا من عظيم الآيات والدلائل على وجوب إفراد الله تعالى بالتعظيم، والتصديق بالوحي الذي نزل على محمد صلى الله عليه وسلم سيد المرسلين، لقالوا إنما هو شيء نتخايله لا حقيقة له، بل سحرنا محمد بذلك.

وعن مجاهد: ({سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا}، قال: سُدّت أبصارنا). وقال قتادة، عن ابن عباس:(أخذت أبصارنا). وقال العوفي، عن ابن عباس:(شبِّهَ علينا، وإنما سُحِرْنا). وقال الكلبي: (عَمِيت أبصارنا). وقال ابن زيد: ({سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا}، السكران الذي لا يَعْقِلُ). قال ابن جرير: (معنى ذلك: أخذت أبصارنا وسحرت، فلا تبصر الشيء على ما هو به، وذهب حدُّ إبصارها، وانطفأ نوره).

16 -

20. قوله تعالى: {وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ (16) وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ (17) إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ (18) وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ (19) وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ (20)}.

في هذه الآيات: تَذْكيرُ الله تعالى عباده ببعض آياته البديعة من خلقه، فقد خَلَقَ السماء وجعلها سبع طبقات لكل منها ارتفاعها وملائكتها وأفلاكها، وَزَيَّنَ السماء الدنيا بالنجوم والكواكب الثواقب تبهر الناظرين، وتطرد بشهبها الشياطين، إلا من استرق السمع فأتبعه شهاب مبين، والأرض بسطها سبحانه ومهّدها وثبّتها بالجبال الشامخات وأنبت فيها من كل شيء بقدر معلوم، رزقًا للعباد وَلِمَنْ لَسْتُم له من الخلق برازقين.

فقوله: {وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا} . قال مجاهد: (كواكب). وقال قتادة: (وبروجها: نجومها).

وقوله: {وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ} . قال ابن جرير: (يقول: وزينا السماء بالكواكب لمن نظر إليها وأبصرها).

ص: 309

وقوله تعالى: {وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ (17) إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ} .

قال ابن عباس: (إن الشهب لا تقتل، ولكن تحرق وتخبل (1) وتجرح من غير أن تقتل).

والمقصود: أن الله تعالى قد حفظ السماء الدنيا من كل شيطان لعين أن يسترق الخبر يقضيه سبحانه في السماء، كما كانوا يفعلون قبل بعثة النبي عليه الصلاة والسلام، ولكن ربما خطف بعضهم جزءًا من الخبر قبل أن يحرقه الشهاب فيضيف عليه مئة كذبة فيصدق عند الجهال في الأرض بتلك الكلمة التي ألقاها إلى الساحر وأضاف لها ما أضاف من الكذب لتصبح قصة لها بداية ونهاية.

فقد أخرج البخاري في صحيحه - عند تفسير هذه الآية - عن أبي هريرة يبلغُ به النبي صلى الله عليه وسلم قال: [إذا قضى الله الأمرَ في السماء ضَرَبت الملائكةُ بأجنحتها خُضْعانًا لقوله كأنه سلسلة على صفوان - قال عليُّ: وقال غيرُه: صَفْوانٍ يَنْفُذُهُمْ، ذلكَ - فإذا فُزِّغَ عن قلوبِهم قالوا: ماذا قال ربّكُم؟ قالوا للذي قال: الحَقَّ وهو العليُّ الكبيرُ، فَيَسْمَعُها مُسْتَرِقُو السمع، ومسترِقُو السَّمع هكذا، واحِدٌ فوقَ آخرَ.- ووصف سفيانُ بيده وفرَّج بين أصابع يده اليمنى، نصبها بعضَها فوْقَ بعض - فربَّما أدركَ الشِّهابُ المستَمِعَ قبل أن يَرْميَ بها إلى صاحِبهِ فَيُحْرِقَهُ، وَرُبَّما لم يُدْرِكْهُ حتى يَرْمِيَ بها إلى الذي يليه، إلى الذي هو أسْفَلُ منه حتى يُلْقوها إلى الأرض - وَرُبَّما قال سفيانُ: حتى تنتَهِيَ إلى الأرض، فَتُلْقى على فَم السّاحر فَيَكْذِبُ معها مئة كَذْبَةٍ، فَيُصَدَّقُ فيقولون: ألم يُخْبِرْنا يَوْمَ كذا وكذا يكونُ كذا وكذا؟ فوجَدْناهُ حَقًّا - للكلمة التي سُمِعَتْ مِنَ السماء](2).

وفي التنزيل:

1 -

قال تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا} [الفرقان: 61].

2 -

وقال تعالى: {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ} [الملك: 5].

(1) الخبل: فساد الأعضاء.

(2)

حديث صحيح. أخرجه البخاري (4701) - كتاب التفسير - سورة الحجر، آية (18)، وأخرجه أبو داود (3989)، والترمذي (3223)، وابن ماجه (194)، وابن حبان (36).

ص: 310

وقوله: {وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ} . أي: دحوناها فبسطناها ومهدناها وجعلنا على بعض أجزائها الجبال الثابتات.

قال قتادة: ({وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا}. وقال في آية أخرى: {وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا} [النازعات: 30]. وذُكِرَ لنا أن أمّ القرى مكة، مِنْها دُحيت الأرض. قوله: {وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ} رواسيها: جبالها).

وقوله: {وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ} . يعني أنبت فيها سبحانه من الزروع والثمار المتناسبة.

قال ابن عباس: (أي: معلوم). وقال ابن زيد: (من كل شيء يُوزَنُ ويُقَدَّر بِقَدَر).

وقال ابن زيد: (ما تزِنهُ الأسواقُ).

قال القاسمي: (أي وزن بميزان الحكمة، وقُدِّرَ بمقدار تقتضيه، لا يصلح فيه زيادة ولا نقصان. أو بمعنى مستحسن متناسب من قولهم: كلام موزون).

وقوله تعالى: {وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ} .

المعايش: جمع معيشة. قال الحسن: (إنها الملابس). وقيل: (إنها التصرف في أسباب الرزق مدة الحياة) - قال الماوردي: (وهو الظاهر). قال القرطبي: ({وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ} يعني المطاعم والمشارب التي يعيشونَ بها).

وعن مجاهد: ({وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ} قال: الدواب والأنعام). وقال منصور: (الوحش). قال ابن جرير: (وأحسن أن يقال: عني بقوله {وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ} من العبيد والإماء والدواب والأنعام).

قال ابن كثير: (والقصْدُ أنه تعالى يمتنّ عليهم بما يَسَّرَ لهم من أسباب المكاسب ووُجوه الأسباب وصُنوف المعايش، وبما سَخَّرَ لهم من الدواب التي يركبونها والأنعام التي يأكلونها، والعبيد والإماء التي يستخدمونها، ورزقُهم على خالقهم لا عَليهم، فلهم هو المنفعة، والرزق على الله تعالى).

21 -

25. قوله تعالى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (21) وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ

ص: 311

بِخَازِنِينَ (22) وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ (23) وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ (24) وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (25)}.

في هذه الآيات: إِثْباتُ خزائن منافع العباد بيد الله تعالى وإنما تصريف ذلك حسب مشيئته وحكمته جلت صفاته، وإِثْباتُ إرسال الله الرياح حوامل ملقحة تحمل الماء والتراب والخير والنفع الكثير، وكذلك المطر المنهمر والحياة والموت بأمر الله العزيز الكبير، الذي علم الأرزاق والآجال والأعمال والمرجع إليه وهو الحكيم الخبير.

فقوله تعالى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ} .

أي: كل خزائن منافع العباد عند الله تعالى وهو ينزل من ذلك بحكمته وتقديره.

يروي ابن جرير بسنده عن أبي جحيفة، عن عبد الله، قال:(ما من عام بأمطر من عام، ولكن الله يصرفه عمن يشاء، ثم قال: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ}).

وفي لفظ، قال عبد الله بن مسعود:(ما من عام بأمطر من عام، ولكن الله يقسمه حيث شاء، عامًا ها هنا وعامًا ها هنا، ثم قرأ: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ}).

قلت: فخزائن صنوف جميع الأشياء عند الله تعالى، ينزل منها بحكمته فيغطي بذلك حاجات عباده أو بعضها، أو يعاقبهم فيحرمهم من إنزالها، وينزل المعونة برحمته على قدر المؤنة، وينزل الفرج والصبر على قدر المصيبة.

يروي الحاكم والبيهقي بسند صحيح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [إنّ المعونة تأتي من الله للعبد على قَدْر المؤنة (1)، وإن الصبر يأتي من الله على قدْر البلاء](2). وفي رواية: (على قدر المصيبة).

وفي لفظ آخر: [إنّ الله يُنزِلُ المعونة على قدر المؤنة، وينزل الصبر على قدر البلاء].

(1) المؤنة: القوت، ويقال أيضًا: المؤونة. والجمع: مُؤن، ومؤونات.

(2)

حديث صحيح. أخرجه البزار في "مسنده"(ص 156)، وابن عدي في "الكامل"(206/ 1)، وابن عساكر (5/ 205/ 2)، ورواه الحاكم والبيهقي. انظر صحيح الجامع (1948)(1915)، وسلسلة الأحاديث الصحيحة - حديث رقم - (1664).

ص: 312

وقوله: {وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ} - أي: حوامل، تحمل الماء والتراب والسحاب والخير والنفع الكثير. وهي في الحقيقة لاقحة ملقحة، ولقحها: حملها الماء وإلقاحها السحاب والشجر: عملها فيه. قال ابن مسعود: (يرسل الله الرياح فتحمل الماء، فتجري السحاب، فتدر كما تدر اللقحة ثم تمطر) - ذكره بسنده ابن جرير، ثم قال:(فقد بين عبد الله بقوله: يرسل الرياح فتحمل الماء أنها هي اللاقحة بحملها وإن كانت ملقحة بإلقاحها السحاب والشجر).

وعن الحسن: ({وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ} قال: لواقح للشجر، قلت: أو للسحاب؟ قال: وللسحاب تمريه حتى يمطر).

وقوله: {فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ} . قال القرطبي: ({فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ} أي من السحاب. وكل ما علاك فأظلّكَ يسمى سماء. وقيل: من جهة السماء. {مَاءً} أي قطرًا. {فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ} أي جعلنا ذلك المطر لسقياكم ولشرب مواشيكم وأرضكم).

وفي لغة العرب: سقيته الماء أي ليشرب هو، وأسقيته الماء: إذا جعلت له ماءً لشربه ولشرب أرضه وماشِيَتِه.

وقوله: {وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ} . قال سفيان: (بِمَانِعين). قال ابن كثير: (ويَحتمِلُ أنّ المراد: وما أنتم له بحافظين، بل نحن ننزِلُه ونحفظُه عليكم، ونجعَلُه مَعِينًا وينابيعَ في الأرض، ولو شاء تعالى لأغارَه وذَهَبَ به، ولكن مِنْ رحمتِه أنزله وجعله عذبًا، وَحَفِظَهُ في العُيون والآبار والأنهار وغير ذلك، ليبقى لهم في طول السَّنةِ يشربون ويُسقُون أنعامَهُم وزُروعهم وثمارهم).

وفي التنزيل:

1 -

قال تعالى: {أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (68) أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ (69) لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ} [الواقعة: 68 - 70].

2 -

وقال تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ} [النحل: 10].

3 -

وقال تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ} [الملك: 30].

أخرج الحاكم على شرط الشيخين عن ابن عباس قال: [ما من عامٍ بأكثر مطرًا من

ص: 313

عام، ولكن الله يصرفه بين خلقه حيث يشاء، ثم قرأ:{وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا (50)} ] (1).

وله شاهد عند البغوي في "معالم التنزيل" من حديث ابن مسعود يرفعه: [ليس من سنة بأمَرَّ من أخرى، ولكن الله قسم هذه الأرزاق، فجعلها في السماء الدنيا في هذا القطر، ينزل منه كل سنة بكيل معلوم، ووزن معلوم، وإذا عمل قوم بالمعاصي حول الله ذلك إلى غيرهم، فإذا عصوا جميعًا صرف الله ذلك إلى الفيافي والبحار](2).

وقوله تعالى: {وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ} .

قال النسفي: (أي نحيي بالإيجاد ونميت بالإفناء، أو نميت عند انقضاء الآجال ونحيي لجزاء الأعمال على التقديم والتأخير إذ الواو للجمع المطلق {وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ} الباقون بعد هلاك الخلق كلهم).

وقوله تعالى: {وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ} .

قال عكرمة: (هم خلق الله كلهم، قد علم من خلق منهم إلى اليوم، وقد علم من هو خالقه بعد اليوم). وقال قتادة: (المستقدمين: من مضى، والمستأخرين: من بقي في أصلاب الرجال). وقال مجاهد: (من مات ومن بقي).

وكان الحسن يقول: (المستقدمون في طاعة الله، والمستأخرون في معصية الله).

وعن أبي الجوزاء قال: (المستقدمين منكم في الصفوف في الصلاة والمستأخرين).

قلت: وكل ما سبق داخل في تأويل هذه الآية، كما أن النّص الصحيح جاء في تأكيد التفسير في صفوف القوم في الصلاة.

فقد أخرج الترمذي بسند صحيح عن ابن عباس قال: [كانت امرأة تُصلي خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم، حسناء من أحسن الناس، وكان بعض القوم يتقدم حتى يكون في الصف الأول لأن لا يراها، ويستأخر بعضهم حتى يكون في الصف المؤخر، فإذا ركع

(1) حديث صحيح. أخرجه الحاكم (2/ 403)، وابن جرير في "التفسير"(19/ 15)، وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي، وأقره الألباني في الصحيحة (2461).

(2)

حديث صحيح. انظر "معالم التنزيل"(6/ 184 - منار)، والمرجع السابق (ج 5) ص (593).

ص: 314

نظر من تحت إبطيه، فأنزل الله تعالى:{وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ} ] (1).

وله أصل من حديث سفيان الثوري، أخرجه الحاكم عن رجل عن أبي الجوزاء عن ابن عباس رضي الله عنهما قال:({الْمُسْتَقْدِمِينَ}: الصفوف المقدمة، و {الْمُسْتَأْخِرِينَ}: الصفوف المؤخرة)(2).

وأخرج ابن مردويه عن داود بن صالح قال: [قال سهل بن حنيف الأنصاري: أتدرون فيم أنزلت: {وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ. .} الآية؟ قلت: في سبيل الله، قال: لا، ولكنها في صفوف الصلاة](3).

وقد زعم ابن كثير رحمه الله في الحديث السابق - حديث الترمذي - نكارة شديدة، ربما يعني أنه لا يعقل لأحد من المصلين التأخر للصف الآخر لينظر إلى امرأة. والجواب على ذلك بأن يقال: إذا ورد الأثر بطل النظر، ويحتمل عندئذ أن يكون الناس المستأخرون من المنافقين أو ممن أسلم حديثًا ولم ترسخ آداب الإسلام في سلوكهم.

ومن جهة أخرى، فالعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فمع أن المعنى المستفاد من سبب النزول يختلف قليلًا عما تدل عليه الآية بسباقها وسياقها، فإن عموم اللفظ يتسع لذلك، وقد اختار شيخ المفسرين الإمام ابن جرير رحمه الله حمل الآية على هذا العموم حيث قال:(وجائز أن تكون نزلت في شأن المستقدمين في الصف لشأن النساء، والمستأخرين فيه لذلك، ثم يكون الله عز وجل عمّ بالمعنى المراد منه جميع الخلق، فقال جلّ ثناؤه لهم: قد علمنا ما مضى من الخلق وأحصيناهم وما كانوا يعملون ومن هو حيّ منكم، ومن هو حادث بعدكم أيها الناس! وأعمال جميعكم، خيرها وشرها، وأحصينا جميع ذلك، ونحن نحشرهم جميعهم فنجازي كلًا بأعماله إن خيرًا فخير، وإن شرًا فشر، فيكون ذلك تهديدًا ووعيدًا للمستأخرين في الصفوف لشأن النساء، ولكل من تعدى حد الله وعمل بغير ما أذن له به، ووعدًا لمن تقدّم في الصفوف لسبب النساء وسارع إلى محبة الله ورضوانه في أفعاله كلها).

(1) حديث صحيح. أخرجه الترمذي (3341) - أبواب تفسير القرآن - سورة الحِجْر، وانظر صحيح سنن الترمذي (2497)، وسلسلة الأحاديث الصحيحة (2472).

(2)

انظر: مستدرك الحاكم (2/ 353)، والمرجع السابق (ج 5) ص (610).

(3)

انظر: "الدر المنثور"(4/ 97)، وسلسلة الأحاديث الصحيحة (ج 5) ص (610)، وهو شاهد للحديث السابق الذي رواه الترمذي والطيالسي.

ص: 315

وقوله تعالى: {وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} .

قال قتادة: ({وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ}: أي الأول والآخر). وقال عكرمة: (هذا من ها هنا، وهذا من ها هنا). وعن عطاء، عن ابن عباس قال:(وكلهم ميت، ثم يحشرهم ربهم). وقال الحسن: (قال عليّ: قال داود: سمعت عامرًا يفسر قوله {إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} يقول: إن ربك حكيم في تدبيره خلقه في إحيائهم إذا أحياهم، وفي إماتتهم إذا أماتهم، عليم بعددهم وأعمالهم، وبالحيّ منهم والميت، والمستقدم منهم والمستأخر). وقال قتادة: (كل أولئك قد علمهم الله، يعني المستقدمين والمستأخرين).

26 -

38. قوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (26) وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ (27) وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (28) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (29) فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (30) إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (31) قَالَ يَاإِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (32) قَالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (33) قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (34) وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ (35) قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (36) قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (37) إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (38)}.

في هذه الآيات: إخبار الله تعالى عن خلقه الإنسان من صلصال من طين، والجان من نار السموم، وذِكْرُ خبر أمر الله الملائكة السجود لآدم وجدال إبليس المتكبر اللعين، الذي كتب الله عليه لعنته إلى يوم الدين، ثم أنظره فتنة للعالمين، إلى يوم الوقت المعلوم.

فقوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ} .

قال ابن عباس: (خلق آدم من صلصال من حمأ ومن طين لازب، وأما اللازب: فالجيد، وأما الحمأ: فالحمأة، وأما الصَّلصال: فالتراب المرقَّق، وإنما سمي إنسانًا لأنه عهد إليه فنسي). وقال قتادة: (والصلصال: التراب اليابس الذي يسمع له

ص: 316

صلصلة). أو قال: (الطين اليابس له صلصلة). والحمأ: جمع حَمأة، وهو الطين المتغيِّر إلى السواد. والمسنون الأملس.

والمقصود: أن الله تعالى خلق الإنسان الأول - آدم عليه السلام من قبضة من تراب جمعها من كل ترب الأرض، فجعلها في يده كالصلصال من الطين المتغير - إلى السواد - الأملس.

وفي التنزيل:

1 -

قال تعالى: {خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ (14) وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ} [الرحمن: 14، 15].

2 -

وقال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ} [الروم: 20].

وفي سنن أبي داود والترمذي بسند صحيح عن أبي موسى، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[إنّ الله خلقَ آدم من قَبْضَةٍ قَبَضَها من جميع الأرض، فجاء بنو آدم على قَدْر الأرض، جاء منهم الأحمر والأسود والأبيض، وبين ذلك، والخبيث والطيِّبُ، وبين ذلك](1).

وقوله تعالى: {وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ} .

أي: وكان خلق إبليس - وهو أبو الجن - من قبل خلق الإنسان، خلقه الله من نار السموم.

قال ابن عباس: (السموم الحارّة التي تقتل). وقال الضحاك: (من لهب النار).

وقيل: (من أحسن النار). قال ابن كثير: (ومقصود الآية التنبيه على شرف آدم عليه السلام، وطيب عنصره، وطهارة مَحْتِده (2)).

وفي صحيح مسلم عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [خُلِقت الملائكة من نور، وخُلِقَ الجان من مارج من نار، وخُلِقَ آدم مما وصف لكم](3).

(1) حديث صحيح. أخرجه أبو داود (4693)، والترمذي (2955)، وأحمد (4/ 400)، والحاكم (2/ 261 - 262)، وأخرجه ابن حبان (6160)، وقال الترمذي: حسن صحيح.

(2)

المحتد: الأصل والجوهر.

(3)

حديث صحيح. أخرجه مسلم في الصحيح (8/ 226). وانظر مختصر صحيح مسلم (2169) ص (578). وقوله: "مما وصف لكم": أي من طين.

ص: 317

ثم ذكر تعالى تنويهَه بذكر آدم عليه السلام في ملائكته، وأمره لهم بالسجود له تشريفًا له وتكريمًا، وشمل الأمر إبليس الذي اعترته الحمية، وتعزّز بخلقة النار، واستوهن خلق الصلصال، فأتبعه الله السخطة واللعنة وطرده من الجنة والرحمة، فسأل الله النظرة، فأعطاه سبحانه النظرة، استكمالًا للبلية، واستحقاقًا للسخطة إلى يوم الدين. وقد مضى تفصيل ذلك في أول سورة البقرة، فلله الحمد والمنة.

39 -

44. قوله تعالى: {قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (40) قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (41) إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ (42) وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ (43) لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ (44)}.

في هذه الآيات: تَعَهُّدُ إبليس إغواء ذرية آدم إلا عباد الله المخلصين، الذين سيحميهم الله من محاولاته ومكره إلا من اتبعه من الغاوين. فإن جهنم موعدهم أجمعين. لها سبعة أبواب قد كُتب لكل باب منها جزء من أتباع إبليس منه يلجون.

فقوله: {قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي} . أي: بسبب إغوائك. وقيل: أقسم بإغواء الله له.

وقوله: {لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ} . قال ابن جرير: (لأحسننّ لهم معاصيك، ولأحببنّها إليهم في الأرض).

وقوله: {وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} . أي: لأصرفنهم عن سبيل الهدى والرشاد، إلى سبيل الغي والضلال.

وقوله تعالى: {إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} . قال الضحاك: (يعني: المؤمنين). وقال قتادة: (هذه ثَنِيَّةُ الله تعالى ذكره).

وفي التنزيل:

{أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء: 62].

ومن كنوز السنة المطهرة في آفاق مفهوم الآية أحاديث، منها:

الحديث الأول: أخرج الحاكم والبيهقي بسند صحيح في الشواهد عن أبي سعيد

ص: 318

- رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:[إنّ الشيطان قال: وعزتك يا رب لا أبرح أغوي عبادك ما دامت أرواحهم في أجسادهم، فقال الرب تبارك وتعالى: وعزتي وجلالي: لا أزال أغفر لهم ما استغفروني](1).

الحديث الثاني: أخرج الإمام أحمد بسند صحيح من حديث الحارث الأشعري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [وآمركم أن تذكروا الله تعالى، فإن ذلك كمثل رجل خرج العدو في إثره سراعًا حتى إذا أتى على حصن حصين، فأحرز نفسه منهم، كذلك العبد لا يَحْرِزُ نفسَهُ من الشيطان إلا بذكر الله تعالى](2).

الحديث الثالث: أخرج الحاكم بسند صحيح عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب الناس في حجة الوداع فقال: [إنّ الشيطان قد يَئِسَ أن يُعبد بأرضكم، ولكن رضي أن يُطاعَ فيما سوى ذلك مما تحاقرون من أعمالكم، فاحذروا، إني قد تركتُ فيكم ما إن اعتصمتم به فلن تضلوا أبدًا، كتابَ الله، وسنّة نبيّه. . .].

وأصله في صحيح مسلم من حديث جابر بلفظ: [إن الشيطان قد أيسَ أن يَعْبُدَه المصلون في جزيرة العرب، ولكن في التحريش بينهم](3).

وقوله تعالى: {قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ} .

قال مجاهد: (الحق يرجع إلى الله، وعليه طريقه، لا يعرِّج على شيء). وقيل المعنى: المرجع إلى الله ثم الجزاء والحساب.

وعن ابن سيرين: (أنه كان يقرأ {هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ} يعني: رفيع).

واختار ابن جرير القراءة الأولى {عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ} وهي الأشهر.

(1) صحيح لشواهده. أخرجه الحاكم (4/ 261)، والبيهقي في "الأسماء"(ص 134)، وأخرجه البغوي في "شرح السنة"(1/ 146)، وأحمد (3/ 29)، وانظر سلسلة الأحاديث الصحيحة - حديث رقم - (104)، فضيلة الاستغفار والذكر.

(2)

حديث صحيح. رواه أحمد في "المسند"(4/ 202)، والترمذي (2867) - (2868)، في الأمثال، باب ما جاء في مثل الصيام والصلاة والصدقة، وهو جزء من حديث طويل.

(3)

حديث صحيح. أخرجه مسلم (8/ 138)، والترمذي (3/ 127)، وأحمد (3/ 313)، والحاكم باللفظ الأول، وأخرجه أبو يعلى (2/ 577)، وانظر سلسلة الأحاديث الصحيحة (1608).

ص: 319

والخلاصة في تأويل الآية:

التأويل الأول: طريق الحق مرجعُها إلى الله تعالى، وإليه تنتهي، كما قال سبحانه:{وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ} [النحل: 9].

التأويل الثاني: أي مرجعكم كُلّكُم إليّ، وهو تهديد وتوعد من الله لإبليس ومن تبعه - ثم أجازيكم بأعمالكم، إن خيرًا فخير، وإن شرًا فشر. كما قال تعالى:{إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} [الفجر: 14].

وكلاهما مما يحتمل من التأويل، ويتسع له البيان الإلهي المعجز.

وقوله تعالى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} .

تأكيد على حماية الله تعالى عباده المؤمنين المخلصين من سبيل الشياطين.

قال ابن جرير: (يقول تعالى ذكره: إن عبادي ليس لك عليهم حجة، إلا من اتبعك على ما دعوته إليه من الضلالة ممن غوى وهلك).

وقوله تعالى: {وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ} .

تأكيد لمكان مستقر الطغاة والمجرمين، وهي جهنم موعد الكفار أجمعين.

قال ابن كثير: (أي: جهنّم موعدُ جميع من اتَّبعَ إبليس، كما قال عن القرآن: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ} [هود: 17]).

وقوله تعالى: {لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ} .

إخبار من الله تعالى عن جهنم، أن لها سبعة أبواب، قد كُتب لكل باب منها جزءٌ من أتباع إبليس، اختارهم الله لذلك الباب لولوج جهنم منه حسب أعمالهم وتبعًا لجرائمهم. قال قتادة:(هي والله منازلُ بأعمالهم).

قلت: ونار جهنم كما أن لها سبعة أبواب، كذلك لها سبعون ألف زِمام (1).

ففي صحيح مسلم عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [يؤتى بجهنم يومئذ لها سبعون ألف زمام، مَعَ كل زمام سبعون ألف ملك يجرُّونها](2).

(1) الزمام: ما يزم به الشيء، أي يشد به ويربط.

(2)

حديث صحيح. أخرجه مسلم في الصحيح (8/ 149)، وانظر مختصر صحيح مسلم - حديث رقم - (1975)، كتاب صفة النار، باب: في ذكر أزِمّة النار.

ص: 320

45 -

50. قوله تعالى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (45) ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ (46) وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ (47) لَا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ (48) نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ (50)}.

في هذه الآيات: نَعْتُ الله حال المتقين، فهم يوم الخلود في جنات وعيون، يدخلونها بسلام آمنين، لا غل ولا حسد ولا حقد في قلوبهم على سرر متقابلين، لا يمسهم فيها أي تعب وما هم منها بمخرجين، فإن الله هو الغفور الرحيم، وإن عذابه هو العذاب الأليم.

فقوله تعالى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} - بيان للصورة المقابلة، فأهل النار في جحيم وسموم، وأهل الجنة في جنات وعيون. فإن جزاء التقوى الجنة.

وقوله تعالى: {ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ} .

قال ابن كثير: ({ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ}، أي: سالمين من الآفات، مُسَلّمًا عليكم، {آمِنِينَ} أي: من كل خوف وفزَع، ولا تخشوا من إخراج ولا انقطاع ولا فناءٍ).

قلت: ويدخل أولًا السابقون السابقون، ثم أصحاب اليمين.

ففي التنزيل:

1 -

قال تعالى: {قُلْ يَاعِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر: 10].

2 -

وقال تعالى: {وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ} [غافر: 40].

3 -

وقال تعالى: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ} [الواقعة: 10 - 12].

ومن كنوز صحيح السنة في ذلك أحاديث:

الحديث الأول: يروي الحاكم والبيهقي بسند صحيح عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [أتعلمُ أولَ زمرة تدخل الجنة من أمتي؟ قلت: الله ورسوله أعلم؟ فقال: المهاجرون، يأتون يوم القيامة إلى باب الجنة ويستفتحون، فيقول لهم الخزنة: أوقد حوسبتم؟ فيقولون: بأي شيء نحاسبُ وإنما كانت أسيافنا

ص: 321

على عواتقنا في سبيل الله حتى متنا على ذلك؟ قال: فيفتح لهم فيقيلون فيها أربعين عامًا قبل أن يدخلها الناس] (1).

وأما صفة دخول الزمر الجنة - فتدخل الزمرة الأولى، ثم الزمرة الثانية. وتفصيل ذلك:

الحديث الثاني: أخرج الإمام مسلم من حديث أبي هريرة مرفوعًا: [أول زمرةٍ تَلِجُ الجنة صورتهم على صورة القمر ليلة البدر لا يبصُقون فيها، ولا يمتخطون ولا يتغوَّطونَ، آنيتُهم فيها الذهب، وأمشاطهم من الذهب والفضة، ومجامِرُهُم الألُوَّة، ورشْحُهم المِسك، ولكل واحد منهم زوجتان، يُرى مُخُّ سُوقِها من وراء اللحم من الحُسْن، لا اختلاف بينهم ولا تباغُض، قلوبهم قلبٌ واحد، يسبحون الله بكرة وعشيًا](2).

الحديث الثالث: أخرج الإمام أحمد بسند صحيح عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [أول زمرة تدخل الجنة على صورة القمر ليلة البدر، والثانية على لونٍ أحسنَ من كوكب دري في السماء، لكل رجل منهم زوجتان، على كل زوجة سبعون حُلّة، يبدو مُخُّ ساقها من ورائها](3).

وقوله تعالى: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} .

قال علي رضي الله عنه: (إني لأرجو أن أكون أنا وعثمان وطلحة والزبير منهم).

قال النسفي: ({وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ} وهو الحقد الكامن في القلب، أي إن كان لأحدهم غل في الدنيا على آخر نزع الله ذلك في الجنة من قلوبهم وطيّب نفوسهم. قال: وقيل معناه: طهّر الله قلوبهم من أن يتحاسدوا على الدرجات في الجنة ونزع منها كل غل وألقى فيها التوادد والتحابب {إِخْوَانًا} حال {عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} كذلك قيل تدور بهم الأسِرّة حيثما داروا فيكونون في جميع أحوالهم متقابلين يرى بعضهم بعضًا).

(1) حديث صحيح. أخرجه الحاكم (2/ 70) على شرط مسلم، ورواه البيهقي وصححه الألباني، انظر صحيح الجامع (95)، وسلسلة الأحاديث الصحيحة (853).

(2)

حديث صحيح. أخرجه مسلم في الصحيح (8/ 146). وانظر مختصر صحيح مسلم (1956)، (1957)، وصحيح الجامع (2561) - (2563)، ورواه البخاري وغيره.

(3)

حديث صحيح. أخرجه أحمد (3/ 16)، والترمذي (2/ 85 - 87)، وانظر صحيح مسلم (8/ 146)، وصحيح ابن حبان (2631)، (2632).

ص: 322

أخرج البخاري وأحمد من حديث أبي سعيد الخدري، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:[يخلص المؤمنون من النار، فَيُحْبَسُون على قنطرةٍ بين الجنة والنار، فيُقتصّ لبعضهم من بعض، مظالمُ كانت بينهم في الدنيا، حتى إذا هُذِّبُوا ونُقّوا أُذِنَ لهُم في دخول الجنة](1).

وقوله تعالى: {لَا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ} .

أي: لا ينالهم تعب في الجنة، بل هم في راحة دائمة ولذة مستمرة، في إقامة سرمدية لا منغّصَ لها ولا قاطع.

والنصب: التعب والمشقة والأذى، وقد ورد ذكر نفي ذلك - في السنة - في شأن خديجة رضي الله عنها في بيت خاص لها في الجنة.

فقد أخرج البخاري من حديث أبي هريرة قال: [أتى جبريل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، هذه خديجة قد أتَتْ معها إناء فيه إدامٌ أو طعامٌ أو شرَابٌ، فإذا هي أتَتْكَ فاقرأ عليها السلام من ربِّها ومِنّي، وبَشِّرها بِبَيْتٍ في الجنة من قَصَبٍ، لا صَخبَ فيه ولا نَصَب](2).

وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [مَنْ يدخل الجنة يَنْعَمُ لا يَبْأَسُ، لا تَبْلى ثيابُه ولا يَفْنى شبابُه](3).

وقوله تعالى: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ} .

جَمْعٌ بين الخوف والرجاء، والرغبة والرهبة، وعليهما بناء التوازن في العبادة.

وقد حفلت السنة الصحيحة بآفاق هذا المعنى في أحاديث:

الحديث الأول: أخرج البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: [إن اللهَ خلَقَ الرَّحْمة يَوْمَ خلقها مِئَةَ رحْمة، فأمْسكَ عِنده تِسْعًا وتِسْعين رَحْمةً، وأرسَلَ في خلقِهِ كلّهم رحمة واحِدة، فلو يعلم الكافِر بكل الذي

(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (2440)، وأحمد (3/ 13)، وغيرهما.

(2)

حديث صحيح. أخرجه البخاري (3820)، كتاب مناقب الأنصار، وانظر صحيح مسلم (2434).

(3)

حديث صحيح. أخرجه مسلم (2836)، كتاب الجنة ونعيمها، باب في دوام نَعيم أهل الجنة.

ص: 323

عند الله من الرحمة لم يَيْأَسْ من الجنة، ولو يَعْلمُ المؤمنُ بكل الذي عند الله من العذاب لم يأمَنْ من النار] (1).

الحديث الثاني: أخرج البزار بسند حسن عن أبي سعيد مرفوعًا: [لو تعلمون قَدْرَ رحمةِ الله لاتكلتم عليها].

ورواه ابن أبي الدنيا من حديث ابن عمر مرفوعًا: [لو تَعْلمون قَدْر رحمةِ الله عز وجل، لاتّكلتم وما عَمِلْتُم مِنْ عَمَلٍ، ولو عَلِمْتُم قَدْر غَضَبِهِ ما نفعكم شيء](2).

الحديث الثالث: أخرج عبد الله بن أحمد في "زوائد الزهد" بسند حسن عن أنس: [أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على شاب وهو بالموت، فقال: كيف تجدك؟ قال: والله يا رسول الله إني أرجو الله، وإني أخاف ذنوبي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يجتمعان في قلب عبد في مثل هذا الموطن، إلا أعطاه الله ما يرجو، وأمّنه مما يخاف](3).

51 -

60. قوله تعالى: {وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ (51) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ (52) قَالُوا لَا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ (53) قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ (54) قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ (55) قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ (56) قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (57) قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (58) إِلَّا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ (59) إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ (60)}.

في هذه الآيات: ذِكْر الله خبر الملائكة الذين أرسلهم الله لاستئصال قوم لوط المجرمين، فنزلوا ضيوفًا عند إبراهيم، فخاف منهم فبشروه بغلام عليم، كما بشروه بهلاك قوم آثمين، وبنجاة آل لوط إلا امرأته كانت من الغابرين.

(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (6469)، كتاب الرقاق، باب الرجاء مع الخوف، وانظر صحيح مسلم (2755)، وسنن الترمذي (3542)، ومسند أحمد (2/ 334).

(2)

حديث حسن. أخرجه ابن أبي الدنيا في "حسن الظن"(2/ 193/ 1)، وقال الهيثمي (10/ 213):"رواه البزار، وإسناده حسن". انظر سلسلة الأحاديث الصحيحة (2167).

(3)

حديث حسن. أخرجه عبد الله بن أحمد في "زوائد الزهد"(ص 24/ 25)، وابن أبي الدنيا كما في "الترغيب"(4/ 141)، ورواه الترمذي وغيرهم.

ص: 324

فقوله تعالى: {وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ} . أي: أخبر عبادي - يا محمد - عن الملائكة الذين دخلوا ضيفًا على إبراهيم عليه الصلاة والسلام، حين بعثهم الله لإهلاك قوم لوط المجرمين.

وقوله تعالى: {إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ} .

إخبار من الله سبحانه عن الملائكة الذين نزلوا على إبراهيم الخليل صلى الله عليه وسلم، فباشروه بالسلام، لكنه ما لبث أن أوجس منهم خيفة حينما رأى أيديهم لا تصل إلى العجل السمين الحنيذ الذي قرّبه إليهم ضيافة منه لهم. فقال:{إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ} - أي خائفون.

وقوله تعالى: {قَالُوا لَا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ} .

أي قالوا له لا تخف، {وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ} [الذاريات: 28]، وهو إسحاق عليه الصلاة والسلام.

وقوله تعالى: {قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ} .

قال مجاهد: (عجب من كبره، وكبر امرأته).

وقوله تعالى: {قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ} .

قال ابن جرير: (قال ضيف إبراهيم له: بشرناكَ بحقّ يقين، وعلم منَّا بأن الله قد وهب لكَ غلامًا عليمًا، فلا تكن من الذين يقنطون من فضل الله، فييأسون منه، ولكن أبشر بما بشرناكَ به واقبل البشرى).

وقوله تعالى: {قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ} .

قال النسفي: (أي لم أستنكر ذلكَ قنوطًا من رحمته ولكن استبعادًا لهُ في العادة التي أجراها).

في التنزيل: {إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} [يوسف: 87].

ومن كنوز صحيح السنة في ذمِّ القنوط من رحمة الله حديثان:

الحديث الأول: يروي الطبراني ورجاله ثقات عن ابن عباس: [أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الكبائر؟ فقال: الشرك بالله، واليأسُ من رَوْح الله، والأمْنُ من مكر الله](1).

(1) إسناده صحيح. انظر تحقيق "فتح المجيد" - الأرناؤوط (422)، وكتابي: أصل الدين والإيمان (1/ 492) - لتفصيل البحث.

ص: 325

الحديث الثاني: روى عبد الرزاق بسند صحيح عن ابن مسعود قال: [أكبر الكبائر: الإشراك بالله، والأمن من مكر الله، والقنوطُ من رحمة الله، واليأسُ من رَوْح الله](1).

وقوله تعالى: {قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (57) قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ} .

إِخْبارٌ من الله سبحانهُ عن سؤال إبراهيم لضيوفهِ - لما ذهب عنه الروع وجاءتهُ البشرى - عن سبب قدومهم ومجيئهم له، فأخبروه بإرسال الله تعالى لهم إلى قوم لوط المجرمين.

وقوله تعالى: {إِلَّا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ (59) إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ} .

قال ابن كثير: (أخبروه أنهم سينجّون آل لوط من بينهم إلا امرأته فإنها من المهلكين. ولهذا قالوا: {إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ}، أي: الباقين المُهْلكين).

61 -

66. قوله تعالى: {فَلَمَّا جَاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ (61) قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (62) قَالُوا بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ (63) وَأَتَيْنَاكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (64) فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ (65) وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلَاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ (66)}.

في هذه الآيات: وصول الملائكة إلى لوط عليه الصلاة والسلام فأنكرهم ولم يعرفهم، فأخبروهُ بأمرهم ومهمّتهم، وأمروه بالخروج بأهله ليلًا فإن موعد القوم الصبح فقد قضي فيه انتهاء أمرهم.

فقوله تعالى: {فَلَمَّا جَاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ (61) قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ} .

إخبار من الله عن إنكار لوط عليه السلام للملائكة المرسلين في صورة شبابٍ حسانِ الوجوه، أي: إنه أنكرهم ولم يعرفهم.

وقوله تعالى: {قَالُوا بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ} - قال مجاهد: (بعذاب قوم

(1) حديث صحيح. أخرجه عبد الرزاق بإسناد صحيح عن ابن مسعود. انظر: "فتح المجيد"(424) - تحقيق الأرناؤوط، والمرجع السابق (1/ 492) لمزيد من التفصيل.

ص: 326

لوط). قال ابن جرير: (فقالت له الرسل: بل نحن رسل الله جئناكَ بما كانَ فيه قومكَ يشكون أنه نازل بهم من عذاب الله على كفرهم به).

وقوله تعالى: {وَأَتَيْنَاكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ} .

أي: أتيناكَ يا لوط باليقين من الله - أن العذاب نازل بقومكَ المجرمين - وإنا لصادقون في خبرنا ذلكَ لك.

وقوله تعالى: {فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ} .

هو أمر الله للوط قبل حلول ساعة الانتقام: أن سر بأهلك ببقية من الليل، وكن من ورائهم وهم أمامكَ ولا يلتفت منكم وراءه أحد. قال مجاهد:({وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ} لا يلتفت وراءه أحد، ولا يُعَرِّج). وقال قتادة: ({وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ} قال: أُمِرَ أن يكونَ خلف أهلهِ، يتبعُ أدبارهم في آخرهم إذا مشوا).

قال ابن كثير: (يمشي وراءهم، ليكون أحفظَ لهم. وهكذا كانَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: يمشي في الغَزاة بما كان يكونُ ساقةً، يُرجي الضعيف، ويَحملُ المُنْقَطِع. وقوله: {وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ}، أي: إذا سمعتم الصيحة بالقوم فلا تَلتفِتُوا إليهم، وذرُوهم فيما حلَّ بهم من العذاب والنكال، {وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُون}، كأنه كان معهم من يهديهم السبيل).

وقوله تعالى: {وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلَاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ} .

أي: تقدّمنا إليه في هذا أن دمارهم وقت الصباح، وفرغنا له من ذلكَ الأمر. قال ابن زيد:(أوحينا إليه). وقال ابن عباس: (قوله: {أَنَّ دَابِرَ هَؤُلَاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ} يعني: استئصال هلاكهم مصبحين).

وفي التنزيل: {إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ} [هود: 81].

67 -

77. قوله تعالى: {وَجَاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ (67) قَالَ إِنَّ هَؤُلَاءِ ضَيْفِي فَلَا تَفْضَحُونِ (68) وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ (69) قَالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ (70) قَالَ هَؤُلَاءِ

ص: 327

بَنَاتِي إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (71) لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (72) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ (73) فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ (74) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ (75) وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ (76) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (77)}.

في هذه الآيات: مَجِيءُ أهل سدوم طمعًا بالحصول على أضياف لوط لفاحشتهم، واستِنْكارُ لوط صلى الله عليه وسلم على قومه ونصيحته لهم، ولكنهم أصروا على المضي في طلبهم، فأتاهم أمر الله فدمَّر عليهم بلدتهم، وأمطرهم حجارة من السماء وجعلهم عبرة لمن بعدهم.

فقوله تعالى: {وَجَاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ} . أي: قدم أهل مدينةِ سدوم طمعًا بضيف لوط. قال قتادة: (استبشروا بأضياف نبيّ الله صلى الله عليه وسلم لوط، حين نزلوا لما أرادوا أن يأتوا إليهم من المنكر).

وقوله تعالى: {قَالَ إِنَّ هَؤُلَاءِ ضَيْفِي فَلَا تَفْضَحُونِ (68) وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ} .

أي: قال لهم لوط هؤلاء أضيافي فلا تُخْجِلون، وخافوا الله في عملكم ولا تذلوني ولا تهينوني فيهم بالتعرض للنيل منهم بمكروه. قال القرطبي:(يجوز أن يكون من الخزي وهو الذل والهوان، ويجوز أن يكون من الخَزاية وهو الحياء والخجل).

وقوله تعالى: {قَالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ} . قال قتادة: (ألم ننهكَ أن تضيف أحدًا). والمقصود أحد تأويلين:

1 -

ألم ننهكَ عن استضافةِ الغرباء - وكانوا يقصدونهم لفاحشتهم.

2 -

أو لم ننهكَ عن أن تكلمنا في أحد من الناس إذا قصدناه بالفاحشة.

وقوله تعالى: {قَالَ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ} .

قال قتادة: (أمرهم نبيّ الله لوط أن يتزوجوا النساء، وأراد أن يَقِيَ أضيافهُ ببناته).

والمقصود: أرشدهم لوط صلى الله عليه وسلم إلى نسائهم وإلى الزواج وترك الحرام، وربما كنى ببناته عن بنات قومهِ، وقد تقدم بيان ذلكَ في سورة هود.

وقوله تعالى: {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} .

أي: أقسم تعالى بحياة نبيّه صلى الله عليه وسلم أن القوم كانوا غافلين عما ينتظرهم من العذاب، وكذلكَ قومكَ يا محمد لو أصروا على تكذيبكَ ومخالفتكَ.

ص: 328

قال ابن عباس: (ما خلق الله وما ذرأ وما برأ نفسًا أكرمَ على الله من محمد صلى الله عليه وسلم، وما سمعتُ الله أقسم بحياةِ أحد غيره، قال اللهُ تعالى ذكره: {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ}). وعن أبي الجوزاء، عن ابن عباس قال:(ما حلف الله تعالى بحياة أحد إلا بحياة محمد صلى الله عليه وسلم، قال: وحياتكَ يا محمد وعمرك وبقائك في الدنيا {إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ}). أو قال: (لَعَيْشُك {إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} قال: يَتَمادَوْن). وهي كلمة من كلام العرب، لفي سكرتهم: أي في ضلالتهم يعمهون: أي يلعبون). وقال الأعمش: (لفي غفلتهم يتردّدون).

وقوله تعالى: {فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ} . أي: فأخذتهم صاعقة العذاب عند شروقهم. قال ابن جريج: (حين أشرقت الشمس، ذلكَ مشرقين).

وقوله تعالى: {فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ} .

أي: فرفعنا القرية وقلبناها بمن فيها، بعد مجيء الصوت القاصف عند شروق الشمس، فجعلنا عالي أرضهم سافلها، وأمطرناهم بحجارة من طين.

وقوله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ} .

قال مجاهد: (للمتفرسين). وقال ابن عباس: (للناظرين). وقال قتادة: (للمعتبرين). قال ابن كثير: (أي: إنّ آثار هذه النِّقم ظاهرةٌ على تلكَ البلاد لمن تأمَّلَ ذلكَ وتَوَسَّمَهُ بعين بَصَره وبصيرته).

أخرج البزار والطبراني بسند جيد عن أنس بن مالك قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: [إنّ لله عبادًا يعرفون الناس بالتوسُّم](1).

وقوله تعالى: {وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ} .

قال قتادة: (بطريق واضح). وقال مجاهد: (مَعْلَم).

والمقصود: أن قرية سَدُوم التي حلَّ بها قوم لوط ونشروا فيها فاحشتهم وقلبها الله فوق رؤوسهم وقذفهم بالحجارة حتى أصبحت بحيرة خبيثة منتنة، هي قرية معلومة لقومكَ يا محمد، مستمرة إلى اليوم بطريق معلم واضح.

(1) إسناده جيد. أخرجهُ البزّار (3632)، والطبراني في "الأوسط"(2956)، ورجاله ثقات، وحسَّنهُ الألباني - كما في صحيح الجامع - (2164).

ص: 329

كما في التنزيل: {وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ (137) وَبِاللَّيْلِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [الصافات: 137، 138].

وقوله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ} .

أي: إن في هلاكهم لعبرة للمؤمنين على مر الدهور وتعاقب الأيام. قال القرطبي: (أي: لعبرة للمصدِّقين).

78 -

84. قوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ لَظَالِمِينَ (78) فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ (79) وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ (80) وَآتَيْنَاهُمْ آيَاتِنَا فَكَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (81) وَكَانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا آمِنِينَ (82) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ (83) فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (84)}.

في هذه الآيات: إخبار الله تعالى عن ظلم قومِ شعيب وانتقامهِ منهم، وكذلكَ ثمود قوم صالح أصحاب الوادي المعرضين عن آيات ربهم، فأخذتهم صيحة الهلاك وما أغنت عنهم بيوتهم ولا أموالهم ولا قوتهم.

فقوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ لَظَالِمِينَ} . المقصود: قوم شعيب وما كانوا عليه من ظلم. قال سعيد بن جبير: (أصحاب الأيكةِ: أصحاب غَيْضة). وقال الضحاك: (هم قوم شعيب، والأيكة: الغيضة). وقال قتادة: (والأيكة: الشجر الملتف).

قال ابن كثير: (وكان ظُلمُهم بشركهم باللهِ وقطعهم الطريق، ونَقصِهم المكيال والميزانَ، فانتقم الله منهم بالصيحة والرَّجفة وعذاب يوم الظُّلة، وقد كانوا قريبًا من قوم لوط، بَعْدَهم في الزمان، ومُسَامتين لهم في المكان، ولهذا قال تعالى: {وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ} أي: طريق مبين. قال ابن عباس ومجاهد والضحاك: طريق ظاهر. ولهذا لما أنذر شعيب قومهُ قال في نِذَارَتِهِ إياهم: {وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ} [هود: 89]).

وقال ابن جرير: ({وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ} يقول: وإن مدينة أصحابِ الأيكة، ومدينة قوم لوط. . لبطريق يأتمون بهِ في سفرهم، ويهتدونَ به {مُبِينٍ} يقول: يبينُ لمن ائتمَ به استقامتهُ، وإنما جعل الطريق إمامًا لأنه يُؤَمّ ويُتَّبع).

ص: 330

وقوله تعالى: {وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ} . المقصود: ثمود قوم صالح عليه السلام. قال قتادة: (أصحاب الحجر: أصحاب الوادي).

وقال النسفي: (هم ثمود والحجر واديهم وهو بين المدينة والشام، {الْمُرْسَلِينَ} يعني بتكذيبهم صالحًا، لأن كل رسول كان يدعو إلى الإيمان بالرسل جميعًا، فمن كذَّب واحدًا منهم فكأنما كذبهم جميعًا). وقال القاسمي: (ومن كذب واحدًا من الأنبياء عليهم السلام، فقد كذب الجميع. لاتفاقهم على التوحيد والأصول التي لا تختلفُ باختلاف الأمم والأعصار).

وقوله تعالى: {وَآتَيْنَاهُمْ آيَاتِنَا فَكَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ} .

قال القرطبي: (المراد الناقة، وكان فيها آيات جَمَّة: خروجها من الصخرة (1)، ودُنُوُّ نتاجها عند خروجها، وعظمها حتى لم تشبهها ناقة، وكثرة لبنها حتى تكفيهم جميعًا. ويحتمل أنه كان لصالح آيات أخر سوى الناقة، كالبئر وغيره. {فَكَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ} أي لم يعتبروا).

وقوله تعالى: {وَكَانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا آمِنِينَ} . أي: من غير خوف ولا احتياج إليها، وإنما هو أشر وبطر، وعبثٌ وتكبّر، يظنون أن تلكَ البيوت تدفع عنهم عذاب الله.

وقوله تعالى: {فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ (83) فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} .

قال ابن جرير: (يقول: فأخذتهم صيحة الهلاك حين أصبحوا من اليوم الرابع من اليوم الذي وُعدوا العذاب، وقيل لهم: تمتَّعوا في داركم ثلاثة أيام. . . يقول: فما دفع عنهم عذاب الله ما كانوا يجترحون من الأعمال الخبيثةِ قبل ذلك). وقال ابن كثير: ({فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}. أي: ما كانوا يستغلّونهُ من زروعهم وثمارهم التي ضَنّوا بمائها عن الناقةِ، حتى عقروها لئلا تُضيِّقَ عليهم في المياه، فما دفعت عنهم تلكَ الأموال، ولا نفعتهم لمَّا جاء أمرُ ربك).

قلت: وقد جاءت السنة الصحيحة بتوصيات تخص الأقوام السابقة التي دكّها الله

(1) أخرج الله الناقة لهم بدعاءِ صالحٍ من صخرة صَمّاء، فكانت تسرح في بلادهم لها شِرْبٌ ولهم شِرْبُ يوم معلوم. فلما عتوا وعقروها قال لهم:{تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ} [هود: 65]. وقال تعالى: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} [فصلت: 17].

ص: 331

بالعذاب، ذكرها رسول الله صلى الله عليه وسلم مرجعه من تبوك حين بلغ ديار ثمود:

الوصية الأولى: لا تجوز السياحة في أماكن هلاك الأمم التي أنزل اللهُ بها عذابه.

أخرج الإمام أحمد بسند حسن عن أبي كبشة الأنماري قال: [لما كان في غزوة تبوك تسارع الناسُ إلى أهل الحجر يدخلون عليهم، فبلغ ذلكَ رسول الله صلى الله عليه وسلم فنادى في الناس: الصلاة جامعة، قال: فأتيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ممسك بعيره وهو يقول: ما تدخلون على قوم غضب الله عليهم، فناداه رجل منهم: نعجب منهم يا رسول الله! قال: أفلا أنذركم بأعجب من ذلك؟ ! رجل من أنفسكم ينبئكم بما كان قبلكم وما هو كائن بعدكم، فاستقيموا وسدّدوا، فإن الله عز وجل لا يعبأ بعذابكم شيئًا وسيأتي قوم لا يَدفعون عن أنفسهم بشيء](1).

الوصية الثانية: عبور تلك الأماكن عند الحاجة بسرعة وبكاء وتغطية للرؤوس.

أخرج البخاري ومسلم عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأصحابهِ - يعني لما وصلوا الحِجْر: وهي ديار ثمود فيما بين المدينة والشام -: [لا تدخلوا على هؤلاء المعذَّبين إلا أن تكونوا باكينَ، فإن لم تكونوا باكين فلا تدخلوا عليهم لا يصيبكم ما أصابهم](2).

وفي رواية: (ثم قَنَّعَ رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسهُ وأسرع السير حتى أجاز الوادي).

وفي لفظ للبخاري: (ثم تَقَنَّعَ بردائه وهو على الرَّحل).

وفي لفظ لمسلم: (ثم زجَرَ فأسرع حتى خَلّفَها).

قال ابن القيم في "زاد المعاد"(3/ 560): (ومن هذا إسراعُ النبي صلى الله عليه وسلم السير في وادي مُحَسِّر بين مِنَى وعَرَفة، فإنه المكان الذي أهلك الله فيه الفيل وأصحابه).

والخلاصة: إن أماكن العذاب تركها الله في الأرض ليعتبر البشر، فلا ينبغي المشي فيها والسياحةُ خلال آثارها، بل الأليق بها أن يمر المسلم فيها مسرعًا خائفًا من الله أن ينزل بأمته ما أنزل بتلك الأمم، من المصائِب والدمار والنقم.

(1) حديث حسن. أخرجهُ أحمد في المسند (4/ 231)، وانظر كتابي: السيرة النبوية (3/ 1532).

(2)

حديث صحيح. انظر الروايات المختلفة في صحيح البخاري (3381) - كتاب الأنبياء، وفي صحيح مسلم (2980) - كتاب الزهد والرقائق، وفي مسند أحمد (2/ 9)، (2/ 58).

ص: 332

الوصية الثالثة: عدم الشرب من بقية مياه تلك الأقوام أو استخدامها في الوضوء أو صنع الطعام.

ففي صحيح مسلم عن نافع أن عبدَ الله بن عمر أخبره: [أن الناس نزلوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على الحِجْرِ أرضِ ثمود فاستقوا من آبارها، وعجنوا بهِ العجين، فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُهريقوا ما استقوا، ويَعْلِفوا الإبل العجين، وأمرهم أن يستقوا من البئر التي كانت تردها الناقةُ](1).

85 -

93. قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ (85) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (86) وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ (87) لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ (88) وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ (89) كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ (90) الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ (91) فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (93)}.

في هذه الآيات: إِثْباتُ الله تعالى خلقه السماوات والأرض بالعدل والإنصاف، وأنَّ الساعة قادمةٌ فاصبر - يا محمد - على الدعوة واصفح الصفح الجميل. فربكَ الخلّاقُ لا يعجزهُ شيء وسيجمعُ الناس من قبورهم إلى مشهدِ الحشر الكبير. لقد آتاكَ ربكَ فاتحة هذا القرآن العظيم، وهي أعظم سورةٍ في الكتاب الكريم، فلا تتمنّين ما بأيدي بعض القوم من الزينةِ الفانية والمتاع الزائل المهين. وتواضع لمن تبعكَ من المؤمنين، وقل لمشركي قومك: إنما أنا نذير لكم مبين، أنذركم نحو العقاب الذي أنزلهُ الله تعالى على الأمم السابقة التي اقتسمت القرآن المنزل عليها فآمنت ببعضه وكفرت ببعض وسيسألهم ربهم أجمعين، عما كانوا يعملون.

(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم (2980)، كتاب الزهد والرقائق. وانظر تفصيل هذا البحث والدروس والنتائج والأحكام الخاصة به في كتابي: السيرة النبوية على منهج الوحيين: القرآن والسنة الصحيحة - (في أعقاب غزوة تبوك - (3/ 1530 - 1540)).

ص: 333

فقوله: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقّ} .

أي: وما كان من خلق للسماوات والأرض وما بينهما مما في أطباق ذلكَ إلا بالعدل والإنصاف، لا بالظلمِ والجَور. قال ابن جرير:(وإنما يعني تعالى ذكره بذلكَ: أنهُ لم يظلم أحدًا من الأمم التي اقتصّ قَصَصَها في هذه السورة، وقصص إهلاكهِ إياها بما فعل به من تعجيلِ النقمة له على كفره به، فيعذّبه ويهلكه بغيرِ استحقاق، لأنه لم يخلق السماوات والأرض وما بينهما بالظلم والجور، ولكنهُ خلق ذلكَ بالحق والعدل).

وفي التنزيل مما يشبهُ ذلك:

1 -

قال تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ} [ص: 27].

2 -

وقال تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (16) لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ (17) بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ} [الأنبياء: 16 - 18].

3 -

وقال تعالى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (115) فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} [المؤمنون: 115، 116].

وقوله: {وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ} .

أي: والساعة قادمة فاعف عمن آذاك منهم واصفح، وأعرض عنهم إعراضًا جميلًا.

كما في التنزيل: {فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} [الزخرف: 89].

وعن مجاهد: ({فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ} قال: هذا قبل القتال). وعن قتادة: (ثم نسخ ذلكَ بعد، فأمره الله تعالى ذكره بقتالهم، حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا عبدهُ ورسوله، لا يقبلُ منهم غيره).

ولا شكَّ أن هذه الآية مكية، وشرع القتال بعد الهجرة، فيكون المفهومُ كما ذهب مجاهد وقتادة أنه يرجع لأول الأمر، ثم نسخ الأمر بقتال المشركين.

وقوله تعالى. {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ} .

تَأْكِيدٌ لأمر قيام الساعة الذي يكذب به المشركون، فالله تعالى هو الخلّاقُ لا يعجزهُ شيء، وهو القادر على جمع الأجساد بعد تفرقها في تراب الأرض.

ص: 334

وفي التنزيل:

1 -

قال تعالى: {قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ} [ق: 4].

2 -

وقال تعالى: {أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (81) إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82) فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [يس: 81 - 83].

3 -

وقال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الأحقاف: 33].

وفي سنن ابن ماجه ومسند أحمد بسند صحيح عن بسر بن جحاش القرشي مرفوعًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: [يقول الله: يا ابن آدم أنّى تعجزني وقد خلقتكَ من مثل هذه، حتى إذا سويتكَ وعدَّلتكَ مشيتَ بين بردتين وللأرض منكَ وئيد - يعني شكوى - فجمعت ومنعت، حتى إذا بلغت التراقي قلت: أتصدق، وأنّى أوان الصدقة](1).

وقوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ} .

قال قتادة: (ذُكِرَ لنا أنهنّ فاتحةُ الكتاب، وأنهن يُثَنَّيْنَ في كل قراءة). وفي رواية: (في كل ركعة مكتوبة أو تطوُّع). وَرُوِيَ ذلكَ عن عُمر، وعلي، وابن مسعود، وابن عباس، قال ابن عباس:(والبسملة هي الآية السابعة، وقد خصّكم اللهُ بها). وقيل: السبع المثاني هي السبع الطوال، والقول الأول أصح وبه جاءت الأحاديث الصحيحة:

الحديث الأول: أخرج الدارقطني والبيهقي بسند صحيح عن أبي هريرةَ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [إذا قرأتم: {الْحَمْدُ لِلَّهِ} فاقرؤوا: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}، إنها أمُّ القرآن، وأمُّ الكتاب، والسبع المثاني، و {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} إحداها](2).

وفي رواية: (إحدى آياتها).

(1) حديث صحيح. أخرجه ابن ماجه (2/ 157)، والحاكم (2/ 502)، وأحمد (4/ 210)، وابن سعد (7/ 427)، وقال الحاكم: صحيح الإسناد، ووافقه الذهبي وأقرّهُ الألباني - انظر سلسلة الأحاديث الصحيحة - حديث رقم - (1143).

(2)

حديث صحيح. أخرجه الدارقطني (118)، والبيهقي (2/ 45)، والديلمي (1/ 1/ 70)، وإسنادهُ صحيح. وانظر سلسلة الأحاديث الصحيحة (1183)، وصحيح الجامع (742).

ص: 335

الحديث الثاني: روى البخاري في صحيحه عن أبي سعيد بن المُعَلَّى قال: [كنتُ أصلي في المسجد فدعاني النبي صلى الله عليه وسلم فلم أجبه حتى صليت ثم أتيته، فقلت: يا رسول الله! إني كنتُ أصلي، قال: ألم يقل الله: {اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ} ثم قال: ألا أعلمكَ أعظم سورةٍ في القرآن قبل أن تخرجَ من المسجد؟ فأخذ بيدي، فلما أردنا أن نخرج قلت: يا رسول الله! إنكَ قلتَ لأعلمنكَ أعظمَ سورةٍ من القرآن. قال: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} هي السبع المثاني، والقرآن العظيم الذي أوتيته](1).

الحديث الثالث: أخرج أبو داود والترمذي بسند صحيح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [الحمدُ لله رب العالمين، أم القرآن، وأم الكتاب، والسبع المثاني، والقرآن العظيم](2).

وفي رواية للبخاري بلفظ: [أم القرآن هي السبع المثاني والقرآن العظيم].

قال ابن كثير: (فهذا نص في أن الفاتحة السبع المثاني والقرآن العظيم، ولكن لا يُنافي وصفَ غيرها من السبع الطُّوَل بذلك، لما فيها من هذه الصفة، كما لا يُنافي وصفَ القرآنِ بكمالهِ بذلكَ أيضًا، كما قال تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ} [الزمر: 23]، فهو مثاني من وجه، ومتشابه من وجه، وهو القرآن العظيم أيضًا).

وقوله: {لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ} . قال مجاهد: (الأغنياء الأمثال الأشباه). وقال ابن عباس: (يُنهى الرجل أن يتمنى مال صاحبه).

قال ابن جرير: (يقول: لا تَتَمَنَّيَنَّ يا محمد ما جعلنا من زينة هذه الدنيا متاعًا للأغنياء من قومكَ، الذين لا يؤمنون باللهِ واليوم الآخر، يتمتعونَ فيها، فإن منْ ورائهم عذابًا غليظًا).

(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري في الصحيح (4474)، وأحمد في المسند (3/ 211).

(2)

حديث صحيح. انظر صحيح سنن أبي داود (1310)، (1311)، وانظر صحيح البخاري (4704) للرواية بلفظ:[أم القرآن هي السبع المثاني والقرآن العظيم]، ورواه الترمذي. وفي الباب عنده عن أبي هريرة عن أُبَيّ بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ما أَنْزَلَ الله في التوراة والإنجيلِ، مِثْلَ أمِّ القران، وهي السَّبْعُ المثاني، وهي مَقْسُومَةٌ بيني وبين عَبْدي، ولِعبدي ما سأل]. انظر صحيح سنن الترمذي - حديث رقم - (2499).

ص: 336

وقال القرطبي: (ومعنى {أَزْوَاجًا مِنْهُمْ} أي: أمثالًا في النعم، أي الأغنياء بعضهم أمثال بعض في الغنى، فهم أزواج).

والمقصود: توجيه الله تعالى نبيهُ صلى الله عليه وسلم إلى الاستغناء بهذا القرآن عما في أيدي القوم من زينة الدنيا الفانية، ومتاعها الزائل.

وقوله: {وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ} . قال النسفي: (أي لا تتمن أموالهم ولا تحزن عليهم أنهم لم يؤمنوا فيتقوى بمكانهم الإسلام والمسلمون).

وقيل: لا تحزن عليهم إن صاروا إلى العذاب فهم أهل للعذاب.

وقوله: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ} . قال القاسمي: (أي تواضع لمن معكَ من فقراء المؤمنين وضعفائهم. وطب نفسًا عن إيمان الأغنياء والأقوياء).

وأصل خفض الجناح من فعل الطائر، فإنه إذا ضمّ فرخه إليهِ بسط جناحهُ ثم قبضه على الفرخ، فكان ذلكَ مثلًا لتقريب الإنسان أتباعه.

وقوله تعالى: {وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ (89) كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ (90) الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ} .

أي: قل يا محمد لمشركي قومكَ: إنما أنا نذير لكم قد أبان إنذارهُ لكم من البلاء وما يُنتظر من العقاب للمتمادين في الشرك والكفر والضلال، مثل العقاب الذي أنزله تعالى على الأمم السابقة التي اقتسمت القرآن المنزل عليها فآمنت ببعضه وكفرت ببعض.

قال ابن عباس: (هم اليهود والنصارى، آمنوا ببعض، وكفروا ببعض).

وقال أيضًا: (هم أهل الكتاب، جزؤوهُ فجعلوه أعضاء أعضاء، فآمنوا ببعضهِ، وكفروا ببعضه).

وقال البخاري: حدثنا يعقوب بن إبراهيم، حدثنا هُشَيم، أنبأنا أبو بشر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس:({جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ}، قال: هم أهل الكتاب، جزؤوه أجزاءً، فآمنوا ببعضه، وكفروا ببعضه).

وقيل: ({الْمُقْتَسِمِينَ}، أي: المتحالفين. الذين تحالفوا على مخالفة الأنبياء وتكذيبهم وأذاهم).

ص: 337

كما في التنزيل:

1 -

قال تعالى: {قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ} [النمل: 49]. وذلكَ في شأن قوم صالح. قال مجاهد: (تقاسموا: تحالفوا). وقال ابن زيد: (المقتسمون أصحاب صالح، الذين تقاسموا باللهِ لنبيتنه وأهله).

2 -

وقال تعالى: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ} [النحل: 38].

3 -

وقال تعالى: {أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ} [إبراهيم: 44].

والخلاصة: كان من شأنِ المشركين في الأمم التي أرسل ديها الرسل أنهم لا يكذبون بشيء إلا أقسموا عليه، فسُمُّوا مقتسمين. وهم الذين جعلوا القرآن المنزل عليهم أعضاء يؤمنون ببعضه ويكفرون ببعضه حسب أهوائهم، فجاء نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ينذر أمتهُ بأمر من الله سبحانهُ ويحذرها من تقليد صنيع تلك الأمم.

وفي الصحيحين عن أبي موسى، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[إنما مثلي ومثلُ ما بعثني اللهُ بهِ كمثل رجلٍ أتى قومهُ فقال: يا قوم، إني رأيتُ الجيشَ بعينيَّ، وإني أنا النذيرُ العريانُ، فالنَّجاءَ النَّجاءَ! فأطاعهُ طائفة من قومهِ فأدلجوا وانطلقوا على مَهْلهم فنجوا، وكذَّبه طائفةٌ منهم فأصبحوا مكانهم، فصبحهم الجيشُ فأهلَكهم واجتاحَهُمْ. فذلكَ مثلُ من أطاعني واتَّبعَ ما جئتُ بهِ، ومثلُ من عصاني وكذّب ما جئتُ به من الحق](1).

وقوله تعالى: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} .

قال مجاهد: (عن لا إله إلا الله). وقال أبو العالية: (يُسألُ العبادُ كلهم عن خَلَّتين يوم القيامة: عما كانوا يعبدون، وعما أجابوا المرسلين).

قال البخاري: (وقال عِدة من أهل العلم في قوله: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} عن لا إله إلا الله).

قال النسفي: (أقسم بذاته وربوبيتهِ ليسأنن يوم القيامة واحدًا واحدًا من هؤلاء المقتسمين عما قالوه في رسول الله صلى الله عليه وسلم أو في القرآن أو في كتب الله).

(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (6482)، (7283)، ومسلم (1283)، وأبو يعلى (7310).

ص: 338

وفي التنزيل نحو ذلك:

1 -

قال تعالى: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ} [القصص: 65].

2 -

وقال تعالى: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} [القصص: 74].

3 -

وقال تعالى: {وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا} [الكهف: 52].

ومن كنوز صحيح السنة في آفاق معنى الآية أحاديث:

الحديث الأول: أخرج الترمذي بسند صحيح عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [لا تزول قدما ابن آدم يوم القيامة من عند ربه حتى يُسأل عن خمس: عن عمره فيم أفناه، وعن شبابهِ فيم أبلاه، ومالهِ من أين اكتسبه، وفيم أنفقه، وماذا عملَ فيما علم](1).

الحديث الثاني: أخرج البخاري ومسلم عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [إن الله يُدني المؤمن فيضع عليه كنَفَهُ (2) ويسترُه فيقول: أتعرفُ ذنب كذا؟ أتعرف ذنب كذا؟ فيقول: نعم أي ربِّ، حتى قَرَّرَهُ بذنوبه، ورأى في نفسهِ أنه قد هلكَ، قال: سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم، فيُعطى كتاب حسناته، وأما الكفار والمنافقون فينادى بهم على رؤوس الخلائق {هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ}](3).

الحديث الثاني: روى النسائي ورجالهُ ثقات عن أنس مرفوعًا: [إن الله سائلٌ كلَّ راعٍ عما استرعاهُ، أحَفِظَ ذلكَ أم ضَيَّعَ؟ حتى يسأل الرجلَ عن أهل بيتهِ](4).

(1) حديث صحيح. أخرجه الترمذي في السنن (2/ 67) من حديث ابن مسعود، وصححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة - حديث رقم - (946).

(2)

أي: حفظه وستره.

(3)

حديث صحيح. أخرجه البخاري (2441)، ومسلم (2768)، وأخرجه أحمد (2/ 74).

(4)

حديث صحيح. أخرجه النسائي في "عشرة النساء"(2/ 89/ 2)، وابن حبان (1562)، وانظر سلسلة الأحاديث الصحيحة - حديث رقم - (1636)، وصحيح الجامع (1770).

ص: 339

94 -

99. قوله تعالى: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (94) إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (95) الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (96) وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ (97) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (98) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (99)}.

في هذه الآيات: مَجِيءُ أمر الله تعالى إلى رسوله صلى الله عليه وسلم وهو بمكة بالصدع بالحق والجهر بالدعوة والخروج إلى الناس فقد كفاكَ ربك أمر المستهزئين، الذين أصروا أن يعيشوا مشركين، فأنت في حماية ربك فلا يضيق صدركَ بما يقولون، واستعن على أمر ربكَ بالتسبيحِ والسجود واعبد ربكَ حتى يأتيكَ الموت وهو اليقين.

قال أبو عبيدة عن عبد الله بن مسعود: (ما زال النبي صلى الله عليه وسلم مستخفيًا حتى نزلت: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ} فخرج هو وأصحابه).

وقال الفراء: (أراد فاصدع بالأمر أي أظهر دينك).

وأصل الصَّدْع في كلام العرب: الشَّقُّ، وتَصَدَّع القوم أي: تفرقوا، ومنه قوله تعالى:{يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ} أي يتفرقون يوم القيامةِ فريقًا في الجنةِ وفريقًا في السعير.

فالآيةُ لها تأويلان محتملان:

التأويل الأول: أي فرّق جمعهم وكلمتهم يا محمد بأن تدعوهم إلى التوحيد، اصدع القوم بهذا الوحي فريقين، فإنهم يتفرقون بأن يجيبَ بعضهم ويعاند آخرون.

قال القرطبي رحمه الله: (أي تتصدع جماعة الكفار).

التأويل الثاني: الصدع بمعنى الجهر. قال الرازي: (وصدع بالحق تكلم به جهارًا). ومنه قول ابن عباس: ({فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ}، يقول: فأمضه. يقول: افعل ما تؤمر). وقال مجاهد: ({فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ}: أي: بالقرآن. اجهر بالقرآن في الصلاة).

قال ابن القيم رحمه الله: (دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الله مستخفيًا ثلاث سنين ثم نزل عليه: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ}).

وخلاصة المعنى: بلغ - يا محمد - ما أنزل إليكَ من ربك من الوحي الكريم، ولا تأبه ولا تلتفت لمحاولات المشركين، فإن اللهَ كافيكَ وحافظكَ منهم.

ص: 340

كما في التنزيل:

1 -

قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة: 67].

2 -

قال تعالى: {وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} [القلم: 9].

وفي صحيح مسلم - من حديث قبيصة في بلاغ النبي صلى الله عليه وسلم عشيرته وقومه - قال: [يا بني عبد مناف، يا بني عبد مناف! إني نذير، إنما مثلي ومثلكم، كمثل رجل رأى العدوَّ، فانطلق يريدُ أهله، فخشي أن يسبقوه إلى أهله، فجعل يهتف: يا صباحاه، يا صباحاه! أُتيتُم أُتيتُم](1).

وقوله تعالى: {إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ} .

قال ابن جرير: (يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: إنا كفيناك المستهزئين يا محمد، الذين يستهزئون بك، ويسخرون منك، فاصدع بأمر الله، ولا تخف شيئًا سوى الله، فإن الله كافيكَ من ناصبكَ وآذاك، كما كفاك المستهزئين، وكانوا رؤساء المستهزئين قومًا من قريش معروفين).

قال سعيد بن جبير: (هم خمسة من رهط قريش: الوليد بن المغيرة، والعاص بن وائل، وأبو زمعة، والحارث بن عيطلة، والأسود بن قيس).

وقيل: كانوا ثمانية. قال ابن عباس: (كلهم مات قبل بدر).

وقوله تعالى: {الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} .

قال ابن كثير: (تهديدٌ شديد، ووعيدٌ أكيد، لمن جعل مع الله معبودًا آخر).

وقوله تعالى: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ (97) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ} .

أي: إنا لنعلم - يا محمد - كم يضيق صدركَ وينقبض من أذى قومكَ لك، ومن محاولات مكرهم بدينكَ وأصحابك، فلا يهيدَنَّكَ ذلك ولا يمنعنكَ من الجهاد في تبليغ دعوة الحق، واستعن على ذلكَ بكثرة الذكر والصلاة والدعاء.

(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم في صحيحه - حديث رقم - (207)، كتاب الإيمان.

ص: 341

قال النسفي: (فافزع فيما نابك إلى الله - والفزع إلى الله هو الذكر الدائم وكثرة السجود - يَكْفِكَ ويكشف عنكَ الغم).

وفي التنزيل:

1 -

قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا (4) إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا} [المزمل: 1 - 5].

2 -

وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5) وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (6) وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ} [المدثر: 1 - 7].

ومن كنوز صحيح السنة في آفاق معنى الآية أحاديث:

الحديث الأول: أخرج الإمام مسلم والنسائي عن أبي هريرةَ أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: [أقرب ما يكون العبدُ من ربه وهو ساجد، فأكثِروا الدعاء](1).

الحديث الثاني: أخرج أبو داود بسند صحيح عن نُعَيم بن هَمَّار: أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: [قال الله: يا ابن آدم، لا تعجِز عن أربع ركعاتٍ من أول النهار أكفكَ آخره](2).

الحديث الثالث: أخرج أحمد والطبراني بسند حسن عن حذيفة رضي الله عنه قال: [كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حزبهُ أمر صلى](3). وفي روايةٍ: (فزع إلى الصلاة).

الحديث الرابع: أخرج ابن حبان بسند حسن عن عليّ رضي الله عنه يقول: [لقد رأيتنا ليلة بدرٍ وما فينا إلا نائم، غير رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي ويدعو حتى أصبح](4).

وقوله تعالى: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} .

يقول تعالى ذكره لنبيهِ محمد صلى الله عليه وسلم: واعبد ربكَ حتى يأتيكَ الموت الذي هو موقَنٌ به.

(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم في الصحيح - حديث رقم - (482)، كتاب الصلاة، وأخرجه النسائي في "الكبرى"(723)، و (2/ 421).

(2)

حديث صحيح. أخرجه أبو داود (1289)، وأحمد (5/ 286)، وإسناده حسن صحيح.

(3)

حديث حسن. أخرجه أحمد (5/ 388)، والطبري (850)، وابن حبان (1975)، وغيرهم.

(4)

حديث حسن. أخرجه أحمد في المسند (1/ 125)، (1/ 138)، وابن حبان في "صحيحه"(2257) بإسناد حسن، رجاله رجال الصحيح غير حارثة، وهو ثقة.

ص: 342

قال ابن جرير: (وقيل يقين، وهو موقن به). وقال البخاري: (قال سالم - يعني ابن عبد الله بن عمر - {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ}: الموت).

وفي التنزيل إخبار عن أهل النار - حين قالوا: {لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (44) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ (45) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (46) حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ} [لمدثر: 43 - 47].

وفي صحيح البخاري عن أمّ العلاء - امرأة من نساء الأنصار بايعت النبي صلى الله عليه وسلم: [أن عثمان بن مظعون طارَ لَهُ سَهْمُهُ في السُّكْنَى حين اقترعَتِ الأنصار سُكنى المهاجرين، قالت أمُّ العلاء: فسَكَن عندنا عثمان بن مظعون فاشتكى فَمَرَّضناهُ، حتى إذا تُوُفِّيَ وجعلناهُ في ثيابهِ دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: رَحْمَةُ الله عليكَ أبا السائب، فشهادتي عليكَ لقد أَكْرمَكَ الله. فقال لي النبي صلى الله عليه وسلم: وما يُدْريكِ أن الله أكرمه؟ فقلتُ: لا أدري بأبي أنتَ وأمي يا رسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما عثمانُ فقد جاءهُ واللهِ اليقينُ، وإني لأرجو له الخير، والله ما أدري وأنا رسول الله ما يُفعلُ به. قالت: فواللهِ لا أُزَكِّي أحدًا بعدهُ أبدًا، فأحزنني ذلكَ، قالت: فَنِمْتُ فرأيتُ لِعثمانَ عَيْنًا تجري فَجِئْتُ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخْبَرْتُهُ فقال: ذلكَ عَمَلُه](1).

والخلاصة: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمرهُ الله بعبادتهِ حتى آخر لحظة من حياته، وهو خير البشر قاطبة، وفي هذا ردٌّ على الزنادقة الذين يزعمون أنهم إذا وصلوا إلى اليقين - ويعنون بذلكَ المعرفة - رُفع عنهم التكليف، فنعوذ باللهِ من الانحراف عن منهاج النبوة في القول والعمل، ونسألُ الله الثبات على الدين الحق إلى يوم نلقاه، إنه سميع قريب.

تم تفسير سورة الحجر

بعون الله وتوفيقه، وواسع مَنِّهِ وكَرَمِه

° ° °

(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (2687)، كتاب الشهادات، وأخرجه كذلكَ برقم (1243)، (3929)، وأخرجه النسائي في "الكبرى"(7634)، وأحمد (6/ 436).

ص: 343