الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
16 - سُورَةُ النَّحْلِ
وهي سورة مكية، وعدد آياتها (128)
موضوع السورة
- بَسْط النعم، والتحذير من النقم -
"العسل - منتوج النحل - فيه شفاء للبدن"
-
منهاج السورة
-
1 -
تأكيد الله تعالى وقوع الساعة بصيغة الماضي ليتدارك الناس أمرهم قبل أن تفاجئهم.
2 -
اصطفاء الله من عباده رسلًا كما يشاء، فله الخلق والأمر، والبشرى للمتقين، والخزي والندامة على المشركين.
3 -
امتنان الله تعالى على الإنسان بتسخير الأنعام له، وجعل فيها المنافع والدفء والزينة والمراكب ويخلق ما لا تعلمون.
4 -
امتنان الله تعالى على عباده بنعمة الماء والشجر وأصناف الثمرات لعلهم يتفكرون.
5 -
امتنان الله كذلك على عباده بنعمة الليل والنهار، والشمس والقمر والنجوم، والبحار والفُلك واللحم والحلي، والجبال والأنهار، والاهتداء بالنجوم، وغير ذلك من النعم التي لا تُحصى.
6 -
إعلام الله تعالى عباده أنه لا يخفى عليه شيء من أعمالهم، وتحقير الأوثان التي يعبدها بعضهم.
7 -
إثبات كفر المشركين، وحملهم أوزار من تبعهم من المبطلين، وشقوتهم يوم الدين.
8 -
ثناء الله تعالى على المحسنين، ودخولهم الجنة في سلام آمنين.
9 -
استخفاف الله بالمشركين، في اتباعهم سنن الذين من قبلهم من المستهزئين.
10 -
ذمّ الله المشركين احتجاجهم بالقدر على كفرهم، وثناؤه تعالى على المرسلين في دعوتهم إفراد الله بالتعظيم، ونبذ الطاغوت وسبل الشياطين.
11 -
تسلية النبي صلى الله عليه وسلم بأن الله لا يهدي من يضل وما لهم من ناصرين، وأن قوله لشيء إذا أراد وجوده: كن فيكون.
12 -
ثناء الله تعالى على المهاجرين، الذين ظُلموا في سبيل الله وصبروا وكانوا من المتوكلين.
13 -
إثبات رجولة الأنبياء، والأمر بسؤال أهل العلم لفهم الدين، وإثبات نزول السنة لتبيان مجمل القرآن.
14 -
تهديد المشركين بالخسف والعذاب، إن لم يؤمنوا بهذا الكتاب، فكل شيء خلقه الله في هذا الكون في سجود له وتعظيم، والملائكة يخافون ربهم من فوقهم ويفعلون ما يؤمرون.
15 -
إثبات الوحدانية لله العظيم، فله ما في السماوات والأرض وله الدين الحق المبين، وما بكم من نعمة فمن الله المنعم الكريم، الذي إن مَسَّكُم الضر فإليه تجأرون، وإن كشفه عنكم فأكثركم يشركون.
16 -
إثبات جهالة المشركين، في صرف الأموال للأصنام ووأد بناتهم وجعل البنات لله ولهم ما يشتهون، ولله المثل الأعلى وهو العزيز الحكيم.
17 -
تأخير الله مؤاخذة الناس بظلمهم، والمشركون غارقون في أهوائهم، وقد أنزل الله هذا القرآن على رسوله تبيانًا، وهدى، ورحمة للمؤمنين.
18 -
امتنان الله على العباد بنعمة الماء والأنعام، واللبن والنخيل والأعناب.
19 -
أمْرُ الله إلى النحل اتخاذ البيوت من الجبال والشجر، وإلهامها الأكل من كل الثمر، وإخراج العسل الذي فيه شفاء للناس.
20 -
إثبات الخلق والحياة وتصريف العمر لله، وكذلك التفضيل في الرزق والولد، والإنعام بالأزواج والبنين والحفدة، والمشركون بنعمة الله يكفرون.
21 -
ذمُّ الله المشركين، وتمثيل الفرق بين المؤمنين والكافرين.
22 -
إثبات أمر الغيب والساعة لله، وامتنان الله على العباد بالسمع والأبصار والأفئدة، وفي تسخير الطيور وحملها في جو السماء آيات لقوم يؤمنون.
23 -
امتنان الله على عباده بنعمة البيوت والسكن وجلود الأنعام، ونعمة الظلال والجبال والسرابيل وغير ذلك.
24 -
تحذير الله عباده اليوم الموعود، يوم يبعث الله فيه الشهود، والخزي ومضاعفة العذاب على المشركين، الذين يصدون عن سبيل الله ويفسدون في الأرض ولا يصلحون.
25 -
اختصاص الله نبيّه بالشهادة على الأمم، وبالقرآن الذي يحمل الهدى والرحمة ويأمر بالعدل والإحسان، وينهى عن الفواحش والظلم والطغيان.
26 -
إثبات قهر مشيئته تعالى كل مشيئة، والتحذير من اتخاذ الأَيمان خديعة، والشراء بعهده تعالى ثمنًا قليلًا.
27 -
تبشير المؤمنين أهل الأعمال الصالحة، بحياة طيبة في الدنيا والآخرة.
28 -
الأمر بالاستعاذة من الشيطان، عند تلاوة القرآن، والشيطان ليس له سلطان على أهل الإيمان، بل على أتباعه من أهل الشرك والطغيان.
29 -
ضعف عقول المشركين، أمام منهج التشريع في القرآن الكريم، الذي نزل به الروح الأمين، فيقولون إنما يعلمه بشر أعجمي وهذا لسان عربي مبين.
30 -
استثناء المكره على الكفر من الوقوع في الكفر، ولكن من شرح بالكفر صدرًا فله عذاب أليم.
31 -
إخبار عن بعض المستضعفين بمكة الذين واتَوا المشركين على الفتنة، ثم تمكنوا من الهجرة، والله غفور رحيم.
32 -
إخبار عن طبيعة مخاصمة النفوس يوم القيامة بشتى الوسائل قبل نزول القصاص.
33 -
سنة الله في القرى الظالم أهلها، ونزول الخوف والجوع والعذاب.
34 -
تقريب الله الحلال الطيب، وتحذيره الحرام الخبيث، والافتراء بالتحليل والتحريم.
35 -
استحقاق اليهود التضييق عليهم بما كسبت أيديهم، وفتحه تعالى باب التوبة للمؤمنين الراجين أن يعفو عنهم، والله غفور رحيم.
36 -
ثناء الله على خليله إبراهيم، فقد كان حنيفًا ولم يك من المشركين، بل كان إمام الشاكرين.
37 -
رفعُ الله ذكر إبراهيم، وأمره نبينا بمتابعة ملته ملة التوحيد لله والتعظيم.
38 -
إضلال الله اليهود عن يوم الجمعة فاختاروا السبت يوم عيد لهم، والله يفصل يوم القيامة بينهم.
39 -
أمْرُ الله بالتماس طريق الحكمة والموعظة الحسنة في الدعوة إلى الله، والله يهدي من يشاء وهو أعلم بالشاكرين. ودعوة للعدل في الاقتصاص والصبر خير للصابرين.
40 -
المكر لا يحيق إلا بأهله الماكرين، والله تعالى في عون المتقين المحسنين.
° ° °
بسم الله الرحمن الرحيم
1 -
9. قوله تعالى: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (1) يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ (2) خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (3) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (4) وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (5) وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ (6) وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (7) وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (8) وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ (9)}.
في هذه الآيات: تَأْكِيدُ الله تعالى وقوع الساعة بصيغة الماضي لِيَهُدَّ بذلك عزيمة المستعجلين المشركين. إنه تعالى ينزل الملائكة بالوحي على من يشاء من عباده فله الخلق والأمر فالبشرى للمتقين والخزي على المشركين. لقد خلق الإنسان من نطفة من ماء مهين، فلما ترعرع وكبر صار لربه المنعم كالخصم المبين، وكذلك خَلَقَ سبحانه الأنعام وجعل فيها المنافع والدفء والزينة وغير ذلك لقوم يفقهون. وخلق الخيل والبغال والحمير للركوب والزينة ويخلق من المراكب ما لا تعلمون. كل ذلك ليهتدي الخلق إلى ربهم فيعظموه ويشكروه ولكن أكثر الناس لا يشكرون.
فقوله: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ} - ردٌّ على بعض المشركين الذين كانوا يستعجلون ما وعدوا من قيام الساعة ونزول العذاب بهم استهزاءً وتكذيبًا. فأتى بصيغة الماضي ليدل على تأكيد وقوع الساعة لا محالة، وأنه عن قريب سيكون بمنزلة ما مضى من الأحداث.
وفي التنزيل:
1 -
قال تعالى: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلَا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (53) يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ} [العنكبوت: 53، 54].
2 -
وقال تعالى: {يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلَا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ} [الشورى: 18].
3 -
وقال تعالى: {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ} [الأنبياء: 1].
4 -
وقال تعالى: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} [القمر: 1].
ومن كنوز صحيح السنة في آفاق مفهوم الآية أحاديث:
الحديث الأول: أخرج الترمذي بسند صحيح عن أبي هريرة، وعن أبي سعيد قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [يُؤتى بالعبدِ يوم القيامة فيقول له: ألمْ أجعل لك سمعًا وبصرًا، ومالًا وولدًا، وسخّرت لك الأنعام والحرث، وتركتكَ تَرْأسُ وتَرْبَعُ، فكنتَ تَظُنُّ أَنَّكَ ملاقِيَّ يَوْمَكَ هذا؟ فيقول: لا. فيقول له: اليوم أنساك كما نسيتني](1).
الحديث الثاني: أخرج مسلم في صحيحه عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [يُؤتى بأنْعَمِ أهل الدنيا من أهل النار يومَ القيامة، فَيُصبَغُ في النار صَبْغَة، ثم يقال: يا ابنَ آدم! هل رأيت خيرًا قط؟ هل مَرَّ بك نعيمٌ قط؟ فيقول: لا والله يا رب! . .] الحديث (2).
وقوله: {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} - تنزيه الله تعالى عن الشرك الذي كان عليه العرب ومن يدين بمثله من غيرهم.
وقوله: {يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} . قال ابن عباس: ({يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ} يقول: بالوحي). وقال قتادة: (بالوحي والرحمة). أو قال: (يقول: ينزل بالرحمة والوحي من أمره {عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} فيصطفي منهم رسلًا).
وفي التنزيل: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا} [الشورى: 52].
قال القرطبي: {عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} . أي: على الذين اختارهم الله للنبوة).
(1) حديث صحيح. أخرجه الترمذي في الجامع - حديث رقم - (2558) - أبواب صفة القيامة - وانظر صحيح سنن الترمذي - حديث رقم - (1978).
(2)
حديث صحيح. انظر مختصر صحيح مسلم - حديث رقم - (1986) - وهو جزء من حديث أطول.
وفي التنزيل:
1 -
قال تعالى: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ} [الحج: 75].
2 -
وقال تعالى: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام: 124].
3 -
وقال تعالى: {يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ} [غافر: 15].
وفي شُعَب البيهقي بإسناد حسن عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [صلوا على أنبياء الله ورسله، فإن الله بعثهم كما بعثني](1).
وله شاهد عند ابن عساكر بسند حسن من حديث وائل بن حجر بلفظ: [صلوا على النبيين إذا ذكرتموني، فإنهم قد بُعِثُوا كما بُعثت].
وقوله: {أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ} . قال قتادة: (إنما بعث الله المرسلين أن يوحَّدَ الله وحده، ويُطاع أمره، ويجتنب سخطه).
والمقصود: بعث الله الرسل لينذروا البشر أن لا يحيدوا عن لا إله إلا الله، فهي منهاج التقوى والنجاة في الدنيا والآخرة.
وفي التنزيل: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} .
وفي صحيح مسلم عن جابر رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[من مات لا يشرك بالله شيئًا دخل الجنة، ومن مات يشرك بالله شيئًا دخل النار](2).
وله شاهد عنده وفي المسند من حديث عثمان مرفوعًا: [من مات وهو يعلم أن لا إله إلا الله دخل الجنة].
وفي الصحيحين عن عتبان بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [إنّ الله حرَّم على النار من قال لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله عز وجل](3).
(1) حديث حسن. انظر تخريج "فضل الصلاة"(42) - الألباني، وصحيح الجامع (3675) - (3676).
(2)
حديث صحيح. رواه مسلم (93) - كتاب الإيمان. وانظر للشاهد صحيح مسلم (26)، ورواه أحمد في المسند. انظر صحيح الجامع (6428).
(3)
حديث صحيح. أخرجه البخاري (11/ 206)، وأخرجه مسلم (33) - كتاب الإيمان.
إِخْبارٌ من الله تعالى عن خلقه السماوات السبع وما فيهن، ومن الأرض مثلهن وما فيهن، وقد خلقهن بالحق لا للهزل واللعب، فكيف يشرك به بعد ذلك المشركون، ويعبدون من دونه ما لا يخلق ولا يضر ولا ينفع، ثم كان خلق الإنسان من ذلك الماء المهين، فلما ترعرع وكبر إذا هو لربه خصيم مبين، يكفر بنعمه ويجحد ألوهيته ويتبع سبيل الشياطين، ويحارب الصالحين والمرسلين.
وفي التنزيل:
1 -
2 -
وقال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا (54) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُهُمْ وَلَا يَضُرُّهُمْ وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا} [الفرقان: 54، 55].
وفي صحيح سنن ابن ماجه ومسند الإمام أحمد عن بُسْر بن جحَّاش قال: [بصق رسول الله صلى الله عليه وسلم في كفِّه، ثم قال: يقول الله تعالى: ابنَ آدم، أنّى تُعْجِزني وقد خلقتك مِن مثل هذه؟ ! حتى إذا سَوَّيْتُكَ فَعَدَلْتُكَ مَشَيْتَ بين بُرْدَيْكَ وللأرض منك وئيد، فجَمَعْتَ ومَنَعْتَ، حتى إذا بلغتِ الحلقوم قلتَ: أتصَدَّقُ، وأنّى أوانُ الصدقة](1).
وقوله تعالى: {وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} .
قال ابن عباس: (يعني بالدفء: الثياب، والمنافع: ما ينتفعون به من الأطعمة والأشربة). وقال أيضًا: ({دِفْءٌ وَمَنَافِعُ}، نَسْلُ كل دابة).
وعن مجاهد: ({لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ} قال: لباس ينسج، {وَمَنَافِعُ}: مركب ولحم ولبن). وقال أيضًا: (نتاجها وركوبها وألبانها ولحومها). وقال قتادة: ({دِفْءٌ وَمَنَافِعُ}، يقول: لكم فيها لباس ومنفعة وبُلْغَة).
وقوله تعالى: {وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ} .
قال القاسمي: ({وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ} أي زينة {حِينَ تُرِيحُونَ} أي تردونها من
(1) حديث صحيح. أخرجه ابن ماجه (2707)، وأحمد (4/ 210)، وصَحَّح إسناده البوصيري في "الزوائد"، وانظر سلسلة الأحاديث الصحيحة - حديث رقم - (1599).
مراعيها إلى مُراحها (1) - وهو مقرها في دور أهلها بالعشي - {وَحِينَ تَسْرَحُونَ} أي تخرجونها بالغداة إلى المراعي).
وقال الزمخشري: (منَّ الله بالتجمل بها كما مَنَّ بالانتفاع بها. لأنه من أغراض أصحاب المواشي. بل هو من معاظمها. لأن الرعيان، إذا روحوها بالعشي، وسرحوها بالغداة، فزينت بإراحتها وتسريحها الأفنية، وتجاوب فيها الثغاء والرغاء، آنست أهلها وفرَّحت أربابها. وأجلتهم في عيون الناظرين إليها، وأكسبتهم الجاه والحرمة عند الناس. ونحوه: {لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً} [النحل: 8] {يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا} [الأعراف: 26]. فإن قلت: لم قدمت الإراحة على التسريح؟ قلت: لأن الجمال في الإراحة أظهر، إذا أقبلت ملأى البطون، حافلة الضروع، ثم أوت إلى الحظائر حاضرة لأهلها) انتهى.
وقوله: {وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ} . قال عكرمة: (لو تكلفونه لم تبلغوه إلا بجهد شديد). وقال قتادة: (يقول: بجهد الأنفس).
وقوله: {إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} . أي ذو رحمة بكم، لتشكروه على نعمه عليكم، فيزيدكم من كرمه وفضله.
وقوله: {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً} . قال ابن عباس: (هذه للركوب، {وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ} قال: هذه للأكل). قال النسفي: (عطف على الأنعام، أي وخلق هذه للركوب والزينة). وقال القرطبي: (ولما أفرد سبحانه الخيل والبغال والحمير بالذكر دل على أنها لم تدخل تحت لفظ الأنعام. وقيل: دخلت ولكن أفردها بالذكر لما يتعلق بها من الركوب، فإنه يكثر في الخيل والبغال والحمير).
قلت: والعطف بين البغال والخيل والحمير لا يقتضي التساوي في حكم الأكل، فإن النهي جاء بالنص الصحيح عن أكل لحوم البغال والحمير، والإذن في أكل لحوم الخيل. وفي ذلك أحاديث:
الحديث الأول: أخرج البخاري ومسلم عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال:
(1) سمي المكان المُراح، لأنها تراح إليه عشيًا، فتأوي إليه، يقال: أراح فلان ماشيته. ويقال: سرحت الماشية إذا خرجت للمرعى. فالسرح بالغداة، والإراحة بالعشي.
[نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن لحوم الحمر الأهلية، وأَذِنَ في لحوم الخيل](1).
الحديث الثاني: أخرج أبو داود بسند صحيح عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: [ذبحنا يوم خيبر الخيل، والبغال، والحمير. فنهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البغال والحمير، ولم ينهنا عن الخيل](2).
الحديث الثالث: روى مسلم في صحيحه عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت: [نَحَرْنا على عَهْدِ رسول الله صلى الله عليه وسلم فَرَسًا فأكلناه ونحن بالمدينة](3).
وقوله: {وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} . أي: من أمثال تلك المخلوقات وما يقوم مقامها في الركوب والنقل. ويدخل في ذلك جميع أنواع وسائل النفل المشاهدة، كالسيارات والطائرات والسفن والقطارات وغير ذلك مما فتح الله به على الإنسان وسخّره له.
وقوله: {وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ} . انْتِقالٌ من السُّبل الحِسّية إلى السبل الدينية والمعنوية (4)، فكما أن الأنعام للركوب وحمل الأثقال إلى الأسفار البعيدة الشاقة، فكذلك طرق الهداية ومسالك الناس في هذه الحياة، فإنه ليس يوصل إلى الله تعالى منها إلا طريق الحق، وهو الطريق الذي ارتضاه الله للمرسلين، وأمر بسلوكه عباده المؤمنين.
قال ابن عباس: ({وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ} يقول: على الله البيان أن يبين الهدى والضلالة). وقال مجاهد: (طريق الحق على الله). وقال قتادة: (يقول: على الله البيان، بيان حلاله وحرامه، وطاعته ومعصيته). وقال ابن زيد: ({السَّبِيلِ}: طريق الهدى). وقال الضحاك: (يقول: على الله البيان، يبين الهدى من الضلالة، ويبين السبيل التي تفرّقت عن سبله، ومنها جائر). وعن ابن عباس: ({وَمِنْهَا جَائِرٌ} يقول:
(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (4219) ، (5520)، ومسلم (1941)، وأحمد (3/ 361)، وأخرجه أبو داود (3788)، والنسائي (7/ 201)، وابن حبان (3273).
(2)
حديث صحيح. أخرجه أبو داود في السنن (3789). انظر صحيح سنن أبي داود (3219) - كتاب الأطعمة - باب في أكل لحوم الخيل، ورواه أحمد في المسند (3/ 356)، والبيهقي (9/ 327)، وصححه الحاكم (4/ 235) ووافقه الذهبي.
(3)
حديث صحيح. أخرجه مسلم (1942)، وابن ماجه (3190)، وأحمد (3/ 345)، وابن حبان (5271) من حديث أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها.
(4)
وهذا وارد في القرآن، كقوله تعالى:{وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} [البقرة: 197]، وكقوله:{يَابَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ} [الأعراف: 26].
الأهواء المختلفة). وقال قتادة: ({وَمِنْهَا جَائِرٌ}: أي من السبل، سبل الشيطان. وفي قراءة عبد الله بن مسعود: "ومنكم جائر ولو شاء الله لهداكم أجمعين").
وقوله: {وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} . قال ابن جرير: (يقول: ولو شاء الله للطف بجميعكم أيها الناس بتوفيقه، فكنتم تهتدون، وتلزمون قصد السبيل، ولا تجورون عنه، فتتفرقون في سبل عن الحقّ جائرة).
وفي التنزيل:
1 -
قال تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا} [يونس: 99].
2 -
وقال تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [هود: 118، 119].
أخرج أبو نعيم في "الحلية" بسند حسن عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [إن الله لو شاء أن لا يُعصى ما خلق إبليس](1).
وفي لفظ عند البيهقي من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، قال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر:[يا أبا بكر! لو أراد الله أن لا يُعصى ما خلق إبليس].
10 -
11. قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ (10) يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (11)}.
في هذه الآيات: امْتِنانُ الله تعالى على عباده بنعمة الماء والشجر، والزرع والزيتون والنخيل والأعناب، وأصناف أخرى من الثمرات، جعلها بين أيديهم وسخّرها لمنفعتهم وسرورهم لعلهم يتفكرون.
فقوله: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ} . قال ابن جرير: (يقول تعالى ذكره: والذي أنعم عليكم هذه النعم، وخلق لكم الأنعام والخيل وسائر
(1) حديث صحيح لغيره. أخرجه أبو نعيم في "الحلية"(6/ 92)، والبيهقي في "الأسماء"(157)، وانظر سلسلة الأحاديث الصحيحة (1642).
البهائم لمنافعكم ومصالحكم، هو الربّ الذي أنزل من السماء ماءً، يعني: مطرًا لكم من ذلك الماء، شراب تشربونه، ومنه شراب أشجاركم، وحياة غروسكم ونباتها).
وقوله: {فِيهِ تُسِيمُونَ} . قال ابن عباس وعكرمة وقتاده: (أي: ترعون). ومنه الإبل السائمة، والسوم: الرعي. وقال الضحاك: (ترعون أنعامكم). وقال ابن عباس أيضًا: ({وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ} يقول: شجر يرعون فيه أنعامهم وشاءهم).
وقوله: {يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ} الآية. قال ابن كثير: (أي: يُخرِجها من الأرض بهذا الماء الواحد، على اختلاف صُنوفها وطعومها وألوانها وروائحها وأشكالها. ولهذا قال: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}، أي: دلالة وحجة على أنه لا إله إلا الله، كما قال تعالى: {أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ} [النمل: 60]).
قلت: فنعمة الماء والنبات والشجر هي من أكمل النعم التي تفضل الله بها على الإنسان، بعد نعمة استواء الخلق واكتمال صورته، ومن هنا كانت وصية النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ إذا مرّ بشجر أن يذكر الله العظيم المنعم المتفضل.
فقد أخرج الطبراني في "الكبير" بسند صحيح عن أبي سلمة قال: [قال معاذ: قلت يا رسول الله أوصني. قال: اعبُد الله كأنك تراه، واعدُدْ نفسك في الموتى، واذكُر الله عند كل حجرٍ، وعند كل شجر، وإذا عملت سيئة بجنبها حسنة، السِّرُ بالسِّرِ، والعلانيةُ بالعلانية](1).
12 -
18. قوله تعالى: {وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (12) وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (13) وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ
(1) قال المنذري (4/ 132): رواه الطبراني بإسناد جيد إلا أن فيه انقطاعًا بين أبي سلمة ومعاذ لكن له شواهد تقويه. انظر السلسلة الصحيحة - حديث رقم - (1475).
مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (14) وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (15) وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (16) أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (17) وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (18)}.
في هذه الآيات: امْتِنانٌ مُتَتَابِعٌ من الله سبحانه على عباده إضافة لما سبق: نعمة الليل والنهار، والشمس والقمر والنجوم، والبحار والفلك التي تجري فيها، واللحم والحلي المستخرج منها، والجبال والأنهار، والاهتداء بالنجوم، كل ذلك آيات لقوم يتفكرون. فهل من يخلق كمن لا يخلق أفلا تذكرون؟ ! إنكم إن تعدّوا نعمة الله عليكم تعجزوا عن إحصائها والله غفور رحيم.
تَذْكِيرٌ من الله تعالى لعباده بنعم كبيرة أخرى يتمتعون بها في حياتهم ويستفيدون من تسخيرها وتعاقبها، فنعمة الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم نعم قريبة متصلة بحياة الناس ومنافعهم.
ففي التنزيل:
1 -
2 -
وقال تعالى: {وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} [النحل: 16].
وقال تعالى: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا} [الإسراء: 12].
3 -
وقال تعالى: {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ} [الملك: 5].
4 -
وقال تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا (61) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا} [الفرقان: 61، 62].
وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم -
يقول: [تَفْضُلُ صلاةُ الجميع صلاةَ أحدكم وحْدَهُ بِخَمْسِ وعشرين جزءًا، وتجتمع ملائكة الليل وملائكة النهار في صلاة الفجر. ثم يقول أبو هريرة: فاقرؤوا إن شئتم: {إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا}](1).
ودوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} . قال ابن جرير: (إن في تسخير الله ذلك على ما سخّره لدلالات واضحات لقوم يعقلون حجج الله، ويفهمون عنه تنبيهه إياهم).
وقوله: {وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ} . قال قتادة: (يقول: وما خلق لكم مختلفًا ألوانه من الدواب، ومن الشجر والثمار، نِعَم من الله متظاهرة فاشكروها لله). قال ابن كثير: (لما نبّه سبحانه على معالم السماء نبَّه على ما خلق في الأرض من الأمور العجيبة والأشياء المختلفة، من الحيوانات والنبات والمعادن والجمادات على اختلاف ألوانها وأشكالها، وما فيها من المنافع والخواصِّ {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ}، أي: آلاء الله ونعمه فيشكرونها).
تَذْكِيرٌ بنعم أخرى في عالم البحار: من تسخير للسمك والحيتان، وإحلال لحمها في الحل والإحرام، وتسهيل استخراج اللآلئ والجواهر يلبسونها وتلبسها الزوجات زينة للأزواج الكرام، وشق السفن طريقها عبر الأمواج إلى شواطئ البلدان.
قال ابن جرير: (سخر لكم البحر، وهو كل نهر، ملحًا كان ماؤه أو عذبًا {لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا} وهو السمك الذي يصطاد منه {وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا} وهو اللؤلؤ والمرجان). وقال قتادة: ({لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا} يعني حيتان البحر. {وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا} قال: هذا اللؤلؤ).
قال النسفي: ({تَلْبَسُونَهَا} المراد بلبسهم لبس نسائهم ولكنهن إنما يتزين بها من أجلهم فكأنها زينتهم ولباسهم). ولكن يبدو أنه لا دليل على تخصيص اللؤلؤ والمرجان بالنساء. قال السيوطي في "الإكليل": (في الآية دليل على إباحة لبس الرجال الجواهر ونحوها). وقال صاحب "فتح البيان": (يجوز للرجال أن يلبسوا اللؤلؤ والمرجان، أي يجعلونهما حلية لهم كما يجوز للنساء. . وليس في الشريعة المطهرة ما يقتضي منع
(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (648) - كتاب الأذان - باب فضل صلاة الفجر في جماعة.
الرجال من التحلي باللؤلؤ والمرجان، ما لم يستعمله على صفة لا يستعمله عليها إلا النساء خاصة. فإن ذلك ممنوع، ورد الشرع بمنعه، من جهة كونه تشبُّهًا بهنّ، لا من جهة كونه حلية لؤلؤًا أو مرجانًا).
وعن ابن عباس: ({مَوَاخِرَ} قال: جَواري). وقال سعيد بن جبير: (معترضة). وقال الحسن: (مواقر). وقال قتادة والضحاك: (أي تذهب وتجيء، مقبلة ومدبرة بريح واحدة). قال القرطبي. (وأصل المَخْر شقّ الماء عن يمين وشمال. مَخَرت السفينة تَمْخَر وتمْخُر مَخْرًا ومخورًا إذا جرت تشق الماء مع صوت). وقال الجوهري: (ومَخَر السابح إذا شقّ الماء بصدره، ومخَر الأرض شقها للزراعة).
وقوله: {وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} . أي: ولتركبوه للتجارة وطلب الربح والسياحة في الأرض ورؤية بلاد الله الواسعة ومخلوقاته العجيبة، مما يزيدكم ذلك لله شكرًا.
وقوله: {وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ} . قال قتادة: (الجبال أن تميد بكم). وقيل: لئلا تميد بكم. والميد الاضطراب والتكفؤ. يقال: مادت السفينة إذا تكفأت بأهلها ومالت، ومنه الميد الذي يعتري راكب البحر، وهو الدوار. قال مجاهد ({أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ}: أن تكفأ بكم).
وقوله: {وَأَنْهَارًا وَسُبُلًا} . قال ابن كثير: (أي: وجعل فيها أنهارًا تجري من مكان إلى مكان آخرَ، رِزقًا للعباد، يَنْبُعُ في موضع وهو رِزْقٌ لأهل موضع آخرَ، فيقطَعُ البقاع والبراري والقفار، ويخترق الجبال والآكام، فيصلُ إلى البلد الذي سُخِّر لأهله، وهي سائرة في الأرض يمنة ويسرة، وجنوبًا وشمالًا، وشرقًا وغربًا، ما بين صغار وكبار، وأودية تجري حينًا وتنقطع في وقت، وما بين نَبْعٍ وجَمْعٍ، وقَوِيِّ السير وبطيئه، بحسب ما أراد وقدّر، وسخرِ ويسر. فلا إله إلا هو، ولا رب سواه. وكذلك جعل في الأرض سُبُلًا، أي: طرقًا يُسْلَكُ فيها من بلاد إلى بلاد، حتى إنه تعالى ليقطع الجبل ليكون ما بينهما ممرًا ومسلكًا، كما قال تعالى: {وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا}). وقال قتادة: ({سُبُلًا}: أي طرقًا).
وقوله: {لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} . قال ابن جرير: (يقول: لكي تهتدوا بهذه السبل التي جعلها لكم في الأرض إلى الأماكن التي تقصدون، والمواضع التي تريدون، فلا تضلوا ولا تتحيروا).
وقوله تعالى: {وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} . قال ابن عباس: (يعني بالعلامات: معالم الطرق بالنهار، وبالنجم هم يهتدون بالليل).
قلت: وتشمل العلامات الجبال الكبار، والآكام الصغار، ونحو ذلك مما يستدل به المسافرون أثناء النهار، وفي البر والبحار.
وقوله تعالى: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} . أي: هل الأوثان والطواغيت التي لا تخلق أحقّ بالعبادة أم الله الخالق البارئ القهار، الذي خلق كل شيء وبيده أمر كل شيء. قال النسفي:({أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} فتعرفون فساد ما أنتم عليه). وقال ابن جرير: (يقول: أفلا تذكرون نعم الله عليكم، وعظيم سُلطانه وقدرته على ما شاء، وعجز أوثانكم وضعفها ومهانتها، وأنها لا تجلب إلى نفسها نفعًا، ولا تدفع عنها ضرًّا، فتعرفوا بذلك خطأ ما أنتم عليه مقيمون من عبادتكموها وإقراركم لها بالألوهة).
وقوله تعالى: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} .
تَنْبِيهٌ من الله سبحانه على كثرة نعمه وعظيم إحسانه إلى عباده بما لا يعد ولا يحصى، فحق عبادته غير مقدور، وكثيرٌ من تقصير عباده في شكرهم له مجبور، وهو الرحيم بعباده إذا أنابوا وتابوا فيتجاوز عن إساءات كبيرة ويعفو عن كثير.
قال ابن كثير: ({وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ}، أي: يتجاوز عنكم، ولو طالبكم بشكر جميع نِعمه لعجزتُم عن القيام بذلك، ولو أمركم به لضعفتم وتركتم، ولو عذّبكم لَعَذَّبكم وهو غير ظالم لكم، ولكنه غفور رحيم، يغفر الكثير، ويجازي على اليسير).
قلت: والشكر هو سيلان اللسان بذكر الله ونعمائه، واختلاج القلب وتلهفه وتواضعه لكرمه، وإعمال الجوارح في طاعته وتعظيم أوامره.
وقواعد الشكر خمسة: الخضوع للمشكور، ومحبته، والاعتراف بنعمته، وثناؤه عليها، وصرفها فيما يحبه ويرضاه.
وآلات الشكر ثلاثة: اللسان والقلب والجوارح.
وشكر الناس نوعان: شكر العامة، وشكر الخاصة:
1 -
شكر العامة: وهو شكر على ما يشغلهم على الغالب كالمطعم والمشرب والملبس
والمنكح وعافية الأبدان. فقد قال جل ثناؤه: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [النحل: 78]. وقال تعالى: {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ: 13].
أخرج الطبراني بسند حسن عن أبي أمامة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [ما أنعم الله على عبد نعمة فَحَمِدَ الله عليها إلا كان ذلك الحمد أفضل من تلك النعمة](1).
وفي سنن ابن ماجه بسند صحيح عن أنسس رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[ما أنعم الله تعالى على عبدٍ نعمة فقال: الحمد لله، إلا كان الذي أعطى أفضلَ مما أخذ](2).
2 -
شكر الخاصة: وهو يشمل إضافة إلى شكر العامة ما هو أهم وأكبر: الشكر على التوحيد والإيمان وحياة القلوب، والشكر على القرآن وعلى نبي الإسلام عليه الصلاة والسلام.
ففي التنزيل:
1 -
قال جل ثناؤه: {وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [يونس: 10].
2 -
وقال جل ذكره: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ} [البقرة: 152].
3 -
وقال سبحانه: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} [إبراهيم: 7].
ومن صحيح السنة في ذلك:
الحديث الأول: أخرج الإمام أحمد في المسند بسند صحيح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [قال الله تعالى: إذا أحب عبدي لقائي أحببت لقاءه، وإذا كره لقائي كرهت لقاءه]- ورواه البخاري (3).
الحديث الثاني: أخرج ابن حبان والطبراني بإسناد صحيح عن فضالة بن عبيد، أن
(1) حديث حسن. أخرجه الطبرانبي بإسناد حسن من حديث أبي أمامة. انظر صحيح الجامع الصغير (5438)، وكتابي: أصل الدين والإيمان (1/ 318) لتفصيل البحث.
(2)
حديث صحيح. انظر صحيح سنن ابن ماجه (3067) - كتاب الأدب، باب فضل الحامدين.
(3)
حديث صحيح. انظر صحيح البخاري - حديث رقم - (7504) - كتاب التوحيد، ورواه أحمد. انظر صحيح الجامع الصغير - حديث رقم - (4179).
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: [اللهم من آمن بك، وشهد أني رسولك، فحبِّب إليه لقاءك، وسَهِّل عليه قضاءك، وأقلل له من الدنيا. ومن لم يؤمن بك ويشهد أني رسولك، فلا تحبب إليه لقاءك، ولا تسهل عليه قضاءك، وأكثر له من الدنيا](1).
19 -
23. قوله تعالى: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (19) وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (20) أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (21) إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (22) لَا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ (23)}.
في هذه الآيات: إعلام الله تعالى عباده أنه لا يخفى عليه شيء من أعمالهم، وهذه الأوثان التي تُعْبَدُ من دونه غير قادرة على خلقهم ولا خلق شي ممن حولهم، فهي أموات لا أرواح فيها ولا تملك لأهلها ضرًا ولا نفعًا وما يشعرون أيان يوم بعثهم، وإنما إلهكم - أيها الناس - إله واحد والكافرون بالآخرة مستكبرون معظمون لأهوائهم، والله يعلم علانيتهم وإسرارهم، وهو تعالى لا يحب المستكبرين.
فقوله تعالى: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ} . أي: لا يخفى عليه شيء سبحانه مما أخفيتم ولا ما أعلنتم، فسواء أسررتم في ضمائركم أو أظهرتم على ألسنتكم وجوارحكم وأفعالكم، كل ذلك في علم الله تعالى.
وفي التنزيل: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات: 96].
وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، وكان عرشه على الماء](2).
وفي معجم الطبراني بسند صحيح عن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [فرغ الله
(1) حديث صحيح. أخرجه ابن حبان (2475)، والطبراني في "المعجم الكبير"(ق 74/ 2)، وانظر سلسلة الأحاديث الصحيحة - حديث رقم - (1338).
(2)
حديث صحيح. انظر مختصر صحيح مسلم (1841) - باب: كتب المقادير قبل الخلق.
عز وجل إلى كل عبد من خمس: من أجله ورزقه وأثره ومضجعه وشقي أو سعيد] (1). وفي رواية: (من عمله وأجله ورزقه وأثره ومضجعه).
قال قتادة: (وهي هذه الأوثان التي تُعبد من دون الله أموات لا أرواح فيها، ولا تملك لأهلها ضرًّا ولا نفعًا).
وقوله تعالى: {إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ} .
أي: معبودكم الذي يستحق أن تصرف له العبادة والتعظيم هو الله الواحد الأحد. والذين يكذبون بالمعاد مستنكرون لما نَقُصُّ عليهم من قدرة الله - المنعم المتفضل - على إعادتهم، وأن الاستعداد للقائه يكون بعبادته تعالى وتعظيم أمره، بل هم مستكبرون عن إفراده بالألوهة، مشركون في عبادته، معظمون لأهواء عقولهم ونفوسهم.
قال قتادة: ({فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ} لهذا الحديث الذي مضى، وهم مستكبرون عنه).
وفي التنزيل:
1 -
قال تعالى: {وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} [الزمر: 45].
2 -
وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر: 60].
3 -
وقال تعالى: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص: 5].
أخرج الترمذي بسند صحيح عن عبد الله بن عمرو، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [يحشر المتكبرون يوم القيامة أمثال الذرّ في صور الرجال، يغشاهم الذل من كل مكان،
(1) حديث صحيح. أخرجه الطبراني، وأحمد (5/ 197)، وابن أبي عاصم (303). وانظر الروايات المختلفة في صحيح الجامع (4077) - (4078) - (4079).
يُساقون إلى سجن في جهنم يسمى بولس، تعلوهم نار الأنيار، يُسْقون من عُصارة أهل النار، طينة الخبال] (1).
وقوله: {لَا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ} . أي: حقًا يعلم سبحانه ما تخفي صدور المشركين وما يبطنون من الاستكبار على الله، وما يعلنون ويظهرون من الكفر والصد عن سبيل الله.
وقوله: {إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ} . أي: لا يحب تعالى المستكبرين على طاعته والمصرين على تحكيم الأهواء والأنفس والشهوات.
وفي التنزيل: قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر: 60].
وفي صحيح مسلم عن ابن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرةٍ من كِبر، قيل: إن الرجل يحبّ أن يكون ثوبه حسنًا، ونعله حسنة، قال: إن الله جميل يحب الجمال، الكِبْرُ بَطَرُ الحق، وغَمْطُ الناس](2).
وله شاهد فيه عنه بلفظ: [لا يدخل النار أحد في قلبه مثقالُ حبة خردلٍ من إيمان، ولا يدخل الجنة أحد في قلبه مثقالُ حبة خردل من كبرياء].
24 -
29. قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (24) لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ (25) قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (26) ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ (27) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ
(1) حديث حسن صحيح. أخرجه أحمد في المسند، والترمذي في السنن (2492). انظر صحيح سنن الترمذي (2025)، وصحيح الجامع (7896).
(2)
حديث صحيح. أخرجه مسلم في الصحيح (1/ 65)، ورواه أحمد وأبو داود والترمذي، وانظر مختصر صحيح مسلم - حديث رقم - (54) - كتاب الإيمان.
الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28) فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (29)}.
في هذه الآيات: إثبات الله تعالى كفر المشركين بالتنزيل واتهامه بأنه أساطير الأولين، ليحملوا بذلك أوزارهم وأوزار من تبعهم من المبطلين، وقد مكر الذين من قبلهم فحرَّكَ الله قواعد بنيانهم لِيَخِرَّ السقف عليهم من حيث لا يشعرون، ثم يكون الخزي الأكبر والفضيحة يوم الدين على الكافرين، الذين تتوفاهم الملائكة ظالمين، ويقال لهم يوم القيامة ادخلوا أبواب جهنم خالدين، فلبئس مثوى المتكبرين.
فقوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} . قال قتادة: (يقول: أحاديث الأولين وباطلهم). قال ابن جرير: (يقول تعالى ذكره: وإذا قيل لهؤلاء الذين لا يؤمنون بالآخرة من المشركين، ماذا أنزل ربكم، أيّ شيء أنزل ربكم، قالوا: الذي أنزل ما سطَّرَه االأوّلون من قبلنا من الأباطيل).
وفي التنزيل:
1 -
قال تعالى: {وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} [الفرقان: 5].
2 -
وقال تعالى: {وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا (8) انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا} [الفرقان: 8، 9].
3 -
وقال تعالى: {إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (18) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (20) ثُمَّ نَظَرَ (21) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (22) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (23) فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ} [المدثر: 18 - 24].
قال ابن عباس: (إنها كقوله: {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ}). وقال مجاهد: (يحملون أثقالهم: ذنوبهم وذنوب من أطاعهم، ولا يُخَفّف ذلك عمن أطاعهم من العذاب شيئًا). قال ابن جرير: ({أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ} يقول: ألا ساء الإثم الذي يأثمون، والثقل الذي يتحملون).
قال قتادة: (أتى الله بنيانهم من أصوله، فخرّ عليهم السقف). قال النسفي: ({فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ} أي من جهة القواعد وهي الأساطين، وهذا تمثيل، يعني أنهم سوّوا منصوبات ليمكروا بها رسل الله فجعل الله هلاكهم في تلك المنصوبات، كحال قوم بنوا بنيانًا وعمدوه بالأساطين، فأتى البنيان من الأساطين بأن ضعضعت فسقط عليهم السقف وماتوا وهلكوا). وذهب بعض المفسرين أن المراد نمرود بن كنعان حين بنى الصرح ببابل طوله خمسة آلاف ذراع فَأَهَبَّ الله الريح فخرّ عليه وعلى قومه. وقيل بل المراد بُخْتَنَصَّر، والله أعلم.
وقوله: {وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ} .
قال القرطبي: (أي من حيث ظنوا أنهم في أمان).
قلت: والآية تدل على احتيال الطغاة في المكر بدين الله والصد عن سبيل الله ومحاولة إضلال الناس بكل حيلة ووسيلة، فإذا صبر أهل الحق وواجهوا مكر الملأ بالجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كانت لهم العاقبة، وأتى الله بنيان أولئك الذي صنعوه فاجْتَثَّه من أصله وَأَبْطَلَ عملهم وأضلّه. وقد ورد أصل هذا المعنى في القرآن والسنة الصحيحة:
ففي التنزيل:
1 -
قال تعالى: {كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ} [المائدة: 64].
2 -
وقال تعالى: {فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَاأُولِي الْأَبْصَارِ} [الحشر: 2].
3 -
وقال تعالى: {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [آل عمران: 54].
وفي صحيح السنة المطهرة في آفاق معنى الآية أحاديث:
الحديث الأول: أخرج البخاري ومسلم عن أبي موسى، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[إنّ الله تعالى ليُملي للظالم، حتى إذا أخذه لم يُفْلته](1).
الحديث الثاني: أخرج مسلم من حديث أبي موسى، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [إن الله تعالى إذا أراد رحمة أمة من عباده قبض نبيَّها قَبْلها، فجعلَه لها فَرَطًا وسلفًا بين يديها،
(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (4686)، ومسلم (2583)، والترمذي (3110)، وابن ماجه (4018)، وابن حبان (5175)، ورواه البيهقي (6/ 94).
وإذا أراد هلكةَ أمّةٍ عذّبها ونبيُّها حيٌّ فأهلكها وهو ينظر، فأقَرَّ عينَه بهلكتِها حين كذبوه وعصوا أمره] (1).
الحديث الثالث: أخرج مسلم في صحيحه عن أبي سعيد، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[إذا أراد الله خلقَ شيء لم يمنعه شيء](2).
وقوله: {ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ} . أي: يفضحهم ويظهر سرائرهم وما كانت تجنّه ضمائرهم.
كما في التنزيل:
1 -
قال تعالى: {يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ} [الطارق: 9].
2 -
وقال تعالى: {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ} [الزمر: 60].
وفي الصحيحين عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [لكل غادر لواءٌ يُعْرَفُ به يومَ القيامة](3). ورواه مسلم عن أبي سعيد بلفظ: [لكل غادر لواء عند اسْتِهِ يومَ القيامة](4). وفي لفظ آخر في مسند أحمد: [لكل غادر لواء يوم القيامة، يُرْفَعُ له بقدرِ غَدْرَتِه، ألا ولا غادرَ أعظمُ غدرًا من أمير عامة]. وفي لفظ من طريق ابن عمر: [لكل غادر لواء ينصب له بغدرته].
وقوله: {وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ} . قال ابن عباس: (يقول: تخالفوني). والمشاقّة: فعل ما يشقّ. تقول العرب: شاققت فلانًا فهو يشاقني: إذا فعل كل واحد بصاحبه ما يشقّ عليه. قال ابن جرير: (يقول: أين الذين كنتم تزعمون في الدنيا أنهم شركائي اليوم، ما لهم لا يحضرونكم، فيدفعوا عنكم ما أنا مُحِلٌّ بكم من العذاب). كما قال تعالى: {مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ} [الشعراء: 93]. {فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلَا نَاصِرٍ} [الطارق: 10].
(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم في صحيحه (7/ 65) من حديث أبي موسى مرفوعًا. وانظر مختصر صحيح مسلم - حديث رقم - (1596).
(2)
حديث صحيح. رواه مسلم من حديث أبي سعيد، وانظر صحيح الجامع - حديث رقم - (307).
(3)
حديث صحيح. أخرجه البخاري (2/ 301)، وأخرجه مسلم، وأحمد (3/ 142)، وغيرهم.
(4)
حديث صحيح. أخرجه مسلم (5/ 142)، وانظر للفظ أحمد المسند (3/ 7) ، (3/ 61)، (3/ 19)، وكذلك صحيح الجامع الصغير - حديث رقم - (5046).
وقوله: {قَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ} .
قال ابن كثير: (فإذا توجّهت عليهم الحجة، وقامت عليهم الدلالة، وحقت عليهم الكلمة، وأُسكِتُوا عن الاعتذار حين لا فرار {قَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} وهم السادة في الدنيا والآخرة، والمُخبرون عن الحق في الدنيا والآخرة، فيقولون حينئذ: {إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ}، أي: الفضيحة والعذاب اليوم محيط بمن كفر بالله، وأشرك به ما لا يضرّه ولا ينفعه).
إِخْبَارٌ عن حال المشركين الظالمي أنفسهم في هيئتهم عند الاحتضار، ونزول ملائكة الجبار، لقبض أرواح هؤلاء الأشرار الفجار. {فَأَلْقَوُا السَّلَمَ} أي أظهروا الاستسلام، والسمع والطاعة والانقياد، وهم يقولون:{مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ} - قال القرطبي: (أي من شرك). وفي التنزيل:
1 -
قال تعالى: {ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام: 23].
2 -
وقال تعالى: {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ} [المجادلة: 18].
وفي صحيح مسلم عن أنس قال: [كنّا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فضحك، فقال: هل تدرون مِمَّ أضحك؟ قال: قلنا: الله ورسوله أعلم. قال: من مُخاطبة العبد ربَّه يقول: يا رب ألم تجرني من الظلم؟ فيقول: بلى. فيقول: إني لا أجيز على نفسي إلا شاهدًا مني، فيقول: كفى بنفسك اليوم عليك شهيدًا، وبالكرام الكاتبين شهودًا، فَيُخْتَمُ على فيه، ويُقَال لأركانه انْطقي، فتَنطِقُ بأعماله، ثم يُخَلّى بينه وبين الكلام، فيقول: بعدًا لَكُنَّ وسحقًا فعنكن كنت أناضل](1).
وقوله: {بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} . أي: إن الله ذو علم بما كنتم عليه من المكر بدين الله والمؤمنين، والصد عن سبيل الله القويم، تبغونها عِوَجًا وفسادًا في الأرض.
وقوله تعالى: {فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ} .
قال القرطبي: (أي يقال لهم ذلك عند الموت. وقيل: هو بشارة لهم بعذاب القبر، إذ هو باب من أبواب جهنم للكافرين). وقال ابن كثير: ({فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ}
(1) حديث صحيح. رواه مسلم (8/ 217). وانظر مختصر صحيح مسلم - حديث رقم - (1933).
أي: بئسَ المَقِيل والمُقام والمكان من دار هَوَانٍ، لمن كان متكبرًا عن آيات الله واتباع رسله. وهم يَدخلون جهنم من يوم مماتهم بأرواحهم، وينال أجسادَهم في قبورها من حرِّها وسَمُومها، فإذا كان يومُ القيامة سُلِكَت أرواحهم في أجسادهم، وخُلِّدت في نار جهنم، {لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا} [فاطر: 36]، كما قال الله تعالى:{النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر: 46]).
30 -
32. قوله تعالى: {وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْرًا لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ (30) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ كَذَلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ (31) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (32)}.
في هذه الآيات: ثَنَاءُ الله تعالى على المحسنين المتقين، الذين يدخلون بإذنه وتوفيقه جنات عدن خالدين، وقد توفتهم الملائكة قبل ذلك طيبين، وقالوا لهم: سلام عليكم ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون.
فقوله: {وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْرًا} .
هو إِخْبَارٌ عن حال السعداء المؤمنين، بخلاف حال الأشقياء المشركين، فإن الأشقياء لما قيل لهم {مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ} أعرضوا عن الجواب واعتبروا ما جاءهم أساطير الأولين، وأما المؤمنون فأقروا بالوحي الكريم، الذي حمل لهم الخير الكبير، من وعد الله الجليل: وهو قوله: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ} . قال قتادة: (أي آمنوا بالله وأمروا بطاعة الله، وحثوا أهل طاعة الله على الخير ودعوهم إليه). وقال الشهاب: (والحسنة التي في الدنيا الظفر وحسن السيرة وغير ذلك).
وقوله: {وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ} .
قال القرطبي: (أي ما ينالون في الآخرة من ثواب الجنة خير وأعظم من دار الدنيا، لفنائها وبقاء الآخرة). وقال النسفي: {وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ} دار الآخرة، فحذف المخصوص بالمدح لتقدم ذكره).
وفي التنزيل:
1 -
قال تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل: 97].
2 -
وقال تعالى: {فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ} [آل عمران: 148].
3 -
وقال تعالى: {وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ} [آل عمران: 198].
4 -
وقال تعالى: {وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [الأعلى: 17].
وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [قال الله: أَعْدَدْتُ لعبادي الصالحين ما لا عينٌ رَأَتْ، ولا أذنٌ سَمِعَتْ، ولا خَطَرَ على قلب بشرٍ، فاقرؤوا إن شئتم: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} [السجدة: 17]] (1).
ويروي الليث بن سعد عن معاوية بن صالح عن عبد الملك بن بشير ورفع الحديث قال: [ما من يوم إلا والجنة والنار يسألان. تقول الجنة: يا رب قد طاب ثمري واطردت أنهاري واشتقت إلى أوليائي فعجل إليَّ بأهلي. وتقول النار: اشتد حري وبعد قعري وعظم جمري فعجِّل عليَّ بأهلي](2).
أي: جنات إقامة وخلود، تجري الأنهار بين أشجارها وقصورها وبساتينها، وفيها من كل ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين، جعلها الله تعالى ثوابًا للمتقين.
وفي التنزيل:
1 -
(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (3244) - كتاب بدء الخلق، وانظر (4779) ، (4780)، ورواه مسلم في الصحيح (2824) - كتاب الجنة، وصفة نعيمها وأهلها -.
(2)
انظر: "صفة الجنة" - وانلي - ص (214) - وإسناده حسن. وكتابي: "أصل الدين والإيمان"(792) - في تفصيل نعيم أهل الجنة.
2 -
قال تعالى: {إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ (55) هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ (56) لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ (57) سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} [يس: 55 - 58].
3 -
وقال تعالى: {يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (71) وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الزخرف: 71، 72].
ومن كنوز صحيح السنة في وصف أنهار الجنة وما فيها من المقام الكريم أحاديث:
الحديث الأول: يروي البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[إن في الجنة مئة درجة أعدّها الله عز وجل للمجاهدين في سبيله، بين كل درجتين كما بين السماء والأرض، فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس، فإنه وسط الجنة، وأعلى الجنة، وفوقه عرش الرحمن، ومنه تتفجر أنهار الجنة](1).
الحديث الثاني: أخرج الترمذي بسند صحيح عن معاوية بن حيدة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[إنّ في الجنة بَحْرَ الماء، وبحرَ العسل، وبحرَ اللبن، وبحرَ الخمر، ثم تشقّق الأنهار بعد](2).
الحديث الثالث: أخرج مسلم في صحيحه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [سَيحان وجيحان والفرات والنيل كلها من أنهار الجنة](3).
وقوله تعالى: {الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} .
إِخْبَارٌ عن حال المؤمنين عند الاحتضار، ونزول ملائكة الرحمة بالسلام والبشرى من الملك الرحيم القهار، الذي أمر بتبشيرهم بدخول الجنان جزاء الصبر والثبات على الحق إلى ساعة مفارقة دنيا الاغترار.
قال القاسمي: ({الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ} أي طاهرين من ظلم أنفسهم بالكفر
(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (4/ 14) ، (9/ 101)، وأخرجه أحمد (2/ 335)، وكذلك (2/ 339)، ورواه البيهقي في "الأسماء"(398)، وغيرهم.
(2)
حديث صحيح. أخرجه الترمذي في السنن (2703)، وانظر صحيح سنن الترمذي - (2078).
(3)
حديث صحيح. انظر مختصر صحيح مسلم (1968)، وكتابي: أصل الدين والإيمان (2/ 776) لمزيد من التفصيل في أنهار الجنة وما ورد فيها.
والمعاصي وكل سوء {يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} أي لتدخل أرواحكم الجنة فإنها في نعيم برزخيٍّ إلى البعث. أو المراد بشارتهم بأنهم يدخلونها كقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ. . .} [فصلت: 30] الآيات).
ومن كنوز صحيح السنة في ذلك أحاديث:
الحديث الأول: أخرج الإمام أحمد وأبو داود والحاكم من حديث البراء مرفوعًا - في صفة المؤمن في قبره بعد السؤال -: [ويأتيه رجل حسن الوجه، حسن الثياب، طيب الريح، فيقول: أبشر بالذي يسرّك، أبشعر برضوان من الله، وجنات فيها نعيم مقيم، هذا يومك الذي كنت توعد، فيقول له: وأنت فبشّرك الله بخير من أنت؟ فوجهك الوجه يجيء بالخير، فيقول: أنا عملك الصالح، فوالله ما علمتك إلا كنت سريعًا في إطاعة الله، بطيئًا في معصية الله، فجزاك الله خيرًا. .] الحديث (1).
الحديث الثاني: أخرج ابن ماجه بسند صحيح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وفيه:[فيفرجُ له فرجَةٌ قبلَ النار، فينظرُ إليها يَحْطمُ بعضُها بعضًا، فَيُقال له: انظُرْ إلى ما وقاك الله تعالى، ثم يُفرجُ له فرجَةٌ قبلَ الجنة، فينظرُ إلى زهرَتها وما فيها، فيقال له: هذا مقعدك، ويُقال له: على اليقين كنتَ، وعليه مُتَّ، وعليه تُبْعَثُ إن شاء الله](2).
33 -
34. قوله تعالى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (33) فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (34)}.
في هذه الآيات: اسْتِخْفَافُ الله تعالى بالمشركين، فهم ينتظرون الموت لقبض
(1) حديث صحيح. أخرجه أبو داود (2/ 281)، وأحمد (4/ 287)، والنسائي (1/ 282)، وأخرجه ابن ماجه (1/ 469)، والحاكم (1/ 37 - 40)، وانظر:"أحكام الجنائز"(157).
(2)
حديث صحيح. أخرجه ابن ماجه (4268). وانظر تخريج الترغيب (4/ 188 - 189)، وصحيح الجامع (1964) في أثناء حديث طويل. وانظر صحيح سنن ابن ماجه - حديث رقم - (3443).
أرواحهم، أو القيامة لنزول العذاب بهم، شأن الأمم الضالة قبلهم، وما ظلمهم الله ولكن كانوا أنفسهم يظلمون، وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون.
فعن قتادة: (قوله: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ} قال: بالموت، وقال في آية أخرى: {وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ} [الأنفال: 50] وهو ملك الموت، وله رسل، قال الله تعالى: {أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ} ذاكم يوم القيامة).
وقال مجاهد: ({هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ} يقول: عند الموت حين تتوفاهم، {أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ} ذلك يوم القيامة).
وقوله: {كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} الآية.
قال ابن جرير: (يقول جل ثناؤه: كما يفعل هؤلاء من انتظارهم ملائكة الله لقبض أرواحهم، أو إتيان أمر الله فعل أسلافهم من الكفرة بالله، لأن ذلك في كل مشرك بالله، {وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ} يقول جل ثناؤه: وما ظلمهم الله بإحلال سُخْطِه {وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} بمعصيتهم ربهم وكفرهم به، حتى استحقوا عقابه، فعجَّل لهم).
وقوله تعالى: {فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} .
قال القاسمي: ({فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا} جزاء سيئات أعمالهم من الشرك وإنكار الوحدانية وتكذيب الرسل ونحوها {وَحَاقَ} أي أحاط بهم {مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} من العذاب الذي توعدتْهُم به الرسُل).
35 -
40. قوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (35) وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (36) إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (37) وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ
بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (38) لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ (39) إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (40)}.
في هذه الآيات: ذمُّ الله تعالى المشركين احتجاجهم بالقدر على شركهم، شأن الأمم الضالة قبلهم، وما على الرسل إلا البلاع المبين. لقد بعث الله الرسل في أممهم يدعونهم لإفراد الله تعالى بالتعظيم، ونبذ الطاغوت وسبل الشياطين، فمن علم الله فيه خيرًا هداه، ومن علم كبره ومكره أضله، فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين. إنك إن تحرص - يا محمد - على هداهم فاعلم أن الله لا يهدي من يُضل ويصرّ على الضلال وما لهم من ناصرين. لقد أقسموا بالله على إنكار البعث وأكثرهم كاذبون لا يعلمون، فإنما قول الله لشيء إذا أراد وجوده أن يقول له كن فيكون.
اعْتِذارٌ تَافِهٌ من المشركين على شركهم بالله وتحريم ما لم ينزل به تشريعًا من البحائر والسوائب والوصائل معلقين ذلك كله على القدر، شأن الأمم المغرورة قبلهم.
قال ابن كثير: (ومضمون كلامهم أنه لو كان تعالى كارهًا لِمَا فعلنا لأنكره علينا بالعقوبة، ولما مَكَّننا منه. قال الله تعالى رادًا عليهم شبهتهم: {فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ}؟ أي ليس الأمر كما تزعمون أنه لم يُعَيِّره عليكم ولا أنكره، بل قد أنكره عليكم أشد الإنكار، ونهاكم عنه آكد النهي، وبعث في كل أمة، أي: في كل قرْن من الناس وطائفة رسولًا، وكلهم يَدْعون إلى عبادة الله، ويَنْهَوْن عن عبادة ما سواه).
وقوله {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} .
قال القرطبي: (أي بأن اعبدوا الله ووحّدوه. {وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} أي اتركوا كلّ معبود دون الله كالشيطان والكاهن والصنم، وكل من دعا إلى الضلال).
وقوله: {فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ} .
قال النسفي: ({فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ} لاختيارهم الهدى {وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ} أي لزمته لاختياره إياها).
وقوله: {فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} .
أي: إن كنتم معشر المشركين من قريش وغيرها غير مصدقي رسولنا فسيروا في أرجاء الأرض فانظروا كيف آل حال الأمم المكذبة قبلكم، وكيف صار آخر أمرهم إلى الخراب والدمار والعذاب والهلاك.
وقوله: {إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ}
إِخْبارٌ من الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم: أنّ حرصه على هدايتهم لا ينفعهم إن كان الله أراد إضلالهم، لعلمه بفساد قلوبهم وانحراف فطرتهم وحبهم تعظيم الطواغيت والشهوات وإصرارهم على التمسك بنهج الجاهلية.
وفي التنزيل:
1 -
قال تعالى: {مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الأعراف: 186].
2 -
وقال تعالى: {وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا} [المائدة: 41].
3 -
وقال تعالى: {وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ} [هود: 34].
4 -
وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ (96) وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ} [يونس: 96، 97].
وفي صحيح مسلم من حديث حذيفة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: [تُعرض الفِتن كالحصير عودًا عودًا، فأيُّ قلب أُشْرِبَها نُكتَ فيه نكتةٌ سوداء، وأيُّ قلب أنكرها نُكِتَ فيه نُكتةٌ بيضاء، حتى يصير على قلبين، على أبيضَ مثل الصفا فلا تضره فتنة ما دامت السماوات والأرض، والآخر أسود مُرْبادًا كالكوز مُجَخِّيًا، لا يَعْرِف معروفًا ولا يُنْكر مُنكرًا، إلا ما أشرب من هواه](1).
وقوله: {وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} - أي ينصرونهم ويحولون بينهم وبين وقوع العقاب بهم.
(1) حديث صحيح. انظر مختصر صحيح مسلم (1990) - كتاب الفتن. وقوله: "مربادًا" يعني: شدة البياض في سواد، و"مُجَخّيًا" أي: منكوسًا.
وقوله: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ} .
قال قتادة: (تكذيبًا بأمر الله أو بأمرنا، فإن الناس صاروا في البعث فريقين: مكذِّبٌ ومصدق).
والمعنى: لقد حلف المشركون وأقسموا واجتهدوا في الحلف وغلّظوا الأيمان مستبعدين حدوث البعث بعد الموت، مكذبين الرسل بذلك، فردّ الله زعمهم وكذّبهم بقوله:{بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} .
قال ابن كثير: (أي: فبجهلهم يخالفون الرسل ويَقعون في الكفر).
وفي صحيح البخاري من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [قال الله تعالى: كذبني ابن آدم ولم يكن له ذلك، وشتمني ولم يكن له ذلك، فأما تكذيبه إياي فقوله لن يعيدني كما بدأني، وأما شتمه إياي فقوله اتخذ الله ولدًا وأنا الأحد الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفُوًا أحد](1).
وقوله تعالى: {لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ} .
بَيَانٌ من الله تعالى حكمته من المعاد: ليبين للناس ما اختلفوا فيه من كل شيء، فيجازي المحسنين بإحسانهم والمسيئين بإساءتهم، وليعلم الذي جحدوا الحساب والجزاء والبعث بعد الموت أنهم كانوا كاذبين في دعواهم، وأن ذلك كما حملهم في الدنيا على متابعة كفرهم وظلمهم سيحملهم اليوم على مواجهة حرّ جهنم وسعيرها.
وفي صحيح السنة العطرة في آفاق معنى الآية أحاديث:
الحديث الأول: روى مسلم عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:[ناركم هذه التي توقد بنو آدم، جزءٌ من سبعين جزءًا من نار جهنم. قيل يا رسول الله! إن كانت لكافية. قال فُضِّلَتْ عليهن بتسعة وستين جزءًا كلهنَّ مثلُ حرّها](2).
(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري في صحيحه - حديث رقم - (4975)، وابن جرير (21588) نحوه.
(2)
حديث صحيح. انظر مختصر صحيح مسلم - حديث رقم - (1976)، ورواه البخاري في صحيحه (3265) بلفظ قريب، ورواه أكثر أهل السنن.
وفي لفظ: [فإنها فَضَلَتْ عليها بتسعة وستين جزءًا، كُلُّهُنَّ مثلُ حرِّها].
الحديث الثاني: أخرج الترمذي بسند صحيح عن أبي هريرة، وعن أبي سعيد قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [يُؤتى بالعبد يوم القيامة فيقول له: ألمْ أَجْعَلْ لك سمعًا وبصرًا ومالًا وولدًا، وسَخَّرْتُ لك الأنعام والحرثَ، وتركْتُكَ تَرْأَسُ وتَرْبَعُ، فكنتَ تَظُنُّ أنك مُلاقِيَّ يَوْمَكَ هذا؟ فيقول: لا. فيقول له: اليوم أنْساك كما نسيتني](1).
الحديث الثالث: يروي الطبراني بإسناد حسن عن أبي أمامة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[صنفان من أمتي لن تنالهما شفاعتي: إمام ظلوم غشوم، وكل غال مارق](2).
وقوله تعالى: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} .
قال ابن جرير: (يقول تعالى ذكره: إنا إذا أردنا أن نبعث من يموت فلا تعب علينا ولا نصب في إحيائنا لهم، ولا في غير ذلك مما نخلق ونكوّن ونحدث، لأنا إذا أردنا خلقه وإنشاءه، فإنما نقول له: كن فيكون، لا معاناة فيه، ولا كُلفة علينا).
41 -
42. قوله تعالى: {وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (41) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (42)}.
في هذه الآيات: إِثْبَاتُ الله تعالى سعادة المهاجرين، الذين ظُلِمُوا في سبيل الله وصبروا وعلى ربهم يتوكلون.
أي: إن مفارقة الأقوام وهجرة الأوطان فرارًا بالدين من ظلم الطغاة أجره عظيم عند الله، ويُهَيِّئ الله لأهله في الدنيا مسكنًا يرضونه صالحًا. وقيل في سبب ذلك أمران:
1 -
قال قتادة: (هؤلاء أصحاب محمد ظلمهم أهل مكة، فأخرجوهم من ديارهم،
(1) حديث صحيح. أخرجه الترمذي (2558) - أبواب صفة القيامة. وانظر صحيح سنن الترمذي - حديث رقم - (1978)، وأصله في صحيح مسلم.
(2)
حديث حسن. أخرجه الطبراني في "الكبير" و"الأوسط"، كما ذكر الهيثمي في "المجمع":(5/ 235)، وأخرجه ابن أبي عاصم في "السنة"(4/ 1)، وانظر السلسلة الصحيحة (471).
حتى لحق طوائف منهم بالحبشة، ثم بوأهم الله المدينة بعد ذلك فجعلها لهم دار هجرة، وجعل لهم أنصارًا من المؤمنين). وعن مجاهد:({لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً} قال: المدينة).
2 -
وقال ابن عباس: (هم قوم هاجروا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل مكة من بعد ظلمهم، وظلمهم المشركون). وقيل نزلت في أبي جندل بن سهيل. وقال مجاهد: ({لَنُبَوِّئَنَّهُمْ} لنرزقنهم في الدنيا رزقًا حسنًا).
قلت: والآية عامة في كل زمان ومكان، فإن الفرار بالدين ثوابه الرزق الحسن في الدنيا والآخرة. قال تعالى:{وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء: 100].
أخرج الحاكم بسند صحيح عن عكرمة قال: [لما خرج صهيب مهاجرًا تبعه أهل مكة، فنثل كنانته فأخرج منها أربعين سهمًا فقال: لا تصلون إليَّ حتى أضع في كل رجل منكم سهمًا ثم أصير بعده إلى السيف فتعلمون أني رجل، وقد خلفت بمكة قينتين فهما لكم، ونزلت على النبي صلى الله عليه وسلم: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ} [البقرة: 207]، فلما رآه النبي صلى الله عليه وسلم قال: أبا يحيى ربح البيع. قال: وتلا الآية] (1).
وقوله: {وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} . قال قتادة: (إي والله لما يثيبهم الله عليه من جنته أكبر {لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ}).
وقوله تعالى: {الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} .
أي: الذين صبروا على أعباء الجهاد ومواجهة الطغاة، لحراسة الدين وسياسة الدنيا به في الأرض، لتكون كلمة الله هي العليا، وهم بالله يثقون وإليه يستندون في نوائب الأمور التي تنوبهم.
43 -
44. قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا
(1) حديث صحيح. أخرجه الحاكم (3/ 400) من حديث عكرمة، وإسناده على شرط مسلم. وقد مضى تخريجه في سورة البقرة، آية (207).
أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (43) بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (44)}.
في هذه الآيات: إِثْبَاتُ الله رجولة الأنبياء الذين أرسلهم الله في جميع الأمم، ووجوب سؤال أهل العلم لفهم الدين على مدار الزمان، وإِثْباتُ نزول السنة وهي الوحي الثاني لِتُبَيِّنَ مجمل القرآن.
فقوله: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ} . قال القرطبي: (نزلت في مشركي مكة حيث أنكروا نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم وقالوا: الله أعظم من أن يكون رسوله بشرًا، فهلّا بعث إلينا ملكًا، فرد الله تعالى عليهم بقوله: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ} إلى الأمم الماضية يا محمد {إِلَّا رِجَالًا} آدميين).
وفي التنزيل:
1 -
قال تعالى: {وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا (94) قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا} [الإسراء: 94، 95].
2 -
وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ} [الفرقان: 20].
3 -
وقال تعالى: {وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ} [الأنبياء: 8].
4 -
وقال تعالى: {قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ} [الأحقاف: 9].
5 -
وقال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ} [الكهف: 110].
أخرج الإمام أحمد وابن ماجه بسند صحيح عن طلحة مرفوعًا: [إنما أنا بشرٌ مثلكم، وإن الظّن يخطئ ويصيب، ولكن ما قلت لكم: قال الله، فلن أكذِبَ على الله](1).
(1) حديث صحيح. أخرجه أحمد وابن ماجه، وأصله في صحيح مسلم (7/ 95) من حديث طلحة، ورافع بن خديج، وانظر: صحيح الجامع الصغير - حديث رقم - (2337).
وقوله: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} - فيه تأويلان:
1 -
قال ابن عباس: (قال لمشركي قريش: إن محمدًا في التوراة والإنجيل). وقال: ({فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ}: يعني أهل الكتب الماضية، أبشرًا كانت الرسل التي أتتكم أم ملائكة؟ فإن كانوا ملائكة أنكرتم، وإن كانوا بشرًا فلا تنكروا أن يكون محمد رسولًا، ثم قال: وما أرسلنا من قبلك إلا رجالًا نوحي إليهم من أهل القرى: أي ليسوا من أهل السماء كما قلتم). وقال سفيان: ({فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ} يعني مؤمني أهل الكتاب).
2 -
قال ابن عباس: (أهل الذكر أهل القرآن). وقال ابن زيد: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} قال: الذكر: القرآن. وقرأ: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9]. وقرأ: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ} [فصلت: 41] الآية).
قلت: وكلا المعنيين حق. فلما عجب المشركون من إيحاء الله لرسوله، واصطفائه برسالته، أحيلوا لسؤال أهل الكتاب أو علماء الأخبار. وكذلك الحال عند كل معضلة أو فتوى فلا بد من الرجوع لأهل العلم.
قال القاسمي: (فالذكر، إما بمعنى الكتاب لما فيه من الذكر والعظة، كقوله: {إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ} [يس: 69]، أو بمعنى الحفظ لأخبار الأمم السالفة. وفي الآية دليل على وجوب الرجوع إلى العلماء فيما لا يعلم).
وقوله: {بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ} . قال مجاهد: (البينات: الآيات، والزبر: الكتب). والزُّبُر: جمع زَبُور، والعرب تقول: زَبَرْتُ الكتاب إذا كتبته.
وفي التنزيل:
1 -
قال تعالى: {وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ} [القمر: 52].
2 -
وقال تعالى: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} [الأنبياء: 105].
والمعنى: لقد أرسلنا الرسل المتقدمين {بِالْبَيِّنَاتِ} - أي بالحجج والدلائل والبراهين {وَالزُّبُرِ} أي بالكتب، فرجوعكم إليهم منهاج صحيح في كشف الشبهات والتعرف على الحق.
أي: وأنزلنا إليك - يا محمد - السّنة، وهي الوحي الثاني، لتبين للناس ما نزل
إليهم - أي القرآن: وهو الوحي الأول - فتفسر لهم مجمل القرآن، وتُفَصِّل لهم ما يحتاجون معرفته عن أمور دينهم ومفهوم الإسلام والإيمان والإحسان، وسبيل النجاة من الفتن القادمة عبر الزمان، ومن عذاب الله يوم القيامة - لعلهم يعتبرون ويتعظون فيلزمون طريق النجاة.
قال القرطبي رحمه الله: (فالرسول صلى الله عليه وسلم مُبَيِّنٌ عن الله عز وجل مراده مما أجمله في كتابه من أحكام الصلاة والزكاة وغير ذلك مما لم يُفَصِّلْه).
وقال الحافظ ابن كثير رحمه الله: ({لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} أي: من ربهم لعلمك بمعنى ما أنزل الله عليك وحرصك عليه).
وفي التنزيل:
1 -
2 -
وقال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [آل عمران: 31].
3 -
وقال تعالى: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} [آل عمران: 32].
4 -
وقال تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7].
قال مجاهد في التفسير: ({فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} قال: كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم). وقال ميمون بن مهران: (الرد إلى الله، الردّ إلى كتابه، والردّ إلى رسوله إن كان حيًا، إن قبضه الله إليه فالردّ إلى السنة).
ومن كنوز صحيح السنة في آفاق مفهوم الآية أحاديث:
الحديث الأول: أخرج الإمام مسلم عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [ما بال أقوام يتنزهون عن الشيء أصنَعُه؟ ! فوالله إني لأعلمهم بالله، وأشدهم له خشية].
وفي لفظ: [ما بال رجال بلغهم عني أمر ترخصت فيه فكرهوهُ وتنزهوا عنه؟ فوالله لأنا أعلمهم بالله وأشدهم له خشية](1).
(1) حديث صحيح. رواه مسلم (2356)، ورواه أحمد وغيره. انظر صحيح الجامع (5449).
الحديث الثاني: أخرج الإمام أحمد بسند صحيح عن سمرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[إذا حدثتكم حديثًا، فلا تزيدُنَّ عليّ](1).
الحديث الثالث: أخرج الحاكم عن ابن مسعود مرفوعًا: [إنه ليس شيءٌ يقربكم إلى الجنة إلا قد أمرتكم به، وليس شيءٌ يقربكم إلى النار إلا قد نهيتكم عنه].
وفي لفظ عند الطبراني: [ما تركت شيئًا يقربكم إلى الله تعالى إلا وقد أمرتكم به، وما تركت شيئًا يبعدكم عن الله تعالى إلا وقد نهيتكم عنه](2).
الحديث الرابع: أخرج الإمام أحمد بسند صحيح عن عقبة بن عامر الجهني قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: [هلاك أمتي في الكتاب واللَّبن. قالوا: يا رسول الله ما الكتاب واللبن؟ قال: يتعلمون القرآن فيتأولونه على غير ما أنزل الله عز وجل، ويحبون اللبن فيدعون الجماعات والجمعَ ويبدون](3).
قال ابن عبد البر: (أهل البدع أضربوا عن السنن، وتأولوا الكتاب على غير ما بينت السنة، فضلوا وأضلوا).
وفي "شرح السنة" للبغوي عن أبي بن كعب قال: (عليكم بالسبيل والسنة، فإنه ليس من عبد على سبيل وسنة ذكر الرحمن ففاضت عيناه من خشية الله فتمسه النار أبدًا، وإن اقتصادًا في سبيل وسنة خير من اجتهاد في خلاف سبيل وسنة).
وكان الإمام مالك يقول - كما ذكر الشاطبي في "الاعتصام" -: (من ابتدع في الإسلام بدعة يراها حسنة، فقد زعم أن محمدًا خان الرسالة، لأن الله يقول: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} فما لم يكن يومئذ دينًا لا يكون اليوم دينًا).
وكان الإمام الشافعي يقول - كما يروي أبو نعيم في "الحلية" -: (حكمي في أصحاب الكلام أن يضربوا بالجريد ويحملوا على الإبل، ويطاف بهم في العشائر والقبائل ويقال: هذا جزاءُ من ترك الكتاب والسنة وأخذ في الكلام).
(1) حديث صحيح. أخرجه أحمد في المسند (5/ 11) من حديث سمرة رضي الله عنه، وصححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة (346).
(2)
أخرجه الطبراني في الكبير (1647)، وبلفظ مقارب، وأخرجه الشافعي وابن خزيمة كما ذكر الألباني في "الصحيحة" - حديث رقم - (1803).
(3)
حديث صحيح. أخرجه أحمد (4/ 155)، وانظر سلسلة الأحاديث الصحيحة (2778)، وقوله:"يبدون" - أي يخرجون إلى البادية لطلب اللبن في المراعي على حساب واجبات دينهم.
وجاء في "طبقات الحنابلة" - قول الإمام أحمد -: (أصول السنة عندنا التمسك بما كان عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، والاقتداء، وترك البدع، وكل بدعة ضلالة).
45 -
50. قوله تعالى: {أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (45) أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ (46) أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (47) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ (48) وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (49) يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (50)}.
في هذه الآيات: تهديدٌ من الله تعالى ووعيد للمشركين بالخسف والعذاب، إن لم يؤمنوا ويلتزموا هذا الكتاب، فإن الله تعالى خلق كل شيء في هذا الكون الفسيح في سجود له وتعظيم وهم لله داخرون، والملائكة يخافون ربهم من فوقهم ويفعلون ما يؤمرون.
فقوله: {أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ} . قال قتادة: (السيئات: الشرك). والآية تهديد ووعيد للعصاة المستهترين الذين يشيعون المنكر في الأرض، فإن الزلازل عذاب من الله يبعثه الله عند فشو الفواحش والمنكر بين العباد. وقد جاءت السنة الصحيحة بآفاق هذا المعنى في أحاديث:
الحديث الأول: أخرج الترمذي في جامعه بسند صحيح من حديث عمران بن حصين، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[في هذه الأمة خَسْفٌ، ومَسْخٌ، وقَذْفٌ، إذا ظهرت القيانُ والمعازِفُ، وشُرِبت الخمور].
وفي رواية مِنْ حديث ابن عمر بلفظ: [في هذه الأمة خسف، ومسخٌ، وقذف، في أهل القدر](1).
ورواه الحاكم عن عبد الله بن عمرو بلفظ: [في أمتي خَسْفٌ ومَسْخٌ وقَذْفٌ].
(1) حديث صحيح. أخرجه ابن ماجه (4061)، والترمذي (2/ 22)، وقال حسن صحيح.
ورواه ابن ماجه من طريق عبد الله، عن النبي صلى الله عليه وسلم بلفظ:[بين يدي الساعة مسخٌ، وخَسْفٌ، وقَذْف](1).
الحديث الثاني: يروي الترمذي من حديث عائشة رضي الله عنها مرفوعًا: [يكون في آخرِ هذه الأمة خَسْفٌ ومَسْخٌ وقَذْفٌ. قالت: قلت: يا رسول الله! أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: نعم إذا ظهر الخَبَثُ](2).
الحديث الثالث: أخرج البخاري وأحمد عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [لا تقوم الساعة حتى يقبض العلم، وتكثر الزلازل، ويتقارب الزمان، وتظهرَ الفتن، ويكثرَ الهرجُ، وهو القتل](3).
وقوله: {أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ} .
أي: من حيث لا يعلمون مجيئه إليهم، فإن عذاب الفجأة فيه شدة على النفس إضافة لما قد يقع على الجسد.
وفي التنزيل: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ (16) أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ} [الملك: 16، 17].
وفي صحيح مسلم من حديث ابن عمر - أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول -: [اللهم إني أعوذ بك من زوال نِعمتك، وتَحوّل عافيتك، وفَجأةِ نِقمتكَ، وجميعِ سخطك](4).
وقوله تعالى: {أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ} - فيه أقوال متكاملة:
1 -
قال ابن عباس: ({أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ} يقول: في اختلافهم).
2 -
قال قتادة: ({أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ} في أسفارهم). وقال ابن عباس: (قال: إن شئت أخذته في سفر).
3 -
قال ابن جريج: (التقلب: أن يأخذهم بالليل والنهار).
(1) حديث صحيح. أخرجه ابن ماجه (4059)، وانظر سلسلة الأحاديث الصحيحة (1787).
(2)
حديث صحيح. أخرجه الترمذي (2/ 28 - 29) من حديث عائشة، وهو شاهد للحديث السابق، وانظر سلسلة الأحاديث الصحيحة (ج 4) ص (393).
(3)
حديث صحيح أخرجه البخاري في الصحيح - حديث رقم - (1036) - كتاب الاستسقاء، باب ما قيل في الزلازل والآيات، ورواه أحمد.
(4)
حديث صحيح. أخرجه مسلم في صحيحه (8/ 89) من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، ورواه الترمذي وأبو داود - انظر صحيح الجامع - (1302).
قال ابن جرير: ({أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ} أو يهلكهم في تصرّفهم في البلاد، وتردّدهم في أسفارهم {فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ} يقول جل ثناؤه: فإنهم لا يعجزون الله من ذلك إن أراد أخذهم كذلك).
وفي التنزيل:
1 -
قال تعالى: {أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ (97) أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ} [الأعراف: 97، 98].
2 -
وقال تعالى: {لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ (196) مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ} [آل عمران: 196، 197].
وفي الصحيحين من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [إن الله ليملي للظالم، حتى إذا أخذه لم يفلته. ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود: 102]] (1).
وقوله تعالى: {أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} .
قال ابن عباس: (يقول: إن شئت أخذته على أثر موت صاحبه وتخوّف بذلك).
وقال الضحاك: (يعني: يأخذ العذاب طائفة ويترك أخرى، ويعذّب القرية ويهلكها، ويترك أخرى إلى جنبها).
قال ابن كثير: ({أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ}، أي: أو يأخذهم الله في حال خَوفهم من أخذه لهم، فإنه يكونُ أبلغَ وأشدَّ حالة الأخْذِ، فإن حصولَ ما يُتَوقَّع مع الخوف شديد. ثم قال تعالى: {فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ}، أي: حيث لم يعاجلكم بالعُقوبة، كما ثبت في الصحيحين: "لا أحد أصبرَ على أذىً يسمعه من الله، إنهم يجعلون له ولدًا وهو يرزقهم ويعافيهم").
إِخْبَارٌ من الله تعالى عن سجود كل ذي ظلٍّ لله تعالى بكرة وعشيًا. قال قتادة: (أما اليمين: فأول النهار، وأما الشمال: فآخر النهار). وقال: (ظل كل شيء سجوده).
(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (4686)، ومسلم (2583)، والترمذي (3109)، وابن ماجه (4018)، وابن حبان (5175)، ورواه البيهقي (6/ 94).
وعن ابن جريج: ({يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ} قال: الغدو والآصال، إذا فاءت الظِّلال، ظلال كل شيء بالغدوّ سجدت لله، وإذا فاءت بالعشي سجدت لله).
وقال الضحاك: (يعني: بالغدوّ والآصال، تسجد الظلال لله غدوة إلى أن يفيء الظلّ، ثم تسجد لله إلى الليل، يعني: ظلّ كل شيء). وعن ابن عباس: ({يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ} يقول: تتميل). واختاره ابن جرير وقال: (إن الله أخبر في هذه الآية أن ظلال الأشياء هي التي تسجد، وسجودها: مَيَلانها ودورانها من جانب إلى جانب، وناحية إلى ناحية). وعن مجاهد: {وَهُمْ دَاخِرُونَ} : صاغرون).
والخلاصة: إن جميع الأشياء والمخلوقات بأسرها: جمادها وحيواناتها، ومكلّفوها من الإنس والجن والملائكة، قد دانت لكبرياء الله وعظمته وجبروته، وكل ما له ظل يتفيأ ذات اليمين وذات الشمال - أي بكرة وعشيًا - فإنه ساجد بظله لله تعالى (1).
وقوله: {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ} .
هو كقوله تعالى: {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ} [الرعد: 15].
وقوله: {وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ} .
أي: والملائكة تسجد لله في طاعة وتذلل، ولا يستكبرون عن عبادة ربهم تبارك وتعالى.
أخرج الإمام أحمد في المسند، والترمذي في الجامع، بسند حسن عن أبي ذر رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [إني أرى ما لا ترون، وأسمع ما لا تسمعون، أَطَّت السماء وَحُقَّ لها أن تَئِطّ، ما فيها موضِعُ أربع أصابع إلا وملك واضع جبهته لله
(1) ذكره ابن كثير وقال: (وقال أبو غالب الشيباني: أمواج البحر صلاته). قال: ونزّلهم منزلة من يَعْقِل إذ أسند السجود إليهم.
تعالى ساجدًا، والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلًا، ولبكيتم كثيرًا، وما تلذّذتم بالنساء على الفُرُش ولخرجتم إلى الصُّعُدات تجأرون إلى الله] (1).
وقوله تعالى: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} .
دليل في علو الله تعالى، فهو سبحانه فوق عرشه، بائن من خلقه، وبعض الملائكة تعرج إليه بأعمال العباد، وبعضهم ينزل بالأمر قضاه تعالى في السماء، وجميعهم يفعلون ما يؤمرون، ويؤدون حقوق الله عليهم، ويجتنبون ما يُسخطه.
وفي التنزيل:
1 -
قال تعالى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر: 15].
2 -
وقال تعالى: {وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا (157) بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} [النساء: 157، 158].
3 -
وقال تعالى: {تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} [المعارج: 4].
ومن كنوز السنة العطرة في آفاق هذا المعنى أحاديث:
الحديث الأول: أخرج البخاري ومسلم عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:[الملائكة يتعاقبون فيكم، ملائكة بالليل، وملائكة بالنهار، ويجتمعون في صلاة الفجر وصلاة العصر، ثم يعرج إليه الذين باتوا فيسألهم، وهو أعلم بهم: كيف تركتم عبادي؟ فيقولون: أتيناهم وهم يصلون، وتركناهم وهم يصلون](2).
الحديث الثاني: أخرج أبو داود والترمذي بسند صحيح عن عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: [الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء](3).
الحديث الثالث: أخرج مسلم في صحيحه من حديث أبي سعيد قال: قال
(1) حديث حسن. أخرجه الترمذي في الجامع (2312)، وابن ماجه في السنن (4190)، وأحمد في المسند (5/ 173). وإسناده حسن في الشواهد. انظر تخريج المشكاة (5347)، وصحيح الجامع (2445)، والسلسلة الصحيحة (1059 - 1060).
(2)
حديث صحيح. أخرجه الشيخان وغيرهما، وفي رواية (يتعاقبون فيكم ملائكة. .) - انظر صحيح البخاري (555) ، (3223)، وصحيح مسلم (632)، ومسند أحمد (2/ 312).
(3)
حديث صحيح. رواه أبو داود (4941)، والترمذي (1/ 350)، وأحمد (2/ 160)، وغيرهم.
رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ألا تأمنوني وأنا أمين مَنْ في السماء؟ يأتيني خبر السماء صباحًا ومساء](1).
51 -
55. قوله تعالى: {وَقَالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (51) وَلَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ (52) وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ (53) ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (54) لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (55)}.
في هذه الآيات: إثبات الوحدانية لله العظيم، له ما في السماوات وما في الأرض وله الدين الحق المبين، وما بكم من نعمة - أيها الناس - فمن الله المنعم الكريم، الذي إن مسكم الضر فإليه تجأرون، وإن كشفه عنكم فأكثركم يشركون، ليتمتعوا بما في أيديهم من زينة الدنيا الفانية وسوف يعلمون.
فقوله: {وَقَالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ} .
أَمْرٌ من الله تعالى عباده بإفراده بالألوهية، وصرف العبادة له وحده، فإنه لا إله إلا الله. وقد بعث الرسل جميعًا - صلوات الله وسلامه عليهم - بهذه الدعوة، دعوة التوحيد.
ففي التنزيل: قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 25].
وفي صحيح مسلم عن جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [من مات لا يشرك بالله شيئًا دخل الجنة، ومن مات يشرك بالله شيئًا دخل النار](2).
(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم في الصحيح (3/ 111). وانظر مختصر صحيح مسلم - حديث رقم (514) ص (140) - وهو جزء من حديث طويل.
(2)
حديث صحيح. أخرجه مسلم (93) - كتاب الإيمان. باب من مات لا يشرك بالله شيئًا دخل الجنة، ومن مات مشركًا دخل النار، من حديث جابر رضي الله عنه.
وفي صحيح مسلم عن عثمان رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [من مات وهو يعلم أنه لا إله إلا الله دخل الجنة](1).
وقوله: {فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} قال ابن جرير: (يقول: فإياي فاتقوا وخافوا عقابي بمعصيتكم إياي إن عصيتموني وعبدتم غيري، أو أشركتم في عبادتكم لي شريكًا).
وقال النسفي: (نقل الكلام عن الغيبة إلى التكلم، وهو من طريقة الالتفات، وهو أبلغ في الترغيب من قوله فإياي فارهبوا، فارهبوني).
وقوله: {وَلَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا} .
أي: لله ملك ما في السماوات والأرض من شيء، وكل خلق ورزق وحياة وإماتة فبأمره، ومن ثم فإن الطاعة والإخلاص له سبحانه إنما ينبغي له دائمًا ثابتًا وواجبًا.
قال ابن عباس: ({وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا} قال: دائمًا). وفي رواية أخرى قال: (واجبًا).
وقوله: {أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ (52) وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} .
أي: كيف تحذرون أيها الناس وترهبون أحدًا أن يسلبكم نعمة الله عليكم، وكل ما لديكم من صحة وعافية ورزق وخير فهو من ربكم، يقسم ذلك بينكم، وما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها.
وقوله: {ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ} . أي إن أصابكم سقم أو شدة فإلى الله تصرخون وتستغيثون. قال مجاهد: (تضرعون دعاء). وقال ابن عباس: (الضُّر: السُّقْم).
وقوله تعالى: {ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ} .
أي: ثم إذا رفع سبحانه عنكم الشدة والبلاء والسقم سارع بعضكم إلى ما كان عليه من الشرك بالله، وربما نسب الفرج لنفسه أو لجهده وقوته وجحد النعمة.
قال القرطبي: (فمعنى الكلام التعجيب من الإشراك بعد النجاة من الهلاك، وهذا المعنى مكرر في القرآن).
وفي التنزيل نحو ذلك: قال تعالى: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا} [الإسراء: 67].
(1) حديث صحيح. رواه مسلم (26) - كتاب الإيمان. باب الدليل على أن من مات على التوحيد دخل الجنة قطعًا، من حديث عثمان رضي الله عنه.
وفي مسند الإمام أحمد وسنن أبي داود بسند صحيح عن أبي تميمة، عن رجل من قومه، أنه أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو قال: شهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأتاه رجل فقال: أنت رسول الله أو قال: أنت محمد؟ فقال: نعم. قال: فإلامَ تدْعو؟ قال: [أدعو إلى ربك الذي إن مسَّكَ ضر فدعوته كشفَ عنك، والذي إن أضللت بأرض قفرٍ فدعوته ردّ عليك، والذي إن أصابتك سنة فدعوته أنبت لك](1).
وقوله تعالى: {لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} .
قال ابن كثير: (قيل: "اللام" ها هنا لام العاقبة. وقيل: لام التعليل، بمعنى قَيَّضنا لهم ذلك ليكفروا، أي: يستروا ويجحدوا نعمة الله عليهم، وأنه المُسْدي إليهم النعم، الكاشف عنهم النِّقَم. ثم توعّدهم قائلًا: {فَتَمَتَّعُوا}، أي: اعملوا ما شئتم وتمتعوا بما أنتم فيه قليلًا، {فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ}، أي: عاقبة ذلك).
56 -
60. قوله تعالى: {وَيَجْعَلُونَ لِمَا لَا يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ (56) وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ (57) وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (58) يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (59) لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (60)}.
في هذه الآيات: إثبات الله تعالى جهالة المشركين، في صرف الأموال للأصنام وجعل البنات لله ولهم ما يشتهون، وإذا بشر أحدهم بالأنثى لجأ إلى الوأد خشية عار الجاهلين، إنه للذين لا يؤمنون بالآخرة مثل السوء ولله المثل الأعلى وهو العزيز الحكيم.
فقوله: {وَيَجْعَلُونَ لِمَا لَا يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ} . إخبار من الله تعالى عن نوع آخر من جهالات المشركين وقبائحهم، فيجعلون لما لا يعلمون أنه يضر وينفع - وهي أصنامهم وأوثانهم - شيئًا من أموالهم يتقربون به إليه. وقيل بل الضمير في {لَا يَعْلَمُونَ} يعود على
(1) حديث صحيح. أخرجه أبو داود في السنن (4084). انظر صحيح أبي داود (3442). ورواه أحمد. انظر تخريج "مشكاة المصابيح"(918)، وصحيح الجامع الصغير - حديث رقم (242).
الأوثان. والتقدير: ويجعل هؤلاء المشركون للأصنام التي لا تعلم شيئًا نصيبًا. وكلا المعنيين محتمل.
فَعَن مجاهد: ({وَيَجْعَلُونَ لِمَا لَا يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ} قال: يعلمون أن الله خلقهم، ويضرّهم وينفعهم ثم يجعلون لما لا يعلمون أنه يضرهم ولا ينفعهم نصيبًا مما رزقناهم).
وقال قتادة: (هم مشركو العرب، جعلوا لأوثانهم نصيبًا مما رزقناهم، وجزءًا من أموالهم يجعلونه لأوثانهم).
وقال ابن زيد: (جعلوا لآلهتهم التي ليس لها نصيب ولا شيء، جعلوا لها نصيبًا مما قال الله من الحرث والأنعام، يسمون عليها أسماءها ويذبحون لها).
وفي التنزيل: {فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلَا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ} [الأنعام: 136].
وقوله: {تَاللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ} .
أي: والله لتسألن معشر المشركين عما تختلقون من الباطل والإفك على الله بدعواكم له شريكًا، وتصييركم لأوثانكم فيما رزقكم نصيبًا، ثم ليعاقبكم عقوبة تكون جزاءً لكفرانكم نعمه وافترائكم عليه. - ذكره ابن جرير.
قال ابن عباس: (يقول: يجعلون لله البنات ترضونهنّ لي، ولا ترضونهنّ لأنفسكم، وذلك أنهم كانوا في الجاهلية إذا وُلِدَ للرجل منهم جارية أمسكها على هون، أو دسّها في التراب وهي حية). وقال: ({وَهُوَ كَظِيمٌ} قال: حزين). وقال الضحاك: (الكظيم: الكميد). وقال قتادة: (هذا صنيع مشركي العرب، أخبرهم الله تعالى ذكره بخبث صنيعهم فأما المؤمن فهو حقيق أن يرضى بما قسم الله له، وقضاء الله خير من قضاء المرء لنفسه، ولعمري ما يدري أنه خير، لرُبّ جارية خير لأهلها من غلام. وإنما أخبركم الله بصنيعهم لتجتنبوه وتنتهوا عنه، وكان أحدهم يغذو كلبه، ويئد ابنته).
أي: يخشى رؤية الناس إن بُشِّر بأنثى، فهو في تأرجحٍ من أمره، فإن أبقاها أبقاها مهانة ذليلة يفضل الذكور عليها، ويحرمها من لطفه وإرثه والعناية بها، وإلا وأدها ودفنها حية في التراب على طريقة أهل الجاهلية. إنه بئس ما يحكم به هؤلاء المشركون، أنْ جعلوا لله ما يكرهون، كما قال تعالى:{وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ} [الزخرف: 17].
قال القرطبي: ({أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} أي في إضافة البنات إلى خالقهم وإضافة البنين إليهم).
قلت: وقد جاءت السنة الصحيحة بتكريم البنات وحسن رعايتهن، وما يعقب ذلك من عظيم الثواب وسبب النجاة يوم القيامة.
الحديث الأول: أخرج البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: [جاءتني امرأة ومعها ابنتان لها، فسألتني فلم تجد عندي غير تمرة واحدة، فأعطيتها إياها فأخذتها فقَسَمتها بين ابنتيها ولم تأكل منها شيئًا، ثم قامت فخرجت وابنتاها، فدخلَ عليّ النبي صلى الله عليه وسلم فحدّثته حديثَها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: من ابتُلي من البنات بشيء فأحسن إليهن كنّ له سترًا من النار](1).
الحديث الثاني: أخرج مسلم وابن ماجه من حديث عائشة رضي الله عنها أنها قالت: [جاءتني مسكينة تحمل ابنتين لها، فأطعمتها ثلاث تمرات فأعطت كل واحدة منهما تمرة، ورفعت إلى فيها تمرة لتأكلها فاستطعمتها ابنتاها فشقت التمرة التي كانت تريد أن تأكلها بينهما، فأعجبني شأنها، فذكرتُ الذي صنعت لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن الله عز وجل قد أوجب بها الجنة أو أعتقها بها من النار](2).
الحديث الثالث: أخرج مسلم والترمذي عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال
(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (1418) و (5995)، وأخرجه مسلم (2629)، وأحمد (6/ 33).
(2)
حديث صحيح. أخرجه مسلم (2630)، وابن ماجه (3668)، وابن حبان (448)، وأخرجه أحمد في المسند (6/ 92) - من حديث عائشة رضي الله عنها.
رسول الله صلى الله عليه وسلم: [مَنْ عالَ جاريتين حتى يُدرِكا، دخلتُ أنا وهو الجنة، كهاتين](1).
الحديث الرابع: أخرج أحمد والطبراني بسند حسن في الشواهد، من حديث عقبة بن عامر مرفوعًا:[لا تَكْرَهوا البنات، فإنهنَّ المُؤْنِساتُ الغاليات](2).
وقوله تعالى: {لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} .
أي: كل النقص والعيب ينسب للمشركين الذين كفروا بلقاء ربهم، وكل الثناء وجميع المحامد لله العلي الكبير، وهو العزيز الحكيم.
وعن قتادة: ({وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى} قال: شهادة أن لا إله إلا الله). أو قال: (الإخلاص والتوحيد).
61 -
64. قوله تعالى: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (61) وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى لَا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ (62) تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63) وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (64)}.
في هذه الآيات: تأخير الله تعالى مؤاخذة الناس بظلمهم رحمة بهم، والمشركون غافلون يجعلون لله ما يكرهون ويمضون كمن قبلهم من الجاهلين خلف أهوائهم، وقد زيّن لهم الشيطان أعمالهم فهو وليهم والعذاب مثواهم، وما أنزلنا عليك الكتاب - يا محمد - إلا لتبين لهم، وهدى ورحمة لمن آمن منهم.
فقوله: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ} .
أي: لو يؤاخذ الله الناس بكفرهم وظلمهم وبغيهم لعاجلهم بالعذاب ولما ترك على
(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم في الصحيح (2631)، والترمذي في الجامع (1914)، وابن حبان في صحيحه (447)، وأحمد في المسند (3/ 147).
(2)
حسن لشواهده. أخرجه أحمد (4/ 151)، وابن عدي (6/ 278)، وانظر سلسلة الأحاديث الصحيحة - حديث رقم - (3206)، وأخرجه الطبراني في "الكبير"(17/ 310/ 856).
ظهر الأرض من دابة - كافرة، أو قيل: بل المراد العموم -. قال النسفي: {مِنْ دَابَّةٍ} قط، ولأهلكها كلها بشؤم ظلم الظالمين).
قلت: ويبدو أن الهلاك يعمّ إذا كثر الخبث، ثم يحشر الله الناس على نياتهم.
ففي التنزيل:
1 -
قال تعالى: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [فاطر: 18].
2 -
وقال تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} [المدثر: 38].
وفي صحيح السنة المطهرة من ذلك المعنى أحاديث:
الحديث الأول: أخرج البخاري ومسلم عن أم المؤمنين أمِّ الحَكَم زينب بنتِ جَحْشٍ رضي الله عنها: [أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها فَزِعًا يقول: لا إله إلا الله، وَيْلٌ للعربِ من شرٍّ قد اقتربَ، فُتِحَ اليوم من رَدْمِ يأجوجَ ومأجوجَ مِثْلُ هذه - وحَلَّق بأصْبُعَيْه الإبهام والتي تليها -. فقلت: يا رسول اللهَ أَنَهْلِكُ وفينا الصالحون؟ قال: نعم إذا كثر الخبث](1).
الحديث الثاني: أخرج البخاري عن أم المؤمنين أُمِّ عبد الله عائشةَ رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [يَغْزو جَيْشٌ الكعبة، فإذا كانوا بِبَيْداءَ من الأرض يُخْسَفُ بأولهم وآخِرهم. قالت: قلت: يا رسول الله، كيف يُخْسَفُ بأولهم وآخِرهم وفيهم أسواقُهم (2) ومن ليسَ مِنْهم؟ ! قال: يُخْسَفُ بأولهم وآخِرهم، ثم يُبْعثون على نِيَّاتهم](3).
الحديث الثالث: خَرَّجَ مسلم في صحيحه عن عبد الله بن عمر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: [إذا أراد الله بقوم عذابًا أصاب العذاب من كان فيهم، ثم بُعثوا على نياتهم](4).
(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري في الصحيح (6/ 274) ، (13/ 9) ، (13/ 95)، ومسلم (2880)، وأخرجه أحمد في المسند (6/ 428 - 429).
(2)
أي أهل أسواقهم أو السوقة منهم. وفيه أن من كثَّر سواد قوم في المعصية لحقته العقوبة، وفيه التحذير من مصاحبة أهل المعصية والظلم، وأن العمل بالنية.
(3)
حديث صحيح. أخرجه البخاري (4/ 284) - واللفظ له - وأخرجه مسلم - (2884) نحوه.
(4)
حديث صحيح. أخرجه مسلم في صحيحه (2879)، وأحمد في مسنده (2/ 40) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
الحديث الرابع: أخرج أبو داود بسند صحيح عن أم سلمة، عن النبي صلى الله عليه وسلم بقصة جيش الخسف - قالت: قلت: يا رسول الله، فكيف بمن كان كارهًا؟ قال:[يُخْسَف بهم، ولكن يُبْعث يوم القيامة على نيته](1).
قال النووي في "شرح صحيح مسلم": (وفيه من الفقه التباعد من أهل الظلم والتحذير من مجالستهم ومجالسة البغاة ونحوهم من المبطلين لئلا ينالهم ما يعاقبون به. قال: وفيه أنّ مَنْ كثَّرَ سواد قوم جرى عليهم حكمهم في ظاهر عقوبات الدنيا).
وقوله: {وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} . قال القاسمي: (أي وقت تقتضيه الحكمة. يستغفر منهم من يستغفر فيغفر له، ويصرّ من يصرّ فيزداد عذابًا).
وقوله: {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ} . قال الزهري: (نرى أنه إذا حضر أجله فلا يؤخر ساعة، ولا يقدّم، ما لم يحضر أجله، فإن الله يؤخر ما شاء، ويُقدِّمُ ما شاء). وقال ابن جرير: ({فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ} يقول: فإذا جاء الوقت الذي وُقِّتَ لهلاكهم {لَا يَسْتَأْخِرُونَ} عن الهلاك ساعة فيمهلون {وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ} له حتى يستوفوا آجالهم).
وقوله: {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى} . أي: ويجعلون لله البنات وتقول ألسنتهم الكذب: أن لهم الذكور من الأولاد. قال مجاهد: (قول قريش: لنا البنون، ولله البنات). وقال قتادة: (أي يتكلمون بأن لهم الحُسنى: أي الغلمان). وقوله: {لَا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ} . أي: حقًا لهم النار، وأنهم متروكون فيها منسيون لقاء تفريطهم واستهتارهم. قال ابن عباس:({لَا جَرَمَ} يقول: بلى). وقال ابن كثير: ({لَا جَرَمَ}، أي: حقًا لا بد منه {أَنَّ لَهُمُ النَّارَ}، أي: يوم القيامة).
وفي قوله: {مُفْرَطُونَ} أكثر من تأويل متقارب:
1 -
قال سعيد بن جبير: ({وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ} قال: منسيون مُضَيَّعُون). أو قال: (متروكون في النار، منسيون فيها). وقال مجاهد: (مَنْسيون). وقال قتادة: (مُضاعون).
(1) حديث صحيح. أخرجه أبو داود (4289) - كتاب المهدي، وانظر صحيح مسلم (2882)، ومسند أحمد (6/ 290)، وصحيح ابن حبان (6756) - من حديث أم سلمة.
2 -
قال قتادة أيضًا: ({وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ}. قال: قد أُفرِطوا في النار: أي مُعْجَلون). أو قال: (يقول: مُعْجَلون إلى النار).
3 -
قال سعيد: ({وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ} قال: مُخْسَئون مُبْعدون).
قال ابن كثير: ({وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ}. قال مجاهد، وسعيد بن جبير، وقتادة، وغيرهم: مَنْسِيُّون مُضَيَّعُون. وهذا كقوله تعالى: {فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا} [الأعراف: 51]. وعن قتادة أيضًا: {مُفْرَطُونَ}، أي: مُعْجَلُون إلى النار، من الفَرَط وهو السابق إلى الوِرْد. ولا منافاة، لأنهم يُعْجَل بهم يوم القيامة إلى النار، ويُنْسَونَ فيها، أي: يُخَلَّدُون).
وقوله تعالى: {تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} . تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم بأن ما يلقاه من تكذيب قومه قد واجهه إخوته الأنبياء - صلوات الله وسلامه عليهم - قبله. قال ابن جرير: ({فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ} يقول: فَحَسَّنَ لهم الشيطان ما كانوا عليه من الكفر بالله وعبادة الأوثان مقيمين، حتى كذبوا رسلهم، وردّوا عليهم ما جاؤوهم به من عند ربهم). وقال القرطبي: ({فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ} أي ناصرهم في الدنيا على زعمهم. {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} في الآخرة. وقيل: {فَهُوَ وَلِيُّهُمُ} أي قرينهم في النار. {الْيَوْمَ} يعني يوم القيامة، وأطلق عليه اسم اليوم لشهرته. وقيل: يقال لهم يوم القيامة: هذا وليّكم فاستنصروا به لينجيكم من العذاب، على جهة التوبيخ لهم).
وقوله تعالى: {وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} . بيان لحجية القرآن للفصل بين الناس في كل ما يختلفون فيه، إضافة لكونه هدى للقلوب ورحمة للمتمسك بنوره وهديه من المؤمنين.
65 -
67. قوله تعالى: {وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (65) وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ (66) وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (67)}.
في هذه الآيات: امتنان الله تعالى على العباد بنعمة الماء والأنعام، واللبن السائغ
الذي فيه شفاء للأنام، وبثمرات النخيل والأعناب وما يكون منها من منافع عبر الأيام.
فقوله تعالى: {وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ} . قال ابن كثير: (وكما جعل تعالى القرآن حياة للقلوب الميتة بكفرها، كذلك يُحْيي الأرض بعد موتها بما ينزله عليها من السماء من ماء {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ}، أي: يفهمون الكلام ومعناه).
وقوله: {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً} . الأنعام: هي الإبل والبقر والغنم. وفي خلقها وطريقة عطائها والاستفادة من ألبانها وأصوافها ولحمها آية ودلالة على قدرة خالقها ولطفه ورحمته.
وقوله: {نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ} . آية من آيات الآفاق، يريها الله تعالى عباده في أدق ما توصلت إليه الأبحاث والعلوم. فلقد اكتشف الدارسون أن اللبن في الأنعام يُسْتَخْلَصُ من بين الفَرْثِ في الأمعاء الدقيقة، فتبقى الفضلات التي تخرج في صورة بَعَرٍ، وغيره، بعد أن كانت كُلَّها فَرْثًا سائلًا، ثم تَدْخلُ المواد الغذائية في الدم، ثم يُستخْلَصُ اللبن من الدم في الضروع، وهذا كله متضمن في دقيق ألفاظ الآية السابقة، فتبارك الله أحسن الخالقين.
وقوله: {وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا} . قال ابن عباس: (السَّكر: ما حُرِّمَ من شرابه، والرزق الحسن: ما أحل من ثمرته). وقال أبو رزين: (نزل هذا وهم يشربون الخمر، فكان هذا قبل أن ينزل تحريم الخمر). وبنحوه قال إبراهيم: (هي منسوخة نسخها تحريم الخمر). وقال مجاهد: (السكر: الخمر، والرزق الحسن: الرُّطب والأعناب. {تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا} قال: هي الخمر قبل أن تحرّم). وقال قتادة: (أما السَّكر: فخمور هذه الأعاجم، وأما الرزق الحسن: فما تنتبذون، وما تُخَلّلون، وما تأكلون، ونزلت هذه الآية، ولم تحرّم الخمر يومئذ، وإنما جاء تحريمها بعد ذلك في سورة المائدة).
وقوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} - تناسب بديع مع مفهوم الآية وما جاء بعدها من تحريم ما أسكر، فإن العقل من أشرف ما في الإنسان، وقد مهّد بذلك تعالى لمجيء التحريم بعد ذلك تكريمًا لهذا العقل وصيانة له من الضياع والانهيار.
68 -
69. قوله تعالى: {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ
وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (68) ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (69)}.
في هذه الآيات: أمْرُ الله تعالى إلى النَّحْلِ اتخاذ البيوت من الجبال ومن الشجر ومما يبنون ويعرشون. ثم إلهامها الأكل من كل الثمرات وسلوك الطرق المذلّلة لصناعة العسل الذي فيه شفاء للناس وآية لقوم يتفكرون.
فقوله: {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ} . قال مجاهد: (ألهمها إلهامًا). وعن ابن عباس قال: (أمرها أن تأكل من الثمرات، وأمرها أن تتبع سبل ربها ذللًا). وقال معمر: (قذف في أنفسها).
وقوله: {أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا} . قال معمر، عن أصحابه:(قذف في أنفسها أن اتخذي من الجبال بيوتًا).
وقوله: {وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ} . قال ابن زيد: ({يَعْرِشُونَ}: الكَرْم). وقال ابن جرير: (يعني: مما يبنون من السقوف، فرفعوها بالبناء). قال ابن كثير: (المرادُ بالوحي ها هنا: الإلهامُ والهداية والإرشادُ إلى النحل أن تَتَّخِذَ من الجبال بيوتًا تأوي إليها، ومن الشجر ومما يعرشون. ثم هي محكمة في غاية الإتقان في تَسْدِيدها ورصِّها، بحيث لا يكون بينها خَللٌ. ثم أذِنَ لها تعالى إذنًا قَدَرِيًا تَسْخيريًّا أن تأكل من كُلِّ الثمرات، وأن تَسلُكَ الطرق التي جعلها الله تعالى لها مُذَلَّلة، أي: سهلة عليها حيث شاءت في هذا الجو العظيم والبَرَارِي الشاسِعة، والأودية والجبال الشاهقة، ثم تعودُ كلُّ واحدةٍ منها إلى موضعها وبيتها، لا تحيد عنه يمنة ولا يسرة، بل إلى بيتها ومالها فيه من فراخ وعسل، فتبني الشمع في أجنحتها، وتقيءُ العَسَلَ من فِيها، وتبيض الفراخ من دُبُرها، ثم تُصْبِحُ إلى مراعيها).
وقوله: {ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا} . أي: ثم كلي أيتها النحل من جميع الثمرات فاسلكي طرق ربك مذلّلة لك. قال مجاهد: ({فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا} قال: لا يتوعّر عليها مكان سلكته). وقال قتادة: ({ذُلُلًا} أي مطيعة). والذّلل: جمع ذَلُول.
وقوله: {يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ} . أي: يخرج من بطون النحل شراب، هو العسل، مختلف ألوانه، فمنه الأبيض والأحمر والأسحر وغير
ذلك. قال قتادة: (ففيه شفاء كما قال الله تعالى من الأدواء. وقد كان ينهى عن تفريق النحل، وعن قتلها).
وفي صحيح سنن أبي داود عن ابن عباس، قال:[إنَّ النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن قتل أربع من الدواب: النملة، والنحلة، والهدهد، والصُّرَد](1).
وقد جاء في فضائل العسل وفوائده أحاديث كثيرة، منها:
الحديث الأول: أخرج البخاري ومسلم عن جابر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[إن كان في شيء من أدويتكم خيرٌ ففي شَرْطَةِ محجم، أو شَرْبَة من عسل، أو لذعةٍ بنار توافق داء، وما أحب أن أكتوي](2).
الحديث الثاني: أخرج البخاري عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [الشفاء في ثلاثة: في شَرْطة مِحْجَمٍ، أو شَرْبَةِ عَسَلٍ، أو كيّة بنار، وأنهى أمّتي عن الكيّ](3).
وله شاهد في مسند أحمد من حديث عقبة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثًا: [إنْ كان في شيء شفاء فشرطة مِحْجَم، أو شربة عسلٍ، أو كيّة تصيبُ ألمًا، وأنا أكره الكيَّ ولا أحبّه].
قال ابن جُريج: (قال الزهري: عليك بالعسل، فإنه جيد للحفظ، وأجوده أصْفاه وأبْيَضُه، وألينُه حِدة، وأصدقه حلاوة، وما يُؤْخَذُ من الجبال والشجر له فضل على ما يؤخذ من الخلايا، وهو بحسب مرعى نحله).
الحديث الثالث: أخرج البخاري ومسلم عن عائشة: [أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يُعْجِبُهُ الحَلْواءُ العَسَلُ](4).
الحديث الرابع: أخرج البخاري ومسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: [جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن أخي اسْتَطْلَقَ بطنُه؟ فقال: اسقه عسلًا.
(1) حديث صحيح. أخرجه أبو داود في السنن - حديث رقم - (5267) - باب في قتل الذر. وانظر صحيح سنن أبي داود - حديث (4387).
(2)
حديث صحيح. أخرجه البخاري (5681)، كتاب الطب، وانظر (5860)، وأخرجه مسلم (2205)، وأخرجه أبو يعلى - حديث رقم - (2100).
(3)
حديث صحيح. أخرجه البخاري (5680) - كتاب الطب. وانظر حديث (5683) - كذلك.
(4)
حديث صحيح. أخرجه البخاري (5431) - (5614)، وأخرجه مسلم (1474)، وأبو داود (3715)، وأخرجه ابن ماجه (3323)، وأخرجه أحمد في المسند (6/ 59).
فسقاه عسلًا، ثم جاء فقال: يا رسول الله، سَقَيْتُهُ عسلًا فما زادَهُ إلا استطلاقًا! قال: اذهب فاسقه عسلًا. فذهب فسقاه، ثم جاء فقال: يا رسول الله، ما زاده إلا استطلاقًا! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: صدقَ اللهُ وكَذَبَ بطنُ أخيك! اذْهَبْ فاسقه عسلًا. فذهب فسقاه فَبَرَأ] (1).
قال بعضُ العلماء بالطب: (كان هذا الرجل عنده فضلاتٌ، فلما سقاه عَسَلًا وهو حارٌّ تحلّلت، فأسرعَت في الاندفاع، فزاد إسهالُه، فاعتقد الأعرابي أن هذا مضرَّةٌ، وهو مَصْلَحة لأخيه، ثم سقاه فازداد التحليلُ والدفعُ، ثم سقاه فكذلك، فلما اندفعت الفضلات الفاسدةُ المضرَّة بالبدن استمسك بطنه، وصَلحَ مزاجه، واندفعت الأسقامُ والآلام ببركة إشارته، عليه من ربِّه أفضلُ الصلاة والسلام)(2).
وقوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} . قال القاسمي: (أي: فيعتبرون ويستدلون على وحدانيته سبحانه، وانفراده بألوهيته. وأنه هو الذي ألهم هذه الدواب الضعيفة فعلمت مساقط الأنداء، من وراء البيداء، فتقع على كل حرارة عبقة، وزهرة أنقة، ثم تصدر عنها بما تحفظه رضابا (3)، وتلفظه شرابًا).
70 -
72. قوله تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (70) وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (71) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ (72)}.
في هذه الآيات: إثبات الخلق والحياة والتصرف في العمر لله العليم القدير. وكذلك
(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (5716)، ومسلم (2217)، والترمذي (2083)، وأحمد (3/ 19) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
(2)
ذكره الحافظ ابن كثير في "التفسير" - انظر تفسير سورة النحل - آية (69). قلت: وقوله صلى الله عليه وسلم "صدق الله وكذب بطن أخيك" يشير إلى التفسير السابق للآية: أن المقصود من قوله: {فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ} العسل، ومن ذهب إلى أنه القرآن فلا مناسبة في الآيات لذلك.
(3)
الرُّضَاب: بالضم هو الريق. والرَّاضِبُ: ضَرْبٌ من السِّدْر والسَّحُ من المطر. كذا في القاموس.
التفضيل في الرزق والولد والخير وما المشركون برادّي ذلك على عبيدهم أفبنعمة الله يجحدون. الله تعالى هو الذي جعل لكم الأزواج والبنين والحفدة ورَزَقَكُم فكيف تكفرون! .
فقوله: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ} - أي بِقبض أرواحكم من أبدانكم. فهو إخبار من الله تعالى عن تصرفه بخلقه، إذ أنشأهم من العدم، ثم يحييهم، ثم يميتهم.
وقوله: {وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ} . قال النسفي: (إلى أخسه وأحقره، وهو خمس وسبعون سنة، أو ثمانون، أو تسعون).
وفي التنزيل: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ} [الروم: 54].
وقوله: {لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا} . قال ابن كثير: (أي: بعد ما كان عالِمًا أصبح لا يَدْري شيئًا من الفَنَدِ والخَرَفِ). قال ابن عباس: ({وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا}، يعني إلى أسفل العمر، يصير كالصبي الذي لا عقل له).
وفي صحيح السنة أحاديث في آفاق معنى الآية:
الحديث الأول: أخرج البخاري عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: [كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعوّذ يقول: اللهمّ إني أعوذ بك من الكسل، وأعوذ بك من الجبن، وأعوذ بك من الهرم، وأعوذ بك من البخل](1).
الحديث الثاني: أخرج البخاري عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: [كان يأمر بهؤلاء الخمسِ ويُخْبِرُهُنَّ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: اللهم إني أعوذُ بك من البُخْل، وأعوذ بك من الجُبْنِ، وأعوذ بكَ أن أُرَدَّ إلى أرذل العُمُرِ، وأعوذ بك من فتنة الدنيا، وأعوذ بك من عذاب القبر](2).
الحديث الثالث: أخرج البخاري في صحيحه عن أنس بن مالك رضي الله تعالى
(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (6371)، ومسلم (2706)، وأبو داود (1540)، وأحمد (3/ 113) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.
(2)
حديث صحيح. أخرجه البخاري (6370) - كتاب الدعوات، باب التعوذ من البخل. وكذلك (6390). وأخرجه النسائي (8/ 256)، والترمذي (3567)، وابن حبان (1005)(1011)، وأخرجه أحمد (1/ 183)، (1/ 186) من حديث سعد بن أبي وقاص.
عنه: [أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدعو: أعوذُ بك من البُخْل والكسل، وأرْذَلِ العُمُرِ، وعذابِ القبر، وفتنة الدَّجال، وفتنة المحيا والممات](1).
وقوله: {إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ} . قال ابن جرير: (يقول: إن الله لا ينسى، ولا يتغيّر علمه، عليم بكلّ ما كان ويكون، قدير على ما شاء لا يجهل شيئًا، ولا يُعجزه شيء أراده).
قال ابن عباس: (يقول: لم يكونوا يشركون عبيدهم في أموالهم ونسائهم، فكيف يشركون عبيدي معي في سلطاني، فذلك قوله: {أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ}). وقال مجاهد: ({بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} قال: مثل آلهة الباطل مع الله تعالى ذكره). وقال قتادة: (هذا الذي فُضِّلَ في المال والولد، لا يشرك عبده ماله وزوجته، يقول: قد رضيتَ بذلك لله، ولم ترضَ به لنفسك، فجعلت لله شريكًا في ملكه وخلقه).
وقوله: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً} . قال قتادة: (أي: والله خلق آدم، ثم خلق زوجته منه، ثم جعل لكم بنين وحفدة).
وفي تفسير قوله: {وَحَفَدَةً} أكثر من تأويل:
1 -
قال ابن عباس: ({بَنِينَ وَحَفَدَةً}: هم الولدُ وولَدُ الولد). وقال: (بنوك حين يحفدونك ويَرْفِدونك، ويعينونك ويخدمونك).
2 -
قال مجاهد: ({بَنِينَ وَحَفَدَةً}: ابنه وخادمه). أو قال: (الحفَدَةُ: الأنصار والأعوان والخُدَّام). وقال طاووس: (الحفدةُ: الخدمُ). وقال عكرمة: (الحفدة من خَدمك من ولدك وَوَلَدِ ولَدِك). وقال الضحاك: (إنما كانت العرب يخدمُها بنوها).
3 -
وقال العوفي، عن ابن عباس:(بنو امرأة الرجل، ليسوا منه). وقال أيضًا: (هم الأصهار).
(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري في صحيحه - حديث رقم - (4707) - كتاب التفسير - سورة النحل، آية (70)، وهي الآية موضع التفسير.
ويقال: "الحفدة": الرجل يعمل بين يدي الرجل، يقال: فلان يحفد لنا أي يعمل لنا.
قلت: وأصل الحَفْد في كلام العرب: خفة العمل. وفي الحديث: "إليك نسعى ونحفدْ": أي نسرع إلى العمل بطاعتك. قال الرازي: (الحَفْد: السرعة. والحَفَدَة: الأعوان والخدم وقيل الأختان وقيل الأصهار وقيل ولدُ الولد، واحدُهم حافِد). فكل ما سبق داخل في قوله تعالى: {وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً} - وإن كان قوله {مِنْ أَزْوَاجِكُمْ} يشير بالخصوص إلى أولاد الأولاد وأولاد البنات من الأصهار، فعادة يعيشون في قرب الرجل وخدمته. وغاية الأمر التذكير بنعمة الله تعالى على العبد في المال والأهل والزوجة والولد.
وقوله: {وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ} . أي: من ألوان المطاعم وأصناف المشارب والملذات الحلال. وقوله: {أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ} . أي: أفبعد كل هذا يصرفون العبادة أو الدعاء والتعظيم للأوثان والأصنام والطواغيت وينسون المنعم المتفضل سبحانه وتعالى.
أخرج الترمذي بسند صحيح عن أبي هريرة، وعن أبي سعيد رضي الله عنهما قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [يُؤتى بالعبد يوم القيامة فيقول له: ألمْ أجْعَلْ لك سمعًا وبصرًا ومالًا وولدًا، وسخرْت لك الأنعام والحرث، وتركتك ترأسُ وتَرْبَعُ، فكنت تظنُّ أنك مُلاقيَّ يَوْمَكَ هذا؟ فيقول: لا. فيقول له: اليوم أنساك كما نسيتني](1).
73 -
76. قوله تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ شَيْئًا وَلَا يَسْتَطِيعُونَ (73) فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (74) ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (75) وَضَرَبَ
(1) حديث صحيح. أخرجه الترمذي في السنن - حديث رقم - (2558) - أبواب صفة القيامة، وانظر صحيح سنن الترمذي (1978).
اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (76)}.
في هذه الآيات: ذمُّ الله المشركين في عبادتهم ما لا يملك لهم نفعًا، وتحذيرهم من تشبيه الله بالأشباه والأمثال. وتمثيل الله الكافر والمؤمن، فالكافر رزقه مالًا فعمل بمعصيته تعالى، والمؤمن رزقه كذلك فعمل بطاعته تعالى، فهما لا يستويان مثلًا. وتمثيل الله القائم على دينه والعاجز لا يقدر على خير، فالأول يدعو إلى الحق والعدل، والثاني عاجز مريض عالة لا يصلح لمهمة، فهما كذلك لا يستويان مثلًا.
فقوله تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ شَيْئًا وَلَا يَسْتَطِيعُونَ} . أي: ورغم كل ما سبق بيانه من نعم الله على العباد، فإن المشركين بالله يعظمون من دونه أوثانا لا تملك لهم رزقًا من السماوات والأرض، فلا تقدر على إنزال القَطْرِ ولا إخراج النبات والثمار، بل ولا تقدر على شيء. قال قتادة:(هذه الأوثان التي تُعْبد من دون الله لا تملك لمن يعبدها رزقًا ولا ضرًا ولا نفعًا، ولا حياة ولا نشورًا).
وقوله: {فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ} . قال ابن عباس: (يعني اتخاذهم الأصنام، يقول: لا تجعلوا معي إلهًا غيري، فإنه لا إله غيري). وقال قتادة: (فإنه أحَدٌ صمد، لم يلد، ولم يولد، ولم يكن له كفوًا أحد). والمقصود: لا تمثلوا لله الأمثال، ولا تشبهوا له الأشباه، فإنه - تعالى - لا مِثْل له، ولا شِبه.
وقوله: {إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} . قال قتادة: (يقول: والله أيها الناس يعلم خطأ ما تمثلون وتضربون من الأمثال وصوابه، وغير ذلك من سائر الأشياء، وأنتم لا تعلمون صواب ذلك من خطئه).
وقوله تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ} الآية - إلى قوله: {وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} . قال قتادة: (هذا مثل ضربه الله للكافر، رزقه مالًا فلم يقدِّم فيه خيرًا، ولم يعمل فيه بطاعة الله، قال الله تعالى ذكره {وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا} فهذا المؤمن أعطاه الله مالًا، فعمل فيه بطاعة الله، وأخذ بالشكر، ومعرفة حقّ الله، فأثابه الله على ما رزقه الرزق المقيم الدائم لأهله في الجنة، قال الله تعالى ذكره: {هَلْ
يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا} [الزمر: 29]، والله ما يستويان {الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} ).
وقال مجاهد: (ضرب الله هذا المثل، والمثل الآخر بعده لنفسه، والآلهة التي تعبد من دونه).
يروي ابن جرير ورجاله رجال الصحيح عن ابن عباس: [في قوله عز وجل: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا} قال: نزلت في رجل من قريش وعبده، وفي قوله: {مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ} إلى قوله {وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} قال: هو عثمان بن عفان. قال: والأبكم الذي أينما يوجهه لا يأتي بخير ذاك مولى عثمان بن عفان، كان عثمان ينفق عليه ويكفله ويكفيه المؤونة، وكان الآخر يكره الإسلام ويأباه، وينهاه عن الصدقة والمعروف، فنزلت فيهما](1).
قال قتادة: ({لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ} هو الوثن {هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ} قال: الله يأمر بالعدل).
قال النسفي: (الأبكم الذي ولد أخرس فلا يَفْهم ولا يُفهم {وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ} أي ثقل وعيال على من يلي أمره ويعوله {أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ} حيثما يرسله ويصرفه في مطلب حاجة أو كفاية مهم لم ينفع ولم يأت بنجح {هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ} أي ومن هو سليم الحواس نفاع ذو كفايات مع رشد وديانة، فهو يأمر بالعدل والخير {وَهُوَ} في نفسه {عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} على سيرة صالحة ودين قويم. وهذا مثل ثان ضربه لنفسه ولما يفيض على عباده من آثار رحمته ونعمته وللأصنام التي هي أموات لا تضر ولا تنفع).
77 -
79. قوله تعالى: {وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (77) وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ
(1) حديث صحيح. أخرجه ابن جرير في "التفسير"(21814) - ورجاله رجال الصحيح. وانظر: "الصحيح المسند من أسباب النزول" - الوادعي - سورة النحل، آية (75 - 76).
تَشْكُرُونَ (78) أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (79)}.
في هذه الآيات: إثبات الله تعالى أمر الغيب له وتحذيره عباده فجأة الساعة والقيام للحساب. وامتنان من الله تعالى على عباده أن أخرجهم من بطون أمهاتهم لا يعلمون شيئًا فرزقهم السمع والأبصار والأفئدة لإدراك العلوم وفهم المنافع والمضار لعلهم يشكرون. إن في تسخير الله الطيور وحملها في جو السماء لآيات لقوم يؤمنون.
فقوله: {وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} . قال ابن جرير: (يقول تعالى ذكره: ولله أيها الناس مِلك ما غابَ عن أبصاركم في السماوات والأرض دون آلهتكم التي تدعون من دونه، ودون كل ما سواه، لا يملك ذلك أحد سواه).
وقوله: {وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} . قال قتادة: (هو أن يقول: كن، فهو كلمح البصر، فأمر الساعة كلمح البصر أو أقرب، يعني يقول: أو هو أقرب من لمح البصر).
وفي التنزيل:
1 -
قال تعالى: {وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ} [القمر: 50]. أي: يكون ما يريد كطرف العين.
2 -
وقال تعالى: {مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ} [لقمان: 28].
امتنان جديد من الله سبحانه على عباده، فهو الذي أخرجهم من بطون أمهاتهم لا يعلمون شيئًا، ثم رزقهم السمع الذي يدركون به الأصوات، والأبصار اللاتي يبصرون بها المحسوسات والمرئيات، والأفئدة - وهي العقول - يميزون بها المنافع من المضرّات، ومركز العقل والفهم هو القلب، وهو مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، لعلهم يعرفون نعمة ربهم عليهم فيقدرونها ويقومُون بحق شكرها.
قلت: وأعظم شكر تلك النعم صرفها في طاعة الله والأمر بالمعروف والنهي عن
المنكر، فإن ذلك خير عمل الجوارح والقلب، والله سوف يسأل العبد يوم القيامة عن صحته ونعمة العافية. وفي التنزيل:
1 -
قال تعالى: {قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ} [الملك: 23].
2 -
وقال تعالى: {إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} [الإنسان: 2].
ومن كنوز صحيح السنة العطرة في آفاق ذلك أحاديث:
الحديث الأول: أخرج البخاري في صحيحه عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ](1).
الحديث الثاني: أخرج الحاكم والبيهقي عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[اغتنم خمسًا قبلَ خمس: حياتك قَبل موتك، وصحتك قبل سقَمك، وفراغك قبل شغلِكَ، وشبابك قبل هرمك، وغناك قبل فقرك](2).
الحديث الثالث: أخرج الترمذي بسند صحيح عن أبي هريرة، وعن أبي سعيد قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [يُؤتى بالعبد يوم القيامة فيقول له: ألم أجعل لك سمعًا وبصرًا، ومالًا وولدًا، وسخّرت لك الأنعام والحرث، وتركتك ترأس وتَرْبَعُ، فكنت تَظُنّ أنك ملاقيَّ يومَك هذا؟ ] الحديث (3).
الحديث الرابع: أخرج الإمام البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: [يقولُ تعالى: من عادى لي وليًا فقد بارزني بالحرب. وما تقرَّبَ إليَّ عبدي بأفضل من أداء ما افترضتُ عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبَّهُ، فإذا أحببتُه كنتُ سمْعَهُ الذي يسمع به، وبصره الذي يُبْصِرُ به، ويده التي يَبْطِشُ بها، ورِجْلَهُ التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينّه، ولئن دعاني
(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري في الصحيح - حديث رقم - (6412) - كتاب الرّقاق، باب الصحة والفراغ، ولا عيش إلا عيش الآخرة.
(2)
حديث صحيح. انظر صحيح الجامع الصغير - حديث رقم (1088) - وكتابي: أصل الدين والإيمان (1/ 691) لتفصيل البحث: "نعمة استواء الخلق واكتمال صورته".
(3)
حديث صحيح. أخرجه الترمذي في الجامع - حديث رقم - (2558) - أبواب صفة القيامة، وانظر صحيح سنن الترمذي - حديث رقم - (1978)، وقد مضى بتمامه.
لأجيبنّه، ولئن استعاذ بي لأعيذَنَّه، وما تردَّدْتُ في شيء أنا فاعله تردُّدي في قبض نفس عبدي المؤمن، يكره الموت وأكره مساءَتَه، ولا بُدَّ له منه] (1).
يعني: إن العبد إذا صدق الله النية والعمل جعل الله جوارحه منساقة لأمر الله ورضاه، فلا يسمع إلا ما يرضي ربه تعالى، ولا يبصر إلا ما يحب سبحانه، وكذلك أعمال سائر جوارحه.
وقوله تعالى: {أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} . قال قتادة: ({فِي جَوِّ السَّمَاءِ}: أي في كبد السماء).
وفي التنزيل: {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ} [الملك: 19].
قال النسفي: ({مُسَخَّرَاتٍ} مذللات للطيران بما خلق لها من الأجنحة والأسباب المواتية لذلك {فِي جَوِّ السَّمَاءِ} هو الهواء المتباعد من الأرض في سمت العلو {مَا يُمْسِكُهُنَّ} في قبضهن وبسطهن ووقوفهن {إِلَّا اللَّهُ} بقدرته. وفيه نفي لما يصوره الوهم من خاصية القوى الطبيعية {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} بأن الخلق لا غنى به عن الخالق).
80 -
83. قوله تعالى: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ (80) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلَالًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ (81) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (82) يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ (83)}.
في هذه الآيات: امتنان الله على عباده بنعمة البيوت والسكن والفائدة من جلود الأنعام في ذلك. ونعمة الظلال والجبال والسرابيل وآفاق المنافع من وراء هذا الخلق
(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري في صحيحه (11/ 292)، (11/ 297) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وانظر فتح الباري (11/ 295).
والتسخير كذلك. ثم إن أكثر الناس بنعم الله يجحدون، وقليل من عباد الله الذين يشكرون.
فقوله: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ} الآية. قال مجاهد: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا} قال: تسكنون فيه). وعن ابن عباس: ({أَثَاثًا}، قال: يعني بالأثاث: المال). وقال مجاهد: ({أَثَاثًا}: متاعًا). وقيل: هو الثياب. وقوله: {وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ} قال مجاهد: (إلى الموت). وقال ابن عباس: ({وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ} فإنه يعني: زينة، يقول: ينتفعون به إلى حين). وقال قتادة: (إلى أجل وبلغة).
فالمعنى: والله جعل لكم أيها الناس من الحجر والمدر بيوتًا تسكنون فيها حين إقامتكم في دوركم وبلادكم، وجعل لكم خيامًا من الشعر والصوف والوبر والجلد تستخفون حملها ونقلها في أسفاركم لإقامة متنقلة وأيام محدودة، كما تستفيدون منها لإقامتكم في بلادكم وأمصاركم. قال ابن كثير:({وَمِنْ أَصْوَافِهَا}، أي: الغنم، {وَأَوْبَارِهَا}، أي: الإبل. {وَأَشْعَارِهَا}، أي: المَعْزِ - والضمير عائد على الأنعام - {أَثَاثًا}، أي: تتخذون منه أثاثًا، وهو المال. وقيل: المتاع. وقيل: الثياب. والصحيح أعمُّ من هذا كلِّه، فإنه يتخذ منه الأثاث والبُسْط والثياب وغير ذلك، ويُتَّخَذُ مالًا وتجارة. وقوله: {إِلَى حِينٍ}، أي: إلى أجل مسمى ووقت معلوم).
وقوله: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلَالًا} . قال قتادة: (إي والله. . . من الشجر ومن غيرها). وقوله: {وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا} - أي حصونًا ومعاقل ومواضع تسكنون فيها، والأكنان: جمع كِنّ (1). قال الرازي: (الكِنّ: السُّترة. والأكِنّة: الأغطية). قال قتادة: ({وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا} يقول: غيرانًا من الجبال يسكن فيها).
وقوله: {وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ} . قال قتادة: (يعني ثياب القطن والكتان والصوف وقمصها). وقوله: {وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ} . وهي الدروع التي تقي الناس في الحرب وما شابهها. قال قتادة: (هي سرابيل من حديد). والمراد دروع الحديد المصفَّح والزَّرَدِ ونحوها مما يرد سلاح العدو أثناء القتال ويصد ضرباته.
وقوله: {كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ} . قال قتادة: (هذه السورة
(1) وهو الحافظ من المطر والريح وغير ذلك. والمراد هنا بيوت السكن في مغاوير وتجاويف الجبال.
تسمّى سورة النِّعَم). قال النسفي: (أي تنظرون في نعمته الفائضة فتؤمنون به وتنقادون له).
وقوله تعالى: {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} . قال القرطبي: ({فَإِنْ تَوَلَّوْا} أي أعرضوا عن النظر والاستدلال والإيمان. {فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ} أي ليس عليك إلا التبليغ، وأما الهداية فإلينا).
وقوله تعالى: {يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ} - فيه أكثر من تأويل:
1 -
قال السدي: (يعني محمدًا صلى الله عليه وسلم، أي يعرفون نبوته {ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا} ويكذبونه).
2 -
قال مجاهد: (يريد ما عدّد الله عليهم في هذه السورة من النعم، أي يعرفون أنها من عند الله وينكرونها بقولهم إنهم ورثوا ذلك عن آبائهم).
3 -
قال عَوْنُ بن عبد الله: (هو قول الرجل لولا فلان لكان كذا، ولولا فلان ما أصبت كذا، وهم يعرفون النفع والضر من عند الله).
4 -
وقال الكلبي: (هو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما عرَّفهم بهذه النعم كلها عرفوها وقالوا: نَعَمْ، هي كلها نِعَم من الله، ولكنها بشفاعة آلهتنا).
5 -
وقيل: يعرفون نعمة الله بتقلبهم فيها، وينكرونها بترك الشكر عليها.
6 -
وقيل: يعرفونها في الشّدة وينكرونها في الرخاء.
7 -
وقيل: يعرفونها بأقوالهم وينكرونها بأفعالهم.
8 -
وقيل: يعرفونها بقلوبهم ويجحدونها بألسنتهم.
قلت: وجميع ما سبق مما يحتمل التأويل، ويتسع له البيان الإلهي والإعجاز القرآني.
وقوله: {وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ} - قيل المراد جميعهم، وقيل المراد أغلبهم.
84 -
88. قوله تعالى: {وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا ثُمَّ لَا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (84) وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذَابَ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلَا هُمْ
يُنْظَرُونَ (85) وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكَاءَهُمْ قَالُوا رَبَّنَا هَؤُلَاءِ شُرَكَاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُو مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ (86) وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (87) الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ (88)}.
في هذه الآيات: تحذير الله عباده اليوم الموعود، يوم يبعث الله فيه الشهود، فلا يؤذن بالاعتذار للذين كفروا، ولا يخفف العذاب عن الذين ظلموا، ولا يلقى الشركاء إلا التكذيب والخزي من الذين أشركوا، ويزيد الله الكافرين الذين كانوا يصدون عن سبيل الله عذابًا فوق العذاب بما كانوا يفسدون.
فقوله: {وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا} . قال قتادة: (وشاهدها نبيّها، على أنه قد بلغ رسالات ربه، قال الله تعالى: {وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلَاءِ}).
وقوله: {ثُمَّ لَا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ} . قال ابن جرير: (يقول: ثم لا يؤذن للذين كفروا في الاعتذار، فيعتذروا مما كانوا بالله وبرسوله يكفرون {وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ} فيتركوا الرجوع إلى الدنيا، فينيبوا ويتوبوا، وذلك كما قال تعالى: {هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ (35) وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ}).
وقوله تعالى: {وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذَابَ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ} .
أي: إذا عاين المشركون الذين كذّبوا الرسِل عذاب جهنم بالدخول إليها فإنهم لا يخفف عنهم عذابها بالعذر الذي يلقونه ولا يُفَتَّرُ عنهم ساعة، ولا يُرجَؤون بالعقاب فقد فات وقت التوبة.
أي: وإذا أبصر المشركون يوم الحساب أوثانهم وأصنامهم والطواغيت التي كانوا يعبدونها من دون الله تقودهم إلى النار بأمر الله، قالوا ربنا هؤلاء الذين اتخذناهم أربابًا وجعلناهم لك شركاء، فكذبتهم الآلهة بأنها لم تكن آلهة ولا أمرتهم بعبادتها. قال القرطبي:(فيُنطق الله الأصنامَ حتى تظهر عند ذلك فضيحة الكفار. وقيل: المراد بذلك الملائكة الذين عبدوهم).
وقال أبو مسلم الأصفهانيّ: (مقصود المشركين إحالة هذا الذنب على هذه الأصنام. وظنوا أنّ ذلك ينجيهم من عذاب الله تعالى أو ينقص من عذابهم. فعند هذا تكذبهم تلك الأصنام) - ذكره القاسمي.
وفي التنزيل نحو ذلك:
1 -
قال تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ (5) وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} [الأحقاف: 5، 6].
2 -
وقال تعالى: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (81) كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا} [مريم: 81، 82].
3 -
وقال تعالى: {ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} [العنكبوت: 25].
ومن كنوز صحيح السنة في مفهوم هذه الآية أحاديث:
الحديث الأول: أخرج البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [يَجْمعُ الله الناس يوم القيامة فيقولُ: مَنْ كان يَعْبُدُ شيئًا فليتَّبعْه، فَيتَّبِعُ مَنْ كان يَعْبُدُ الشمسَ الشمسَ، وَيَتَّبِعُ مَنْ كان يعبدُ القمرَ القمرَ، ويَتَّبِعُ مَنْ كان يعبد الطواغيتَ الطواغيتَ. .] الحديث (1).
الحديث الثاني: أخرج الدارمي في سننه بسند جيد عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: [إذا جمع الله العباد بصعيد واحد نادى مناد: يلحق كل قوم بما كانوا يعبدون، ويبقى الناس على حالهم، فيأتيهم فيقول: ما بال الناس ذهبوا وأنتم ها هنا؟ فيقولون: ننتظر إلهنا، فيقول: هل تعرفونه؟ فيقولون: إذا تعرف إلينا عرفناه، فيكشف لهم عن ساقه، فيقعون سجدًا، وذلك قول الله تعالى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ}، ويبقى كل منافق، فلا يستطيع أن يسجد، ثم يقودهم إلى الجنة](2).
(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (7437) - كتاب التوحيد، وأخرجه مسلم (182)، وابن حبان (7429)، وأخرجه عبد الرزاق (20856)، وابن أبي عاصم (455) - في أثناء حديث طويل.
(2)
حديث صحيح. أخرجه الدارمي في سننه (2/ 326)، وانظر سلسلة الأحاديث الصحيحة (584).
وقوله تعالى: {وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} .
أي: استسلم المشركون لعذاب الله وخضعوا لِعِزِّه، وزال عنهم ما كان من تزيين الشيطان لهم في شفاعة آلهتهم، وخاب ما كانوا يؤمّلون من ذلك. قال قتادة:({وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ} يقول: ذلوا واستسلموا يومئذ).
وقوله تعالى: {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ} . قال القاسمي: (أي يضاعف لهم العذاب كما ضاعفوا كفرهم بصدهم غيرهم عن الإيمان، كقوله تعالى: {وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ} [الأنعام: 26]. وفي الآية دليل على تفاوت الكفار في عذابهم، كما يتفاوت المؤمنون في منازلهم في الجنة ودرجاتهم. كما قال تعالى: {لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 38]).
89 -
92. قوله تعالى: {وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلَاءِ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (89) إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90) وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (91) وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (92)}.
في هذه الآيات: اختصاص الله تعالى نبيّه محمدًا صلى الله عليه وسلم بالشهادة على الأمم، وبالقرآن المبين الذي يحمل الهدى والرحمة والبشرى للمسلمين أولي الهمم. وأمْرُ الله تعالى عباده المؤمنين بالعدل والإحسان، وتحذيرهم الفواحش والموبقات والطغيان، وتنبيههم على تعظيم أمر الأَيمان، فإليه يرجع يوم القيامة جميع الأنام.
فقوله: {وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلَاءِ} . تشريف من الله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم في اختصاصه برفيع المقام يوم حشر الخلائق،
وجعل شهادته الحكم الفصل على أعمال أمته وتصديقهم له أو تكذيبهم، وعلى بلاغ الرسل لأممهم.
وفي التنزيل: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا} [النساء: 41].
ومن كنوز صحيح السنة في آفاق معنى الآية أحاديث:
الحديث الأول: أخرج أحمد والبخاري عن أبي سعيد رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[يجيء النبي يوم القيامة ومعه الرجل، والنبي ومعه الرجلان، والنبي ومعه الثلاثة، وأكثر من ذلك، فَيُقال له: هل بلغت قومك؟ فيقول: نعم. فيُدعى قومه، فيقال لهم: هل بلّغكم هذا؟ فيقولون: لا، فيقال له: من يشهد لكَ، فيقول: محمدٌ وأمته، فيدعى محمدٌ وأمته، فيُقال لهم: هل بَلّغَ هذا قومه؟ فيقولون: نعم، فَيُقال: وما علمكم بذلك؟ فيقولون: جاءنا نبيّنا، فأخبرنا أن الرسل قد بلَّغوا فصدَّقناه، فذلك قوله: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا}](1).
الحديث الثاني: أخرج البخاري في صحيحه، وأحمد في مسنده، والترمذي في جامعه، عن أبي سعيد، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[يجيء نوحٌ وأمَّته، فيقول الله: هل بَلَّغت؟ فيقول: نعم أي ربِّ! فيقول لأمته: هل بَلَّغَكُم؟ فيقولون: لا، ما جاء لنا من نبيّ، فيقول لنوح: من يشهد لك؟ فيقول: محمد وأمّته، وهو قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ}. والوسط: العدل، فيُدعون، فيشهدون له بالبلاغ، ثم أشهد عليكم](2).
الحديث الثالث: أخرج البخاري ومسلم عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال لي النبي صلى الله عليه وسلم: [اقرأ عليَّ القرآن، فقلت: يا رسول الله أقرأ عليك وعليك أنزل؟ قال: إني أحب أن أسمعه من غيري. فقرأت عليه سورة النساء حتى جئت إلى هذه
(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (6/ 286)، وأحمد (2/ 32)، وانظر صحيح الجامع (7889).
(2)
حديث صحيح. أخرجه البخاري (8/ 139)، (6/ 286)، وأحمد (3/ 32)، ورواه الترمذي وغيره، انظر صحيح الجامع - حديث رقم - (7890).
الآية: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا} قال: حسبك الآن. فالتفت إليه فإذا عيناه تذرفان] (1).
وقوله: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} . قال مجاهد: (مما أحل وحرّم). أو قال: (ما أمر به، وما نهى عنه). وقال ابن مسعود: (أنزل في هذا القرآن كل علم وكل شيء، فقد بيّن لنا في القرآن، ثم تلا هذه الآية). وقول ابن مسعود أشمل لمعنى الآية، فالقرآن مشتمل على كل ما يحتاج إليه العباد من معرفة أمر دينهم ودنياهم، ومعاشهم ومعادهم.
وقوله: {وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} . قال ابن جرير: ({وَهُدًى} من الضلالة {وَرَحْمَةً} لمن صَدَّق به، وعمل بما فيه من حدود الله، وأمره ونهيه، فاحل حلاله، وحرّم حرامه {وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} يقول: وبشارة لمن أطاع الله وخضع له بالتوحيد، وأذعن له بالطاعة، يبشره بجزيل ثوابه في الآخرة، وعظيم كرامته).
وقوله: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى} . أَمْرٌ من الله بالقسط، وندب إلى الإحسان، وصلة القرابة والأرحام. وعن ابن عباس:({إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ}، قال: شهادة أن لا إله إلا الله). وقال سفيان بن عُيينة: (العدل في هذا الموضع هو استواء السريرة والعلانية من كلِّ عاملٍ لله عملًا. والإحسان أن تكون سريرتُه أحسنَ من علانيته. والفحشاء والمنكر أن تكون علانيته أحسنَ من سريرته).
وفي التنزيل حثٌّ على الإحسان وصلة الأرحام:
1 -
قال تعالى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [الشورى: 40].
2 -
وقال تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ} [النحل: 126].
3 -
وقال تعالى: {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا} [الإسراء: 26].
ومن صحيح السنة العطرة في ذلك أحاديث:
الحديث الأول: أخرج الإمام مسلم من حديث أبي هريرة قال: [كان رسول الله صلى الله عليه وسلم
(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (5050)، وأخرجه مسلم (800)، وأخرجه أحمد (1/ 380).
يومًا بارزًا للناس، فأتاه رجل فقال: يا رسول الله ما الإيمان؟ قال: أن تؤمن بالله وملائكته وكتابه ولقائه ورسله، وتؤمن بالبعث الآخر. قال يا رسول الله ما الإسلام؟ قال: الإسلام أن تعبُدَ ألله ولا تشرك به شيئًا، وتُقيمَ الصلاةَ المكتوبة، وتؤدي الزكاة المفروضة، وتصوم رمضان. قال: يا رسول الله ما الإحسان؟ قال: أن تعبد الله كأنك تراه، فإنك إن لا تراه، فإنه يراك. .] الحديث (1).
الحديث الثاني: أخرج البخاري في "الأدب المفرد"، وأبو داود في السنن من حديث أبي بكرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[ما من ذنب أجدرُ أن يُعَجَّلَ لصاحبه العقوبةُ مع ما يدخر له، من البغي وقطيعة الرحم](2).
الحديث الثالث: أخرج البخاري ومسلم عن جبير بن مطعم، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:[لا يدخل الجنة قاطِع](3). قال سفيان: (يعني قاطع رحم).
وقوله: {وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ} . أي عن الكبائر والمنكرات والعدوان على الناس. قال ابن عباس: (الفحشاء: الزنا، والبغي: الكبر والظلم). وعن قتادة - في هذه الآية - قال: (ليس من خُلُق حسن كان أهل الجاهلية يعملون به ويستحسنونه إلا أمر الله به. وليس من خُلُق سَيّء كانوا يتعايَرُونه بينهم إلا نهى الله عنه وقدَّمَ فيه. وإنما نهى عن سفاسف الأخلاق ومَذَامِّها). قال ابن كثير: (فالفواحش: المحرمات. والمنكرات ما ظَهَرَ منها من فاعليها، ولهذا قال في الموضع الآخر: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} [الأعراف: 33]. وأما البغي فهو العدوان على الناس).
قلت: والبغي عقوبته معجلة في الدنيا قبل الآخرة، ودعوة المظلوم ليس بينها وبين الله حجاب.
وفي التنزيل:
1 -
قال تعالى: {وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ} [الحج: 71].
(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم في الصحيح (1/ 30) - كتاب الإيمان - وانظر مختصر صحيح مسلم، باب: أول الإيمان قول لا إله إلا الله. وأخرجه أبو داود في السنن (4695)، والترمذي (2610)، والنسائي (8/ 97) من حديث عمر.
(2)
حديث صحيح. أخرجه البخاري في "الأدب المفرد"(29)، والترمذي (2511)، وأخرجه أبو داود (4902)، وانظر:"صحيح الأدب المفرد"(23) - باب عقوبة عُقوق الوالدين.
(3)
حديث صحيح. أخرجه البخاري (10/ 347)، وأخرجه مسلم - حديث رقم - (2556).
2 -
وقال تعالى: {مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ} [غافر: 18].
ومن كنوز صحيح السنة في ذلك:
الحديث الأول: أخرج الإمام مسلم عن جابر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:[اتقوا الظلم، فإن الظلم ظلمات يوم القيامة، واتقوا الشُّحَ فإن الشُّحَ أهلك من كان قبلكم، حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم](1).
الحديث الثاني: أخرج البخاري ومسلم عن أبي موسى رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [إن الله لَيُمْلي للظالم، فإذا أخذه لم يُفْلِتْهُ، ثم قرأ: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ}](2).
وقوله: {يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} . قال ابن جرير: (يقول: يذكركم أيها الناس ربكم لتذكروا فتنيبوا إلى أمره ونهيه، وتعرفوا الحقّ لأهله).
وقوله: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا} . أَمْرٌ من الله تعالى عباده بالوفاء بالعهود والمواثيق، والمحافظة على الأيمان المؤكّدة. قال مجاهد:({وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} يقول: بعد تشديدها وتغليظها. {وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا} قال: وكيلًا).
وفي التنزيل:
1 -
قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1].
2 -
وقال تعالى: {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا} [الإسراء: 34].
ومن كنوز السنة في آفاق معنى الآية، أحاديث:
الحديث الأول: أخرج البخاري ومسلم من حديث أنس رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: [لكل غادرٍ لواء يوم القيامة، يقال: هذه غَدْرةُ فلان](3).
الحديث الثاني: أخرج الإمام مسلم في صحيحه من حديث أبي سعيد مرفوعًا:
(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم في صحيحه - حديث رقم - (2578)، كتاب البر والصلة.
(2)
حديث صحيح. أخرجه البخاري (8/ 267)، وأخرجه مسلم في الصحيح - حديث رقم - (2583).
(3)
حديث صحيح. أخرجه البخاري في الصحيح (10/ 464)، (12/ 299)، وأخرجه مسلم - حديث رقم - (1735)، من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.
[لكل غادر لواء عند اسْتِه يوم القيامة يُرْفَعُ له بِقَدْرِ غَدْرِه، ألا ولا غادِرَ أعظمُ غدرًا من أمير عامة](1).
الحديث الثالث: أخرج أبو داود والحاكم بسند صحيح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [المسلمون على شُروطهم](2).
الحديث الرابع: أخرج ابن حبان في صحيحه عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [مَنْ غَشَّنَا فليس منا، والمكر والخداعُ في النار](3).
وقوله: {إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} . قال ابن كثير: (تهديد ووعيد لمن نقضَ الأيمانَ بعد توكيدها).
وقوله: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ} . قال السدي: (هي خَرْقَاءُ بمكة كانت إذا أبرمت غزلها نقضته). وقال قتادة: (فلو سمعتم بامرأة نقضت غزلها من بعد إبرامه لقلتم: ما أحمق هذه! وهذا مثل ضربه الله لمن نكث عهده). وقال مجاهد: (غزلها: حبلها، تنقضه بعد إبرامها إياه، ولا تنتفع به بعد). وقوله: {أَنْكَاثًا} يعني: أنقاضًا. والمقصود نقض العهد. قال ابن جرير: ({تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ}: تجعلون أيمانكم التي تحلفون بها على أنكم موفون بالعهد لمن عاقدتموه {دَخَلًا بَيْنَكُمْ} يقول: خديعة وغرورًا ليطمئنوا إليكم، وأنتم مضمرون لهم الغدر، وترك الوفاء بالعهد، والنُّقلة عنهم إلى غيرهم من أجل أن غيرهم أكثر عددًا منهم).
وعن ابن عباس: ({أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ} يقول: أكثر) أو قال: (يقول: ناس أكثر من ناس). قال مجاهد: (كانوا يحالفون الحلفاء، فيجدون أكثر منهم وأعزّ، فينقضون حِلْفَ هؤلاء، ويحالفون هؤلاء الذين هم أعزّ منهم، فنهوا عن ذلك). وعن قتادة: ({تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ} يقول: خيانة وغدرًا بينكم {أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ} أن يكون قوم أعزّ وأكثر من قوم).
(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم في صحيحه - حديث رقم - (1738)(16).
(2)
حديث صحيح - أخرجه أبو داود في السنن (3594) - كتاب الأقضية، باب في الصلح. وانظر صحيح سنن أبي داود - حديث رقم - (3063).
(3)
حديث صحيح. أخرجه ابن حبان (1107)، والطبراني في "المعجم الصغير" ص (153)، وفي "المعجم الكبير"(3/ 69/ 1). وانظر سلسلة الأحاديث الصحيحة - حديث رقم - (1058).
وفي لغة العرب: أربى - على وزن أفعل - من الربا، هذا أربى من هذا، إذا كان أكثر منه.
وقوله: {إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} . قال سعيد بن جبير: ({إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ}، يعني بالكثرة). وقال ابن جرير: (أي بأمره إياكم بالوفاء بالعهد). ثم قال: (وليبينن لكم أيها الناس ربكم يوم القيامة إذا وردتم عليه بمجازاة كلّ فريق منكم على عمله في الدنيا، المحسن منكم بإحسانه، والمسيء بإساءته).
وفي التنزيل: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا} [النساء: 58].
وفي صحيح السنة العطرة في آفاق ذلك أحاديث:
الحديث الأول: أخرج أبو داود والترمذي بسند صحيح عن أبي بكرة مرفوعًا: [ما مِنْ ذَنْبٍ أجدرُ أن يعجل الله تعالى لصاحبه العقوبة في الدنيا مع ما يدّخر له في الآخرة من البغي وقطيعة الرحم](1).
الحديث الثاني: أخرج الطبراني بسند جيد عن أبي بكرة مرفوعًا: [ما مِنْ ذَنْبٍ أجدرُ أن يُعَجِّلَ الله تعالى لصاحبه العقوبةَ في الدنيا، مع ما يَدَّخِره له في الآخرة من قطيعة الرحم، والخيانةِ، والكذب، وإنَّ أعجلَ الطاعة ثوابًا لصلة الرحم، حتى إن أهلَ البيتِ ليكونوا فَجَرَة، فتنمو أموالهم، ويكثر عددهم، إذا تواصلوا](2).
الحديث الثالث: أخرج البيهقي في "السنن الكبرى" - بسند صحيح في الشواهد - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ليس شيء أُطيعَ اللهُ فيه أعجلَ ثوابًا من صلة الرحم، وليس شيء أعجل عقابًا من البغي وقطيعة الرحم، واليمين الفاجرة تدع الديار بلاقع](3).
(1) حديث صحيح. أخرجه أبو داود (2/ 301 - 302)، وأحمد (5/ 36 - 38)، والترمذي (2/ 83)، وأخرجه البخاري في "الأدب المفرد"(ص 12)، وأخرجه الحاكم (2/ 356)، وغيرهم.
(2)
حديث صحيح. أخرجه الطبراني وبعض ألفاظه عند ابن حبان. انظر: "مجمع الزوائد"(8/ 152)، و"الترغيب"(3/ 228) - للمنذري، وسلسلة الأحاديث الصحيحة (ج 2)(ص 624).
(3)
صحيح لشواهده. أخرجه البيهقي في "السنن الكبرى"(10/ 35)، وانظر للرواية بعده "المعجم الأوسط" - للطبراني (1/ 155/ 2)، وسلسلة الأحاديث الصحيحة - حديث رقم - (978).
وله شاهد عند الطبراني في "الأوسط" من حديث أبي هريرة مرفوعًا: [إن أعجلَ الطاعة ثوابًا صلة الرحم، وإن أهل البيت ليكونون فجارًا، فتنمو أموالهم، ويكثر عددهم، إذا وصلوا أرحامهم، وإن أعجل المعصية عقوبة البغي والخيانة، واليمين الغموس يذهب المال، ويثقل في الرحم، ويذر الديار بلاقع].
93 -
97. قوله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (93) وَلَا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (94) وَلَا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا إِنَّمَا عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (95) مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (96) مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (97)}.
في هذه الآيات: إثبات الله قَهْر مشيئته كل مشيئة، فهو - تعالى - يضل من يشاء ويهدي من يشاء بحكمته، وإليه المرجع للحساب جلّت عظمته. وتحذير منه سبحانه من اتخاذ الأيمان خديعة ومكرًا، والشراء بعهده ثمنًا قليلًا. وتبشير المؤمنين أهل الأعمال الصالحة الرفيعة، بحياة طيبة في الدنيا والآخرة.
قال النسفي: ({وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} حنيفة مسلمة {وَلَكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ} من علم منه اختيار الضلالة {وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} من علم منه اختيار الهداية {وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} يوم القيامة فتجزون به).
وفي التنزيل:
1 -
قال تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا} [يونس: 99].
2 -
وقال تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} [هود: 118، 119].
قال ابن كثير: (حذّر تعالى عباده من اتخاذ الأيمان دخلًا، أي: خديعةً ومَكْرًا، لئلا تَزِلَّ قدمٌ بعد ثبوتها، مثل لمن كان على استقامةٍ فحادَ عنها وزَلَّ عن طريق الهدى، بسبب الأيمان الحانثة المشتملة على الصدِّ عن سبيل الله، لأن الكافر إذا رأى أن المؤمن قد عاهده ثم غَدَر به لم يبق له وثوقٌ بالدين، فانصدّ بسببه عن الدخول في الإسلام، ولهذا قال: {وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}).
وقوله تعالى: {وَلَا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا إِنَّمَا عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} . قال القاسمي: (أي: لا تستبدلوا بعهد الله وبيعة رسوله عرضًا من الدنيا يسيرًا. وهو ما كانت قريش يَعِدُونهم ويمنونهم، إن ارتدوا {إِنَّمَا عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} أي من إظهاركم في الدنيا وإثابتكم في الآخرة {إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} أي من ذوي العلم والتمييز).
وقوله تعالى: {مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} . أي: كل ما عندكم أيها الناس وإن كَثُرَ لنافد فانٍ، وما عند الله خير وأبقى لمن صبر وعمل صالحًا، وليثيبَنَّ الله الذين صبروا بأجر أحسن أعمالهم. قال ابن جرير:(يقول تعالى ذكره: وليثيبن الله الذين صبروا على طاعتهم إياه في السّراء والضّراء، ثوابهم يوم القيامة على صبرهم عليها، ومسارعتهم في رضاه، بأحسن ما كانوا يعملون من الأعمال دون أسوئها، وليغفرن الله لهم سيئها بفضله).
وعْدٌ من الله تعالى للمؤمنين أهل العمل الصالح أن يحييهم - سبحانه - حياة طيبة في الدنيا وأن يجازيهم بأحسن أعمالهم في الآخرة.
وقد اشتملت أقوال أهل التأويل في هذه الآية على معان كثيرة متكاملة:
1 -
قال ابن عباس: {فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} قال: الحياة الطيبة: الرزق الحلال في
الدنيا). وفي لفظ: (الرزق الحسن في الدنيا). وفي لفظ آخر: (الرزق الطيب في الدنيا). وقال الضحاك: (الرزق الطيب الحلال).
2 -
قال الحسن البصري: (الحياة الطيبة: القناعة).
3 -
قال الضحاك: (يقول: من عمل عملًا صالحًا وهو مؤمن في فاقة أو ميسرة، فحياته طيبة، ومن أعرض عن ذكر الله فلم يؤمن ولم يعمل صالحًا، عيشته ضنكة لا خير فيها).
4 -
قال قتادة: (قوله: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً}، فإن الله لا يشاء عملًا إلا في إخلاص، ويوجب من عمل ذلك في إيمان، قال الله تعالى: {فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} وهي الجنة). وقال مجاهد: (الآخرة، يحييهم حياة طيبة في الآخرة). وقال الحسن: (ما تطيب الحياة لأحد إلا في الجنة).
5 -
وقيل: المقصود بالحياة الطيبة: السعادة، ذكره ابن عباس.
قلت: والحياة الطيبة تشمل كل ما ذكر وأكثر، وقد حفلت السنة الصحيحة بآفاق هذه المعاني في أحاديث:
الحديث الأول: أخرج الإمام أحمد والحاكم بسند صحيح عن معاذ بن عبد الله بن خُبيب عن أبيه عن عمه قال: كنا في مجلس، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم وعلى رأسه أثر ماء، فقال له بعضنا (1): نراك اليوم طيب النفس، فقال: أجل، والحمد لله، ثم أفاض القوم في ذكر الغنى، فقال:[لا بأس بالغنى لمن اتقى، والصحة لمن اتقى خير من الغنى، وطيب النفس من النعيم](2).
الحديث الثاني: أخرج الإمام مسلم في صحيحه عن عبد الله بن عمرو، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:[قد أفلحَ من أسلم ورزق كَفَافًا، وقَنَّعه الله بما آتاه](3).
وله شاهد عند الترمذي من حديث فضَالة بن عُبيد: أنه سَمِعَ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
(1) هو يسار بن عبد الله الجهني رضي الله عنه.
(2)
إسناده صحيح. أخرجه أحمد (5/ 272)، (5/ 381)، والحاكم (2/ 3)، وأخرجه ابن ماجه (2141)، ورجاله ثقات. وانظر سلسلة الأحاديث الصحيحة (174).
(3)
حديث صحيح. أخرجه مسلم (1054)، والترمذي (2348)، وأحمد (2/ 168)، وابن حبان (67) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنه.
[قد أفلح من هُدِيَ إلى الإسلام، وكان عيشه كَفَافًا، وَقَنِعَ به](1).
الحديث الثالث: أخرج الإمام مسلم عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [إنَّ الله لا يظلم المؤمن حسنةً، يُعْطَى بها في الدنيا ويثاب عليها في الآخرة. وأما الكافر فيُطعم بحسناته في الدنيا حتى إذا أفضى إلى الآخرة لم تكن له حسنة يُعْطى بها خيرًا](2).
الحديث الرابع: أخرج الحاكم وابن حبان بسند صحيح عن سعد بن أبي وقاص قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [أربع من السعادة: المرأة الصالحة، والمسكن الواسع، والجار الصالح، والمركب الهنيء. وأربع من الشقاء: المرأة السوء، والجار السوء، والمركب السوء، والمسكن الضيق](3).
98 -
100. قوله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (98) إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99) إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (100)}.
في هذه الآيات: أَمْرُ الله تعالى عباده بالاستعاذة به من الشيطان الرجيم عند تلاوة القرآن، فإن الشيطان ليس له سلطان على أهل الإيمان، إنما سلطانه على الذين يتولونه من أهل الشرك والطغيان.
فقوله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} .
قال ابن زيد: (فهذا دليل من الله تعالى دلّ عباده عليه). قلت: والأمر بالاستعاذة - خارج الصلاة - عند تلاوة القرآن هو للوجوب، كما هو داخل الصلاة لعموم الأمر. قال ابن كثير:(والمعنئ في الاستعاذة عند ابتداء القراءة، لئلا تَلْتَبِسَ على القارئ قراءته ويُخْلَطَ عليه، ويمنَعه من التدبر والتفكر).
(1) حديث صحيح. أخرجه الترمذي (2349)، وأحمد (6/ 19)، وصححه ابن حبان (705)، وكذلك الحاكم (1/ 34 - 35)، ووافقه الذهبي، وهو كما قالوا.
(2)
حديث صحيح. أخرجه مسلم (2808)، وأحمد (3/ 123)، (3/ 283)، وابن حبان (377).
(3)
حديث صحيح. أخرجه ابن حبان في "صحيحه"(1232)، وأحمد (1/ 168)، والحاكم نحوه.
وقوله تعالى: {إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} .
قال الثوري: (ليس له عليهم سلطان أن يوقعهم في ذنب لا يتوبون منه). وقيل: المعنى: لا حجة له عليهم. وقيل: ليس له تسلط وولاية على المؤمنين. قال النسفي: (فالمؤمن المتوكل لا يقبل منه وساوسه). قلت: وكل ما سبق داخل في آفاق مفهوم هذه الآية، فإن صدق الإيمان بالله والتوكل عليه حرز من الشيطان.
وفي التنزيل:
1 -
قال تعالى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} [الحجر: 42].
2 -
وقال تعالى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا} [الإسراء: 65].
3 -
وقال تعالى: {قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} [الحجر: 39، 40].
وفي صحيح السنة المطهرة من آفاق هذا المعنى أحاديث:
الحديث الأول: روى أحمد في المسند، بسند صحيح، عن سبرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[إنّ الشيطان قعد لابن آدم بأطرقه، فقعد بطريق الإسلام فقال: تُسلِمُ وتذرُ دينك ودينَ آبائك وآباء آبائك؟ ! فعصاه فأسلم، ثم قعد له بطريق الهجرة فقال: تهاجر وتدع أرضك وسماءك. . . فعصاه فهاجر. ثم قعد له بطريق الجهاد فقال: تجاهد فهو جهد النفس والمال، فتقاتل فَتُقتَل فتنكح المرأة ويقسم المال؟ ! فعصاه فجاهد](1).
الحديث الثاني: أخرج الحاكم والبيهقي بسند صحيح عن أبي سعيد رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:[إنّ الشيطان قال: وعزتك يا رب لا أبرح أغوي عبادك ما دامت أرواحهم في أجسادهم، فقال الرب تبارك وتعالى: وعزتي وجلالي: لا أزال أغفر لهم ما استغفروني](2).
(1) حديث صحيح. أخرجه أحمد (3/ 483)، والنسائي (6/ 21 - 22)، وابن حبان (4593) وإسناده لا بأس به. انظر تخريج الترغيب (2/ 173)، وصحيح الجامع (1648).
(2)
صحيح لغيره. أخرجه الحاكم (4/ 261)، والبيهقي في "الأسماء" - ص (134) - بإسناد حسن.
الحديث الثالث: روى مسلم عن جابر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: [إنّ الشيطان قد أيِسَ أن يعبدَه المصلون في جزيرة العرب، ولكن في التحريش بينهم](1).
وقوله تعالى: {إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ} .
قال مجاهد: ({إِنَّمَا سُلْطَانُهُ}: حجته. {عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ} ، قال: يطيعونه). وقال قتادة: ({إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ} يقول: الذين يطيعونه ويعبدونه). وقال الضحاك: ({وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ} - عدلوا إبليس بربهم، فإنهم بالله مشركون). وقال مجاهد: (يعدلون بربّ العالمين). وقال الربيع: (أشركوه في أعمالهم). قال ابن كثير: (ويحتمل أن تكون الباء سببية، أي: صاروا بسبب طاعتهم للشيطان مشركين بالله تعالى. وقال آخرون: معناه أنه شرِكهم في الأموال والأولاد).
قلت: وكل ما سبق داخل في مفهوم الآية، فإن الشيطان يكتسب سلطانه من خضوع الناس له وطاعتهم لأوامره ووساوسه، حتى يضعف المطيع له أكثر وأكثر، وربما يحصل التلبّس والمسّ والصرع والدخول المؤذي وما يرافقه من النفث في العقد والسحر وغير ذلك.
ومن هنا جاءت النصوص الشرعية بمخالفته واتخاذه عدوًا فإنه رجيم.
ففي التنزيل:
1 -
قال تعالى: {وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} [البقرة: 168].
2 -
وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} [البقرة: 208].
3 -
وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [النور: 21].
وفي صحيح السنة - في آفاق معنى الآية - أحاديث:
الحديث الأول: أخرج الإمام مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [إذا قرأ ابن آدم السجدةَ فسجد، اعتزل الشيطان يبكي، يقول: يا ويله أُمِرَ ابنُ
(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم في الصحيح (8/ 138). وانظر مختصر صحيح مسلم (1804)، وكتابي: أصل الدين والإيمان (2/ 1340) - لتفصيل البحث.
آدم بالسجود فسجد فله الجنة، وأُمِرْتُ بالسجود فعصيت فليَ النار] (1).
الحديث الثاني: أخرج الإمام مسلم عن جابر، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:[لا تأكلوا بالشمال، فإن الشيطان يأكل بالشمال](2).
الحديث الثالث: أخرج الإمام مسلم عن أبيِ الزبير، عن جابر بن عبد الله، أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول:[إذا دخل الرجل بَيْتَهُ، فذَكَرَ الله عز وجل عِنْدَ دُخوله وعند طعامِه، قال الشيطان: لا مَبيتَ لَكُمْ ولا عَشَاء، وإذا دخلَ فلمْ يذكر اللهَ عند دخوله، قال الشيطان: أدركتم المبيت. وإذا لمْ يذكر الله عند طَعامه، قال: أدركتم المبيتَ والعَشَاء](3).
101 -
105. قوله تعالى: {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101) قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (102) وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (103) إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ لَا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (104) إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ (105)}.
في هذه الآيات: إثبات ضعف عقول المشركين، أمام منهج التشريع في القرآن الكريم، الذي نزل به الروح الأمين، ليثبت الذين آمنوا وهدى وبشرى للمسلمين، فهم يقولون إنما يعلمه بشر أعجمي وهذا لسان عربي مبين، والمشركون محرومون من الهداية ولهم عذاب أليم، فما يفتري النبي الكذب بل أولئك هم الكاذبون.
فقوله: {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ} - يعني رفعناها ونسخناها بغيرها. قال
(1) حديث صحيح. انظر مختصر صحيح مسلم - حديث رقم - (369).
(2)
حديث صحيح. أخرجه مسلم (2019) - كتاب الأشربة، باب آداب الطعام والشراب وأحكامهما.
(3)
حديث صحيح. أخرجه مسلم في صحيحه - حديث رقم - (2018) - كتاب الأشربة، الباب السابق، من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما.
مجاهد: (نسخناها، بدّلناها، رفعناها، وأثبتنا غيرها). وقال قتادة: (هو كقوله: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا} [البقرة: 106]).
أي: إن ذلك من فعل الله تعالى بحكمته وعلمه ينسخ ما يشاء من الآيات والأحكام ويثبت ما يشاء. ولكن ضعف عقول المشركين يحملهم على اتهام الرسول صلى الله عليه وسلم وأكثرهم جاهلون. قال ابن زيد: (قالوا: إنما أنت مفتر، تأتي بشيء وتنقضه، فتأتي بغيره. قال: وهذا التبديل ناسخ، ولا نبدّل آية مكان آية إلا بنسخ).
وقوله: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} . أي: نزل به جبريل عليه السلام من عند ربه سبحانه بالصدق والعدل. قال محمد بن كعب: (روح القُدس: جبرئيل).
وقوله: {لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} . قال ابن كثير: ({لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا}، فَيُصدِّقوا بما نزل أولًا وثانيًا وتُخْبِتَ له قلوبهم، {وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ}، أي: وجعله هاديًا وبشارة للمسلمين الذين آمنوا بالله ورسله).
اتهام للنبي صلى الله عليه وسلم بأخذ العلم عن بعض الأعاجم، فكذبهم الله تعالى.
أخرج ابن جرير - ورجاله رجال الصحيح - عن حُصين - وهو ابن عبد الرحمن - عن عبد الله بن مسلم الحضرمي: [أنه كان لهم عبدان من أهل عير اليمن، وكانا طفلين، وكان يُقال لأحدهما يسار، والآخر جبر، فكانا يقرآن التوراة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ربما جلس إليهما، فقال كفار قريش: إنما يجلس إليهما يتعلم منهما، فأنزل الله تعالى: {لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ}](1).
قال ابن جرير: (يقول الله تعالى ذكره مكذّبهم في قيلهم ذلك: ألا تعلمون كذب ما تقولون، إن لسان الذي تلحدون إليه، يقول: تميلون إليه بأنه يعلم محمدًا أعجميّ. . يقول: وهذا القرآن لسان عربي مبين).
(1) أخرجه ابن جرير في "التفسير"(21938)، ورجاله رجال الصحيح إلا المثنى فيه كلام. قال الحافظ في "الإصابة": سنده صحيح، وله شاهد من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، رواه الحاكم وصححه. وانظر:"الصحيح المسند من أسباب النزول" - الوادعي - النحل، (103).
أي: إن الذين لا يؤمنون بهذا القرآن إعراضًا عنه وكبرًا أن يفهموه ويُصْغوا إليه قد أقفل الله قلوبهم وتوعدهم بعذاب أليم. إنما يليق افتراء الكذب بمن لا يؤمن بآيات الله عنادًا واستكبارًا وأولئك هم الكاذبون. قال القرطبي: (قوله تعالى: {إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ} هذا جواب وصفهم النبي صلى الله عليه وسلم بالافتراء. {وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ} هذا مبالغة في وصفهم بالكذب، أي كل كذب قليل بالنسبة إلى كذبهم).
وفي صحيح البخاري من حديث أبي سفيان بن حرب - لما سأل هرقل أبا سفيان عن صفات رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: [أفكنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ قال: لا. فقال هرقل: فما كان ليدَعَ الكذبَ على الناس ويذهبَ فيكذِبَ على الله، عز وجل](1).
106 -
109. قوله تعالى: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (106) ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (107) أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (108) لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرُونَ (109)}.
في هذه الآيات: استثناء المكره على الكفر من الوقوع في الكفر، ولكن من شرح بالكفر صدرًا لزمه تبعات الكفر وله عذاب عظيم. أولئك الذين استحبوا الدنيا على الآخرة والله لا يهدي القوم الكافرين. أولئك الذين ختم الله على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم مقابل إصرارهم فأصبحوا خاسرين.
فقوله تعالى: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ
(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري في صحيحه - حديث رقم (7) - كتاب بدء الوحي، عن ابن عباس عنه، في أثناء حديث طويل.
وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}.
قال ابن عباس: (فأخبر الله سبحانه أنه من كفر من بعد إيمانه، فعليه غضب من الله، وله عذاب عظيم، فأما من أكره فتكلم به لسانه وخالفه قلبه بالإيمان لينجو من عدوه، فلا حرج عليه، لأن الله سبحانه إنما يأخذ العباد بما عقدت عليه قلوبهم).
قال ابن جرير: حدثنا ابنُ عبد الأعلى، حدثنا محمد بن ثَور، عن مَعْمَرٍ، عن عبد الكريم الجَزرِيّ، عن أبي عبيدة بن محمد بن عمار بن ياسر قال:(أخذ المشركون عمار بن ياسر فعذّبوه حتى قارَبَهُم في بعض ما أرادوا، فشكا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "كيفَ تَجدُ قَلْبَكَ"؟ قال: مُطْمَئِنًّا بالإيمان. قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن عادوا فَعُدْ")(1).
والثبات على الدين أفضل، وهو أغيظ للمشركين، وأرضى لله سبحانه، فمن لم يستطع فيجوز له أن يُوالي على الكفر - عند الإكراه - إبقاءً لمهجته. فهذا بلال رضي الله عنه قد ثبت على دينه رغم الأفاعيل التي كانوا يؤذونه فيها، وقد وضعوا الصخرة العظيمة على صدره في شدة الحر، وهو يقول: أحدٌ أحدٌ، ويأبى أن ينطق بكلمة الكفر التي تفرحهم، وكذلك حبيبُ بن زيد الأنصاري لما قال له مُسَيْلَمَةُ الكذاب: أتشهد أن محمدًا رسول الله؟ فيقول: نعم. فيقول: أتشهد أني رسول الله؟ فيقول: لا أسمع. فلم يزل يقطعه إرْبًا إرْبًا وهو ثابت على ذلك.
وذكر الحافظ ابن عساكر في ترجمة عبد الله بن حُذافة السهمي أحد الصحابة: (أنه أسرته الروم، فجاؤوا به إلى مَلِكهم، فقال له: تَنَصَّر وأنا أشرَكك في ملكي وأزوجك ابنتي. فقال له: لو أعطيتني جميعَ ما تملك وجميعَ ما تملكه العربُ على أن أرجِعَ عن دين محمد صلى الله عليه وسلم طرفةَ عين ما فعلمتُ! فقال: إذن أقتلك. قال: أنت وذاك! قال: فَأمرَ به فَصُلِبَ، وأمر الرماة فرَموه قريبًا من يديه ورِجْلَيْه، وهو يعرض عليه دين النصرانية فيأبى، ثم أمر به فَأُنزل، ثم أمر بقدر - وفي رواية: ببقرة من نحاس - فَأُحْميت، وجاء بأسير من المسلمين فألقاه وهو ينظر، فإذا هو عظامٌ تلوحُ. وعَرَض عليه فأبى، فأمر به أن يُلقى فيها، فرفع في البكْرَةِ لِيُلْقَى، فبكى، فطمع فيه ودعاه فقال له: إني إنما بكيت
(1) أخرجه الطبري (21946)، وأخرجه عبد الرزاق في "تفسيره"(1509)، والحاكم (2/ 357) والبيهقي (2/ 208 - 209)، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي، وله شواهد في كتب السير. فالخبر بمجموع طرقه - وإن كان بعضها مرسلًا - يتقوى، والله تعالى أعلم.
لأن نفسي إنما هي واحدة، تلقى في هذا القدر الساعةَ في الله، فأحببتُ أن يكونَ لي بعَددِ كُلِّ شعرة في جسدي نفسٌ تُعذَّبُ هذا العذاب في الله).
وقد ذكره الحافظ ابن كثير في التفسير، ثم قال: (وفي بعض الروايات: أنه سجنه وَمنعَ عنه الطعام والشراب أيامًا، ثم أرسل إليه بخمر ولحم خنزير، فلم يَقْرَبه، ثم استدعاه فقال: ما منعك أن تأكُلَ؟ قال: أما إنه قد حَلّ لي، ولكن لم أكن لأشمِّتك فيّ. فقال له الملك: فَقَبِّل رأسي وأنا أطْلِقُكَ. فقال: وتطلق معي جميع أسارى المسلمين؟ قال: نعم، فَقَبَّلَ رأسه، فاطلقه وأطلق معه جميع أسارى المسلمين عنده، فلما رجع قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: حقٌّ على كل مسلم أن يُقَبِّلَ رأس عبد الله بن حُذافة، وأنا أبدأ. فقام فَقَبَّلَ رأسه، رضي الله عنهما.
وأما الرِّدة عن الإسلام بعد الدخول فيه فيدخل في وعيد الآية، وهو العذاب العظيم في الآخرة، نتيجة لغضب الله وسخطه، إضافة إلى خزي عذاب الدنيا. وفي ذلك أحاديث.
الحديث الأول: أخرج البخاري في صحيحه عن عكرمة: [أن عَلِيًّا رضي الله عنه حَرَّقَ قَوْمًا، فَبَلَغَ ابن عَباس فقال: لوْ كنْتُ أنا لم أُحَرِّقْهُمْ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا تُعَذِّبُوا بعذاب الله. وَلَقَتَلْتُهُمْ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من بَدَّلَ دينه فاقتلوه"](1).
الحديث الثاني: أخرج البخاري في صحيحه من حديث أبي بُردَة عن أبي موسى - حين بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن ثم أتْبَعَهُ معاذَ بن جبل -: [فلما قدِمَ عليه ألقى له وسَادَةً قال: انْزِلْ، فإذا رجلٌ عِنْدَهُ مُوثَقٌ، قال: ما هذا؟ قال: كان يهوديًا فأسلمَ ثم تَهَوَّد، قال: اجْلِسْ، قال: لا أجلِسُ حتى يُقْتَلَ، قَضاءُ الله ورسوله، ثلاثَ مرات، فأمَرَ به فَقُتِلَ. .] الحديث (2).
ورواه أحمد عن أبي بُرْدة بلفظ: [قدِمَ على أبي موسى معاذُ بن جبل باليمن، فإذا رجُلٌ عِنده، قال: ما هذا؟ قال: رجُلٌ كان يهوديًا فأسلم ثم تهوَّد، ونحن نريده على الإسلام مُنْذُ - قال: أحسبه - شهرين، فقال: والله لا أقعد حتى تضربوا عنقه. فَضُرِبَت
(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (3017) - كتاب الجهاد والسير. باب: لا يُعَذَّبُ بعذاب الله.
وأخرجه البخاري أيضًا (6922)، وأبو داود (4351)، والترمذي (1458)، وأحمد (1/ 217).
(2)
حديث صحيح. أخرجه البخاري (6923) - كتاب استتابة المرتدين والمعاندين وقتالهم. باب: حكم المرتد والمرتدة واستتابتهم.
عنقه، فقال: قضى الله ورسوله أن من رَجَعَ عن دينه فاقتلوه. أو قال: "مَنْ بَدَّلَ دينَهُ فاقتُلوه"] (1).
وقوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} . قال ابن جرير: (يقول تعالى ذكره: حلّ بهؤلاء المشركين غضب الله، ووجب لهم العذاب العظيم، من أجل أنهم اختاروا زينة الحياة الدنيا على نعيم الآخرة، ولأن الله لا يوفق القوم الذين يجحدون آياته مع إصرارهم على جحودها).
وقوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} . قال القاسمي: (إنما الجناح على من شرح بالكفر صدرًا أي طاب به نفسًا واعتقده، استحبابًا للحياة الدنيا الفانية، أي إيثارًا لها على الآخرة الباقية، فذاك الذي له من الوعيد ما بينته الآيات الكريمة، من غضب الله عليهم أولًا. وعذابه العظيم لهم، وهو عذاب النار ثانيًا. وعدم هدايتهم باختيارهم الكفر ثالثًا. ورابعًا بالطبع على قلوبهم بقساوتها وكدورتها. فلم ينفتح لهم طريق الفهم. وعلى سمعهم وأبصارهم بسدّ طريق المعنى المواد من مسموعاتهم وطريق الاعتبار من مبصراتهم إلى القلب. فلم يؤثر فيهم شيء من أسباب الهداية من طريق الباطن من فيض العلم وإشراق النور. ولا من طريق الظاهر بطريق التعليم والتعلم والاعتبار من آثار الصنع. وخامسًا بكونهم هم الغافلين، بالحقيقة، لعدم انتباههم بوجه من الوجوه. وامتناع تيقظهم من نوم الجهل بسبب من الأسباب. وجليٌّ، أن كل نقمة من هذه الخمس، على انفرادها، من أعظم الحواجز عن الفوز بالخيرات والسعادات. فكيف بها كلها! ).
وقوله تعالى: {لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرُونَ} .
أي: لا بد ولا عجبَ أن هؤلاء في صنيعهم وإصرارهم على الكفر سيلقون الخسارة في أنفسهم وأهليهم يوم القيامة.
قال الرازي: (ومعلوم أنه تعالى إنما أدخل الإنسان الدنيا ليكون كالتاجر الذي يشتري بطاعاته سعادات الآخرة. فإذا حصلت هذه الموانع عظم خسرانه. فلهذا قال: {لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرُونَ} أي الذين ضاعت دنياهم التي استنفدوا
(1) حديث صحيح. أخرجه أحمد (5/ 231) وإسناده صحيح على شرط البخاري ومسلم. وأخرجه البخاري (6923)، ومسلم (1733) ح (13)، وأحمد (4/ 140) عن أبي بردة مطولًا.
في تحصيلها وسعهم، وأتلفوا في طلبها أعمارهم، وليسوا من الآخرة في شيء إلا في وبال التحسرات).
110.
في هذه الآية: إِخبارٌ من الله تعالى عن بعض المستضعفين بمكة الذين واتَوْا المشركين على الفتنة، ثم تمكنوا من الهجرة والتخلص من مستنقع الجاهلية والفتن، تاركين بلادهم وأموالهم وأهليهم ابتغاء رضوان الله ومغفرته، فأولئك يَحْظون بمغفرة الله وعفوه بعد تعديل الوقوع السابق بالهجرة والصبر والجهاد.
أخرج ابن جرير ورجاله ثقات عن ابن عباس قال: [كان قوم من أهل مكة أسلموا وكانوا يستخفون بالإسلام، فأخرجهم المشركون يوم بدر معهم، فأصيب بعضهم، وقُتِلَ بعض، فقال المسلمون: كان أصحابنا هؤلاء مسلمين، وأُكرهوا فاستَغْفِروا لهم، فنزلت: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} [النساء: 97]. . . إلى آخر الآية، قال: وكتب إلى من بقي بمكة من المسلمين هذه الآية لا عذر لهم، قال: فخرجوا فلحقهم المشركون، فأعطوهم الفتنة، فنزلت هذه الآية:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ} [العنكبوت: 10]. . إلى آخر الآية، فكتب المسلمون إليهم بذلك، فخرجوا وأيسوا من كل خير، ثم نزلت فيهم:{ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} فكتبوا إليهم بذلك: إن الله قد جعل لكم مخرجًا، فخرجوا، فأدركهم المشركون فقاتلوهم، ثم نجا من نجا، وقُتِلَ من قُتِل] (1).
111.
قوله تعالى: {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (111)} .
في هذه الآية: إخبار من الله سبحانه عن طبيعة مخاصمة النفوس يوم القيامة
(1) أخرجه ابن جرير في "التفسير"(21953). قال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح غير محمد بن شريك هو ثقة. وانظر: "الصحيح المسند من أسباب النزول" - الوادعي - النحل، آية (110).
واعتذارها بشتى الوسائل عما صدر من أصحابها من أعمال، ثم يفصل الله تعالى بإعطائه جزاء عملها وافيًا.
قال النسفي: (فالنفس الأولى هي الجملة والثانية عينها وذاتها، فكأنه قيل: يوم يأتي كل إنسان يجادل عن ذاته لا يهمه شأن غيره، كُلٌّ يقول نفسي نفسي، ومعنى المجادلة عنها الاعتذار عنها، كقولهم: هؤلاء أضلونا، ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا، الآية، والله ربنا ما كنا مشركين).
وفي صحيح مسلم عن أنس رضي الله عنه قال: [كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فضحك، فقال: هل تدرون مِمَّ أضحك؟ قال: قلنا: الله ورسوله أعلم. قال: من مخاطبة العبد ربَّه يقول: يا رب ألم تجرني من الظلم؟ فيقول: بلى. فيقول: إني لا أجيز على نفسي إِلا شاهدًا مني، فيقول: كفى بنفسك اليوم عليك شهيدًا، وبالكرام الكاتبين شهودًا، فيُخْتَم على فيه، ويقال لأركانه انطُقي، فتنطق بأعماله، ثم يُخَلّى بينه وبين الكلام، فيقول: بعدًا لكن وسحقًا فعنكن كنت أناضل](1).
112 -
113. قوله تعالى: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (112) وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ (113)}.
في هذه الآيات: سنة الله في القرى الظالم أهلها الشائع فيها الكفر والفواحش والآثام، يذيقها الله الخوف والجوع بعد الإنعام والأمان، وما ظلمهم الله بل أرسل إليهم رسوله فكذبوه فأذاقهم عقوبة أهل المكر والإجرام.
وقد ذكر ابن عباس ومجاهد وقتادة أن المقصود بالقرية التي كانت آمنة مكة. فقد امتن الله تعالى على أهلها بنعمة الأمن والاستقرار، والناس يتخطفون من حولها ويلوذون بالفرار. وكان رزقها يأتي أهلها هينًا سهلًا من كل البقاع والأرجاء، فلما
(1) حديث صحيح. انظر مختصر صحيح مسلم (1933). وقوله: أناضل - أي أجادل وأدافع وأخاصم.
جحدت نعمة الله عليها وأخصّها بعثة محمد صلى الله عليه وسلم بدّلها الله خلاف حالها، وأذاق أهلها لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون.
ففي التنزيل:
1 -
قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ (28) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ} [إبراهيم: 28، 29].
2 -
وقال تعالى: {وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [القصص: 57].
3 -
وقال تعالى: {وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا} [الإسراء: 58].
قال قتادة: (قضاء من الله كما تسمعون ليس منه بدّ، إما أن يهلكها بموت وإما أن يهلكها بعذاب مستأصل إذا تركوا أمره وكذبوا رسله).
وفي صحيح السنة العطرة من آفاق معنى الآية أحاديث:
الحديث الأول: أخرج الطبراني بسند صحيح عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[إذا ظهر الزِّنا والرِّبا في قرية، فقد أَحَلُّوا بأنفسهم عذابَ الله](1).
الحديث الثاني: أخرج أحمد والحاكم بسند صحيح عن عائشة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[إذا ظَهَرَ السوء في الأرض أنزل الله بأسه بأهل الأرض، وإن كان فيهم صالحون، يصيبهم ما أصاب الناس، ثم يرجعون إلى رحمة الله ومغفرته](2).
الحديث الثالث: أخرج أبو داود بسند حسن عن العرس بن عميرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[إذا عملتِ الخطيئة في الأرض كان من شهدها فكرهها - وقال مرة: أَنْكرها - كمن غاب عنها. ومن غاب عنها فَرَضِيَها، كان كمن شهدها](3). ثم روى في الباب عن
(1) حديث صحيح. أخرجه الطبراني والحاكم. انظر صحيح الجامع الصغير - حديث رقم - (692).
(2)
حديث صحيح. أخرجه أحمد (6/ 41)، والحاكم (4/ 523)، والبيهقي (2/ 441/ 2) - شعب الإيمان - وأخرجه أحمد كذلك (6/ 294)، وانظر سلسلة الأحاديث الصحيحة (1372).
(3)
حديث حسن. أخرجه أبو داود (4345) - كتاب الملاحم. باب الأمر والنهي. وانظر صحيح سنن أبي داود - حديث رقم - (3651) - (3652).
رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [لَنْ يهلكَ الناس حتى يَعْذِروا، أو يُعْذِروا، من أنفسهم](1).
وقوله تعالى: {وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ} . قال القرطبي: (هذا يدل على أنها مكة. وهو قول ابن عباس ومجاهد وقتادة. {فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ} وهو الجوع الذي وقع بمكة. وقيل: الشدائد والجوع منها).
ومن ذلك العذاب: أنهم لما استعصوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبوا إلا خلافه، دعا عليهم بِسَبْعٍ كَسَبْعِ يوسف، فأصابتهم سنة أذهبت كلَّ شيء لهم، فأكلوا العِلْهِزَ، وهو: وَبَرُ البعير، يُجْعَلُ بِدَمِهِ إذا نحروه. ثم إنهم بُدِّلوا بأمنهم خوفًا من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه - كما ذكر ابن كثير رحمه الله حين هاجروا إلى المدينة، مِنْ سَطْوَةِ سراياه وجيوشه، وجعلوا كل مالهم في سَفَالٍ ودمار، حتى فتحها الله على رسوله صلى الله عليه وسلم. وذلك بسبب صنيعهم وبغيهم وتكذيبهم الرسول صلى الله عليه وسلم الذي بعثه الله فيهم منهم، وامتن به عليهم في قوله:{لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ} [آل عمران: 164]، وقال تعالى:{فَاتَّقُوا اللَّهَ يَاأُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا (10) رَسُولًا} [الطلاق: 10، 11]. وقوله: {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (151) فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ} [البقرة: 151، 152]. ثم قال: (وكما أنه انعكس على الكافرين حالُهم، فخافوا بعد الأمن، وجاعوا بعد الرَّغَد، بَدَّل الله المؤمنين من بعد خوفهم أمْنًا، ورَزَقَهم بعد العَيْلَة، وجعلهم أمراءَ الناس وحُكَّامهم وقادتهم وسادتهم وأئمتهم).
وعن قتادة: ({وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ} إي والله، يعرفون نسبه وأمره، {فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ}، فأخذهم الله بالجوع والخوف والقتل).
114 -
117. قوله تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (114) إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ
(1) حديث صحيح. أخرجه أبو داود في السنن - حديث رقم - (4347) - الباب السابق. وانظر صحيح أبي داود - حديث رقم - (3653).
غَفُورٌ رَحِيمٌ (115) وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (116) مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (117)}.
في هذه الآيات: تقريب الله تعالى لعباده الحلال الطيب وتحبيبهم شكره، وتحريمه - تعالى - الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله مما يوجب سخطه، وكذلك الافتراء على أمره بالتحليل والتحريم الذي يوجب عقابه.
فقوله تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} . أَمْرٌ من الله سبحانه عباده بتخيّر الحلال الطيب من الرزق واجتناب الخبيث الحرام من الأموال والطعام، والتماس شكره على نعمه تعالى، فهو المنعم المتفضل الذي يستحق العبادة وحده لا شريك له. قال النسفي:({حَلَالًا طَيِّبًا}: بدلًا عما كنتم تأكلونه حرامًا خبيثًا من الأموال المأخوذة بالغارات والغصوب وخبائث الكسوب).
وفي معجم الطبراني بسند حسن عن أبي أمامة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[ما أنعم الله على عبد نعمة فَحَمِدَ الله عليها إلا كان ذلك الحمدُ أفضلَ من تلك النعمة](1).
وله شاهد عند ابن ماجه بسند صحيح عن أنس رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[ما أنعم الله تعالى على عبدٍ نعمة فقال: الحمد لله، إلا كان الذي أعطى أفضلَ مما أخذ](2).
وقوله: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} الآية. هو تحريم الله تعالى ما فيه مضرّة في الدين والدنيا من الميتة والدم ولحم الخنزير وما ذبح على غير اسم الله من ذبائح الجاهلية. قال قتادة: (إن الإسلام دين يطهره الله من كلّ سوء، وجعل لك فيه يا ابن آدم سعة إذا اضطررت إلى شيء من ذلك. قوله: {فَمَنِ
(1) حديث حسن. رواه الطبراني من حديث أبي أمامة، وابن السني من حديث أنس بن مالك. انظر صحيح الجامع الصغير - حديث رقم - (5438).
(2)
حديث صحيح. انظر سنن ابن ماجه - حديث رقم - (3805) - كتاب الأدب - باب فضل الحامدين. وصحيح سنن ابن ماجه - حديث رقم - (3067).
اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ} غير باغ في أكله ولا عاد أن يتعدى حلالًا إلى حرام، وهو يجد عنه مندوحة). وقوله:{فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} . قال ابن جرير: (يقول: ذو ستر عليه أن يؤاخذه بأكله ذلك في حال الضرورة، رحيم به أن يعاقبه عليه).
وقوله: {وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} . قال ابن كثير: (نهى تعالى عن سلوك سبيل المشركين الذين حَلَّلوا وحرَّموا بمجرد ما وضعوه واصطلحوه عليه من الأسماء بآرائهم، من البحِيرة والسائِبة والوصيلةِ والحام، وغير ذلك مما كان شَرْعًا لهم ابتدعوه في جاهليّتهم. ثم قال: ويدخل في هذا كلُّ مُبْتَدِعٍ ابتدع بِدْعةً ليس له فيها مستند شرعي، أو حَلَّلَ شيئًا مما حرّمَ الله، أو حَرَّمَ شيئًا مما أباح الله، بمجرَّدِ رأيه وتشهِّيهِ).
وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (116) مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} . توعد أكيد، وتهديد شديد، لأولئك الذين يشرعون بأهوائهم متجاوزين حدود الله وشرعه وهدي رسوله، متاع زائل في الدنيا، وعذاب أليم في الآخرة.
وفي التنزيل:
1 -
قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (69) مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ} [يونس: 69، 70].
2 -
وقال تعالى: {نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ} [لقمان: 24].
ومن صحيح كنوز السنة في آفاق معنى الآية أحاديث:
الحديث الأول: روى مسلم عن جابر رضي الله عنه قال: [كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خطب احمرّت عيناه وعلا صوتُه واشتدَّ غضبُه، حتى كأنه منذرُ جيش يقول: صَبَّحكم ومسَّاكم. ويقول: بعثت أنا والساعة كهاتين. ويقرن بين أصبعيه، السبابة والوسطى، ويقول: أما بعدُ، فإن خيرَ الحديث كتاب الله وخيرَ الهدي هديُ محمد صلى الله عليه وسلم، وشرَّ الأمور محدثاتها، وكُلَّ بدعة ضلالة](1).
الحديث الثاني: أخرج البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: [من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو ردٌّ](2).
(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم في صحيحه - حديث رقم - (867) - كتاب الجمعة.
(2)
حديث صحيح. أخرجه البخاري (5/ 211) - كتاب الصلح. وأخرجه مسلم (1718) - كتاب الأقضية، من حديث عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها.
الحديث الثالث: أخرج الترمذي في جامعه بسند صحيح: [أن النبي صلى الله عليه وسلم تلا هذه الآية على عدي بن حاتم: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} [التوبة: 31]. فقال: يا رسول الله، لسنا نعبدهم! قال: أليس يُحلِّون لكم ما حرّم الله فتحلّونه، ويحرِّمون ما أحل الله فتحرّمونه؟ قال: بلى. قال النبي صلى الله عليه وسلم: فتلك عبادتهم] (1).
118 -
119. قوله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (118) ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (119)}.
في هذه الآيات: استحقاق اليهود التضييق من الله عليهم بما كسبت أيديهم، وفتحه - تعالى - باب التوبة والإنابة للراجعين إليه الراجين رحمته ليعفو عنهم ويتوب عليهم، والله غفور رحيم.
فقوله: {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ} . قال الحسن: (في سورة الأنعام). والمقصود قوله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ} [الأنعام: 146].
وقوله: {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} . أي: إنما استحقوا ذلك التضييق بما كسبت أيديهم، فإن الله لا يظلم أحدًا من خلقه، كما قال تعالى:{فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا} [النساء: 160].
أي: وأما الذين عصوا الله فجهلوا وركبوا المعصية والآثام، وما يسخط الرحمن، ثم راجعوا طاعة الله وندموا على ما فاتهم واستغفروا وتابوا، وأصلحوا فباشروا عمل
(1) حديث صحيح. رواه الترمذي (3094) - في التفسير، ويتقوى بما أخرجه الطبري (16634) عن حذيفة مرفوعًا. وانظر:"فتح المجيد"(107)، وكذلك كتابي: أصل الدين والإيمان (1/ 447) - لتفصيل مفهوم النهي عن التحاكم لغير الله.
ما يحبه الله ويرضاه، فإن ربك - يا محمد - من بعد إقبالهم تائبين نادمين - لغفور رحيم.
قلت: وهذا باب عظيم فتحه الله سبحانه تشرق به قلوب التائهين الذين أسرفوا على أنفسهم.
ففي التنزيل:
1 -
قال تعالى: {قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر: 53].
2 -
وقال تعالى: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور: 31].
3 -
وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا} [التحريم: 8].
وفي كنوز السنة المطهرة من آفاق معنى الآية أحاديث:
الحديث الأول: أخرج البخاري ومسلم عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [للهُ أَفْرَحُ بتوبةِ عَبْدِه مِنْ أحدكم سقطَ على بعيره وقد أضَلَّهُ في أرض فلاة](1).
وفي لفظ لمسلم: [للهُ أَشدُّ فرحًا بتوبةِ عبده حين يتوب إليه من أحدكم كان على راحلته بأرض فلاة، فانفلتت منه وعليها طعامُه وشرابُه فأيسَ مِنْها، فأتى شجرة فاضطجع في ظِلّها، وقد أيسَ من راحلتهِ، فبينما هو كذلك إذا هو بها، قائمة عِنْدهُ، فأخذ بِخطامها، ثم قال من شدة الفرح: اللهم أنت عبدي وأنا ربُّك، أخطأَ من شدّة الفرح].
الحديث الثاني: أخرج الإمام مسلم في صحيحه عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[إنّ الله تعالى يَبْسُطُ يَدهُ بالليل ليتوبَ مُسيءُ النهار، ويبْسُطُ يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، حتى تطلعَ الشمس من مَغْرِبها](2).
الحديث الثالث: أخرج الترمذي بسند حسن عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[إنَّ الله عز وجل يقبل توبة العبدِ ما لم يُغَرْغِر](3).
(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (11/ 91 - 92)، ومسلم - حديث رقم - (2747).
(2)
حديث صحيح. رواه مسلم في الصحيح - حديث رقم - (2759).
(3)
حديث حسن. أخرجه الترمذي (3537)، وأخرجه أحمد (6160)(6400)، وأخرجه الحاكم (4/ 257)، وصححه ابن حبان (2449)، وأخرجه ابن ماجه (4253)، وغيرهم.
120 -
123. قوله تعالى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (120) شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (121) وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (122) ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (123)}.
في هذه الآيات: ثناء الله تعالى على خليله إبراهيم، عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم، فقد كان حنيفًا قانتًا لله ولم يك من المشركين، بل كان على هدى الله المستقيم وإمامًا من الشاكرين، فرفع الله ذكره في الأرض وإنه في الآخرة لمن الصالحين، وأوحى إلى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم اتباع ملته وإحياء منهاجه في نبذ الشرك وإحياء أصول هذا الدين.
فقوله: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ} - فيه آفاق كثيرة:
فالأمة: هي الجماعة من الناس والقرن منهم، كما أن العرب تطلقها أيضًا على الدين، والطريقة، والشرعة، والجماعة أرسل إليهم رسول، ومن هو على الحق مخالف لسائر الأديان.
وأمُّ كل شيء أصله، ومنه سميت مكة أم القرى لأنها توسطت الأرض. قال ابن منظور في "لسان العرب":(والأمة الرجل الذي لا نظير له، ومنه قوله عز وجل: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا}). وقال القرطبي: (والأمة الجماعة، وتكون واحدًا إذا كان يقتدى به في الخير، ومنه قوله تعالى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ}).
والقانت: هو الخاشع المطيع، ومنه قول ابن مسعود رضي الله عنه:(الأمة: معلم الخير، والقانت: المطيع لله ورسوله).
وقال الشَّعبي: حدثني فروَةُ بن نوفل الأشجعي قال: (قال ابنُ مسعود: إن مُعاذًا كان أمةً قانتًا لله حنيفًا. فقلت في نفسي: غَلِط أبو عبد الرحمن، إنما قال الله {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً} فقال: تَدْري ما الأمة؟ وما القانت؟ قلت: الله ورسوله أعلم. قال:
الأمة الذي يعلم الناس الخير. والقانت: المطيعُ لله ورسوله. وكذلك كان معاذ يُعَلّم الخير، وكان مطيعًا لله ورسوله).
وقال مجاهد: (كان إبراهيم أمة، أي: مؤمنًا وحده، والناس كلهم إذ ذاك كفّار).
وقوله: {حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} . الحنيف: المُنْحَرِفُ قَصْدًا عن الشرك إلى التوحيد. قال ابن جرير: (وهذا إعلامٌ من الله تعالى أهل الشرك به من قريش أن إبراهيم منهم بريء، وأنهم منه برآء).
وقوله: {شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ} . أي: قائمًا بمقتضى نعم الله عليه من الشكر والإخلاص في العبادة. كما قال تعالى: {وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى} [النجم: 37].
وقوله: {اجْتَبَاهُ} . أي: اصطفاه للنبوة، واختاره للخُلّة.
وقوله: {وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} . أي: أرشده إلى الدين الحق - دين الإسلام - ليعبد ربه على شرع قويم ومنهاج سليم، بعيدًا عن الشبهات والشهوات والأهواء التي انخرط بها أكثر الناس، من أهل الكتاب وغيرهم.
وقوله: {وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً} . قال مجاهد: (لسان صدق). وقال قتادة: (فليس من أهل دين إلا يتولاه ويرضاه). قال ابن كثير: (أي: جَمَعْنا له خَيْرَ الدنيا من جميع ما يحتاجُ المؤمن إليه من إكمال حياته الطيبة).
وقوله: {وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ} . قال النسفي: (لمن أهل الجنة). وقال ابن جرير: (يقول: وإنه في الدار الآخرة يوم القيامة لمن صلح أمره وشأنه عند الله، وحسُنت فيها منزلته وكرامته).
دليل على كمال دين إبراهيم عليه الصلاة والسلام وصحة منهجه، واستقامة مِلّته وتوحيده. فإن الله تعالى جعله أسوة في سلامة الدين وصحة المنهج، حتى أوحى إلى خاتم الأنبياء والمرسلين بالتزام ذلك الصراط المستقيم.
وفي التنزيل: قال تعالى: {قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [الأنعام: 161].
حنيفًا: أي مسلمًا على الدين الذي كان عليه إبراهيم عليه السلام، متبرئًا
- يا محمد - من الأوثان والأنداد والطواغيت التي يعكف عليها قومك، كما تبرأ من قبل منها أبوك إبراهيم.
124.
في هذه الآية: كان اليهود قد فُرِض عليهم الجمعة يوم عيد يجتمعون فيه للعبادة شأن بقية الأمم، فاختلفوا في تخصيص هذا اليوم واختاروا السبت بدلًا منه، فأضلهم الله عنه. وإنما الفصل يوم القيامة عند ربهم في كل ما كانوا فيه يختلفون.
فعن مجاهد: ({إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ} اتبعوه وتركوا الجمعة). قلت: وقد أضل الله هذا العيد عن أهل الكتابين، فاختار اليهود يوم السبت، واختار النصارى يوم الأحد، وخبأ الله هديته - يوم الجمعة - لأمة محمد صلى الله عليه وسلم ليكون عيدًا لهم. وفي ذلك أحاديث:
الحديث الأول: أخرج الإمام مسلم في صحيحه عن أبي هريرة وحُذيفة رضي الله عنهما قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [أضَلَّ الله عن الجمعة من كان قبلنا، فكان لليهود يومُ السبت، وكان للنصارى يومُ الأحد، فجاء الله بنا فهدانا اللهُ ليوم الجُمعة، فجعلَ الجمعة والسبت والأحد، وكذلك هم تبَعُ لنا يوم القيامة، نحن الآخِرون من أهل الدنيا والأوّلون يومَ القيامة، المقضيُّ بينهم قبل الخلائق](1).
وفي رواية: [هُدينا إلى الجمعة وأضَلَّ الله عنها مَنْ كان قَبْلنا].
الحديث الثاني: روى مسلم - كذلك - في صحيحه عن همّام بن مُنَبِّه أخي وهب بن مُنَبِّه قال: هذا ما حدّثنا أبو هريرة، عن مُحَمّدٍ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [نحنُ الآخِرون السابقون يومَ القيامة، بَيْدَ أنهم أوتوا الكتاب مِنْ قَبْلِنا وَأُوتيناه مِنْ بَعْدِهم، وهذا يومُهُم الذي فُرِضَ عليهم فاختلفوا فيه، فهدانا الله له، فَهم لنا فيه تَبَعٌ، فاليهودُ غدًا، والنصارى بعد غدٍ](2).
(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم في الصحيح (856) - كتاب الجمعة، باب هداية هذه الأمة ليوم الجمعة، من حديث أبي هريرة وحذيفة رضي الله عنهما.
(2)
حديث صحيح. أخرجه مسلم (855)(21) - من حديث أبي هريرة - كتاب الجمعة، الباب السابق.
الحديث الثالث: روى مسلم في صحيحه والنسائي في سننه، واللفظ لمسلم، عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [نحنُ الآخِرون الأوّلون يومَ القيامة، ونحن أوَّلُ من يَدْخُلُ الجنة، بَيْدَ أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا وأوتيناهُ من بَعْدِهم، فاختلفوا، فَهدانا الله لما اختلفوا فيه من الحق، فهذا يومهم الذي اختلفوا فيه، هدانا الله له - قال: يوم الجمعة - فاليومُ لنا، وغدًا لليهود، وبعد غدٍ للنصارى](1).
قال ابن كثير: (لا شك أن الله تعالى شرع في كل مِلّة يومًا من الأسبوع، يجتمع الناس فيه للعبادة، فشرعَ تعالى لهذه الأمة يوم الجُمعة، لأنه اليوم السادس الذي أكمل الله فيه الخليقة، واجتمعت فيه وتمت النعمة على عباده. ويقال: إنه تعالى شرع ذلك لبني إسرائيل على لسان موسى، فَعَدَلوا عنه واختاروا السبت، لأنه اليوم الذي لم يخلُق فيه الربّ شيئًا من المخلوقات التي كمل خَلْقُها يوم الجمعة. فألزمهم تعالى به في شريعة التوراة).
وقوله: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} .
قال النسفي: (روي أن موسى عليه السلام أمرهم أن يجعلوا في الأسبوع يومًا للعبادة، وأن يكون يوم الجمعة فأبوا عليه، وقالوا نريد اليوم الذي فرغ الله فيه من خلق السماوات والأرض وهو السبت إلا شرذمة منهم قد رضوا بالجمعة، فهذا اختلافهم في السبت، لأن بعضهم اختاروه وبعضهم اختاروا عليه الجمعة، فاذن الله لهم في السبت وابتلاهم بتحريم الصيد، فأطاع أمر الله الراضون بالجمعة، فكانوا لا يصيدون، وأعقابهم لم يصبروا عن الصيد فمسخهم الله دون أولئك، وهو يحكم بينهم يوم القيامة فيجازي كل واحد من الفريقين بما هو أهله).
125 -
128. قوله تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (125) وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ
(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم في صحيحه (855)(20) - كتاب الجمعة - الباب السابق، من حديث أبي هريرة، وأخرجه النسائي (1365).
لِلصَّابِرِينَ (126) وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (127) إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (128)}.
في هذه الآيات: أَمْرُ اللهِ نبيَّه - وهو أمْرٌ لأمته - بالتماس طريق الحكمة والموعظة الحسنة في الدعوة إلى الله، والله يهدي من يشاء وهو أعلم بالشاكرين. ودعوة إلى العدل في الاقتصاص والمماثلة في استيفاء الحق، والصبر خير للصابرين. ولا يحيق المكر إلا بأهله الماكرين، والله تعالى في عون المتقين المحسنين.
أي: التمس - يا محمد - في دعوتك الخلق إلى الكتاب والسنة واللطف واللين، والرفق والتيسير، واجتنب العنف والتعسير.
قال ابن جرير: ({بِالْحِكْمَةِ} وهو ما أنزله عليك من الكتاب والسنة). وقال ابن كثير: ({وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ}، أي: بما فيه من الزواجر والوقائع بالناس يُذكرهم بها، ليحذروا بأس الله تعالى. {وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}، أي: من احتاج منهم إلى مناظرة وجدالٍ، فليكن بالوجه الحسن، برفق ولين وحسن خطاب).
قال القرطبي: (أمره أن يدعو إلى دين الله وشرعه بتلطف ولين دون مخاشنة وتعنيف، وهكذا ينبغي أن يوعظ المسلمون إلى يوم القيامة. فهي محكمة في جهة العصاة من الموحِّدين، ومنسوخة بالقتال في حق الكافرين).
وفي التنزيل:
1 -
قال تعالى: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} [العنكبوت: 46].
2 -
وقال تعالى: {فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه: 44].
ومن كنوز صحيح السنة في آفاق معنى الآية أحاديث:
الحديث الأول: يروي الترمذي بسند صحيح عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [ألا أخبركم بمن تحرم عليه النار غدًا؟ على كلِّ هين لين قريب سهل](1).
(1) حديث صحيح. أخرجه الترمذي في الجامع - حديث رقم - (2620) - أبواب صفة القيامة. وانظر صحيح سنن الترمذي - حديث رقم - (2022).
الحديث الثاني: أخرج الطبراني بسند جيد عن عبد الله بن سرجس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[التؤدة والاقتصاد والسمت الحسن جزء من أربعة وعشرين جزءًا من النبوة](1).
الحديث الثالث: أخرج العقيلي بسند حسن عن ابن أبي مليكة عن عائشة مرفوعًا: [يا عائشة: إياك والفحشَ، إياك والفحشَ، فإن الفحش لو كان رجلًا لكان رجل سوء](2).
الحديث الرابع: أخرج الإمام أحمد في المسند بسند صحيح عن عائشة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[إنه من أُعطي حظَّهُ من الرفق فقد أُعطي حظّهُ من خير الدنيا والآخرة، وصلة الرحم وحسن الخلق وحسن الجوار، يعمران الديار، ويزيدان في الأعمار](3).
الحديث الخامس: أخرج الإمام أحمد في المسند عن سهل بن سعد، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[المؤمن يألف، ولا خيرَ فيمن لا يألف ولا يؤلف](4) وسنده صحيح.
ورواه الطبراني عن جابر بلفظ: [المؤمن يألف ويؤلف، ولا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف، وخير الناس أنفعهم للناس].
وقوله: {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} .
قال ابن كثير: (أي: قد عَلِمَ الشقي منهم والسعيد، وكتب ذلك عنده وفرغَ منه، فادعهم إلى الله، ولا تَذْهَب نفسك على من ضَلَّ منهم حَسَرات، فإنه ليس عليك هداهم، إنما أنت نذير، عليك البلاع، وعلينا الحساب، {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص: 56]، و {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ} [البقرة: 272]).
وقوله تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ} . دعوة إلى العدل في الاقتصاص والمماثلة في استيفاء الحق، وأجر
(1) حديث صحيح. أخرجه الطبراني في معجمه، وعبد بن حميد في مسنده. انظر تخريج المشكاة (5059)، وصحيح الجامع (3007).
(2)
رواه العقيلي (259) - من حديث ابن أبي مليكة. وانظر سلسلة الأحاديث الصحيحة (537).
(3)
حديث صحيح. أخرجه أحمد في المسند (6/ 159)، وبنحوه الترمذي (1/ 362)، وقال: حديث حسن صحيح. وانظر المرجع السابق - حديث رقم - (519).
(4)
حديث صحيح. أخرجه أحمد في المسند (5/ 335)، وقال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (10/ 273): رواه أحمد والطبراني وإسناده جيد. وأورده كذلك في "المجمع"(8/ 87)، وانظر سلسلة الأحاديث الصحيحة - حديث رقم - (426).
الصبر عند الله عظيم. قال ابن سيرين: ({وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} يقول: إن أخذ منك رجل شيئًا، فخذ منه مثله). وقال مجاهد: (لا تعتدوا).
أخرج أحمد والترمذي وابن حبان بسند صحيح عن أبي بن كعب رضي الله عنه قال: [لما كان يوم أحد أصيب من الأنصار أربعة وستون رجلًا، ومن المهاجرين ستة، منهم حمزة، فمثلوا بهم. فقالت الأنصار: لئن أصبنا منهم يومًا مثل هذا لَنُرْبِيَنَّ عليهم. فلما كان يوم فتح مكة أنزل الله تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ}. فقال رجل لا قريش بعد اليوم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كفوا عن القوم إلا أربعة](1).
قال النسفي: ({وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ} - أي: ولئن صبرتم لصبركم خير لكم، فوضع الصابرين موضع الضمير ثناء من الله عليهم لأنهم صابرون على الشدائد).
وقوله: {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ} . تثبيت للأمر بالصبر وتوكيد له، وإعلام أنه كائن بمشيئة الله وعونه وتوفيقه.
أخرج البخاري ومسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: [أن ناسًا من الأنصار سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطاهم، ثم سألوه فأعطاهم، حتى نَفِدَ ما عِنْدَه، فقال لهم حين أنفق كُلَّ شيء بيده: ما يَكُنْ عِنْدي من خيْرٍ فلن أَدَّخِرَهُ عنكم، ومن يَسْتَعْفِفْ يُعِفَّهُ الله، ومَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ الله، ومن يتَصَبَّرُ يُصَبِّرْه الله. وما أُعطي أحدٌ عطاءَ خيرًا وأوسعَ من الصَّبْر](2).
وقوله: {وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ} . أي: لا تحزن على هؤلاء المكذبين لك ولنبوتك - يا محمد -. وقوله: {وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ} . قال ابن جرير: (يقول: ولا يضيق صدرك بما يقولون من الجهل، ونسبتهم ما جئتهم به إلى أنه سحر أو شعر أو كهانة. {مِمَّا يَمْكُرُونَ}: مما يحتالون بالخدع في الصدّ عن سبيل الله، ومن أراد الإيمان بك، والتصديق بما أنزل الله إليك).
(1) حديث صحيح. أخرجه أحمد في المسند (5/ 135)، والترمذي في الجامع (3129)، والبيهقي في "الدلائل"(3/ 289)، وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب، وانظر:"الصحيح المسند من أسباب النزول" - الوادعي - سورة النحل، آية (126). وأخرجه الحاكم وقال: صحيح الإسناد، ووافقه الذهبي.
(2)
حديث صحيح. أخرجه البخاري في الصحيح (3/ 265)، (11/ 260)، وأخرجه مسلم في صحيحه - حديث رقم - (1053)، من حديث أبي سعيد الخدري.
وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ}
قال الحسن: (اتقوا الله فيما حرّم عليهم، وأحسنوا فيما افترض عليهم).
فالذين اتقوا الله وخافوه حق مخافته، فاجتنبوا الفواحش والكبائر، وأقبلوا على طاعته حتى بلغوا مرتبة الإحسان، قابلهم ربهم سبحانه بمعية خاصة بهم، فكان النصر والتوفيق والمعونة والبر والفضل والتأييد.
وفي التنزيل نحو ذلك:
1 -
قال تعالى: {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا} [الأنفال: 12].
2 -
وقال تعالى: {قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه: 46].
3 -
وقال تعالى: {إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ} [التوبة: 40].
وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [إنَّ الله تعالى قال: مَنْ عادى لي وَلِيًّا فقد آذنته بالحَرْب، وما تقرّب إليَّ عبدي بشيءٍ أحَبَّ إليَّ مما افترضْتُ عليه، وما يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أُحِبَّهُ، فإذا أحْبَبْتُهُ، كنتُ سَمْعَهُ الذي يسمعُ به، وبصرَهُ الذي يُبْصِر به، ويدَهُ التي يبْطِشُ بها، ورِجْلَهُ التي يمشي بها، وإن سألني أعطيتُهُ، ولئنْ استعاذني لأعيذَنَّهُ](1).
ومن أقوال أهل العلم في المعية:
1 -
قال الإمام مالك: (الله في السماء، وعلمه في كل مكان)(2).
2 -
وقال الإمام أحمد - وقد قيل له: الله فوق السماء السابعة على عرشه بائن من خلقه، وقدرته وعلمه بكل مكان! - قال:(نعم، هو على عرشه، ولا يخلو شيء من علمه)(3).
(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري في صحيحه (11/ 292)، وكذلك (11/ 297).
(2)
رواه أبو داود في المسائل، وعبد الله بن أحمد في السنة. انظر "مختصر العلو" - الذهبي - ص (140).
(3)
ذكره الذهبي عن يوسف بن موسى القطان: ثقة من شيوخ البخاري - مات 253 هـ. ورواه ابن القيم في "الجيوش" ص (77). وانظر المرجع السابق.
3 -
وقال نعيم بن حماد: ({وَهُوَ مَعَكُمْ}: معناه أنه لا يخفى عليه خافية، بعلمه)(1).
والخلاصة: إن الله تعالى مع المتقين المحسنين بعونه وتأييده وتوفيقه ونصره، ومن وصل إلى هذه المرتبة فهنيئًا له ما بلغ إليه، نسأل الله تعالى أن يجعلنا من أهل معيته وينصرنا على أهل عداوته، إن رحمته قريب من المحسنين.
تم تفسير سورة النحل
بعون الله وتوفيقه، وواسع منِّه وكرمه
° ° °
(1) إسناده صحيح. ذكره الذهبي عن محمد بن مخلد العطار، عن الرمادي. انظر:"مختصر العلو" ص (184).