المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌فوائد ونتائج من حادثة الإسراء والمعراج، وذكر ما روي من الآيات الكبرى في تلك الرحلة: - التفسير المأمون على منهج التنزيل والصحيح المسنون - جـ ٤

[مأمون حموش]

الفصل: ‌فوائد ونتائج من حادثة الإسراء والمعراج، وذكر ما روي من الآيات الكبرى في تلك الرحلة:

إلى موسى فأخبرته فقال: ارجع إلى ربك فسَلْهُ التخفيف. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فقلت قد رجعت إلى ربي حتى استحييت منه] (1).

‌فوائد ونتائج من حادثة الإسراء والمعراج، وذِكْرُ ما روي من الآيات الكبرى في تلك الرحلة:

1 -

لم ير النبي صلى الله عليه وسلم ربَّه، وقوله:{مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} ، {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى} صحّ عن النبي صلى الله عليه وسلم أن هذا المرئي جبرائيل، رآه مرتين على صورته التي خلق عليها.

2 -

قوله تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا} دليل على أن الإسراء كان بجسده عليه الصلاة والسلام في اليقظة، فالعبد عبارة عن مجموع الجسد والروح، كما أن الإنسان اسم لمجموع الجسد والروح، هذا هو المعروف عند الإطلاق وهو الصحيح، ولا يمتنع عقلًا، وقد ذكر بعض أهل العلم أنه لو جاز استبعاد صعود البشر لجاز استبعاد نزول الملائكة ومن ثمَّ إنكار النبوة.

3 -

فإن قيل: ما الحكمة من الإسراء لبيت المقدس أولًا؟ قيل: إنه كان إظهارًا لصدق دعوى الرسول صلى الله عليه وسلم المعراج، وذلك حين سألته قريش عن نعت بيت المقدس فوصفه لهم.

ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [لقد رأيتني في الحجر وقريش تسألني عن مسراي، فسألتني عن أشياء من بيت المقدس لم أُثْبتها، فَكُرِبْتُ كربًا ما كربت مثله، فرفعه الله لي أنظرُ إليه، ما يسألوني عن شيء إلا أنبأتهم](2).

4 -

في حديث المعراج إثبات صفة العلو لله سبحانه.

فقوله عليه الصلاة والسلام كما في حديث أنس الذي رواه مسلم -: [ثم عرج بنا إلى السماء فاستفتح جبريل] إثبات لصفة العلو، كما قال سبحانه في سورة السجدة:{يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} .

5 -

في الإسراء نعت لبعض صفات بعض الرسل، ولقاء مالك خازن النار.

(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (7517)، وأخرجه مسلم (1/ 148)، وانظر "فتح القدير" (13/ 488). وكتابي: أصل الدين والإيمان (1/ 128 - 132) لتفصيل أخبار الحدث.

(2)

حديث صحيح. انظر صحيح مسلم (1/ 156 - 157)، وكتابي: أصل الدين والإيمان (1/ 132) - لمزيد من التفصيل. وكذلك بحثه: "الإسراء والمعراج" في كتابي: السيرة النبوية (1/ 360).

ص: 458

ففي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة السابق: [وقد رأيتني في جماعة من الأنبياء فإذا موسى قائم يصلي، فإذا رجل ضرْبٌ جَعْدٌ كأنه من رجال شنوءة، وإذا عيسى قائم يصلي، أقرب الناس به شبهًا عروة بن مسعود الثقفي، فإذا إبراهيم قائم يصلي، أشبه الناس به صاحبكم - يعني نفسه - فحانت الصلاة فأممتهم، فلما فرغت من الصلاة قال لي قائل: يا محمد! هذا مالك خازن النار فسلّم عليه، فالتفت إليه فبدأني بالسلام](1).

6 -

في المعراج أوحى الله لنبيّه خواتيم سورة البقرة.

ففي صحيح مسلم من حديث عبد الله قال: [فأعطي رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثًا: الصلوات الخمس، وأعطي خواتيم سورة البقرة، وغفر لمن لا يشرك بالله من أمته شيئًا المقحمات](2).

7 -

في المعراج: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم الجنة ورأى نهر الكوثر فيها، ورأى في أصل سدرة المنتهى أنهارًا أربعة تفجر منها.

فقد أخرج البخاري عن أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[بينما أنا أسير في الجنة إذا أنا بنهر حافتاه قبابُ الدر المجوف، قلتُ: ما هذا يا جبريل؟ قال: هذا الكوثر الذي أعطاك ربك، فإذا طينُه مِسْكٌ أذفَرُ](3). والأذفر هو الشديد الرائحة.

وفي مسند الإمام أحمد من حديث حذيفة وفيه: [حتى أتيت بيت المقدس، ففتحت لي أبواب السماء، ورأيت الجنة والنار](4).

وفي صحيح البخاري من حديث مالك بن صعصعة وفيه: [وَرُفِعت لي سِدْرَةُ المنتهى فإذا نَبِقُها كأنه قلال، وورقها كأنه آذان الفيول، في أصلها أربعة أنهار: نهران باطنان ونهران ظاهران، فسألت جبريل فقال: أما الباطنان ففي الجنة، وأما الظاهران النيل والفرات](5).

8 -

في المعراج: رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم عذاب الذين يغتابون الناس ويقعون في أعراضهم، وأبصر عذاب خطباء القول الذين لا يمتثلونه بالعمل.

(1) حديث صحيح. رواه مسلم في صحيحه (1/ 156 - 157)، وانظر التفصيل في المرجع السابق.

(2)

حديث صحيح. انظر صحيح مسلم (1/ 109)، ومختصر صحيح مسلم - حديث (81) - ص (28).

(3)

حديث صحيح. انظر صحيح البخاري (فتح الباري 8/ 731).

(4)

حديث حسن. أخرجه أحمد (5/ 392 - 394)، وانظر سلسلة الأحاديث الصحيحة - (874).

(5)

حديث صحيح. أخرجه البخاري في صحيحه - (انظر: فتح الباري 7/ 201 - 202).

ص: 459

ففي المسند بإسناد صحيح عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [لما عرج بي ربي عز وجل، مررت بقوم لهم أظفار من نحاس يخمشون وجوههم وصدورهم، فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس، ويقعون في أعراضهم](1).

وعند البيهقي بسند حسن عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [أتيت ليلة أسري بي على قوم تُقرض شفاههم بمقاريض من نار، كلما قرضت وَفَتْ، فقلت: يا جبريل: من هؤلاء؟ قال: خطباء أمتك الذين يقولون ما لا يفعلون، ويقرؤون كتاب الله ولا يعملون به](2).

9 -

رأى عن يمين آدم أهل الجنة، وعن يساره أهل النار.

فقد خرّج البخاري من حديث أنس: [. . . فلما فُتِحَ علونا السماء الدنيا فإذا رجل قاعد على يمينه أسْوِدة، وعلى يساره أسودة، إذا نظر قِبَلَ يمينه ضحك، وإذا نظر قبل يساره بكى. فقال: مرحبًا بالنبي الصالح والابن الصالح. قلت لجبريل: من هذا؟ قال: هذا آدم، وهذه الأسودة عن يمينه وشماله نسَمُ بنيه، فأهل اليمين منهم أهل الجنة، والأسودة التي عن شماله أهل النار، فإذا نظر عن يمينه ضحك، وإذا نظر قِبَلَ شماله بكى](3).

فصدقه المؤمنون بكل ما ذكره لهم، وعلى رأسهم الصديق رضي الله عنه، وقد سُمِّيَ بذلك من يومئذ، فهو خيرُ المؤمنين بنبيِّه صلى الله عليه وسلم.

2 -

8. قوله تعالى: {وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا (2) ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا (3) وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا (4) فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا (5) ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ

(1) حديث صحيح. أخرجه أحمد في المسند (3/ 224)، وصححه الألباني في "الصحيحة"(2/ 60).

(2)

حديث حسن. أخرجه البيهقي بسند حسن من حديث أنس. انظر: صحيح الجامع - حديث (128).

(3)

حديث صحيح. أخرجه البخاري في صحيحه - (انظر: فتح الباري: 6/ 477).

ص: 460

أَكْثَرَ نَفِيرًا (6) إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا (7) عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا (8)}

في هذه الآيات: عَطْفُ الله تعالى بذكر موسى عليه الصلاة والسلام بعد ذكر محمد صلى الله عليه وسلم، وقد آتاه الله التوراة - كما آتى نَبيّنا القرآن - وجعلها تعالى هدى لبني إسرائيل لئلا يتخذوا من دون الله نصيرًا ولا معبودًا. وحثٌّ وتنبيه للذرية على المِنّة في نجاة أبيهم نوح ومن آمن معه ليتشبهوا بهم. وحكم الله على بني إسرائيل في عواقب إفسادهم في الأرض وعواقب إحسانهم، وتتابع سنن الله في ذلك، وقد جعل الله في الآخرة جهنم سجنًا للكافرين المفسدين.

فقوله: {وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ} . قال قتادة: (جعله الله لهم هدى، يخرجهم من الظلمات إلى النور، وجعله رحمة لهم). والآية: عطف بذكر موسى عليه الصلاة والسلام، بعد ذكر محمد صلى الله عليه وسلم عبد الله ورسوله وكليمه، وكثيرًا ما يقرن الله بين ذكر موسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام، وكلاهما كلمه الله، وآتى موسى التوراة، كما آتى محمدًا القرآن، وأمتهما يوم القيامة أكبر الأمم.

وقوله: {أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا} . قال مجاهد: (شريكًا). وقال ابن جرير: (ومعنى الكلام: وآتينا موسى الكتاب وجعلناه هدى لبني إسرائيل ألا تتخذوا حفيظًا لكم سواي). ثم فسّر قول مجاهد فقال: (وكأن مجاهدًا جعل إقامة من أقام شيئًا سوى الله مقامه شريكًا منه له، ووكيلًا للذي أقامه مقام الله).

والخلاصة في المعنى: يقول: لئلا تتخذوا وليًا من دوني ولا نصيرًا ولا معبودًا، بل الله وحده هو الوكيل والنصير والمعبود لا شريك له.

وقوله تعالى: {ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا} . قال قتادة: (والناس كلهم ذرية من أنجى الله في تلك السفينة. وذُكر لنا أنه ما نجا فيها يومئذ غير نوح وثلاثة بنين له، وامرأته وثلاث نسوة، وهم: سام، وحام، ويافث، فأما سام: فأبو العرب، وأما حام: فأبو الحبش. وأما يافث: فأبو الروم). وقال مجاهد: (بنوه ونساؤهم ونوح، ولم تكن امرأته) - والله تعالى أعلم.

قال ابن كثير: (تقديره: يا ذُرِّية من حملنا مع نوح. فيه تهييجٌ وتَنْبيهٌ على المِنَّة،

ص: 461

أي: يا سُلالة من نَجّيْنا فحملنا مع نوح في السفينة، تَشَبَّهُوا بأبيكم، {إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا} ، فاذكروا أنتم نعمتي عليكم بإرسالي إليكم محمدًا صلى الله عليه وسلم. وقد ورد في الحديث، وفي الأثر عن السَّلف: أن نوحًا عليه السلام كان يحمدُ الله على طعامه وشرابه ولباسه وشأنه كلِّه، فلهذا سُمِّيَ عبدًا شكورًا).

قلت: ومن كنوز السنة العطرة نحو ذلك أحاديث، منها:

الحديث الأول: أخرج البخاري في صحيحه، وأحمد في مسنده، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:[أنا سيد الناس يوم القيامة. إلى أن ذكر المحشر فقال: فيأتون نوحًا: فيقولون: يا نوحُ، أنت أول الرسل إلى أهل الأرض، وقد سمّاك الله عبدًا شكورًا، اشفع لنا إلى ربك. .] الحديث (1).

الحديث الثاني: أخرج مسلم في صحيحه، وأحمد في مسنده، عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [إنَ الله لَيَرْضى عن العَبْدِ أنْ يأكُلَ الأكْلَةَ أو يشربَ الشَّربةَ، فيحمدُ الله عليها](2).

وقوله تعالى: {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا} . قال ابن عباس: (هو قضاء قضي عليهم). أي: أخبرهم سبحانه في ما أنزل عليهم أنهم سيفسدون في الأرض مرتين وسيتجبرون ويطغون ويفجرون. وقال القاسمى: ({وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ} أي كتاب اللوح المحفوظ، أي حكمنا فيه {لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ} يعني أرض فلسطين بيت المقدس التي بارك الله حولها. والإفساد بالكفر والمعاصي. قال: {وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا} أي: ولتستكبرن وتتعظمنَّ عن طاعة الله تعالى، أو لتظلمن الناس).

وقوله تعالى: {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا} .

أي: فإذا حان موعود الأولى من المرتين، بالعقوبة على أولى المفسدتين، أخرجنا

(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (3340)، ومسلم (194)، وأحمد (2/ 435 - 436)، والترمذي (2434)، وأخرجه ابن حبان في صحيحه (6465)، وهو جزء من حديث طويل.

(2)

حديث صحيح. أخرجه مسلم (2734)، وأحمد (3/ 117)، والترمذي (1817)، وأبو يعلى (4332) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.

ص: 462

لقتالكم قومًا ذوي قوة وبطش وبأس في الحرب فيقتحمون أماكنكم ومحالكم للقتل والسبي والنهب، وعد الله ولا يخلف الله الميعاد.

وقوله تعالى: {ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا} . قال قتادة: (ثم رددت الكرة لبني إسرائيل). وقال ابن زيد: (جعلناكم بعد هذا أكثر عددًا).

والمعنى: إن بني إسرائيل لما طغوا وتمردوا وقتلوا الأنبياء والعلماء، قيل: سلط الله عليهم جالوت وجنوده، ثم ردّ لهم الكرّة فقتل داود (1) جالوت. وقيل: سلط الله عليهم "بُخْتَنَصَّر" ملك بابل. قال سعيد بن المسيب: (ظهر بختنصر على الشام، فخرب بيت المقدس وقتلهم).

وقوله تعالى: {إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا} .

أي: إن أحسنتم يا بني إسرائيل، فأطعتم الله وأصلحتم أمركم فإنكم تحسنون لأنفسكم، فهذا هو ما ينفعكم في الدنيا والآخرة، وإن أسأتم بارتكابكم المعاصي والآثام، وما يسخط الرحمن، انقلب وبال ذلك عليكم في الدنيا والآخرة، فإذا جاء ميقات المرة الآخرة من مرتي إفسادكم في الأرض {لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ}. قال ابن جرير:(يقول: لِيَسوءَ مجيء ذلك الوعد للمرّة الآخرة وجوهكم فيقبّحها). وليدخلوا المسجد كما دخله العدو قبل ذلك وليدمروا ما علوا تدميرًا.

وقوله تعالى: {عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا} .

قال النسفي: (عسى ربكم أن يرحمكم بعد المرة الثانية إن تبتم توبة أخرى وانزجرتم عن المعاصي، {وَإِنْ عُدْتُمْ} مرة ثالثة، {عُدْنَا} إلى عقوبتكم، وقد عادوا فأعاد الله عليهم النقمة بتسليط الأكاسرة وضرب الإتاوة عليهم. وعن ابن عباس رضي الله عنهما: سُلِّطَ عليهم المؤمنون إلى يوم القيامة {وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا} محبسًا، يقال للسجن محصر وحصير).

وقال ابن عباس: ({حَصِيرًا} أي: سجنًا). وقال مجاهد: (يُحصرون فيها). وقال

(1) أي بعث الله لهم ملكًا هو طالوت ومعه قائد يسمى داود.

ص: 463

الحسن: (فراش ومهاد). والمعنى متقارب، فإن جهنم مستقر للكافرين ومَحْصر وسجن لا خلاص منه.

فالمعنى: سيدخل في المرة الآخرة عدو لكم - أيها اليهود - إلى بيت المقدس قاهرًا لكم مُدَمِّرًا ما عمرتموه. قال قتادة: (قوله: {وَإِنْ عُدْتُمْ} للإفساد {عُدْنَا}: قد عاد بنو إسرائيل، فسلط الله عليهم هذا الحيّ محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه، يأخذون منهم الجزية عن يد وهم صاغرون).

قلت: وقد تكون العودة والكرة الآتية عند دخول المسلمين مع الخليفة المهدي محمد بن عبد الله في آخر الزمان إلى بيت المقدس، في حين يستفرد عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام بالأعور الدجال إمامهم المُنتظر. وفي آفاق ذلك أحاديث من السنة المطهرة:

الحديث الأول: أخرج الإمام أحمد بسند صحيح عن أبي الدرداء، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[فُسْطاط المسلمين يومَ الملحمة الكبرى بأرض يُقال لها الغوطة، فيها مدينة يقال لها دمشق، خير منازل المسلمين يومئذ](1).

ورواه أبو داود بلفظ: [إن فسطاطَ المسلمين يوم الملحمة بالغوطة، إلى جانب مدينة يقال لها دمشق، من خير مدائن الشام](2).

الحديث الثاني: أخرج الإمام مسلم في صحيحه عن أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[يتبع الدجال من يهود أصفهان سبعون ألفًا عليهم الطيالسة](3).

الحديث الثالث: أخرج الإمام مسلم عن أبي هريرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود، فيقتلهم المسلمون، حتى يختبئَ اليهودي من وراء الحجر والشجر، فيقول الحجر والشجر: يا مسلم! يا عبد الله! هذا يهودي خلفي فتعال فاقتله إلا الغرقد (4)، فإنه من شجر اليهود](5).

(1) حديث صحيح. انظر "فضائل الشام"(15)، وصحيح الجامع الصغير - حديث - (4081).

(2)

حديث صحيح. أخرجه أبو داود (4298) - كتاب الملاحم. باب في المَعقل من الملاحم. وانظر صحيح سنن أبي داود - حديث - (3611).

(3)

حديث صحيح. أخرجه الإمام مسلم في الصحيح - حديث رقم - (2944)، كتاب الفتن.

(4)

الغرقد: شجر فيه شوك، يزرعه اليهود ويكثرون من زراعته.

(5)

حديث صحيح. رواه مسلم (2922) - كتاب الفتن، ورواه كثير من أهل السنن.

ص: 464

9 -

14. قوله تعالى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا (9) وَأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (10) وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا (11) وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا (12) وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا (13) اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا (14)}.

في هذه الآيات: ثناء الله تعالى على هذا القرآن، فهو يحمل الهداية للناس والبشرى للمؤمنين، والوعيد والخزي للكافرين. وَذِكْرُ تعجّل الإنسان في دعائه بالشر أحيانًا، ولو قابله الله بعجلة الإجابة لهلك. وامتنان الله تعالى على عباده بنعمة تعاقب الليل والنهار، وما يحمل ذلك لهم من فوائد كثيرة ونعم جليلة. وتحذير الله عباده الصحف التي تجمع أعمالهم فتنشر يوم القيامة عليهم ليجتهدوا في ملئها بالأعمال الصالحة، فكل سيقرأ كتابه يوم الحساب وكفى بنفسه يومئذ عليه حسيبًا.

فقوله: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} . قال ابن زيد: (للتي هي أصوب: هو الصواب وهو الحق، قال: والمخالف هو الباطل. وقرأ قول الله تعالى: {فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ} [البينة: 3]. قال: فيها الحق ليس فيها عوج. وقرأ: {وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا (1) قَيِّمًا} [الكهف: 1، 2]، يقول: قيمًا مستقيمًا).

وقوله: {وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا} .

قال ابن جريج: (الجنة، وكلّ شيء في القرآن أجر كبير، أجر كريم، ورزق كريم فهو الجنة).

وقوله تعالى: {وَأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} .

قال ابن جرير: (يقول تعالى ذكره: وأن الذين لا يصدقون بالمعاد إلى الله، ولا يقرّون بالثواب والعقاب في الدنيا، فهم لذلك لا يتحاشون من ركوب معاصي الله

ص: 465

{أَعْتَدْنَا لَهُمْ} يقول: أعددنا لهم، لقدومهم على ربهم يوم القيامة {عَذَابًا أَلِيمًا} ويعني موجعًا، وذلك عذاب جهنم).

وقوله تعالى: {وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا} .

قال ابن عباس: (يعني قول الإنسان: اللهم العنه واغضب عليه، فلو يُعَجل له ذلك كما يُعجل له الخير، لهلك). وقال قتادة: (يدعو على ماله، فيلعن ماله وولده، ولو استجاب الله له لأهلكه). وقال أيضًا: (يدعو على نفسه بما لو استجيب له هلك، وعلى خادمه، أو على ماله). وقال مجاهد: (ذلك دعاء الإنسان بالشر على ولده وعلى امرأته، فيعجل، فيدعو عليه، ولا يحب أن يصيبه). وقال ابن عباس: ({وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا} قال: ضَجرًا لا صَبر له على سراء ولا ضرّاء).

وفي التنزيل نحو ذلك، قوله تعالى:{وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ} [يونس: 11].

وفي صحيح مسلم من حديث جابر قال: [سِرْنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة بَطْنِ بُواط، وهو يَطْلُبُ المَجْديَّ بنَ عَمْرٍو الجُهنيَّ، وكان الناضِحُ يَعْقُبُه منا الخمسةُ والسِّتةُ والسَّبْعةُ، فدارتْ عُقْبَةُ رَجُلٍ مِنَ الأنصارِ على ناضِحٍ له، فأناخَهُ فرَكِبَهُ، ثم بعثَهُ فتَلَدَّنَ عليه بعضَ التلدُّن، فقال له: شَأْ (1) لعنك الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مَنْ هذا اللاعِنُ بعيرَهُ؟ قال: أنا، يا رسول الله! قال: انْزِل عنه، فلا يَصْحَبْنا ملعون، لا تَدْعوا على أنفسكم، ولا تدعوا على أولادكم، ولا تَدْعوا على أموالكم، لا تُوافِقوا من الله ساعة يُسْألُ فيها عطاءٌ فيستجيب لكم](2).

قال النسفي: ({وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا} يتسرع إلى طلب كل ما يقع في قلبه ويخطر بباله، لا يتأنى فيه تأني المتبصر. أو أريد بالإنسان الكافر وأنه يدعوه بالعذاب استهزاء ويستعجل به كما يدعو بالخير إذا مسته الشدة، وكان الإنسان عجولًا، يعني أن العذاب آتيه لا محالة فما هذا الاستعجال).

وقوله تعالى: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا} .

قال ابن عباس: (كان القمر يضيء كما تضيء الشمس، والقمر آية الليل، والشمس

(1) كلمة زجر للبعير.

(2)

حديث صحيح. أخرجه مسلم (3009) - كتاب الزهد. وأخرجه ابن حبان في "صحيحه"(5742).

ص: 466

آية النهار، فمحونا آية الليل: السواد الذي في القمر). وقال مجاهد: (ظلمة الليل، وسدفة النهار).

فإن الله سبحانه يمتنّ في هذه الآية على عباده بتلك الآيات العظام، من تعاقب الليل والنهار، وظلمة الليل وضوء النهار، يسكنون في الليل وينتشرون للمعايش والأعمال والأسفار في النهار، وليعلموا عددَ الأيام والجمع والشهور والأعوام، وما يرافق ذلك من تحديد آجال الديون والعبادات والمعاملات والإجارات، وقد فصل الله تعالى لعباده كل ما يحتاجون معرفته مما تقوم به حياتهم وعبادتهم وسعادتهم في الدارين.

وفي التنزيل:

1 -

قال تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ (71) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (72) وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [القصص: 71 - 73].

2 -

وقال تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا (61) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا} [الفرقان: 61، 62].

3 -

وقال تعالى: {يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلَا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ} [الزمر: 5].

وفي صحيح السنة المطهرة من آفاق مفهوم الآية أحاديث، منها:

الحديث الأول: روى مسلم في صحيحه عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[إنَّ الله تعالى يبسُطُ يده بالليل ليتوب مسيءُ النهار، ويَبْسُطُ يدَه بالنهار ليتوب مسيءُ الليل، حتى تطلعَ الشمس من مغربها](1).

الحديث الثاني: روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [من تابَ قبلَ أن تطلعَ الشمس من مغربها تاب الله عليه](2).

(1) حديث صحيح. رواه مسلم في صحيحه - حديث رقم - (2759) - كتاب التوبة - باب قبول التوبة من الذنوب، وإن تكررت الذنوب والتوبة.

(2)

حديث صحيح. رواه مسلم في صحيحه - حديث رقم - (2703) - كتاب الذكر والدعاء - باب استحباب الاستغفار والاستكثار منه، من حديث أبي هريرة.

ص: 467

وقوله: {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ} . قال ابن عباس: (عمله وما قدر عليه، فهو ملازمه أينما كان، فزائل معه أينما زال). وقال: (الطائر: عمله، قال: والطائر في أشياء كثيرة، فمنه التشاؤم الذي يتشاءم به الناس بعضهم من بعض). وقال مجاهد: (طائره: عمله، وما كتب الله له). وقال ابن كثير: (وطائره: هو ما طار عنه من عمله من خير وشر، يُلزم به ويجازى عليه).

وفي التنزيل:

1 -

قال تعالى: {عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ (17) مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق: 17، 18].

2 -

وقال تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة: 7، 8].

3 -

وقال تعالى: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (10) كِرَامًا كَاتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ (12) إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (13) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} [الانفطار: 10 - 14]، .

ومن كنوز السنة الصحيحة في مفهوم الآية أحاديث:

الحديث الأول: أخرج الإمام أحمد في المسند، بسند حسن لغيره، عن جابر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: [طائرُ كلِّ إنسان في عنقه](1).

الحديث الثاني: أخرج ابن جرير في "التفسير" بسند رجاله ثقات، من طريق قتادة عن جابر بن عبد الله مرفوعًا:[لا عدوى، ولا طيرة، وكلَّ إنسان ألزمناه طائره في عنقه](2).

قال ابن جرير: (يقول تعالى ذكره: وكل إنسان ألزمناه ما قُضِىَ له أنه عامله، وهو صائر إليه من شقاء أو سعادة يعمله في عنقه لا يفارقه، وإنما قوله:{أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ} مَثَلٌ لِما كانت العرب تتفاءل به أو تتشاءم من سوانح الطير وبوارحها، فأعلمهم جل ثناؤه أن

(1) حسن لغيره. أخرجه أحمد في المسند (3/ 342)، (3/ 349)، (3/ 360)، وانظر سلسلة الأحاديث الصحيحة (1907).

(2)

أخرجه ابن جرير في "التفسير"(15/ 39) ورجاله ثقات رجال الشيخين، لكن قتادة لم يسمع من جابر، وروايته عنه صحيفة، قال أحمد:"قُرِئ عليه صحيفة جابر مرة واحدة فحفظها". وانظر السلسلة الصحيحة ج (4) ص (534).

ص: 468

كل إنسان منهم قد ألزمه ربه طائره في عنقه، نحسًا كان ذلك الذي ألزمه من الطائر، وشقاءً يورده سعيرًا، أو كان سعدًا يورده جنات عدن).

وقوله تعالى: {وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا (13) اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا} . قال مَعْمَرٌ: (وتلا الحسنُ البصري: {عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ} [ق: 17]، يا ابن آدم، بَسَطتُ لك صحيفتَك، وَوُكِّلَ بك مَلَكان كريمان، أحدهما عن يمينك والآخر عن شمالك، فأما الذي عن يمينك فيحفظ حسناتك، وأما الذي عن يسارك فيحفظ سيئاتك، فاعمل ما شئت، أَقْلِل أو أكثر، حتى إذا متَّ طُوِيتْ صحيفتُك فجعلت في عنقك مَعَكَ في قَبْرك، حتى تخرج يوم القيامة كتابًا تلقاه منشورًا {اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا}، قد عدل - والله - عليك من جَعلك حَسِيبَ نَفْسِك).

عن قتادة: ({اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا} سيقرأ يومئذ من لم يكن قارئًا في الدنيا).

15 -

17. قوله تعالى: {مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا (15) وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا (16) وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (17)}.

في هذه الآيات: تأكيد الله تعالى عودة نفع الهداية على العبد الملتمس الهداية، وعودة ضرر الضلال على مبتغيه، وأنه لا تزر وازرة وزر أخرى، وما كان الله ليعذب قومًا حتى يقيم عليهم الحق على لسان الرسل، فإن أصروا على الكفر والفسوق دمّرهم تدميرًا. وتخويف لكفار مكة أنه تعالى: كم أهلك من قوم كفروا من بعد نوح وكفى بالله بذنوب عباده خبيرًا بصيرًا.

فقوله: {مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا}

أي: من اختار طريق الهدى والاستقامة على الحق فهو ينفع نفسه، ومن جار عن قصد السبيل فهو يضر نفسه ويهدّد أمنه في الدار الآخرة.

وقوله: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} - كقوله: {وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ} [فاطر: 18] قال قتادة: (والله ما يحمل الله على عبد ذنب غيره، ولا يؤاخذ

ص: 469

إلا بعمله). قلت: إلا أن يكون من دعاة الإثم والضلالة، أو الابتداع في الدين، فإنه يحمل أوزار من أضَلّهم إضافة إلى أوزاره، عدلًا من الله تعالى.

ففي التنزيل:

1 -

قال تعالى: {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [العنكبوت: 13].

2 -

وقال تعالى: {لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ} [النحل: 25].

وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:[مَنْ دعا إلى هدى، كان له مِنَ الأجرِ مثلُ أجورِ من تَبِعَهُ، لا يَنْقُصُ ذلك من أجورهم شيئًا، ومَنْ دعا إلى ضلالة، كان عليه من الإثم مِثْلُ آثامِ مَنْ تَبِعَهُ، لا يَنْقُصُ ذلك مِنْ آثامهم شيئًا](1).

وفي صحيح مسلم من حديث جرير بن عبد الله، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:[مَنْ سَنَّ في الإسلام سُنَةً حَسَنَةً، فعُمِلَ بها بَعْدَهُ، كُتِبَ له مِثْلُ أجْرِ من عَمِلَ بها، ولا يَنْقُصُ مِنْ أجورهم شَيْءٌ، ومَنْ سَنَّ في الإسلام سُنَّةً سيئةً، فَعُمِلَ بها بَعْدَهُ، كتِبَ عليه مثلُ وِزْرِ مَنْ عَمِلَ بها، ولا يَنْقُصُ مِنْ أوزارهم شيءٌ](2).

وقوله: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} . قال قتادة: (إن الله تبارك وتعالى ليس يعذب أحدًا حتى يسبق إليه من الله خبر، أو يأتيه من الله بيِّنَة، وليس معذبًا أحدًا إلا بذنبه).

قال ابن جرير: (يقول تعالى ذكره: وما كنا مهلكي قوم إلا بعد الإعذار إليهم بالرسل، وإقامة الحجة عليهم بالآيات التي تقطع عذرهم).

وفي التنزيل من أمثلة ذلك:

1 -

قال تعالى: {كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8) قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ} [الملك: 8، 9].

2 -

وقال تعالى: {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا

(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم في صحيحه - حديث رقم - (2674) - كتاب العلم - باب من سنَّ سنة حسنة أو سيئة، ومن دعا إلى هدى أو ضلالة.

(2)

حديث صحيح. أخرجه مسلم - حديث رقم - (1017)، كتاب العلم، الباب السابق، وله قصة.

ص: 470

وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ} [الزمر: 71].

3 -

وقال تعالى: {وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ} [فاطر: 37].

ومن صحيح السنة في آفاق معنى هذه الآية أحاديث:

الحديث الأول: أخرج البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: [تحاجت الجنَّةُ والنَّارُ، فقالت النّار: أُوثِرْتُ بالمتكبِّرينَ والمتجبِّرينَ، وقالت الجنة: مالي لا يدخُلني إلا ضُعَفاء الناس وسَقَطُهُم؟ قال الله تبارك وتعالى للجنة: أنت رحمتي أرحمُ بك من أشاء من عبادي، وقال للنار: إنما أنتِ عذابٌ أعذِّبُ بكِ مَنْ أشاءُ مِنْ عبادي، ولكل واحِدةٍ منهما مِلْؤُها. فأمّا النار: فلا تَمْتَلِئُ حتى يَضَعَ رِجْلَهُ فتقول: قَطْ قَطْ، فهنالِكَ تَمْتَلِئ ويُزْوى بعضُها إلى بَعْض، ولا يَظلم الله عز وجل مِنْ خلقه أحدًا. وأما الجنة: فإن الله عز وجل ينْشِئُ لها خَلْقًا](1).

الحديث الثاني: أخرج الإمام أحمد بسند صحيح عن الأحنف بن قيس، عن الأسود بن سريع رضي الله عنه أن نبيَّ الله صلى الله عليه وسلم قال:[أربعةٌ يحتجون يوم القيامة، رجلٌ أصَمُّ لا يسمع شيئًا، ورجل أحمَقُ، ورجل هَرِمٌ، ورجلٌ مات في فتْرَةٍ. فأما الأصمُّ فيقول: ربِّ، لقد جاء الإسلام وما أسمعُ شيئًا. وأما الأحمق فيقول: ربِّ، لقد جاء الإسلام والصبيان يَحْذِفوني بالبَعْرِ. وأما الهَرِمُ فيقول: ربِّ، لقد جاء الإسلام وما أعقِلُ شيئًا. وأما الذي مات في الفترة فيقول: ربِّ، ما أتاني لك رسولٌ. فيأخذُ مواثيقهم ليُطيعُنَّهُ، فيرسِلُ إليهم أن ادخلوا النار، فوالذي نفسُ محمد بيده، لو دخلوها لكانت عليهم بردًا وسلامًا](2).

الحديث الثالث: أخرج البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: [كُلُّ مولود يولد على الفطرة، فأبواه يُهوِّدانه ويُنَصِّرانه ويُمَجِّسَانِه،

(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (4850) - كتاب التفسير، وانظر (4849)، ورواه مسلم وغيره.

(2)

حديث صحيح. أخرجه أحمد في المسند (4/ 24)، والبزار (2174)، والبيهقي في "الاعتقاد" ص (135)، وصحح إسناده الهيثمي في "المجمع"(7/ 216)، وأخرجه ابن حبان في صحيحه (1827)، وله شواهد عند البغوي (ق 94/ 1)، والديلمي (1/ 1/ 171)، وصححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة (1434).

ص: 471

كما تُنْتَجُ البهيمةُ بهيمةً جَمْعاء، هل تحسّون فيها مِنْ جَدْعاء. وفي رواية لمسلم: قالوا: يا رسول الله، أفرأيت من يموت صغيرًا؟ قال: الله أعلم بما كانوا عاملين] (1).

وفي صحيح البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: [سُئِل رسول الله صلى الله عليه وسلم -عن أولاد المشركين؟ فقال: الله إذْ خَلقَهُمْ أعلمُ بما كانوا عاملين](2).

قلت: فأولاد المشركين الذين اشتركوا في الآثام مع آبائهم ثم ماتوا يختلفون في الحكم عن أطفال المشركين الذين لم يكن لهم ذنوب يعاقبون بها - والله تعالى أعلم. وهذا يفسر قوله صلى الله عليه وسلم؟ (الله أعلم بما كانوا عاملين).

فقد أخرج أبو نعيم في "الحلية"(6/ 308) بسنده عن يزيد الرقاشي عن أنس بن مالك قال: [سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذراري المشركين لم يكن لهم ذنوب يعاقبون بها فيدخلون النار، ولم تكن لهم حسنة يجازون بها فيكونون من ملوك الجنة؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: هم خدم أهل الجنة].

وفي لفظ عند ابن مندة في "المعرفة"(2/ 261/ 1) من حديث سنان بن سعد عن أبي مالك قال: [سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن أطفال المشركين؟ قال: هم خدم أهل الجنة](3).

وفي التنزيل، قال تعالى:{وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ} [الأعراف: 179]. قال الحسن: (خلقنا). وقال مجاهد: (لقد خلقنا لجهنم كثيرًا من الجن والإنس).

قال ابن جرير: (لنفاذ علمه فيهم بأنهم يصيرون إليها بكفرهم بربهم). قال الإمام الطحاوي: (وإن الله تعالى خلق الجنة والنار قبل الخلق، وخلق لهما أهلًا، فمن شاء منهم إلى الجنة فضلًا منه، ومن شاء منهم إلى النار عدلًا منه، وكل يعمل لما قد فرغ له، وصائر إلى ما خلق له، والخير والشر مقدران على العباد)"متن الطحاوية: 83".

وأما أطفال المسلمين فهم في الجنة باتفاق أهل العلم.

(1) حديث صحيح. انظر صحيح مسلم (6658) ح (23)، وصحيح البخاري (1384)، وأخرجه النسائي (4/ 58)، من حديث أبي هريرة.

(2)

حديث صحيح. انظر صحيح البخاري (1383)، وفي لفظ: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذراري المشركين؟ فقال: اللهم أعلم بما كانوا عاملين. انظر صحيح البخاري، حديث (1384) - كتاب الجنائز.

(3)

حسن لشواهده. وانظر مسند أبي يعلى (1011 - 1012)، ومسند البزار (232)، وسلسلة الأحاديث الصحيحة - حديث رقم - (1468).

ص: 472

وقد أخرج أبو نعيم في "أخبار أصبهان"، وأحمد في المسند، عن أبي هريرة مرفوعًا:[أطفال المسلمين في جَبَل في الجَنَّةِ يَكْفُلُهم إبراهيمُ وسارةُ حتى يدفعونهم إلى آبائهم يوم القيامة](1).

وفي لفظ أحمد: [ذراري المسلمين في الجنة، يكفلهم إبراهيم عليه السلام].

وقوله تعالى: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا} .

يعود تأويل هذه الآية إلى طريقة قراءة قوله: {أَمَرْنَا} ، فالله تعالى لا يأمر بالفسق والفحشاء والفساد والإفساد.

فقد قرأها قرّاء الحجاز والعراق بالتخفيف: {أَمَرْنَا} ، في حين قرأها أبو عثمان بالتشديد:"أمَّرْنا". وذكر عن الحسن البصري أنه قرأها: "آمَرْنا". فيكون المعنى وفقًا لذلك:

التأويل الأول: {أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا} . قال ابن عباس: (بطاعة الله، فعصوا) - واختاره ابن جرير.

التأويل الثاني: "أمَّرْنا مترفيها" مشدّدة من الإمارة. قال الربيع بن أنس: (سَلَّطنا). وقال أبو العالية: (جعلنا عليها مترفيها: مستكبريها). وكذلك روي عن ابن عباس قال: (سَلَّطنا أشرارها فعصوا فيها، فإذا فعلوا ذلك أهلكتهم بالعذاب). وقال مجاهد: (أمَّرنا مترفيها: بعثنا).

التأويل الثالث: "آمَرْنا مترفيها" بمعنى أكثرنا فسقتها. قال عكرمة: (أكثرناهم). وقال الضحاك: (أكثرنا مترفيها: أي كبراءها). وقال قتادة: (يقول: أكثرنا مترفيها: أي جبابرتها، ففسقوا فيها وعملوا بمعصية الله {فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا}. وكان يقال: وإذا أراد أن يهلكها أكثر مترفيها).

وقوله تعالى: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا} . وعيد من الله تعالى لمشركي قريش في تكذيبهم نبيهم - محمدًا صلى الله عليه وسلم وتهديد لهم بالعقاب. قال القرطبي: (أي كم من قوم كفروا حلّ بهم البوار. يخوّف كفار مكة).

(1) حديث حسن. أخرجه أبو نعيم في "أخبار أصبهان"(2/ 263)، والديلمي (1/ 1/ 118)، وأخرجه أحمد في المسند (2/ 326)، وانظر سلسلة الأحاديث الصحيحة (1467).

ص: 473

وقال ابن كثير: (ومعناه أنكم أيهِا المكذبون لستم أكرم على الله منهم، وقد كذّبتم أشرفَ الرسل وأكرم الخلائق، فَعُقوبتكم أولى وَأحرى). قال النسفي: ({وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا} وإن أخفوها في الصدور {بَصِيرًا} وإن أرخوا عليها الستور).

18 -

22. قوله تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا (18) وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا (19) كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا (20) انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا (21) لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا (22)}.

في هذه الآيات: إخبار الله تعالى أنَّ من طلب زينة هذه الحياة الدنيا فإنه يُعطى منها حسب مشيئته تعالى ثم مرده في الآخرة إلى نار جهنم يدخلها مذمومًا مخذولًا. ومن طلب سبيل الآخرة وتقدم إلى ذلك بالإيمان الصادق والعمل الصالح فإنه سيلقى جزاء سعيه جزاء موفورًا. فالله سبحانه يعطي كلًا من الفريقين وما كان عطاء الله محظورًا. فانظر - يا محمد - كيف قسم الله الهداية والأرزاق وفاوت بين الفريقين في منهاج الحياة، ثم مصير الآخرة أكبر مفاضلة وأعظم تفضيلًا. فاحذر أيها الإنسان الشرك بالله فإن الشرك يقعد صاحبه مذمومًا مخذولًا.

فقوله: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ} - الآية. قال قتادة: (يقول: من كانت الدنيا همّه وسدمه وطلبته ونيته، عجَّل الله له فيها ما يشاء، ثم اضطره إلى جهنم، قال: {ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا} مذمومًا في نعمة الله مدحورًا في نقمة الله). قال ابن زيد: (العاجلة: الدنيا). وعن أبي إسحاق الفزاري يقول: {عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ} قال: (لمن نريد هلكته). وعن ابن عباس: ({مَذْمُومًا} يقول: ملومًا).

قال ابن كثير: (يخبر تعالى أنه ما كلّ من طلب الدنيا وما فيها من النعيم يحصُل له، بل إنما يحصُل لمن أراد الله ما يشاء. وهذه مقيّدة لإطلاق ما سواها من الآيات، فإنه قال:{عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ} ، أي في الدار الآخرة، {يَصْلَاهَا} ، أي: يَدْخُلها حتى تغمُرَه من جميع جوانبه، {مَذْمُومًا} ، أي: في حال

ص: 474

كونه مذمومًا على سوء تَصَرُّفه وصنيعه، إذا اختار الفاني على الباقي، {مَدْحُورًا} ، مُبعَدًا مَقْصِيًّا حقيرًا ذليلًا مهانًا).

وقوله تعالى: {وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا} . قال قتادة: (شكر الله حسناتهم، وتجاوز عن سيئاتهم).

والمقصود: أنَّ من طَلَبَ نعيم الآخرة وتقدم إلى ذلك بالإيمان الصادق والعمل الصالح على منهاج النبوة، فإن الله سبحانه سيجزيه على حسن سعيه ويتجاوز عن سَيِّئ عمله.

وقوله تعالى: {كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا} .

قال قتادة: (أي منقوصًا، وإن الله عز وجل قسم الدنيا بين البرّ والفاجر، والآخرة خصوصًا عند ربك للمتقين). وقال الحسن: (كلًا نعطي من الدنيا البر والفاجر). قال ابن جريج: قال ابن عباس: (فيرزق من أراد الدنيا، ويرزق من أراد الآخرة). قال ابن جريج: ({وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا} قال: ممنوعًا).

والمقصود: أنَّ الله تعالى يعطي كُلًا ما يستحقه من الشقاوة والسعادة في الآخرة، وأما في الدنيا فيرزق المطيع والعاصي جميعًا على وجه التفضل، وما كان عطاء الله ممنوعًا عن عباده وإن عصوا أمره.

وقوله تعالى: {انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا} . أي:

1 -

انظر يا محمد - نظرة اعتبار - إلى هذين الفريقين، كيف هدينا هذا سبيل سعادته، وكيف خذلنا الآخر حين أصر على سلوك سبيل شقاوته، فتفاوت الفريقان في منهاج الحياة الدنيا الذي يقرّر مصير الآخرة.

2 -

ثم انظر - يا محمد - كيف فضلنا بين الناس في أرزاق الدنيا ومعايشها، فمنهم الغني والفقير وبين ذلك.

وأما الآخرة فإن تفاوت الناس فيها أعظم وأكبر بكثير من تفاوتهم في الدنيا، فأهل الجنة يتفاوتون في درجات الجنة وفي مقامات النعيم حسب أعمالهم، وأهل النار يتفاوتون في دركات النار وفي منازل الشقاء حسب درجة كفرهم وخبث أفعالهم وحالات نفاقهم.

ص: 475

ففي التنزيل: (من أحوال أهل الجنة).

1 -

قال تعالى: {وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً (7) فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (8) وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (9) وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ} [الواقعة: 7 - 12].

2 -

وقال تعالى: {لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ} [الزمر: 20].

3 -

وقال تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (58) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [العنكبوت: 58، 59].

وفي صحيح السنة: (من أحوال أهل الجنة).

الحديث الأول: أخرج البخاري ومسلم عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: [إنّ أهل الجنة يتراءون أهل الغرف من فوقهم كما تتراءون الكوكب الدري الغابر في الأفق، من المشرق أو المغرب لتفاضل ما بينهم، قالوا: يا رسول الله! تلك منازل الأنبياء لا يبلغها غيرُهم. قال: بلى والذي نفسي بيده، رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين](1).

الحديث الثاني: أخرج الطبراني بسند حسن عن أبي مالك الأشعري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: [إنّ في الجنة غرفًا يرى ظاهرها من باطنها وباطنها من ظاهرها، أعدّها الله لمن أطعم الطعام وأدام الصيام، وصلى بالليل والناس نيام](2).

الحديث الثالث: أخرج البخاري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [إنَّ في الجنة مئة درجة، أعدّها الله عز وجل للمجاهدين في سبيله، بين كل درجتين كما بين السماء والأرض، فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس فإنه وسط الجنة وأعلى الجنة وفوقه عرش الرحمن ومنه تتفجر أنهار الجنة](3).

(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (3256)، ومسلم (2831) - من حديث أبي سعيد الخدري.

(2)

حديث حسن. أخرجه الطبراني بإسناد حسن من حديث أبي مالك الأشعري. انظر صحيح الجامع الصغير - حديث رقم - (2119)، وتفصيل البحث في كتابي: أصل الدين والإيمان (2/ 785).

(3)

حديث صحيح. أخرجه البخاري (4/ 14)، (9/ 101)، وأحمد في المسند (2/ 335 - 339).

ص: 476

وفي التنزيل: (من أحوال أهل النار).

1 -

قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا} [النساء: 56].

2 -

وقال تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا} [النساء: 145].

وفي صحيح السنة: (من درجات أهل النار).

الحديث الأول: أخرج مسلم في صحيحه عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: [أهونُ أهل النار عَذابًا أبو طالب، وهو مُنْتَعِلٌ بِنَعْليْن من نارٍ يَغْلي منهما دماغُه](1)

الحديث الثاني: أخرج مسلم عن سمرة بن جندب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [منهم من تأخذه النار إلى كعبيه، ومنهم من تأخذه النار إلى حُجْزَتِه، ومنهم من تأخذه النار إلى تَرْقُوَتِه](2).

الحديث الثالث: أخرج الترمذي بسند حسن عن عبد الله بن عمرو، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[يحشر المتكبِّرون يومَ القيامة أمثالَ الذر في صور الرجال، يغشاهم الذل من كل مكان، يُساقون إلى سجن في جهنم يسمى بولس، تعلوهم نار الأنيار، يُسْقُون من عُصَارة أهل النار، طينةِ الخبال](3).

وقوله تعالى: {لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا} .

قال قتادة: (يقول: مذمومًا في نعمة الله، وهذا الكلام وإن كان خرج على وجه الخطاب لنبي الله صلى الله عليه وسلم، فهو معنيٌّ به جميع من لزمه التكليف من عباد الله جلّ وعزّ). قال النسفي: ({فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا}: فتصير جامعًا على نفسك الذم والخذلان. وقيل مشتومًا بالإهانة محرومًا عن الإعانة، إذ الخذلان ضد النصر والعون).

(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم في الصحيح (1/ 135) من حديث ابن عباس، وانظر مختصر صحيح مسلم - حديث رقم - (99)، (100).

(2)

حديث صحيح. رواه مسلم في صحيحه من حديث سمرة. وانظر مختصر صحيح مسلم (1953) - في تفصيل أكبر من حديث المقداد بن الأسود.

(3)

حديث حسن. انظر صحيح سنن الترمذي (2025)، ورواه أحمد، انظر صحيح الجامع (7896).

ص: 477

والمقصود: لا تشرك أيها الإنسان بالله الذي بيده نصرك وعونك ونفعك وضرّك، بل أفرده بالعبادة والتعظيم، فإنه وحده مالك النفع والضر لك.

وفي التنزيل: {إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [آل عمران: 160].

وفي سنن أبي داود ومسند أحمد، بإسناد صحيح عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [مَنْ أصابَتْهُ فاقَةٌ فأنزلها بالناس لم تُسَدّ فاقته، ومن أنزلها بالله أوشك الله له بالغنى، إما بموت عاجلٍ، أو غِنى عاجل](1).

23 -

25. قوله تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (23) وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا (24) رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا (25)}.

في هذه الآيات: أَمْرُ الله تعالى بإفراده بالعبادة والإحسان للوالدين، وخفض الجناح لهما والدعاء لهما، والله أعلم بمن يقوم بحق التعظيم له والبر بالوالدين، وهو سبحانه للأوابين والتائبين غفور رحيم.

فقوله: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} . قال ابن عباس: (يقول: أمر) - أي هكذا أمر تعالى بإفراده سبحانه بالعبادة لا شريك له. وقال قتادة: (أمر ألا تعبدوا إلا إياه. وفي حرف ابن مسعود: "وصَّى ربك ألا تعبدوا إلا إياه"). وعن مجاهد: ({وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} قال: وأوصى ربك).

وقوله: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} . قال ابن جرير: (يقول: وأمركم بالوالدين إحسانًا أن تحسنوا إليهما وتبرّوهما).

(1) حديث صحيح. أخرجه أبو داود في السنن - حديث رقم - (1645) - كتاب الزكاة - باب في الاستعفاف، وانظر صحيح سنن أبي داود (1448)، وأخرجه أحمد في المسند (1/ 407)، وأبو يعلى (5318)، وصححه الحاكم (2/ 408) ووافقه الذهبي.

ص: 478

وقوله: {إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا}

قال القرطبي: ({فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} أي: لا تقل لهما ما يكون فيه أدنى تبرّم). قال مجاهد: (إن يَبْلُغانِّ عندك الكبر فلا تقل لهما أف حين ترى الأذى، وتميط عنهما الخلاء والبول، كما كانا يميطان عنك صغيرًا، ولا تؤذهما). قال ابن كثير: (أي: لا تُسْمِعهما قولًا سيئًا، حتى ولا التأفيف الذي هو أدنى مراتب القول السيِّئ). وقال عطاء: ({وَلَا تَنْهَرْهُمَا}: لا تنفض يدك على والديك). وقال ابن جرير: ({وَلَا تَنْهَرْهُمَا} يقول جل ثناؤه: ولا تزجُرهما).

وقوله {وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا} . قال ابن جريج: (أحسن ما تجد من القول). وقال قتادة: (أي قولًا ليِّنًا سهلًا).

وقوله: {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ} . قال هشام بن عروة عن أبيه: (هو أن لا تمتنع من شيء يريدانه). أو قال: (هو أن تلين لهما حتى لا تمتنع من شيء أحبّاه). والمقصود: بذل غاية التواضع للوالدين بالقول والفعل، والأثر السابق في عروة ثبت بسند صحيح. فقد أخرج البخاري في الأدب المفرد عن عُروة قال:{وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ} قال: (لا تمتنع من شيء أحبّاه)(1).

وقوله: {وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} . قال النسفي: (ولا تكتف برحمتك عليهما التي لا بقاء لها، وادع الله بأن يرحمهما رحمته الباقية، واجعل ذلك جزاء لرحمتهما عليك في صغرك وتربيتهما لك، والمراد بالخطاب غيره عليه السلام، والدعاء مختص بالأبوين المسلمين. وقيل: إذا كانا كافرين له أن يسترحم لهما بشرط الإيمان وأن يدعو الله لهما بالهداية).

وعن ابن عباس: (قوله: {وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} ثم أنزل الله عز وجل بعد هذا: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى} [التوبة: 113]).

وقد ورد الأمر ببر الوالدين والإحسان إليهما كثيرًا في القرآن والسنة الصحيحة:

(1) صحيح الإسناد. أخرجه البخاري في "الأدب المفرد"(9) - باب لين الكلام لوالديه - وانظر: "صحيح الأدب المفرد" - حديث رقم - (9).

ص: 479

ففي التنزيل:

1 -

قال تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [النساء: 36].

2 -

وقال تعالى: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا} [العنكبوت: 8].

3 -

وقال تعالى: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ} [لقمان: 14].

وفي صحيح السنة المطهرة:

الحديث الأول: أخرج البخاري ومسلم عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: [سألت النبي صلى الله عليه وسلم: أي العمل أحبُّ إلى الله تعالى؟ قال: الصلاة على وقتها. قلت: ثم أي؟ قال: برُّ الوالدين. قلت: ثم أي؟ قال: الجهادُ في سبيل الله](1).

الحديث الثاني: أخرج مسلم وأبو داود والترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [لا يَجْزِي وَلدٌ والدًا إلّا أنْ يجِدَهُ مَمْلوكًا، فَيَشْتَرِيَهُ، فَيُعْتِقَهُ](2).

الحديث الثالث: أخرج البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: [جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله مَنْ أحَقُّ الناس بِحُسْنِ صَحابتي؟ قال: أمُّك. قال: ثُمَّ مَنْ؟ قال: أمُّك. قال: ثُمّ مَنْ؟ قال: أمُّك. قال: ثُمَّ مَنْ؟ قال: أبوك](3).

قال القرطبي: (إن الأم تستحق الحظ الأوفر من البر، وتقدم في ذلك على حق الأب عند المزاحمة).

الحديث الرابع: أخرج الترمذي بسند صحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [رَغِمَ أنفُ رَجُلٍ ذُكِرْتُ عنده فلم يُصَلِّ عَليَّ. ورغِمَ أنفُ رجُلٍ دخل

(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري في صحيحه (10/ 336)، وأخرجه مسلم في الصحيح (85).

(2)

حديث صحيح. أخرجه مسلم (1510)، وأبو داود (5137)، وأخرجه الترمذي (1907).

(3)

حديث صحيح. أخرجه البخاري (10/ 336)، ومسلم (2548)، ومقتضى الحديث أن يكون للأم ثلاثة أمثال ما للأب من البر، وكأن ذلك لصعوبة الحمل، ثم الوضع، ثم الإرضاع.

ص: 480

عليه شهرُ رمضانَ فانسلخ قبل أن يُغفَرَ له، ورغِمَ أنف رجُلٍ أدركَ عنده أبواه الكِبَرَ فلم يدخلاه الجنة] (1). وفي رواية:(أو أحدهما).

وعند مسلم في صحيحه نحوه، عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[رَغِمَ أنفُ، ثم رَغِمَ أنفُ، ثم رَغِمَ أنفُ رجلٍ أدرك والديه، أحدهما أو كِلاهما عند الكبر، ولم يَدْخُلِ الجنة](2).

الحديث الخامس: أخرج ابن حبان في صحيحه عن الحسن بن مالك بن الحويرث عن أبيه عن جده قال: [صَعِدَ رسول الله صلى الله عليه وسلم المنبر فلما رقِيَ عتبةً قال: آمين. ثم رقيَ أخرى فقال: آمين. ثم رقيَ عتبةً ثالثة فقال: آمين. ثم قال: أتاني جبريل فقال: يا محمد! من أدرك رمضان فلم يغفر له فأبعده الله. فقلت: آمين. قال: ومن أدرك والديه أو أحدَهما فدخل النار فأبعده الله. فقلت: آمين. قال: ومن ذُكرتَ عنده فلم يصل عليك فأبعده الله. فقلت: آمين](3).

قلت: فإن كان الأبوان مشركين، وماتا على ذلك، فإنه لا يجوز للابن الاستغفار لهما. ومن ذلك ما بوّب البخاري في كتابه:"الأدب المفرد" - باب: لا يستغفر لأبيه المشرك. روى فيه عن ابن عباس، في قوله عز وجل:{إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} إلى قوله: {كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} . قال: (فنسختها الآية التي في براءة {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ})(4).

وقوله تعالى: {رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا} . قال ابن جرير: (يقول تعالى ذكره: ربكم أيها الناس أعلم منكم بما في نفوسكم من تعظيمكم أمر آبائكم وأمهاتكم وتكرمتهم، والبر بهم، وما فيها من اعتقاد الاستخفاف بحقوقهم، والعقوق لهم، وغير ذلك من ضمائر صدوركم. وقوله:{إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ} يقول: إن أنتم أصلحتم نياتكم فيهم، وأطعتم الله فيما أمركم به من البرّ

(1) حديث صحيح. أخرجه الترمذي (3545)، وأخرجه أحمد (2/ 254)، وأخرجه ابن حبان (908).

(2)

حديث صحيح. أخرجه مسلم (2551)، وأخرجه أحمد في المسند (2/ 346)، وغيرهما.

(3)

حديث صحيح. أخرجه ابن حبان في "صحيحه"، وبنحوه الحاكم - وقال: صحيح الإسناد. انظر صحيح الترغيب (1/ 985 - 986).

(4)

حسن الإسناد. أخرجه البخاري في "الأدب المفرد"(23) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، وانظر صحيح الأدب المفرد - حديث رقم - (17).

ص: 481

بهم، والقيام بحقوقهم عليكم، بعد هفوة كانت منكم، أو زلة في واجب لهم عليكم مع القيام بما ألزمكم في غير ذلك من فرائضه، فإنه كان للأوابين بعد الزّلة، والتائبين بعد الهفوة غفورًا رحيمًا).

ومن أقوال أهل التأويل:

1 -

قال سعيد بن جبير: ({رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ} قال: البادرة تكون من الرجل إلى أبويه لا يريد بذلك إلا الخير).

2 -

وعن حبيب بن أبي ثابت: ({فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا} قال: هو الرجل تكون منه البادرة إلى أبويه وفي نيته وقلبه أن لا يؤاخذ به).

وقيل في الأوابين أكثر من تأويل:

1 -

قال ابن عباس: (المسبحين). أو قال: ({فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا} يقول: للمطيعين المحسنين).

2 -

قال قتادة: (هم المطيعون، وأهل الصلاة).

3 -

وقال ابن المنكدر: (الصلاة بين المغرب والعشاء).

4 -

وقال عون العُقيلي: (الذين يصلون صلاة الضحى).

5 -

وقال سعيد بن المسيب ({فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا}: الذي يصيب الذنب ثم يتوب ثم يصيب الذنب ثم يتوب).

6 -

وقال سعيد بن جبير فيها: (الراجعين إلى الخير).

7 -

وقال عبيد بن عمير: (الذي يذكر ذنوبه في الخلاء، فيستغفر الله منها).

8 -

وقال مجاهد: (الأوابون: الراجعون التائبون).

قلت: وكل ما سبق يدل على مفهوم الأوابين، فإن الأواب هو التائب من الذنب الراجع إلى طاعة الله، الملتمس المغفرة ذنوبه ألوان العمل الصالح.

وفي الصحيحين من حديث ابن عمر: [أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا رجع من سفر قال: آيبون تائبون عابدون، لربنا حامدون](1).

(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (1797)، ومسلم (1344)، وأحمد (2/ 63)، وأبو داود (2770)، من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.

ص: 482

وفي سنن أبي داود بسند صحيح عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[صلاة الضحى صلاة الأوابين](1).

26 -

28. قوله تعالى: {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا (26) إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا (27) وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا (28)}.

في هذه الآيات: أمْرُ الله تعالى بإعطاء ذي القرابة والمسكين وابن السبيل حقّه من البذل والإحسان، والابتعاد عن التبذير فإنه منهج الشيطان. واختيار الردّ بالحسنى والوعد الطيب لأهل المسألة حالة العجز ورجائك عطاء المنان.

فعن ابن عباس: (قوله: {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ} قال: هو أن تصل ذا القرابة والمسكين وتحسن إلى ابن السبيل).

والآية عطف على سابقتها، فبدأ سبحانه وصيته ببر الوالدين، ثم عطف بذكر الأرحام والوصية بالأقربين، وكذلك المسافر المنقطع والمسكين.

وفي التنزيل: {فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الروم: 38].

وأما السنة المطهرة فقد تواترت فيها النصوص في ذلك:

الحديث الأول: أخرج البخاري ومسلم عن أنس بن مالك: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: [مَنْ أَحَبَّ أن يُبْسَطَ له في رزقِه، وَيُنْسَأَ له في أثرِهِ، فليصل رحمه](2).

الحديث الثاني: أخرج البخاري في صحيحه عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [إنّ الله خَلَقَ الخَلْقَ حتى إذا فرغ من خَلْقِهِ، قالت الرَّحم: هذا مقامُ العائذِ بِكَ من القطيعة؟ قال: نَعَمْ، أما تَرْضَينَ أن أصِلَ مَنْ وَصَلَكِ، وأقْطَعَ من قَطَعَكِ؟ قالت: بلى

(1) حديث صحيح. انظر صحيح سنن أبي داود (1286)، وصحيح الجامع - حديث رقم - (3721).

(2)

حديث صحيح. أخرجه البخاري (5986)، ومسلم (2557)، وأحمد (3/ 229)، وابن حبان (438)، من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.

ص: 483

يا رب، قال: فَهُوَ لكِ. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. فاقرؤوا إن شئتم. {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ} [محمد: 22]] (1).

الحديث الثالث: أخرج الترمذي والحاكم وأحمد بسند جيد عن أبي هريرة مرفوعًا: [تعلموا من أنسابكم ما تصلون به أرحامكم، فإن صلة الرحم محبة في الأهل، مثراة في المال، منسأة في الأثر](2).

وله شاهد عند الطبراني من حديث عمرو بن سهل بلفظ: [صلة القرابةِ مثراةٌ في المال، مَحَبَّةٌ في الأهل، منسأة في الأجل].

وقوله: {وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا} . التبذير الإنفاق في غير حق. قال قتادة: (التبذير الإنفاق في المعصية، وفي غير الحق وفي الفساد). وقال مجاهد: (لو أنفق إنسان ماله كله في الحق لم يكن مبذرًا. ولو أنفق مُدًّا في غير حقه كان مبذرًا).

وقوله: {إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ} . يعني أشباههم في ذلك. قال النسفي: (أمثالهم في الشرارة، وهي غاية المذمة لأنه لا شر من الشيطان، أو هم إخوانهم وأصدقاؤهم لأنهم يطيعونهم فيما يأمرونهم به من الإسراف).

وقوله: {وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا} . أي جحودًا، لأنه تجاهل نعمة الله عليه وأهمل شكره وعمل بمعصيته. قال القرطبي:(أي احذروا متابعته والتشبه به في الفساد).

والخلاصة: إنَّ هذه الأمة وسط في الإنفاق كما هي وسط في كل شيء، لا غلو ولا إفراط ولا تفريط.

وفي التنزيل: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} [الفرقان: 67].

ومن كنوز صحيح السنة في آفاق معنى الآية أحاديث:

الحديث الأول: روى مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [إن الله تعالى يرضى لكم ثلاثًا، ويكره لكم ثلاثًا: فيرضى لكم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئًا، وأن

(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (5987) - كتاب الأدب - باب: مَنْ وصلَ وَصَلَهُ الله.

(2)

إسناده جيد. أخرجه الترمذي (1/ 357 - 358)، والحاكم (4/ 161)، وأحمد (2/ 374). وانظر للشاهد: صحيح الجامع الصغير - حديث رقم - (3662)، وسلسلة الأحاديث الصحيحة (276).

ص: 484

تعتصموا بحبل الله جميعًا ولا تفوقوا، ويكره لكم: قِيْلَ وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال] (1).

الحديث الثاني: أخرج الطبراني بسند حسن عن حسين بن علي مرفوعًا: [إن الله يحبُّ معاليَ الأمور وأشرافها، ويكرهُ سَفْسَافَها](2).

وفي لفظ عند الحاكم من طريق سهل بن سعد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [إن الله عز وجل كريمٌ، يُحِبُّ الكرم ومعالي الأخلاق، وَيُبْغِضُ سَفْسَافَها](3).

الحديث الثالث: أخرج الإمام أحمد في المسند، بسند جيد، عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه قال:[أتى رجلٌ من بني تميم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، إني ذو مالٍ كثير، وذو أهل وَوَلدٍ وحاضِرَة، فأخبرني: كيف أُنفِقُ وكيف أصنَعُ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: تخرج الزكاة من مالك، فإنها طُهْرةٌ تُطَهِّرُك، وتصِل أقرباءك، وتعرف حقَّ السَّائل والجار والمسكين. فقال: يا رسول الله، أقلل لي؟ قال: {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا}، فقال: حسبي يا رسول الله، إذا أديتُ الزكاةَ إلى رسولك فقد برئتُ منها إلى الله وإلى رسوله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم، إذا أديتها إلى رسولي فقد برئت منها، فلك أجرها، وإثمُها على من بدلها](4).

وقوله تعالى: {وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا} .

قال ابن جريج، قال عكرمة:(إن سألوك فلم يجدوا عندك ما تعطيهم ابتغاء رحمة، قال: رزق تنتظره ترجوه {فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا} قال: عدهم عدة حسنة: إذا كان ذلك، إذا جاءنا ذلك فعلنا، أعطيناكم، فهو القول الميسور). وقال الحسن: (قل لهم قولًا لينًا سهلًا).

(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم في صحيحه - حديث رقم - (1715).

(2)

حديث حسن. أخرجه الطبراني في "الكبير"(1/ 140/ 1)، وابن عدي (114/ 1)، وانظر صحيح الجامع الصغير (1886)، وسلسلة الأحاديث الصحيحة (1378).

(3)

صحيح الإسناد. أخرجه الحاكم (1/ 48)، وأبو نعيم في "الحلية"(3/ 255)، (8/ 133)، وانظر المرجع السابق - السلسلة الصحيحة - حديث رقم - (1378).

(4)

أخرجه أحمد في المسند (3/ 136)، والطبراني في الأوسط (8797)، وذكره الهيثمي في "المجمع"(3/ 63)، وقال: ورجال أحمد رجال الصحيح. وأورده الحافظ ابن كثير في "التفسير"(سورة الإسراء: آية: 26).

ص: 485

وخلاصة المعنى: أي إن سألك أقرباؤك ومن أُمرت بإعطائهم وليس عندك شيءٌ، فعِدْهم بلين ورفق بالوصل إن شاء الله.

29 -

38. قوله تعالى: {وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا (29) إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (30) وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا (31) وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا (32) وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا (33) وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا (34) وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (35) وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا (36) وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا (37) كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا (38)}.

في هذه الآيات: وصية الله تعالى عباده بالاقتصاد في العيش والبعد عن الإسراف أو البخل والله هو الرزاق الكريم. والتحذير من قتل الأولاد خشية الفقر فإن ذلك من سبيل الشيطان الرجيم. والنهي عن الاقتراب من الزنى أو قتل النفس التي حرم الله أو أخذ مال اليتيم أو الغش واللعب بالميزان فكل ذلك يسخط الرحمان الرحيم. وكذلك القول في الدين بغير علم أو الاتباع بالتوهم والظن، وكذلك الكبر والعجب، كل ذلك محرم في الدين.

فقوله تعالى: {وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا} . أَمْرٌ بالاقتصاد في العيش والبعد عن الإسراف أو البخل، وعبّر عن البخل بإمساك المغلولة يده إلى عنقه، فلا يستطيع بسطها، وعبّر عن الإسراف ببسط اليد فلا يبقى فيها شيء.

قال الحسن: (لا تجعلها مغلولة عن النفقة، {وَلَا تَبْسُطْهَا}: تبذّر بسرف). وقال

ص: 486

ابنِ زيد: ({وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ} قال: مغلولة لا تبسطها بخير ولا بعطية، {وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ} في الحق والباطل، فينفد ما معك، وما في يديك، فيأتيك من يريد أن تعطيه فيحسر بك، فيلومك حين أعطيت هؤلاء، ولم تعطهم).

قال ابن عرفة: ({فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا}: يقول لا تسرف ولا تُتلف مالك فتبقى محسورًا منقطعًا عن النفقة والتصرف، كما يكون البعير الحسير، وهو الذي ذهبت قوته فلا انبعاث به).

قلت: والحسير مأخوذ من الكَلال والإعياء. فإن العرب تقول: حَسَرَ البعير إذا أعْيا.

وفي التنزيل: {ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ} [الملك: 4]. أي كليل منقطع.

ومن كنوز السنة في آفاق معنى الآية أحاديث:

الحديث الأول: أخرج البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:[مَثَلُ البخيل والمُنْفقِ كمثلِ رَجُلينِ عَلَيْهما جُبَّتانِ مِنْ حديدٍ مِنْ ثُدِيِّهِما إلى تَرَاقيهما، فأما المُنْفِقُ فلا يُنْفِقُ إلا سَبَغَتْ أو وَفَرَتْ على جِلْدِه حتى تُخْفِيَ بَنانَه، وَتَعْفُوَ أثَرَهُ. وأما البخيل فلا يريد أن يُنْفِقَ شيئًا إلا لَزِقَتْ كل حَلْقَةٍ مكانَها فهو يُوَسِّعُها ولا تَتَّسِعْ](1).

وفي لفظ: [ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم مَثَلَ البخيل والمتصدق كمثل رجلين عليهما جُبَّتان من حديد قد اضْطَرّت أيديهما إلى ثُديِّهما وتراقِيهما، فجعل المتصدق كلما تصدَّق بصدقة انبسطت عنه حتى تغشى أنامِلَهُ وتَعْفُوَ أثره (2)، وجعل البخيل كلما هم بصدقة قلصت وأخذت كلُّ حَلْقةٍ بمكانها. قال أبو هريرة: فأنا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول بأصبعيه هكذا في جَيْبه فلو رَأيْتَه يُوَسِّعها ولا تتوسَّع].

الحديث الثاني: أخرج البخاري ومسلم عن هشام بن عُروة، عن زوجته فاطمة بنتِ المنذر، عن جَدَّتها أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري في صحيحه (1443) - كتاب الزكاة - باب مثل البخيل والمتصدق، وأخرجه مسلم في الصحيح - حديث رقم - (1021)، وأخرجه الشافعي (1/ 22)، وأحمد (2/ 256)، والنسائي (3/ 70)، وابن حبان (3313) من حديث أبي هريرة.

(2)

أي تنتشر عنه الجبة حتى تمحو أثر مشيه لسبوغها. وقوله: "قلصت" أي انضمت وارتفعت.

ص: 487

[أَنْفِقي هكذا وهكذا وهكذا، ولا توعي فيوعِيَ الله عليك، ولا توكي فيوكِيَ الله عليك](1). وفي لفظ: [ولا تُحصِي فَيحصيَ الله عليك]. وفي لفظ: [أنفقي ولا تحصي، فيحصي الله عليك، ولا توعي فيوعيَ الله عليك].

الحديث الثالث: أخرج الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ما مِنْ يوم يُصبح العبادُ فيه إلا ومَلَكان يَنْزلان من السماء، يقول أحدهما: اللهم أعطِ مُنْفقًا خَلَفًا، ويقول الآخر: اللهم أعْطِ ممسكًا تَلَفًا](2).

الحديث الرابع: أخرج البزار بسند صحيح عن بلال - وعن أبي هريرة - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [أنْفِقْ يا بلالُ! ولا تخشَ من ذي العرشِ إقلالًا](3).

وله شاهد في معناه عند الإمام مسلم من طريق مَعْمر، عن همّام، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [إن الله قال لي: أَنْفِقْ أنفِقْ عليك](4).

الحديث الخامس: أخرج أبو داود بسند صحيح من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما مرفوعًا: [إياكم والشُّحَ، فإنه أهلكَ مَنْ كان قَبْلكم، أمرهم بالبُخْل فَبَخِلوا، وأمَرَهُم بالقطيعة فقطعوا، وأمرهم بالفجور فَفَجَرُوا](5).

الحديث السادس: أخرج البيهقي وأحمد بسند صحيح عن بريدة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ما يُخرج رجلٌ شيئًا من الصدقة، حتى يفكَّ عنها لَحْيَيْ سبعين شيطانًا](6)،

(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (1433)، ومسلم (1029)، وأحمد (6/ 345)، وابن حبان (3209)، من حديث أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما.

(2)

حديث صحيح. أخرجه البخاري في صحيحه (1442) - كتاب الزكاة - وأخرجه مسلم (1010).

(3)

حديث صحيح. أخرجه البزار من حديث بلال وأبي هريرة، وأخرجه الطبراني من طريق ابن مسعود، انظر: تخريج "مشكاة المصابيح"(1885)، وتخريج "الترغيب"(2/ 40)، وصحيح الجامع الصغير - حديث رقم - (1508).

(4)

حديث صحيح. أخرجه الإمام مسلم في صحيحه (993) ح (37).

(5)

حديث صحيح. أخرجه أبو داود (1698)، وأخرجه أحمد (2/ 195)، والحاكم (1/ 11)، وغيرهم، من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.

(6)

حديث صحيح. أخرجه أحمد (5/ 350)، والبيهقي في "السنن"(4/ 187)، وصححه الحاكم (1/ 417) على شرطهما، ووافقه الذهبي، وانظر سلسلة الأحاديث الصحيحة (1268).

ص: 488

وقوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا}

قال ابن زيد: (يقدر: يقلّ، وكل شيء في القرآن يَقْدِرُ كذلك، ثم أخبر عباده أنه لا يرزؤُه ولا يؤوده أن لو بسط عليهم، ولكن نظرًا لهم منه، فقال: {وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ} [الشورى: 27]. قال: والعرب إذ كان الخصب وبُسطَ عليهم أشِروا، وقتل بعضهم بعضًا، وجاء الفساد، فإذا كان السنة شُغِلوا عن ذلك).

وخلاصة المعنى: إن ربك - يا محمد - يوسع رزقه على من يشاء ويُقَتِّر على من يشاء من عباده، فهو سبحانه ذو خِبْرة بهم، يعلم من تصلحه سعة الرزق ومن تفسده، فهو الحكيم في تصريف شؤون عباده وتدبير معايشهم وأرزاقهم.

وقوله تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا} . قال مجاهد: ({خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ} الفاقة والفقر). وقال قتادة: (أي خشية الفاقة، وقد كان أهل الجاهلية يقتلون أولادهم خشية الفاقة، فوعظهم الله في ذلك، وأخبرهم أن رزقهم ورزق أولادهم على الله).

والآية تدل على رحمة الله بعباده أكثر من الوالد بولده، فقد كان أهل الجاهلية لا يورِّثون البنات، وربما قتل أحدهم ابنته لئلا تكثر عيلته، فأخبر سبحانه أن هذا القتل ذنب كبير عند الله. فقال سبحانه:{إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا} أي: إثمًا عظيمًا. وقرأ بعضهم {كان خَطَأً كبيرًا} ، والمعنى متقارب.

وفيم سورة الأنعام آية مشابهة: {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ} [الأنعام: 151].

وفي الصحيحين عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: [قلت: يا رسول الله، أيُّ الذنب أعظم؟ قال: أن تجعل لله نِدًّا وهو خلقك. قلتُ: ثم أيُّ؟ قال: أن تقتل ولَدك خشية أن يَطْعَمَ معك. قلت: ثم أي؟ قال: أن تُزَاني حَليلةَ جارِك](1).

وقوله تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا} .

نهي عن مقاربة الزنا ودواعيه، أو التماس أسبابه، فإنه كان ذنبًا كبيرًا وسَاءَ طريقًا

(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (4477)، ومسلم (76)، وأحمد (1/ 434)، والترمذي (3183)، وغيرهم، من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.

ص: 489

ومسلكًا. قال القرطبي: (قال العلماء: قوله تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا} أبلغ من أن يقول: ولا تزنوا، فإن معناه لا تدنوا من الزنى). والزنى يمد ويقصر، وقوله:{سَبِيلًا} قد نصب على التمييز، والتقدير: وساء سبيله سبيلًا.

قلت: وأول طريق الزنى إطلاق البصر، فإن الاستهتار به يورث ما بعده، والشيطان يزين المعصية ولا يزال بالعبد يوسوس له بعدها، فَيُسَهِّل له اللمس والقبلة حتى يقع في الفاحشة. ومن هنا جاء أمر الله تعالى بغض البصر:

قال تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ} [النور: 30].

ثم جاء تفصيل فساد ذلك الطريق في السنة المطهرة في أحاديث:

الحديث الأول: أخرج الإمام مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[كُتِبَ على ابن آدم نصيبُه من الزِّنا مُدْرِكٌ ذلك لا محالة: فالعينان زناهما النظر، والأذنان زناهما الاستماع، واللسانُ زناه الكلام، واليد زناها البطش، والرِجل زناها الخُطا، والقلب يهوى ويتمنى، ويصدق ذلك الفرج أو يكذبه](1).

الحديث الثاني: أخرج الإمام مسلم في صحيحه عن أبي سعيد، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:[لا ينظر الرجل إلى عورة الرجل، ولا المرأة إلى عورة المرأة، ولا يُفْضي الرجل إلى الرجل في ثوب واحد، ولا تُفضي المرأة إلى المرأة في الثوب الواحد](2).

الحديث الثالث: أخرج الإمام أحمد بسند صحيح عن أبي أمامة قال: [إن فتىً شابًا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، ائذن لي بالزنا. فأقبل القومُ عليه فزجَرُوه، وقالوا: مَهْ مَهْ. فقال: ادنُهْ. فدنا منه قريبًا، فقال: اجْلس. فَجَلس، قال: أَفتُحبُّه لأمّك؟ قال: لا والله، جعلني الله فداك. قال: ولا الناس يحبونه لأمهاتهم. قال: أفتحبُّه لابنتك؟ قال: لا والله يا رسول الله، جعلني الله فداك. قال: ولا الناس يحبونه لبناتهم، قال: أتحبُّه لأختك؟ قال: لا والله، جعلني الله فِداك. قال: ولا الناس يُحبونه لأخواتهم، قال: أفتحبُّه لِعَمَّتِك؟ قال: لا والله، جعلني الله فداك. قال: ولا الناس يحبونه

(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري - نحوه - (11/ 22)، وأخرجه مسلم - واللفظ له - (2657)(21)، وأخرجه أبو داود في السنن - حديث رقم - (2152).

(2)

حديث صحيح. أخرجه مسلم في الصحيح - حديث رقم - (338) - كتاب الحيض- باب تحريم النظر إلى العورات. وفي رواية: عُرْية الرجل وعُرْية المرأة مكان - عورة -. ويقال أيضًا: عِرْية، بالكَسر.

ص: 490

لعماتهم. قال: أفتحبه لخالتِك؟ قال: لا والله، جعلني الله فداك. قال: ولا الناس يحبّونه لخالاتهم. قال: فوضعَ يَده عليه وقال: اللهم، اغفِر ذنبه، وطهِّر قلبه، وحَصِّن فرجه. قال: فلم يكنْ بعد ذلك الفتى يلتفتُ إلى شيء] (1).

وقوله: {وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ} . نهيٌ عن قتل النفس بغير سبب شرعي. قال قتادة: (وإنا والله ما نعلم بحلّ دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث، إلا رجلًا قتل متعمدًا، فعليه القَوَد، أو زَنى بعد إحصانه فعليه الرجم، أو كفر بعد إسلامه فعليه القتل).

وفي التنزيل: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} [النساء: 93].

وفي الصحيحين - واللفظ للبخاري - عن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [لا يَحِلُّ دَمُ امرئٍ مُسْلمٍ يَشْهَدُ أنْ لا إله إلا الله، وأني رسولُ الله إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس، والثيِّبُ الزاني، والمُفارِقُ لدينهِ التارِكُ للجماعة](2).

وفي جامع الترمذي وسنن النسائي عن ابن عمر، رضي الله عنهما، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:[لزوال الدنيا أهون على الله من قتل رجل مسلم](3).

ورواه ابن ماجه من حديث البراء بلفظ: [لزوال الدنيا أهون على الله من قتل مؤمن بغير حق].

وقوله: {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا} . قال ابن جرير: (يقول: فقد جعلنا لولي المقتول ظلمًا سلطانًا على قاتل وليه، فإن شاء استقاد منه فقتله بوليه، وإن شاء عفا عنه، وإن شاء أخذ الدية).

قلت: وقد جاءت السنة الصحيحة بذلك، وحدّدت فيها الدية الشرعية في القتل العمد.

(1) حديث صحيح. أخرجه أحمد في المسند (5/ 257) من حديث أبي أمامة، وقال الهيثمي في "المجمع" (1/ 129): ورجاله رجال الصحيح.

(2)

حديث صحيح. أخرجه البخاري (6878) - كتاب الديات. وأخرجه مسلم (1676) - في القسامة والمحاربين والقصاص والديات. باب ما يباح به دم المسلم.

(3)

حديث صحيح. أخرجه الترمذي في الجامع (1395)، والنسائي في السنن (7/ 82)، وأخرجه ابن ماجه في السنن (2610) من حديث البراء.

ص: 491

فقد أخرج ابن ماجه بسند حسن عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [مَنْ قَتَلَ عَمْدًا، دُفِعَ إلى أولياء القتيل. فإن شاؤوا قَتَلوا، وإنْ شاؤوا أخذوا الدية. وذلك ثلاثون حِقَّةً، وثلاثون جَذَعَةً، وأربعونَ خَلِفَةً. وذلك عَقْلُ العَمْدِ. ما صُولِحوا عليه، فهو لهم. وذلك تشديد العَقْلِ](1).

وقوله: {فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ} - فيه ثلاثة أقوال متكاملة.

1 -

لا يقتل غير قاتله. قاله الضحاك والحسن ومجاهد وسعيد بن جبير.

2 -

لا يقتل بدل وليِّه اثنين كما كانت العرب تفعله. قال مجاهد: (لا يسرف القاتل في القتل). وقال الحسن: (كان الرجل يُقتل فيقول وليه: لا أرضى حتى أقتل به فلانًا وفلانًا من أشراف قبيلته). وقال سعيد بن جبير: (لا تقتل اثنين بواحد).

3 -

لا يُمَثَّل بالقاتل. قال طلق بن حبيب: ({فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ}: لا تقتل غير قاتله، ولا تُمَثِّلْ به). وقال قتادة: (لا تقتل غير قاتلك، ولا تمثِّل به).

وقوله: {إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا} . قال مجاهد: (إن المقتول كان منصورًا). وقيل المراد الولي وهو أقرب للسياق. قال ابن كثير: (أي: إن الولي منصورٌ على القاتل شرعًا، وغالبًا قَدَرًا).

وقوله: {وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} . قال النسفي: (أي: بالخصلة والطريقة التي هي أحسن، وهي حفظه وتثميره).

وفي التنزيل:

1 -

قال تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا} [النساء: 2].

2 -

وقال تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 6].

وفي صحيح مسلم عن أبي ذرٍّ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: [يا أبا ذَرٍّ! إني أراك

(1) حديث حسن. أخرجه ابن ماجه في السنن - حديث رقم - (2626) - كتاب الديات. باب من قتل عمدًا، فرضوا بالدية. والحِقّة من الإبل ما طعن في السنة الرابعة، والجذعة ما طعن في الخامسة، والخَلِفَة: الحامل منها.

ص: 492

ضعيفًا، وإني أحِبُّ لك ما أُحِبُّ لِنَفْسي، لا تأمَّرَنَّ على اثنين، ولا تولَّيَنَّ مال يتيم] (1).

وقوله: {حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ} . قال ابن جرير: (يقول: حتى يبلغ وقت اشتداده في العقل، وتدبير ماله، وصلاح حاله في دينه).

وقوله: {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا} . قال الزجاج: (كل ما أمر الله به ونهى عنه فهو من العهد). وقال القاسمي: ({وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ} أي العقد الذي تعاقدون به الناس في الصلح بين أهل الحرب والإسلام، وفيما بينكم أيضًا. والبيوع والأشربة والإجارات ونحوها {إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا} أي مطلوبًا. يطلب من المعاهد الثبات عليه، وعدم إضاعته. أو: صاحبه مسؤول عن نقضه إياه. والمعنى: لا تنقضوا العهود الجائزة بينكم وبين من عاهدتموهم، فتخفروها وتغدروا بمن أعطيتموه إياها).

وقوله: {وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ} . أي: إذا كلتم للناس فأوفوهم حقوقهم ولا تبخسوهم شيئًا، وزنوا بالميزان المستقيم، وهو العدل الذي لا اعوجاج فيه. قال مجاهد:(القسطاس: العدل بالرومية). وقال الحسن: (القَبَّان).

وقوله: {ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} . قال قتادة: (أي خير ثوابًا وعاقبة). قلت: ولا شك أن الوفاء بالكيل، والوزن بالعدل والقسط، يَعُمّ خيره معاش الناس ومعادهم، فإن الغش والتلاعب في البيوع والتجارة يُفسد نفوس الناس وعلاقاتهم، ويُثقل تبعات ذلك أوزارهم في أخراهم.

وقوله: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} - فيه قولان متقاربان:

1 -

قال ابن عباس: (يقول: لا تقل). وقال قتادة: (لا تقل رأيت ولم تر، وسمعت ولم تسمع، (وعلمت ولم تعلم)، فإن الله تبارك وتعالى سائلك عن ذلك كله).

2 -

قال ابن عباس: (يقول: لا ترم أحدًا بما ليس لك به علم). قال ابن جرير: (وأصل القفو: العضه والبهت. ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: "نحن بنو النَّضْر بن كِنانةَ لا نَقْفو أمَّنا ولا نَنْتفي من أبينا").

وخلاصة المعنى: نهيٌ من الله تعالى عباده عن القول بغير علم، أو الاتباع بالتوهم

(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم في الصحيح (1826) - كتاب الإمارة، باب كراهة الإمارة بغير ضرورة.

ص: 493

والظن والخيال، بل لا بد من الحجة البالغة في صحة الأقوال والأفعال عند التماس الحق أو التحاكم.

وفي التنزيل: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} [الحجرات: 12].

وفي صحيح السنة المطهرة في ذلك أحاديث:

الحديث الأول: أخرج البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: [إياكُم والظَّنَّ، فإن الظَّنَ أكْذَبُ الحديث، ولا تَحَسَّسُوا، ولا تَجَسَّسُوا، ولا تناجَشُوا، ولا تحاسدوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، وكونوا عبادَ الله إخوانًا](1).

الحديث الثاني: أخرج أحمد والبخاري من حديث ابن عباس مرفوعًا: [مَنْ تَحَلَّمَ حلمًا كُلِّفَ يوم القيامة أن يَعْقِدَ بين شعيرتين، وليس بفاعل](2).

الحديث الثالث: أخرج البخاري في صحيحه من حديث ابن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: [إنَّ مِنْ أفرى الفِرى أن يُرِيَ عَيْنَهُ ما لمْ تَرَ](3).

الحديث الرابع: أخرج أبو داود بسند صحيح عن أبي مسعود، قال لأبي عبد الله، أو قال أبو عبد الله لأبي مسعود: ما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في: "زعموا"؟ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: [بِئْسَ مَطِيَّةُ الرَّجُلِ زَعَموا](4).

قال أبو داود: أبو عبد الله هذا: حذيفة.

الحديث الخامس: أخرج ابن ماجه بسند صحيح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [مَنْ تقوَّلَ عَلَيَّ ما لَمْ أَقُلْ فَلْيَتَبَوَّأ مقعده من النار](5).

(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (6066) - كتاب الأدب، وأخرجه مسلم (6563)، وأبو داود (4917)، وأخرجه أحمد في المسند (2/ 465)، وكذلك ابن حبان (5687) من حديث أبي هريرة.

(2)

حديث صحيح. أخرجه البخاري (7042)، وأحمد (1/ 216)، وأبو داود (5024)، بأتم منه.

(3)

حديث صحيح. أخرجه البخاري (7043) - كتاب التعبير، باب من كذبَ في حُلمه.

(4)

حديث صحيح. أخرجه أبو داود في السنن (4972) - في الأدب - باب قول الرجل: "زعموا"، وانظر صحيح سنن أبي داود - حديث رقم - (4158).

(5)

حديث حسن صحيح. أخرجه ابن ماجه (34) - باب التغليظ في تعمد الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم. وانظر صحيح سنن ابن ماجه - حديث رقم - (32)، وتخريج "مشكاة المصابيح"(5940).

ص: 494

الحديث السادس: أخرج ابن ماجه بسند حسن عن أبي قتادة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول، على هذا المنبر:[إياكم وَكَثْرَةَ الحديث عني. فمن قال عليَّ فليقُل حقًّا أو صِدْقًا. ومَنْ تقوَّلَ عليَّ ما لم أقُلْ، فليتبوأ مَقْعَدَهُ من النار](1).

وقوله: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} . قال ابن جرير: (معناه: إن الله سائل هذه الأعضاء عما قال صاحبها، من أنه سمع أو أبصر أو علم، تشهد عليه جوارحه عند ذلك بالحق).

وقوله: {وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا} . أي: متبخترًا متكبرًا متمايلًا كتمايل أهل العُجُب والتجبُّر. وقوله: {إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ} أي: إنك لن تقطع الأرض باختيالك. قال النسفي: (لن تجعل فيها خرقًا بدوسك لها وشدة وطأتك). وقوله: {وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا} . قال قتادة: (يعني بكبرك وموحك). وقال: (لا تمش في الأرض فخرًا وكبرًا، فإن ذلك لا يبلغ بك الجبال، ولا تخرق الأرض بكبرك وفخرك). وقيل: بل المقصود لن تحاذي الجبال قوة.

وفى التنزيل: قول لقمان لابنه: {وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} [لقمان: 18].

وفي السنة المطهرة من آفاق مفهوم هذه الآية أحاديث:

الحديث الأول: أخرج البخاري ومسلم عن حارثة بن وهب قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: [ألا أخبركم بأهل النار؟ كل عُتُلٍّ جوّاظ مستكبر](2).

الحديث الثاني: خرّج مسلم في صحيحه عن عبد الله بن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[لا يدخل الجنة من كان في قلبه مِثقالُ ذرة من كِبر. فقال رجل: إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنًا ونعله حسنة؟ قال: إن الله جميلٌ يحب الجمال، الكبر بطرُ الحق وغمْطُ الناس](3).

الحديث الثالث: أخرج البخاري ومسلم عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:

(1) حديث حسن. أخرجه ابن ماجه في السنن - حديث رقم - (35) - في الباب السابق، وانظر صحيح سنن ابن ماجه - حديث رقم - (33).

(2)

حديث صحيح. أخرجه البخاري (8/ 507 - 508)، (10/ 408)، وأخرجه مسلم (2853).

(3)

حديث صحيح. أخرجه مسلم (91)، وأخرجه أبو داود (4091)، وأخرجه الترمذي (1999).

ص: 495

[بينما رجل يمشي في حلة تُعْجِبُه نفسُه، مُرَجِّلٌ رأسَه، يختال في مِشْيَتهِ، إذ خسف الله به، فهو يتجلجل في الأرض إلى يوم القيامة](1).

الحديث الرابع: أخرج البيهقي بسند حسن عن أنس، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[لو لم تكونوا تذنبون، لخِفت عليكم ما هو أكبر من ذلك، العُجْبَ العجب](2).

وقوله تعالى: {كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا} .

قال ابن كثير: (أما من قرأ "سيئةً"، أي: فاحشة: فمعناه عنده: كُلُّ هذا الذي نهينا، من قوله:{وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ} إلى ها هنا، فهو سيّئة مُؤاخَذ عليها {مَكْرُوهًا} عند الله، لا يحبه ولا يرضاه. وأما من قرأ {سَيِّئُهُ} على الإضافة فمعناه عنده، كُلُّ هذا الذي ذكرناه من قوله:{وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} إلى ها هنا، فسيئه، أي: قبيحه مكروه عند الله، هكذا وجَّه ذلك ابن جرير رحمه الله.

39 -

44. قوله تعالى: {ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا (39) أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِنَاثًا إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيمًا (40) وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُورًا (41) قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا (42) سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا (43) تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (44)}.

في هذه الآيات: إعلامُ الله تعالى نبيّه صلى الله عليه وسلم أَنَّ ما أَمَرَهُ به من تلك الأخلاق الجميلة وما نهاهُ عنه من الصفات الذميمة إنما هو وَحْيٌ ليبلغه الناس، وأنَّ أخطر تلك النعوت السيئة هو الشرك بالله الذي يوقع صاحبه في جهنم ملومًا مدحورًا. وردُّ على مشركي العرب قولهم: الملائكة بنات الله. وأنَّ هذا القرآن مليء بالحجج والعبر والأمثال

(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري في الصحيح (10/ 221)، (10/ 222)، وأخرجه مسلم في صحيحه - حديث رقم - (2088).

(2)

حديث حسن. أخرجه البيهقي من حديث أنس، وابن عدي (164/ 1) وسنده حسن. انظر سلسلة الأحاديث الصحيحة - حديث رقم - (658).

ص: 496

لينزجر الظالمون عن الشرك بالله. إن الله هو الواحد الأحد الذي تسبح له السماوات والأرض ومن فيهن وهو الحليم الغفور.

فقوله: {ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ} . قال المهايمي: (أي من العلم المحكم الذي لا يتغير بشبهة). وقال القاسمي: (أي مما يحكم العقل بصحته، وتصلح النفس بأسوته). قال ابن كثير: (يقول تعالى: هذا الذي أمرناك به من الأخلاق الجميلة، ونَهيناكَ عنه من الصفات الرذيلة، مما أوحيناه إليك يا محمد، لتأمر به الناس).

وقوله: {وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا} . أي: ولا تشرك بالله في عبادتك فتلقى في جهنم ملومًا - تلومك نفسك وعارفوك من الناس - مُبْعدًا مقصيًا في النار. والخطاب للأمة على لسان نبيها المعصوم صلى الله عليه وسلم. قال ابن عباس: ({مَلُومًا مَدْحُورًا} يقول: مطرودًا).

وقوله تعالى: {أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِنَاثًا إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيمًا} .

رَدُّ على مشركي العرب في قولهم: الملائكة بنات الله. قال ابن جرير: (يقول: أفخصكم ربكم بالذكور من الأولاد {وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِنَاثًا} وأنتم لا ترضونهن لأنفسكم، بل تئدونهن، وتقتلونهن، فجعلتم لله ما لا ترضونه لأنفسكم). قال القاسمي: ({إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيمًا} أي بإضافة الأولاد إليه، وهي خاصة المحدثات. ثم بإيثاركم أنفسكم عليه، حيث تجعلون له ما تكرهون).

وقوله تعالى: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُورًا} . أي: ولقد صرفنا للناس في هذا القرآن من العبر والأمثال، والتذكير بالوعد والوعيد، لعلهم يذّكرون تلك الحجج والمواعظ فينزجروا عن تعظيم غير الله والشرك به والافتراء والظلم، ولكن الظالمين لا يزدادون بهذه الذكرى إلا بعدًا عن الحق وكبرًا وكفرًا.

وقوله تعالى: {قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا} .

قال قتادة: (يقول: لو كان معه آلهة إذن لعرفوا فضله ومرتبته ومنزلته عليهم، فابتغوا ما يقرّبهم إليه). قال: (لا تبغوا القُرب إليه، مع أنه ليس كما يقولون). قال ابن جرير: (- يقول -: قل يا محمد لهؤلاء المشركين الذين جعلوا مع الله إلهًا آخر لو كان الأمر كما تقولون، من أن معه آلهة، وليس ذلك كما تقولون، إذن لابتغت تلك الآلهة القُربة من الله ذي العرش العظيم، والتمست الزُّلفة إليه، والمرتبة منه).

ص: 497

وقوله تعالى: {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا} .

قال القرطبي: (نزّه سبحانه نفسه وقدّسه ومجده عما لا يليق به).

وقوله: {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ} . أي تقدّسه السماوات السبع وتمجّده وتعظمه سبحانه، وكذا الأرض، ومن فيهن من سائر المخلوقات، والكل يشهد أنه الرب الواحد الأحد، الإله الحق الصمد.

وقوله: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} . قال قتادة: (كل شيء فيه الروح يسبح، من شجر أو شيء فيه الروح). قلت: بل الحيوانات والنباتات والجمادات كلها تسبح الله العظيم، في لغات لا يعلمها إلا الله السميع العليم.

وفي التنزيل: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ} [النور: 41].

ومن كنوز صحيح السنة في آفاق معنى هذه الآية أحاديث:

الحديث الأول: أخرج البخاري عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: [كنا نسمَعُ تسبيح الطعام وهو يُؤكل](1). وفي رواية: [كنا نأكل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم -الطعام ونحن نسمع تسبيحه].

الحديث الثاني: أخرج مسلم عن جابر بن سَمُرَة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [إني لأعرف حجرًا بمكة كان يسلم عليّ قبل أن أبعث إني لأعرفه الآن](2).

الحديث الثالث: يروي ابن ماجه بسند صحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: [المؤذن يُغْفَرُ له مَدي صوته. ويستغفِرُ له كُلُّ رَطْبٍ ويابِسٍ وشاهدُ الصلاة يُكتب له خمسٌ وعشرون حسنةً، ويُكَفَّرُ له ما بينهما](3).

الحديث الرابع: أخرج البخاري في صحيحه عن مالك عن عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي صَعْصَعَةَ الأنصاري ثم المازني، عن أبيه أنه أخبره أن أبا سعيد الخدري قال له: [إني أراك تُحِبُّ الغنم والبادية، فإذا كنت في غنمِكَ أو

(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (3579)، والترمذي (3633)، وأخرجه ابن حبان (6493).

(2)

حديث صحيح. أخرجه مسلم (2277)، وأحمد (5/ 89)، والترمذي (3624)، وأخرجه الطيالسي (1907)، وأخرجه ابن حبان في صحيحه (6482).

(3)

حسن صحيح. أخرجه ابن ماجه (724) - كتاب الأذان، باب فضل الأذان وثواب المؤذنين.

ص: 498

بادِيَتِكَ فأذَّنْتَ للصلاة فارفع صوتك بالنداء، فإنه لا يسمع مدى صوتِ المؤذِّن جِنٌّ ولا إِنْسٌ ولا شيءٌ إلا شهد له يوم القيامة. قال أبو سعيد: سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم] (1).

ورواه ابن ماجه بلفظ: [إذا كنت في البوادي، فارفع صوتك بالأذان. فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا يَسْمَعُه جِنٌّ ولا إِنْسٌ ولا شَجَرٌ ولا حَجَرٌ إلا شهِدَ له].

الحديث الخامس: أخرج أحمد ورجاله ثقات من حديث عبد الله بن عمرو مرفوعًا: [إن نبيَّ الله نوحًا صلى الله عليه وسلم لما حضرته الوفاة قال لابنه: إني قاص عليك الوصية، آمرك باثنتين وأنهاك عن اثنتين، آمرك بـ "لا إله إلا الله"، فإن السماوات السبع والأرضين السبع لو وضعت في كفة، ووضعت لا إله إلا الله في كفة، رجحت بهن لا إله إلا الله، ولو أن السماوات السبع والأرضين السبع كنَّ حَلقة مبهمة قصمتهن لا إله إلا الله. وسبحان الله وبحمده، فإنها صلاة كل شيء، وبها يرزق الخلق. وأنهاك عن الشرك والكبر] الحديث (2).

وقوله: {إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} أي: يحلم على عباده فلا يعاجل العصاة منهم بالعقوبة، بل يؤجلهم ويُنْظرهم ويفسح لهم وقتًا للتوبة، فإن تابوا غفر لهم.

45 -

48. قوله تعالى: {وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا (45) وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا (46) نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا (47) انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا (48)}.

في هذه الآيات: مكرُ الله تعالى بالمشركين بجعل المانع الحائل بين القرآن وقلوبهم وآذانهم مقابل تكذيبهم واتهامهم النبي صلى الله عليه وسلم بالرجل المسحور، فلا يهتدون سبيلًا.

(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (609) - كتاب الأذان. باب رفع الصوت بالنداء. وانظر صحيح سنن ابن ماجه (591) - كتاب الأذان والسّنة فيها، الباب السابق.

(2)

حديث صحيح. أخرجه أحمد (2/ 169 - 170)، والبخاري في "الأدب المفرد"(548)، وأخرجه البيهقي في "الأسماء"(79)، وانظر سلسلة الأحاديث الصحيحة (134).

ص: 499

فعن قتادة: (قوله: {وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا} قال: الحجاب المستور أكنة على قلوبهم أن يفقهوه وأن ينتفِعُوا به، أطاعوا الشيطان فاستحوذ عليهم).

والمقصود: أن الله تعالى جعل مانعًا حائلًا بين القرآن والمشركين جزاء استهتارهم بالوحي العظيم. قيل: {حِجَابًا مَسْتُورًا} بمعنى ساتر. وقيل مستورًا عن الأبصار فلا تراه، وهو مع ذلك حجاب بينهم وبين الهدى.

وقوله: {وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ} . {أَكِنَّةً} : جمع كنان، وهو ما ستر الشيء، والمراد ما يغشى القلب. {أَنْ يَفْقَهُوهُ} ، أي: لئلا يفهموا هذا القرآن. قال ابن جرير: (يقول تعالى ذكره: وجعلنا على قلوب هؤلاء الذين لا يؤمنون بالآخرة عند قراءتك عليهم القرآن أكنة، وهي جمع كنان، وذلك ما يتغشَّاها من خذلان الله إياهم عن فهم ما يُتلى عليهم).

وقوله: {وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا} . الوَقر في الأذن: الثقل. قال ابن كثير: (وهو الثِّقلُ الذي يمنعهم من سماع القرآن سماعًا ينفعهم ويهتدون به).

وقوله: {وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا} . أي: إذا عظمت ربك وحده أثناء تلاوتك القرآن - يا محمد - وقلت موحدًا: لا إله إلا الله أدبر المشركون راجعين. قال أبو الجَوْزاء أوْس بن عبد الله: (ليس شيء أطْرَدَ للشيطان من القلب من قول لا إله إلا الله، ثم تلا: {وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا}. وقال قتادة: (إن المسلمين لما قالوا: "لا إله إلا الله"، أنكر ذلك المشركون، وكبُرت عليهم، وَصَافَّها إبليس وجنودُه، فأبى الله إلا أن يُمْضِيَها وينصرَها ويظهرها على من ناوأَها، إنها كلمة من خاصم بها فَلَج، ومن قاتَلَ بها نُصِرَ، إنما يَعْرِفُها أهل هذه الجزيرة من المسلمين، التي يقطعها الراكب في ليال قلائلَ، ويسير الدهر في فئام من الناس لا يعرفونها ولا يقرّون بها).

وقوله: {نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى} . قال القرطبي: (قيل: الباء زائدة في قوله {بِهِ} أي يستمعونه. وكانوا يستمعون من النبي صلى الله عليه وسلم القرآن ثم ينفرون فيقولون: هو ساحر ومسحور، كما أخبر الله تعالى به عنهم، قاله قتادة وغيره. {وَإِذْ هُمْ نَجْوَى} أي متناجون في أمرك). قال مجاهد: (هي مثل قيل الوليد بن المغيرة

ص: 500

ومن معه في دار الندوة). وقال قتادة: (ونجواهم أن زعموا أنه مجنون، وأنه ساحر، وقالوا: أساطير الأولين).

وقوله: {إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا} . أي: إذ يقول الظالمون أمثال أبي جهل والوليد بن المغيرة للناس: إن تتبعون إلا رجلًا مَطْبوبًا قد خبله السحر فاختلط عليه أمره، ومرادهم بذلك تنفير الناس عن النبي صلى الله عليه وسلم.

وقوله تعالى: {انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا} .

قال مجاهد: (مخرجًا، الوليد بن المغيرة وأصحابه). قال القاسمي: (أي: مثلوك بالشاعر والساحر والمجنون {فَضَلُّوا} أي عن الحق والهداية بك {فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا} أي فلا يهتدون لطريق الحق لضلالهم عنه وبعدهم منه. وأن الله قد خذلهم عن إصابته. أو المعنى: فلا يستطيعون سبيلًا إلى طعن يمكن أن يقبله أحد، بل يخبطون بما لا يرتاب في بطلانه أحد. كالمتحير في أمره لا يدري ماذا يصنع).

49 -

52. قوله تعالى: {وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا (49) قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا (50) أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا (51) يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا (52)}.

في هذه الآيات: استهزاء الكافرين بأمر البعث بعد فناء العظام وزوال الأجسام، وتحدّي الله لهم بأنهم لو كانوا حجارة أو حديدًا أو أكبر من ذلك فإنهم مدعُوّون للوقوف بين يديه مع جميع الأنام، ويظنون حين ذلك أنهم ما لبثوا في غرور الدنيا إلا القليل من الأيام.

فقوله: {وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا} . قال ابن عباس: (يقول: غُبارًا). وقال مجاهد: (رفاتًا: ترابًا). قال ابن جرير: (يقول تعالى ذكره مخبرًا عن قيل هؤلاء الذين لا يؤمنون بالآخرة من مشركي قريش، وقالوا بِعَنَتِهم: {أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا} لم نتحطم ولم نتكسَّر بعد مماتنا وبلانا، {وَرُفَاتًا} يعني ترابًا في قبورنا).

وقوله: {أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا} - إنكار منهم للبعث بعد الموت.

ص: 501

وفي التنزيل:

1 -

قال تعالى: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} [يس: 78، 79].

2 -

وقال تعالى: {يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ (10) أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا نَخِرَةً (11) قَالُوا تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ} [النازعات: 10 - 12].

وفي سنن الترمذي بسند صحيح عن أبي هريرة، وعن أبي سعيد قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [يؤتى بالعبد يوم القيامة فيقول لَهْ: ألم أجعلْ لك سمعًا وبصرًا، ومالًا وولَدًا، وسَخَّرْتُ لك الأنعامَ والحرثَ، وتركتُكَ ترأسُ وتَرْبَعُ، فكنتَ تَظُنُّ أنكَ مُلاقِيَّ يَوْمَكَ هذا؟ فيقول: لا. فيقول له: اليوم أنساك كما نسيتني](1).

وقوله تعالى: {قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا (50) أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ} .

قال القاسمي: (أي يعظم في نفوسكم عن قبول الحياة ويعظم في زعمكم على الخالق إحياؤه. فإنه يحييكم ولا يعجزه بعثكم. فكيف، إذا كنتم عظامًا مرفوتة وقد كانت موصوفة بالحياة قبل، والشيء أقبل لما عهد فيه مما لم يعهد). وقال مجاهد: (ما شئتم فكونوا، فسيعيدكم الله كما كنتم). وقال الضحاك: (كونوا الموت إن استطعتم، فإن الموت سيموت. وليس شيء أكبر في نفس ابن آدم من الموت).

وقوله: {فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا} . أي: فسيقولون بعد إقامة الحجة عليهم ولزومها بهم: فمن يعيدنا؟ ! {قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} . قال قتادة: ({أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ} قال: السماء والأرض والجبال، {فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} أي خلقكم).

وقوله: {فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ} . قال ابن عباس: (يقول: سيحركونها إليك استهزاء). وقال قتادة: (أي يحركون رؤوسهم تكذيبًا واستهزاء). وأصل النّغض في كلام العرب: حركة بارتفاع ثم انخفاض، أو بالعكس.

وقوله: {وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا} . أي: يقولون لك - يا محمد -

(1) حديث صحيح. أخرجه الترمذي في السنن - حديث رقم - (2558) - أبواب صفة القيامة. وانظر صحيح سنن الترمذي - حديث رقم - (1978).

ص: 502

فمتى البعث الذي تخبرنا عنه، ومتى يعيدنا خلقًا جديدًا! فقل لهم: إن الأمر قد يكون قريبًا، فكل آت قريب.

وقوله: {يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ} . قال ابن عباس: (يقول: بأمره). قال قتادة: (أي بمعرفته وطاعته). قال ابن كثير: (أي: تقومون كلكم إجابة لأمره وطاعة لإرادته). وقال ابن جرير: (معناه: فتستجيبون لله من قبوركم بقدرته، ودعائه إياكم، ولله الحمد في كل حال).

قال القاضي: (استعار لهما الدعاء والاستجابة، للتنبيه على سرعتهما وتيسر أمرهما. وإن المقصود منهما الإحضار للمحاسبة والجزاء).

وفي التنزيل:

1 -

قال تعالى: {وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ} [القمر: 50].

2 -

وقال تعالى: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [النحل: 40].

3 -

وقال تعالى: {فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ (13) فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ} [النازعات: 13، 14].

وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [يقبض الله الأرض يوم القيامة ويطوي السماء بيمينه ثم يقول: أنا الملك أين ملوك الأرض](1).

وقوله: {وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا} . قال قتادة: (أي في الدنيا، تحاقرت الدنيا في أنفسهم وقَلَّت، حين عاينوا يوم القيامة).

وفي التنزيل:

1 -

قال تعالى: {يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا (102) يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا (103) نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا} [طه: 102 - 104].

2 -

وقال تعالى: {قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ (112) قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ (113) قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [المؤمنون: 112 - 114].

3 -

وقال تعالى: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ} [الروم: 55].

(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (4812)، وأخرجه مسلم (2787)، وغيرهما من أهل السنن.

ص: 503

4 -

وقال تعالى: {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا} [النازعات: 46].

وفي سنن الترمذي بسند حسن عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [كيف أنعم وصاحبُ الصور قد التقمه وأصغى سمعه وحنى جبهته ينتظر متى يؤمر بالنفخ؟ فقالوا: يا رسول الله! وما تأمرنا؟ قال: قولوا: حسبنا الله ونعم الوكيل](1).

53 -

57. قوله تعالى: {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا (53) رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا (54) وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا (55) قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا (56) أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا (57)}.

في هذه الآيات: أَمْرُ الله تعالى نبيّه صلى الله عليه وسلم أن يأمر عباده اختيار الكلام الأحسن في مخاطباتهم ومحاوراتهم، وإلا نزغَ الشيطان بينهم وأوقعهم في شباك العداوة والبغضاء والاقتتال. إنّ ربكم أيها الناس أعلم من يستحق الهداية أو الخذلان، وأعلم بمن في السماوات والأرض لا يخفى عليه شيء، وقد فضل بعض النبيين على بعض وآتى داود زبورًا، فلا يُستبعد أن يؤتي محمدًا قرآنًا. إن آلهة المشركين لا تملك كشف الضر عنهم ولا تحويلًا. وكذلك فإن فئة الجن الذين كان بعض الإنس يعبدونهم أسلموا فهم يبتغون مرضاة ربهم ويخافون عذابه - وما زال أولئك الإنس يعبدونهم - وعذاب الله يحذره المؤمنون وسيحيط يومًا بالكافرين.

فقوله تعالى: {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا} . قال الحسن: (التي هي أحسن، لا يقول له مثل قوله، يقول له: يرحمك الله، يغفر الله لك). قال ابن كثير: (يأمر تبارك وتعالى رسوله صلى الله عليه وسلم أن يأمر عباد الله المؤمنين أن يقولوا في مخاطباتهم ومحاوراتهم الكلام الأحسن والكلمة الطيبة،

(1) حديث حسن. انظر تخريج "المشكاة"(5527)، وصحيح سنن الترمذي - حديث رقم - (1980).

ص: 504

فإنه إذا لم يفعلوا ذلك نَزَغَ الشيطان بينهم، وأخرج الكلامَ إلى الفعال، ووقع الشرُّ والمخاصمة والمقاتلة، فإنّ الشيطان عدوٌّ لآدم وذريته من حينَ امتنع من السجود لآدم، فعداوتُهُ ظاهرة بينة، ولهذا نهى أن يشُير الرجلُ إلى أخيه المسلم بحديدة، فإن الشيطان يَنْزَغُ في يده، فربما أصابه بها).

قلت: وقد حفلت النصوص القرآنية والنبوية بآفاق هذه المعاني السامية:

ففي التنزيل:

1 -

قال تعالى: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت: 34].

2 -

وقال تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف: 199].

3 -

وقال تعالى: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ (96) وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ (97) وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ} [المؤمنون: 96 - 98].

وفي صحيح السنة المطهرة:

الحديث الأول: روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [والذي نفسي بيده لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تَحابّوا، أولا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحابَبْتُم؟ أفشوا السلام بينكم](1).

الحديث الثاني: أخرج الطبراني والبيهقي بإسناد حسن عن شقيق قال: [لبّى عبد الله رضي الله عنه على صفا، ثم قال: يا لسان قل خيرًا تغنم، اسكت تسلم، من قبل أن تندم. قالوا: يا أبا عبد الرحمن هذا شيء أنت تقوله أم سمعته؟ قال: لا، بل سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: أكثر خطايا ابن آدم في لسانه](2).

الحديث الثالث: أخرج أحمد والشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال

(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم في صحيحه (54) - كتاب الإيمان.

(2)

حديث حسن. أخرجه الطبراني (3/ 78/ 1 - 2)، والبيهقي كما في "الترغيب"(4/ 8)، وانظر: سلسلة الأحاديث الصحيحة - حديث رقم - (534). وقال الألباني: وهذا إسناد جيد، وهو على شرط مسلم.

ص: 505

رسول الله صلى الله عليه وسلم: [لا يُشيرَنَّ أحدكم إلى أخيه بالسلاح، فإنه لا يَدْري أحدُكم لعلَّ الشيطانَ أن يَنْزغ في يده، فيقع في حفرة من نار](1).

وفي رواية لمسلم: [من أشار إلى أخيه بحديدة، فإن الملائكة تلعنه حتى يَدَعه، وإن كان أخاه لأبيه وأمه].

وقوله تعالى: {رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا} . أي: ربكم أعلم بكم أيها الناس، فمن استحق منكم الهداية وفّقَهُ سبحانه لطاعته، ومن كان قاسي القلب عن الإخبات لربه عز وجل وأصرّ على معصيته خذله عن الهداية وطريق النجاة، وأسْلمه للعذاب، وإنما أنت - يا محمد - نذير ولست عليهم بوكيل. قال ابن جريج:({رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ} قال: فتؤمنوا {أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ}، فتموتوا على الشرك كما أنتم).

وقوله: {وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} . قال القاسمي: (أي فلا يخفى عليه شيء فيهما. فهو أعلم بهؤلاء (2) ضرورة. وفيه إشارة إلى رحمته تعالى ببعثة الرسل، لحاجة الخلق إليها. وإلى مشيئته فيمن يصطفي لرسالته، ويختار لنبوّتِه، ويعلمه أهلًا لها).

وقوله: {وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ} . قال النسفي: (فيه إشارة إلى تفضيل رسول الله صلى الله عليه وسلم). قال ابن جريج: (كلم الله موسى، وأرسل محمدًا إلى الناس كافة). وقال قتادة: (اتخذ الله إبراهيم خليلًا، وكلّم موسى تكليمًا، وجعل الله عيسى كمثل آدم خلقه من تراب، ثم قال له كن فيكون، وهو عبد الله ورسوله، من كلمة الله وروحه، وآتى سليمان مُلكًا لا ينبغي لأحد من بعده، وآتى داود زبورًا، كنا نحدّث دعاء عُلِّمه داود، تحميد وتمجيد، ليس فيه حلال ولا حرام، ولا فرائض ولا حدود، وغفر لمحمد ما تقدّم من ذنبه وما تأخَّر).

وفي التنزيل: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ} [البقرة: 253].

قلت: ولا شك أن محمدًا عليه الصلاة والسلام أفضل الأنبياء والرسل صلوات الله

(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (7072)، ومسلم (2617)، وأحمد (2/ 317)، وابن حبان (5948)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(2)

يعني المشركين من قريش الذين كانوا يعادون رسول الله صلى الله عليه وسلم ويكفرون بالوحي والبعث بعد الموت.

ص: 506

وسلامه عليهم أجمعين، وسيد ولد آدم، وما جاء من النهي عن التفضيل بين الأنبياء - كما في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة مرفوعًا -:[لا تفضلوا بين أنبياء الله. . .] الحديث (1)، فإن المقصود النهي عن التفضيل بينهم بمجرد التشهِّي والعصبية، لا بمقتضى الدليل، وأما ما ثبت من ذلك في التنزيل أو في السنة الصحيحة فإن الأصل في ذلك الاتباع.

وقوله: {وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا} . تنبيه على فضله وشرفه - ذكره ابن كثير. قال القرطبي: (الزبور: كتاب ليس فيه حلال ولا حرام، ولا فرائض ولا حدود، وإنما هو دعاء وتحميد وتمجيد. أي كما آتينا داود الزبور فلا تنكروا أن يؤتى محمد القرآن. وهو في مُحاجّة اليهود).

وقال النسفي: ({وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا} دلالة على وجه تفضيله (2)، وأنه خاتم الأنبياء، وأن أمته خير الأمم، لأن ذلك مكتوب في زبور داود، قال الله تعالى:{وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} . وهم محمد وأمته).

قلت: وكل ما سبق يدخل في مفهوم الآية، فهي تشير إلى فضل نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وأمته، وكذلك إلى فضل داود عليه السلام وتلاوته، وقد روى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[خُفِّفَ على داود القرآنُ، فكان يأمْرُ بِدَابَّتِهِ لِتُسْرَجَ، فكان يقرأ قبل أن يفرُغَ](3) - يعني القرآن.

وقوله تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا (56) أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا} .

روى مسلم في صحيحه عن عبد الله: [{أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ} قال: كان نفر من الإنس يعبدون نفرًا من الجن، فأسلم النفر من الجن

(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم في الصحيح - حديث رقم - (2373) - كتاب الفضائل - باب من فضائل موسى صلى الله عليه وسلم، في أثناء حديث طويل.

(2)

يعني النبي محمدًا عليه الصلاة والسلام.

(3)

حديث صحيح. أخرجه البخاري (4713) - كتاب التفسير. باب قوله: {وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا} .

ص: 507

واستمسك الإنس بعبادتهم، فنزلت:{أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ} ] (1).

ثم ساقه من طريق أخرى إلى ابن مسعود وفيه: (فأسلم الجنيون والإنس الذين كانوا يعبدونهم لا يشعرون، فنزلت).

ورواه الحاكم - على شرط مسلم - وفيه: [فأنزل الله عز وجل: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ} وذكر الآيتين، إلى قوله، {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ}].

قال ابن عباس: (الوسيلة: القربة). وقال قتادة: (الوسيلة: القربة والزلفى).

وخلاصة المعنى كما قال ابن جرير: (يقول تعالى ذكره: هؤلاء الذين يدعوهم هؤلاء المشركون أربابًا {يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ} يقول: يبتغي المدعُوّون أربابًا إلى ربهم القُربة والزُّلفة، لأنهم أهل إيمان به، والمشركون بالله يعبدونهم من دون الله {أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} أيهم بصالح عمله واجتهاده في عبادته أقرب عنده زلفة {وَيَرْجُونَ} بأفعالهم تلك {رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ} بخلافهم أمره {عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ} يا محمد {كَانَ مَحْذُورًا} متقى).

58 -

60. قوله تعالى: {وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا (58) وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا (59) وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَانًا كَبِيرًا (60)}

في هذه الآيات: قضاءُ الله تعالى بإهلاك أهل القرى حالة عتوهم وبغيهم وتمردهم على دينه ورسله، وإنّ كثيرًا من الآيات والمعجزات لا تزيد الظالمين إلا عتوًا وكبرًا. وحضُّ الله نبيّه صلى الله عليه وسلم على المضي في إبلاغ دعوته وهو سبحانه يعصمه من الأذى، وقد

(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم (3030)، وأخرجه البخاري (4715) - كتاب التفسير - عند هذه الآية من سورة الإسراء، وأخرجه الواحدي (682)، وانظر:"الصحيح المسند من أسباب النزول" - الوادعي - سورة الإسراء، آية (56 - 57).

ص: 508

أراه الله ليلة الإسراء عجائب قدرته، وشجرة الزقوم التي هي طعام أهل الشرك الذين يزدادون طغيانًا وعتوًا، وعذاب الله سيحيط بهم قريبًا.

فقوله تعالى: {وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا} . المعنى: يقول جل ذكره: ما من قرية إلا نحن مهلكو أهلها بالفناء - أي الموت - فمبيدوهم استئصالًا قبل يوم القيامة، أو معذبوها ببلاء كقتل بالسيف أو غير من ذلك من صنوف العذاب عذابًا شديدًا. قضاء الله وحكمه وكتابته ذلك في اللوح المحفوظ.

قال قتادة: (قضاء من الله كما تسمعون ليس منه بدّ، إما أن يهلكها بموت، وإما أن يهلكها بعذاب مستأصل إذا تركوا أمره وكذبوا رسله).

وفي التنزيل:

1 -

قال تعالى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا (8) فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا} [الطلاق: 8، 9].

2 -

وقال تعالى: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود: 102].

ومن صحيح السنة في ذلك:

الحديث الأول: أخرج أحمد والحاكم بسند صحيح عن عائشة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[إذا ظَهَرَ السوء في الأرض أنزل الله بأسه بأهل الأرض، وإن كان فيهم قوم صالحون، يصيبهم ما أصابَ الناسَ، ثم يرجعون إلى رحمة الله ومغفرته](1).

الحديث الثاني: أخرج الطبراني بسند صحيح عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[إذا ظهر الزِّنا والرِّبا في قرية، فقد أحلُّوا بأنفسهم عذاب الله](2).

وقوله تعالى: {وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا} .

(1) حديث صحيح. أخرجه أحمد (6/ 41)، والحاكم (4/ 523)، وأخرجه البيهقي في "شعب الإيمان"(2/ 441/ 2)، عن عائشة مرفوعًا. وانظر سلسلة الأحاديث الصحيحة (1372).

(2)

حديث صحيح. أخرجه الطبراني والحاكم عن ابن عباس. انظر صحيح الجامع (692)، وكتابي: أصل الدين والإيمان - (2/ 1210) - لتفصيل مفهوم الآية وعلاقتها بالقدر.

ص: 509

أخرج الإمام أحمد في المسند، والحاكم في المستدرك، ورجاله رجال الصحيح، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال:[سأل أهل مكة النبي صلى الله عليه وسلم أن يجعل لهم الصفا ذهبًا، وأن ينحي الجبال عنهم فيزدرعوا، فقيل له: إن شئت أن تستأني بهم، وإن شئت أن نُؤتيهم الذي سألوا، فإن كفروا أهلكوا كما أهلكتُ مَنْ قبلهم. قال: لا، بل أستأني بهم، فأنزل الله عز وجل هذه الآية: {وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً}](1).

وفي رواية: [قالت قريش للنبي صلى الله عليه وسلم: ادع لنا ربك أن يجعل لنا الصَّفا ذَهَبًا، ونؤمِنُ بك. قال: وتفعلون؟ قالوا: نعم. قال: فدعا، فأتاه جبريل عليه السلام فقال: إنّ ربك يقرأ عليك السلامَ ويقول لك: إن شئت أصبحَ الصفا لهم ذهبًا، فمن كفر منهم بعد ذلك عَذَّبتُهُ عذابًا لا أُعَذِّبهُ أحدًا من العالمين، وإن شئت فتحتُ لهم باب التوبة والرحمة. فقال: بل باب التوبة والرحمة. فأنزل الله عز وجل هذه الآية: {وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا}](2).

وتأويل الآية: أي كما أن معجزة صالح صلى الله عليه وسلم لم تنفع في جلب ثمود إلى الإيمان، فإن المشركين من قريش لن تنفعهم معجزة يعطيها الله لمحمد عليه الصلاة والسلام، قياسًا على عبر التاريخ والزمان، وعلى سنة الأولين مع رسلهم عبر القرون والدهور والأيام.

وعن قتادة: ({وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا}: إن الله يخوف الناس بما يشاء من آياته، لعلهم يعتبرون ويذكرون ويرجعون).

وقوله: {وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ} . قال الحسن: (يقول: أحاط بالناس، عصمك من الناس). وقال: (يقول: أحطت لك بالعرب أن لا يقتلوك، فعرف أنه لا يُقتل). وعن مجاهد: {أَحَاطَ بِالنَّاسِ} قال: فهم في قبضته). وقال قتادة: (أي منعك من الناس حتى تبلغ رسالة ربك).

(1) حديث صحيح. أخرجه النسائي في "التفسير"(310)، وأحمد (1/ 258)، وأخرجه الطبري (2298)، وصححه الحاكم (2/ 362) ووافقه الذهبي، وانظر:"الصحيح المسند من أسباب النزول" - الوادعي - سورة الإسراء، آية (59).

(2)

حديث صحيح. أخرجه أحمد في المسند (1/ 242 - 345)، وإسناده جيد كما ذكر الحافظ ابن كثير، السيرة النبوية (1/ 362)، وانظر كتابي: السيرة النبوية على منهج الوحيين (1/ 258).

ص: 510

والخلاصة: يحض الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم على المضي في إبلاغ دعوته، وله الضمان من الله بالعصمة من أذى الناس ممن أراد به سوءًا وهلاكًا.

وقوله: {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ} .

أخرج البخاري في صحيحه عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما:[{وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ}، قال: هي رؤيا عَيْنٍ أُرِيَها رسول الله صلى الله عليه وسلم -ليلة أسرِيَ به، {وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ}: شجرة الزقوم](1).

قال القاسمي: (قال الأكثرون: يعني ما رآه النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء من الآيات. فلما ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم للناس، أنكر بعضهم ذلك وكذّبوا. وجعل الله ذلك ثباتًا ويقينًا للمخلصين. فكانت فتنة، أي اختبارًا وامتحانًا).

يروي ابن جرير عن ابن عباس وقتادة: (أن أبا جهل قال: زعم صاحبكم هذا - يعني النبي صلوات الله عليه - أن في النار شجرة، والنار تأكل الشجر! فكذبوا بذلك). وفي رواية: (أن أبا جهل قال: أيخوفني بشجر الزقوم؟ ثم دعا بتمر وزبد وجعل يأكل ويقول: تزقموا، فما نعلم الزقوم غير هذا).

قال النسفي: ({وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ} معناه: والشجرة الملعون آكلها وهم الكفرة، لأنه قال: {ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ (51) لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ (52) فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ}. فوصفت بلعن أهلها على المجاز، ولأن العرب تقول لكل طعام مكروه ضار: ملعون، ولأن اللعن هو الإبعاد من الرحمة، وهي في أصل الجحيم في أبعد مكان من الرحمة). وقيل: الملعون بمعنى المؤذي، لأنها تغلي في البطون كغلي الحميم. ومن ثمّ فوصفها بما سبق إما مجاز مرسل أو استعارة.

وفي التنزيل:

1 -

قال تعالى: {أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ (62) إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ (63) إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ (64) طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ} [الصافات: 62 - 65].

قال ابن جريج: (طلعها كأنه رؤوس الشياطين، والشياطين ملعونون).

2 -

وقال تعالى: {إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ (43) طَعَامُ الْأَثِيمِ (44) كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ (45) كَغَلْيِ الْحَمِيمِ} [الدخان: 43 - 46].

(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري في الصحيح (4716) - كتاب التفسير، سورة الإسراء، آية (60).

ص: 511

وفي جامع الترمذي بسند صحيح عن ابن عباس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية:{اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [لو أن قطرة من الزقوم قطرت في دار الدنيا لأفسدت على أهل الأرض معايشَهم، فكيف بمن يكون طعامه! ؟ ](1).

وقوله: {وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَانًا كَبِيرًا} . أي: ونخوف هؤلاء الكفار بالوعيد والعذاب، والشقاء والنكال، وطعام الزقوم الذي هو كالمهل يغلي في البطون، وما يزيدهم هذا التخويف إلا تماديًا في الكفر والضلال، وعنادًا وكبرًا واستهزاءً بما يوصف لهم من سيِّئ الحال والمآل، وذلك من خذلان الله لهم ومكره بهم.

61 -

65. قوله تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا (61) قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا (62) قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا (63) وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا (64) إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا (65)}.

في هذه الآيات: ذِكْرُ الله خبر سجود الملائكة لآدم بأمره، واستكبار إبليس عن ذلك وتَعَهُّده بإغواء الذرية، وتَعَهُّد الله إدخاله وأتباعه في نار جهنم، وإطلاقه في هذه الحياة الدنيا يدعو إلى معصية الله ليستجيب له المبطلون، وينجو بعون الله من كيده المؤمنون.

فقوله تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا} . تذكير من الله تعالى عباده عداوة إبليس القديمة لأبيهم آدم وذريته، ليحذروا من مكر هذا المستكبر اللعين، الذي أظهر الحسد والبغضاء وأبى أن يمتثل أمر الله بالسجود لآدم، وتعزز بخلقة النار، واستوهن خلق الصلصال، وقال:{قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} .

(1) حديث صحيح. أخرجه الترمذي بإسناد صحيح من حديث ابن عباس. انظر تخريج "مشكاة المصابيح"(5683)، وصحيح الجامع الصغير - حديث رقم - (5126).

ص: 512

وقوله تعالى: {قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا} . فيه إظهار إبليس الجراءة والكفر، والرب سبحانه يَحْلُم ويُنْظِر، يقول: أرأيت هذا الذي أمرتني بالسجود له، تكريمًا منك إليه، لئن أخرت إهلاكي إلى يوم القيامة لأستولين على ذريته ولأستميلنهم ولأضلنهم إلا قليلًا منهم. قال مجاهد:({لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا}، قال: لأحتوينهم). وقال ابن عباس: (يقول: لأستولين على ذريته إلا قليلًا). وقال ابن زيد: (لأضِلّنَهُم) - وكلها متقاربة في المعنى متكاملة.

أخرج الحاكم والبيهقي بإسناد صحيح عن أبي سعيد رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:[إن الشيطان قال: وعزتك يا رب لا أبرح أغوي عبادك ما دامت أرواحهم في أجسادهم، فقال الرب تبارك وتعالى: وعزتي وجلالي: لا أزال أغفر لهم ما استغفروني](1).

وقوله تعالى: {قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا} .

قال مجاهد: (موفورًا: وافرًا). وقال ابن جرير: (يقول: ثوابا مكثورًا مكملًا). والمعنى: توعد من الله تعالى أتباع إبليس بالشقاء. قال قتادة: (عذاب جهنم جزاؤهم، ونقمة من الله من أعدائه فلا يعدل عنهم من عذابها شيء).

وقوله: {وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ} - فيه أقوال متكاملة:

1 -

قال مجاهد: (اللعب واللهو). أو قال: (باللهو والغناء). والمعنى: استخفف واستجهل من استطعت منهم بصوت الغناء واللعب لتشغلهم بفاحش القول ومزامير اللهو عن طاعة الله عز وجل. وفي كلام العرب: استفزه: استخفه. والفز الخفيف.

2 -

وقال ابن عباس: (صوته كل داع دعا إلى معصية الله).

3 -

وقال قتادة: ({وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ} قال: بدعائك).

وكلها معان يحتملها التأويل وبيان الآية، ويشمل صوته الوسوسة والغناء الماجن والمزمار.

(1) حديث صحيح. أخرجه الحاكم (4/ 261)، والبيهقي في "الأسماء" ص (134)، وأخرجه أحمد في المسند (3/ 29)، وانظر سلسلة الأحاديث الصحيحة - حديث رقم - (104).

ص: 513

وقوله: {وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ} - فيه أكثر من تأويل:

1 -

قال قتادة: (إن له خيلًا ورجلًا من الجن والإنس، وهم الذين يطيعونه). وقال: (الرجال، المشاة). وقال مجاهد: (كل راكب وماشٍ في معاصي الله تعالى).

2 -

قال ابن عباس: (خيله: كل راكب في معصية الله، ورجله: كل راجل في معصية الله). وقال مجاهد: (ما كان من راكب يقاتل في معصية الله فهو من خيل إبليس، وما كان من راجل في معصية الله فهو من رجال إبليس. الرَّجْل: جمع راجل، كما التَّجْر: جمع تاجر، والصَّحْب: جمع صاحب).

3 -

قال النسفي: ({وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ} اجمع وصح بهم، من الجلبة وهو الصياح {بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ} بكل راكب وماش من أهل العيث). وقال ابن كثير: (يقول: واحمل عليهم بجنودك خَيَّالتهم ورجّالتهم).

وكلها معان متقاربة متكاملة في المعنى، مفادها استفزاز إبليس اللعين بني آدم إلى معصية الله والكفر به وسوء الظن به تعالى.

وفي صحيح مسلم عن عياض بن حمار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: [يقول الله عز وجل: إني خلقت عبادي حُنفاء، فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم، وحرّمت عليهم ما أحللت لهم](1).

وقوله: {وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ} - فيه أقوال متكاملة:

أ - أما الأموال:

1 -

قال مجاهد: (ما أكل من مال بغير طاعة الله). أو قال: (التي أصابوها من غير حلها).

2 -

قال عطاء بن أبي رباح: (الشرك في أموال الربا).

3 -

قال الحسن: (مرهم أن يكسبوها من خبيث، وينفقوها في حرام). وقال: (قد والله شاركهم في أموالهم، وأعطاهم الله أموالًا فأنفقوها في طاعة الشيطان في غير حق الله تبارك اسمه). وقال ابن عباس: (كل مال في معصية الله). وقال ابن زيد: (مشاركته إياهم في الأموال والأولاد، ما زَيَّنَ لهم فيها من معاصي الله حتى ركبوها).

(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم في صحيحه (2865)، وأخرجه أحمد في مسنده (4/ 266)، وغيرهما، من حديث عياض بن حمار مرفوعًا.

ص: 514

4 -

قال ابن عباس: (مشاركته في الأموال أن جعلوا البحيرة والسائبة والوصيلة لغير الله). وقال الضحاك: (يعني ما كانوا يذبحون لآلهتهم). قال ابن جرير: (فكل ما أطيع الشيطان فيه من مال وعصي الله فيه، فقد شارك فاعل ذلك فيه إبليس).

ب - وأما الأولاد:

1 -

قال ابن عباس: ({وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ} قال: أولاد الزنا). وقال الضحاك: (أولاد الزنا، يعني بذلك أهل الشرك).

2 -

قال ابن عباس: (ما قتلوا من أولادهم، وأتوا فيهم الحرام). يعني وأدهم أولادهم وقتلهم.

3 -

قال الحسن: (قد والله شاركهم في أموالهم وأولادهم، فمجسوا وهوّدوا ونصّروا وصبغوا غير صبغة الإسلام وجزؤوا من أموالهم جزءًا للشيطان). وقال قتادة: (قد فعل ذلك، أما في الأولاد فإنهم هوّدوهم ونصّروهم ومجّسُوهم).

4 -

قال أبو صالح، عن ابن عباس:(مشاركته إياهم في الأولاد، سموا عبد الحارث وعبد شمس وعبد فلان).

قال ابن جرير: (وأولى الأقوال بالصواب أن يقال: كلُّ مولود وَلَدته أنثى عُصِيَ الله فيه بتسميته بما يكرهه الله، أو بإدخاله في غير الدين الذي ارتضاه الله. أو بالزنا بأمه، أو بقتله أو وأده، أو غير ذلك من الأمور التي يعصي الله بفعله به أو فيه، فقد دخل في مشاركة إبليس فيه مَنْ وُلِدَ ذلك الولدُ له أو منه).

قلت: ويدخل في ذلك ترك التسمية عند الجماع، والتهاون بمثل هذه الوصايا النبوية.

ففي الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:[لو أنَّ أحدَهم إذا أراد أن يأتي أهله قال: باسم الله، اللهم جَنِّبْنا الشيطان وجَنِّب الشيطان ما رزقتنا، فإنه إن يُقَدَّرْ بينهما ولدٌ في ذلك لم يَضُرَّه الشيطان أبدًا](1).

وقوله: {وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا} . قال النسفي: (وعِدْهم المواعيد

(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (141)، (3271)، ومسلم (1434)، وأحمد (1/ 217)، وأبو داود (2161)، والترمذي (1092)، وابن ماجه (1919)، وأخرجه ابن حبان في صحيحه (983)، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.

ص: 515

الكاذبة من شفاعة الآلهة والكرامة على الله بالأنساب الشريفة، وإيثار العاجل على الآجل ونحو ذلك {وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا} هو تزيين الخطأ بما يوهم أنه صواب).

وفي التنزيل: {وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ} [إبراهيم: 22].

وقوله: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} . قال قتادة: (وعباده المؤمنون، وقال الله في آية أخرى: {إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ} [النحل: 100]).

قال ابن كثير: (إخبارٌ بتأييده تعالى عباده المؤمنين، وحِفْظه إياهم، وحراسته لهم من الشيطان الرجيم، ولهذا قال: {وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا}، أي: حافظًا ومؤيدًا وناصرًا).

وفي التنزيل: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} [الحجر: 42].

ومن كنوز صحيح السُّنَّة في آفاق معنى هذه الآية أحاديث:

الحديث الأول: أخرج الإمام أحمد بسند صحيح عن سبرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[إن الشيطان قعد لابن آدم بأطرقه، فقعد بطريق الإسلام فقال: تُسْلِمُ وتذرُ دينك ودينَ آبائك؟ ! فعصاه فأسلم. ثم قعد له بطريق الهجرة فقال: تُهاجِرُ وتدع أرضك وسماءك. . فعصاه فهاجر. ثم قعد له بطريق الجهاد فقال: تجاهد فهو جهد النفس والمال فتقاتل فَتُقتل فَتُنْكح المرأة ويقسم المال؟ ! فعصاه فجاهد. . .](1).

الحديث الثاني: أخرج الإمام أحمد بسند صحيح من حديث الحارث الأشعري، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [وآمركم أن تذكروا الله تعالى، فإن مثل ذلك كمثل رجل خرج العدو في إثره سراعًا حتى إذا أتى على حصن حصين، فأحرز نفسه منهم، كذلك العبد

(1) حديث صحيح. أخرجه أحمد في المسند (3/ 483)، والنسائي في السنن (6/ 21 - 22)، وابن حبان في صحيحه (4593)، وسنده لا بأس به، وانظر صحيح الجامع الصغير (1648).

ص: 516

لا يَحْرِزُ نفسَهُ من الشيطان إلا بذكر الله تعالى] (1).

الحديث الثالث: أخرج الإمام أحمد في المسند، بسند حسن، عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:[إنّ المؤمن لَيُنْضي شياطينه، كما يُنْضي أحدُكم بعيرَه في السفر](2). يُنْضي، أي: يأخذُ بناصيته ويقهَرُه.

66 -

70. قوله تعالى: {رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (66) وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا (67) أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلًا (68) أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا (69) وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا (70)}.

في هذه الآيات: امتنانُ الله تعالى على عباده تسخيره الفلك لهم تسير في البحر لمنافعهم، وإذا مسّهم الضر أثناء ركوبهم أفردوه تعالى بالدعاء ثم ما لبثوا أن عادوا لشركهم بعدما أنجاهم. فهل أمنتم - أيها الناس - خسفه البرّ بكم أو إعادتكم في ظلمات البحر تعصف بكم الرياح لتهلككم. إنه تعالى هو الذي كَرَّمَكُم وحَمَلَكُم في البر والبحر ورزقكم وفَضَّلكم على كثير من عباده ثم أكثركم يشركون.

فعن ابن عباس: ({رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ} يقول: يجري الفلك). وقال قتادة: (يسيرها في البحر). وقال ابن زيد: (يجريها). قال ابن جرير: ({لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ} لتوصلوا بالركوب فيها إلى أماكن تجاراتكم ومطالبكم ومعايشكم،

(1) حديث صحيح. رواه أحمد في المسند (4/ 202)، ورواه الترمذي في السنن (2867)، (2868) في الأمثال، باب ما جاء في مثل الصيام والصلاة والصدقة. وهو حديث صحيح. وصححه ابن حبان والحاكم وغيرهما.

(2)

إسناده حسن. أخرجه أحمد في المسند (2/ 380) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وانظر سلسلة الأحاديث الصحيحة - حديث رقم - (3586).

ص: 517

وتلتمسون من رزقه {إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} ). قال القاسمي: ({إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} حيث سهل لكم أسباب ذلك).

وقوله تعالى: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا} . أي: إن أصابكم خوف الغرق في البحر والوقوع في الهلاك أفردتم الله تعالى بالتوحيد والدعاء والتعظيم، فإذا ذهب الخوف عدتم إلى العصيان وجحود النعم وأغفلتم شكر المنعم سبحانه.

قال النسفي: (ذهب عن أوهامكم كل ما تدعونه في حوادثكم إلا إياه وحده، فإنكم لا تذكرون سواه، أو ضل من تدعون من الآلهة عن إغاثتكم، ولكن الله وحده الذي ترجونه على الاستثناء المنقطع {فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ} عن الإخلاص بعد الخلاص). قال ابن كثير: ({وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا}، أي: سَجِيَّتُه هذا، يَنْسَى النِّعم ويجحَدُها، إلا من عَصَم الله).

وقوله: {أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ} - يعني ناحية البر. والمقصود: هل ظننتم إن نجاكم من أهوال البحر وأبلغكم البر ثم عدتم إلى كفر نعمه وعصيانه ألا ينتقم منكم ويرسل عليكم الزلازل والخسوف والدمار! ؟ .

وقوله: {أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا} . قال قتادة: (حجارة من السماء). وقال ابن جريج: (مطر الحجارة إذا خرجتم من البحر). وعن مجاهد: (هو المطر الذي فيه حجارة). وأصل الحاصب: الريح تحصب بالحصباء، والحصباء: الأرض فيها الرمل والحصى الصغار.

وفي التنزيل:

1 -

قال تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِبًا إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ} [القمر: 34].

2 -

وقال تعالى: {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ} [الحجر: 74].

3 -

وقال تعالى: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ (16) أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ} [الملك: 16، 17].

وفي صحيح السنة في آفاق ذلك أحاديث:

الحديث الأول: أخرج البخاري في صحيحه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله

ص: 518

- صلى الله عليه وسلم: [لا تقوم الساعة حتى يقبض العلم، وتكثر الزلازل، ويتقارب الزمان، وتظهَر الفتن، ويكثر الهرج - وهو القتل](1).

الحديث الثاني: أخرج الترمذي بسند صحيح من حديث عمران بن حصين، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[في هذه الأمة خَسْفٌ، ومَسْخٌ، وقذْف، إذا ظهرت القِيانُ والمعازِفُ، وشُرِبَتِ الخمورُ](2).

وفي رواية من حديث ابن عمر بلفظ: [في هذه الأمة خسف، ومسخ، وقذفٌ، في أهل القدر].

ورواه الحاكم عن عبد الله بن عمرو بلفظ: [في أمتي خسفٌ ومَسْخٌ وقذف].

ورواه ابن ماجه من طريق عبد الله، عن النبي صلى الله عليه وسلم، بلفظ:[بين يدي الساعة مسخٌ، وخَسْفٌ، وقَذْف].

الحديث الثالث: أخرج الترمذي بسند صحيح عن عائشة مرفوعًا: [يكون في آخر هذه الأمة خَسْفٌ ومسْخٌ وقذْف. قالت: قلت: يا رسول الله! أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: نعم إذا ظهر الخبثُ](3).

ورواه من طريق عمران بن حصين وفيه: (فقال رجل من المسلمين: يا رسول الله ومتى ذاك؟ قال: إذا ظهرت القَيْناتُ والمعازِفُ وشُرِبَت الخمور).

وقوله: {ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلًا} - أي ناصرًا يمنعكم من بأس الله وعذابه، أو ينقذكم من أهواله وآلامه.

وقوله: {أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِمَا كَفَرْتُمْ} . قال ابن عباس: (القاصفُ ريح البحار التي تكسِرُ المراكب وتُغرِقها). أي: أم هل أمنتم أن يعيدكم إلى البحر - بعد أن نجاكم إلى البر - فيرسل عليكم ريحًا شديدة فيغرقكم بها بكفركم. قال القرطبي: (القاصف: الريح الشديدة التي تَكْسر بشدة، من قصف الشيء يَقْصِفُه، أي كسره بشدة. والقصف: الكسر، يقال: قصفت الريح

(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (1036) - كتاب الاستسقاء. باب ما قيل في الزلازل والآيات.

(2)

حديث صحيح. انظر صحيح الترمذي (1801)، وصحيح الجامع (4149)، (4150)، (2853)، وكذلك سلسلة الأحاديث الصحيحة - حديث رقم - (1787).

(3)

حديث صحيح. انظر صحيح سنن الترمذي (1776)، وصحيح الجامع (8012)، وسلسلة الأحاديث الصحيحة - حديث رقم - (987).

ص: 519

السفينة. وريح قاصف: شديدة). وقال ابن كثير: ({فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِنَ الرِّيحِ}، أي: يَقْصِف الصواري (1)، ويُغرق المراكب).

وقوله: {ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا} . قال ابن عباس: (نصيرًا). وقال مجاهد: (نصيرًا ثائرًا). أي يأخذ بثأركم بعدكم. وقال قتادة: (ولا نخاف أحدًا يتبعنا بشيء من ذلك).

وقوله تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا} .

ردٌّ على من قصَرَ تكريم الله الإنسان على العقل، بل العقل جزء من هذا التكريم الشامل. وقد جاء في كلام المفسرين أكثر من تأويل لآفاق هذا التكريم:

التأويل الأول: قيل باليدين يأكل فيهما. قال ابن جُريج: (وفضلناهم في اليدين يأكل بهما، ويعمل بهما، وما سوى الإنس يأكل بغير ذلك).

التأويل الثاني: بتسليط الإنسان على غيره وتسخير الخلق له. قال ابن جرير: (بتسليطنا إياهم على غيرهم من الخلق، وتسخيرنا سائر الخلق لهم. قال: ذكر لنا أن ذلك تمكنهم من العمل بأيديهم، وأخذ الأطعمة والأشربة بها ورفعها بها إلى أفواههم، وذلك غير متيسر لغيرهم من الخلق).

التأويل الثالث: قيل بل التكريم بالنطق والتمييز. قال الضحاك: (كرّمهم بالنطق والتمييز).

التأويل الرابع: قيل بل التكريم بامتداد القامة وانتصابها. قال عطاء: (كرمهم بتعديل القامة وامتدادها).

التأويل الخامس: قيل كرمهم بحسن الصورة. وقيل بل بالكلام والخط. وقيل بل بالفهم والتمييز. ذكره القرطبي.

التأويل السادس: قيل بل كرمهم بجعل محمد صلى الله عليه وسلم منهم. قال محمد بن كعب: (بأن جعل محمدًا صلى الله عليه وسلم منهم).

التأويل السابع: قيل بل أكرم الرجال باللّحى والنساء بالذوائب. ذكره بعض المفسرين.

(1) صواري السفينة: هي الأعمدة التي ينصب عليها الشراع.

ص: 520

التأويل الثامن: قيل بل كرمهم بالعقل وهو عمدة التكليف، وبه يُعرف الله ويُفهم كلامه، ويوصل إلى نعيمه وتصديق رسله. قال القرطبي:(إلا أنه لما لم ينهض بكل المراد من العبد بعثت الرسل وأنزلت الكتب. فمثال الشرع الشمس، ومثال العقل العين، فإذا فتحت وكانت سليمة رأت الشمس وأدركت تفاصيل الأشياء).

ومن المفسرين من جمع بعض هذه الصفات في معنى التكريم، كما أفاد القاسمي رحمه الله حيث قال:({وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ}: أي بالنطق والتمييز والعقل والمعرفة والصورة والتسلط على ما في الأرض والتمتع به، {وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ}: أي يسرنا لهم أسباب المعاش والمعاد بالسير في طلبها فيهما، وتحصيلها {وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ} أي فنون المستلذات التي لم يرزقها غيرهم من المخلوقات {وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا} أي عظيمًا، فحقَّ عليهم أن يشكروا هذه النعم، بأن يعبدوا المتفضل بها وحده ويقيموا شرائعه وحدوده).

وكذلك فيما قاله الإمام النسفي رحمه الله في التفسير: ({وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} بالعقل والنطق والخط، والصورة الحسنة والقامة المعتدلة، وتدبير أمر المعاش والمعاد، والاستيلاء وتسخير الأشياء، وتناول الطعام بالأيدي).

وأشمل من ذلك ما ذكره الإمام القرطبي والحافظ ابن كثير رحمهما الله تعالى. فقد قال القرطبي: (كرّمنا: تضعيف كرم، أي جعلنا لهم كرمًا أي شرفًا وفضلًا. وهذا هو كرم نفي النقصان لا كرم المال. وهذه الكرامة يدخل فيها خلقهم على هذه الهيئة في امتداد القامة وحسن الصورة، وحملهم في البر والبحر مما لا يصح لحيوان سوى بني آدم أن يكون يتحمل بإرادته وقصده وتدبيره. وتخصيصهم بما خصّهم به من المطاعم والمشارب والملابس، وهذا لا يتسع فيه حيوان اتساع بني آدم، لأنهم يكسبون المال خاصة دون الحيوان، ويلبسون الثياب ويأكلون المركّبات من الأطعمة، وغاية كل حيوان يأكل لحمًا نيئًا أو طعامًا غير مركب. قال: {وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ} يعني لذيذ المطاعم والمشارب. قال مقاتل: السمن والعسل والزبد والتمر والحَلْوى، وجعل رزق غيرهم ما لا يخفى عليكم من التبن والعظام وغيرها. {وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا} أي على البهائم والدواب والوحش والطير بالغلبة والاستيلاء، والثواب والجزاء والحفظ والتمييز وإصابة الفِراسة).

وقال الحافظ ابن كثير: (يخبر تعالى على تشريفه لبني آدم وتكريمه إياهم في خلقه

ص: 521

لهم على أحسن الهيئات وأكملها، وكقوله تعالى:{لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} أن يمشي قائمًا منتصبًا على رجليه ويأكل بيديه، وغيره من الحيوانات يمشي على أربع ويأكل بفمه، وجعل لهم سمعًا وبصرًا وفؤادًا يفقه بذلك كله وينتفع به، ويفرق بين الأشياء، ويعرف منافعها وخواصها ومضارها في الأمور الدينية والدنيوية، وحملناهم في البر أي على الدواب من الأنعام والخيل والبغال، وفي البحر أيضًا على السفن الكبار والصغار، ورزقناهم من الطيبات أي من زروع وثمار ولحوم وألبان من سائر أنواع الطعوم والألوان المشتهاة اللذيذة، والمناظر الحسنة، والملابس الرفيعة من سائر الأنواع على اختلاف أصنافها وألوانها وأشكالها مما يصنعونه لأنفسهم ويجلبه إليهم غيرهم من أقطار الأقاليم والنواحي، وفضلناهم على كثير مما خلقنا تفضيلًا أي من سائر الحيوانات وأصناف المخلوقات).

قلت: فالتكريم الذي امتن الله به سبحانه على الإنسان هو: أن خلقه مخلوقًا متكاملًا بيده، ثم نفخ فيه من روحه، وجعل له سمعًا وبصرًا وفؤادًا وعقلًا وهيئة، في أحسن تقويم من فضله، ثم أسجد له ملائكته، وسخَّر له كَوْنًا واسعًا يتذلل له ولطاعته، وهيأ له في الآخرة جنة عرضها السماوات والأرض لتستقبل من قام بأمره.

فلو كان التكريم كما يزعم بعضهم بالعقل فقط للزم أن يكون إبليس مجنونًا، لأنه قال:{قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ} ، ومن قال هذا فليراجع عقله. وللزم كذلك أن من سلبه سبحانه عقله فقد أهانه، كلا - فالكل مُفْتَقِرٌ إلى رحمته، والكل محفوف بما لا يبصر من نعمه، ولا يعْدِل شيء في الدنيا دخولَ جنته، والخلود في ظل رضوانه ونعيمه وكرمه.

خبر النبي صلى الله عليه وسلم أخرجه الإمام أحمد في المسند بسند صحيح عن عتبة بن عبد، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[لو أن رجلًا يُجَرُّ على وجهه من يوم ولد إلى يوم يموت هرمًا في مرضاة الله تعالى لحقِره يوم القيامة](1).

فالكل تحت ألطافه ورحمته سبحانه، والكل محتاج إلى فضله وآلائه.

(1) حديث حسن. أخرجه أحمد (4/ 185)، والبخاري في "التاريخ الكبير"(1/ 1/ 15). ورواه أبو نعيم في "الحلية"(2/ 15). وانظر صحيح الجامع (5125)، وكتابي: أصل الدين والإيمان (1/ 675)، وكتابي: تحصيل السعادتين (94 - 101) لمزيد من تفصيل هذا البحث.

ص: 522

71 -

72. قوله تعالى: {يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا (71) وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا (72)}.

في هذه الآيات: إخبارُ الله تعالى عن توزيع الناس يوم الحشر خلف أئمة منهاجهم ودينهم، فمن أوتي كتابه بيمينه كان من أهل السعادة. ومن كان في الدنيا أعمى عن حجج الله بُعِثَ يوم القيامة أعمى وأضل طريقًا.

فقوله: {يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ} - فيه أكثر من تأويل:

1 -

قال مجاهد: (نبيّهم).

2 -

وقال أبو العالية: (بأعمالهم).

3 -

وقال الضحاك: (بكتابهم).

4 -

وقال الحسن: (بكتابهم الذي فيه أعمالهم).

5 -

وقال ابن عباس: (الإمام ما عمل وأملى، فكتب عليه، فمن بعث متقيًا لله جعل كتابه بيمينه، فقرأه واستبشر، ولم يظلم فتيلًا، وهو مثل قوله: {وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ} [الحجر: 79]. والإمام: ما أملى وعمل).

قلت: والراجح ما اختاره شيخ المفسرين في معنى الإمام - قال ابن جرير: (معنى ذلك: يوم ندعو كل أناس بإمامهم الذي كانوا يقتدون به، ويأتمون به في الدنيا، لأن الأغلب من استعمال العرب الإمام فيما اؤْتُمَّ واقتدي به، وتوجيه معاني كلام الله إلى الأشهر أولى ما لم تثبت حجة بخلافه يجب التسليم لها).

قلت: ويؤيد هذا ما في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا: [يجمع الله الناس يوم القيامة فيقول: مَنْ كان يَعْبُدُ شيئًا فَلْيَتَّبِعْهُ، فيتَّبِعُ مَنْ كان يَعْبُدُ الشَمْسَ الشَّمْسَ، ويَتَّبِعُ من كان يعبُدُ القمرَ القمرَ، ويتبعُ مَنْ كان يعبد الطواغيتَ الطواغيتَ. .] الحديث (1).

وقوله: {فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا} .

(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (7437) - كتاب التوحيد، وأخرجه مسلم (182) - كتاب الإيمان.

ص: 523

قال ابن كثير: (أي: من فرحته وسروره بما فيه من العمل الصالح، يقرؤه ويحبُّ قراءته، كما قال تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ (19) إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ}).

وعن قتادة: ({وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا} قال: الذي في شق النواة). فالفتيل هو الخيط المستطيل المنفتل في شق النواة، أي: والله تعالى لا يظلم عبده ولا ينقصه من ثوابه أدنى شيء.

وقوله تعالى: {وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا} .

قال النسفي: (ولم يذكر الكفار وإيتاء كتبهم بشمالهم اكتفاء بقوله: {وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ} الدنيا {أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى} كذلك {وَأَضَلُّ سَبِيلًا} من الأعمى أي أضل طريقًا).

أي: من كان في الدنيا أعمى عن حجج الله وآياته بعثه الله يوم القيامة أعمى، كما قال:{وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا (125) قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى} [طه: 124 - 126] وكقوله تعالى: {وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ} [الإسراء: 97].

وفي الصحيحين عن أنس رضي الله عنه: [أن رجلًا قال: يا نبي الله! كيف يحشر الكافر على وجهه يوم القيامة؟ قال: أليس الذي أمشاه على الرجلين في الدنيا قادرًا على أن يمشيه على وجهه يوم القيامة](1).

73 -

75. قوله تعالى: {وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا (73) وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا (74) إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا (75)}.

في هذه الآيات: إخبارٌ من الله تعالى عن تأييده رسوله صلى الله عليه وسلم وتثبيته وعصمته من كيد

(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (4760)، ومسلم (2806)، وأحمد (3/ 229)، وابن حبان (7323) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.

ص: 524

المشركين ومحاولات الفجار الماكرين. وأنه تعالى هو حافظه ومؤيده ومظهر دينه.

قال النسفي: (المعنى: إن الشأن قاربوا أن يفتنوك أي يخدعوك فاتنين {عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} من أوامرنا ونواهينا ووعدنا ووعيدنا {لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ} لتقول علينا ما لم نقل، يعني ما اقترحوه من تبديل الوعد وعيدًا والوعيد وعدًا {وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا} أي ولو اتبعت مرادهم لاتخذوك خليلًا، ولكنت لهم وليًا، وخرجت من ولايتي {وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ} ولولا تثبيتنا وعصمتنا {لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ} لقاربت أن تميل إلى مكرهم {شَيْئًا قَلِيلًا} ركونًا قليلًا، وهذا تهييج من الله له وفضل تثبيت {إِذًا} ولو قاربت تركن إليهم أدنى ركنة {لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ} لأذقناك عذاب الآخرة وعذاب القبر مضاعفين لعظيم ذنبك بشرف منزلتك ونبوتك، كما قال: {يَانِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ}، الآية. وأصل الكلام: لأذقناك عذاب الحياة وعذاب الممات، لأن العذاب عذابان: عذاب في الممات وهو عذاب القبر، وعذاب في حياة الآخرة وهو عذاب النار).

76 -

81. قوله تعالى: {وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لَا يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ إِلَّا قَلِيلًا (76) سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا (77) أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا (78) وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا (79) وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا (80) وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا (81)}.

في هذه الآيات: إعلامُ الله تعالى نبيّه صلى الله عليه وسلم أنه إن كاد قومك ليستخفونك من الأرض ليخرجوك منها فليعلموا أنهم إن فعلوا لم يلبثوا بعدك إلا قليلًا. سنة الله في الأمم ورسلها ولا تغيير لسنته تعالى ولا تجد لها تحويلًا. فحافظ على الصلوات المفروضة وبادر إلى قيام الليل، فعسى بذلك أن يُقَوِّيك ربك ويبعثك مقامًا محمودًا. واسأل ربك فرجًا قريبًا ومخرجًا إلى مكان تأمن فيه على دينك وعلى أصحابك، واستبشر بالحق يعلو قريبًا ويزهق الباطل، فإن الباطل كان زهوقًا.

فقوله: {وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا} الآية. قال ابن جرير:

ص: 525

(يقول عز وجل: وإن كاد هؤلاء القوم ليستفزونك من الأرض: يقول: ليستخفونك من الأرض التي أنت بها ليخرجوك منها {وَإِذًا لَا يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ إِلَّا قَلِيلًا} يقول: ولو أخرجوك منها لم يلبثوا بعدك فيها إلا قليلًا، حتى أهلكهم بعذاب عاجل). وقال قتادة: (ولم يلبثوا بعده إلا قليلًا حتى أهلكهم الله يوم البدر).

وقوله تعالى: {سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا} . قال قتادة: (أي سنة الأمم والرسل كانت قبلك كذلك إذا كذبوا رسلهم وأخرجوهم، لم يناظروا أن الله أنزل عليهم عذابه).

وقوله: {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ} - فيه أقوال مختلفة:

1 -

عن عبد الله قال: (هذا دلوك الشمس، وهذا غسق الليل، وأشار إلى المشرق والمغرب).

2 -

قال ابن عباس: (دلوك الشمس: غروبها).

3 -

وفي رواية عنه: (دلوكها: ميلها). أي: ميلها للزوال، والصلاة عند ذلك صلاة الظهر). وقال ابن عباس:(غسق الليل: بدوّ الليل). وقال مجاهد: (غسق الليل: غروب الشمس). وقال الضحاك: (يعني ظلام الليل).

والراجح في ذلك ما قاله ابن جرير: (عنى بقوله: {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ}: صلاة الظهر، وذلك أن الدلوك في كلام العرب: الميل، يقال منه: دلك فلان إلى كذا: إذا مال إليه).

قلت: وعلى هذا فالآية يدخل فيها أوقات الصلوات الخمسة: الظهر من دلوك المثمصس، ثم العصر، والمغرب والعشاء في غسق الليل: أي ظلامه. ثم قوله: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ} ، يعني: صلاة الفجر. قال قتادة: (وقرآن الفجر: صلاة الصبح).

أخرج البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[فَضْلُ صلاةِ الجميع على صلاة الواحد خمسٌ وعشرون درجة، وتجتمع ملائكةُ الليل وملائكة النهار في صلاة الفجر. يقول أبو هريرة رضي الله عنه: اقرؤوا إن شئتم: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا}](1).

وفي سنن ابن ماجه بإسناد صحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه: [عن رسول الله صلى الله عليه وسلم

(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (648)، وأخرجه مسلم (649) ح (246)، وغيرهما.

ص: 526

- {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} - قال: تشهده ملائكة الليل والنهار] (1).

وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار، ويجتمعون في صلاة الصبح وفي صلاة العصر، فَيَعْرُج الذين باتوا فيكم فيسألهم ربهم - وهو أعلم بهم -: كيف تركتُم عبادي؟ فيقولون: أتيناهم وهم يصلون، وتركناهم وهم يصلون](2).

وعن قتادة: (وأما قوله {كَانَ مَشْهُودًا} فإنه يقول: ملائكة الليل وملائكة النهار يشهدون تلك الصلاة). وقال: (كنا نحدث أن عندها يجتمع الحرسان من ملائكة الله: حرس الليل وحرسُ النهار).

وقوله: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ} . التهجد هو قيام الليل، وهو ما كان بعد نوم. وقد أمر الله تعالى به رسوله بعد المكتوبات. قال علقمة:(التهجد بعد النوم). وقال الحجاج بن عمرو: (إنما التهجد بعد رقدة).

وفي صحيح مسلم وسنن أبي داود والنسائي عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: [أنه سُئِل: أيُّ الصلاةِ أفضلُ بعد المكتوبة؟ قال: صلاة الليل](3).

وفي سنن أبي داود بإسناد حسن عن عائشة رضي الله عنها قالت: [إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليوقظه الله عز وجل بالليل، فما يجيء السَّحَرُ حتى يَفْرُغَ من حِزْبه](4).

وفي الصحيحين والسنن عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: [يَنْزِلُ ربُّنا تبارك وتعالى كُلَّ ليلةٍ إلى سماء الدنيا، حينَ يبقى ثلثُ الليل الآخِرُ فيقولُ: مَنْ يدعوني فأستجيبَ لهُ؟ مَنْ يسألُني فَأُعْطِيَهُ؟ مَنْ يَسْتَغْفِرُني فأغفِرَ له](5).

وفي تأويل قوله: {نَافِلَةً لَكَ} قولان:

(1) حديث صحيح. أخرجه ابن ماجه (670) - كتاب الصلاة، باب وقت صلاة الفجر، ورواه الترمذي (3135)، والنسائي في "التفسير"(313)، وأحمد في المسند (2/ 474).

(2)

حديث صحيح. أخرجه البخاري (555)، ومسلم (632)، والنسائي (1/ 240)، وأحمد (2/ 486) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(3)

حديث صحيح. أخرجه مسلم (1163)، وأبو داود (2429)، والنسائي (3/ 207)، وأحمد (2/ 303) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(4)

حديث حسن. أخرجه أبو داود (1316) - أبواب قيام الليل. وانظر صحيح سنن أبي داود (1168).

(5)

حديث صحيح. أخرجه البخاري ومسلم بألفاظ متقاربة. انظر مختصر صحيح مسلم - حديث رقم - (1880)، وسنن أبي داود (1315) - أبواب قيام الليل. باب أي الليل أفضل.

ص: 527

1 -

يقول: نفلًا لك عن فرائضك التي فرضتها عليك. قال ابن عباس: (يعني بالنافلة أنها للنبي صلى الله عليه وسلم خاصة، أُمر بقيام الليل وكُتب عليه). وهو أحد قولي الشافعي، واختاره ابن جرير وقال:(وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان الله تعالى قد خصه بما فرض عليه من قيام لله دون سائر أمته).

2 -

قيل: بل المقصود أن قيام الليل نافلة للنبي صلى الله عليه وسلم على الخصوص، فهي نافلة فضل، لأن الله تعالى قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر. قال مجاهد:(النافلة للنبي صلى الله عليه وسلم خاصة من أجل أنه قد غُفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فما عمل من عمل سوى المكتوبة، فهو نافلة من أجل أنه لا يعمل ذلك في كفارة الذنوب، فهي نوافل وزيادة، والناس يعملون ما سوى المكتوبة لذنوبهم في كفارتها، فليست للناس نوافل).

قلت: وكلا المعنيين حق، وتدل عليهما نصوص الكتاب والسنة.

وقوله: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} . قال ابن كثير: (أي: افعل هذا الذي أمرتُك به لِنُقيمك يوم القيامة مقامًا يحمدُك فيه الخلائق كُلُّهم وخالِقهم تبارك وتعالى. وقال ابن جرير: (قال أكثر أهل التأويل: ذلك هو المقام الذي يقومه محمد صلى الله عليه وسلم يوم القيامة للشفاعة للناس، ليريحهم ربُّهم من عظيم ما هم فيه من شدَّة ذلك اليوم).

قلت: وقد جاءت السنة الصحيحة بهذا المعنى في أحاديث:

الحديث الأول: أخرج الإمام أحمد في المسند، وأبو نعيم في "الحلية" بسند حسن في الشواهد، عن أبي هريرة مرفوعًا:[المقامُ المَحْمودُ: الشفاعة](1).

الحديث الثاني: أخرج ابن أبي عاصم في "السنة" - بسند حسن لشواهده - عن داود الأودي، عن أبيه، عن أبي هريرة:[عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا}. قال: الشفاعة](2). وفي رواية غيره: (هو المقام الذي أشفع فيه لأمتي).

الحديث الثالث: أخرج ابن حبان والحاكم بسند صحيح على شرط الشيخين عن كعب بن مالك مرفوعًا: [يُبْعثُ الناسُ يومَ القيامة، فأكونُ أنا وأمتي على تَلٍّ،

(1) حديث حسن. أخرجه أحمد (2/ 478)، وأبو نعيم في "الحلية"(8/ 372)، وانظر سلسلة الأحاديث الصحيحة - حديث رقم - (2369) - تفسير المقام المحمود.

(2)

صحيح لغيره. أخرجه ابن أبي عاصم (784) - كتاب السنة - تحقيق الألباني، وانظر كتاب:"التوحيد" - ابن خزيمة - (ص 198)، وسنن الترمذي (2/ 193)، والمرجع السابق.

ص: 528

ويَكْسوني ربِّي حُلَّةً خَضْراء، ثم يُؤْذنُ لي، فأقولُ ما شاء الله أن أقولَ، فذاك المقامُ المحمودُ] (1).

الحديث الرابع: أخرج الترمذي في السنن، وأحمد في المسند، بسند حسن، عن الطفيل بن أبي، عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:[إذا كان يوم القيامة كنت إمامَ الناس وخطيبهم وصاحب شفاعتهم ولا فخر](2).

الحديث الخامس: أخرج البخاري في صحيحه عن ابن عمر رضي الله عنهما يقولى: [إنّ الناس يعبرون يوم القيامة جُثًا، كل أمة تَتْبَعُ نَبِيَّها، يقولون: يا فلان اشفع، يا فلان اشفع، حتى تنتهي الشفاعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فذلك يوم يبعثُه الله مقامًا محمودًا](3).

الحديث السادس: أخرج البخاري في صحيحه عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: [مَنْ قال حينَ يسمعُ النِّداء: اللهم ربّ هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة، آتِ محمدًا الوسيلة والفضيلة، وابعثْه مَقامًا محمودًا الذي وَعَدْتَهُ، حَلّتْ له شفاعتي يوم القيامة](4).

الحديث السابع: أخرج البخاري في صحيحه عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ما زال الرَّجُلُ يسْأَلُ الناس حتى يأتِيَ يَوْمَ القيامة ليسَ في وجهِهِ مُزْعَةُ لَحْمٍ. وقال: إن الشمس تَدْنو يوم القيامة حتى يَبْلُغَ العَرَقُ نِصْفَ الأُذُنِ، فبينما هم كذلك استغاثوا بآدمَ، ثم بموسى، ثم بمحمّدٍ صلى الله عليه وسلم، وزاد عبد الله بن صالح: حَدَّثني اللَّيْثُ قال: حَدَّثني ابنُ أبي جَعْفَرٍ: "فيَشْفَعُ لِيُقْضى بَيْنَ الخلق، فَيَمْشي حتى يَأخُذَ بِحَلَقَةِ البابِ فيومَئذٍ يَبْعَثُهُ مقامًا مَحْمودًا، يحمدُهُ أهلُ الجَمْعِ كُلُّهُم"](5).

وقد ذكرت أحاديث الشفاعة بتفصيلها في كتابي: أصل الدين والإيمان، عند

(1) أخرجه ابن حبان (6445)، والحاكم (2/ 363)، وأحمد (456)، وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي، وقال الألباني: وهو كما قالا. انظر الصحيحة (2370).

(2)

إسناده حسن. أخرجه أحمد (5/ 137)، والترمذي (2/ 282)، وأخرجه ابن أبي عاصم - كتاب السنة - (787) - تحقيق الألباني.

(3)

حديث صحيح. أخرجه البخاري (4718) - كتاب التفسير - سورة الإسراء - آية 79 - .

(4)

حديث صحيح. أخرجه البخاري (4719) - كتاب التفسير - الباب السابق، ورواه أكثر أهل السنن.

(5)

حديث صحيح. أخرجه البخاري (1474) - (1475)، كتاب الزكاة، باب من سأل الناس تكثُّرًا.

ص: 529

الصحابة والتابعين لهم بإحسان - في بحث الإيمان باليوم الآخر - باب الشفاعة، فلله الحمد والمنة.

وقوله تعالى: {وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا} . قال قتادة: (مدخل صدق: المدينة، ومخرج صدق: مكة). وقال ابن عباس: (كان النبي صلى الله عليه وسلم بمكة ثم أُمِرَ بالهجرة فأنزل الله تبارك وتعالى اسمه: {وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا}). فلقد علم النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا طاقة له بهذا الأمر إلا بسلطان، فسأل الله سلطانًا نصيرًا فأعطاه.

قال الحسن: (كفار أهل مكة لما ائتمروا برسول الله صلى الله عليه وسلم ليقتلوه، أو يطردوه، أو يوثقوه، وأراد الله قتال أهل مكة فأمره أن يخرج إلى المدينة، فهو الذي قال الله: {أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ}). ثم قال في قوله: {وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا} : (يوعده لينزِعَنَّ مُلك فارس وعز فارس، وليجعلنه له، وعزَّ الروم وملكَ الروم، وليجعلنه له).

وقال قتادة: ({وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا}: وإن نبي الله علم أن لا طاقة له بهذا الأمر إلا بسلطان، فسأل سلطانًا نصيرًا لكتاب الله عز وجل، ولحدود الله، ولفرائض الله، ولإقامة دين الله، وإن السلطان رحمة من الله جعلها بين أظهر عباده، لولا ذلك لأغار بعضهم على بعض، فأكل شديدهم ضعيفهم).

وفي الأثر عن عمر وعن عثمان: (إن الله ليزَعُ بالسلطان ما لا يَزَعُ بالقرآن). قال ابن كثير: (أي: ليمنعُ بالسلطان عن ارتكاب الفواحشِ والآثام ما لا يمتنع كثيرٌ من الناس بالقرآن وما فيه من الوعيد الأكيد والتهديد الشديد، وهذا هو الواقع).

وقوله تعالى: {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} . قال قتادة: (الحق: القرآن. {وَزَهَقَ الْبَاطِلُ} قال: هلك الباطل وهو الشيطان). وقال ابن جريج: ({وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ} قال: دنا القتال {وَزَهَقَ الْبَاطِلُ} قال: الشرك وما هم فيه).

والآية: تهديد ووعيد لكفار قريش بأن يوم نصر الحق قد اقترب، وفيه يكون اندحار باطلهم وشركهم، شأن الباطل أمام سلطان الحق على مدار الزمان.

وفي التنزيل: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ} [الأنبياء: 18].

وفي صحيح البخاري عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: [دخل النبي صلى الله عليه وسلم مكّة وحول البيت ستون وثلاث مئة نُصُبٍ، فجعل يَطْعَنُها بِعُودٍ في يده، ويقول: {جَاءَ

ص: 530

الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا}، {جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ} [سبأ: 49]] (1).

وله شاهد عند أبي يَعْلى من حديث جابر رضي الله عنه قال: [دخلنا مع النبي صلى الله عليه وسلم مكة، وحول البيت ثلاث مئة وستون صنمًا يُعْبدون من دون الله. فأمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فَأُكِبَّتْ لوجهها، وقال: {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا}](2).

82 -

85. قوله تعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا (82) وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوسًا (83) قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلًا (84) وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا (85)}.

في هذه الآيات: إخبار عن عظمة هذا القرآن وما في آياته ووقعها على قلوب المؤمنين، ونفوس المبتلين، وتعب الحائرين، فهو يُذهب ما في القلوب من أمراض، من شك ونفاق، وشرك وزيغ، وضيق وسوء ظن، ويملؤها بالحكمة والإيمان، ورحيق الاطمئنان، وحسن ظن بالله يوصل إلى مرتبة الإحسان، ولا يزيد الظالمين إلا الحرمان والخسران. إنه إذا أنعم الله على الإنسان استكبر، وإذا مسه الشر جزع، إلا من رحم الله. فَأَخْبِر المشركين - يا محمد - أنّه كُلٌّ يعمل على وجهته وطريقته، والله أعلم بمن هو أهدى طريقًا. ويسألك اليهود عن الروح، فقل: الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلًا.

فقوله: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} الآية. قال قتادة: (إذا سمعه المؤمن انتفع به وحفظه ووعاه {وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ} به {إِلَّا خَسَارًا} أنه لا ينتفع به ولا يحفظه ولا يعيه، وإن الله جعل هذا القرآن شفاء ورحمة للمؤمنين). وقال النسفي: ({وَرَحْمَةٌ}: وتفريج للكروب وتطهير للعيوب وتكفير للذنوب).

(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (2478)، (4720)، ومسلم (1781)، والترمذي (3138)، وأخرجه أحمد في المسند (1/ 377)، وابن حبان في صحيحه (5862).

(2)

إسناده صحيح، ليس فيه إلا عنعنة أبي الزبير، لكن يتأيد بما قبله، فهو صحيح.

ص: 531

وفي التنزيل:

1 -

قال تعالى: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} [فصلت: 44].

2 -

وقال تعالى: {وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ} [التوبة: 124، 125].

وفي صحيح السنة المطهرة في مفهوم هذه الآية أحاديث:

الحديث الأول: أخرج الإمام مسلم في صحيحه، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [إنّ الله يرفع بهذا الكتاب أقوامًا ويضَعُ به آخرين](1).

الحديث الثاني: أخرج البخاري ومسلم عن أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [مثلُ المؤمن الذي يقرأ القرآن مثل الأُتْرُجَّةِ، ريحُها طيب، وطعمها طيب، ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن مثلُ التمرة، لا ريح لها وطعمها حلو، ومثلُ المنافق الذي يقرأ القرآن مثلُ الرَّيْحانَةِ، ريحها طيب وطعمها مُرٌّ، ومثل المنافق الذي لا يقرأ القرآن كمثل الحنظلة، ليس لها ريح وطعمها مرٌّ](2).

الحديث الثالث: أخرج أحمد والشيخان عن أبي مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [الآيتان من آخر سورة البقرة من قرأ بهما في ليلة كفتاه](3).

وقوله: {وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ} . قال مجاهد: (تباعد منا). قال ابن جرير: (يقول تبارك وتعالى: وإذا أنعمنا على الإنسان، فنجيناه من كرب ما هو فيه في البحر، وهو ما قد أشرف فيه عليه من الهلاك بعصوف الريح عليه إلى البرّ، وغير ذلك من نعمنا، أعرض عن ذكرنا، وقد كان بنا مستغيثًا دون كلّ أحد سوانا في حال الشدّة

(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم في صحيحه - حديث رقم - (817) - كتاب صلاة المسافرين، باب فضل من يقوم بالقرآن ويعلمه، وفضل من تعلم حكمة من فقه أو غيره فعمل بها وعلمها. ورواه ابن ماجه في السنن - حديث رقم - (218).

(2)

حديث صحيح. أخرجه البخاري في الصحيح - حديث رقم - (5427)، (7560)، وأخرجه مسلم (797) - في الكتاب السابق - باب فضيلة حافظ القرآن. ورواه أحمد وأصحاب السنن بألفاظ متقاربة. انظر صحيح الجامع (5715) - (5716).

(3)

حديث صحيح. أخرجه البخاري (5009)، ومسلم (807)، وأخرجه أحمد في المسند (4/ 121).

ص: 532

التي كان فيها {وَنَأَى بِجَانِبِهِ} يقول: وبعد منا بجانبه يعني نفسه، كأن لمْ يدعنا إلى ضرٍّ مسّه قبل ذلك).

وقوله: {وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوسًا} . قال ابن عباس: (يقول: قنوطًا). وقال قتادة: (يقول: إذا مسه الشرّ أيسِ وقَنِط).

وفي التنزيل:

1 -

قال تعالى: {وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ (9) وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ (10) إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} [هود: 9 - 11].

2 -

وقال تعالى: {وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [يونس: 12].

3 -

وقال تعالى: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا} [الإسراء: 67].

يروي الطبراني ورجاله ثقات عن ابن عباس: [أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الكبائر؟ فقال: الشرك بالله، واليأس من رَوْح الله، والأمْنُ من مكر الله](1).

وله شاهد أخرجه عبد الرزاق في "المصنف" عن ابن مسعود قال: [أكبر الكبائر: الإشراك بالله، والأمن من مكر الله، والقنوط من رحمة الله، واليأسُ من رَوْح الله].

وقوله: {قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ} - فيه أقوال متقاربة.

قال ابن عباس: (على ناحيته). وقال مجاهد: (على حِدَتِهِ وطبيعته). وقال قتادة: (على نِيَّتِه). وقال ابن زيد: (الشاكلة: الدين). أي: (على دينه). وقال مقاتل: (جِبلته).

وقوله: {فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلًا} . تهديد للمشركين ووعيدٌ لهم. قال القرطبي: (والمعنى: أن كل أحد يعمل على ما يشاكل أصله وأخلاقه التي ألفها، وهذا ذمٌّ للكافر ومدحٌ للمؤمن. {فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلًا} أي بالمؤمن والكافر

(1) إسناده صحيح. أخرجه الطبراني ورجاله ثقات. انظر تحقيق فتح المجيد (422)، وكذلك للشاهد بعده، وانظر تفصيل هذا البحث في كتابي: أصل الدين والإيمان (1/ 492).

ص: 533

وما سيحصل من كل واحد منهم. وقيل: {أَهْدَى سَبِيلًا} أي أسرع قبولًا. وقيل: أحسن دينًا).

وقوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} . أخرج أحمد والشيخان عن إبراهيم بن علقمة عن عبد الله (1) قال: [بَيْنا أنا أمشي مع النبي صلى الله عليه وسلم في خَرِبِ المدينة وهو يتوكأ على عسيب معه فمرّ بِنفر من اليهود فقال بعضهم لبعض: سلوه عن الروح! وقال بعضهم: لا تسألوه، لا يجيء فيه بشيء تكرهونه. فقال بعضهم: لنسألنّه، فقام رجل منهم فقال: يا أبا القاسم ما الروح؟ فسكت، فقلت: إنه يوحى إليه، فقمت، فلما انجلى عنه، فقال: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا}](2). وفي رواية: (لما نزل عليه الوحي قال: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا}).

وأخرج الترمذي والحاكم بسند صحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: [قالت قريش لليهود: أعطونا شيئًا نسأل عنه هذا الرجل! فقالوا: سلوه عن الروح، فنزلت: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا}. قالوا: نحن لم نؤت من العلم إلا قليلًا وقد أوتينا التوراة فيها حكم الله، ومن أوتي التوراة فقد أوتي خيرًا كثيرًا، فنزلت: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا}](3).

والسورة مكية، وقد يكون تكرر النزول بالمدينة، وعلى ذلك يكون الفهم لهذه الأحاديث. والآية تدل على أن الروح من أمر الله مما استأثر به تعالى، وأن علم الناس في ذلك قليل.

86 -

89. قوله تعالى: {وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلًا (86) إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا (87) قُلْ لَئِنِ

(1) هو عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.

(2)

حديث صحيح. أخرجه البخاري (4721)، ومسلم (2794)، وأخرجه الترمذي (3141).

(3)

حديث صحيح. أخرجه الترمذي في الجامع (3139)، وأحمد في المسند (1/ 255)، وأبو يعلى (2501)، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه، وصحح إسناده الألباني في صحيح سنن الترمذي (2510).

ص: 534

اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا (88) وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا (89)}.

في هذه الآيات: ذِكْرُ الله تعالى فضله على نبيّه محمد صلى الله عليه وسلم بهذا الوحي الكريم، وأنه لو اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لعجزوا ولرجعوا صاغرين. والله تعالى يُصَرِّفُ في هذا القرآن من كل مثل لِيَذكَّرَ العباد ويتعظوا فيأبى أكثرهم إلا أن يعيشوا كافرين.

فقوله: {وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} . قال النسفي: (والمعنى: إن شئنا ذهبنا بالقرآن ومحوناه من الصدور والمصاحف فلم نترك له أثرًا). وقال القرطبي: (أي كما قدرنا على إنزاله نقدر على إذهابه حتى ينساه الخلق. ويتصل هذا بقوله: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} أي ولو شئت أن أذهب بذلك القليل لقدرت عليه).

قلت: وذهاب العلم وفشو الجهل ورفع القرآن من الأرض من علامات الساعة، عقوبة من الله للمستهترين.

ففي صحيح سنن ابن ماجه عن حذيفة بن اليمان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [يَدْرُسُ الإسلامُ كما يَدْرُسُ وَشْيُ الثَّوبِ. حتى لا يُدْرَى ما صِيامٌ ولا صلاةٌ ولا نُسُكٌ ولا صدقة. ولَيُسْرى على كتاب الله، عز وجل، في ليلة. فلا يبقى في الأرض منه آية. وتَبْقَى طوائفُ من الناس، الشيخ الكبير والعجوز. يقولون: أدركنا آباءنا على هذه الكلمة: لا إله إلا الله. فنحن نقولها](1).

وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [يتقارب الزمانُ، ويُقبض العلمُ، ويُلقى الشح، وتظهر الفتن، ويكثر الهرج، قيل: وما الهرج؟ قال: القتل](2).

(1) حديث صحيح. أخرجه ابن ماجه في السنن - حديث رقم - (4049)، كتاب الفتن، باب ذهاب القرآن والعلم، وانظر صحيح سنن ابن ماجه - حديث رقم - (3273).

(2)

حديث صحيح. أخرجه مسلم في صحيحه (8/ 59). وانظر مختصر صحيح مسلم - حديث رقم - (1857)، كتاب العلم، باب: في رفع العلم وظهور الجهل. وكذلك - حديث رقم - (1856) من الكِتاب نفسه. باب: في قبض العلم. ورواه البخاري.

ص: 535

وقوله: {ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلًا} . أي ناصرًا يردّه إليه، ويعيده لك محفوظًا مسطورًا.

وقوله تعالى: {إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا} . أي: إلا أن يرحمك ربك فيرده عليك، أو يحمل المعنى على الاستثناء المنقطع، والتقدير: أي ولكن رحمة من ربك تركته - يا محمد - غير مذهوب به. قال النسفي: (وهذا امتنان من الله تعالى ببقاء القرآن محفوظًا بعد المنة العظيمة في تنزيله وتحفيظه).

وقوله تعالى: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} .

تكذيب من الله تعالى لادعاء الكفار وزعمهم: لو نشاء لقلنا مثل هذا. والمعنى: لو اجتمع فصحاء الجن والإنس وكان بعضهم لبعض عونًا ونصيرًا على أن يأتوا بمثل هذا القرآن، فإنهم لا يستطيعون ذلك، وإن الله تعالى سيخذلهم. قال ابن جريج:(ظهيرًا: معينًا. يقول: لو برزت الجن وأعانهم الإنس فتظاهروا لم يأتوا بمثل هذا القرآن).

وقوله تعالى: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا} . قال ابن جرير: (يقول تعالى ذكره: ولقد بَيَّنا للناس في هذا القرآن من كل مثل، احتجاجًا بذلك كله عليهم، وتذكيرًا لهم، وتنبيهًا على الحق ليتبعوه ويعملوا به {فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا} يقول: فأبى أكثر الناس إلى جحودًا للحقّ، وإنكارًا لحجج الله وأدلته).

90 -

93. قوله تعالى: {وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا (90) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا (91) أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا (92) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا (93)}.

في هذه الآيات: تَنَطُّعُ المشركين في أمر الإيمان، بالمطالبة بالمعجزات والتحكم

ص: 536

بها على مرّ الأيام، وما دفعهم إلى ذلك إلا الكبر والبغي، ورسول الله بشر عليه الصلاة والسلام.

فقوله تعالى: {وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا} .

هو من قيل المشركين للنبي صلى الله عليه وسلم على وجه التنطع. قال قتادة: (أي حتى تَفْجُر لنا من الأرض عيونًا: أي ببلدنا هذا). والينبوع: العينُ الجارية.

وقوله تعالى: {أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا} .

أي: أو يكون لك بستان من نخيل وعنب فتفجر الأنهار خلال النخيل والكروم. قال القاسمي: (وإنما قدموا في عنتهم هذا المقترح، لأنهم كانوا يرِدون بلاد الشام والعراق، ويرون ما فيها من البساتين والأنهار).

وقوله: {أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا} . قال ابن عباس: (يعني قِطعًا). قال ابن كثير: (أي: إنك وعدتنا أن يوم القيامة تَنْشَقُّ السماءُ وتَهِي، وتُدَلَّى أطرافها، فعجّل ذلك في الدنيا، وأسقطها كسَفًا، أي: قطعًا).

وفي التنزيل نحو ذلك:

1 -

قال تعالى: {وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأنفال: 32].

ولكن نبي الرحمة صلى الله عليه وسلم سأل إنظارهم عسى أن يخرج الله من أصلابهم من يعبده لا يشرك به شيئًا.

2 -

وقال تعالى: - عن سؤال قوم شعيب نحو ذلك -: {فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [الشعراء: 187].

فعاقبهم الله تعالى بعذاب يوم الظلة، إنه كان عذاب يوم عظيم.

وقوله: {أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا} - فيه تأويلان:

التأويل الأول: أي: حتى يأتي الله والملائكة كلَّ قبيلة فيعاينونهم، أي قبيلة قبيلة، قال مجاهد:(قبائل على حدتها كلّ قبيلة).

التأويل الثاني: معناه: أن تأتي بالله والملائكة عيانًا نقابلهم مقابلة، فنعاينهم معاينة. قال قتادة:({أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا} نعاينهم معاينة).

ص: 537

قلت: والتأويل الثاني أرجح من الأول، وأليق بكلام العرب، وهو اختيار ابن جرير.

وقوله: {أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ} . قال ابن عباس: (يقول من ذهب).

وقوله: {أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ} أي تصعد في درج السماء.

وقوله: {وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ} . قال قتادة: (أي كتابًا خاصًا نؤمر فيه باتباعك). أي: لن نصدقك في أمر رقيك إلى السماء حتى تنزل لنا كتابًا منشورًا نقرأ فيه أمرنا باتباعك والإيمان بك.

وقوله: {قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا} . قال القاسمي: (أي تنزه ربي عن فعل ما اقترحتموه من المحال وما يناقض حكمته. وما أنا إلا بشر رسول. عَليَّ أن أبلغكم رسالات ربي وأنصح لكم. وقد أتيتكم بما يدل على صدق رسالتي مما أوحاه إليّ. وذلك ما تحدّيتكم بالإتيان بسورة مثله في الهداية والإصلاح. كما أمرني ربي. ولا أقترح عليه، سبحانه، ما لا يجوز أن يكون، أو ما يكون فعله عبثًا، لخلوّه عن الفائدة).

94 -

99. قوله تعالى: {وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا (94) قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا (95) قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (96) وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا (97) ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا (98) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلًا لَا رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلَّا كُفُورًا (99)}.

في هذه الآيات: امتناع الناس عن الإيمان لِكَوْنِ الرسول من البشر، وإنما حملهم على هذا التنطع الكبر والبطر، فإنه لو كان في الأرض ملائكة لناسب إرسال الله إليهم ملكًا مثلهم، والله خبير بعباده بصير بأعمالهم. إنما أمر الهداية والضلال بيد الله، فمن

ص: 538

حرمه الله نور الهداية فقد أخزاه، ومن كفر بالله واليوم الآخر فنار جهنم مأواه، أَوَلَمْ يَرَ الكفار أنَّ خلق السماوات والأرض أكبر من خلقهم وإعادتهم بعد موتهم؟ ! ولكن الظالمين يجحدون، وبقدرة الله يكفرون.

فقوله تعالى: {وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا} . قال ابن كثير: (يقول تعالى: {وَمَا مَنَعَ النَّاسَ} أي: أكثرهم، {أَنْ يُؤْمِنُوا} ويتابعوا الرسل، إلا استعجابُهم من بَعْثَتِه البشر رسلًا).

وفي التنزيل نحو ذلك كثير:

1 -

قال تعالى: {أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا} [يونس: 2].

2 -

وقال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} [التغابن: 6].

3 -

وقال تعالى: - من قول فرعون وملئه -: {أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ} [المؤمنون: 47].

4 -

وقال تعالى: - من قيل الأمم لرسلهم -: {إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ} [إبراهيم: 10].

وقوله تعالى: {قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا} . قال النسفي: (ردّ الله عليهم بقوله: {قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ} على أقدامهم كما يمشي الإنس ولا يطيرون بأجنحتهم إلى السماء فيسمعوا من أهلها ويعلموا ما يجب علمه {مُطْمَئِنِّينَ} حال، أي ساكنين في الأرض قارين {لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا} يعلمهم الخير ويهديهم المراشد).

والخلاصة: إن الله تعالى يبعث الرسل إلى القوم من جنسهم، ليفقهوا عنه ويَفْهموا منه، ولو بعث إلى البشر رسولًا ملَكًا لما حصل ذلك، ولا أمكنهم الأخذ عنه.

وقوله تعالى: {قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا} .

أي: قل - يا محمد - لهؤلاء المتنطعين في اقتراحاتهم: الله تعالى نعم الكافي والحاكم، وهو ذو خبرة وعلم بما يصلح لعباده من التدبير والتصريف، ومن يستحق منهم الهداية أو الضلال.

ص: 539

وقوله: {وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ} .

أي: إن مَنْ ينعم بهداية الله له فلا مُضِلّ له، ومن يَشْقى بضلاله إياه - نتيجة استحقاقه ذلك - فلا هادي له.

وفي صحيح مسلم من حديث ابن عباس رضي الله عنهما: [أن ضِمادًا قدم مكة وكان من أزد شنوءة، وكان يرقي من هذه الريح، فسمع سفهاء من أهل مكة يقولون: إن محمدًا مجنون، فقال: لو أني رأيت هذا الرجل لعل الله يشفيه على يديَّ، قال: فلقيه فقال: يا محمد إني أرقي من هذه الريح، وإن الله يشفي على يدي من شاء فهل لك؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، أما بعد. فقال: أعِدْ علىّ كلماتك هؤلاء، فأعادهن عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات، فقال: لقد سمعت قول الكهنة، وقول السحرة، وقول الشعراء، فما سمعت مثل كلماتك هؤلاء، ولقد بلغن قاموس البحر. فقالما: هات يدك أبايعك على الإسلام، فبايعه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وعلى قومك؟ قال: وعلى قومي. .] الحديث (1).

وقوله: {وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا} . كقوله تعالى: {الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ سَبِيلًا} [الفرقان: 34].

وقوله: {عُمْيًا} أي: لا يبصرون، {وَبُكْمًا} أي: لا ينطقون، {وَصُمًّا} ، يعني: لا يسمعون. وذلك مقابلة لهم بالمثل من أحوالهم التي كانوا عليها في الدنيا تجاه الحق، فقد كانوا بكمًا وعميًا وصمًا عن هذا الوحي العظيم، فحشروا على ذلك أحوج ما يحتاجون إلى تلك الحواس. ثم إن منقلبهم ومصيرهم إلى جهنم.

وفي الصحيحين عن أنس رضي الله عنه: [أن رجلًا قال: يا نبي الله! كيف يحشر الكافر على وجهه يوم القيامة؟ قال: أليس الذي أمشاه على الرجلين في الدنيا قادرًا على أن يمشيه على وجهه يوم القيامة](2).

(1) حديث صحيح. أخرج مسلم في كتاب الجمعة - حديث رقم - (868).

(2)

حديث صحيح. أخرجه البخاري (4760)، ومسلم (2806)، وأحمد (3/ 229)، وابن حبان (7323) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.

ص: 540

وعن ابن عباس: (في قوله: {كُلَّمَا خَبَتْ} قال: سكنت). وقال مجاهد: (طفِئت). وعن قتادة: (قوله: {كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا} يقول: كلما احترقت جلودهم بُدّلوا جلودًا غيرها، ليذوقوا العذاب). وقال الضحاك: (وذلك إسعارُ النار عليهم والتهابها فيهم وتأججها بعد خبوّها، في أجسامهم). أي: كلما سكنت النار عليهم زادها الله لهبًا ووَهجًا وجَمْرًا ليذيقهم العذاب، جزاء بما كانوا يكفرون بوحي الله العظيم، ونبوة رسوله الكريم، ويستبعدون البعث للحساب بعد الموت وفناء الأجساد والعظام مستهزئين. وهو قوله تعالى:{ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا} . وقوله: {وَرُفَاتًا} أي بالية نخرة.

وقوله: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ} .

أي: إن الذي أبدع هذه السموات والأرض وخلقها من العدم قادر على إعادة خلقهم، كما قال تعالى:{لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ} [غافر: 57].

وقوله: {وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلًا لَا رَيْبَ فِيهِ} . قال القرطبي: (والأجل: مدّة قيامهم في الدنيا ثم موتهم). وقال ابن كثير: (أي: جعل لإعادتهم وإقامتهم من قبورهم أجلًا مضروبًا ومدة مقدّرة لا بد من انقضائها، كما قال تعالى: {وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ} [هود: 104]).

وقوله: {فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلَّا كُفُورًا} . قال ابن جرير: (يقول: فأبى الكافرون إلا جحودًا بحقيقة وعيده الذي أوعدهم وتكذيبًا به).

100 -

104. قوله تعالى: {قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفَاقِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ قَتُورًا (100) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَامُوسَى مَسْحُورًا (101) قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَافِرْعَوْنُ مَثْبُورًا (102) فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعًا (103) وَقُلْنَا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُوا

ص: 541

الْأَرْضَ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا (104)}.

في هذه الآيات: إثباتُ الله تعالى بُخْلَ المشركين وإمساكهم عن الإنفاق في سبل الخير. وإمامهم من قبل فرعون الذي كفر بتسع آيات واتهم موسى بالسحر، وحاول محاصرته ومن معه من المؤمنين حتى أغرقه الله وجنوده أهل البغي والشرّ، واستخلف بني إسرائيل من بعدهم في الأرض ليكون الفصل بين الفريقين يوم الحشر.

فقوله: {قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفَاقِ} .

قال ابن عباس: (الفقر). وقال قتادة: (أي خشية الفاقة). والخطاب للمشركين كما قال ابن جرير: (قل يا محمد لهؤلاء المشركين: لو أنتم أيها الناس تملكون خزائن أملاك ربي من الأموال. وعنى بالرحمة في هذا الموضع: المال {إِذًا لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفَاقِ} يقول: إذن لَبَخِلْتُم به، فلم تجودوا بها على غيركم، خشية من الإنفاق والإقتار).

وقوله: {وَكَانَ الْإِنْسَانُ قَتُورًا} . قال ابن عباس: (يقول: بخيلًا). وقال قتادة: (بخيلًا، ممسكًا).

وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: [يَدُ الله ملأى لا يَغيضُها نَفَقَةٌ، سَحَّاءُ الليلَ والنهار. أرأيتم ما أنفق منذُ خلقَ السماوات والأرض؟ فإنه لم يَغِضْ ما في يده](1).

وقوله: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} - فيه أقوال متقاربة:

1 -

قال ابن عباس: (التسع الآيات البينات: يده، وعصاه، ولسانه، والبحر، والطوفان، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم، آيات مفصلات).

2 -

قال محمد بن كعب: (هي اليد، والعصا، والخمس في الأعراف، والطَّمْسَة، والحجر).

3 -

وقال ابن عباس أيضًا ومجاهد وقتادة: (هي يدُه، وعصاه، والسنين، ونقص الثمرات، والطوفان، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم).

(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري في صحيحه - حديث رقم - (7411) - كتاب التوحيد، وانظر كذلك - حديث رقم - (4684)، ورواه مسلم في الصحيح (993).

ص: 542

قلت: وكلها أقوال متكاملة، ودلائل قاطعة على صحة نبوته وصِدْقه فيما أخبر به موسى صلى الله عليه وسلم عمن أرسله إلى فرعون.

وقوله: {فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَامُوسَى مَسْحُورًا} .

أي اسأل يا محمد بني إسرائيل (1) إذ جاءهم موسى وذهب إلى فرعون وأظهر آياته ودعاه للإيمان بالله تعالى فاتهمه فرعون بالسحر.

وقوله: {قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ} .

أي: قال موسى: لقد علمت يا فرعون ما أنزل هؤلاء الآيات إلا خالق السماوات والأرض حُججًا وأدلة على صدق ما جئتك به، وبينات مكشوفات تؤكد صحة قولي، ولكنك معاند جاحد. كما قال تعالى:{وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} [النمل: 14].

وقوله: {وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَافِرْعَوْنُ مَثْبُورًا} . قال ابن عباس: (ملعونًا). أو قال: (يعني: مغلوبًا). وقال مجاهد: (مثبورًا: أي هالكًا). وقال عطية: (مبدّلًا). وقال ابن زيد: (أظنك ليس لك عقل يا فرعون) - أي مخبولًا. وفي لغة العرب: رجل مثبور: أي محبوس عن الخيرات هالك. قال الرازي: (الثبور: الهلاك والخسران).

قلت: فالهالك يشمل كل ما سبق من المعاني والله تعالى أعلم. قال النسفي: (كأنه قال: إن ظننتني مسحورًا فأنا أظنك مثبورًا هالكًا، وظني أصح من ظنك، لأن له أمارة ظاهرة وهي إنكارك ما عرفت صحته ومكابرتك لآيات الله بعد وضوحها، وأما ظنك فكذب بحت).

وقوله تعالى: {فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعًا} .

أي: فأراد فرعون أن يُخرج موسى وقومه من أرض مصر، أو ينفيهم عن ظهر الأرض بالقتل والاستئصال، فاستفزه الله إلى البحر هو وجنوده وحاق به مكره، وكان فيه إغراقه مع قبطه.

قال ابن كثير: (وقوله تعالى: {فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ} ، أي يُجْليَهم منها ويزيلهم عنها، {فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعًا} ، وفي هذا بشارة لمحمد صلى الله عليه وسلم بفتح مكة مع أن

(1) أي بما عندهم من التوراة حول ذلك. قال القاسمي: (فيظهر للمشركين صدقك، ويزداد المؤمن بك طمانينة قلب. لأن الأدلة إذا تظاهرت، كان ذلك أقوى وأثبت).

ص: 543

هذه السورة نزلت قبل الهجرة، وكذلك وقع، فإن أهل مكة هموا بإخراج الرسول منها، كما قال تعالى:{وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لَا يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ إِلَّا قَلِيلًا (76) سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا (77)} [الإسراء: 76، 77]).

وقوله تعالى: {وَقُلْنَا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا} . أي قلنا من بعد فرعون لبني إسرائيل اسكنوا الأرض التي أراد فرعون أن يستفزكم منها فإذا كان يوم القيامة جئنا بكم وبعدوكم جميعًا. قال ابن عباس: (جميعًا). وقال قتادة: (أي جميعًا، أولكم وآخركم). قال النسفي: {جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا} جمعًا مختلطين إياكم وإياهم، ثم نحكم بينكم ونميز بين سعدائكم وأشقيائكم، واللفيف الجماعات من قبائل شتى).

105 -

109. قوله تعالى: {وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (105) وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا (106) قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا (107) وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا (108) وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا (109)}.

في هذه الآيات: ثناءُ الله تعالى على القرآن، وعلى مهمة النبي عليه الصلاة والسلام، وعلى الذين أوتوا العلم الذين يخرون سجدًا عند سماع آيات الرحمان.

فقوله: {وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ} . قال ابن جرير: (يقول تعالى ذكره: وبالحق أنزلنا هذا القرآن، يقول: أنزلناه نأمر فيه بالعدل والإنصاف والأخلاق الجميلة، والأمور المستحسنة الحميدة، وننهى فيه عن الظلم والأمور القبيحة، والأخلاق الردية، والأفعال الذميمة. {وَبِالْحَقِّ نَزَلَ} يقول: وبذلك نزل من عند الله على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم).

وفي التنزيل: {لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ} [النساء: 166].

قال ابن كثير: (أي متضمنًا، علْمَ الله الذي أراد أن يُطْلِعَكُم عليه، من أحكامه وأمره ونهيه).

وفي معجم الطبراني بسند صحيح عن جبير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [أبشروا

ص: 544

أبشروا، أليس تشهدون أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله؟ فإن هذا القرآن سبب طرفه بيد الله وطرفه بأيديكم فتمسكوا به فإنكم لن تهلكوا ولن تضلوا بعده أبدًا] (1).

وقوله: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا} . أي: وما أرسلناك يا محمد إلا مبشرًا برحمة الله ورضوانه وجنته لمن أطاعك، ونذيرًا بسخط الله وغضبه وناره لمن عصاك.

وقوله: {وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ} - فيه قراءتان.

1 -

"فَرَقْناه" - بالتخفيف. قال ابن عباس: (يقول: فصلناه). أي فصلناه من اللوح المحفوظ إلى بيت العِزة من السماء الدنيا، ثم نزل مُفَرّقًا مُنَجّمًا على الوقائعِ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثلاث وعشرين سنة.

2 -

"فَرَّقْناه" - بالتشديد. قرأ بها ابن عباس: أي أنزلناه آية آية، مُبَيَّنًا مُفَسَّرًا. قال ابن عباس:(يقول: أنزل آية آية). وقال: (أنزل القرآن جملة واحدة إلى السماء الدنيا في ليلة القدر، ثم أنزل بعد ذلك في عشرين سنة). وقال ابن زيد: ("وقرآنًا فرَّقناه": فرّقه، لم ينزله جميعه).

وقوله: {لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ} . أي: لتبلغه الناس وتتلوه عليهم على مَهَل.

قال ابن جريج: (في ترتيل). وقال مجاهد: (على تؤدة).

وقوله: {وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا} . أي: شيئًا بعد شيء، حسب الحوادث والمناسبات.

وقولُهُ تعالى: {قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا} . أي - قل يا محمد لكفار قومك الذين يعترضون على هذا الوحي العظيم: وسواء آمنتم به أم كفرتم لا يُغَيِّر شيئًا، فهذا القرآن حق في نفسه، عظيم في شأنه، موصوف في كتب التنزيل، والذين أوتوا العلم من أهل الكتاب المتمسكين بالحق المكتوب عنده إذا يتلى عليهم يخرون تعظيمًا لله ساجدين، شكرًا منهم لله على إدراكهم هذا الرسول الكريم. قال ابن عباس:({يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا} يقول: للوجوه). والأذقان جمع ذَقَن، وهو أسفل الوجه.

وقوله تعالى: {وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا} .

قال ابن جرير: (- أي يقولون - تنزيهًا لربنا مما يضيف إليه المشركون به، ما كان

(1) حديث صحيح. أخرجه الطبراني في "المعجم الكبير"(1/ 77/ 1)، وابن أبي شيبة في "المصنف"(12/ 165)، وأخرجه ابن نصر في "قيام الليل"(74) - انظر سلسلة الأحاديث الصحيحة (713).

ص: 545

وعد ربنا من ثواب وعقاب، إلا مفعولًا حقًا يقينًا، إيمان بالقرآن وتصديق به).

واستدل الشافعي بقوله تعالى: {وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا} الآية، على استحباب هذا الذكر في سجود التلاوة - ذكره السيوطي في "الإكليل".

وفي صحيح مسلم من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: [كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول في سجوده: "سبحانك اللهم وبحمدك، اللهم اغفر لي"](1).

وقوله تعالى: {وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا} .

قال القرطبي: (هذه مبالغة في صفتهم ومدح لهم. وحقّ لكل من توسّم بالعلم وحضل منه شيئًا أن يجري إلى هذه المرتبة، فيخشع عند استماع القرآن ويتواضع ويذل).

وذكر ابن جرير بسنده إلى عبد الأعلى التيمي قوله: (من أوتي من العلم ما لم يبكه لخليق أن لا يكون أوتي علمًا ينفعه، لأن الله نعت العلماء، ثم تلا هذه الآية).

وفي معجم الطبراني بسند صحيح عن أبي الدرداء رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:[أول شيء يرفع من هذه الأمة الخشوع حتى لا ترى فيها خاشعًا](2).

وفي الآية دليل على جواز البكاء في الصلاة من خوف الله تعالى أو بسبب المعاصي والزلل. وفي سنن أبي داود بإسناد صحيح عن مطرف، عن أبيه، قال:[رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي، وفي صدره أزيزٌ كأزيز الرَّحى من البكاء صلى الله عليه وسلم](3).

110 -

111. قوله تعالى: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا (110) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا (111)}.

في هذه الآيات: إثباتُ الأسماء الحسنى لله تعالى ولو كره الكافرون. وحثُّ الله نبيّه

(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم في صحيحه - حديث رقم - (484)، ورواه غيره من أهل السنن.

(2)

حديث صحيح. أخرجه الطبراني في "الكبير" - من حديث أبي الدرداء - انظر صحيح الجامع (2566)، وصحيح الترغيب (1/ 187).

(3)

حديث صحيح. أخرجه أبو داود في السنن - حديث رقم - (904) - في الصلاة - باب البكاء في الصلاة. انظر صحيح سنن أبي داود - حديث رقم - (799).

ص: 546

على التوسط في رفع الصوت بالقرآن لئلا يناله المشركون. وخَتْمُ السورة بتنزيهه تعالى عما يصفه به المبطلون.

قال ابن كثير: (يقول تعالى: {قُلِ} يا محمد، لهؤلاء المشركين المنكرين صفة الرحمة لله عز وجل، المانعين من تسميته بالرحمن: {ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى}، أي: لا فرقَ بين دعائكم له باسم {اللَّهَ} أو باسم {الرَّحْمَنَ}، فإنه ذو الأسماء الحسنى).

وفي التنزيل: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (22) هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (23) هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الحشر: 22 - 24].

وقوله: {وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا} . له سبب للنزول أو أكثر في صحيح السنة:

ففي الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما، قوله تعالى:{وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا} قال: [نزلت ورسول الله صلى الله عليه وسلم مختف بمكة، كان إذا صلى بأصحابه رفع صوته بالقرآن، فإذا سمع المشركون سبُّوا القرآن ومَنْ أنزله ومن جاء به، فقال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ} أي بقراءتك، فيسمع المشركون فيسبوا القرآن، {وَلَا تُخَافِتْ بِهَا} عن أصحابك فلا تسمعهم، {وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا}](1).

وفي صحيح البخاري عن عائشة رضي الله عنها قال: [أنزل ذلك في الدعاء].

وأخرج ابن جرير وابن إسحاق بسند حسن عن ابن عباس قال: [كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا جهر بالقرآن وهو يصلي تفرقوا عنه وأبَوا أن يستمعوا منه، فكان الرجل إذا أراد أن يستمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض ما يتلو وهو يُصلي، استرق السمع دونهم فَرَقًا منهم، فإن رأى أنهم قد عرفوا أنه يستمع ذهَبَ خشيةَ أذاهم فلم يستمع. فإن خفضَ رسول الله صلى الله عليه وسلم صوته لم يسمع الذين يستمعون من قراءته شيئًا، فأنزل الله عز وجل {وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ} فيتفرَّقوا عنك، {وَلَا تُخَافِتْ بِهَا} فلا تُسمع من أراد أن يسمَعَها ممن يسترق

(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (4722)، ومسلم (446)، والترمذي (3146)، والنسائي في "التفسير"(320)، وأحمد (1/ 23)، (1/ 215)، والطبري (22825).

ص: 547

ذلك دونهم، لعله يَرْعَوي إلى بعض ما يسمَع فينتفع به، {وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا} ] (1).

وقوله: {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ} .

تنزيهٌ من الله تعالى لنفسه الكريمة عن النقائص، بعد إثبات صفات الجمال والكمال والأسماء الحسنى. قال ابن جرير:(لأن ربّ الأرباب لا ينبغي أن يكون له ولد. {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ} فيكون عاجزًا ذا حاجة إلى معونة غيره ضعيفًا، ولا يكون إلهًا من يكون محتاجًا إلى معين على ما حاول، ولم يكن منفردًا بالمُلك والسلطان).

وقوله: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ} . قال مجاهد: (لم يُحالف أحدًا، ولا يبتغي نَصْر أحد). وقال ابن كثير: (أي: ليس بذليل فيحتاج إلى أن يكون له وَلِيٌّ أو وزيرٌ أو مُشِيرٌ، بل هو تعالى خالقُ الأشياء وحدَه، لا شريكَ له ومقَدِّرها ومُدَبِّرها بمشيئته وحدَه، لا شريك له).

وقوله: {وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا} . أي: عظِّمه وأَجِلَّه تعظيمًا يليق بجلاله، وإجلالًا يليق بجماله وكماله.

وفي مسند الإمام أحمد وسيرة ابن هشام من حديث عدي بن حاتم - لما قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن فرّ منه - قال: [وجلست بين يديه، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: ما يُفِرُّك! ؟ أَيُفِرُّك أن تقول: لا إله إلا الله، فهل تعلم من إله سوى الله؟ قال: قلت: لا. قال: ثم تكلم ساعة، ثم قال: إنما تَفِرُّ أن يُقال: الله أكبر، وهل تعلم شيئًا أكبرُ من الله؟ قال: قلت: لا. قال: فإن اليهود مغضوب عليهم، وإن النصارى ضالون. قال: فقلت: إني حنيف مسلم. قال: فرأيت وجهَه ينبَسِطُ فرحًا. .] الحديث (2).

تم تفسير سورة الإسراء

بعون الله وتوفيقه، وواسع منِّه وكرمه

° ° °

(1) حسن لشواهده. انظر تفسير ابن جرير الطبري (22830)، والصحيح المسند من أسباب النزول - الوادعي - سورة الإسراء، آية (110).

(2)

أخرجه أحمد (4/ 378) ورجاله ثقات، وانظر سيرة ابن هشام (2/ 578 - 581)، وكتابي: السيرة النبوية - على منهج الوحيين: القرآن والسنة الصحيحة - (3/ 1468 - 1472).

ص: 548