الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
19 - سورة مريم
وهي سورة مكية، وعدد آياتها (98).
أخرج الإمام أحمد في المسند بإسناد صحيح عن أم سلمة رضي الله عنها -في قصة الهجرة إلى أرض الحبشة من مكة-[فقال له النجاشي -أي لجعفر بن أبي طالب رضي الله عنه: هل معك مما جاء به عن الله من شيء؟ قالت: فقال له جعفر: نعم. فقال له النجاشي: فاقرأهُ عليّ. فقرأ عليه صَدْرًا من كهيعص. قالت: فبكى واللهِ النجاشي حتى أخْضلَ لحيتَهُ، وبكت أساقفَتُهُ حتى أخضلوا مصاحفهم حين سمعوا ما تلا عليهم. ثم قال النجاشي: إنَّ هذا والذي جاء به موسى ليخرج من مشكاة واحدة](1).
موضوع السورة
قصة مريم وابنها عيسى عليهما السلام، وخبر الأنبياء والرسل الكرام، ومصير المكذبين، ومستقر المتقين.
-
منهاج السورة
-
1 -
مناجاة زكريا ربه يشكو إليه الضعف ويسأله الوريث لحمل الأمانة ومنهاج النبوة.
2 -
نزول البشارة على زكريا يبشره الله بغلام اسمه يحيى، وتَعَجُّبُه من ذلكَ وقد كبر وامرأتهُ لم تلد، واللهُ على كل شيء قدير.
(1) رواه أحمد (5/ 290)، (1/ 202 - 292) بسند صحيح عن زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصححه أحمد شاكر في التعليق على المسند، حديث رقم (1740)، وانظر كتابي: السيرة النبوية على منهج الوحيين: القرآن والسنة الصحيحة (1/ 311 - 315).
3 -
سؤال زكريا ربه آية على البشارة، فَحُبِسَ لسانه عن الكلام ثلاث ليالِ إلا رمزًا.
4 -
أمْرُ الله تعالى يحيى حمل الكتاب بقوة، وإنعامهُ تعالى عليهِ بالعلم والفهم والعمل الصالح وبر الوالدين والأمان في المواطن الثلاث: يوم ولد، ويوم يموت، ويوم يبعث حيًّا.
5 -
قصة مريم عليها السلام، وإيجاد الله ولدها - من غير أب - عيسى عليه السلام.
6 -
اعتزال مريم بحملها مكانًا نائيًا، وتحرك المخاض، ومناداة الصبي تحتها، وامتنان الله عليها بالطعام والشَّراب وقرة العين، ونذرها الإمساك عن الكلام.
7 -
مجيء مريم قومها تحملُ وليدها أمام تعجبهم من أمرها، وتكلم الصبي في المهد.
8 -
تبيان الله خبر عيسى على الحقيقة، وتنزيه نفسه تعالى عن الولد، وأن أمرهُ تعالى كن فيكون، ودعوة عيسى قومه إلى التوحيد وإفراد الله بالعبادة والتعظيم.
9 -
ذِكْرُ اختلاف الناس في شأن عيسى عليه السلام، وتوعد الله الكافرين مشهد يوم عظيم.
10 -
ذِكْرُ استماع الكفار وإبصارهم يوم القيامةِ بعد فوات الأوان، وإنذار النبي صلى الله عليه وسلم مشركي قومه يوم التحسر والندم وشدة الزحام، وإخبار الله سبحانه أنه الخالق المتصرف وإليهِ مرجعُ جميع الأنام.
11 -
حوار إبراهيم صلى الله عليه وسلم مع أبيه يدعوه إلى التوحيد وإفراد الله بالعبادة والتعظيم، ويحذره مغبة أتباع منهاج الشيطان الرجيم، ثم اعتزاله قومه وشركهم، ومؤانسة الله لهم بإسحاق ويعقوب في المرسلين.
12 -
ذكر خبر موسى وهارون، وخبر إسماعيل وإدريس، وثناء الله على المرسلين.
13 -
ذكر حال الأشقياء الذين أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات وما ينتظرهم من العذاب، إلا من تدارك نفسه بالتوبة واستغفر ربه وأناب.
14 -
إعلانُ جبريل عليه السلام، أن تَنزُّلَهُ بأمر الله رب السماوات والأرض، وشد عزيمة النبي صلى الله عليه وسلم في الصبر على مشاق الطريق.
15 -
تكذيب الكافر بالبعث والحساب، وقد خلقه الله من العلم ووعدهُ على كفره العذاب، فالنار حق والصراط على جهنم يسقط فيها المجرمون، وينجو بإذن الله المتقون.
16 -
إخبار عن سلوك الكفار حين تُتلى عليهم آيات الرَّحمان، وقد أهلك الله من قبلهم من المستهزئين وكانوا أشد قوة وأصحاب صروح وبنيان، فالله يمهل الكافرين، ويثبت ويهدي المؤمنين.
17 -
تهديد ووعيد لذلك الكافر الذي يزعم أن له عند الله مالًا وولدًا.
18 -
اتخاذ الكافرين آلهة من دون الله سيكفرون بها يوم الدين، والله تعالى يرسل الشياطين تؤز الكافرين.
19 -
نَعْتُ الله حال المتقين كيفَ يردون إليه وفدًا، في حين يساق المجرمون إلى جهنم وردًا، ولا شفيعَ لهم فإن الشفاعة تنال من اتخذ عند الله عهدًا: شهادة أن لا إله إلا الله ينال بها العبد سعادة ومَجدًا. وأما من زعم لله ولدًا فإن السماوات والأرض والجباب تكاد تتمزق لفريته هدًّا. فكل ما في السماوات والأرض يأتي يوم القيامة عبدًا، واللهُ أحصاهم جميعًا وعدّهم عدًا.
20 -
ضمان من الله تعالى لعبادهِ المؤمنين، بجعل المودة لهم في الأرض وحسن الذكر في الصالحين، وهذا القرآنُ بشارة للمتقين، ونذارة للفجار الآثمين.
* * *
بسم الله الرحمن الرحيم
1 -
6. قوله تعالى: {كهيعص (1) ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (2) إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا (3) قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا (4) وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (5) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا (6)}.
في هذه الآيات: إخبارُ الله تعالى عن مناجاة عبده زكريا، يشكو إلى ربه الوهن والضعف والمشيب المنذر بالرحيل، ولا وريث يحمل أمانة هذا الدين، فهو يسأل الله تعالى وريثًا على منهاج النبوة.
فقوله: {كهيعص} - هو على مفهوم الحروف المقطعة السابقة في أوائل السور. ومفاده الإعجاز لهذا الكتاب العظيم، المؤلف من هذه الحروف المعروفة، والتحدي قائم إلى قيام الساعة أن يأتي أحد بمثل هذا النظم الكريم.
وقوله تعالى: {ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا} .
قال ابن كثير: (أي: هذا ذكر رحمة ربكَ بعبده زكريا).
وزكريا عليه الصلاة والسلام هو أحد أنبياء بني إسرائيل، وكان يأكل من عمل يديهِ في النِّجارة. وقد صنّف الإمام مسلم في صحيحه في كتاب الفضائل بابًا سماهُ:"بابُ من فضائل زكرياء، صلى الله عليه وسلم". روى فيهِ عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:[كان زَكَرِيَاءُ نَجَّارًا](1). ورواه ابن ماجه بلفظ: [كانَ زَكريا نَجَّارًا].
وقوله تعالى: {إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا} . قال ابن جريج: (لا يريدُ رياء).
(1) حديث صحيح. أخرج مسلم (2379)، كتاب الفضائل، وأخرجه أحمد (2/ 296 - 405 - 485)، وأخرجه ابن ماجه (2150)، وأبو يعلى (6426).
وقال قتادة: (أي سرًّا، وإن الله يعلم القلب النقي، ويسمع الصوت الخفي).
وقوله تعالى: {قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا} .
قال السدي: (فكان نداؤه الخفي الذي نادى بهِ ربه أن قال: {رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي} يعني بقوله: {وَهَنَ} ضعف ورقَّ من الكبر). وقال مجاهد: (نحَلَ العظم). وقال قتادة: (أي ضعف العظم مني). وقال الثوري: (وبلغني أن زكريا كانَ ابن سبعين سنة).
والمقصود: أنه يشكو إلى الله عز وجل الضعف وقد خارت القوى. {وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا} . قال النسفي: (تمييز، أي فشا في رأسي الشيب، واشتعلت النَّارُ إذا تفرقت في التهابها وصارت شعلًا، فشبه الشيب بشواظ النار في بياضه وانتشاره في الشعر وأخذه منه كل مأخذ باشتعال النار).
وعن ابن جريج: {وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا} يقول: قد كنتُ تعرفني الإجابة فيما مضى).
أي: لم أعهد منكَ ربِّ إلا الإجابةَ في الدعاء، وما خيبتني قط عند الرجاء، بل كنتَ تجيبني وتقضي حاجتي ما سألتك.
وقوله: {وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي} .
الموالي هنا الأقارب وبني العم والعصبة الذين يلونه في النسب. والعرب تسمي بني العم الموالي.
قال مجاهد: (أرادَ بالموالي العصبة). وقال أبو صالح: (الكلالة). وروي عن عثمان بن عفان ومحمد بن علي وعلي بن الحسين: أنهم كانوا يقرؤونها: {وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي} أي: قلت عصباتي من بعدي. ومن ثمَّ قال للآية تأويلان:
التأويل الأول: قال ابن عباس ومجاهد وقتادة: (خاف أن يرثوا مالهُ وأن ترثهُ الكلالة فأشفق أن يرثه غير الولد).
التأويل الثاني: قال الزجاج وغيره: (إنما كان مواليه مهملين للدين فخاف بموته أن يضيع الدين، فطلب وليًا يقوم بالدين بعده).
والراجح التأويل الثاني لثلاثة أسباب:
1 -
الأنبياء أعظم قدرًا ومنزلة من الإشفاق على أموالهم ودنياهم من بعدهم.
2 -
لم يذكر أن زكريا كان كثير المال، بل كان نجارًا يأكلُ من عمل يدهِ.
3 -
لقد ثبتَ في الصحيحين وبعض السنن من حديث أبي بكر مرفوعًا: [إنا معشر الأنبياء لا نورث ما تركنا صدقة](1). وكذلكَ في سنن أبي داود وابن ماجه بسند صحيح من حديث أبي الدرداء مرفوعًا: [وإن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا دينارًا ولا درهمًا، ورثوا العلمَ فمن أخذه أخذ بحظ وافر](2).
وهذا التأويل هو اختيار القرطبي وابن كثير والقاسمي وغيرهم من المفسرين. قال القاسمي: ({وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي} أي الذين يلون أمر رهطي من بعد موتي، لعدم صلاحية أحد منهم لأن يخلفني في القيام بما كنت أقوم به، من الإرشاد ووعظ العباد، وحفظ آداب الدين. والتمسك بهديه المتين).
وقوله: {وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا} . قال ابن جرير: (يقول: وكانت امرأتي لا تلد).
وقوله: {فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا} . أي: فارزقني من عندكَ ولدًا يكون لي وارثًا ومعينًا.
وقوله: {يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ} . قال الحسن: (نبوّته وعلمه). وقال السدي: (يرث نبوته ونبوة آل يعقوب). وقال مجاهد: (كان وراثته عِلْمًا، وكان زكريا من ذرية يعقوب).
وقال أبو صالح: (يكون نبيًّا، كما كانت آباؤه أنبياء).
وقوله: {وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا} . أي: مرضيًا في أخلاقه وأفعاله، راضيًا بقضائكَ وقدرك، تحبّهُ وتحبّبه إلى خلقك.
7 -
11. قوله تعالى: {يَازَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا (7) قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا (8) قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ
(1) حديث صحيح. أخرجهُ البخاري (2904)، (4885) ومسلم (1757) وأبو داود (2963)، وأحمد (1/ 25)، وابن حبان (6608) من حديث عمر، وفي الباب عن أبي بكر وعائشة وغيرهم.
(2)
حديث صحيح. أخرجه أبو داود (3641)، كتاب العلم، باب فضل العلم، وكذلكَ ابن ماجة في السنن (223)، وانظر صحيح سنن أبي داود - حديث رقم- (3096).
تَكُ شَيْئًا (9) قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا (10) فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (11)}.
في هذه الآيات: نزولُ البشارة من الله على زكريا بغلام يولد له اسمه يحيى يُفرد بتسميته. وتعجب زكريا من حصول ذلكَ وامرأتهُ لم تلد وقد كبر هو وعَسَا عَظْمُه ونحُل. وتثبيتُ الله إياه بذكر عجائب قدرته في خلقه قبل يحيى وقد كان عدمًا. وسؤال زكريا ربه آية على البشارة فقال آيتك أن يُحْبسَ لسانُكَ عن الكلام ثلاث ليال وأنتَ صحيح سوي. فخرج على قومهِ فأشار إليهم أن سبحوا بكرة وعشيًّا.
فقوله: {يَازَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى} - فيه إجابةُ الله تعالى ذلكَ الدعاء.
قال القرطبي: (في الكلام حذف، أي فاستجاب الله دعاءه فقال: {يَازَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى} فتضمنت هذه البشرى ثلاثة أشياء: أحدها: إجابة دعائه وهي كرامة. الثاني: إعطاؤه الولد وهو قوة. الثالث: أن يفرد بتسميته).
وفي التنزيل نحو ذلك: قال سبحانه: {هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ (38) فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ} [آل عمران: 38 - 39].
وعن قتادةَ: (قوله: {يَازَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى} عبدٌ أحياه الله للإيمان). أي: إنما سماه الله يحيى لإحيائه إياه بالإيمان، واللهُ تعالى أعلم.
وقوله: {لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا} . فيه أقوال متكاملة:
1 -
قال ابن عباس: (يقول: لم تلد العواقر مثله ولدًا قط).
2 -
وقال مجاهد: ({لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا} قال: شبيهًا. وبنحوه قوله تعالى: {فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} [مريم: 65]، أي شبيهًا.
3 -
وقال قتادة: (لم يسمَّ يحيى أحد قبله). وقال ابن زيد: (لم يسمّ أحد قبله بهذا الاسم). واختاره ابن جرير.
وقوله تعالى: {قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا} .
قال ابن زيد: (العتي: الذي قد عتا عن الولد فيما يرى نفسه لا يولد له). وعن ابن عباس قال: (يعني بالعتي: الكبر). وقال مجاهد: (نُحول العظم).
قال ابن كثير: (هذا تعجب من زكريا عليه السلام حين أُجيبَ إلى ما سأل، وَبُشِّرَ بالولد، ففرح فرحًا شديدًا، وسأل عن كيفية ما يُولَدُ له، والوجهُ الذي يأتيه منه الولد، مع أن امرأتهُ عاقرٌ لم تَلد من أول عمرها مع كِبَرِها، ومع أنه قد كبر وعَتا، أي: عسَا عَظْمُهُ ونحُل، ولم يبق فيه لقاحٌ ولا جماع).
وقوله تعالى: {قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا} .
أي: قال الملكُ مجيبًا لزكريا فيما تَعَجَّبَ منه: هذا قضاء الله في إيجاد الولد منكَ ومن زوجتك، وهو أمر يسير سَهْل على الله تعالى وأعجبُ من ذلك أن أوجدتكَ من قبل يحيى ولم تك شيئًا بل كنتَ عدمًا. قال القرطبي:(أي كما خلقكَ اللهُ تعالى بعد العدم ولم تك شيئًا موجودًا، فهو القادر على خلق يحيى وإيجاده).
وفي التنزيل نحو ذلك: قوله سبحانه: {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا} [الإنسان: 1].
وقوله تعالى: {قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا} .
قال ابن زيد: (قال: قال رب اجعل لي آية أن هذا منك). يعني: اجعل لي علامةً ودليلًا على ما بشرتني به ملائكتكَ من قدوم هذا الغلام عن أمرك ورسالتك، ليطمئن قلبي وتسكن نفسي إلى ما وعدتني. قال: آيتكَ أن يُحبس لسانك عن الكلام ثلاث ليال، وأنتَ صحيح سوي من غير مرض ولا علة.
وعن ابن عباس: (قوله: {قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا}. قال: ثلاث ليال متتابعات).
قال السدي: (يقول من غير خَرَس إلا رمزًا، فاعتُقل لسانهُ ثلاثة أيام وثلاث ليال).
وقال ابن زيد: (فحبس لسانه، فكان لا يستطيع أن يكلم أحدًا، وهو في ذلكَ يسبح، ويقرأ التوراة ويقرأ الإنجيل، فإذا أرادَ كلام الناس لم يستطع أن يكلمهم).
قلت: والذي ذهب إليه ابن زيد هو الراجح في فهم الآية، لموافقة ذلكَ لقوله تعالى في سورة آل عمران:{قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ} .
وقوله تعالى: {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا} .
قال ابن جريج: (أشرف على قومهِ من المحراب). أي: الذي بُشِّرَ فيه بالولد. وقال ابن زيد: (المحراب: مُصلاه، وقرأ: {فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ} [آل عمران: 39]). وعن مجاهد: ({فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ} أي: أشار إليهم. وفي رواية كتب لهم في الأرض). وقال قتادة: (أومى إليهم). قال ابن زيد: (ما أدري كتابًا كتبهُ لهم، أو إشارة أشارها، واللهُ أعلم، قال: أمرهم {أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا}، وهو لا يكلمهم).
12 -
15. قوله تعالى: {يَايَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا (12) وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا (13) وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا (14) وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا (15)}.
في هذه الآيات: أمْرُ الله تعالى يحيى أخذ التوراة بقوة وعزيمة، وإنعامُه تعالى عليه بالعلم والفهم والرحمة والعمل الصالح الزكي، وبر الوالدين ولين الجانب، وأتبع ذلكَ سبحانهُ بأمان عليه في المواطن الثلاثة: يوم ولد، ويوم يموت، ويوم يبعث حيًّا.
فقوله: {يَايَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ} . قال مجاهد وقتادة: (بجدّ). وقال ابن زيد: (القوة أن يعمل ما أمره الله به، ويجانب فيه ما نهاه الله). والخطاب ليحيى بن زكريا بعدما ولد وصار صبيًا مُهَيَّأً لحمل الأمانة. والمقصود بالكتاب: التوراة، أي يقول الله له: يا يحيى خذ هذا الكتاب الذي أنزله الله على موسى، وهو التوراة بجدٍّ وعزيمة، وأقم أمر الله في الأرض.
وقوله: {وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا} . قال ابن كثير: (أي الفهم والعلم والجد والعزم، والإقبال على الخير، والإكباب عليه، والاجتهاد فيه وهو صغير حديث السِّن).
وقوله: {وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا} . قال ابن عباس: (يقول: ورحمة من عندنا). وقال مجاهد: (وتعطفًا من ربه عليه). وقال عكرمة: (محبّةً عليه). قال ابن جرير: (يقول تعالى ذكره: ورحمة منا ومحبّة له آتيناه الحكم صبيًا). وقيل: هي رحمة عظيمة يشفق بها على الخلق. قلت: وكذا المعنيين حق.
وقوله: {وَزَكَاةً} . معطوف على {وَحَنَانًا} . والزكاة هنا: الطهارة من الذنوب والعمل بطاعة الله.
قال قتادة: (الزكاة: العمل الصالح). وقال ابن جريج: (العمل الصالح الزكيّ).
قال النسفي: {وَزَكَاةً} أي طهارة وصلاحًا فلم يعمد بذنب).
وقوله: {وَكَانَ تَقِيًّا} . أي: مسلمًا مطيعًا. قال ابن عباس: (طهر فلم يعمل بذنب).
وقوله تعالى: {وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا} . أي: كما أقام دينهُ وقام بطاعة ربه عز وجل، فإنّه جَمَعَ إلى ذلك بِرَّ الوالدين ومجانبة عقوقهما. قال القرطبي:(و {جَبَّارًا} متكبرًا. وهذا وصف ليحيى عليه السلام بلين الجانب وخفض الجناح). وقال القاسمي ({وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا} أي: متكبرًا عاقًّا لهما، أو عاصيًا لربه).
وقوله تعالى: {وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا} .
أي: وأمان عليهِ من الله في هذه المواطن الثلاثة، وهي أدقّ الأحوال في تاريخ الإنسان.
يروي ابن جرير بسندهِ عن سفيان بن عيينة يقول: (أوحش ما يكون الخلق في ثلاثة مواطن: يوم يولد فيرى نفسهُ خارجًا مما كانَ فيهِ، ويوم يموت فيرى قومًا لم يكن عاينهم، ويوم يُبعثُ فيرى نفسهُ في محشر عظيم. قال: فأكرم الله فيها يحيى بن زكريا، فخصه بالسلام عليه، فقال: {وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا}).
16 -
21. قوله تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا (16) فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا (17) قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (18) قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا (19) قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (20) قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا (21)}.
في هذه الآيات: عَطْفٌ على قصة زكريا عليه السلام وإيجاد الله منه الولد -الزكي الطَّاهر- حال كبره وعقم زوجته، بقصة مشابهة مناسبة للقران والمماثلة، وهي قصة مريم في إيجاده تعالى منها ولدها عيسى عليهما السلام من غير أب.
فقوله: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا} .
أي: اذكر يا محمد في كتاب الله الذي أنزلهُ عليكَ بالحق مريم ابنة عمران عليها السلام حين اعتزلت من أهلها فاتخذت موضعًا قبل مشرق الشَّمس دون مغربها.
قال قتادة: ({وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ}. أي انفردت من أهلها). وعن ابن عباس: ({مَكَانًا شَرْقِيًّا} قال: خرجت مكانًا شرقيًّا). قال السدي: (خرجت مريم إلى جانب المحراب لحيض أصابها، وهو قوله: فانتبذت من أهلها مكانًا شرقيًّا: في شرقيّ المحراب).
قال ابن عباس: (إني لأعلم خلق الله لأيّ شيء اتخذت النصارى المشرق قبلة، لقول الله: فانتبذت من أهلها مكانًا شرقيًّا، فاتخذوا ميلاد عيسى قبلة). وفي رواية عنه قال: (إن أهل الكتاب كتب عليهم الصلاة إلى البيت، والحجّ لله، وما صرفهم عنهما إلا قيل ربك: {انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا} فصلوا قبل مطلع الشَّمس). وقال قتادة: ({مَكَانًا شَرْقِيًّا}: شاسعًا متنحيًا).
ومريم بنت عمران -كما ذكر الحافظ ابن كثير في التفسير- من سلالة داود عليه السلام، وكانت من بَيْتٍ طاهر طيب في بني إسرائيل، وقد ذكر الله تعالى قصة ولادةِ أمِّها لها في [آل عمران]، وأنها نذرتها مُحَرَّرة، أي: لخدمة بيت المقدس، وكانوا يتقربون بذلكَ، {فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا} [آل عمران: 37]. ونشأت في بني إسرائيل نشأة عظيمة، فكانت إحدى العابدات الناسكات المشهورات بالعبادة العظيمة والتبتل والدُّؤوب، وكانت في كفالةِ زوج أختها -وقيل: خالتها- زكريا نبيُّ بني إسرائيل إذْ ذاك وعظيمهم، الذي يرجعون إليه في دينهم. ورأى لها زكريا من الكرامات الهائلة ما بَهرهُ، {كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَامَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [آل عمران: 37]، فذكر أنه كانَ يجد عندها ثَمَرَ الشتاء في الصيف، وثمر الصيف في الشتاء. فلما أرادَ الله تعالى -وله الحكمة والحجّة البالغة- أن يوجد منها عبده ورسوله عيسى عليه السلام، أحد الرسل أولي العزم الخمسة العظام، {انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا} ، أي: اعتزلتهم وتنحَّت عنهم، وذهبت إلى شرقيّ المسجد المقدس.
وقوله: {فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا} . أي: توارت عنهم واستترت بستر يحجبها عنهم.
وقوله: {فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا} . قال وهب بن منبه: (وجدت عندها جبريل قد مثله الله بشرًا سويًّا). أي أرسل اللهُ إليها جبريل في صورة رجل من بني آدم معتدل الخلق.
وقوله تعالى: {قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا} .
قال ابن جريج: (خشيث أن يكون إنما يريدها على نفسها). والمقصود: أنها فزعت منه حين رأته فاستجارت بالرحمن لدفعه عنها إن كان أرادها بسوء. قال السدي: (تقول: أستجير بالرحمن منكَ أن تنال مني ما حرّمه عليك إن كنت ذا تقوى له تتقي محارمه، وتجتنب معاصيه). قال ابن كثير: (أي: إن كنت تخاف الله، تذكيرٌ لهُ بالله. وهذا هو المشروع في الدفع أن يكونَ بالأسهلِ فالأسهل، فخَوَّفته أولًا باللهِ عز وجل.
وقوله تعالى: {قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا} .
أي: فأجابها الملك مطمئنًا لها ليزيل عنها الخوف الذي اعتراها على نفسها: ما الأمر كما تظنين، ولكني رسول ربكِ، بعثني إليكِ ليهب الله لك غلامًا زكيًّا.
قال ابن جرير: (والغلام الزكي: هو الطَّاهر من الذنوب).
وقوله تعالى: {قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا} .
أي: فأجابت متعجبة -كيف يكون مني غلامٌ ولست بذات زوج، ولا يتصور مني الفجور. قال النسفي:({وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ} زوج بالنكاح {وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا} فاجرة تبغي الرجال أي تطلب الشهوة من أي رجل كان، ولا يكون الولد عادة إلا من أحد هذين).
والبَغِيّ: هي الزانية، وقد جاء هذا اللفظ في السنة كذلك، كما جاء في القرآن. ففي الصحيحين وسنن أبي داود والترمذي عن أبي مسعود الأنصاري قال:[نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ثمن الكلب، ومهر البغي، وحلوان الكاهن](1).
وقوله: {قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ} .
قال السدي: (قال لها جبريل: هكذا الأمر كما تصفين، من أنك لم يمسسكِ بشر ولم تكوني بغيًّا، ولكن ربك قال: هو علي هين: أي خَلْقُ الغلام الذي قلتِ، أن أهبه لك عليَّ هين، لا يتعذّر عليّ خلقه، وهبته لك من غير فحل يفتحلك).
(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (2237)، ومسلم (1567)، وأبو داود (3481) والترمذي (1276)، وابن ماجه (2159)، وأحمد (4/ 119 - 120)، وابن حبان (5157).
وقوله: {وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ} . قال القاسمي: (أي برهانًا يستدلون به على كمال قدرة بارئهم وخالقهم الذي نوع خلقهم. فخلق أباهم آدمَ من غير ذكر ولا أنثى. وخلق حواء من ذكر بلا أنثى. وخلق بقية الذرية من ذكر وأنثى، إلا عيسى فإنه أوجدهُ من أنثى بلا ذكر. فتمت القسمة الرباعية الدالة على كمال قدرته وعظيم سلطانه).
وقوله: {وَرَحْمَةً مِنَّا} . قال ابن جرير: (يقول: ورحمة منّا لك، ولمن آمن به وصدّقه أخلقه منكِ).
وقوله: {وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا} . قال وهب بن منبه: (أي إن الله قد عزم على ذلك، فليسَ منه بدّ).
ويحتمل أن يكون هذا من تمام كلام جبريل لمريم، أو هو خبر الله لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم.
22 -
26. قوله تعالى: {فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا (22) فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَالَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا (23) فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (24) وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا (25) فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا (26)}.
في هذه الآيات: اعتزال مريم عليها السلام بحملها مكانًا نائيًا عن الناس، وتحرك المخاض عليها فألجأها إلى جذع النخلة وتمنيها أن لو كان نُسِي أثرها، ومناداة الصبي من تحتها يطمئنها، وامتنان الله تعالى عليها بالطعام والشراب وقرة العين، وإخبارها قومها بالإشارة نذرها الصيام وهو الإمساك عن الكلام.
فقوله تعالى: {فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا} . قال ابن عباس: (مكانًا نائيًا). وقال مجاهد: (قاصيًا).
قال ابن جرير: (يقول: فاعتزلت بالذي حملته، وهو عيسى، وتَنَحَّت به عن الناس مكانًا قصيًا. يقول: مكانًا نائيًا قاصيًا عن الناس).
وعن ابن جريج: (يقولون: إنه إنما نفخ في جيب درعها وكمها). يعني الملك، فحملت بإذن الله، ثم انصرف عنها.
وقوله: {فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ} . قال مجاهد: (ألجأها المخاض). قال ابن جريج: وقال ابن عباس: (ألجأها المخاض إلى جذع النخلة). وقال قتادة: (اضطرّها المخاض إلى جذع النخلة). وهي نخلة في المكان الذي تَنَحَّتْ إليهِ، ولا دليل على موقعهِ الدقيق من بيت المقدس، فالأولى عدمُ الخوض بذلك. وإنما المقصود أنه ألجأها ألم الولادة إلى الاستناد بذلكَ الجذع لتعتمد عليه وتستتر به.
وقوله: {قَالَتْ يَالَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا} . أي: كما قال ابن عباس: (لم أخلق، ولم أك شيئًا). وقال السدي: (نسيًا. نُسي ذكري. ومنسيًا: تقول: نسي أثري، فلا يُرى لي أثرٌ ولا عين). وعن قتادة: (أي شيئًا لا يعرفُ ولا يذكر).
قال القاسمي: (وإنما قالت ذلك، لما عرفت أنها ستبتلى وتمتحن بهذا المولود، الذي لا يحمل الناس أمرها فيه على السداد. فلحقها فرط الحياء وخوف اللائمة إذا بهتوها وهي عارفة ببراءة الساحة، وبضد ما قرفت به، من اختصاص الله إياها بغاية الإجلال والإكرام).
وقوله تعالى: {فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا} .
أي ناداها الملك جبريل عليه السلام مطمئنًا لها ألا تحزني ولا تهتمي بالوحدة وعدم الطعام والشراب ومقالة الناس فها قد جعل ربك بقربك نهرًا صغيرًا.
فعن ابن عباس: {فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا} : جبريل، ولم يتكلم عيسى حتى أتت به قومها).
وعن قتادة: (إنه المَلَكُ جبريل عليه الصلاة والسلام، أي ناداها من أسفل الوادي).
وقيل: ناداها ابنها عيسى، والأول أرجح.
قال القرطبي: (وقوله: {أَلَّا تَحْزَنِي} تفسير النداء، و"أَنْ" مفسّرة بمعنى أي، المعنى: فلا تحزني بولادتك. {قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا} ويعني عيسى. والسريّ من الرجال العظيم الخصال السّيد). وعن ابن عباس: (السري: النهر). وبه قال عمرو بن ميمون: (نهر تَشْربُ منه). وقال الضحاك: (هو النهر الصغير بالسريانية). وقال وهب بن منبه: (هو ربيع الماء). وقال السدي: (هو النهر) - واختاره ابن جرير.
وقوله تعالى: {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا} .
قال ابن عباس: (كان جذعًا يابسًا، فقال لها: هزّيه "تساقط عليك رطبًا جنيًا").
قال القاسمي: (أي حضر أوانُ اجتنائه). والمقصود أن الله تعالى قد امتن عليها بأن جعل عندها طعامًا وشرابًا.
قال الزمخشري: (فإن قلت: ما كان حزنها لفقد الطعام والشراب حتى تسلَّى بالسريّ والرطب! قلت: لم تقع التسلية بهما من حيث إنهما طعامٌ وشراب، ولكن من حيث إنهما معجزتان تُريان الناس أنها من أهل العصمةِ، والبعد من الريبة، وأنَّ مثلها، مما قرفوها به، بمعزل. وأن لها أمورًا إلهية خارجة عن العادات، خارقة لما ألفوا واعتادوا، حتى يتبيّن لهم أن ولادها من غير فحل ليس ببدع من شأنها).
قلت: بل لا مانع من كون التسيلة بالسري والرطب من بابِ الاطمئنان، والأنس بالطعام والشراب في تلك الوحدةِ إضافة لكون ذلكَ معجزة تميزها وتشهد لبراءتها واختصاصها من الله تعالى.
وقوله: {فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا} أي: كلي واشربي وطيبي نفسًا ولا تغتمي. وقيل: جمعنا لك في السري والرطب فائدتين: إحداهما الأكل والشرب والثانية سلوة الصدر، لكونهما معجزتين. وكان عمرو بن ميمون يقول:(ما من شيء خير للنُّفَساء مِنْ التَّمر والرُّطَب) - ويتلو هذه الآية.
أي: فإن رأيت آدميًّا يسألك عن حالك فقولي: إني نذرتُ للرحمن صمتًا وإمساكًا عن الكلام. قال ابن عباس: (يعني بالصوم: الصمت). وقال أنس بن مالك: (صومًا: صمتًا) - رواه ابن جرير. قال النسفي: (وإنما أخبرتهم بأنها نذرت الصوم بالإشارة، وقد تسمى الإشارةُ كلامًا وقولًا: {فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا} آدميًّا).
27 -
33. قوله تعالى: {فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَامَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا (27) يَاأُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (28) فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (29) قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (30)
وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا (31) وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا (32) وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (33)}.
في هذه الآيات: مجيء مريم قومها تحمل وليدها، وتعجب قومها من أمرها، وتكلُّم الصبي في المهد منزهًا ربه تعالى ومبرئًا أمهُ مما نسب إليها، ومثبتًا لنفسه النبوة من الله له والوصية بالصلاة والزكاة وبر الوالدة وحمايته من الشقاء، والسلام عليهِ في هذه المواطن الثلاثة: يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حَيًّا.
فقوله: {فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ} . قال وهب بن منبه: (أنساها يعني مريم كرب البلاء وخوف الناس ما كانت تسمعُ من الملائكة من البشارة بعيسى، حتى إذا كَلّمها، يعني عيسى، وجاءها مصداقُ ما كان الله وعدها احتملته ثم أقبلت به إلى قومها).
وقوله: {قَالُوا يَامَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا} . قال مجاهد: (أي: أمرًا عظيمًا).
أي: فلما رأوها والطفل بيدها أنكروا ذلكَ عليها واستعظموه وقالوا لها: يا مريم لقد أحدثت حدثًا عظيمًا، جئت بأمر عجيب.
وقوله تعالى: {يَاأُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا} .
أي: يا شبيهة هارون في العبادة والزهادة، لقد كنت من أهل بيت يعرفون بالصلاح والعفاف، فكيف صدر منكِ هذا؟ وفيه تأويلان محتملان:
1 -
قال السدي: (قيل لها: {يَاأُخْتَ هَارُونَ}، أي: أخي موسى، وكانت من نَسْلهِ، كما يقال للتميمي: يا أخا تميم، وللمضري: يا أخا مضر).
2 -
قال قتادة: (كان رجلًا صالحًا في بني إسرائيل يسمى هارون، فشبَّهوها به، فقالوا: يا شبيهة هارون في الصلاح). وقال أيضًا: (كانت من أهل بيتِ يُعرفون بالصلاح، ولا يُعرفون بالفساد، ومن الناسِ من يُعرفون بالصلاح ويتوالدون به، وآخرون يعرفون بالفساد ويتوالدون به، وكان هارون مصلحًا محببًا في عشيرته، وليس بهارون أخي موسى، ولكنه هارون آخر).
وأما ما ذُكِرَ عَن القرظي من أنها أخت هارون لأبيه وأمه، وهي أخت موسى أخي
هارون التي قصت أثر موسى، {فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (11)} [القصص: 11]، فقول خطأ محض بعيد كل البعد عن الصحة.
ففي صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: [أنا أولى الناس بابن مريم، والأنبياءُ أولاد علّات، ليْسَ بيني وبينهُ نبيّ](1).
وفي صحيح مسلم عن المغيرة بن شعبة قال: [لما قَدِمْتُ نَجْرانَ سألوني، فقالوا: إنكم تقرؤون: " {يَاأُخْتَ هَارُونَ} وموسى قبل عيسى بكذا وكذا، فلما قدمتُ على رسول الله صلى الله عليه وسلم: سألته عن ذلك، فقال: "إنهم كانوا يُسَمُّون بأنبيائهم والصالحين قبلهم"](2).
قال النسفي: {يَاأُخْتَ هَارُونَ} وكان أخاها من أبيها ومن أفضل بني إسرائيل، أو هو أخو موسى عليه السلام وكانت من أعقابه وبينهما ألف سنة، وهذا كما يقالُ: يا أخا همدان أي يا واحدًا منهم). وقال ابن جرير: (وقوله: {مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ} يقول: ما كانَ أبوك رجل سوء يأتي الفواحش {وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا} يقول: وما كانت أمك زانية).
وقوله: {فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ} . قال قتادة: (أمرتهم بكلامه). وقال وهب بن منبه: (أشارت إليه أن كلموه).
وقوله: {قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا} . أي كيف يتكلم ويفصح من كان في مهده في الصغر؟ ! .
قال ابن كثير: (أي: إنهم لما استرابوا في أمرها واستنكروا قصَّتَها، وقالوا لها ما قالوا معرّضين بقذفها ورَمْيها بالفرية، وقد كانت يومَها ذلكَ صائمةً صامتةً، فأحالت الكلام عليه، وأشارت لهم إلى خطابه وكلامهِ، فقالوا: مُتَهَكِّمين بها، ظانِّين أنها تَزْدري بهم وتلعب بهم:{قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا} .
وقوله: {قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ} .
هو أول كلام نطق به عيسى عليه الصلاة والسلام، فنَزَّه جناب ربه تعالى، وبرّأ الله سبحانهُ عن الولد، وأثبت لنفسهِ العبودية لربه عز وجل. قال القرطبي: (فكان أوّل
(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (3442) - كتاب أحاديث الأنبياء، وانظر حديث (3443) منه.
(2)
حديث صحيح. أخرجه مسلم في الصحيح (2135) كتاب الآداب، والترمذي في الجامع (3155)، وأحمد في المسند (4/ 252)، وغيرهم.
ما نطقَ به الاعترافُ بعبوديتهِ لله تعالى وربوبيته، ردًّا على من غلا من بعده في شأنه).
وقوله: {آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا} . الكتاب: الإنجيل، قال عكرمة:(أي: قضى أن يؤتيني الكتاب فيما قضى).
والآية كما قال ابن كثير: (تبرئة لأمِّهِ مما نسبت إليه من الفاحشة).
والمقصود: أن اللهَ تبارك وتعالى كتبه نبيًّا قبل أن يخلقهُ، وقضى بإنزالِ الإنجيل عليه يوم يقوم بمنهاج النبوة ودعوة الخلق إلى توحيد الله العظيم.
وقوله: {وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ} . أي: بشرف العلم والدعوةِ والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والنفع في وجوه الخير. قال مجاهد وسفيان: (معلمًا للخير حيثما كنت).
وقال مجاهد: (نفّاعًا). وذكر ابن جرير بسنده عن وُهيب بن الورد مولى بني مخزوم، قال:(لقي عالم عالمًا لما هو فوقه في العلم، فقال له: يرحمكَ الله، ما الذي أعلن من علمي؟ قال: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإنه دين الله الذي بعث به أنبياءه إلى عباده، وقد اجتمع الفقهاء على قول الله: {وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ} وقيل: ما بركته؟ قال: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أينما كان).
وقوله: {وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا} .
قال ابن جرير: (يقول: وقضى أن يوصيني بالصلاة والزكاة، يعني المحافظة على حدود الصلاة وإقامتها على ما فرضَها عليَّ. وفي الزكاة معنيان: أحدهما: زكاة الأموال أن يؤديها. والآخر: تطهير الجسد من دنس الذنوب، فيكون معناه: وأوصاني بترك الذنوب واجتناب المعاصي).
والآية شبيهة بوصية الله تعالى لخاتم الرسل محمد صلى الله عليه وسلم: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} . وكذلكَ أوصى عيسى عليه الصلاة والسلام بإقامة الدين: وعنوان ذلكَ الصلاة والزكاة، ما دام حيًّا.
وقوله: {وَبَرًّا بِوَالِدَتِي} . أي: وكذلكَ أمرني ببر والدتي. وقد ورد ذلكَ القِران كثيرًا في القرآن الكريم، فإن طاعة الله يعقبها بر الوالدين وصلة الرحم، ومن ذلك:
1 -
قوله تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [الإسراء: 23].
2 -
وقوله تعالى: {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ} [لقمان: 14].
3 -
وقوله تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [النساء: 36].
وكذلكَ فإن السنة الصحيحة قد حفلت بآفاق هذا القران في أحاديث، منها:
الحديث الأول: في الصحيحين عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: [سألتُ النبي صلى الله عليه وسلم: أيُّ العملِ أحَبُّ إلى الله تعالى؟ قال: الصلاةُ على وقتها. قلتُ: ثم أيّ؟ قال: بِرُّ الوالدين. قلتُ: ثم أيّ؟ قال: الجهادُ في سبيل الله](1).
الحديث الثاني: أخرج الشيخان وأبو داود والنسائي عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: [أقبل رجلٌ إلى نبيِّ الله صلى الله عليه وسلم، فقال: أُبايِعُكَ على الهجرةِ والجهاد أَبْتَغي الأجرَ مِنْ الله تعالى. قال: فهل لكَ مِنْ والِدَيكَ أحدٌ حَيٌّ؟ قال: نَعَمْ بل كلاهُما. قال: فتبتغي الأجْرَ من الله تعالى؟ قال: نعم. قال: فارجع إلى والديكَ، فأَحسن صُحْبَتَهُما](2).
وفي رواية لهما: أجاء رجل فاستأذنه في الجهاد فقال: أحيٌّ والِداك؟ قال: نعم، قال: ففيهما فجاهد].
والمقصود -كما ذكر أهل العلم- جهاد النفس في وصول البر إليهما، والتلطف بهما، وحسن الصحبة، والطاعة في غير ذلك. وفي الحديث دليل لعظم فضيلة بر الوالدين، وأنه آكد من الجهاد، إذا كان فرض كفاية، فيحرم عليه أن يجاهد إلا بإذنهما، أما إذا تعين فلا إذن- كما أفاد الفقهاء.
الحديث الثالث: أخرج البخاري ومسلم عن أبي أيوبَ الأنصاري رضي الله عنه أنّ رجلًا قال: يا رسول الله أخبرني بعمل يدخلني الجنة ويباعدني من النار. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: [تَعْبُدُ الله، ولا تشركُ به شيئًا، وتُقيمُ الصلاةَ، وتؤتي الزكاة، وتَصلُ الرحم](3).
وقوله: {وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا} . أي: حفظني من الفسق والعقوق.
(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري في صحيحه (10/ 336) من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، وأخرجه مسلم كذلكَ -حديث رقم- (85).
(2)
حديث صحيح. أخرجه البخاري (6/ 97 - 98)، (10/ 338)، ومسلم (2549)، وأخرجه أبو داود (2529)، وأخرجه النسائي (6/ 10) - (7/ 143).
(3)
حديث صحيح. أخرجه البخاري في الصحيح (3/ 208)، وكذلكَ أخرجه مسلم (13)، وغيرهما.
قال ابن كثير: (أي: ولم يجعلني جبارًا مستكبرًا عن عبادته وطاعته وبرِّ والدتي، فأشقى بذلك).
قال سفيان الثوري: (الجبّار الشقي: الذي يُقبل على الغضب). وقال بعض السلف: (لا تجدُ أحدًا عاقًّا لوالديهِ إلا وجدته جَبَّارًا شقيًّا، ثم قرأ:{وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا} ، قال: ولا تجدُ سَيِّئَ الملكة إلا وَجَدْتَهُ مُختالًا فَخورًا، ثم قرأ:{وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا} [النساء: 36]- ذكره ابن جرير في "التفسير".
وقوله تعالى: {وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا} .
فيه إثبات العبودية -من عيسى عليه السلام مرة أخرى لله العظيم، تأكيدًا ودحضًا لما سيكون من الاعتداء في ذلكَ من بعده، فهو مخلوق كغيره له ثلاثة أيام من دهره: يوم ولادته، ويوم موته، ويوم بعثه من قبره ليقوم بين يدي ربه، وهو يرجو رحمة الله تعالى وسلامته وأمنه في هذه الأحوال الثلاثة.
34 -
37. قوله تعالى: {ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (34) مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (35) وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (36) فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ (37)}.
في هذه الآيات: تبيانُ الله خبر عيسى على الحقيقة، وتنزيه نفسه تعالى عن الولد، وبيانُ أنّ أمرَه إذا أرادَ شيئًا أن يقول له كن فيكون، وإثبات من عيسى عليه السلام الربوبية والألوهية لله وحده، ودعوة قومه إلى إفراده تعالى بالعبادة وذلكَ هو الصراط المستقيم.
وذِكرُ اختلاف الناس في شأنه، وتوعّد للكافرين، مشهد يوم عظيم.
فقوله تعالى: {ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ} - أي يختصمون ويختلفون.
قال القرطبي: (أي ذلكَ الذي ذكرناه عيسى ابن مريم فكذلك اعتقدوه). وقال
أبو حاتم: {قَوْلَ الْحَقِّ} : المعنى هو قول الحق). وقيل. التقدير هذا الكلام قول الحق. وقال الكسائي: {قَوْلَ الْحَقِّ} نعت لعيسى) - أي كما سمي كلمة الله.
وقرأ عاصم وعبد الله بن عامر {قَوْلَ الْحَقِّ} بالنصب على الحال، أي أقول قولًا حقًّا. وقرأ الأكثرون {قولُ الحق} بضم اللام. والتقدير: هو قول الحق.
وعن قتادة: {ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ} امترت فيه اليهود والنصارى، فأما اليهود فزعموا أنه ساحر كذّاب، وأما النصارى فزعموا أنه ابن الله، وثالث ثلاثة، وإله، وكذبوا كلهم، ولكنه عبد الله ورسوله، وكلمته وروحه).
وقوله تعالى: {مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} أي: ما ينبغي لله أن يتخذ ولدًا، فهو يتنزه وينزه ذاته عن ذلك، وما أمره إذا أراد شيئًا إلا أن يقول له كن فيكون.
وفي التنزيل: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (59) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} [آل عمران: 59 - 60].
وقد أخرج البخاري في صحيحه عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [قال اللهُ: كَذَّبني ابنُ آدمَ ولمْ يَكُنْ له ذلك، وشتمني ولمْ يكُنْ له ذلكَ، فأما تكذيبُه إيّايَ فزعَمَ أني لا أَقْدِرُ أَنْ أعيدَهُ كما كان، وأما شَتْمُه إيّايَ فقوله: لي وَلَدٌ فَسُبْحَاني أَنْ أَتَّخِذَ صاحِبةً أوْ ولدًا](1).
وقوله تعالى: {وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} .
إثبات من عيسى عليه الصلاة والسلام الربوبية والألوهية لله وحده، فإنه عبد لله كغيره، وإرشادٌ منهُ إلى إفرادهِ تعالى بالعبادة، وذلكَ طريق الهداية والاستقامة والرشاد.
قال وهب بن منبه: (عَهد إليهم حين أخبرهم عن نفسه ومولده وموته وبعثه أنَّ "الله ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم". أي إني وإياكم عبيد الله، فاعبدوه ولا تعبدوا غيره).
(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (4482)، كتاب التفسير، سورة البقرة، عند آية (116).
وقوله تعالى: {فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ} .
قال قتادة: (اختلفوا فيه فصاروا أحزابًا). ثم قال: ({فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ} شهدوا هولًا إذن عظيمًا).
قال ابن كثير: (أي: واختلفت أقوالُ أهل الكتاب في عيسى بعد بيان أمرِه ووضوح حاله، وأنه عبدُه ورسوله وكَلِمتُه ألقاها إلى مَرْيمَ وروحٌ منه، فَصَمَّمتْ طائفة -وهم جمهور اليهود، عليهم لعائن الله- على أنه ولدُ زنْيَة، وقالوا: كلامهُ هذا سِحْرٌ.
وقالت طائفة أخرى: إنما تكَلَّم الله. وقال آخرون: هو ابن الله. وقال آخرون: ثالث ثلاثة. وقال آخرون: بل هو عبد الله ورسوله. وهذا هو قولُ الحقِّ، الذي أرشد الله إليهِ المؤمنين).
وفي الصحيحين -واللفظ للبخاري- عن أبي موسى رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[ليسَ أحدٌ - أو ليس شيءٌ - أصْبَرَ على أَذىً سمِعَه من الله، إنهم ليَدُعونَ له ولَدًا، وإنه ليعافيهم ويرزقهم](1).
ورواه مسلم بلفظ: [ما أحدٌ أصبرَ على أذىً يسمعهُ، من الله عز وجل، إنهم يجعلون له نِدًّا، ويجعلون لهُ ولدًا، وهو مع ذلكَ يرزقُهم، ويعافيهم، ويعطيهم].
وإنَّما النجاة من عذاب الله يوم القيامة بإقامة التوحيد لله وإثبات الرسالة للمرسلين، وقد صنف الإمام مسلم في صحيحه بابًا سمّاه:"باب الدليل على أن من مات على التوحيد دخل الجنة قطعًا" -روى فيه عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم[من شهدَ أن لا إله إلا الله وحده لا شريكَ له، وأنَّ محمدًا عبدهُ ورسوله، وأن عيسى عبد الله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم، وروح منه، والجنة حق، والنار حق، أدخله الله الجنة على ما كان من العمل، ورواه البخاري (2).
38 -
40. قوله تعالى: {أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلَالٍ
(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (6099)، كتاب الأدب. باب الصبر في الأذى، وأخرجه مسلم (8/ 134) وانظر: مختصر صحيح مسلم -حديث رقم- (1928)، كتاب التوبة.
(2)
حديث صحيح. أخرجه البخاري في صحيحه (6/ 342)، كتاب الأنبياء، من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه. وأخرجه مسلم (28) في الإيمان.
مُبِينٍ (38) وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (39) إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ (40)}.
في هذه الآيات: ذِكْرُ استماع الكفار وإبصارهم يوم القيامة بعد فوات الأوان، وإنذارٌ من النبي صلى الله عليه وسلم لمشركي قومه يوم التحسر والندم وشدة الزحام، وإخبارٌ من الله سبحانه أنه الخالق المالك المتصرف وإليه مرجعُ جميع الأنام.
فقوله: {أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا} . قال قتادة: (أسمع قوم وأبصرهم). وقال: (ذاكَ واللهِ يوم القيامة، سمعوا حين لا ينفعهم السمع، وأبصروا حين لا ينفعهم البصر).
والآية: إخبارٌ من الله تعالى عن حال الكفار يوم القيامة أنهم يكونون يومئذ أسمع شيء وأبصره، وقوله:{أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ} . مبالغة في حضور السمع والبصر، والمعنى: ما أسمعهم وأبصرهم، ولكن ذلك كان منهم حين فات الأوان.
كما في التنزيل: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ} [السجدة: 12].
وقوله: {لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} .
أي: لكن الكافرون اليوم -في الدنيا- في ذهاب عن سبيل الحق، وضياع في متاهات الضلال يبين لمن تأمله أنهم لا يبتغون الهدى ولا يبحثون عن الرشاد وسبيل النجاة.
وقوله تعالى: {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} .
أي: وأنذر -يا محمد- هؤلاء المشركين وجميع الخلائق يوم التحسر والندم، إذ فصل الله بين أهل الجنة وأهل النار وصار كل فريق إلى ما قُضِيَ له من الخلود في ذلك، وهم اليوم في حياتهم الدنيا يخوضون في الغي والشهوات غافلين عما أنذروا به، بل ولا يوقنون به ولا يصدقون.
أخرج البخاري في صحيحه عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [يُؤتى بالموت كهَيْئَة كَبْشٍ أَمْلَحَ فَينادي مُناد: يا أهل الجنة، فيَشْرَئِبُّون ويَنْظُرون فيقول: هل تَعْرِفون هذا؟ فيقولون: نَعَمْ، هذا الموتُ، وكلُّهم قد رآه، ثم ينادي: يا أهل النار، فيَشْرَئِبُّون ويَنْظُرون فيقول: هل تَعْرِفُونَ هذا؟ فيقولون: نَعَمْ، هذا الموتُ، وكُلُّهُمْ قد رآه، فيُذْبَحُ، ثم يقول: يا أهل الجنة خلودٌ فلا مَوْتَ،
ويا أهل النار خلودٌ فلا مَوْتَ، ثم قرأ:{وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ} -وهؤلاء في غفلةِ أهلُ الدنيا- وهم لا يؤمنون] (1).
وقوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ} .
إخبارٌ من الله سبحانهُ أنه الخالق المالك المتصرف الباقي، وجميع الخلق يهلكون ويفنون، وهو الحي القيوم لا تأخذهُ سنة ولا نوم، وهو يرث الأرض ومن عليها وإليه يُرجعون.
قال ابن جرير: (يقول تعالى ونحن وارثو الأرض ومن عليها من الناس، بفنائهم منها، وبقائها لا مالك لها غيرنا، ثم علينا جزاء كل عامل منهم بعمله، عند مرجعه إلينا، المحسن منهم بإحسانه، والمسيء بإساءته).
41 -
50. قوله تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (41) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَاأَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا (42) يَاأَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا (43) يَاأَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا (44) يَاأَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا (45) قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَاإِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا (46) قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا (47) وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا (48) فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا (49) وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا (50)}.
في هذه الآيات: حوار نبي الله إبراهيم عليه الصلاة والسلام مع أبيه يدعوه لإفراد الله تعالى بالعبادة والتعظيم، ويحذره اتباع الشيطان الرجيم، ما يعقب ذلكَ يوم القيامة من
(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (4730) -كتاب التفسير- سورة كهيعص، عند هذه الآية، ورواه مسلم (2849)، وأحمد (3/ 9)، والبيهقي في "البعث"(584)، وله شواهد بروايات كثيرة - من حديث أبي هريرة وابن عمر رضي الله عنهما.
العذاب الأليم، وتمرد آزر على الحق واعتزال إبراهيم، وإكرام الله له بإسحاق ويعقوب في الأنبياء والمرسلين، وإعلاؤه تعالى في الأرض ذكر خليله إبراهيم.
فقوله تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا} .
قال القرطبي: (ومعنى الآية: اقرأ عليهم يا محمد في القرآن أمر إبراهيم فقد عرفوا أنهم من ولده، فإنه كان حنيفًا مسلمًا وما كان يتخذ الأنداد، فهؤلاء لم يتخذون الأنداد؟ ! وهو كما قال: {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ} [البقرة: 130]).
وقوله تعالى: {إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَاأَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا} .
قال ابن جرير: (يقول: اذكره حين قال لأبيه: {يَاأَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ} ويقول: ما تصنع بعبادة الوثن الذي لا يسمع {وَلَا يُبْصِرُ} شيئًا {وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا} يقول: ولا يدفعُ عنكَ ضرّ شيء، إنما هو صورة مصوّرة لا تضرّ ولا تنفع. يقول: ما تصنع بعبادة ما هذه صفته؟ اعبد الذي إذا دعوته سمع دعاءكَ، وإذا أحيط بك أبصركَ فنصرك، وإذا نزل بك ضرّ دفع عنك).
وقوله تعالى: {يَاأَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا} .
قال ابن كثير: (يقول: فإنْ كنتُ من صُلْبِكَ وترى أني أصغر منكَ، لأني ولدُكَ، فاعلم أني قد اطّلعتُ من العلم من الله على ما لم تَعْلَمهُ أنتَ ولا اطّلعتَ عليهِ ولا جاءكَ بعد، {فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا} أي: طريقًا مستقيمًا موصلًا إلى نيل المطلوب، والنجاة من المرهوب).
وقوله: {يَاأَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا} .
قال النسفي: {يَاأَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ} لا تطعه فيما سوّل من عبادة الصنم {إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا} عاصيًا). والعصي هو ذو العصيان، كما العليم هو ذو العلم- كذا في كلام العرب.
وقوله تعالى: {يَاأَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا} .
هو نصيحة إبراهيم عليه الصلاة والسلام لوالده، أنْ أصغ إلى الوحي تنجُ ولا تكن للشيطان وليًا. إني أخافُ أن تنال عذاب النار كما ينتظر إبليس فإنه كان للرحمن عصيًا.
قال ابن جرير: (والخوف في هذا الموضع بمعنى العلم، كما الخشيةُ بمعنى العلم في قوله: {فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا}).
فيكون المعنى: يا أبتِ إني أعلم أنكَ إن متّ على عبادة الشيطان أنه يمسكَ عذاب من عذاب الله فتكون وليًا للشيطان دون الله فتهلك.
وقوله تعالى: {قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَاإِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا} .
قال ابن كثير: (يعني إن كنت لا تريد عبادتها ولا ترضاها؟ فانته عن سَبِّها وشَتْمِها وعَيْبها، فإنك إن لم تنتهِ عن ذلك اقتصصتُ منكَ وشتمتُكَ وسَبَبْتُكَ وهو قوله: {لَأَرْجُمَنَّكَ}).
وعن السدي: ({لَأَرْجُمَنَّكَ} قال: بالشتيمة والقول). وقال ابن جريج: (بالقول، لأشتمنّكَ) وقال له: {وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا} فيه معنيان محتملان:
المعنى الأول: قال الحسن: (واهجرني زمانًا طويلًا). أي: اهجرني حينًا طويلًا ودهرًا.
المعنىُ الثاني: قال ابن عباس: (اجتنبني سويًّا). وفي رواية: (اجتنبني سالمًا قبل أن يصيبكَ مني عقوبة).
فيكون المعنى على هذا التأويل: واهجرني سويًّا سالمًا من عقوبتي إياك، ووَجَّهوا معنى المليّ إلى الاضطلاع والغنى، فإن العرب تقول: فلان مليّ في هذا الأمر: إذا كان مضطلعًا به غنيًّا فيه. والتقدير: واهجرني وعرضُك وافر من عقوبتي وجسمكَ معافى من أذاى.
وقوله تعالى: {قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا} .
قال ابن عباس: (لطيفًا). والحفي في لغة العرب اللطيف.
والمعنى: أجاب إبراهيم صلى الله عليه وسلم والده آزر: أما أنا فستكون في سلام مني لشرف الأبوة وحرمةِ بِرِّ الوالدين، فلا ينالكَ مني أذى أو مكروه، وسأسأل الله العظيم أن يَهْديكَ ويغفر لك، إنه كانَ بني رحيمًا لطيفًا أن هداني للحق وإخلاص العبادة له.
وقوله تعالى: {وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا} .
هو مدح من الله سبحانهُ لإبراهيم عليه الصلاة والسلام، إذ وقف على ثوابت المنهج الصائب منهج الحق، فقال لأبيه وقومه المستهزئين المستكبرين المعاندين المصرّين على الشرك والظلم:{وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} أي: وأعتزلكم وشرككم
وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا}: فأخلص له العبادة والدعاء كي لا أشقى شقاء المشركين به وبعبادته، فإليهِ تعالى يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه، ومن ثم فلا ملجأ ولا منجى منه إلا إليهِ.
وهذا التبرؤ كان بعد الاستغفار من إبراهيم لأبيهِ والدعوة له ولقومه، كما قال تعالى حكاية عنه:{رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ} [إبراهيم: 41]. وكذلكَ فإن المسلمين استغفروا لقراباتهم من المشركين حتى أنزل اللهُ الأمر بالاقتداء بإبراهيم عليه الصلاة والسلام: فقال سبحانه: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ} [الممتحنة: 4].
يعني: إلا في هذا القول الذي كان من إبراهيم بداية الأمر ثم أقلع عنه، فلا تتأسوا به في ما كان قبل إقلاعه، كما قال تعالى:{مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (113) وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ} [التوبة: 113 - 114].
وقوله تعالى: {فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا} .
أي: فلما اعتزل قومه وهم على شركهم وإصرارهم آنسنا وحشته من فراقهم، وأبدلناهُ خيرًا منهم، ومن هو أفضل وأحسن منهم وأكرم، فوهبنا له ابنه إسحاق وابن ابنه يعقوب بن إسحاق، وجعلناهم أنبياء ورزقناهم الثناء الحسن.
وخلاصة القول: لما اعتزل فاسد بني البشر، أبدلهُ اللهُ بخير بني البشر، فجعل النبوة والرسالة في ذريته.
وفي صحيح البخاري عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: [الكريمُ ابنُ الكريم ابن الكريم ابن الكريم، يوسفُ بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم](1).
(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (3390) وكذلكَ (4688)، ورواهُ أحمد في المسند (2/ 96).
وقوله تعالى: {وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا} .
قال ابن عباس: (يعني الثناء الحسن). قال ابن جرير: (وكان الذي وهب لهم من رحمته، ما بسط لهم في عاجل الدنيا من سعة رزقه، وأغناهم بفضله. وإنما وصف جلّ ثناؤه اللسان الذي جعل لهم بالعلوّ، لأن جميع أهل الملل تحسن الثناء عليهم).
51 -
53. قوله تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا (51) وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا (52) وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا (53)}.
في هذه الآيات: ذِكرُ الله تعالى خبر عبده موسى وكان رسولًا نبيًّا، وناداه من جانب الطور الأيمن وقربه ووهب له أخاه هارون نبيًّا.
فقوله تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا} .
أي: واذكر يا محمد في القرآن المنزل إليكَ من ربكَ موسى بن عمران، واقصص على قومكَ أنه كانَ مخلصًا ورسولًا نبيًّا.
وقرأ عامة قراء المدينة والبصرة {مُخْلَصًا} أي يخلص لله في العبادة ولا يشرك به.
وقرأها عامة قراء الكوفة خلا عاصم {مُخْلَصًا} أي أخلصه الله واصطفاه لرسالته وجعله نبيًّا مرسلًا إلى بني إسرائيل. وهما قراءتان مشهورتان.
قال ابن جرير: (كان صلى الله عليه وسلم مُخْلِصًا عبادة الله، مُخْلَصًا للرسالة والنبوّة، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب الصواب).
وقوله تعالى: {وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا} .
قال قتادة: (قوله: {مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ} قال: جانب الجبل الأيمن).
قال ابن كثير: (أي: من جانِبهِ الأيمن من موسى، حين ذهب يبتغي من تلك النار جذوةً، رآها تلوح فقصدها، فوجدها جانب الطور الأيمن منه، غَرْبيّه عند شاطئ الوادي. فكلمه الله تعالى، وناداه وقربه فناجاه).
وقوله تعالى: {وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا} .
قال ابن عباس: (كان هارونُ أكبر من موسى، ولكن أراد وهب له نبوّته).
والمعنى: ووهبنا لموسى رحمة منا أخاه هارون، أيّدناه بنبوته وأعنّاه بها، فكان نعم العون لأخيهِ.
وفي التنزيل ما يفسِّر ذلك:
1 -
قال تعالى: {وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ} [القصص: 34].
2 -
وقال تعالى: {قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَامُوسَى} [طه: 36].
3 -
وقال تعالى: {فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ (13) وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ} [الشعراء: 13 - 14].
قال بعض السلف: ما شَفَعَ أحدٌ في أحدٍ شفاعةً في الدنيا أعظمَ من شفاعة موسى في هارون أن يكونَ نبيًّا.
54 -
55. قوله تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا (54) وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا (55)}.
في هذه الآيات: ذكرُ الله خبر عبده إسماعيل وكان صادقًا رسولَا نبيًّا، وثناؤه تعالى عليه إذ كان يأمر أهلهُ بالصلاة والزكاة، وكان عند الله مرضيًّا.
فقوله تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا} .
ثناء عطرٌ من الله تعالى على إسماعيل بن خليل الله إبراهيم عليهما السلام، هو والد العرب. والمعنى: واذكر يا محمد -كذلك- في هذا القرآن إسماعيل واقصص خبره على قومك، إنه كان لا يكذب وعده، ولا يخلف عهده، وكان رسولًا نبيًّا.
قال ابن جريج: ({إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ} قال: لم يَعِدْ ربه عِدةً إلا أنجزها).
وقيل: إنه وعد من نفسه بالصبر على الذبح وعلى قضاء الله وأمره فصبر حتى فدي.
قال القرطبي: ({وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا} قيل: أرسل إسماعيل إلى جُرْهُم. وكل الأنبياء كانوا إذا وعدوا صدقوا، وخصّ إسماعيل بالذكر تشريفًا له. واللهُ أعلم).
وقال ابن كثير: ({وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا}، في هذا دلالة على شرف إسماعيل على أخيه إسحاق، لأنه إنما وُصف بالنبوة فقط، وإسماعيل وُصِفَ بالنبوة والرسالة).
وفي صحيح مسلم من حديث واثلة بن الأسقع رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:[إنّ الله اصطفى من ولد إبراهيم إسماعيل، واصطفى من بني إسماعيل بني كنانة، واصطفى من بني كنانة قريشًا، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم](1).
وقوله تعالى: {وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا} .
متابعة في الثناء الطيب على إسماعيل عليه الصلاة والسلام، حيث وُصف بالمثابرة في العبادة، وعنايته بأهله في المسارعة بالطاعة، وأهمها الصلاة وإيتاء الزكاة، حتى نال درجة الرضا عند ربه عز وجل.
وفي التنزيل نحو ذلك:
1 -
قال تعالى: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} [طه: 132].
2 -
وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ} [التحريم: 6].
ومن كنوز السنة العطرة في ذلك أحاديث، منها:
الحديث الأول: أخرج أبو داود والنسائي بسند صحيح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [رَحِمَ اللهُ رجلًا قام من الليل فصلّى وأيقظ امرأتَه، فإن أبت نضح في وجهها الماء. رَحِمَ اللهُ امرأة قامت من الليل فصَلَّت، وأيقظت زوجها، فإن أبى نَضَحَتْ في وجههِ الماء](2).
الحديث الثاني: أخرج أبو داود وابن ماجة بسند صحيح عن أبي سعيد وأبي هريرة رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[إذا استيقظ الرجل من الليل وأيقظ امرأته، فَصَلَّيا ركعتين، كُتِبَا مِنْ الذاكرين اللهَ كثيرًا والذاكرات](3).
(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم (2276)، والترمذي (3610)، وأحمد (4/ 107)، وأبو يعلى (7485).
(2)
حديث صحيح. أخرجه أبو داود (1308)، والنسائي (3/ 205)، وأحمد (2/ 250)، وابن حبان (2567)، وصححه الحاكم (1/ 309) ووافقه الذهبي، وإسنادهُ قوي.
(3)
حديث صحيح. أخرجه أبو داود (1309)، والنسائي في "الكبرى"(1310)، وابن ماجة (1335)، وابن حبان (2568)، والبيهقي (2/ 501)، وانظر صحيح سنن أبي داود (1161).
56 -
57. قوله تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (56) وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا (57)}.
في هذه الآيات: ثناء من الله تعالى على إدريس عليه الصلاة والسلام، وأنه كان صديقًا نبيًّا، ورفعه الله تعالى مكانًا عليًّا.
قال النسفي: {وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا} هو شرف النبوة والزلفى عند الله، وقيل معناه رفعته الملائكة إلى السماء الرابعة وقد رآه النبي صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج فيها).
وفي صحيح مسلم من حديث أنس -حديث الإسراء والمعراج- قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ثم عرج بنا إلى السماء الرابعة، فاستفتح جبريل، فقيل: من هذا؟ قال: جبريل، قيل ومن معك؟ قال: محمد. قيل: وقد بُعِثَ إليهِ؟ قال: قد بُعِثَ إليه. ففتح لنا فإذا أنا بإدريس فرحب بني ودعا لي بخير. قال الله عز وجل: {وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا}](1).
58.
في هذه الآية: ثناءُ الله تعالى على المرسلين، من ذرية آدم وممن حمل مع نوح ومن ذرية إبراهيم وإسرائيل وممن هداهم واصطفاهم للنبوة والكرامة وإقامة الدين، في تعظيمهم لأمر ربهم وخرورهم عند سماع آياته ساجدين باكين.
قال القاسمي: {أُولَئِكَ} إشارة إلى المذكورين في السورة من لدن زكريا إلى إدريس عليه السلام، وما فيه من معنى البعد، للإشعار بعلو رتبتهم وبعد منزلتهم في الفضل).
وقال ابن كثير: (يقول تعالى: هؤلاء النبيّون -وليس المراد المذكورين في هذه السورة فقط، بل جنس الأنبياء عليهم السلام، استطرد من ذكر الأشخاص إلى الجنس-).
(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم في الصحيح -حديث رقم- (162) - كتاب الإيمان، من حديث أنس بن مالك. ورواه البخاري وأكثر أهل السنن.
وقوله: {الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} . أي: بفنون النعم الدينية والدنيوية، وضروب الاختصاص في الذكر والنصر.
قال السدي وابن جرير: (فالذي عُني به من ذُرِّيةِ مَنْ حملنا مع نوح إبراهيم، والذي عُني به ذُرِّية إبراهيم إسحاقُ ويعقوب وإسماعيل، والذي عُني به من ذرية إسرائيل موسى، وهارون، وزكريا، ويحيى، وعيسى ابنُ مريم).
قال ابن جرير: (ولذلكَ فَرَّق أنسابهم، وإن كان يجمَعُ جميعهم آدمُ، لأنَّ فيهم من ليس من وَلَدِ مَنْ كان مع نوح في السفينة، وهو إدريسُ، فإنه جَدُّ نُوح).
قال ابن كثير: (قلت: هذا هو الأظهر أن إدريسَ في عَمود نسب نوح عليهما السلام.
وقوله: {وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا} . أي: هديناهم للحق واجتبيناهم للنبوة والكرامة وإقامة الدين.
وقوله: {إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا} .
قال القاسمي: (أي إذا سمعوا كلام الله المتضمن حججه ودلائله وبراهينه، سجدوا لربهم خضوعًا واستكانة، مع مالهم من علوّ الرتبة، وسمو الزلفى عنده تعالى. وفي الآية استحباب السجود والبكاء عند سماع التلاوة).
قال ابن كثير: (أجمع العلماء على مشروعية السجود هاهنا، اقتداء بهم، واتباعًا لمنوالهم).
59 -
63. قوله تعالى: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (59) إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا (60) جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا (61) لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلَامًا وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (62) تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا (63)}.
في هذه الآيات: عطفٌ على ذكر حال السعداء، بذكر حال الأشقياء، الذين
أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون العذاب، إلا من آمن وعمل صالحًا وتداركَ نفسه بالتوبة إلى الله وأناب، فأولئك يدخلون الجنة ويرزقون فيها بغير حساب.
فقوله: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ} أي قرون أُخر، خلفوا زمان الأنبياء في الأرض وقوله:{أَضَاعُوا الصَّلَاةَ} فيه تأويلان:
1 -
قال القاسم بن مخيمرة: (إنما أضاعوا المواقيت، ولو كان تركًا كان كفرًا). وقال مسروق: (لا يحافظ أحد على الصلوات الخمس، فيكتب من الغافلين، وفي إفراطهن الهلكة، وإفراطهن: إضاعتهن عن وقتهن).
2 -
وقال القرظي: (يقول: تركوا الصلاة). واختاره ابن جرير.
قلت: بل مفهوم الإضاعة يشمل التأويلين معًا، فهو إضاعة من أركانها وواجباتها وحدودها وخشوعها ومواقيتها أو ترك لها بالكلية فترة من الزمن أو نحو ذلك.
وتفصيل ذلك:
1 -
أما تركها بالكلية جحودًا فهو كفر وخروج عن الملة، وهو مذهب الجمهور من العلماء.
وفي ذلكَ أدلة من الحديث:
الحديث الأول: روى مسلم في صحيحه عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [بين المسلم وبين الكفر ترك الصلاة](1).
وفي لفظ: [بين العبد وبين الشرك ترك الصلاة].
الحديث الثاني: أخرج أحمد والترمذي وابن ماجة والنسائي بسند صحيح عن عبد الله بن بريدة، عن أبيهِ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [العَهْدُ الذي بَيْنَنا وبَيْنَهم الصلاةُ فمن تركها فقد كفرَ](2).
الحديث الثالث: أخرج ابن ماجة بسند صحيح عن أنس بن مالك، عن النبي صلى الله عليه وسلم
(1) حديث صحيح. رواه مسلم وأصحاب السنن. انظر صحيح مسلم (82)، وسنن أبي داود (2620)، وسنن الترمذي (2618 - 2620)، وسنن النسائي (1/ 232)، وسنن ابن ماجة (1078)، ورواه أحمد في المسند (3/ 370) من طرق من حديث جابر.
(2)
حديث صحيح. أخرجه الترمذي (2621)، وابن ماجة (1079)، والنسائى (1/ 231)، وأحمد (5/ 346)، من حديث عبد الله بن بريدة عن أبيه مرفوعًا.
قال: [ليس بين العبد والشِّرك إلا تركُ الصلاة. فإذا تركها فقد أشرك](1).
2 -
وأما تركها تكاسلًا وانشغالًا مع الإقرار بها وبوجوبها فهو كفر دون كفر.
أي: هو كفر غير مخرج عن الملة، وهو مذهب ابن عباس وغيره من الصحابة وأهل العلم.
وقد جاء لفظ الكفر في السنة بهذا المعنى في أحاديث، منها:
الحديث الأول: أخرج الإمام مسلم عن أبي هريرةَ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [سباب المسلم فسوق وقتاله كفر](2).
الحديث الثاني: أخرجَ الترمذي عن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك] وسنده صحيح (3).
قال الترمذي: (وتفسير هذا الحديث عند بعض أهل العلم أن قوله: فقد كفر أو أشرك على التغليظ. والحجة في ذلكَ حديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع عمر يقول: وأبي وأبي، فقال: "ألا إن الله ينهاكم أن تَحْلفوا بآبائكم". وحديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من قال في حِلفه: واللات والعزَّى فَليقل: لا إله إلا الله". وهذا مثل ما رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "الرياء شرك").
الحديث الثالث: روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرةَ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:[اثنتان في الناس هما بهم كفر: الطعن في النسب والنياحة على الميت](4).
3 -
والآية في تتمتها وصف لمعالجة ما فات من الصلاة وغيرها من الفرائض والواجبات سواء من انقطاع أو انتقاص. وهو قوله تعالى: {وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (59) إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا} .
أي: أقبلوا على شهوات الدنيا وملاذها في طريق الحرام، ورضوا بالحياة الفانية وفضلوها على دار المقام، فهؤلاء سيلقون غيًا: أي خسارًا يوم القيامة. إلا من تدارك
(1) حديث صحيح. أخرجه ابن ماجة في السنن -حديث رقم- (1080)، كتاب الصلاة. باب ما جاء فيمن ترك الصلاة. وانظر صحيح سنن ابن ماجة -حديث رقم- (885).
(2)
حديث صحيح. انظر مختصر صحيح مسلم -حديث رقم- (66)، ورواه البخاري وأكثر أهل السنن.
(3)
حديث صحيح. أخرجه الترمذي (1590). وانظر صحيح سنن الترمذي -حديث رقم- (1241).
(4)
حديث صحيح. أخرجه مسلم في الصحيح (1/ 58). انظر مختصر صحيح مسلم (55)، كتاب الإيمان، باب: الطعن في النسب والنياحة من الكفر.
نفسهُ بالتوبة والإيمان والعمل الصالح قبل فوات الأوان، فهؤلاء يدخلون الجنة ويتجاوز الله عما سلف منهم ببركة الصدق وصحيح العمل والإيمان.
ومن ثمَّ فإن تعويض ما فات من الصلوات ليس بما يسمونه قضاءها، فإن الصلاة التي فاتت قد فات وقتها لقوله تعالى:{إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} . وإنما كما صرحت هذه الآية بالإكثار من النوافل والعمل الصالح بعد التوبة وتصحيح الإيمان.
وفي ذلكَ جاءت السنة العطرة في أحاديث:
الحديث الأول: أخرج ابن ماجة وأبو داود والترمذي بسند صحيح عن أنس بن حكيم الضبِّي قال: قال لي أبو هريرة: إذا أتيت أهل مصرك فأخبرهم أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: [إنَّ أَوَّل ما يُحاسَبُ به العَبْدُ المسلِمُ يوم القيامة، الصلاة المكتوبة. فإن أتَمَّها، وإلا قيلَ: انظروا هَلْ له من تطوُّع؟ فإن كان له تطوُّعٌ أكْمِلَت الفريضة من تطوعه ثم يُفْعَل بسائر الأعمال المفروضة مِثْلُ ذلك](1).
الحديث الثاني: أخرج أبو داود بسند صحيح عن أبي هريرة قال: [إنَّ أول ما يحاسب الناس به يوم القيامة من أعمالهم الصلاة، قال: يقول ربنا جل وعزَّ لملائكته وهو أعلم: انظروا في صلاة عبدي أتمّها أم نقصها، فإن كانت تامة كتبت له تامة، وإن كان انتقص منها شيئًا قال: انظروا هل لعبدي من تطوع؟ فإن كان له تطوع قال: أتمّوا لعبدي فريضته من تطوعه، ثم تؤخذ الأعمال على ذاكم](2).
الحديث الثالث: روى أبو داود كذلك في الباب عن تميم الداري، عن النبي صلى الله عليه وسلم -بهذا المعنى- قال:[ثم الزكاة مثل ذلكَ، ثم تؤخذ الأعمال على حسب ذلك](3).
وقوله تعالى: {جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا} .
أي: سيدخل التائبون المغفور لهم بذنوبهم وتقصيرهم جنات إقامة التي أخبر بها
(1) حديث صحيح. أخرجه ابن ماجة في السنن -حديث رقم- (1425)، في الصلاة. باب ما جاء في أول ما يحاسب به العبد الصلاة. وانظر صحيح ابن ماجة (1172)، وصحيح سنن أبي داود (770)، وصحيح سنن الترمذي -حديث رقم- (337).
(2)
حديث صحيح. أخرجهُ أبو داود في السنن (864)، وهو في حكم المرفوع، كما يدل عليه الحديث الذي قبله. وذكره أبو داود في باب:"قول النبي صلى الله عليه وسلم: كل صلاة لا يتمها صاحبها تتم من تطوعه".
(3)
حديث صحيح. أخرجه أبو داود (866) وانضر صحيح سنن أبي داود -حديث رقم- (771).
تعالى عباده ووعدهم بها بظهر الغيب، ولا مخلف لوعده سبحانه. قال النسفي ({بِالْغَيْبِ} أي وعدها وهي غائبة عنهم غير حاضرة، أو هم غائبون عنها لا يشاهدونها). وقال ابن كثير: ({إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا}، تأكيد لحصول ذلكَ وثبوته واستقراره، فإن الله لا يخلف الميعاد ولا يبدّله، كقوله: {كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا}، أي: كائن لا محالة. وقوله ها هنا: {مَأْتِيًّا} أي: العباد صائرون إليه، وسيأتونه). وقيل: مأتيًا أي آتيًا، وكلا المعنيين حق.
وقوله: {لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلَامًا} .
أي: لا يسمعون في الجنة ساقط الكلام ولغوه وتافهه وسفسافه، بل يسمعون سلامًا من الملائكة أو من بعضهم على بعض، ويحتمل أن يكون التقدير: لا يسمعون إلا ما فيه السلامة من النقص والعيوب. فهو استثناء منقطع عند الجمهور. كقوله تعالى: {لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا (25) إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا} .
وقوله: {وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا} . أي: في أوقات تتعاقب، يعرفون مُضيَّها بأضواء وأنوار.
قال مجاهد: (ليس بكرة ولا عَشِيًّا، ولكن يؤتون به على ما كانوا يشتهون في الدنيا).
وعن قتادة قال: (فيها ساعتان بكرة وعشيّ، فإن ذلكَ لهم ليس ثَمَّ ليل، إنما هو ضوء ونور).
والمقصود: تعاقب الرزق عليهم في مثل وقت البُكرات ووقت العشيات، لا أن هناكَ ليلًا ونهارًا. قال النسفي: (أي يؤتون بأرزاقهم على مقدار طرفي النهار من الدنيا إذ لا ليل ولا نهار ثمَّ لأنهم في النور أبدًا، وإنما يعرفون مقدار النهار برفع الحجب ومقدار الليل بإرخائها، والرزق بالبكرة والعشي أفضل العيش عند العرب فوصف الله جنته بذلك.
وقيل: أراد دوام الرزق كما تقول أنا عند فلان بكرة وعشيًا تريد الدوام).
قلت: وهذا من بديع التفسير، وأبدع منه ما جاء في صحيح السنة المطهرة في ذلك:
الحديث الأول: أخرج البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: [أَوَّلُ زُمْرَةٍ تَدْخلُ الجنَّةَ على صورةِ القمَرِ لَيْلَةَ البدر، والذين على إِثْرِهم كأشدّ
كَوْكَبٍ إضَاءَةٍ، قلوبُهم على قلبِ رجلٍ واحدٍ لا اختلاف بينهم ولا تباغُضَ، لكل امرئٍ منهم زوجتان، كُلُّ واحدةٍ مِنْهُما يُرى مُخُّ ساقِها من وراء اللَّحْمِ مِنَ الحُسْنِ، يُسَبِّحونَ اللهَ بُكْرَةً وعَشِيًّا، لا يَسْقَمُونَ ولا يَمْتَخِطونَ، ولا يَبْصُقون، آنيتُهم الذَّهبُ والفِضَّةُ، وأمشاطُهم الذَّهب، ووَقودُ مجامرِهم. الألُوَّةُ -قال أبو اليمان: يعني العُودَ ورَشْحُهُمْ المِسْكُ. وقال مجاهد: الإبكَارُ: أوَّلُ الفجر، والعَشِيُّ: مَيْلُ الشَّمس إلى أنْ -أُرَاهُ- تَغْرُبَ] (1).
الحديث الثاني: أخرج الإمامُ أحمد بسند رجاله ثقات عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [الشهداء على بارق نهرٍ ببابِ الجنَّةِ، في قبَّةٍ خضراءَ، يخرُجُ عليهم رزقُهم من الجنة بكرة وعشيًّا](2).
الحديث الثالث: أخرج الترمذي وابن ماجة بسند صحيح عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [المؤمن إذا اشتهى الولدَ في الجنةِ، كانَ حَمْلُهُ وَوَضعُهُ في ساعةٍ واحدةٍ، كما يشتهي](3).
وقوله تعالى: {تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا} .
أي: هذه الصفات العالية البديعة للجنة هي منازل المؤمنين الأتقياء يوم القيامة.
وفي التنزيل: {أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ (10) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [المؤمنون: 10 - 11]. وقد بدأها سبحانه بقوله: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} .
وفي مسند البزار بسند جيد عن عدي بن الفضل عن الجريري عن أبي نضرة عن أبي سعيد موقوفًا ومرفوعًا: [خلق الله تبارك وتعالى الجنة، لبنة من ذهب، ولبنةٌ من فضةٍ، ومِلاطُها المسكُ، فقال لها: تكلّمي، فقالت: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ}، فقالت الملائكة: طوبى لك، منزل الملوك](4). وفي رواية: [منازل الملوك].
(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (3246)، كتاب بدء الخلق. وانظر صحيح مسلم (2834)، ومسند أحمد (2/ 316)، وجامع الترمذي (2537)، وصحيح ابن حبان (7436).
(2)
رجاله ثقات. أخرجه أحمد (1/ 266)، والطبري (8213)، والطبراني (10825)، وابن حبان (4658)، وصححه الحاكم (2/ 74)، ووافقه الذهبي، وقال الهيثمي في "المجمع" (5/ 298): ورجال أحمد ثقات. وانظر صحيح الجامع (3636).
(3)
حديث صحيح. أخرجه ابن ماجة (4338)، والترمذي وابن حبان. انظر صحيح الجامع (6525).
(4)
حديث صحيح. أخرجه البزار من حديث أبي سعيد. انظر: "زوائد البزار"(317)، ومجمع الزوائد (10/ 397)، وسلسلة الصحيحة -حديث رقم- (2662).
64 -
65. قوله تعالى: {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا (64) رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا (65)}.
في هذه الآيات: إثباتُ جبريل عليه السلام لنبينا صلى الله عليه وسلم أن تَنزُّلَهُ بأمر الله العظيم، له الأمر كله وهو السميع العليم، رب السماوات والأرض وما بينهما -فاعبده يا محمد واصطبر على مشاق الطريق- فهو الأحد الصمد لا شبيه له، وله المثل الأعلى وهو العزيز الحكيم.
أخرج البخاري والترمذي والنسائي عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال:[قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لجبريل: ما يمنعكَ أن تزورنا أكثرَ مما تزورُنا؟ قال: فنزلت: {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا} الآية](1).
وقوله: {لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ} - فيه أقوال محتملة:
1 -
قال الربيع: {لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا} يعني الدنيا {وَمَا خَلْفَنَا} الآخرة {وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ} والنفختين).
2 -
وعن قتادة: {لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا} من أمر الآخرة {وَمَا خَلْفَنَا} من أمر الدنيا (وَمَا {وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ} ما بين الدنيا والآخرة. أو قال: ما بين النفختين). وروي نحوه عن ابن عباس.
3 -
وقال ابن جريج: {لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا} ما مضى أمامنا من الدنيا {وَمَا خَلْفَنَا} ما يكون بعدنا من الدنيا والآخرة {وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ} قال: ما بينَ ما مضى أمامهم، وبين ما يكونُ بعدهم).
قلت: وكلها أقوال محتملة في تفسير المراد من الآية، واللهُ تعالى أعلم.
وقوله: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} . قال مجاهد: (ما نسيك ربك).
(1) حديث صحيح. أخرجه البخاوي (3218) - كتاب بدء الخلق- وكذلكَ (4731)، (7455)، وأخرجه الترمذي (3158)، والنسائي في "التفسير"(339).
وفي التنزيل نحوه: {وَالضُّحَى (1) وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى (2) مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} [الضحى: 1 - 3].
أخرج البزار بسند جيد عن أبي الدرداء يرفعه -قال: [ما أحلَّ الله في كتابه فهو حلالٌ، وما حرَّم فهو حرامٌ، وما سكتَ عنهُ فهو عافية، فاقبلوا من الله عافِيَتَه، فإن الله لم يكن لينسى شيئًا. ثم تلا هذه الآية: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا}](1).
وقوله: {رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ} .
أي: ربك -يا محمد- رب السماوات والأرض وما بينهما، خالق كل شيء والمتصرف في كل شيء، فهو الحاكم لا معقب لحكمه، فاثبت على عبادته. قال النسفي:{وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ} أي: اصبر على مكافأة الحسود، لعبادة المعبود، واصبر على المشاق، لأجل عبادة الخلاق، أي: لتتمكن من الإتيان بها).
وقوله: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} . أي: شبيهًا.
قال ابن عباس: (هل تعلم للرب مِثْلًا أو شِبهًا). وقال أيضًا: (ليسَ أحدٌ يُسَمَّى الرحمنَ غيره). وقال ابن جريج: (لا شريكَ لهُ ولا مثل). وعن قتادة: (قوله: ({هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} لا سمى لله ولا عِدل له، كِلّ خلقهِ يقرّ له، ويعترف أنه خالقه، ويعرف ذلكَ، ثم يقرأ هذه الآية: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [الزخرف: 87]).
66 -
72. قوله تعالى: {وَيَقُولُ الْإِنْسَانُ أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا (66) أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا (67) فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا (68) ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا (69) ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيًّا (70) وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا (71) ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا (72)}.
في هذه الآيات: تكذيبُ الكافر بالبعث والحساب، وقد خلقهُ الله من العدم ووعده
(1) أخرجه البزار (123)(2231)، وقال الهيثمي في "المجمع" (7/ 55): ورجاله ثقات.
على كفره العذاب، فالنارُ حق والصراط على جهنم يسقط فيها المجرمون، وينجو بإذن الله المتقون.
فقوله تعالى: {وَيَقُولُ الْإِنْسَانُ أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا} - إنكار وتعجب واستبعاد للإعادة بعد الممات.
قال ابن جرير: (يقول تعالى ذكره: {وَيَقُولُ الْإِنْسَانُ} الكافر الذي لا يصدق بالبعث بعد الموت: أخرج حيًّا فأبعث بعد الممات وبعد البلاء والفناء! إنكارًا منه ذلك). قال القاسمي: (أي يقول بطريق الإنكار والاستبعاد: أأخرج حيًّا بعدما لبثتُ في القبر مدة).
وفي التنزيل نحو ذلك:
1 -
قال تعالى: {وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} [الرعد: 5].
2 -
وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:[فيلقى العبدَ -أي يوم القيامة- فيقول: أي: فُلْ -معناه يا فلان-! ألم أكرِمْكَ وأُسَوِّدكَ وأزوجْكَ وأسخِّر لك الخيل والإبل وأذَرْكَ تَرْأَسُ وتربعُ؟ فيقول: بلى أي ربِّ، قال: فيقول: أَفَظَنَنْتَ أنك ملاقيَّ؟ فيقول: لا. فيقول: فإني أنساكَ كما نسيتني] الحديث (1).
وقوله تعالى: {أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا} .
استدلال من الله جل ثناؤه بالبدأةِ على الإعادة، وهذا من حجج الله تعالى البالغة.
كما في التنزيل: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الروم: 27].
وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: [قال الله تعالى: كذّبني ابنُ آدمَ، ولم يكنُ له ذلك، وشتمني ولم يكن لهُ ذلك، فأما تكذيبهُ
(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم في صحيحه (8/ 216) من حديث أبي هريرة. وانظر مختصر صحيح مسلم (1932) - كتاب التوبة وقبولها وسعة رحمة الله وغير ذلكَ -باب: تقرير النعم يوم القيامة على الكافر والمنافق- في أثناء حديث طويل.
إيّايَ فقوله: لَنْ يُعيدني كما بدأني، وليسَ أوَّلُ الخَلْقِ بأَهْوَنَ عَلَيَّ من إعادتهِ، وأما شتمهُ إيّايَ فقوله: اتَّخَذَ اللهُ ولدًا، وأنا الأحد الصَّمدُ، لمْ أَلِدْ ولم أُولَدْ، ولم يَكُنْ لِي كُفُوًا أَحَدٌ] (1).
وأخرج البخاري نحوه عن ابن عباس رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[قال اللهُ: كَذبني ابنُ آدمَ ولم يَكُنْ لهُ ذلك، وشتمني ولمْ يكُنْ له ذلكَ، فأما تكذيبهُ إيَّايَ فزعَمَ أني لا أقدرُ أن اعيدَهُ كما كانَ، وأما شَتْمُهُ إيّايَ فقولُه: لي وَلَدٌ، فسبحاني أن أتخِذ صاحبةً أو ولدًا].
وقوله تعالى: {فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا} .
قسمٌ عظيم من الله سبحانه، إذ أقسم بنفسه الكريمةِ أنه لا بد -يا محمد- أن يَحْشُرَ هؤلاء المستنكرين البعث والمعاد، وشياطينهم الذين كانوا يعبدون من دون الله ثم ليحضرنهم قعودًا حول جهنم.
قال النسفي: ({فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ} أي الكفار المنكرين للبعث {وَالشَّيَاطِينَ} الواو للعطف، وبمعنى مع أوقع، أي يحشرون مع قرنائهم من الشياطين الذين أغووهم يقرن كل كافر مع شيطان في سلسلة، وفي إقسام الله باسمهِ مضافًا إلى رسوله تفخيم لشأن رسوله).
والجثي جمع الجاثي. قال ابن عباس {ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا} يعني القعود، وهو مثل قوله:{وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً} [الجاثية: 28]). وعن السدي: ({ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا}، قال: يعني قيامًا).
وقوله تعالى: {ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا} .
قال ابن جرير: (يقول تعالى ذكره: ثم لنأخذن من كل جماعة منهم أشدّهم على الله عتوًا وتمرّدًا فلنبدأنّ بهم). والشيعة هم الجماعة المتعاونون على أمر.
قال مجاهد: {مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ} : أمة. وقوله: {عِتِيًّا} قال: كفرًا). قال ابن عباس: (يقول: أيهم أشدّ للرحمن معصية، وهي معصيته في الشرك). وعن أبي الأحوص قال: (نبدأ بأكابر فالأكابر جرمًا). وعن قتادة قال: (ثم لننزعنَّ من أهل كلِّ دين قادتهم ورؤوسهم في الشر).
(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (4974) -كتاب التفسير- وانظر (4428) - للرواية الأخرى.
وقوله تعالى: {ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيًّا} .
قال ابن كثير: (ثمّ هاهنا لعطف الخبر على الخبر، والمرادُ أنه تعالى أعلمُ بمن يستحقُّ من العباد أن يَصْلَى بنار جهنم ويخلُد فيها ومَنْ يستحقّ تَضعِيفَ العذاب، كما قال في الآية المتقدمة: {قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ}).
وقوله تعالى: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا} .
هو من ذكر الصراط يوم القيامة. والصراط: جسر على جهنم، يُوَجَّه الناس إليهِ بعد مفارقتهم مكانَ الموقف إلى الظلمةِ التي دون الصراط حيث يفترق المنافقون عن المؤمنين ويتخلفون عنهم، ويسبقهم المؤمنون ويحال بينهم بسور يمنعهم الوصول إليهم.
ففي صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: [إن رسول الله صلى الله عليه وسلم سُئل: أين الناس يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات؟ فقال: هم في الظلمة دون الجسر].
وفي رواية قالت: [سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ} فأين يكون الناس يومئذ؟ قال: على الصراط](1).
وعن قتادة: ({وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} قال: هو المرّ عليها). أي المرور على الصراط.
وعن أبي الأحوص عن عبد الله: في قوله: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} قال: (الصراط على جهنم مثلُ حد السيف، فتمر الطبقة الأولى كالبرق، والثانية كالريح، والثالثة كأجود الخيل، والرابعة كأجود البهائم، ثم يمرون والملائكة يقولون: اللهم سلِّم سلِّم).
وفي صحيح سنن الترمذي عن عبد الله قال: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} ، قال:[يردونها ثم يصدرون بأعمالهم](2).
وكذلك روى الترمذي بسند صحيح عن السدي قال: سألت مُرَّة الهمداني عن قول الله: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} ، فحدثني: أن عبد الله بن مسعود حدثهم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [يَردُ الناسُ النارَ، ثم يَصْدُرُونَ عنها بأعمالهم، فأوَّلهُم كلمْحِ البَرْقِ،
(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم في صحيحه (2791)، ورواه أحمد في المسند -حديث رقم- (3516).
(2)
صحيح موقوف، وهو في حكم المرفوع. أخرجه الترمذي في السنن (3382) - عند تفسير سورة مريم- آية- (71). وانظر صحيح سنن الترمذي (2527).
ثم كالريح، ثم كحضْرِ الفَرس، ثم كالراكب في رحلهِ، ثم كَشَدِّ الرَّجُلِ، ثم كَمَشْيِهِ] (1).
وأما قوله: {كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا} ، قال مجاهد:(قضاء) - أي: قضاء مقضيًا.
وقال قتادة: (قسمًا واجبًا).
وقوله تعالى: {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا} .
قال قتادة: (على ركبهم. قال: إن الناس وردوا جهنم وهي سوداء مظلمة، فأما المؤمنون فأضاءت لهم حسناتهم فَأُنْجُوا منها، وأما الكفار فأوبقتهم أعمالهم واحتبسوا بذنوبهم).
وفي صحيح مسلم من حديث جابر عن أم مُبَشِّر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [والذي نفسي بيدهِ، لا يلج النارَ أحدٌ بايع تحت الشجرة. قالت حفصة: فقلت: يا رسول الله، أليسَ اللهُ يقول: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} فقال: ألا تسمعيه قال: {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا}](2).
فأخبرها عليه الصلاة والسلام أن ورود النار لا يستلزم دخولها، وأن النجاة من الشر لا تستلزم حصوله بل تستلزم انعقاد سببه، فمن طلبه عدوه ليهلكوه ولم يتمكنوا منه يقال نَجّاه الله منهم، كما قال سبحانهُ:{وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا} ، {فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا} ولم يكن العذاب أصابهم بل أصاب غيرهم (3).
يروي الحاكم والبيهقي بسنده عن مسروق عن عبد الله قال: (يجمع الله الناس يوم القيامة، إلى أن قال: فَيُعْطَوْن نورهم على قدر أعمالهم، وقال: فمنهم من يُعطى نورَهُ مثل الجبل بين يديه، ومنهم من يعطى نورهُ فوق ذلكَ، ومنهم من يُعطى نوره مثل النخلة بيمينه، ومنهم من يعطى دون ذلكَ بيمينه حتى يكون آخر من يعطى نوره على إبهام قدمه، يضيء مرة ويطفأ مرة، إذا أضاء قدّم قدمه، وإذا طفئ قام، قال: فيمر ويمرون على الصراط، والصراط كحد السيف، دَحضٌ، مَزَلَّة، فيقال لهم: امضوا
(1) حديث صحيح. أخرجه الترمذي في السنن -حديث رقم- (3381)، كتاب التفسير، سورة مريم، آية (71). انظر صحيح سنن الترمذي (2526).
(2)
حديث صحيح. أخرجهُ مسلم في صحيحه (2496)، وأخرجهُ أحمد في مسنده (6/ 420).
(3)
انظر شرح العقيدة الطحاوية -لابن أبي العز الحنفي- مسألة الصراط. وكتابي: أصل الدين والإيمان - عند الصحابة والتابعين لهم بإحسان (1/ 752) - بحث الصراط على جهنم والشفاعة.
على قدر نوركم، فمنهم من يمر كانقضاض الكوكب، ومنهم من يمر كالريح، ومنهم من يمر كالطرف، ومنهم من يمر كشدِّ الرَّجل، يَرْمُلُ رَمَلًا، فيمرون على قدر أعمالهم، حتى يمر الذي نوره على إبهام قدمه، تخرّ يدٌ، وتعلق يد، وتخر رجل وتعلق رجل، وتصيب جوانبه النار، فيخلصون فإذا خلصوا قالوا: الحمدُ لله الذي نجّانا منك بعد أن أراناك، لقد أعطانا الله ما لم يُعطَ أحدٌ) (1).
فصفة الصراط كحدّ الموسى في دقتهِ، لا ينفع في المرور عليه إلا توفيق الله ورحمته.
يروي الحاكم بسند صحيح عن سلمان، عن النبي عليه الصلاة السلام، قال:[يوضع الميزان يوم القيامة فلو وزن فيه السماوات والأرض لوسعت، فتقول الملائكةُ: يا رب لمن يزن هذا؟ فيقول اللهُ تعالى: لمن شئتُ من خلقي، فتقول الملائكةُ: سبحانكَ ما عبدناكَ حق عبادتكَ، ويوضع الصراط مثل حد الموسى فتقول الملائكةُ: من تجيز على هذا؟ فيقول: من شئت من حْلقي، فيقولون: سبحانكَ ما عبدناكَ حق عبادتك](2).
كما لا يستطيعُ أن يتدخلَ في الموقف ويشفع، إلا من أذن الله له بالكلام وأكرمه بالشفاعة، وإنما يُضرب الجسر على جهنم ثم تحل الشفاعة.
ففي الصحيحين عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: [أن ناسًا قالوا: يا رسول الله! هل نرى ربنا يوم القيامة؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم، هل تضارون في رؤية الشمس بالظهيرة صحْوًا ليس معها سحاب؟ وهل تضارّون في رؤية القمر ليلة البدرِ صَحْوًا ليسَ فيها سحاب؟ قالوا: لا يا رسول الله! قال: ما تضارّون في رؤية الله يوم القيامة إلا كما تضارون في رؤية أحدهما. إذا كان يوم القيامة أذَّن مؤذن: ليَتَّبع كلُ أمة ما كانت تعبد. فلا يبقى أحد كان يعبد غير الله من الأصنام والأنصاب إلا يتساقطون في النار، حتى إذا لم يبقَ إلا من كان يعبُدُ الله من بَرٍّ وفاجرٍ، أتاهم رب العالمين، قال: فماذا تنظرون؟ يتبع كل أمة ما كانت تعبد. قالوا: يا ربنا فارَقنا الناس في الدنيا أفقرَ ما كنا إليهم ولم نصاحبهم.
وفي رواية: فيقول: هل بينكم وبينه آية تعرفونه؟ فيقولون: نعم، فيكشف عن ساق، فلا يبقى من كان يسجد لله من تلقاء نفسه إلا أذن الله له بالسجود، ولا يبقى من
(1) انظر تفصيل ذلكَ في كتابي: أصل الدين والإيمان (2/ 753 - 754).
(2)
حديث صحيح. رواه الحاكم (4/ 586) بسند صحيح من حديث سلمان رضي الله عنه، وصححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة (941).
كان يسجد اتقاء ورياء إلا جعل الله ظهره طبقة واحدة. كلما أراد أن يسجد خرَّ على قفاه ثم يضرب الجسر على جهنم، وتحل الشفاعة، ويقولون: اللهم سَلِّم سَلِّم، فيمرّ المؤمنون كطرف العين وكالبرق وكالريح وكالطير وكأجاويد الخيل والركاب، فناج مُسَلَّم (1)، ومخدوش مرسَل (2)، ومكدوس في نار جهنم (3)، حتى إذا خلص المؤمنون من النار، فوالذي نفسي بيده ما من أحد منكم بأشد مناشدة في الحق -قد تبين لكم- من المؤمنين لله يوم القيامة لإخوانهم الذين في النار. .] الحديث (4).
73 -
76. قوله تعالى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا (73) وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا (74) قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضْعَفُ جُنْدًا (75) وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ مَرَدًّا (76)}.
في هذه الآيات: إخبار الله تعالى عن سلوك الكفار حين تُتلى عليهم آيات الله واضحة بينة ظاهرة الدلالة والحجّة كيف يصدون ويعرضون ويفتخرون على الذين آمنوا كذبًا أنهم خير منازل وأرفع مكانة وأعمر ناديًا، والله قد أهلك من قبلهم أقوامًا كانوا أشد قوة وأكثر متاعًا. إن الله يمهل الكافرين حتى يوقعهم في شباك العذاب، ويزيد المؤمنين هدى وعند الله لهم خير الثواب.
فعن ابن عباس: ({وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا} قال: المقام: المسكن، والنديّ: المجلس والنّعمة والبهجة التي كانوا فيها. أو قال: المجلس والمجمع الذي كانوا يجتمعون فيه).
وعن مجاهد: (في قول الله: {أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ} قال: قريش تقولها لأصحاب
(1) أي: نجاة وسلامة.
(2)
أي: خدش ولكن صاحبه ينطلق ويصل مع الإرهاق.
(3)
أي: متراكم بعضه فوق بعض في جهنم.
(4)
حديث صحيح. أخرجه مسلم (1/ 118)، وانظر الحديث بتمامه مع تفصيل بحث الصراط والشفاعة في كتابي: أصل الدين والإيمان (2/ 755 - 759).
محمد صلى الله عليه وسلم، {وَأَحْسَنُ نَدِيًّا} قال: مجالسهم، يقولونه أيضًا). قال قتادة:(رأوا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم في عيشهم خشونة، وفيهم قشافة، فَعَرَّض أهل الشرك بما تسمعون قوله {وَأَحْسَنُ نَدِيًّا} يقول: مجلسًا). وقال أيضًا: (الندي: المجلس، وقرأ قول الله: {فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ} [العلق: 17] قال: مجلسه).
قال ابن كثير: ({خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا}، أي: أحسنُ منازل وأرفعُ دُورًا وأحسنُ نديًّا، وهو مجتمع الرجال للحديث، أي: ناديهم أعمرُ وأكثر واردًا وطارقًا، يعنون: فكيف نكون ونحن بهذه المثابة على باطل، وأولئك الذين هم مختفون مستترون في دار الأرقم بن أبي الأرقم ونحوها من الدور على الحق؟ كما قال تعالى مخبرًا عنهم: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ} [الأحقاف: 11]. وقال قومُ نوح: {أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ} [الشعراء: 111]، وقال تعالى: {وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ} [الأنعام: 53]).
وقوله تعالى: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا} .
أي: كم أهلكنا قبلهم من أمم كانوا على رَغَدٍ من العيش أكبر، وأموال وأمتعة أكثر، وأشكال ومناظر أجمل. وكلام المفسرين متقارب حول هذا المعنى.
قال ابن عباس: ({أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا}، الرئي: المنظر، والأثاث: المتاع).
وعن الحسن: (الأثاث: أحسن المتاع، والرئي: المال). وعن قتادة: ({وَأَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا} قال: أحسن صورًا، وأكثر أمولًا). وقال: (أي. أكثر متاعًا وأحسن منزلة ومستقرًا، فأهلك الله أموالهم، وأفسد صورهم عليهم تبارك وتعالى.
وقوله: {قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا} . أي: قل يا محمد لمن أصر على الكفر: إنّ الله يمد له ليمكر به.
قال مجاهد: (فَلْيَدَعْهُ الله في طغيانه). قال النسفي: (وهذا الأمر بمعنى الخبر، أي من كفر مدّ له الرحمن يعني أمهله وأملى له في العمر ليزداد طغيانًا وضلالًا، كقوله تعالى: {إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا} وإنما أخرج على لفظ الأمر إيذانًا بوجوب ذلك، وأنه مفعول لا محالة كالمأمور به الممتثل ليقطع معاذير الضلال).
أي: حتى إذا باغتهم وعد الله بالعذاب في الدنيا بالقتل والأسر على أيدي المسلمين، أو قامت القيامة لينالهم فيها من الخزي والنكال، فهنالك يعلمون أن المؤمنين هم كانوا خيرًا مقامًا وأحسن نديًا لا الكفار.
وقوله تعالى: {وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ مَرَدًّا} .
قال القرطبي: (أي ويثبت الله المؤمنين على الهدى، ويزيدهم في النّصرة، وينزل من الآيات ما يكون سبب زيادة اليقين مجازاة لهم). قال: {وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا} أي جزاء، {وَخَيْرٌ مَرَدًّا} أي في الآخرة مما افْتَخَرَ به الكفار في الدنيا). قيل:{وَخَيْرٌ مَرَدًّا} من الردّ، أي خيرٌ ردًا على عاملها بالثواب. وقيل: أي خيرٌ مرجعًا فكل أحد يرد إلى عمله الذي عمله.
قلت: وهذه الهداية المذكورة في الآية على نوعين:
النوع الأول: قوله: {الَّذِينَ اهْتَدَوْا} - أي قبلوا بهداية الرسل وصدقوا بها وتابعوهم على الحق. وهي الهداية المسماة: هداية الدلالة والإرشاد.
التوع الثاني: قوله {هُدًى} - أي يزيد الله أصحاب الهداية السابقة -هداية الدلالة والإرشاد- هداية خاصة، وهي هداية التوفيق والإلهام، نتيجة لصدقهم في قبول هداية المرسلين، ورسوخهم في ما يقتضيه ذلك من الإيمان واليقين (1).
وفي التنزيل نحو ذلك:
1 -
قال تعالى: {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} [التغابن: 11].
2 -
3 -
وقال تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت: 69].
وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [إن الله تعالى قال: من عادى لي وليًّا فقد آذنته بالحرب، وما تقرَّبَ إليَّ عبدي بشيء أحب إليّ مما افترضته
(1) انظر بحث -مراتب الهداية والضلال- في كتابي: أصل الدين والإيمان (2/ 893).
عليه، وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبَّه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأعطينَّه، وإن استعاذني لأعيذنَّه، وما تردّدتُ عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس المؤمن، يكره الموت وأنا أكره مساءته] (1).
وأما الباقيات الصالحات فهي جميع أعمال الآخرة، وقد جاء تخصيص عطر لشيء من ذلك في السنة الصحيحة:
فقد أخرج النسائي والحاكم بسند صحيح عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أخُذوا جُنَّتكم من النار، قولوا: سُبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، فإنهن يأتين يومَ القيامة مُقَدِّماتٍ، ومُعَقِّباتٍ، ومُجَنِّباتٍ، وهُنَّ الباقياتُ الصالحاتُ] (2).
77 -
80. قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا (77) أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا (78) كَلَّا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا (79) وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْدًا (80)}.
في هذه الآيات: تهديد شديدٌ ووعيد أكيد لذلك الكافر الذي يظن أنّ له عند الله مالًا وولدًا، وكأنه اطلع على الغيب أو اتخذ عند الله عهدًا، كلا سيحيق المكر به ويحرمه الله المال والولد فيأتي يوم القيامة فردًا.
أخرج البخاري ومسلم عن خَبَّاب قال: [كنتُ قَيْنًا في الجاهليةِ وكان لي على العاصي بن وائل دَيْن فأتَيْتُه أتقاضاه. فقال: لا أُعطيكَ حتى تكْفُرَ بمحمد، فقلت: لا أكْفُرُ حتى يميتَكَ الله ثم تُبْعَثَ. قال: دَعْني حتى أموتَ وأُبْعَثَ فَسأوُتى مالًا وولدًا
(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري في الصحيح (4/ 231)، والبغوي في "شرح السنة"(1/ 142/ 2)، ويشهد له ما في مسند أحمد (6/ 256).
(2)
حديث صحيح. أخرجه النسائي والحاكم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. انظر تخريج الترغيب (2/ 248)، وصحيح الجامع (3209).
فأقضيكَ، فنزلتْ:{أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا (77) أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا} ] (1).
ورواه أحمد وفي لفظه: [قال: فإني إذا مِتُّ ثم بُعثتُ جئتني ولي ثَمَّ مالٌ وولدٌ، فأعطيتك. فأنزل الله: {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا} إلى قوله: {وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْدًا}].
وعن مجاهد: ({لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا} قال: العاص بن وائل يقوله).
وقوله تعالى: {أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا} - إنكار على هذا المدّعي الكاذب، أي: هل علم الغيب أم اتخذ عند الله مَوْثِقًا. قال البخاري: ({عَهْدًا}: موثِقًا).
وعن ابن عباس: ({أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا} قال: لا إله إلا الله، فيرجوه بها).
وقوله: {كَلَّا} . قال ابن كثير: (هي حرف رَدْع لما قبلها وتأكيد لما بعدها).
وقوله تعالى: {سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا} .
قال ابن جرير: (أي سنكتب ما يقول هذا الكافر بربه، القائل {لَأُوتَيَنَّ} في الآخرة {مَالًا وَوَلَدًا} {وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا} يقول: ونزيده من العذاب في جهنم بقيله الكذب والباطل في الدنيا، زيادة على عذابه بكفره بالله).
وقوله تعالى: {وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْدًا} .
أي: نسلبه المال والولد -عكس ما ادّعى- ويأتينا يوم القيامة فردًا من المال والولد.
قال قتادة: ({وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْدًا}: لا مال له ولا ولد). وقال ابن زيد: ({وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ} قال: ما جمع من الدنيا وما عمل فيها. {وَيَأْتِينَا فَرْدًا} قال: فردًا من ذلك، لا يتبعه قليل ولا كثير).
81 -
84. قوله تعالى: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (81) كَلَّا
(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (2091)، كتاب البيوع، وأخرجه مسلم (2795)، والترمذي (3162)، وانظر مسند أحمد (5/ 111)، وصحيح ابن حبان (4885).
سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا (82) أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا (83) فَلَا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا (84)}.
في هذه الآيات: اتخاذُ الكافرين آلهة من دون الله سيكفرون بها يوم يلقون الخزي والعذاب، وسوء الحساب، فالله تعالى يرسل الشياطين على الكافرين ليزدادوا غيًّا، وإنما هم صائرون في وقت محدود إلى عذاب الله ليذوقوا نكالًا.
فقوله تعالى: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (81)} . يعني مشركي قريش.
قال القرطبي: (وظاهر الكلام أن {عِزًّا} راجع إلى الآلهة التي عبدوها من دون الله.
ووحّد لأنه بمعنى المصدر، أي لينالوا بها العز ويمتنعون بها من عذاب الله).
وقوله تعالى: {كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا} . قال ابن عباس: (يقول: أعوانًا).
وقال مجاهد: (عونًا عليهم تخاصمهم وتكذبهم). وقال ابن زيد: (الضد: البلاء).
وقال عكرمة: (الضدّ: الحسرة).
وعن السدي: {كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ} ، أي: بعبادة الأوثان. وقوله: {وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا} ، أي: بخلاف ما رَجَوْا منهم). وقال: (الخصماء الأشداء في الخصومة).
والمعنى: يجيبهم الله تعالى بقوله؛ كلّا-: أي ليس الأمر كما تظنون وتتوهمون، بل سيكفرون بعبادة هذه الأصنام أو ينكرون أنهم عبدوها، أو تجحد الآلهة عبادة المشركين لها.
وقوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا} .
قال ابن عباس: {أَزًّا} يقول: تغريهم إغراء. قال: تؤزّ الكافرين إغراء في الشرك، امض امض في هذا الأمر حتى توقعهم في النار، امضوا في الغيّ امضوا).
وقال قتادة: (تزعجهم إزعاجًا في معصية الله). أو قال: (تزعجهم إلى معاصي الله إزعاجًا).
وقال السدي: (تطغيهم طُغيانًا).
وفي التنزيل:
1 -
قال تعالى: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} [الزخرف: 36].
2 -
وقال تعالى. {وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الأنعام: 129].
قال ابن زيد: (نسلط ظلمة الجن على ظلمة الإنس).
وفي المسند بإسناد حسن عن أبي سعيد، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[إنّ الشيطان قال: وعِزَّتك يارب لا أبرحُ أُغوي عبادك ما دامت أرواحهم في أجسادهم. فقال الرب: وعزتي وجلالي لا أزال أغفر لهم ما استغفروني](1).
قلت: وإنما يتابع الشيطان زحفه على الكفار ما دام انعدم منهم الاستغفار، فيحملهم بأزّه على محاربة دين الله في الأرض ونشر الفواحش والمعاصي والآثام.
وقوله تعالى: {فَلَا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا} . قال ابن عباس: (نعدّ أنفاسهم في الدنيا). وقال السدي: (السنين، والشهور، والأيام، والساعات).
أي: لا تعجل يا محمد على هؤلاء في حلول نقمة الله بهم، فإن لهم أجلًا هم بالغوه ثم هم صائرون بحلوله إلى عذاب الله وسخطه ونكاله.
وفي التنزيل نحو ذلك:
1 -
قال تعالى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ} [إبراهيم: 42].
2 -
وقال تعالى: {إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا} [آل عمران: 178].
3 -
وقال تعالى: {نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ} [لقمان: 24].
ومن كنوز صحيح السنة في آفاق معنى الآية، حديثان:
الحديث الأول: أخرج البخاري عن أبي موسى رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [إنَّ الله لَيُملي للظالم حتى إذا أخَذَه لم يُفْلِتْه. قال: ثم قرأ: {وَكَذَلِكَ
(1) حديث حسن. رواه الحاكم (4/ 261)، وأحمد (3/ 29/ 41)، والبيهقي في "الأسماء"(ص 134)، وانظر سلسلة الأحاديث الصحيحة (104).
أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (102)} [هود: 102](1).
الحديث الثاني: أخرج أحمد والطبراني بسند قوي عن عقبة بن عامر مرفوعًا: [إذا رأيت الله يعطي العبد من الدنيا على معاصيه ما يحب فإنما هو استدراج، ثم تلا: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ}](2).
85 -
87. قوله تعالى: {يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا (85) وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا (86) لَا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا (87)}.
في هذه الآيات: نَعْتُ الله تعالى حال المتقين كيف يردون إليه وفدًا، في حين يساق المجرمون إلى جهنم وردًا، لا شفيع لهم فإن الشفاعة تنال من اتخذ عند الله عهدًا: شهادة أن لا إله إلا الله ينال بها العبد سعادة ومَجْدًا.
فقوله تعالى: {يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا} - إشارة إلى حسن الاستقبال والتكريم كما يستقبل الوفود. قال القاسمي: {وَفْدًا} أي وافدين عليه. وأصل الوفود القدوم على العظماء للعطايا والاسترفاد. ففيه إشارة إلى تبجيلهم وتعظيمهم، المزورِ والزائرِ).
وقوله تعالى: {وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا} . أي: عِطاشًا. قال قتادة: (ظماءً إلى النار). والوِرْد جمع وارد، وحقيقة الورد المسير إلى الماء فيسمى به الواردون. وفي ذكرهم بالسَّوق إشعار بإهانتهم واستخفافهم.
قال النسفي: (أي يوم نحشر ونسوق نفعل بالفريقين ما لا يوسف. أي اذكر يوم نحشر. ذكر المتقون بأنهم يجمعون إلى ربهم الذي غمرهم برحمته كما يفد الوفود على الملوك تبجيلًا لهم. والكافرون بأنهم يساقون إلى النار كانهم نَعَم عطاش تساق إلى الماء استخفافًا بهم).
(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (4686)، كتاب التفسير، سورة هود، آية (102)، ورواه مسلم.
(2)
أخرجه أحمد (4/ 145)، وقال الحافظ العراقي في "تخريج الإحياء" (4/ 115): رواه أحمد والطبراني والبيهقي في "الشعب" بسند حسن. وانظر سلسلة الأحاديث الصححيحة (414).
وقوله تعالى: {لَا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا} . أي: لا تنال الشفاعة إلا أهل الإيمان والعمل الصالح.
قال ابن كثير: (أي: ليس لهم من يشفع لهم كما يشفع المؤمنون بعضهم لبعض، كما قال تعالى مخبرًا عنهم: {فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ (100) وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ (101)} [الشعراء: 100 - 101]. وقوله: {إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا} ، هذا استثناء منقطع، بمعنى: لكن من اتخذ عند الرحمن عهدًا، وهو شهادة أن لا إله إلا الله، والقيام بحقّها).
وعن ابن عباس: (العهدُ شهادة أن لا إله إلا الله ويبرأُ من الحَوْل والقُوَّة، ولا يرجو إلا الله عز وجل. وقال ابن جريج: (المؤمنون يومئذ بعضهم لبعض شفعاء {إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا}. قال: عملًا صالحًا).
88 -
95. قوله تعالى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا (88) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا (89) تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا (90) أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا (91) وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا (92) إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا (93) لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (94) وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا (95)}.
في هذه الآيات: إنكار وتهديد، ووعيد شديد، لمن زعم أن للرحمن ولدًا، فالسماوات تتصدع والأرض تتشقق والجبال تخرّ لهذا الافتراء هدًّا، فكل ما في السماوات والأرض يقدم يوم القيامة عبدًا، والله أحصاهم جميعًا وعدّهم عدًا، وكل عبد يأتي يوم القيامة فقيرًا إلى ربه متذللًا فردًا.
فقوله تعالى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا (88) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا} .
إنكار شديد على من زعم أنه لله ولدًا، تعالى الله وتقدس عما يقولون علوًا كبيرًا، وذلك بعد تقريره سبحانه في أرجاء هذه السورة عبودية عيسى عليه الصلاة والسلام، وخَلْقِه من مريم بلا أب. قال ابن عباس:({شَيْئًا إِدًّا} يقول: قولًا عظيمًا). وقال: (يقول: لقد جئتم شيئًا عظيمًا وهو المنكر من القول). وفي لغة العرب: أدّ فهو آد والاسم الإدّ، إذا جاء بشيء عظيم منكر. قال الجوهري:(الإدّ والإدّة الداهية والأمر الفظيع).
وقراءة العامة {إِدًّا} بالكسر، وقراءة أبي عبد الرحمن السُّلمي {أَدًّا} بالفتح، وأما بالمدِّ "آدٌّ" فهي لغة لبعض العرب.
وقوله: {تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ} . أي: يتشققن. قال الضحاك: (أي: يتشققن فرقًا من عظمة الله).
وقوله: {وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ} . أي: تتصدع، قال ابن زيد: (أي: غضبًا لله عز وجل.
وقوله: {وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا} . قال ابن عباس: (هدمًا أي تسقط بصوت شديد). وقال سعيد بن جبير: {هَدًّا} : ينكسر بعضها على بعض متتابعات).
وقوله تعالى: {أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا} .
قال ابن كثير: (أي: يكاد يكون ذلك عند سماعِهنّ هذه المقالة من فَجَرة بني آدم، إعظامًا للرب وإجلالًا، لأنهن مخلوقات ومُؤسَّساتٌ على توحيده، وأنَّه لا إله إلا هو، وأنه لا شريك له، ولا نظير له، ولا ولد له، ولا صاحبةَ له، ولا كُفْءَ له، بل هو الأحد الصمد).
وعن ابن عباس قال: (إن الشِّرك فَزِعت منه السماوات والأرض والجبال، وجميع الخلائق إلا الثَّقلين، فكادت أن تزولَ منه لعظمة الله، وكما لا ينفع مع الشرك إحسانُ المشرك، كذلك نرْجُو أن يغفر الله ذنوب الموحِّدين).
وفي التنزيل:
وفي صحيح البخاري عن أبي موسى الأشعري قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: [ما أحَدٌ أصْبَرَ على أذىً سمعه من الله، يَدَّعون له الولدَ ثم يعافيهم وَيَرْزُقُهُم](1).
ورواه مسلم عنه بلفظ: [ما أحَدٌ أصْبَرَ على أذًى يَسْمعه من الله تعالى، إنهم يجعلون له نِدًّا، ويجعلون له وَلدًا، وهو مع ذلك يرزقهم ويعافيهم ويُعطيهم](2).
وقوله تعالى: {وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا} .
(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (7378) - كتاب التوحيد، وكذلك (6099) - كتاب الأدب.
(2)
حديث صحيح. أخرجه مسلم في الصحيح (2804)(49 - 50) - كتاب صفات المنافقين، من حديث أبي موسى مرفوعًا. وانظر مسند أحمد (4/ 395).
قال القرطبي: (أي لا يليق به ذلك ولا يوسف به ولا يجوز في حقه، لأنه لا يكون ولدٌ إلا من والد يكون له والد وأصل، والله سبحانه يتعالى عن ذلك ويتقدس).
وقوله تعالى: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا} .
قال القاسمي: (أي مملوكًا له يأوي إليه بالعبودية والذل).
و{إِنْ} : نافية بمعنى ما. والتقدير: ما كل من في السماوات والأرض إلا سيأتي يوم القيامة خاضعًا لله مقرًّا له بالعبودية والذل.
وفي التنزيل:
{وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ} [النمل: 87]- أي صَاغرين أذلاء.
والآية ردُّ آخر على من نسب لله الولد، بل الكل عبيد لله لا نسب بينه وبينه.
وقوله تعالى: {لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (94) وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا} .
قال ابن جرير: (يقول تعالى ذكره: لقد أحصى الرحمن خلقه كلهم، وعدّهم عدًا، فلا يخفى عليه مبلغ جميعهم، وعرف عددهم، فلا يعزب عنه منهم أحد. {وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا}. يقول: وجميع خلقه سوف يرد عليه يوم تقوم الساعة وحيدًا لا ناصر له من الله، ولا دافع عنه، فيقضي الله فيه ما هو قاضٍ، ويصنع به ما هو صانع).
وفي مسند الإمام أحمد وسنن الإمام النسائي بسند صحيح عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: [خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي يده كتابان، فقال: أتدرون ما هذان الكتابان؟ قال: قلنا لا إلَّا أن تُخْبِرَنا يا رسول الله، فقال للذي في يده اليمنى، هذا كتاب من ربّ العالمين، فيه أسماء أهل الجنة وأسماء آبائهم وقبائلهم ثم أُجْمِلَ على آخرهم، فلا يُزادُ فيهم ولا يُنْقَصُ منهم أبدًا. ثم قال للذي في شماله: هذا كتاب من رب العالمين، فيه أسماء أهل النار وأسماء آبائهم وقبائلهم ثم أجمل على آخرهم فلا يزاد فيهم ولا يُنقصُ منهم أبدًا. فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: فلأي شيء إذن نعَملُ إن كان هذا أمْرًا قد فُرغَ منه؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: سدّدوا وقاربوا، فإن صاحب الجنة يختم له بعمل أهل الجنة وإن عمل أي عمل، وإن صاحب النار يختم له بعمل أهل النار وإن عمل أي عمل، ثم قام بيده فقبضها، ثم قال: فرغ ربكم عز وجل
من العباد، ثم قال باليمنى فنبذ بها فقال: فريق في الجنة، ونبذ باليسرى فقال: فريق في السعير] (1).
96 -
98. قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا (96) فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا (97) وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا (98)}.
في هذه الآيات: ضمانٌ من الله تعالى لعباده المؤمنين، بجعل المودة في الأرض وحسن الذكر في الصالحين، وهذا القرآن قد يَسَّر ذكره لك ربك -يا محمد- لتبشر به المتقين، وتنذر الفجار الآثمين، أن يصيروا كما صار قبلهم من كفر من الأمم فأصبحوا خامدين.
فقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا} - بشارة عاجلة للمؤمن في الحياة الدنيا.
فعن ابن عباس: ({سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا} قال: محبة في الناس في الدنيا). أو قال: (حبّا).
وقال: (الودّ من المسلمين في الدنيا، والرزق الحسن، واللسان الصادق).
وقال مجاهد: (يحبهم ويحببهم إلى خلقه). أو قال: (يحبهم ويحببهم إلى المؤمنين).
وقال قتادة: (ما أقبل عبدٌ إلى الله إلا أقبل الله بقلوب العباد إليه، وزاده من عنده).
وفي الأثر عن عثمان بن عفان رضي الله عنه، كان يقول:(ما من الناس عبد يعمل خيرًا ولا شرًا، إلا كساه الله رداء عمله). ذكره ابن جرير من طريق قتادة.
وفي المسند وصحيح البخاري ومسلم عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [إن الله إذا أحبَّ عبدًا دعا جبريلَ فقال: يا جبريلُ، إني أحبُّ فلانًا فأحِبَّه. قال: فيحبُّه جبريلِ. قال: ثم ينادي في أهل السماء: إن الله يحبُّ فلانًا. قال: فَيحِبُّه أهل السماء، ثم يُوضعُ له القبولُ في الأرض. وإنّ الله إذا أبغض عبدًا دعا جبريل فقال: يا جبريلُ، إني أبغضُ
(1) حديث صحيح. أخرجه أحمد (2/ 167)، والنسائي في الكبرى (11473)، والترمذي (2141).
فلانًا فأبغضْهُ. قال: فيبغضُهُ جبريلُ. ثم ينادي في أهل السماء: إن الله يبغِضُ فلانًا فأبغِضُوه. قال: فَيُبْغِضُه أهلُ السماء، ثم توضَعُ له البغضاء في الأرض] (1).
وفي جامع الترمذي بسند صحيح عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:[إذا أحَبَّ الله عَبْدًا نادى جِبْرَئيلَ: إني قَدْ أَحْبَبْتُ فُلانًا فأحِبَّهُ. قال: "فينادي في السماء، ثم تُنْزَلُ لهُ المحبّةُ في أهل الأرض، فذلك قوله الله: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا}. وإذا أبْغَضَ الله عبدًا نادى جِبْرئيلَ: إني قدْ أبْغَضتُ فلانًا، فينادي في السماء، ثم تُنْزَلُ له البغضاء في الأرض](2).
وقوله تعالى: {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا} .
أي: إنما يسرنا هذا القرآن بلسانك يا محمد، وهو اللسانُ العربي المبين الفصيح الكامل، لتبشر به المؤمنين المخبتين لربهم بشائر الظفر والفوز في الدنيا والآخرة، وتنذر به قومًا مالوا عن الحق واختاروا طريقًا عوجا باطلًا. قال ابن عباس:({قَوْمًا لُدًّا}: فجّارًا).
قال مجاهد: ({قَوْمًا لُدًّا}: لا يستقيمون). وقال السدي عن أبي صالح: (عُوجًا عن الحق). وقال الحسن: (صُمًّا عن الحق) وقال غيره: (صُمُّ آذان القلوب). وقال الضحاك: (الألدّ: الخصم). وقال القُرظي: (الألدّ: الكذاب).
وقال ابن زيد: (الألد: الظلوم، وقرأ قول الله: {وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ} [البقرة: 204]).
قلت: وأصل اللَّد: شدة الخصومة. قال الرازي: رجُل "ألَدُّ" بَيِّنُ "اللَّدَد" أي شديد الخصومة). وقوم لُدٌّ. أي أهل لدَد وجدل بالباطل، لا يقبلون الحق، والخطاب وإن كان لكفار قريش فإنه ينسحب على جميع الطغاة والكفرة إلى يوم القيامة.
وقوله تعالى: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا} .
أي: كم مضى من سنتنا في إهلاك أمم الكفر والطغيان، لما كذبوا الله والرسل الكرام، عليهم الصلاة والسلام، هل ترى منهم أحدًا يا محمد أو تسمع لهم صوتًا؟ !
(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (3209)، (7483)، وأخرجه مسلم (2637)، وأحمد (2/ 267)، وكذلك (2/ 509)، وأخرجه ابن حبان في صحيحه (364) من طرق عن أبي هريرة به.
(2)
حديث صحيح. أخرجه الترمذي (3384)، كتاب التفسير، سورة مريم، آية (96). وانظر صحيح سنن الترمذي (2528)، وأصله في الصحيحين والمسند كما مضى.
أم إنهم بادوا جميعًا وأهلكوا، وخلت ديارهم وأوحشت منازلهم، وصاروا عبرة لمن يعتبر.
وعن قتادة: {وَهَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا} قال: هل ترى عينًا، أو تسمع صوتًا). وعن ابن عباس:({أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا} قال: صوتًا). وقال: (رِكْزُ الناس أصواتهم). وعن ابن زيد: ({أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا} قال: أو تسمع لهم حِسًّا. قال: والركز: الحسّ).
قلت: والرِّكز في كلام العرب الصَّوْت الخفي. والمعنى: هل تسمع لأولئك الهلكى همسًا أو صوتًا خفيًا! أم سكنوا لمصرعهم وغاب حسهم وانقرضوا وبادوا عن آخرهم.
تم تفسير سورة مريم بعون الله وتوفيقه، وواسع منِّه وكرمه