الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
موضوع السورة
قصص الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم، وسنن الله في الأمم
- تألق هود عليه السلام في إظهار منهج الولاء والبراء -
-
منهاج السورة
-
1 -
ثناء الله تعالى على القرآن العظيم، فقد أحكم منهاجه ونظمت آياته في نظام رصين.
2 -
غاية منهج البناء والإحكام في هذا الكتاب الكريم إفراد الله تعالى بالتعظيم، ورسوله صلى الله عليه وسلم بالمتابعة والتأسي والتكريم.
3 -
أَثَرُ الاستغفار ببسط الله العيش والاستمتاع في العمر، وأما الإعراض فأثره بتعاسة الدنيا قبل شقاء الآخرة.
4 -
استخفاء المشركين ببَاطلهم ومكرهم والله مطلع على سرائرهم، وما من دابة إلا أمرها ورزقها ومنتهى سيرها قد علمه الله، ثم المرجع إليه، وسيحيق بالمشركين ما كانوا به يستهزئون.
5 -
تناقض سلوك الإنسان بين الشدة والرخاء، ولا ينجو من ذلك إلا أهل الإيمان والصبر على السراء والضراء.
6 -
تثبيت الله تعالى نبيّه صلى الله عليه وسلم أمام تكذيب المشركين، وتحدّيهم بأن ياتوا بعشر سور مثله مستعينين بمن شاؤوا ليظهر الله عجزهم، فإن كتابه تعالى عزيز.
7 -
تحذير الله تعالى عباده من الرياء، فإن الرياء من أبواب الشرك.
8 -
إخبار الله تعالى عن خزي الكفار والمنافقين في مشهد الحشر يوم القيامة.
9 -
إخبار الله تعالى عن حال السعداء بعد ذكر حال الأشقياء، وتشبيه الفرق بين الحالين كحال الأعمى والبصير، والأصم والسميع.
10 -
استعراض الله تعالى أخبار الرسل مع أقوامهم: فأول الرسل نوح صلى الله عليه وسلم دعا قومه لإفراد الله تعالى بالتعظيم، وحذرهم من عذاب يوم أليم، فقابلوه بالتكذيب والاستهزاء، والاستخفاف بالأتباع، واستعجال العذاب.
11 -
أمْرُ الله تعالى نوحًا عليه الصلاة والسلام بصناعة الفلك أمام سخرية الكافرين، الذين سيحيق بهم الهلاك المبين.
12 -
نزول أمر الله في قوم نوح، ونجاة نوح صلى الله عليه وسلم ومن معه في السفينة، ومصير ابنه مع الكافرين الهالكين، وقيل بعدًا للقوم الظالمين.
13 -
مناجاة نوح ربه لنجاة ولده، وتحذير الله له في سؤاله ما ليس له به علم.
14 -
إخبار الله تعالى نبيّه محمدًا صلى الله عليه وسلم أن هذه القصة من أخبار الغيب يقصها عليه الوحي لتكون عونًا له على الصبر والثبات.
15 -
خبر هود صلى الله عليه وسلم مع قومه عاد يدعوهم لإفراد الله تعالى بالتعظيم، ويحذرهم نقمة الله وحلول العذاب الأليم، ويدعوهم لاستغفاره تعالى فإن لوازم الاستغفار وفرة الرزق والخير والقوة والتمكين.
16 -
مجادلة قوم هود نبيّهم بالباطل، وإعلانهم الكفر بما جاء به، ومقابلة هود صلى الله عليه وسلم لهم بإعلانه البراءة من شركهم وتحديهم بكيدهم، ثم نزول نقمة الله بهم ونجاة المؤمنين.
17 -
خبر صالح صلى الله عليه وسلم مع ثمود، يدعوهم لإفراده تعالى بالتعظيم، وشكره على نعمه وِاستغفاره فهو الغفور الرحيم، ومقابلتهم له بالشك والاتهام، فأراهم ناقة الله آية فعَقروها، وحاق بهم العذاب والخراب.
18 -
ذكر قصة لوط عليه السلام، ومجيء الرسل إبراهيم صلى الله عليه وسلم بالبشرى، وتعجب امرأته وبشارة الله لها، ومجادلة إبراهيم لردّ العذاب عن قوم لوط: إنه حليم أواه منيب، ونزول أمر الله باستئصال القوم المجرمين.
19 -
خبر شعيب صلى الله عليه وسلم مع قومه، فقد دعاهم لإفراد الله تعالى بالعبادة والتعظيم، وترك التلاعب بالمكيال والموازين، فكذبوه فأخذهم الله بالصيحة والعذاب فأصبحوا في ديارهم جاثمين.
20 -
خبر موسى صلى الله عليه وسلم مع فرعون، وغرق الطاغية ولعنه وجنده إلى يوم الدين.
21 -
الاعتبار بالآثار الباقية من تلك القرى المُدَمَّرة: فمنها ما هو قائم بنيانه، بائد أهله، ومنها ما هو خراب دارس لا أثَرَ له ولمن كان يسكنه.
22 -
الناس يوم القيامة فريقان: فريق في دار السعادة وهم أهل السعادة. وفريق في دار الشقاوة وهم أهل الشقاوة.
23 -
تسلية الله نبيّه ببلوغ الكتاب أجله، ثم العاقبة للمتقين، والدمار على الكافرين. وأمْرُهُ تعالى له وللمؤمنين بالاستقامة على المنهج وعدم الركون للظالمين.
24 -
توجيه الأمة لمنهاج النجاة: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والقلة المؤمنة هي الغالبة بإذن الله.
25 -
المشيئة لله، والغيب لله، والمرجع إليه، والتوكل عليه، وما الله بغافل عما تعملون.
° ° °
بسم الله الرحمن الرحيم
1 -
4. قوله تعالى: {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (1) أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ (2) وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ (3) إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (4)}.
في هذه الآيات: هذا القرآن هو من جنس هذه الأحرف، قد أحكم منهاجه ونظمت آياته نظامًا رصينًا منسجمًا مع منهاج مقاصد هذا الدين العظيم، فلا يقع فيه نقص ولا خلل بل هو محكم البناء، ثم فصلت فيه أحكام الحلال والحرام، وما يترتب على ذلك من الوعد والوعيد، والثواب والعقاب، فهو من عند الحكيم في أقواله وأفعاله وقدره وشرعه، الخبير بشؤون خلقه وما يصلحهم. إنَّ غاية منهج البناء والإحكام والتفصيل في هذا الكتاب العظيم هو إفراد الله تعالى بالتعظيم، ورسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك نذير وبشير. استغفروا ربكم - أيها الناس - وتوبوا إليه، يقابلكم ربكم ببسط في العيش واستمتاع في العمر، وإلا فالإعراض يقابله بعذاب يوم كبير، يوم ترجعون إلى الله العلي القدير.
فقوله: {الر} - كسابقه في أوائل السور التي ابتدأها الله بحروف الهجاء. ومفاده التحدي والإعجاز - أي: إن هذا القرآن مؤلف من جنس هذه الأحرف التي تتخاطبون بها معشر العرب، وهو يتحداكم أن تأتوا بمثله أو بسورة نحوه.
وقوله: {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} - فيه قولان متكاملان:
1 -
قال الحسن: ({كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ}، قال: أحكمت بالأمر والنهي، وفصلت بالثواب والعقاب). أو قال: (أحكمت في الأمر والنهي، وفصلت بالوعيد).
2 -
قال قتادة: (أحكمها الله من الباطل، ثم فصلها بعلمه، فَبيَّنَ حلاله وحرامه، وطاعته ومعصيته). وقال مجاهد: {فُصِّلَتْ} ، قال: فُسِّرت).
قال ابن كثير: ({أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ}، أي: هي محكمة في لفظها، مُفَصَّلةٌ في معناها، فهو كامل صورة ومعنى).
وقال ابن جرير: (معناه: أحكم الله آياته من الدَّخل والخَلَل والباطل، ثم فَصَّلها بالأمر والنهي. وأما قوله: {مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} فإن معناه: {حَكِيمٍ}، بتدبير الأشياء وتقديرها، {خَبِيرٍ}، بما تؤول إليه عواقبُها). وعن قتادة: ({مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ}، يقول: من عند حكيم خبير).
قلت: والإحكام يشمل إحكام الآيات من الدَّخل والخلل والباطل، وإحكام منهج بيان هذه الآيات لمقاصد الشريعة، ثم فصلت قواعد الحلال والحرام، وأمور الثواب والعقاب.
وقوله تعالى: {أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ} .
أي: إن هذا القرآن الذي أحكم منهاجه وفصلت آياته قد نزل لعبادة الله وحده وإفراده سبحانه بالتعظيم. قال النسفي: ({أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ} أي لئلا تعبدوا، أو أن مفسرة). والتقدير: قال لا تعبدوا إلا الله، أو أمركم ألا تعبدوا إلا الله. قال القاسمي:(وقوله تعالى: {إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ} كلام على لسان الرسول، أي إنني أنذركم، من الحكيم الخبير، عقابَ الشرك وتبعته، وأبشركم منه بثواب التوحيد وفائدته).
وقوله: {وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ} . أَمْرٌ من الله تعالى بالاستغفار من الذنوب السالفة والتوبة منها فيما يُستقبل، فإنكم إذا فعلتم ذلك قابلكم ربكم سبحانه ببسط العيش وَزينَتِه، والاستمتاع في العمر بطاعة الله، وما يؤدي إليها من العمل الصالح. قال قتادة:({إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى}: وهو الموت). قال ابن جرير: (فإنكم إذا فعلتم ذلك بسط عليكم من الدنيا، ورزقكم من زينتها، وأنسأ لكم في آجالكم إلى الوقت الذي قضى فيه عليكم الموت).
وعن مجاهد: ({وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ}، قال: ما احتسب به من ماله أو عمل بيده أو رجله أو كلمة، أو ما تطوَّع به من أمره كله).
أي يثيب كل من تفضل بعمل صالح مِنْ مَالِهِ أو قوته أو جهده على غيره، وهو يحتسب ذلك عند الله تعالى، فإن الله سبحانه قد وعد أهل الفضل بجزيل الثواب.
وفي التنزيل:
1 -
قال تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل: 97].
2 -
وقال تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت: 69].
ومن كنوز السنة الصحيحة في آفاق هذا المفهوم أحاديث:
الحديث الأول: أخرج الإمام مسلم في صحيحه عن أبي مسعودٍ عقبةَ بن عَمْرو الأنصاري البَدْريِّ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [من دَلَّ على خَيْرٍ فله مِثْلُ أجْرِ فاعِلِهِ](1).
الحديث الثاني: أخرج البخاري في صحيحه عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [كُلُّ مَعْروفٍ صَدَقَةٌ](2).
الحديث الثالث: أخرج الشيخان من حديث سعد بن أبي وقاص، قال له النبي صلى الله عليه وسلم:[وإنك لن تُنْفِقَ نَفَقَةً تَبتغي بها وَجْهَ الله إلا أُجِرْتَ عَليها حتى ما تجعلُ في في امرأتك]. وقال له: [إنك لن تُخَلَّفَ فتعملَ عملًا تبتغي به وجه الله إلا ازددت به درجةً ورِفعةً](3).
ويروي ابن جرير بسنده عن سعيد بن جبير، عن ابن مسعود في قوله:{وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ} ، قال:(من عمل سيئة كتبت عليه سيئة، ومن عمل حسنة كتبت له عشر حسنات. فإن عوقب بالسيئة التي كان عملها في الدنيا بقيت له عشر حسنات. وإن لم يعاقب بها في الدنيا أخذ من الحسنات العشر واحدة، وبقيت له تسع حسنات. ثم يقول: هلك من غلب آحاده أعشارَه).
وقوله: {وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ} - تهديد ووعيد لمن أدبر وأعرض عن طاعة الله وتعظيم حرماته، بأن العذاب ينتظره لا محالة يوم الحساب.
(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم في الصحيح - حديث رقم - (1893) - كتاب الإمارة. باب فضل إعانة الغازي في سبيل الله بمركوب وغيره.
(2)
حديث صحيح. أخرجه البخاري في صحيحه (10/ 374)، ورواه مسلم من رواية حذيفة (1005).
(3)
حديث صحيح. أخرجه البخاري (3/ 132)، ومسلم (1628) - واللفظ الأخير له - كتاب الوصية.
وقوله تعالى: {إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} . تأكيد ليوم الحساب والرجوع إلى الله سبحانه والوقوف بين يديه لنيل الثواب والعقاب، فهو القدير على الإحياء والإماتة والبعث من القبور ونشر صحف الأعمال وتفريق الخلق إلى فريقين: فريق في الجنة وفريق في السعير.
5 -
8. قوله تعالى: {أَلَا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلَا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (5) وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (6) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (7) وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ أَلَا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (8)}.
في هذه الآيات: إِخْبَارُ الله تعالى عن سلوك المشركين وهم يستخفون بباطلهم والله مطلع على سرائرهم. إنه ما من دابة إلا ورزقها من عند الله، وقد علم منتهى سيرها ومأواها قبل خلقها. هو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء ليختبركم - أيها الناس - أيكم أفضل عملًا، والكافرون منكرون للبعث مستهزئون بقدوم العذاب وهو واقع بهم لا محالة، وسيحيق بهم ما كانوا به يستهزئون.
فقوله: {أَلَا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ} - قال البخاري: {يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ} : شك وامتراءٌ في الحق. {لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ} : من الله إن استطاعوا).
فكان أهل الجاهلية يفعلون ذلك جهلًا منهم بالله، وظنًا أن الله يخفى عليه ما تضمره صدورهم إذا فعلوا ذلك. والآية لها أكثر من تأويل عند المفسرين:
التأويل الأول: هو ما سبق ذكره. قال ابن عباس: (يخفون ما في صدورهم من الشَّحناء والعداوة، ويظهرون خلافه).
قال القرطبي: ({أَلَا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ} أخبر عن معاداة المشركين
للنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، ويظنون أنه تخفى على الله أحوالهم. {يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ} أي يطوونها على عداوة المسلمين).
التأويل الثاني: قال مجاهد: ({يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ} شكًا وامتراءً). وقال الحسن: (يثنونها على ما فيها من الكفر). وهو وجه من التأويل ذكره البخاري.
التأويل الثالث: قيل: قال المنافقون إذا غلقنا أبوابنا، واستغشينا ثيابنا، وثَنَيْنَا صدورنا على عداوة محمد فمن يعلم بنا؟ فنزلت الآية.
التأويل الرابع: قيل: إن قومًا من المسلمين كانوا يتنسّكون بستر أبدانهم ولا يكشفونها تحت السماء، فَبَيَّن الله تعالى أن التنسُّكَ ما اشتملت عليه قلوبهم من معتقد، وأظهروه من قول وعمل. وقد صح إسناد هذا إلى حبر الأمة ابن عباس رضي الله عنه في أحاديث:
الحديث الأول: أخرج البخاري في صحيحه - عند تفسير هذه الآية - عن محمد بن عباد بن جعفر: أنه سمع ابن عباس يقرأ: {أَلَا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ} قال: سألته عنها فقال: [أناسٌ كانوا يستخفون أنْ يَتَخَلَّوا فَيُفْضُوا إلى السماء، وأن يجامعوا نِساءهم فَيُفْضُوا إلى السماء، فنزل ذلك فيهم](1).
الحديث الثاني: أخرج البخاري - كذلك - عنه أن ابن عباس قرأ: (أَلَا إِنَّهُمْ تَثْنَوني صُدُورَهُمْ)، قلت: يا أبا العَبَّاس، ما تَثْنَوني صدورُهم؟ قال:[كان الرَّجُلُ يجامع امرأتَه فيستحي أو يَتَخَلَّى فيستَحي، فنزلت: {أَلَا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ}](2).
الحديث الثالث: أخرج البخاري عن سفيان: [حدّثنا عَمْروٌ قال: قرأ ابنُ عَبَّاس: {أَلَا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلَا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ}. وقال غيره عن ابن عباس: {يَسْتَغْشُونَ}: يغطون رؤوسهم](3).
والخلاصة: يحتمل البيان الإلهي لهذه الآية المعاني السابقة من التأويل، وهو من إعجاز هذا الوحي العظيم، الذي يضم جوامع الكلم ويشع بنوره وهديه إلى آفاق شتى من خلاف التنوع لا التضاد.
(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (4681) - كتاب التفسير - سورة هود، آية (5).
(2)
حديث صحيح. أخرجه البخاري (4682) - كتاب التفسير - سورة هود، آية (5).
(3)
حديث صحيح. أخرجه البخاري (4683) - كتاب التفسير - سورة هود، باب:{أَلَا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلَا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} .
وقوله: {أَلَا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} . - فيه أكثر من تأويل:
التأويل الأول: قال ابن عباس: ({يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ}: يُغَطُون رؤوسهم) - أخرجه البخاري.
التأويل الثاني: قال قتادة: ({يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ} قال: أخفى ما يكون الإنسان إذا أسَرَّ في نفسه شيئًا وتَغَطّى بثوبه، فذلك أخفى ما يكون، والله يطلع على ما في نفوسهم والله يعلم ما يسرُّون وما يعلنون).
وبنحوه ذكر عكرمة عن ابن عباس قال: (الشك في الله، وعمل السيئات، فيستغشي ثيابه، ويستكنّ من الله، والله يراه، ويعلم ما يسرون وما يعلنون). وقال: ({أَلَا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ}، يقول: يكتمون ما في قلوبهم، {أَلَا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ}، يعلم ما عملوا بالليل والنهار).
التأويل الثالث: قال ابن أبي مليكة: سمعت ابن عباس يقرأ: "ألا إنهم تَثْنَوني صدورهم"، قال:(كانوا لا يأتون النساء ولا الغائط إلا وقد تغشوا بثيابهم، كراهة أن يُفْضُوا بفروجهم إلى السماء) - وبنحوه روى البخاري.
التأويل الرابع: عن مجاهد والحسن: (أي إنهم كانوا يثنون صدورهم إذا قالوا شيئًا أو عملوه، يظنون أنهم يستخفون من الله بذلك، فأخبرهم الله تعالى أنهم حين يستغشون ثيابهم عند منامِهم في ظلمة الليل، {يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ} من القول: {وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ}، أي: يعلم ما تُكِنُّ صدورُهم من النيات والضمائر والسرائر) - ذكره ابن كثير، وهو يشبه التأويل الثاني.
قلت: والبيان الإلهي يحتمل آفاق هذه المعاني كلها، وهو من إعجاز هذا الوحي العظيم.
إخبار من الله تعالى أنه متكفِّل بأرزاق خلقه من جميع أصناف الدواب في الأرض، إنْسيها وجِنِّيها، بَحريها وبَرِّيها، صغيرها وكبيرها. وأنه تعالى يعلم منتهى سيرها ومأواها قبل خلقها وبعد إخراجها من أصلاب ذكورها وأرحام إناثها، وكل ذلك مكتوب عنده سبحانه في اللوح المحفوظ.
قال ابن عباس: ({وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} قال: كل دابة). وقال الضحاك: (يعني كل دابة، والناس منهم).
وقال مجاهد: ({وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا}، قال: ما جاءها من رزق فمن الله، وربما لم يرزقها حتى تموت جوعًا، ولكن ما كان من رزق فمن الله).
ومن أقوال أهل التأويل في المستقر والمستودع:
1 -
عن ابن عباس: ({مُسْتَقَرَّهَا}، حيث تأوي، {وَمُسْتَوْدَعَهَا}، حيث تموت).
2 -
وعن مجاهد: ({وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا}، في الرحم، {وَمُسْتَوْدَعَهَا}، في الصلب، مثل التي في "الأنعام").
3 -
وعن إبراهيم، عن عبد الله:(المستقر: الرحم، والمستودع: المكان الذي تموت فيه).
4 -
وقال الربيع بن أنس: (مستقرها: أيام حياتها، ومستودعها: حيث تموت، ومن حيث تُبْعث).
قال ابن جرير: (ويعني بقوله: {كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ}، مبين عدد كل دابة، ومبلغ أرزاقها، وقدر قرارها في مستقرها، ومدّة لبثها في مستودعها. كل ذلك في كتاب عند الله مثبت مكتوب، {مُبِينٍ}، يبين لمن قرأه أن ذلك مثبت مكتوب قبل أن يخلقها ويوجدها. وهذا إخبارٌ من الله جل ثناؤه الذين كانوا يثنون صدورهم ليستخفوا منه، أنه قد علم الأشياء كلها وأثبتها في كتاب عنده قبل أن يخلقها ويوجدها).
وفي التنزيل:
1 -
قال تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (38)} [الأنعام: 38].
2 -
ومن كنوز السنة الصحيحة في آفاق هذا المعنى أحاديث:
الحديث الأول: أخرج الإمام مسلم في صحيحه عن عبد الله بن عمرو قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: [إن الله كتب مقادير الخلق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، وكان عرشه على الماء](1).
الحديث الثاني: أخرج أبو نعيم في الحلية بسند حسن عن جابر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[لو أن ابن آدم هرب من رزقه كما يهرب من الموت، لأدركه رزقه كما يدركه الموت](2).
الحديث الثالث: أخرج الترمذي في جامعه بسند صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لابن عمه ابن عباس: [يا غلام، إني أعلمك كلمات، احفظ الله يَحْفَظْكَ، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، جفت الأقلام ورفعت الصحف](3).
إِخْبَارٌ من الله تعالى عن بدء الخلق، إذ خلق سبحانه السماوات والأرض وما فيهن في هذه الأيام الستة، وكان عرشه على الماء. قال ابن عباس:(إنما سمي العرش عرشًا لارتفاعه). وغاية الخلق هي عبادة الله تعالى، والاختبار يكون على ذلك: أيكم أحسن له طاعة وشكرًا.
وفي التنزيل:
1 -
قال تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ (27)} [ص: 27].
2 -
وقال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56)} [الذاريات: 56].
3 -
وقال تعالى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (115) فَتَعَالَى اللَّهُ
(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم في الصحيح (8/ 51). وانظر مختصر صحيح مسلم - حديث رقم - (1841) - باب: كتب المقادير قبل الخلق.
(2)
حديث حسن. أخرجه أبو نعيم في "الحلية"(7/ 90)، (7/ 246) من حديث جابر بن عبد الله. وانظر سلسلة الأحاديث الصحيحة - حديث رقم - (952).
(3)
حديث صحيح. أخرجه الترمذي في السنن - حديث رقم - (2648) - أبواب صفة القيامة - وانظر صحيح سنن الترمذي (2043) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (116)} [المؤمنون: 115، 116].
4 -
وفي السنة الصحيحة آفاق هذه المعاني في أحاديث:
الحديث الأول: أخرج الإمام مسلم في صحيحه، وأحمد في مسنده، عن أبي هريرة قال:[أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي فقال: خلق الله التربة يوم السبت، وخلق فيها الجبال يوم الأحد، وخلق الشجر يومَ الاثنين، وخلق المكروه يوم الثلاثاء، وخلق النور يوم الأربعاء، وبثَّ فيها الدواب يوم الخميس، وخلق آدم بعد العصر من يوم الجمعة، في آخر الخلق، في آخر ساعةٍ من ساعات الجمعة، فيما بين العصر إلى الليل](1).
الحديث الثاني: أخرج البخاري في صحيحه من حديث عِمرانَ بن حُصَيْنٍ رضي الله عنهما قال: [دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم وعَقَلْتُ ناقتي بالباب، فأتاه ناسٌ من بني تميم فقال: اقبلوا البشرى يا بني تميم، قالوا: قد بَشَّرْتَنا فأعْطِنا، مَرَّتين، ثم دخل عليه ناسٌ من اليمن فقال: اقبلوا البُشْرى يا أهل اليمن أن لمْ يقبَلْها بنو تميم، قالوا: قبلنا يا رسول الله، قالوا: جِئْنَا نَسْأَلُكَ عن هذا الأمر، قال: كان الله ولم يكُنْ شيءٌ غيرُهُ، وكان عرشُهُ على الماء، وكتب في الذكر كُلَّ شيءٍ، وخلقَ السماوات والأرض](2).
الحديث الثالث: أخرج البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: [قال الله عز وجل: أَنْفِقْ أُنْفِقْ عليك، وقال: يدُ الله ملأى لا يَغيضُها نَفَقَةٌ، سَحَّاءُ الليلَ والنهارَ. وقال: أرأيتم ما أنفقَ مُنْذُ خَلَقَ السماء والأرضَ
(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم (2789) - كتاب صفات المنافقين -، وأبو يعلى في مسنده (288/ 1)، والبيهقي في "الأسماء والصفات"(ص 275 - 276)، ورواه أحمد وغيرهم.
(2)
حديث صحيح. أخرجه البخاري (3191) - كتاب بدء الخلق -، وكذلك (4365)، (4386)، وأخرجه أحمد في المسند (4/ 431)، وأخرجه ابن حبان في صحيحه (6142)، وغيرهم.
فإنه لم يَغِضْ ما في يده، وكان عرشه على الماء، وبيده الميزانُ يخفضُ ويرفع] (1).
الحديث الرابع: أخرج ابن أبي شيبة بسند صحيح عن أبي ذر الغفاري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ما السماوات السبع في الكرسي إلا كحلقة ملقاة بأرض فلاة، وفضل العرش على الكرسي كفضل تلك الفلاة على تلك الحلقة](2).
وقوله: {وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ} . قال ابن جرير: (يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: ولئن قلت لهؤلاء المشركين من قومك: إنكم مبعوثون أحياء من بعد مماتكم! فتلوت عليهم بذلك تنزيلي ووحيي، {لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ}، أي: ما هذا الذي تتلوه علينا مما تقول، إلا سحر مبينٌ لسامعه عن حقيقته أنه سحر).
وقوله: {وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ} . قال ابن عباس: ({إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ}: إلى أجل محدود)(3). وقال مجاهد: (إلى حين). وقال ابن جريج: ({وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ} يقول: أمسكنا عنهم العذاب. {لَيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ}، قال: للتكذيب به، أو إنه ليس بشيء).
وأصل الأمة الجماعة من الناس تجتمع على مذهب ودين، ثم تستعمل في معان كثيرة، منها السنون المعدودة والحين. قال ابن جرير:(وإنما قيل للسنين "المعدودة" والحين، في هذا الموضع ونحوه: {أُمَّةٍ}، لأن فيها تكون الأمة).
وقوله: {أَلَا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} . أي: ألا يوم يأتيهم العذاب، فينزل بهؤلاء الشاكين المكذبين، فهنالك ليس يصرفه عنهم صارف، ولا ينجيهم منه منقذ، بل يحل بهم فيهلكهم وليس له دافع، ويحيط بهم جزاء ما كانوا به يستهزئون.
قال مجاهد: ({وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ}، قال: ما جاءت به أنبياؤهم من الحق).
(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري في الصحيح - حديث رقم - (4684) - كتاب التفسير، باب قوله:{وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ} ، ورواه مسلم في صحيحه (993) - كتاب الزكاة.
(2)
حديث صحيح. أخرجه ابن أبي شيبة في "كتاب العرش"(114/ 1)، والبيهقي في "الأسماء والصفات"(ص 290)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة - حديث رقم (109).
(3)
وفي رواية عنه - يقول: (إلى أجل معلوم) - ذكره ابن جرير في التفسير (18014).
9 -
11. قوله تعالى: {وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ (9) وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ (10) إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (11)}.
في هذه الآيات: إخبار الله تعالى عن سلوك فاسد يصيب الإنسان، فهو ما أسرعه إلى اليأس عند نزع النعمة منه، وما أسرعه إلى العجب والغرور عند نزول النعمة به بعد الضراء التي مسته، وما يسلم من هذا الخلق الذميم، إلا أهل الصبر والعمل الصالح الذين غفر الله لهم وأعدّ لهم الأجر الكريم.
فقوله تعالى: {وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ} . قال ابن جريج: (يا ابن آدم، إذا كانت بك نعمة من الله من السعة والأمن والعافية، فكفور لما بك منها. وإذا نزعت منك نبتغي قَدْعك (1) وعقلك، فيؤوس من روح الله قنوط من رحمته. كذلك المرء المنافق والكافر).
وهذه الآية في ذكر بعض الصفات الذميمة التي تعتري الإنسان - إلا من رفعه الله بالتقوى - فإنه إن فقد نعمة عاشها طويلًا أصابه اليأس والقنوط مِمّا يستقبل من الخير، ونسي الماضي الذاخر بالفضل والنعم والعطاء، وربما أساء الظن بالله تعالى.
قال ابن جرير: ({إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ}، يقول: يظل قَنِطًا من رحمة الله، آيسًا من الخير. هو كفور لمن أنعم عليه، قليل الشكر لربّه المتفضّل عليه بما كان وَهَبَ له من نعمته).
وقوله تعالى: {وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ (10) إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} . هو كما في التنزيل:
1 -
قال تعالى: {وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3)} [العصر: 1 - 3].
(1) القدع: الكف والمنع.
2 -
قال تعالى: {إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا (21) إِلَّا الْمُصَلِّينَ} [المعارج: 19 - 22].
قال ابن جريجِ: ({ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي}، غِرّة بالله وجراءة عليه، {إِنَّهُ لَفَرِحٌ}، والله لا يحب الفرحين، {فَخُورٌ}، بعدما أعطي، وهو لا يشكر الله. {إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا} عند البلاء، {وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ}، عند النعمة، {أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ}، لذنوبهم، {وَأَجْرٌ كَبِيرٌ}، قال: الجنة).
قال ابن كثير: (وهكذا إن أصابته نعمةٌ بعد نِقمة {لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي}، أي: يقول: ما ينالني بعد هذا ضيمٌ ولا سوءٌ، {إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ}، أي: فَرِحٌ بما في يده، بَطِرٌ فخورٌ على غيره. قال الله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا}، أي: في الشدائد والمكاره، {وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} أي: في الرَّخاء والعافية، {أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ}، أي: بما يصيبهم من الضرَّاء، {وَأَجْرٌ كَبِيرٌ}، بما أسلفوه في زمن الرخاء).
وقد حفلت السنة الصحيحة بذكر آفاق هذه المعاني في أحاديث:
الحديث الأول: أخرج الإمام مسلم في صحيحه عن صهيب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [عجبًا لأمر المؤمن، إنّ أمره كُلَّهُ له خيرٌ، وليسَ ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سَرَّاء شكَرَ، فكان خيرًا له، وإن أصابته ضرَّاء صَبَر، فكان خيرًا له](1).
الحديث الثاني: أخرج الإمام أحمد في المسند، والدارمي في السنن، بسند صحيح عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن صهيب قال:[بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم قاعد مع أصحابه إذ ضحك، فقال: ألا تسألوني مم أضحك؟ قالوا: يا رسول الله! ومم تضحك؟ قال: عجبت لأمر المؤمن، إن أمره كله خير، إن أصابه ما يحب حمد الله وكان له خير، وإن أصابه ما يكره فصبر كان له خير، وليس كل أحد أمره كله خير إلا المؤمن](2).
الحديث الثالث: أخرج عبد الله بن أحمد في مسند أبيه بسند رجاله ثقات، عن
(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم (2999) - كتاب الزهد -. باب المؤمن أمره كله خير. وأخرجه أحمد في المسند (4/ 332)، وابن حبان في صحيحه - (2896) -، وغيرهم.
(2)
حديث صحيح. أخرجه الدارمي (2/ 318)، وأحمد (6/ 16)، وسنده صحيح على شرط مسلم، وانظر سلسلة الأحاديث الصحيحة - حديث رقم - (147).
أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [عجبًا للمؤمن لا يقضى الله له شيئًا إلا كان خيرًا له](1).
وفي لفظ: [عجبت للمؤمن إن الله تعالى لم يقضِ له قضاءً إلا كان خيرًا له].
الحديث الرابع: أخرج البيهقي والطيالسي بسند صحيح عن سعد مرفوعًا: [عجبت للمسلم إذا أصابته مصيبة احتسب وصبر، وإذا أصابه خيرٌ حمد الله وشكر، إن المسلم يؤجر في كل شيء حتى في اللقمة يرفعها إلى فيه](2).
الحديث الخامس: أخرج البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ما مِنْ مصيبة تُصيبُ المسلمَ إلا كَفَّرَ الله بها عنه حتى الشوكةُ يشاكُها](3).
الحديث السادس: أخرج الشيخان وأحمد والترمذي عن أبي سعيد الخدري، وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[ما يُصيبُ المُسلمَ مِنْ نَصَبٍ ولا وَصَبٍ ولا هَمٍّ ولا حَزَنٍ، ولا أذىً، ولا غَمٍّ - حتى الشوكة يُشاكها- إلا كفَّر الله بها من خطاياه](4).
12 -
14. قوله تعالى: {فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (12) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (13) فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (14)}.
في هذه الآيات: خِطَابٌ من الله تعالى ذكره لنبيه صلى الله عليه وسلم: فلعلك - يا محمد - تارك بلاغ
(1) رواه عبد الله بن أحمد في مسند أبيه (5/ 24)، وأبو يعلى (200/ 2)، وانظر المرجع السابق - الصحيحة (148) - وصحيح الجامع الصغير - حديث رقم - (3880).
(2)
حديث صحيح. وهو يشهد لما قبله. أخرجه الطيالسي (211)، ورواه البيهقي. انظر صحيح الجامع - حديث رقم - (3881)، وسلسلة الأحاديث الصحيحة (147).
(3)
حديث صحيح. أخرجه البخاري (5640) - كتاب المرضى - باب ما جاء في كفارة المرض.
(4)
حديث صحيح. أخرجه البخاري في الصحيح - حديث رقم - (5641) - (5642)، ومسلم (2573)، وأخرجه أحمد في المسند (2/ 335)، والترمذي في الجامع (966)، وأخرجه ابن حبان (2905)، والبغوي (1421)، والبيهقي (3/ 373)، وغيرهم.
بعض ما يوحى إليك وضائق صدرك ببعض هذا الوحي الذي أمرت بتبليغه مخافة أن يقولوا: أين المال أو الكنز الذي أنزل معه أو الملك الذي جاء مصدقًا له من الله بأنه رسول، فاعلم أنه إنما أنت نذير لقومك والله القيم على الأمور والتدبير. أم يقولون لك - يا محمد - افتريت هذا القرآن! فقل: الله يتحداكم بأن تأتوا بعشر سور مثله مستعينين بمن شئتم من دون الله إن كنتم صادقين. فإن أخفقوا وعجزوا فاعلموا - أيها المؤمنون - وازدادوا إيمانًا أن هذا القرآن منزل من الله بعلمه، وهو الإله الواحد لا شريك له فهل أنتم حقًا مسلمون.
قال مجاهد: (قال الله لنبيه: فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك أن تفعل فيه ما أمرت، وتدعو إليه كما أرسلت. قالوا: {لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ}، لا نرى معه مالًا! أين المال؟ {أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ} ينذر معه! ، {إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ}، فبلغ ما أمرت).
وقوله: {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} . قال ابن جرير: (يقول: والله القيم بكل شيء، وبيده تدبيره، فانفذ لما أمرتك به، ولا تمنعك مسألتهم إياك الآيات من تبليغهم وحيي، والنفوذ لأمري).
قال ابن جريج: ({أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ}، قد قالوه، {أَقُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ}، وادعوا شهداءكم، قال: يشهدون أنها مثله).
قال ابن كثير: (أي فإن لم يأتوا بمعارضة ما دعوتموهم إليه، فاعلموا أنهم عاجزون عن ذلك، وأن هذا الكلام منزَّلٌ من عند الله، متضمِّنٌ عِلمَهُ وأمرَه ونَهْيَه، {وَأَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}).
وعن مجاهد: ({فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} قال: لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم).
15 -
17. قوله تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ (15) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (16) أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (17)}.
في هذه الآيات: تحذير الله تعالى عباده من الرياء. فإنه من كان يريد بعمل الآخرة الدنيا يعجل الله له ثوابه فيها وليس له في الآخرة من نصيب. أفمن كان على صفاء الفطرة، ونور الوحي: القرآن، والتوراة من قبله، كمن يكفر بهذا القرآن من مشركي مكة ومن سيجيء على منهاجهم، ممن هم إلى النار مصيرهم. فاثبت - يا محمد - فإن هذا القرآن حق، ووعد الله ووعيده حق، ولكن أكثر الناس غافلون غير مصدقين.
فقوله تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ} الآية.
قال مجاهد: (من عمل عملًا مما أمَرَ الله به، من صلاة أو صدقة، لا يريد بها وجه الله، أعطاه الله في الدنيا ثوابَ ذلك مثلَ ما أنفق، فذلك قوله: {نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا}، في الدنيا، {وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ}، أجر ما عملوا فيها، {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا}، الآية).
وقوله: {وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} .
قال ابن عباس: (قوله: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا}، الآية، وهي ما يعطيهم الله من الدنيا بحسناتهم، وذلك أنهم لا يظلمون نقيرًا. يقول: من عمل صالحًا التماس الدنيا، صومًا أو صلاة أو تهجدًا بالليل، لا يعمله إلا لالتماس الدنيا، يقول الله: أوفّيه الذي التمس في الدنيا من المثابة، وحبط عمله الذي كان يعملُ التماس الدنيا، وهو في الآخرة من الخاسرين).
وهذه الآية حرب على الرياء وأهله لو كانوا يفقهون، وحرب على النفاق وأهله لو كانوا يعلمون، فإنه لا ينفع من العمل إلا ما التمس به وجه الله تعالى.
وفي التنزيل:
1 -
قال تعالى: {يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89)} [الشعراء: 88، 89].
2 -
وقال تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ (20)} [الشورى: 20].
3 -
ومن كنوز السنة الصحيحة في معنى هاتين الآيتين أحاديث:
الحديث الأول: أخرج الإمام مسلم في صحيحه عن أنس بن مالك، أنه حَدَّثَ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:[إن الكافِرَ إذا عَمِلَ حَسنَةً أُطْعِمَ بها طُعْمَةً من الدنيا، وأما المؤمن فإن الله يَدَّخِرُ له حسناتِه في الآخرة ويُعْقِبُهُ رِزْقًا في الدنيا على طاعته](1).
الحديث الثاني: أخرج الإمام مسلم في صحيحه، وأحمد في مسنده، عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [إن الله لا يظلم مؤمنًا حسنته، يعطى بها (وفي رواية: يثاب عليها الرزق في الدنيا) ويجزى بها في الآخرة، وأما الكافر فيطعم بحسنات ما عمل بها لله في الدنيا، حتى إذا أفضى إلى الآخرة لم يكن له حسنة يجزى بها](2).
الحديث الثالث: أخرج الترمذي وابن حبان عن الوليد بن أبي الوليد أبي عثمان المديني أن عُقْبَةَ بنَ مسلم حدَّثه، أن شُفَيًّا الأصبحي حدثه: [أنه دخل المدينة فإذا هو برجل قد اجتمع عليه الناسُ، فقال: من هذا؟ قالوا: أبو هريرة، قال: فدنوت منه، حتى قعدتُ بين يديه، وهو يحدث الناس، فلما سكت وخلا، قلت له: أسألك بحقّ وبحقّ، لمّا حَدَّثتني حدِيثًا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم وعَقِلْتَهُ وعَلِمْتَه، فقال أبو هريرة: أفعلُ، لأُحَدِّثَنَكَ حديثًا حَدَّثنيه رسول الله صلى الله عليه وسلم عَقِلْتُهُ وعلمتُهُ، ثم نشغَ أبو هريرة نشغة
(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم في صحيحه (2808)(57) - كتاب صفات المنافقين - باب جزاء المؤمن بحسناته في الدنيا والآخرة، وتعجيل حسنات الكافر في الدنيا.
(2)
حديث صحيح. أخرجه مسلم في الصحيح (8/ 135) من حديث أنس بن مالك - وهو رواية للحديث السابق، وأخرجه أحمد في المسند (3/ 125)، وغيرهما.
فمكثنا قليلًا ثم أفاق، فقال: لأحدِّثَنَك حديثًا حدثنيه رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا وهو في هذا البيت، ما معنا أحدٌ غيري وغيرُه، ثم نَشَغَ أبو هريرة نشغةً أخرى، ثم أفاق ومسح عن وجهه، فقال: أفعلُ، لأحدِّثنك حديثًا حدثنيه رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا وهو في هذا البيت، ما معنا أحدٌ غيري وغيره، ثم نَشَغَ أبو هريرة نشغةً شديدة، ثم مال خارًّا على وجهه، فأسندته طويلًا، ثم أفاق، فقال: حدثني رسول الله صلى الله عليه وسلم:
إن الله تبارك وتعالى إذا كان يومُ القيامة، ينزِلُ إلى العباد، ليقضي بينهم، وكُلُّ أمة جاثية، فأول من يُدعى به رجلٌ جمع القرآن، ورجلٌ قُتِلَ في سبيل الله، ورجلٌ كثير المال، فيقول الله عز وجل للقارئ: ألم أُعلِّمكَ ما أنزلتُ على رسولي؟ قال: بلى يا ربِّ، قال: فما عملتَ فيما عَلِمتَ؟ قال: كنت أقومُ به آناء الليل وآناء النهار، فيقول الله عز وجل له: كَذَبْتَ، وتقول له الملائكة: كذَبْتَ، ويقول الله تبارك وتعالى: بل أردت أن يقال فلان قارئ، وقد قيل ذلك.
ويؤتى بصاحب المال، فيقول الله عز وجل: ألم أُوسِع عليك حتى لم أَدَعْكَ تحتاجُ إلى أحدٍ؟ قال: بلى يا ربِّ، قال: فماذا عَمِلتَ فيما آتيتُك؟ قال: كنتُ أصِلُ الرحمَ وأتصدقُ. فيقول الله له: كَذَبْتَ، وتقول الملائكة: كَذَبْتَ، ويقول الله تبارك وتعالى، بل أردتَ أن يقال: فلانٌ جوادٌ، وقد قيل ذلك.
ويؤتى بالذي قُتِلَ في سبيل الله، فيقول الله له: فيماذا قُتِلتَ؟ فيقول: أي ربِّ! أَمَرْتَ بالجهاد في سبيلك فقاتلتُ حتى قُتِلتُ، فيقول الله له: كذَبْتَ، وتقول الملائكة: كذبْتَ، ويقول الله: بل أردْتَ أن يقالَ: فلانٌ جريءٌ، فقد قيل ذلك.
ثم ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم على ركبتي فقال: يا أبا هريرة أولئك الثلاثةُ أولُ خلق الله تُسْعر بهم النار يومَ القيامة.
قال الوليدُ أبو عثمان المديني: وأخبرني عُقبة أن شُفَيًّا هو الذي دخل على معاوية فأخبره بهذا، قال أبو عثمان: وحدثني العلاء بن أبي حكيم أنه كان سيّافًا لمعاوية قال: فدخل عليه رجلٌ فأخبره بهذا عن أبي هريرة. فقال معاوية: قد فُعِلَ بهؤلاء هذا، فكيف بمنْ بَقِيَ مِنَ الناس؟ ثم بكى معاوية بكاء شديدًا، حتى ظَننّا أنه هالك، وقلنا: قد جاءنا هذا الرجل بِشَرٍّ. ثم أفاق معاوية، ومسح عن وجهه، وقال: صدق الله ورسوله: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ (15) أُولَئِكَ الَّذِينَ
لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (16)}] (1).
قال ابن كثير: (يخبر تعالى عن حال المؤمنين الذين هم على فطرة الله تعالى التي فطر عليها عبادَه، من الاعتراف له بأنه لا إله إلا هو، كما قال تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} [الروم: 30]).
قلت: فالفطرة نور، والوحي نور، والمؤمن في نور على نور: نور الوحي على نور الفطرة.
ومن كنوز السنة الصحيحة في آفاق هذا المعنى أحاديث:
الحديث الأول: أخرج الإمام مسلم في صحيحه عن عياض بن حِمار، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:[يقول الله تعالى: إني خلقت عبادي حنفاء، فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم، وحَرَّمت عليهم ما أحْلَلْتُ لهم، وأمرتهم أن يشركوا بني ما لم أنزل به سلطانًا](2).
الحديث الثاني: أخرج الإمام أحمد والنسائي بسند حسن عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[أخذ الله تبارك وتعالى الميثاق من ظهر آدم بنعمان - يعني عرفة - (وفي رواية: يوم عرفة) فأخرج في صُلبِه كل ذرية ذرأها فنثرهم بين يديه كالذّر ثم كلمهم قبلًا قال: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ (172) أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ (173)} [الأعراف: 172، 173]] (3).
الحديث الثالث: أخرج البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(1) حديث صحيح. أصله في صحيح مسلم (1905) - كتاب الإمارة، باب من قاتل للرياء والسمعة استحق النار، ورواه النسائي والترمذي وحسنه، وابن حبان وابن خزيمة. انظر صحيح الترغيب (1/ 20) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(2)
حديث صحيح. أخرجه مسلم (2865) - كتاب الجنة ونعيمها. وأخرجه أحمد (4/ 162)، والطبراني في "الكبير" (17/ 987) - ومعنى اجتالتهم: ذهبوا بهم وحرفوهم وجالوا معهم في الباطل.
(3)
حديث حسن. أخرجه أحمد (1/ 272)، والنسائي في " الكبرى"(11191)، والحاكم، وغيرهم.
[كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يُهَوِّدانه أو يُنَصِّرانه أو يُمَجِّسَانه، كما تُولد البهيمة بهيمةً جمعاء، هل تُحِسَّون فيها من جَدْعاء](1). - زاد عبد الرزاق في رواية: [ثم يقول أبو هريرة: اقرؤوا إن شئتم: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ}].
قلت: وهذه الفطرة هي نتيجة من نتائج ذلك الميثاق الذي أخذه الله على ذرية آدم عليه السلام، وأشهد الخلق أمام أبيهم أنه لا حجة لهم أن يشركوا بالله شيئًا وحذرهم من أمرين:
1 -
أن يدّعوا الغفلة.
2 -
أن يدّعوا التقليد.
الحديث الرابع: أخرج الطبراني بسند صحيح عن الأسود بن سريع مرفوعًا: [كل مولود يولد على الفطرة - وفي لفظ: على هذه الملة -، حتى يُعْربَ عنْهُ لسانُه، فأبواه يهوِّدانه، أو يُنَصِّرَانه، أو يمجِّسانه](2).
وعن ابن عباس: {وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ} : إنه جبريل عليه السلام. وقال قتادة: (هو محمد صلى الله عليه وسلم) - والمعنى متكامل، فجبريل مبلغ عن الله إلى محمد صلى الله عليه وسلم الذي هو مبلغ لجميع الأمة.
وقوله: {وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ} .
قال النسفي: ({وَمِنْ قَبْلِهِ} ومن قبل القرآن {كِتَابُ مُوسَى} وهو التوراة، أي ويتلو ذلك البرهان أيضًا من قبل القرآن كتاب موسى عليه السلام {إِمَامًا} كتابًا مؤتمًا به في الدين قدوة فيه {وَرَحْمَةً} ونعمة عظيمة على المنزل إليهم - وهما حالان (3) - {أُولَئِكَ} أي: من كان على بينة {يُؤْمِنُونَ بِهِ} بالقرآن).
وقوله: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ} .
قال قتادة: ({وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ}، قال: الكفار أحزاب كلهم على الكفر). وعن سعيد بن جبير: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ} ، قال: من الملل كلها).
(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (1358)، (1359)، ومسلم (2658)، وأبو داود (4714)، والترمذي (2138)، وأحمد (2/ 375)، والبغوي (84)، وابن حبان (129)، (130)، (133)، وعبد الرزاق (20087)، وأخرجه الطيالسي (2359) و (2433).
(2)
حديث صحيح. أخرجه أحمد في المسند (3/ 345)، والطبراني في "المعجم الكبير"(826)، والبيهقي في السنن (9/ 77 - 78)، وإسناده صحيح.
(3)
أي "إمامًا"، و"رحمة" في محل نصب حال.
أي: ومن يكفر بهذا القرآن من أهل مكة والمتحزبين من المشركين على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذلك ممن جاء بعدهم من ملل الباطل فقد وعدهم الله جميعًا نار جهنم.
وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: [والذي نَفْسُ محمد بيده! لا يَسْمَعُ بي أحَدٌ من هذه الأمة يهودي ولا نَصْراني، ثم يموتُ ولم يؤمن بالذي أرسلت به، إلا كان من أصحاب النار](1).
قال ابن جرير: ({فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ}، يقول: فلا تك في شك منه، من أن موعدَ من كفر بالقرآن من الأحزاب النارُ، وأن هذا القرآن الذي أنزلناه إليك من عند الله).
وقوله: {إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ} - فيه أقوال متكاملة.
1 -
قال القرطبي: {إِنَّهُ الْحَقُّ} أي القول الحق الكائن، والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، والمراد جميع المُكَلَّفين).
2 -
قال ابن جرير: (إن هذا القرآن الذي أنزلناه إليك، يا محمد، الحقُّ من ربك لا شك فيه، ولكن أكثر الناس لا يصدقون بأن ذلك كذلك) - واختاره ابن كثير.
3 -
وقال النسفى: ({فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ} شك {مِنْهُ} من القرآن أو من الموعد {إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ}).
قلت: وكلها أقوال يكمِّلُ بعضها بعضًا، فالقرآن حق، والوعد والوعيد حق، وأمر الله وخطابه لرسوله حق، ولكن أكثر الناس عن ذلك غافلون غير مصدقين.
وفي التنزيل:
1 -
قال تعالى: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} [يوسف: 103].
2 -
وقال تعالى: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ} [الأنعام: 116].
3 -
وقال تعالى: {وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [سبأ: 20].
(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم في صحيحه - حديث رقم - (153) - كتاب الإيمان، باب وجوب الإيمان برسالة نبيّنا محمد صلى الله عليه وسلم إلى جميع الناس، ونسخ الملل بملته، وأخرجه الطبراني (18093) من حديث أبي موسى وإسناده على شرط مسلم.
والخلاصة: الفطرة مع الوحي هديتان من الله تعالى للعباد، فمن أصَرَّ بعد ذلك على اتباع الأهواء والشبهات والشهوات فقد اختار البقاء في الظلمة بعدما جاءه النور.
وفي المسند وصحيح ابن حبان عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:[إن الله تعالى خلق خلقه في ظلمة، ثم ألقى عليهم من نوره، فمن أصابه من ذلك النور اهتدى، ومن أخطأه ضل](1).
18 -
22. قوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (18) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (19) أُولَئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ (20) أُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (21) لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (22)}.
في هذه الآيات: إخبارٌ من الله تعالى عن الكفار والمنافقين الذي يفترون على الله الكذب أنهم يُحضرون يوم القيامة وتشهد عليهم الرسل بما كذبوا على ربهم لتحيق بهم لعنة الله. أولئك الذين يقعدون في طريق المؤمنين فيصدون عن سبيل الهدى والرشاد، ويحبون نشر الفواحش والفساد، وهم بلقاء ربهم كافرون. أولئك لم يكونوا ليفلتوا من عذاب الله، بل يضاعف لهم العذاب ولا نصير يدفع عنهم، فما كانوا يألفون سماع الحق والقرآن ولا يبصرون سبيل الهداية. أولئك الذين ربحوا الخسارة في الدنيا والآخرة وحاق بهم ما كانوا يكذبون ويفترون.
فقوله: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} . قال ابن جريج: (الكافر والمنافق). وقال أبو جعفر: (يقول تعالى ذكره: وأي الناس أشد تعذيبًا اختلق على الله كذبًا فكذب عليه).
وقوله: {أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ} . قال ابن جريج: (فيسألهم عن أعمالهم).
(1) حديث صحيح. أخرجه أحمد في مسنده (2/ 176)، (2/ 197)، وابن حبان في صحيحه (1812)، وانظر سلسلة الأحاديث الصحيحة (1076).
وقوله: {وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ} . قال الضحاك: (يعني الأنبياء والرسل، وهو قوله: {وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلَاءِ} [النحل: 89]. قال: وقوله: {وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ}، يقولون: يا رَبَّنا أتيناهم بالحق فكذبوا، فنحن نشهد عليهم أنهم كذبوا عليك، يا رَبَّنا).
وقال قتادة: (والأشهاد: الملائكة، يشهدون على بني آدم بأعمالهم).
والخلاصة: فإن في الآية بيانًا لحال المفترين على الله الكذب وفضيحتهم في الدار الآخرة على رؤوس الخلائق من الملائكة والرسل والأنبياء، وسائر البشر والجان.
وقوله: {أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} . أي: ألا إن غضب الله وسخطه على المعتدين الذين تجرؤوا على الحق بالكذب والافتراء.
وفي الصحيحين عن صَفْوانَ بنِ مُحْرِزٍ المازِنِيِّ قال: [بينما أنا أمشي مع ابن عمرَ رضي الله عنهما آخذٌ بيده، إذ عَرَضَ رجلٌ فقال: كيف سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم في النَّجْوى؟ فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن الله يُدْني المؤمنَ فَيَضَعُ عليه كنَفَهُ ويَسْتُرُهُ فيقول: أَتَعْرِفُ ذَنْبَ كذا؟ أتعرِفُ ذنْبًا كذا؟ فيقول: نَعَمْ أيْ رَبِّ، حتى قَرَّرَهُ بذنوبه ورأى في نفسهِ أنه هَلَكَ، قال: سترتُها عليك في الدنيا، وأنا أغفِرُها لك اليوم، فَيُعْطى كتابَ حَسَناتِهِ، وأما الكافر والمنافقون فيقول الأشهادُ: {هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ}](1).
وقوله تعالى: {الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ} .
أي: ألا لعنة الله على الظالمين الذين يفتنون الناس عن الدين الحق خوفًا على مناصبهم ومصالحهم وأهوائهم، ويلتمسون بدلًا منه زيغًا وميلًا وانحرافًا عن الاستقامة، وهم بالبعث بعد الممات وبالنشور والحساب والقصاص والميزان جاحدون.
قال النسفي: (أي ما كانوا بمعجزين الله في الدنيا أن يعاقبهم لو أراد عقابهم، {وَمَا
(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري في صحيحه - حديث رقم - (2441) - كتاب المظالم - باب قول الله تعالى: {أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} . وأخرجه مسلم (2768)، وأخرجه أحمد (2/ 74)، (2/ 105)، وأخرجه ابن ماجه (183)، وابن حبان (7355).
كَانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ} من يتولاهم فينصرهم منه ويمنعهم من عقابه، ولكنه أراد إنظارهم وتأخير عقابهم إلى هذا اليوم، وهو من كلام الأشهاد).
وفي التنزيل: قال تعالى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ} [إبراهيم: 42].
وفي الصحيحين عن أبي موسى رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [إن الله ليُملي للظالم حتى إذا أخذه لم يُفْلِته، قال: ثم قرأ: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود: 102]] (1).
وقوله: {يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ} . قال القرطبي: (أي على قدر كفرهم ومعاصيهم).
قلت: بل هو بسبب كفرهم أولًا، وصدهم الناس عن الدين الحق ثانيًا، يُضَعِّفُ الله لهم بذلك العذاب.
وفي التنزيل:
1 -
قال تعالى: {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ} [النحل: 88].
2 -
وقال تعالى: {لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ} [النحل: 25].
وفي السنة المطهرة:
أخرج الإمام الترمذي في جامعه، والإمام أحمد في مسنده، بسند حسن عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[يُحْشَرُ المتكبرون يوم القيامة أمثالَ الذر في صور الرجال، يغشاهم الذل من كل مكان، يُساقون إلى سجن في جهنم يسمى بولس، تعلوهم نار الأنيار، يُسْقون من عُصارة أهل النار، طينةِ الخبال](2).
وقوله: {مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ} .
أي: إنهم كانوا لا يستطيعون سماع الحق سماع منتفع باحث عن الصواب، ولم
(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (4686) - كتاب التفسير، وأخرجه مسلم (2583)، وأخرجه الترمذي (3110)، وابن ماجه (4018)، والطبري (18559)، والبيهقي في السنن (6/ 94).
(2)
حديث حسن. أخرجه الترمذي في السنن (2492). انظر صحيح سنن الترمذي (2025). ورواه أحمد. انظر تخريج مشكاة المصابيح (5112)، وصحيح الجامع الصغير - حديث رقم - (7896).
يكونوا يبصرونه إبصار صادق في النظر إلى سبيل الهداية والرشاد، بل شغلهم الكفر والفجور والشهوات وصد الناس عن سبيل الله، ظنًا منهم أن ذلك يحفظ مصالحهم ودنياهم الفانية، فَعَطّلَ لديهم فائدة السمع والبصر.
قلت: وهذه الآية نص في مفهوم الاستطاعة الموافقة للعمل. فإن الاستطاعة كما وردت في الكتاب والسنة نوعان:
النوع الأول: الاستطاعة قبل العمل - وتعني سلامة الجوارح والآلات وأعضاء البدن - بمعنى: حضور القدرة الجسدية والإرادة العقلية، وهي استطاعة مخلوقة مع الإنسان وليس ابتداء عند العمل، لأن العقل لا يكون عقلًا ما لم يكن مريدًا مميزًا، والقوي لا يقال عنه قوي ما لم يكن معروفًا بالقوة وأسبابها، وإلا فغياب العقل سبب لرفع التكليف.
وفي التنزيل:
1 -
قال تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران: 97].
2 -
وقال تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16].
3 -
وقال تعالى: {فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا} [المجادلة: 4].
وفي صحيح البخاري عن عمران بن حصين، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[صل قائمًا، فإن لم تستطع فقاعدًا، فإن لم تستطع فعلى جنب](1).
النوع الثاني: الاستطاعة الموافقة للعمل - وهي خلق القدرة على ذلك العمل - وتأتي بمعنى التوفيق.
كما قال جل ثناؤه: {وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكَافِرِينَ عَرْضًا (100) الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا} [الكهف: 100، 101].
وفي صحيح البخاري عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: [يكشف ربنا عن ساقه، فيسجد له كل مؤمن ومؤمنة، ويبقى من كان يسجد
(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري وأبو داود وغيرهما. انظر صحيح سنن أبي داود (878).
في الدنيا رياء وسمعة، فيذهب ليسجد، فيعود ظهره طبقًا واحدًا] (1).
فلا يوفقهم الله للسجود إليه أحوج ما يحتاجون إلى قبوله وعونه لهم على السجود لوجهه، إذ كانوا من المبطلين المنافقين المرائين في سجودهم في الدنيا فحرمهم من ذلك بحكمته في الآخرة.
وقوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} .
أي: أولئك القوم الذين خسروا سعادة أنفسهم وراحتها، واشتروا بريائهم ونفاقهم وصدهم عن سبيل الله شقاوتها وعذابها وآلامها، وغاب عنهم شفاعة آلهتهم المزعومة، ومن ضحك عليهم من الطواغيت ولم يجدوا ما وعدوهم إلا كذبًا.
وقوله تعالى: {لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ} .
أي: حقًا ولا محالة أن هؤلاء يوم القيامة هم أصحاب الخسران المبين، وأهل التجارة الفاشلة الخاسرة، إذ ضيّعوا الآخرة بدنيا وشهوات فانية.
قال ابن كثير: (يخبر تعالى عن حالهم أنهم أخسر الناس صفقة في الدار الآخرة، لأنهم استبدلوا بالدركات عن الدرجات، واعتاضوا عن نعيم الجنان بحميم آن، وعن شُرب الرحيق المختوم، بسَموم وحَميم، وظِلٍّ من يحموم، وعن الحور العين بطعام مِنْ غِسْلين، وعن القصور العالية بالهاوية، وعن قُرْبِ الرحمن ورؤيته بغضَب الديَّان وعقوبته، فلا جرم أنهم في الآخرة هم الأخسرون).
23 -
24. قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (23) مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (24)}.
في هذه الآيات: إخبار الله تعالى عن حال السعداء، بعد ذكر حال الأشقياء، فأهل الإيمان والعمل الصالح الذين تواضعوا لأمر ربهم هم سكان الجنة هم فيها خالدون. إن مثل الفريقين كمثل الأعمى والبصير، والأصم والسميع، هل يستويان مثلًا؟ ! لا يستويان، فهلّا انتفعتم بضرب الله هذا المثل! .
(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري في الصحيح (4919) - كتاب التفسير. سورة "القلم" - آية (42).
فقوله: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ} . أي: جمعوا بين الإيمان والعمل الصالح والتواضع والتخشّع والخوف والإنابة إلى الله تعالى. ومن أقوال أهل التأويل:
1 -
عن ابن عباس: ({وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ} - قال: "الإخبات"، الإنابة) أو قال: (يقول: خافوا). وقال قتادة: (يقول: وأنابوا إلى ربهم).
2 -
وعن مجاهد: ({وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ}، قال: اطمأنوا).
3 -
وقال قتادة: (الإخبات: التخشُّعُ والتواضع).
قلت: وكلها معان يحتملها البيان الإلهي، وإن كان أبرز معاني الإخبات في كلام العرب الخشوع.
وقوله: {أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} .
قال ابن جرير: (يقول: هؤلاء الذين هذه صفتهم، هم سكان الجنة الذين لا يخرجون عنها، ولا يموتون فيها، ولكنهم فيها لابِثُون إلى غير نهاية).
ومن كنوز السنة الصحيحة في آفاق هذا المعنى أحاديث:
الحديث الأول: أخرج الإمام مسلم في صحيحه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [ينادي مناد إن لكم أن تصحوا فلا تسقموا أبدًا. وإن لكم أن تحيوا فلا تموتوا أبدًا. وإن لكم أن تَشِبُّوا فلا تهرموا أبدًا. وإن لكم أن تنعموا فلا تَبْأَسوا أبدًا](1).
الحديث الثاني: أخرج الترمذي بسند حسن عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[أهل الجنة جُرْدٌ، مُرْدٌ، كُحْلٌ، لا يفنى شبابهم، ولا تبلى ثيابهم](2).
الحديث الثالث: أخرج الإمام مسلم من حديث جابر مرفوعًا: [يأكل أهل الجنة ويشربون ولا يمتخطون ولا يتغوطون ولا يبولون، طعامهم ذلك جشاء كريح المسك، يلهمون التسبيح والتكبير كما تلهمون النفس](3).
(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم في الصحيح (8/ 148) من حديث أبي هريرة. وانظر مختصر صحيح مسلم - حديث رقم - (2140) - كتاب التفسير - الأعراف، آية (43).
(2)
حديث حسن. أخرجه الترمذي (2675) - أبواب صفة الجنة - وانظر صحيح سنن الترمذي (2062).
(3)
حديث صحيح. أخرجه مسلم (8/ 147)، وانظر تفصيل ذلك النعيم والخلود في كتابي: أصل الدين والإيمان - عند الصحابة والتابعين لهم بإحسان. (2/ 769 - 802).
وقوله: {مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ} - فيه أقوال متقاربة:
1 -
قال مجاهد: (الفريقان: الكافران والمؤمنان. فأما الأعمى والأصم فالكافران، وأما البصير والسميع، فهما المؤمنان).
2 -
وقال ابن جريج، قال ابن عباس:(الأعمى والأصم: الكافر. والبصير والسميع: المؤمن).
3 -
وقال قتادة: (هذا مثلٌ ضربه الله للكافر والمؤمن. فأما الكافر فصم عن الحق فلا يسمعه، وعمي عنه فلا يبصره. وأما المؤمن، فسمع الحق فانتفع به، وأبصره فوعاه وحفظه وعمل به).
وقوله: {هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا} أي: تشبيهًا، و {مَثَلًا} منصوب على التمييز، والمعنى: كما لا يستوي عندكم الأعمى والبصير، والأصم والسميع، فكذلك لا يستوي عند الله المؤمن والكافر، والطائع والعاصي، والمسلم والفاسق.
وقوله: {أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} . قال النسفي: (فتنتفعون بضرب المثل).
25 -
27. قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (25) أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ (26) فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ (27)}.
في هذه الآيات: شَرَعَ الله تعالى في إخباره عن إرساله الرسل إلى أهل الأرض، وأولهم نوح عليه الصلاة والسلام، بعثه الله نذيرًا إلى قومه يحذرهم مغبة الشرك والكبر والغرور الذي كانوا عليه، ويدعوهم لإفراد الله تعالى بالعبادة والتعظيم، ويحذرهم عذاب يوم أليم، فما كان من الملأ الكافر من قومه إلا الاستهزاء، والاستخفاف بالأتباع، واتهام المؤمنين بالكذب ليحيق بالمستكبرين العذاب.
فقوله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (25) أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ} .
إخبار عن إرساله تعالى نبيّه نوحًا صلى الله عليه وسلم إلى قومه الذين امتلأت الأرض يومئذ من شركهم وشرورهم، فكان نوح أول الرسل إلى أهل الأرض، ظاهر النذارة لقومه من
عذاب الله وغضبه إن أصروا على شركهم وعبدوا غير الله الواحد الأحد.
وقد صَبَرَ نوح - صلوات الله وسلامه عليه - على تمرد قومه وغرورهم واستهزائهم، وهو يدعوهم القرون الطويلة، إذ مكث فيهم ألف سنة إلا خمسين عامًا، ويؤكد لهم التمسك بـ "لا إله إلا الله" وأن يعيشوا لأجلها ويموتوا عليها، حتى كان ذلك آخر ما وصى به ابنه عند الموت.
فقد أخرج الإمام أحمد في المسند، والبيهقي في الأسماء، بإسناد صحيح من حديث عبد الله بن عمرو مرفوعًا: [إن نبيّ الله نوحًا صلى الله عليه وسلم لما حضرته الوَفاةُ قال لابنه: إني قاص عليك الوصية، آمرك باثنتين وأنهاك عن اثنتين، آمرك بـ "لا إله إلا الله" فإن السماوات السبع والأرضين السبع لو وضعت في كفة ووضعت لا إله إلا الله في كفة، رجحت بهن لا إله إلا الله، ولو أن السماوات السبع والأرضين السبع كن حلقة مبهمة قصمتهن لا إله إلا الله، وسبحان الله وبحمده فإنها صلاة كل شيء وبها يرزق الخلق، وأنهاك عن الشرك والكِبْر.
قيل: يا رسول الله! هذا الشرك قد عرفناه فما الكبر؟ قال: أن يكون لأحدنا نعلان حسنتان لهما شراكان حسنان؟ قال: لا، قال: هو أن يكون لأحدنا أصحاب يجلسون إليه؟ قال: لا. قيل: يا رسول الله فما الكبر؟ قال: سفه الحق وغمص الناس] (1).
وقوله: {إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ} . أي: إن أصررتم على طريق الكبر والشرك والبغي في الأرض بغير الحق فإنه ينتظركم العذاب الأليم الشاق الموجع يوم الحساب.
وقوله: {فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ} . قال ابن كثير: (والملأ هم: السادة والكبراء من الكافرين منهم: {مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا}، أي: لستَ بمَلَك ولكنّك بشرٌ، فكيف أوحِيَ إليك من دُوننا؟ ثم ما نراك اتَّبَعَك إلا أَراذلنا كالباعة والحاكَة وأشباههم، ولم يتبعك الأشرافُ ولا الرؤساء منّا، ثم هؤلاء الذين اتبعوك لم يكن عن تَرَوٍّ منهم ولا فكرةٍ ولا نظر، بل بمجرَّد ما دعوتهم أجابوك فاتَّبعوك، ولهذا قالوا: {وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ}، أي: في أول بادئِ الرأي).
(1) حديث صحيح. أخرجه أحمد (2/ 169 - 170)، (2/ 225)، والبيهقي في "الأسماء"(79)، وأخرجه البخاري في "الأدب المفرد"(548)، وانظر السلسلة الصحيحة (134).
وقوله: {وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ} .
قال القاسمي: ({وَمَا نَرَى لَكُمْ} خطاب لنوح وأتباعه {عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ} أي تقدّم يؤهلكم للنبوة واستحقاق المتابعة، لأن الفضل محصور عندهم بالغنى والمال. {بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ} أي فيما تدعونه من الإصلاح وترتب السعادة والنجاة عليه).
28 -
31. قوله تعالى: {قَالَ يَاقَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ (28) وَيَاقَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ (29) وَيَاقَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (30) وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (31)}.
في هذه الآيات: ذِكْرُ الله تعالى جواب نوح صلى الله عليه وسلم إلى قومه: أرأيتم أيها القوم إن كنت على يقين برحمة الله المهداة إليّ وهي النبوة التي خفيت عليكم، ولم تقدروا حقها بل قابلتموها بالسخرية والتكذيب، فكيف لي أن أجبركم عليها وأنتم لها كارهون. يا قوم إني لا أبتغي من دعوتي لكم مالًا بل أجري على الله ولا يمكنني طرد المؤمنين الصادقين، وإنما أنتم قوم تجهلون. ثم يا قوم من ينصرني من الله إن طردتهم أفلا تذكرون. إني لا أملك خزائن السماوات ولا أعلم الغيب ولست بملك ولا أتجرأ القول على الله أن هؤلاء الذين تزدرون لن ينالوا من الله خيرًا، فالله أعلم بأنفسهم، فإني إن تجرأت على ذلك كنت من الظالمين.
فقوله: {قَالَ يَاقَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ} . قال ابن جريج: (قال نوح: {يَاقَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي}، قال: قد عرفتها، وعرفت بها أمره، وأنه لا إله إلا هو، {وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ}، الإسلام والهدى والإيمان والحكم والنبوة).
وقوله: {أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ} . قال قتادة: (أما والله لو استطاع نبيُّ الله صلى الله عليه وسلم لألزمها قومه، ولكن لم يستطع ذلك ولم يملكه).
وغاية المعنى: يجيبُ نوح صلى الله عليه وسلم قومه: أرأيتم إن كنت على يقين من أمري، في رسالتي ونبوتي الصادقة، وهي الرحمة العظيمة المهداة من الله لي ولكم، ثم خفيت عليكم فلم تهتدوا إليها، ولم تعرفوا قدْرها، بل قابلتم تلك النعمة والهداية الكبيرة بالتكذيب والاستهزاء والعناد، فكيف لي أن أغصبكم عليها وأنتم لها كارهون.
وقوله: {وَيَاقَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ} . قال ابن جرير: (قال لهم: يا قوم لا أسألكم على نصيحتي لكم، ودعايتكم إلى توحيد الله وإخلاص العبادة له، مالًا أجرًا على ذلك، فتتهموني في نصيحتي، وتظنون أن فعلي ذلك طلبُ عرض من أعراض الدنيا، {إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ}، يقول: ما ثواب نصيحتي لكم، ودعايتكم إلى ما أدعوكم إليه، إلا على الله، فإنه هو الذي يجازيني ويثيبني عليه).
وقوله: {وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ} . قال ابن جريج: (قالوا له: يا نوح، إن أحببت أن نتبعك فاطردهم، وإلا فلن نرضى أن نكون نحن وهم في الأمر سواء. فقال: {وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ}، فيسألهم عن أعمالهم).
وقوله: {وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ} . قال القرطبي: (في استرذالكم لهم، وسؤالكم طردهم).
قلت: ويبدو أن هذه سنة في الملأ الكافر على مر الدهور والأزمان، فهم يرون إيمانهم مع الضعفاء انتقاصًا لشأنهم وما اعتادوه من أحوال الظلم والكبر واستضعاف الناس، فكان الوحي النازل يقرعهم دومًا للتخلي عن هذه الأبهة الكاذبة.
ففي التنزيل:
1 -
قال تعالى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الكهف: 28].
2 -
وقال تعالى: {وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ} [الأنعام: 53].
3 -
وقال تعالى: {وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنعام: 52].
وقد جاءت السنة الصحيحة كذلك بتحذير النبي صلى الله عليه وسلم الاستجابة لهذا المطلب الساقط من الملأ الكافر، وفي ذلك أحاديث:
الحديث الأول: روى مسلم في صحيحه عن سعد قال: [فيَّ نزلت: {وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ} - قال: نزلت في ستة: أنا وابن مسعود منهم، وكان المشركون قالوا: تدني هؤلاء](1).
الحديث الثاني: أخرج ابن ماجه في السنن، وابن جرير في التفسير بسند صحيح عن المقدام بن شريح عن أبيه عن سعد قال:[كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ستة نفر، فقال المشركون للنبي صلى الله عليه وسلم: اطرد هؤلاء لا يجترئون علينا. قال: وكنت أنا وابن مسعود ورجل من هذيل وبلال ورجلان لست أسميهما، فوقع في نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم ما شاء الله أن يقع فحدث نفسه، فأنزل الله عز وجل: {وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ}](2).
الحديث الثالث: أخرج ابن جرير بسنده من طريق ابن مسعود قال: [مرَّ الملأ من قريش على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده خباب وصهيب وبلال وعمار، فقالوا: يا محمد، أرضيت بهؤلاء من قومك؟ أهؤلاء الذين مَنَّ الله عليهم من بيننا؟ أنحن نصير تبعًا لهؤلاء؟ اطردهم فلعلك إن طردتهم نتبعك، فنزلت هذه الآية: {وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ (52) وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ}](3).
وقوله تعالى: {وَيَاقَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} .
أي: ويا قوم من يمنعني من بأس الله وانتقامه لأوليائه إن طردتهم أفلا تتعظون!
وقوله: {وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ} . قال ابن
(1) حديث صحيح. انظر صحيح مسلم - حديث رقم - (2413)، وسنن ابن ماجه (4128)، ومستدرك الحاكم (3/ 319)، ورواه النسائي في "التفسير"(183)، وأخرجه أبو يعلى (826)، والطبري (13266)، وغيرهم.
(2)
حديث صحيح. انظر سنن ابن ماجه - حديث رقم - (4128) - باب مجالسة الفقراء، ومستدرك الحاكم (3/ 319)، وقال صحيح على شرطهما وأقره الذهبي. وأخرجه النسائي في "الكبرى"(11163)، ورواه أبو يعلى (826).
(3)
انظر تفسير الطبري، سورة الأنعام، آية (52 - 53)، وكتابي: السيرة النبوية (1/ 243).
جريج: (قوله: {وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ}، التي لا يفنيها شيء، فأكون إنما أدعوكم لتتبعوني عليها، لأعطيكمْ منها، ولا أقول: إني ملك نزلت من السماء برسالة، ما أنا إلا بشر مثلكم، ولا أعلم الغيب، ولا أقول اتبعوني على علم الغيب).
قال القرطبي: (أي ليس لاحتقاركم لهم تبطل أجورهم، أو ينقص ثوابهم. {اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ} فيجازيهم عليه ويؤاخذهم به. {إِنِّي إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ} إن قلت هذا الذي تقدم ذكره).
32 -
35. قوله تعالى: {قَالُوا يَانُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (32) قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شَاءَ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (33) وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (34) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ (35)}.
في هذه الآيات: استعجال قوم نوح العذاب والوعيد، وردّ نوح صلى الله عليه وسلم أمر ذلك إلى الله، ومواجهته قومه أنكم لستم بمعجزين. وأن نصحي لكم لا ينفعكم إن كان الله قضى في سابق علمه إضلالكم لفساد قلوبكم وهو العليم الحكيم. أم يقول هؤلاء أو قومك يا محمد: افتراه، فأخبرهم إن جزاء افترائي سيحيق بي، كما سيحيق بكم نكال إجرامكم.
فقوله: {قَالُوا يَانُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا} . قال مجاهد: (ماريتنا).
وقوله: {فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا} . قال ابن جريج: (تكذيبًا بالعذاب، وأنه باطل).
وقوله: {فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} - يعني قد خاصمتنا فأكثرت خصومتنا ومحاجّتنا، فإن كنت صادقًا في دعواك أنك رسول لله فأت بالعذاب واستعجل الوعيد.
وقوله تعالى: {قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شَاءَ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} . يعني: إن الذي بيده
العذاب وموعده ووقته هو الله سبحانه الذي خلقكم وخلق كل شيء ولا تعجزونه ولا يعجزه شيء.
قال ابن كثير: (أي: أيُّ شيء يُجْدي عليكم إبلاغي لكم وإنذاري إياكم ونُصحي، إن كان الله يريد إغواءكم ودمارَكم، {هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}. أي: هو مالك أَزِمَّةِ الأمور، والمتصرِّفُ الحاكمُ العادلُ الذي لا يجورُ، له الخلقُ وله الأمرُ، وهو المبدئ المعيدُ، مالكُ الدنيا والآخرة).
وقوله تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ} .
قال ابن عباس: (هو من محاورة نوح لقومه). وقيل: بل هو كلام معترِضٌ وسط القصة والحديث عن مشركي قريش إذ زعموا أن محمدًا صلى الله عليه وسلم افترى هذا القرآن. واختار ابن جرير الثاني فقال: (أيقول، يا محمد، هؤلاء المشركون من قومك: افترى محمد هذا القرآن؟ وهذا الخبر عن نوح؟ قل لهم: إن افتريته فتخرصته واختلقته {فَعَلَيَّ إِجْرَامِي}، يقول: فعليَّ إثمي في افترائي ما افتريت على ربي، دونكم، لا تؤاخذون بذنبي ولا إثمي، ولا أؤاخذ بذنبكم، {وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ}، يقول: وأنا بريء مما تذنبون وتأثمون بربكم، من افترائكم عليه). واختار القرطبي أنه من محاورة نوح لقومه، ثم قال القرطبي:(وهو أظهر، لأنه ليس قبله ولا بعده إلا ذكر نوح وقومه، فالخطاب منهم ولهم {قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ} أي اختلقته وافتعلته، يعني الوحي والرسالة، {فَعَلَيَّ إِجْرَامِي} أي عقاب إجرامي، وإن كنت محقًا فيما أقوله فعليكم عقاب تكذيبي).
قلت: والبيان الإلهي يحتمل التأويلين معًا، وهو من إعجاز هذا القرآن العظيم، وجوامع كلمه وخطابه الجامع، فيجوز أن يكون الوصف لحوار نوح مع قومه، أو لاعتراض المشركين على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فإن الشرك ملة واحدة عبر العصور والأزمان.
36 -
39. قوله تعالى: {وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (36) وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي
الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (37) وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ (38) فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ (39)}.
في هذه الآيات: وَحْيُ الله تعالى إلى نوح أنه قد انتهى كل شيء بينك وبين قومك فلن يؤمن إلا من قد آمن، فانهض لصناعة الفلك برعاية ربك ولا تسأل عن الذين ظلموا فإنهم مغرقون. ويستجيب نوح لربه ويصنع الفلك، وكلما مرّ ملأ من قومه سخروا من فعله فيواجههم نوح بصلابة وقوة أنّ السخرية سترتد بالوبال عليكم، وبالعذاب المقيم الذي يخزيكم.
فقوله: {وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ} . أي: أوحى الله تعالى إلى نوح، أن المؤمنين هم من قد آمن معك من قومك، ولا طمع بغيرهم، وقد أظل المجرمين أمر الله وحق عليهم القول.
وقوله: {فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} . قال مجاهد: (لا تحزن). وقال قتادة: (لا تأس، ولا تحزن).
وقد كان نوح صلى الله عليه وسلم دعا على قومه لما عاجزوه واستعجلوا نقمة الله وعذابه لينزل بهم فقال: {رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا} [نوح: 26].
وفي التنزيل أيضًا: {فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ} [القمر: 10].
فهنالك أوحى الله إليه: {أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} .
وقوله تعالى: {وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ} .
قال مجاهد: ({الْفُلْكَ}، السفينة). وعن ابن عباس: ({وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا}، وذلك أنه لم يعلم كيف صنعةُ الفلك، فأوحى الله إليه أن يصنعها على مثل جُؤْجُؤ الطائر). وعن مجاهد: ({وَوَحْيِنَا}، قال: كما نأمرك). وعن قتادة: {بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا} ، قال: بعين الله ووحيه). وقال ابن كثير: ({بِأَعْيُنِنَا}، أي: بمرأى منا). وعن ابن جريج: ({وَلَا تُخَاطِبْنِي}، قال: يقول: ولا تراجعني. قال: تقدَّم أن لا يشفع لهم عنده).
قال ابن جرير: (ويصنع نوح السفينة، وكلما مرّ عليه جماعة من كبراء قومه، {سَخِرُوا مِنْهُ}، يقول: هزئوا من نوح، ويقولون له: أتحوّلت نجارًا بعد النبوة، وتعمل السفينة في البر؟ فيقول لهم نوح: {إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا} إن تهزؤوا منا اليوم، فإنا نهزأ منكم في الآخرة، كما تهزؤون منا في الدنيا).
وقوله تعالى: {فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ} .
أي: فسوف تعلمون معشر المستهزئين إذا جاء أمر الله مَن الهالك، وَمَنْ ينزل به عذاب يهينه ويُذِلّه، ثم مَنْ ينزل به في الآخرة عذاب لا خلاص منه ولا نجاة ولا مخرج من ألمه.
40 -
44. قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ (40) وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (41) وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَابُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ (42) قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ (43) وَقِيلَ يَاأَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَاسَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (44)}.
في هذه الآيات: نُزولُ أمر الله في قوم نوح، فيأمر الله تعالى نبيّه نوحًا صلى الله عليه وسلم أن يحمل في السفينة من كل صنف من المخلوقات زوجين، وكذلك أهل بيته وأرحامه وقرابته - إلا من سبق القول أنه لن يؤمن -، ويحمل كذلك مَنْ آمن معه من قومه وهم نزر قليل. فيركب نوح صلى الله عليه وسلم والمؤمنون ويقول: بسم الله مجريها ومرساها إن ربي لغفور رحيم. وأثناء سير السفينة على وجه الماء الآخذ في الارتفاع يبصر نوح ابنه يام - وكان كافرًا انعزل عن أبيه وعن السفينة - فيدعوه للركوب وَأَخْذِ سبيل النجاة كيلا يكون مع
الهالكين. فيأبى ويفضل الانحياز إلى الجبل للتحصن فيه من أمواج الماء، فيخبره نوح أنه لا نجاة اليوم إلا في هذه السفينة، ويمضي أمر الله ليكون ابن نوح مع المغرقين. ثم يأمر الله تعالى الأرض بتشرب الماء والسماء بالإقلاع عن المطر، وقضي الأمر بإهلاك قوم نوح، وأرست السفينة على جبل الجودي، وقيل سحقًا لقوم نوح الذين غضب الله عليهم وكانوا من الظالمين.
فقوله: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ} - وذلك حين حلول وعيد الله بالطوفان، وإغراق الكفار من الأنام.
قال ابن عباس: (التنّور: وجه الأرض). والتقدير: انبجس الماء من وجه الأرض. قال ابن كثير: (أي: صارت الأرض عيونًا تفور، حتى فار المار من التنانير التي هي مكانُ النار، صارت تفورُ ماءً. وهذا قول جمهور السَّلف وعلماءِ الخلف).
وفي التنزيل: {فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ (11) وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (12) وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ (13) تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ} [القمر: 11 - 14].
قال مجاهد: ({مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ}، قال: ذكر وأنثى من كل صنف). وقال الضحاك: (يعني بالزوجين اثنين، ذكر وأنثى). وقال ابن جرير: (يعني بالأهل: ولده ونساءه وأزواجه - إلا من قلت فيهم: إني مهلكه). أي: فلما جاء ميعاد إهلاك القوم الكافرين، أمر الله نوحًا صلى الله عليه وسلم أن يحمل معه في السفينة من صنوف المخلوقات ذات الأزواج، قيل: وغيرها من النباتات - اثنين، ذكرًا وأنثى، وكذلك أهل بيته وأرحامه وقرابته إلا من سبق عليه القول منهم ممن لم يؤمن بالله وكفر برسوله نوح صلى الله عليه وسلم، فكان منهم ابنه يام الذي انعزل وحده، وكذلك امرأة نوح، التي كانت كافرة بالله ورسوله.
وقوله: {وَمَنْ آمَنَ} . أي: واحمل معك كذلك في السفينة مَنْ آمَنَ مِنْ قَومِكَ. وقوله: {وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ} . أي: نزر يسير ممن صدّقه وتابعه من أهله وقومه.
وقوله: {وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا} . أي: كما قال مجاهد: (حين يركبون ويجرون ويرسون). أو قال: (قال: بسم الله حين يجرون وحين يرسون).
والتقدير: أي باسم الله يكون جَرْيُها على وجه الماء، وباسم الله يكون منتهى سيرها، وهو رُسُوُّها.
وقرأ عامة قراء الكوفة: {بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا} بفتح الميم من {مَجْرَاهَا}
وضمها من {وَمُرْسَاهَا} . في حين قرأ عامة قراء المدينة والبصرة: "بسم الله مُجْراها ومُرْساها" كلاهما بضم الميم. وقرأ أبو رَجَاء العَطَاردي: "بسم الله مُجْرِيها وَمُرْسِيها" بضم الميم فيهما، ويصيرهما نعتًا لله.
قلت: وذكر الله عند بداية الإقلاع على الدابة وفي السفر وكذلك التسمية عند ابتداء الأمور مشروع في الكتاب والسنة.
ففي التنزيل:
1 -
قال تعالى: {فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (28) وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبَارَكًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ} [المؤمنون: 28، 29].
2 -
ومن السنة الصحيحة في آفاق ذلك أحاديث:
الحديث الأول: أخرج الإمام مسلم في صحيحه وأبو داود في سننه عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: [أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا ركب راحلته كبَّر ثلاثًا ثم قال: {سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ (13) وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ}. ثم يقول: اللهمَّ، إني أسألك في سَفَري هذا البرّ والتقوى، ومن العمل ما ترضى. اللهم هوِّن علينا السفر واطْوِ لنا البعيد. اللهم أنت الصاحب في السفر، والخليفة في الأهل. اللهم اصحَبنا في سَفَرنا، واخلُفنا في أهلنا]. وكان إذا رجع إلى أهله قال: "آيبون تائبون إن شاء الله، عابدون، لربنا حامدون"(1).
الحديث الثاني: أخرج الإمام أحمد بسند صحيح عن أبي لاسٍ - محمد بن الأسود بن خلفٍ - الخزاعي قال: [حملنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على إبلٍ من إبل الصدقة إلى الحج، فقلنا: يا رسولَ الله، ما نرى أن تحملنا هذه! فقال صلى الله عليه وسلم: ما من بعير إلا في ذرْوَتِه شيطانٌ، فاذكروا اسم الله عليها إذا ركبتموها كما آمركم، ثم امتهِنُوها لأنفسكم، فإنما يحمل الله عز وجل](2).
(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم (1342)، وأبو داود (2599)، والنسائي في "اليوم والليلة"(548).
(2)
حديث صحيح. أخرجه أحمد (4/ 221)، والطبراني (22/ 334)، وللحديث شواهد.
الحديث الثالث: أخرج أحمد والدارمي وابن حبان بسند حسن من حديث أسامة بن زيد عن محمد بن حَمْزَة: أنه سمع أباه يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم[يقول: على ظهر كُلِّ بعير شيطانٌ، فإذا ركبتموها فسمّوا الله عز وجل، ثم لا تُقَصِّروا عن حاجاتكم](1).
وقوله: {إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} . قال القرطبي: (أي لأهل السفينة).
وذكر المغفرة والرحمة هنا مناسب عند ذكر الانتقام من الكافرين بإغراقهم أجمعين. وفي التنزيل نحو هذا كثير:
1 -
قال تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [الأعراف: 167].
2 -
وقال تعالى: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ} [الرعد: 6].
3 -
وقال تعالى: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ} [الحجر: 49، 50].
وفي مسند البزار بسند حسن عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[قال الله تعالى: وعزتي وجلالي لا أجمع لعبدي أمنين ولا خوفين، إن هو أمنني في الدنيا أخفته يوم أجمع عبادي، وإن هو خافني في الدنيا أمَّنْتُهُ يوم أجمع عبادي](2).
وقوله: {وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ} . قال ابن كثير: (أي: السفينة سائرةٌ بهم على وجه الماء، الذي قد طَبَّقَ جميع الأرض، حتى طَفَت على رؤوس الجبال).
وقال النسفي: (يريد موج الطوفان، وهو جمع موجة كتمر وتمرة، وهو ما يرتفع من الماء عند اضطرابه بدخول الرياح الشديدة في خلاله، شبه كل موجة منه بالجبل في تراكمها وارتفاعها).
أي: ونادى نوح ابنه يام، وهو كما رُوي الابن الرابع، وكان كافرًا، فانعزل عن أبيه وعن السفينة، فدعاه أبوه نوح صلى الله عليه وسلم ليؤمن ويركب وينجو مع الناجين ولا يكون مع الهالكين فأبى.
(1) حديث صحيح. أخرجه أحمد (3/ 494)، والدارمي (2/ 285)، وابن حبان (1703) بسند حسن.
(2)
حديث حسن. أخرجه أبو نعيم في "الحلية"(6/ 98)، وأخرجه البزار (انظر الهيثمي في "المجمع" 10/ 308)، وانظر سلسلة الأحاديث الصحيحة - حديث رقم - (742).
قال ابن جرير: (قال ابن نوح، لما دعاه نوح إلى أن يركب معه السفينة، خوفًا عليه من الغرق: {سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ} يقول: سأصير إلى الجبل أتحصّن به من الماء، فيمنعني منه أن يغرقني. وقوله: {لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ}، يقول: لا مانع من أمر الله الذي قد نزل بالخلق من الغرق والهلاك، إلا من رَحمَنا فأنقذنا منه، فإنه الذي يمنع من شاء من خلقه ويعصم).
ومضت السفينة تسير على وجه الماء تحمل الأمن والطمأنينة لساكنيها، وتخفي وراءها الدمار والهلاك للطغاة والعتاة والمجرمين، كما في التنزيل:
1 -
قال تعالى: {إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ (11) لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ} [الحاقة: 11، 12].
2 -
وقال تعالى: {وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ (13) تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ (14) وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} [القمر: 13 - 15].
وقوله: {وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ} .
أي: كتب الله الغرق على ابن نوح الضال، فدخل في جملة الغرقى الهالكين.
أي: قال الله للأرض - بعد نزول نقمته بأهل الكفر وغرقهم - يا أرض تَشرَّبي ماءك، ويا سماء أقلعي عن المطر وأمسكي، فذهبت الأرض بالماء الذي كان عليها ونَشِفَتْه، وقضي الأمر بإهلاك قوم نوح، وأرست السفينة على جبل الجودي - الذي هو بناحية الموصل أو الجزيرة - فيما ذكر.
وعن مجاهد: ({وَغِيضَ الْمَاءُ}، قال: نقص، {وَقُضِيَ الْأَمْرُ}، قال: هلاك قوم نوح).
وقال ابن جريج: ({وَغِيضَ الْمَاءُ}، نَشِفَتْهُ الأرض).
وعن ابن عباس: ({وَيَاسَمَاءُ أَقْلِعِي}، يقول: أمسكي، {وَغِيضَ الْمَاءُ}، يقول: ذهب الماء).
وعن مجاهد: ({وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ}، قال: الجودي جبل بالجزيرة، تشامخت الجبال يومئذ من الغرق وتطاولَت، وتواضع هو لله، فلم يغرق، وأرسيت سفينة نوح عليه).
وعن الضحاك يقول: ({وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ} هو جبل بالموصل) - والله تعالى أعلم.
وقوله: {وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} . أي: سحقًا لقوم نوح الذين حاق بهم غضب الله فنزل بهم عذابه.
45 -
48. قوله تعالى: {وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ (45) قَالَ يَانُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (46) قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (47) قِيلَ يَانُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ (48)}.
في هذه الآيات: مناجاة نوح ربه لنجاة ولده، وجواب الله له أنه ليس من أهله، ووعظه له أن لا يسأل ما ليس له به علم، واستغفار نوح عليه الصلاة والسلام من ذلك. ثم أَمْرُ الله نوحًا الهبوط بسلام عليه وعلى من معه، وعلى كل من تبعه على الحق، وأما من خالف منهاجه دخل في متاع قليل ينتهي بعذاب أليم.
فقوله تعالى: {وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ} .
قال ابن جرير: (يقول تعالى ذكره: ونادى نوح ربه فقال: ربِّ إنك وعدتني أن تنجيني من الغرق والهلاك وأهلي، وقد هلك ابني، وابني من أهلي، {وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ}، الذي لا خلف له، {وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ} بالحق، فاحكم لي بأن تفي لي بما وعدتني، من أن تنجّي لي أهلي، وترجع إليَّ ابني).
وقوله: {قَالَ يَانُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} . قال ابن عباس: (ما بغت امرأة نبي قط. وقوله: {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ}، الذين وعدتك أن أنجيهم معك). وقال:
(هو ابنه، غير أنه خالفه في العمل والنية).
وهو يرد بذلك على من زعم أنه ليس ابنه على الحقيقة، بل ولد على فراشه، أو ولد زنية. قال سعيد بن جبير:(قال الله، وهو الصادق: وهو ابنه، {وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ}).
وكان قد جاءه رجل فسأله: أرأيتك ابن نوح ابنه؟ فَسَبَّح طويلًا، ثم قال:(لا إله إلا الله، يحدِّث الله محمدًا: {وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ} وتقول: ليس منه؟ ولكن خالفه في العمل، فليس منه من لم يؤمن).
وقال الضحاك: {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ} ، يقول: ليس من أهل ولايتك، ولا ممن وعدتك أن أنجي من أهلك، {إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} ، يقول: كان عمله في شرك).
وهناك من قرأها: "إنه عَمِلَ غيرَ صالح" - وروي ذلك عن ابن عباس (1). والجمهور على قراءتها: {إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} - وتأويل ذلك كما ذكر مجاهد قال: (سؤالك إياي، عمل غير صالح). ولذلك قال بعدها: {فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} - وفيه أكثر من تأويل:
1 -
أي فلا تسألن ما ليس لك به علم بجواز مسألته - ذكره النسفي.
2 -
أي أنهاك عن هذا السؤال، وأحذرك لئلا تكون من الجاهلين أي الآثمين - ذكره القرطبي.
3 -
أي فلا تسألن عما قد طويتُ علمه عنك من أسباب أفعالي وقد أخبرتك سبب إهلاك ابنك - ذكره ابن جرير.
قلت: وكل ما سبق يدل على آفاق مفهوم الآية ويزيد في توضيح معانيها.
قال القاسمي: ({إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} أي أنهاك أن تكون منهم بسؤالك إياي ما لم تعلم).
وقال ابن العربي: (وهذه زيادة من الله وموعظة يرفع بها نوحًا عن مقام الجاهلين، ويعليه بها إلى مقام العلماء والعارفين).
وقوله تعالى: {قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} . فيه ذكر إنابة نوح عليه السلام بالتوبة إلى الله من زلته في مسألته.
(1) قلت: بل ثبت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم. فقد أخرج الترمذي بسند صحيح عن أم سلمة: [أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرؤها: "إنه عَمِلَ غيرَ صالح"]. صحيح سنن الترمذي (2336/ 1).
قال ابن جرير: (أي: أستجير بك أن أتكلف مسألتك ما ليس لي به علم، مما قد استأثرت بعلمه، وطويتَ علمه عن خلقك، فاغفر لي زلتي في مسألتي إياي ما سألتك في ابني، وإن أنت لم تغفرها لي وترحمني فتنقذني من غضبك، {أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ}، يقول: من الذين غبنوا أنفسهم حظوظها وهلكوا).
إخبارٌ من الله تعالى عن قيله لنوح صلى الله عليه وسلم حين أرست السفينة واستوت على جبل الجودي: أن سلام عليك وعلى من معك من المؤمنين، وعلى كل مؤمن من ذريتك إلى يوم القيامة. كما قال محمد بن كعب القرظي:(دخل في ذلك السلام كل مؤمن ومؤمنة إلى يوم القيامة، ودخل في ذلك العذاب والمتاع كل كافر وكافرة إلى يوم القيامة).
وعن ابن زيد قال: (هبطوا والله عنهم راض، هبطوا بسلام من الله. كانوا أهل رحمة من أهل ذلك الدهر، ثم أخرج منهم نسلًا بعد ذلك، أممًا، منهم من رحم، ومنهم من عذب. وقرأ: {وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ}، وذلك إنما افترقت الأمم من تلك العصابة التي خرجت من ذلك الماء وسلمت).
وعن الضحاك: (يقول في قوله: {يَانُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ}، الآية، يقول: بَركات عليك وعلى أمم ممن معك لم يولدوا، أوجب الله لهم البركات لما سبق لهم في علم الله من السعادة، {وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ}، يعني: متاع الحياة الدنيا، {ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ}، لما سبق لهم في علم الله من الشقاوة).
وقال الحسن: (فأنجى الله نوحًا والذين آمنوا، وهلك المتمتعون! حتى ذكر الأنبياء، كل ذلك يقول: أنجاه الله وهلك المتمتعون).
49.
في هذه الآية: إخبار الله تعالى نبيّه محمدًا صلى الله عليه وسلم أن هذه القصة من أخبار الغيب يقصها عليه بالوحي، وما كان له ولقومه العلم بدقائقها قبل هذا، فاصبر - يا محمد - كما صبر نوح والرسل قبلك فالنصر والعاقبة للمتقين.
قال النسفي: (أي - أخبار - تلك القصة بعض أنباء الغيب موحاة إليك مجهولة عندك وعند قومك {مِنْ قَبْلِ هَذَا} الوقت، أو من قبل إيحائي إليك وإخبارك بها {فَاصْبِر} على تبليغ الرسالة وأذى قومك كما صبر نوح، وتوقع في العاقبة لك ولمن كذبك نحو ما كان لنوح ولقومه {إِنَّ الْعَاقِبَةَ} في الفوز والنصر والغلبة {لِلْمُتَّقِينَ} عن الشرك).
وفي التنزيل:
1 -
قال تعالى: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} [غافر: 51].
2 -
وقال تعالى: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ (171) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ} [الصافات: 171، 172].
أخرج الخطيب في "التاريخ"، والديلمي في "مسند الفردوس"، بسند رجاله ثقات عن أنس مرفوعًا:[النصر مع الصَّبر، والفَرَجُ مع الكَرْبِ، وإنَّ مع العُسْر يُسْرًا، وإن مع العُسْر يُسْرًا](1).
50 -
52. قوله تعالى: {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ (50) يَاقَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلَا تَعْقِلُونَ (51) وَيَاقَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ (52)}.
في هذه الآيات: إخبار الله تعالى عن إنذار هود صلى الله عليه وسلم قومه ليفردوا الله تعالى بالعبادة والتعظيم، قبل حلول نقمة الله بهم ونزول العذاب الأليم. قال يا قوم لا أبتغي ببلاغي ودعوتي لكم مالًا بل أجري على الله الذي فطرني وأرسلني إليكم أفلا تعقلون. ويا قوم الزموا استغفار ربكم، فإنه من فضله ونعمه يزيدكم، فيرسل عليكم المطر والرزق ويزيدكم قوة إلى قوتكم، ولا تستكبروا عن طاعته وتسلكوا سبيل المجرمين.
(1) حديث صحيح. أخرجه الخطيب في "التاريخ"(10/ 287) من حديث أنس بن مالك، والديلمي (4/ 111 - 112)، وانظر سلسلة الأحاديث الصحيحة (2382).
فقوله: {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا} . أي: وأرسلنا كذلك إلى قوم عاد أخاهم هودًا.
قال القرطبي: (وقيل له أخوهم لأنه منهم، وكانت القبيلة تجمعهم).
وقوله: {قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} . أي: أفردوا الله تعالى بالدعاء والتعظيم ولا تصرفوا العبادة لغيره، فهو الله الواحد الأحد المستحق للعبادة.
وقوله: {إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ} . قال ابن جرير: (يقول ما أنتم، في إشراككم معه الآلهة والأوثان، إلا أهل فرية مكذبون، تختلقون الباطل، لأنه لا إله سواه).
وقوله تعالى: {يَاقَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلَا تَعْقِلُونَ} .
قال ابن كثير: (أخبرهم أنه لا يريد منهم أجرة على هذا النصح والبلاغ من الله، إنما يبغي ثوابه من الله الذي فطره {أَفَلَا تَعْقِلُونَ} من يدعوكم إلى ما يُصْلِحُكم في الدنيا والآخرة من غير أجرة).
بيان لما أرشدهم به هود صلى الله عليه وسلم من الإنابة والاستغفار والتوبة إلى الله وما يعقب ذلك من إرسال الله تعالى السماء بالمطر والخير، وزيادة الشوكة والقوة والمال، وتوضيح لمغبة الإعراض عن دين الله وعن اتباع رسوله. قال مجاهد:{وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ} ، قال: شدة إلى شدتكم).
قال النسفي: (إنما قصد استمالتهم إلى الإيمان بكثرة المطر وزيادة القوة لأنهم كانوا أصحاب زروع وبساتين فكانوا أحوج شيء إلى الماء، وكانوا مدلين بما أوتوا من شدة البطش والقوة، وقيل أراد بالقوة المال. ثم قال: {وَلَا تَتَوَلَّوْا} ولا تعرضوا عني وعما أدعو إليه {مُجْرِمِينَ} مصرين على إجرامكم وآثامكم).
وفي التنزيل - قول نوح صلى الله عليه وسلم: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا (11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا} [نوح: 10 - 12].
وعن ابن عباس: (قوله: {مِدْرَارًا}، يقول: يتبع بعضها بعضًا).
وعن ابن زيد: ({يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا}، قال: يدر ذلك عليهم قطرًا ومطرًا).
53 -
56. قوله تعالى: {قَالُوا يَاهُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (53) إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (54) مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ (55) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (56)}.
في هذه الآيات: مجادلة قوم هُودٍ نبيّهم بالباطل، وإعلانهم كفرهم بما جاء به، وأنّ الذي هو عليه سوء مما اعتراه بعض آلهتهم. ومقابلة هود صلى الله عليه وسلم لهم بإعلانه البراءة من شركهم، وتحديهم بأن يكيدوا له كما يشاؤون فهو متوكل على الله ربهم ورب كل دابة وكل شيء، وهو سبحانه له الصراط المستقيم والدين القويم.
فقوله: {قَالُوا يَاهُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ} - هو جواب قوم هود له، قالوا: ما أتيتنا بحجة ولا برهان على دعواك فيما تأمرنا من توحيد الله والإقرار بنبوتك.
وقوله: {وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ} . أي: وما نحن بتاركي آلهتنا من أجلك أو لقولك، وما نحن بمقرين لك الرسالة أو النبوة.
وقوله: {إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ} - فيه أقوال متقاربة:
1 -
قال مجاهد: (أصابتك الأوثان بجنون)، أو قال:(سَبَبْتَ آلهتنا وعِبْتَها، فَأَجَنَّتْكَ).
2 -
وعن قتادة قال: (ما يحملك على ذمّ آلهتنا إلا أنه أصابك منها سوء).
3 -
وقال الضحاك: (يقولون: نخشى أن يصيبك من آلهتنا سوء، ولا نحب أن تعتريك، يقولون: يصيبك منها سوء).
4 -
وقال ابن زيد: (يقولون: اختلَط عقلك فأصابك هذا، مما صنعت بك آلهتنا).
وقوله تعالى: {قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (54) مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ} - بيان لمنهج المفاصلة عند الرسل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
وفي هذا البيان فوائد عظيمة:
أولًا - أشهد هود صلوات الله وسلامه عليه الله على براءته من دينهم، وأن الله هو وليه وناصره.
ثانيًا - أشهدهم مخالفة رأيهم وتوجههم ودينهم وما يعبدون.
ثالثًا - أكَّدَ اعتزازه بالله بالاستهانة بما هم عليه، وبما هم عاكفون على تعظيمه، وبأنهم لو اجتمعوا على شفاء غيظهم منه، وعاجلوه ولم يمهلوه، لم ينالوا منه إلا ما كتب الله له.
قال القرطبي: ({إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ} - أي: رضيت بحكمه، ووثقت بنصره. {مَا مِنْ دَابَّةٍ} أي نفس تدب على الأرض. {إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا} - أي يصرفها كيف يشاء، ويمنعها مما يشاء، أي فلا تصلون إلى ضري).
والناصية قُصاص الشعر في مقدم الرأس، وكان العرب إذا أسروا أسيرًا فأرادوا إطلاقه والمنّ عليه، جزّوا ناصيته، ليعتدوا بذلك عليه فخرًا عند المفاخرة.
قال ابن جريج: (إنما خص الناصية، لأن العرب تستعمل ذلك إذا وصفت إنسانًا بالذلة والخضوع، فيقولون: ما ناصية فلان إلا بيد فلان، أي إنه مطيع له يصرفه كيف يشاء).
وعن الفراء: ({مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا} قال: مالكها، والقادر عليها). وقال القتبي: (قاهرها، لأن من أخذت بناصيته فقد قهرته). وقال الضحاك: (يحييها ثم يميتها) - وكلها أقوال متقاربة.
وعن مجاهد: ({إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}، قال: الحق).
57 -
60. قوله تعالى: {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّونَهُ شَيْئًا إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (57) وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ (58) وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ
وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (59) وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ (60)}.
في هذه الآيات: إعلان هود صلى الله عليه وسلم إقامته الحجة على قومه، وأن تماديهم بالغَيِّ مآله إلى الهلاك، وقد يستبدلهم الله ولا يضرونه شيئًا فالله على كل شيء حفيظ. ولما نزل العذاب نجّى الله هودًا والذين آمنوا وأهلك الطغاة والعتاة والمجرمين، وأتبعهم لعنة إلى يوم الدين، ويوم القيامة هم من المبعدين المقبوحين الهالكين.
فقوله: {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ} . أي يقول هود صلى الله عليه وسلم لقومه: فإن أعرضتم عن الحق وتَنَكَّرْتُم لهذا الوحي فقد أقمت عليكم الحجة فيما يجب عليكم من إفراد الله تعالى بالتعظيم والعبادة.
أي: والله تعالى هو الذي يهلككم ولا تعجزونه، ويستخلف قومًا بعدكم خيرًا منكم يقومون بمقتضى التوحيد وإخلاص العبادة له سبحانه، ثم إنه لا يضره هلاككم كما لا تضرونه بكفركم بل يعود وبال ذلك عليكم.
وفي صحيح مسلم من حديث أبي ذر مرفوعًا: [قال الله تعالى: يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني](1).
قال ابن جرير: ({إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ}، يقول: إن ربي على جميع خلقه ذو حفظ وعلم. يقول: هو الذي يحفظني من أن تنالوني بسوء).
وقوله تعالى: {وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ} .
أي: وحين جاء ميقات عذاب قوم هود بإرسال الريح العقيم لتستأصلهم عن آخرهم، نجّى الله تعالى نبيّهُ هودًا والمؤمنين معه بفضل منه وبكرمه ورحمته. قال النسفي:({بِرَحْمَةٍ مِنَّا} أي بفضل منا لا بعملهم، أو بالإيمان الذي أنعمنا عليهم. {وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ}. قال: وتكرار "نجينا" للتأكيد أو الثانية من عذاب الآخرة ولا عذاب أغلظ منه).
(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم في الصحيح (8/ 17) من حديث أبي ذر، وأخرجه أحمد في المسند (5/ 160)، وهو جزء من حديث طويل.
وفي صحيح مسلم عن جابر قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: [لا يُدْخِلُ أحدًا منكم عَمَلُهُ الجنة، ولا يُجيرُهُ من النار، ولا أنا، إلا برحمة من الله](1).
وقوله تعالى: {وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ} .
قال ابن كثير: ({وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ}، كفروا بها، وعصوا رسل الله، وذلك أنَّ من كَفَرَ بنبيٍّ فقد كَفَرَ بجميع الأنبياء، لأنه لا فرق بين أحد منهم في وجوب الإيمان به، فعادٌ كفروا بهودٍ، فَنُزِّلَ كفرُهم منزلة من كفر بجميع الرسل).
وقال القاسمي: ({وَأُتْبِعُوا} أي أطاعوا في الشرك {كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ} لا يستدل بدليل، ولا يقبله من غيره. يريد رؤساءهم وكبراءهم، ودعاتهم إلى تكذيب الرسل).
أي: أتبع قوم هود في هذه الدنيا غضبًا من الله، ولعنة عليهم من عباده المؤمنين كلما ذكروا. قال السُّدي:(ما بُعِثَ نبيٌّ بعد عاد إلا لُعِنُوا على لسانه).
ثم إنهم تنالهم يوم القيامة لعنة أخرى بعد تلك اللعنة التي سلفت لهم في الدنيا، وينادى على رؤوس الأشهاد:{أَلَا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ} - أي أبعدهم الله من الخير.
61 -
63. قوله تعالى: {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ (61) قَالُوا يَاصَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (62) قَالَ يَاقَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ (63)}.
في هذه الآيات: يقص تعالى خبر ثمود مع نبيهم صالح عليه الصلاة والسلام، إذ دعاهم إلى إفراد الله تعالى بالعبادة والتعظيم، وشكره على ما أعطاهم واستغفاره فهو الغفور الرحيم. فما كان منهم إلا أن أظهروا الشك والاتهام وأعلنوا لآلهتهم الولاء،
(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم (2817) - كتاب صفات المنافقين -، وانظر الحديث (2818) بعده.
والتمسك بما كان يعبد الآباء. فأجابهم صالح عليه الصلاة والسلام بتمسكه بيقين النبوة، وخوفه من معصية رب البرية، فلا أحد يستطيع دفع عذاب الله وسخطه مهما أوتي من القوة.
أي: وكذلك أرسلنا صالحًا إلى ثمود أن أفردوا الله تعالى بالدعاء والتعظيم، وأخلصوا له العبادة والألوهة، فإنه لا إله إلا هو.
وقوله: {هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} . يقول: هو ابتدأ خلقكم من تراب الأرض، بلا روية أجالها، ولا تجربة استفادها، ثم جعلكم عُمّارًا فيها، فأسكنكم إياها أيام حياتكم، لتعمروها وتستغلونها في مصالحكم.
أخرج الإمام أحمد في المسند، والترمذي في الجامع، وأبو داود في السنن، بسند صحيح، عن أبي موسى، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[إنّ الله تعالى خَلَقَ آدمَ من قبضة قبضها من جميع الأرض، فجاء بنو آدم على قدر الأرض، جاء منهم الأحمرُ، والأبيضُ، والأسودُ، وبين ذلك، والسَّهل والحَزْنُ، والخبيثُ والطيبُ، وبين ذلك](1).
وعن مجاهد: ({وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا}، قال: أعمركم فيها).
وقوله: {فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ} .
أي: فاستغفروا ربكم لسالف ذنوبكم، ثم توبوا إليه فاتركوا من الأعمال ما يكرهه ربكم، وأحسنوا التوجه والعمل فيما تستقبلونه، إنَّ ربي قريب من المخلصين له، التائبين الحريصين على مرضاته، مجيب لدعائهم ومفرج لكروبهم.
وفي التنزيل: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة: 186].
وفي جامع الترمذي عن أنس رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: [قال الله تعالى: يا ابن آدم، إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك
(1) حديث صحيح. أخرجه أحمد (4/ 406)، وأبو داود والترمذي وقال: حسن صحيح. وأخرجه البيهقي في "الأسماء والصفات"(327، 385)، وأبو نعيم في "الحلية"(3/ 104). وانظر سلسلة الأحاديث الصحيحة - حديث رقم - (1630).
ولا أبالي، يا ابن آدم، لو بلغت ذنوبك عَنان السماء، ثم استغفرتني غفرت لك، يا ابن آدم، إنك لو أتيتني بقُراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئًا لأتيتك بقرابها مغفرة] (1).
ذِكْرُ إجابة ثمود لنبيهم صالح عليه الصلاة والسلام: أَنْ كُنّا نرجو أن تكون فينا سيدًا قبل أن يصدر عنك ما قلت، وكنا نرجوك في عقلك ونفتخر برأيك قبل أن تقول في الألوهية غير ما ألفناه. قال النسفي:({مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا} للسيادة والمشاورة في الأمور، أو كنا نرجو أن تدخل في ديننا وتوافقنا على ما نحن عليه).
وقال القاسمي: ({أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا} أي من الأوثان {وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ} أي من التوحيد {مُرِيبٍ} أي موقع في الريبة، وهي قلق النفس، وانتفاء الطمأنينة).
قال ابن جرير: (يقول: إن كنت على برهان وبيان من الله قد علمته وأيقنته، {وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً}، يقول: وآتاني منه النبوة والحكمة والإسلام، {فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ}، يقول: فمن الذي يدفع عني عقابه إذا عاقبني إن أنا عصيته).
وقوله: {فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ} . قال مجاهد: (ما تزدادون أنتم إلا خسارًا).
وقال الفراء: (أي تضليل وإبعاد من الخير). قال القرطبي: (والتخسير لهم لا له صلى الله عليه وسلم، كأنه قال: غير تخسير لكم لا لي. وقيل: المعنى ما تزيدونني باحتجاجكم بدين آبائكم غير بصيرة بخسارتكم، عن ابن عباس).
قلت: والسياق يدل على حديثه صلى الله عليه وسلم عن نفسه، أي: لو تركت دعوتكم إلى الحق وإفراد الله سبحانه بالعبادة والتعظيم، وعصيت ربي بمجاراة أهوائكم، لما نفعتموني ولما زدتموني إلا خسارة بتعريضي لسخط الله.
(1) حديث صحيح. أخرجه الترمذي في السنن - حديث رقم - (3789) بسند صحيح. وانظر صحيح سنن الترمذي - حديث رقم - (2805).
64 -
68. قوله تعالى: {وَيَاقَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ (64) فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ (65) فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (66) وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ (67) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِثَمُودَ (68)}.
في هذه الآيات: إجابة صالح صلى الله عليه وسلم قومه عندما سألوه آية كحجة وبرهان على صدق دعوته ونبوته، فأعلمهم أن تلك الناقة آية لهم، رِزْقُها على الله، وإنما حذرهم من قتلها أو مسّها بسوء لئلا ينزل بهم عذاب من الله غير بعيد، فما كان منهم إلا أن عقروها وتجرؤوا على التحدي فأخبرهم: أن استمتعوا في دار الدنيا بحياتكم ثلاثة أيام، وعد من الله غير مخلوف. ولما جاء ميقات هلاكهم نجَّى الله صالحًا والمؤمنين برحمته وهو القوي العزيز، وأنزل بأسه بالقوم الظالمين فأخذتهم الصيحة فأصبحوا هلكى في ديارهم خامدين. كأن لم يغنوا بالأمس ألا إن ثمود عتوا عن أمر ربهم فأبعدهم ربهم من رحمته وأنزل بهم أليم عذابه.
وعن قتادة: ({تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ}، قال: بقية آجالهم). وعنه قال: ({بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ}، قال: نجاه الله برحمة منه، ونجاه من خزي يومئذ).
وقال النسفي: ({وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ} أي صيحة جبريل عليه السلام، {فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ} منازلهم {جَاثِمِينَ} ميتين).
وعن ابن عباس: ({كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا}، قال: كأن لم يعيشوا فيها).
وقال ابن جرير: ({أَلَا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ}، يقول: ألا إن ثمود كفروا بآيات ربهم فجحدوها، {أَلَا بُعْدًا لِثَمُودَ}، يقول: ألا أبعد الله ثمود! لنزول العذاب بهم).
وقد سبق تفصيل هذه القصة في سورة الأعراف بما يغني عن إعادته هنا ولله الحمد والمنة.
69 -
73. قوله تعالى: {وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ (69) فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ (70) وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ (71) قَالَتْ يَاوَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ (72) قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ (73)}.
في هذه الآيات: ذِكْرُ قصة لوط عليه السلام، وكانت قرى لوط بنواحي الشام، وإبراهيم عليه السلام ببلاد فلسطين، فلما أنزل الله الملائكة بعذاب قوم لوط مروا بإبراهيم ونزلوا عنده، وكان يحسن قِرى من ينزل عنده، وكانوا مروا ببشارة إبراهيم، فظنهم أضيافًا. قيل: هم جبريل وميكائيل وإسرافيل عليهم السلام، قاله ابن عباس، وقال الضحاك: كانوا تسعة. وقال السدي: كانوا أحد عشر ملكًا على صورة الغلمان الحسان الوجوه، فأقبلوا ببشرى الولد أو بإهلاك قوم لوط، فجاءهم إبراهيم بعجل مشوي يناسب حسن الضيافة، فلما رآهم لا يأكلون خافهم فأخبروه مُطمئنِين، أنهم ملائكة رب العالمين، أرسلهم سبحانه لإهلاك قوم مجرمين. فضحكت سارة لسماع بشرى إهلاك القوم المفسدين، فزادوها بشارة بإسحاق ثم يعقوب هدية رب العالمين. فتعجبت من الإنجاب وهي عجوز وبعلها شيخ كبير، فأعلموها أن ذلك أمر الله الحميد المجيد.
فقوله: {وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى} . أي: جاءت الملائكة إبراهيم خليل الله تبشره بإسحاق، وقيل بهلاك قوم لوط. وفي التنزيل مما يشهد للأول:{فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ} .
وقوله: {قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ} - أي: عليكم. والتقدير: فسلموا عليه سلامًا فرد عليهم بقوله سلام، بمعنى: عليكم السلام، أو بمعنى: سلام منكم، أو أمركم سلام.
قال علماء البيان: (هذا أحسنُ ما حَيَّوه به، لأن الرفع يدلُّ على الثبوت والدوام) - ذكره الحافظ ابن كثير.
وقوله: {فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ} . أي: انصرف مسرعًا لإحضار الضيافة والقيام بآداب الاستقبال، فأتاهم بعجل مشوي على الحجارة المحماة.
قال ابن عباس ({بِعِجْلٍ حَنِيذٍ}، يقول: نضيج). وقال مجاهد: ({بِعِجْلٍ}، حَسِيل البقر، و"الحنيذ"، المشوي النضيج). وقال: ({بِعِجْلٍ حَنِيذٍ}، نضيج، سُخِّنَ، أنضج بالحجارة). وقال السدي: (ذبحه ثم شواه في الرَّضف) - وهي الحجارة المحماة. وفي لغة العرب: حنذت الشاة أي شويتها، وجعلت فوقها حجارة مُحْمَاة لتنضجَها فهي حنيذ.
وفي الآيات من آداب الضيافة:
1 -
ردّه السلام بسلام أحسن منه. فالرفع يدل على الثبوت والدوام - {قَالَ سَلَامٌ} .
2 -
انسحب بسرعة للقيام بحسن الضيافة - {فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ} - أي ما أبطأ مجيئه، و"ما" نافية.
3 -
قرّب إليهم الطعام، فإن كرامة الضيف تعجيل التقديم، وكرامة صاحب المنزل المبادرة بالقبول، فلما قبضوا أيديهم نكرهم إبراهيم، لأنهم خرجوا عن العادة وخالفوا السنة، وخاف أن يكون وراءهم مكروه يقصدونه، فإن العرب إذا رأوا الضيف لا يأكل ظنوا به شرًا. وهو قوله:{فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً} .
4 -
من حسن الضيافة مسارقة الضيف النظر للتأكد من أنه يأكل، وذلك بين الفينة والفينة بتلفت ومسارقة لا بتحديد النظر.
وفي التنزيل: {فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ (26) فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ (27)} [الذاريات: 26، 27].
وقد حفلت السنة الصحيحة كذلك بذكر فضائل وآداب الضيافة، في أحاديث من جوامع كلم النبوة:
الحديث الأول: أخرج البخاري في صحيحه عن أبي شُرَيح الخزاعي قال: [سَمِعَ أُذُنايَ وَوَعاهُ قلبي النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "الضيافة ثلاثةُ أيام، جائزتُهُ"، قيل: وما جائِزتُهُ؟
قال: يوم وليلة، قال: ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليُكْرِمْ ضَيْفَه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو لِيَسْكُت] (1).
الحديث الثاني: أخرج أبو داود بسند صحيح عن أبي هريرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[الضيافة ثلاثة أيام، فما سوى ذلك فهو صدقة](2).
الحديث الثالث: أخرج ابن ماجه بسند صحيحِ عن أبي شُرَيْح الخزاعي، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[مَنْ كان يؤمنُ بالله واليوم الآخر، فلْيُكرِمْ ضَيْفَهُ. وجائزتُهُ يومٌ وليلةٌ. ولا يحِلُّ له أن يَثْويَ عند صاحِبِهِ حتى يُحْرِجَهُ. الضيافة ثلاثة أيام. وما أنفق عليه بعد ثلاثة أيام، فهو صدقة](3).
الحديث الرابع: أخرج أبو داود بسند صحيح عن عقبة بن عامر، أنه قال: قلنا: يا رسول الله، إنك تبعثنا فننزل بقوم فما يقروننا، فما ترى؟ فقال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم:[إن نزلتم بقوم فأمروا لكم بما ينبغي للضيف فاقبلوا، فإن لم يفعلوا فخذوا منهم حقّ الضيف الذي ينبغي لهم](4).
قال أبو داود: (وهذه حجة للرجل يأخذ الشيء إذا كان له حقًا).
الحديث الخامس: أخرج ابن ماجه بسند صحيح عن المقدام أبي كريمة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ليلةُ الضيف واجبة. فإن أصبح بفنائه، فهو دَيْنٌ عليه. فإن شاء اقتضى، وإن شاء ترك](5).
وقوله: {فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً} .
قال قتادة: (وكانت العرب إذا نزل بهم ضيف، فلم يطعم من طعامهم، ظنوا أنه لم يجئ بخير، وأنه يحدث نفسه بِشَرّ). {نَكِرَهُمْ} : أي تنكّرهم.
(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (6476) - كتاب الرقاق - باب حفظ اللسان. وانظر (6478).
(2)
حديث صحيح. أخرجه أبو داود (3749) - كتاب الأطعمة - باب ما جاء في الضيافة، وانظر صحيح سنن أبي داود (3189) - وقال الألباني: حسن صحيح الإسناد.
(3)
حديث صحيح. أخرجه ابن ماجه (3675)، كتاب الأدب، باب حق الضيف، وانظر صحيح سنن ابن ماجه - حديث رقم - (2964) - وأصله في الصحيحين كما مضى نحوه.
(4)
حديث صحيح. أخرجه أبو داود وابن ماجه وغيرهما. انظر صحيح سنن أبي داود (3191)، وصحيح سنن ابن ماجه (2965).
(5)
حديث صحيح. أخرجه ابن ماجه (3677)، وأبو داود (3750)، وانظر صحيح سنن أبي داود (3190) من حديث المقدام أبي كريمة رضي الله عنه مرفوعًا.
وقوله: {قَالُوا لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ} . قال ابن جرير: (قالت الملائكة، لما رأت ما بإبراهيم من الخوف منهم: لا تخف منا وكن آمنا، فإنا ملائكة ربّك، {أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ}).
وقوله تعالى: {وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ} .
إِخْبَارٌ عن سارة امرأة إبراهيم عليهما السلام إذ كانت قائمة من وراء الستر تسمع كلام الرسل وكلام إبراهيم عليه السلام. أو قيل: كانت قائمة تخدمُ الرسل، وإبراهيم جالسٌ مع الرسل. فضحكت استبشارًا بهلاك قوم لوط لشدة فسادهم وغِلظ فجورهم في البلاد، فَبُشِّرت بالولد بعد الإياس: إسحاق ومن ورائه يعقوب.
وهناك أقوال عند المفسرين غير مناسبة نحو: (ضحكت: حاضت) أو ضحكت لروع إبراهيم. وإنما يفيد من تلك الأقوال:
1 -
يروي ابن جرير بسنده عن السدي قال: (بعث الله الملائكة لتهلك قوم لوط، أقبلت تمشي في صورة رجال شباب، حتى نزلوا على إبراهيم فتضيَّفوه. فلما رآهم إبراهيم أجلّهم فراغ إلى أهله فجاء بعجل سمين، فذبحه ثم شواه في الرَّضف، فهو "الحنيذ" حين شواه. وأتاهم فقعد معهم، وقامت سارة تخدمهم. فذلك حين يقول: "وامرأته قائمة وهو جالس"، في قراءة ابن مسعود. فلما قرّبه إليهم قال: ألا تأكلون؟ قالوا: يا إبراهيم، إنا لا نأكل طعامًا إلا بثمن. قال: فإن لهذا ثمنًا! قالوا: وما ثمنه؟ قال: تذكرون اسم الله على أوله، وتحمدونه على آخره. فنظر جبريل إلى ميكائيل فقال: حُقَّ لهذا أن يتخذه ربه خليلًا! فلما رأى أيديهم لا تصل إليه - يقول: لا يأكلون - فزع منهم وأوجس منهم خيفة، فلما نظرت إليه سارة أنه قد أكرمهم وقامت هي تخدمهم، ضحكت وقالت: عجبًا لأضيافنا هؤلاء، إنّا نخدمهم بأنفسنا تكرمة لهم، وهم لا يأكلون طعامنا! ).
2 -
وعن قتادة أنه قال: (ضحكت تعجبًا مما فيه قوم لوط من الغفلة، ومما أتاهم من العذاب). - واختاره ابن جرير.
3 -
وعن وهب بن منبه يقول: (قالوا: لا تخف إنا نبشرك بغلام حليم مبارك! وبشّر به امرأته سارة، فضحكت وعجبت: كيف يكون لي ولد وأنا عجوز، وهو شيخ كبير؟ فقالوا: أتعجبين من أمر الله، فإنه قادر على ما يشاء! فقد وهبه الله لكم، فأبشروا به).
وقوله تعالى: {قَالَتْ يَاوَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ} .
هذا قولها عند التعجب من إمكانية الولادة وقد أسنّت وزوجها في الشيخوخة، وقد حكى الله فعلها أثناء تعجبها في آية الذاريات:{فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ} - على عادة النساء عند تعجبهن في أقوالهن وأفعالهن.
وقوله تعالى: {قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ} .
قال ابن كثير: (أي: قالت الملائكة لها: لا تعجبي من أمْرِ الله فإنه إذا أراد شيئًا أن يقول له: كن فيكون. فلا تعجبي من هذا وإن كنت عجوزًا عقيمًا وبعلك شيخًا كبيرًا فإن الله على ما يشاء قدير. {رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ}، أي هو الحميد في جميع أفعاله وأقواله، محمودٌ ممجَّدٌ في صِفاته وذاته، ولهذا ثبت في الصحيحين أنهم قالوا: قد علمنا السلامَ عليك، فكيف الصلاة عليك يا رسول الله؟ قال: "قولوا: اللهم صل على محمد، وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيمَ، وبارك على محمد وعلى آل محمدٍ، كما باركت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد" (1)).
74 -
76. قوله تعالى: {فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ (74) إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ (75) يَاإِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ (76)}.
في هذه الآيات: محاولة إبراهيم صلى الله عليه وسلم بعد زوال الخوف عنه وحصول البشرى له ردّ العذاب عن قوم لوط، بمجادلة الملائكة فيهم إنه حليم أواه منيب، وإجابة الملائكة له بقطع الجدال في شأنهم، فقد نزل أمر الله فيهم، فهم قادمون لا محالة على عذاب يستأصلهم.
وعن مجاهد: ({فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ}، قال: الفَرَق). وقال قتادة: (ذهب عنه الخوف). والمقصود: لما ذهب عن إبراهيم ما أوجسه في نفسه من الخوف من ضيوفه حين رأى أيديهم لا تصل إلى طعامه، وأمن أن يكون قُصِدَ في نفسه وأهله بسوء.
(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (6357)، ومسلم (406)، وأحمد (4/ 241)، وأهل السنن من حديث كعب بن عجرة. وأخرجه الدارمي (1316)، وأخرجه الطيالسي (1061).
وقوله: {وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى} . قال قتادة: (حين أخبروه انهم أرسلوا إلى قوم لوط، وانهم ليسوا إياه يريدون). وقال ابن إسحاق: ({وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى} بإسحاق).
وقوله: {يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ} . قال مجاهد: (يخاصمنا).
وعن ابن إسحاق قال: (جادل عن قوم لوط ليرد عنهم العذاب).
وعن السدي فيها: (قال: ما خطبكم أيها المرسلون؟ قالوا: إنا أرسلنا إلى قوم لوط. فجادلهم في قوم لوط، قال: أرأيتم إن كان فيها مئة من المسلمين أتهلكونهم؟ قالوا: لا! فلم يزل يُحطّ حتى بلغ عشرة من المسلمين، فقالوا: لا نعذبهم، إن كان فيهم عشرة من المسلمين. ثم قالوا: "يا إبراهيم أعرض عن هذا إنه ليس فيها إلا أهل بيت من المؤمنين"، هو لوط وأهل بيته) - والله تعالى أعلم (1).
والخلاصة: إن إبراهيم عليه الصلاة والسلام أخذ يحاول ردّ العذاب عن قوم لوط، ولكن أمر الله قد مضى في الانتقام منهم مقابل جرائمهم وبغيهم وعتوهم في الأرض.
وقوله تعالى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ} . قال مجاهد: ({أَوَّاهٌ مُنِيبٌ}: القانت الرَّجَاع). وقال ابن جرير: (يقول تعالى ذكره: إن إبراهيم لبطيء الغضب، متذلل لربه، خاشع له، منقاد لأمره، {مُنِيبٌ}، رجّاع إلى طاعته). قلت: وهذه صفات مدح وثناء على إبراهيم عليه السلام تتلوها الأجيال المتعاقبة إلى يوم القيامة.
وقوله تعالى: {يَاإِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ}
أي: يا إبراهيم دع عنك هذا الجدال في مصير قوم لوط، فإنه قد نزل فيهم قضاء الله الذي لا رادّ له، وإنهم يمضون قريبًا نحو عذاب غير مدفوع.
قال النسفي: ({يَاإِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا} الجدال وإن كانت الرحمة ديدنك {إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ} قضاؤه وحكمه). وقال القرطبي: ({وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ} أي نازل بهم {عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ} أي غير مصروف عنهم ولا مدفوع).
77 -
79. قوله تعالى: {وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ (77) وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ قَالَ
(1) هناك أخبار في ذلك نحو ما مضى نقلها المفسرون من كتب بني إسرائيل والله أعلم بها.
يَاقَوْمِ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ (78) قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ (79)}.
في هذه الآيات: وصول الملائكة - رسل الله - إلى لوط عليه الصلاة والسلام، وهم في أجمل صورة على شكل شبان حسان، فتوقّع لوط صلى الله عليه وسلم بقدومهم إليه الابتلاء، وقد علم القوم بمجيئهم، فهرعوا إليهم لأجل شهواتهم وبغيهم، فناشدهم لوط صلى الله عليه وسلم احترام الأضياف، واتخاذ النساء للنكاح، فركبوا أهواءهم مصرين على حمل لوط تسليمهم لهم.
فقوله: {وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا} - وذلك بعد انطلاقهم من عند إبراهيم عليه الصلاة والسلام وإخبارهم بحلول هلاك قوم لوط هذه الليلة، فجاؤوا لوطًا في أرضه أو منزله على صورة شبان حسان في أجمل صورة، ابتلاء من الله.
وقوله: {سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا} . قال ابن عباس: (ساء ظنًا بقومه، وضاق ذرعًا بأضيافه).
وعن قتادة، عن حذيفة، أنه قال:(لما جاءت الرسل لوطًا أتوه وهو في أرض له يعمل فيها، وقد قيل لهم، والله أعلم، : لا تهلكوهم حتى يشهد لوط. قال: فأتوه فقالوا: إنا مُتَضيّفوك الليلة. فانطلق بهم، فلما مشى ساعة التفت، وقال: أما تعلمون ما يعمل أهل هذه القرية؟ والله ما أعلم على ظهر الأرض أناسًا أخبث منهم! قال: فمضى معهم. ثم قال الثانية مثل ما قال، فانطلق بهم. فلما بصرت بهم عجوز السَّوْء امرأته، انطلقت فأنذرتهم).
وقوله: {وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ} - أي شديد البلاء. قال ابن عباس: (أي: يوم شديد). وقال ابن إسحاق: (خرجت الرسل، فيما يزعم أهل التوراة، من عند إبراهيم إلى لوط بالمؤتفكة، فلما جاءت الرسل لوطًا سيء بهم وضاق بهم ذرعًا، وذلك من تخوف قومه عليهم أن يفضحوه في ضيفه، فقال: {هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ}).
وقوله: {وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ} . قال مجاهد: (يهرولون، وهو الإسراع في المشي). وقال الضحاك: (يسعون إليه). وعن قتادة: ({يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ} قال: يسرعون إليه).
وقال سفيان بن عيينة: (كأنهم يدفعون).
قال ابن جرير: (يقول تعالى ذكره: وجاء لوطًا قومه يستحثون، يُرْعَدُون مع سرعة المشي، مما بهم من طلب الفاحشة).
وقوله: {وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ} . قال ابن جريج: (يأتون الرجال).
أي: ومن قبل مجيئهم إلى لوط لتحسس أخبار ضيوفه، كانوا على شأنهم القبيح من إتيان الرجال في أدبارهم.
وقوله: {قَالَ يَاقَوْمِ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ} .
قال ابن كثير: (يرشدهم إلى نسائهم، فإن النبيَّ للأمة بمنزلة الوالد، فأرشدهم إلى ما هو أنفع لهم في الدنيا والآخرة). وبنحوه ذكر أهل التأويل:
1 -
قال مجاهد: (لم يكُنَّ بناتِه، ولكن كُن من أُمَّتِهِ، وكل نَبِيٍّ أبو أُمَّتِه).
2 -
وقال ابن جريج: (أمرهم أن يتزوجوا النساء، ولم يعرض عليهم سفاحًا).
3 -
وقال سعيد بن جبير: (يعني نساءهم، هن بناته، وهو أبٌ لهم). أو قال: (هو نبيّهم، وقال في بعض القراءة: {النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم وهو أبٌ لهم} [الأحزاب: 6]).
4 -
وعن الربيع: ({هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ}، يعني التزويج). قال قتادة: (أمرهم أن يتزوجوا النساء. وأراد نبي الله صلى الله عليه وسلم أن يقيَ أضيافه ببناته).
5 -
وعن السدي: {وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ} ، قالوا: أولم ننهك أن تضيف العالمين؟ قال: {هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ} ، إن كنتم فاعلين، أليس منكم رجل رشيد).
وفي التنزيل:
1 -
قال تعالى: {أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ (165) وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ} [الشعراء: 165، 166].
2 -
وقال تعالى: {قَالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ (70) قَالَ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (71) لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الحجر: 70 - 72].
وقوله: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ} .
أي: خافوا الله وعظموه واقبلوا ما شرع لكم من النكاح والتزويج والاقتصار على
نسائكم، ولا تفضحوني في سيئاتكم أمام ضيوفي، أليس منكم رجل راشد ينهى أصحابه عن فواحشهم ورذيلتهم!
قال ابن جرير: ({وَلَا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي}، يقول: ولا تذلوني، بأن تركبوا مني في ضيفي ما يكرهون أن تركبوه منهم).
وعن ابن إسحاق: ({أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ}، أي: رجل يعرف الحق وينهى عن المنكر).
وقوله تعالى: {قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ} .
أي: لا رغبة لنا في النساء - يا لوط - ولا نشتهيهن، بل نرغب في الرجال، وأنت تعلم ذلك.
قال ابن إسحاق: (أي: إن بغيتنا لغير ذلك). وعن السدي: ({وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ} إنا نريد الرجال).
قال ابن كثير: ({قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ}، أي: إنك تعلم أن نساءنا لا أرب لنا فيهن ولا نشتَهيهنَّ، {وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ}، أي: ليس لنا عَرَضٌ إلا في الذكور، وأنت تعلم ذلك، فأيُّ حاجةٍ في تكرار القول علينا في ذلك؟ ! ).
80 -
83. قوله تعالى: {قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ (80) قَالُوا يَالُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ (81) فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ (82) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ (83)}.
في هذه الآيات: تمني لوط عليه الصلاة والسلام حين حاصره قومه يريدون اصطياد أضيافه لفاحشتهم المنعة والنصرة والقوة، فأخبرته الملائكة حين رأوا ما نزل به من الكرب أنهم رسل الله جاؤوا لإهلاك قومه، وأمروه بالخروج بأهله - سوى زوجته - ببقية من الليل وأن يتبع أدبارهم ولا يلتفت أحد منهم لما قد يُسمع من هلاك القوم، فإن عذابهم قد دنا مع صبح تلك الليلة. فلما جاء أمر العذاب ونزول الهلاك بهم جعل الله
عالي قريتهم سافلها وأرسل عليهم حجارة متتابعة معلمة تسحقهم، وما هذا العذاب من الظالمين ببعيد.
فقوله تعالى: {قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ} - فيه أقوال متقاربة:
1 -
قال السدي: (قال لوط: {لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ}، يقول: إلى جند شديد، لقاتلتكم). وقال قتادة: (العشيرة).
2 -
وعن الحسن: ({أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ}، قال: إلى ركن من الناس). قال ابن جريج: (بلغنا أنه لم يبعث نبيٌّ بعد لوط إلا في ثَرْوةٍ من قومه، حتى النبي صلى الله عليه وسلم).
3 -
وعن ابن إسحاق قال: ({لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ}، أي: عشيرة تمنعني، أو شيعة تنصرني، لحلت بينكم وبين هذا).
والخلاصة: لقد تمنى لوط عليه الصلاة والسلام إذ حاصره قومه يريدون السوء والفاحشة بأضيافه، أن يكون في منعة من عشيرة أو نصرة من أعوان يدفعون عنه هؤلاء القوم الفاسدين الأشرار.
أخرج البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [يَغْفرُ الله للوط إنْ كان ليأوي إلى ركنٍ شديد](1). زاد أحمد: (إذ قال لقومه: {لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ}).
وفي لفظ: [يرحم الله لوطًا، لقد كان يأوي إلى ركن شديد].
ورواه أحمد والطبري بلفظ: [رحمة الله على لوط، لقد كان يأوي إلى ركن شديد - يعني الله، عز وجل فما بعث الله بعده من نبيّ إلا في ثَرْوَةٍ من قومه].
وقوله: {قَالُوا يَالُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ} . قال ابن جرير: (قالت الملائكة للوط، لما قال لوط لقومه: {لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ}، ورأوا ما لقي من الكرب بسببهم منهم: {يَالُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ}، أرسلنا لإهلاكهم، وإنهم لن يصلوا إليك وإلى ضيفك بمكروه، فهوّن عليك الأمر).
وقوله: {فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ} . أي: فاخرج أنت وأهلك ببقية من الليل من
(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري في الصحيح (3375)، (3372) - كتاب أحاديث الأنبياء، وأخرجه أحمد في المسند (2/ 322)، والطبري في "التفسير"(18397)، (18398)، وأخرجه الطحاوي في "مشكل الآثار"(330)، وأخرجه ابن حبان في صحيحه (6206).
بين أظهرهم، وأمروه أن يتّبعَ أدبارهم، أي: يكون ساقةً لأهله. وهناك قراءتان مشهورتان: قرأ عامة قراء الكوفة والبصرة {فَأَسْرِ} ، في حين قرأها عامة قراء مكة والمدينة "فاسْر" بغير همز، وسرى فلان وأسرى في كلام العرب إذا سار بليل، {بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ} أي من آخر الليل، أو بظلمة من الليل أو بساعة من الليل. قال ابن عباس:(بطائفة من الليل).
وقوله: {وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ} . قال ابن كثير: (أي: إذا سمعت ما نزل بهم، ولا تَهُولنَّكم تلك الأصوات المزعجة، ولكن استمروا ذاهبين).
وقوله: {إِلَّا امْرَأَتَكَ} - فيه قراءتان:
1 -
قراءة قراء الحجاز والكوفة وبعض قراء البصرة {إِلَّا امْرَأَتَكَ} بالنصب، أي فأسر بأهلك إلا امرأتك، فَأُمِرَ أن يُسري بأهله سوى زوجته أُمِرَ بتخليفها مع قومها.
2 -
وأما القراءة الثانية "إلا امرأتُك" - فهي قراءة بعض البصريين. والتقدير: لا يلتفت منكم أحد إلا امرأتك، فنهى لوط من معه من الالتفات سوى زوجته أخرجها معه وإنها التفتت فهلكت لذلك.
وكلاهما قراءتان مشهورتان، وإن كان النصب أشهر القراءتين، وأنه أمر لوط صلى الله عليه وسلم بتخليف زوجته مع قومها، والله تعالى أعلم.
وقوله: {إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ} . أي: إنه واقع بها العذاب الذي هو واقع بقومها.
وقوله: {إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ} . قال ابن إسحاق: (أي: إنما ينزل بهم من صبح ليلتك هذه، فامض لما تؤمر).
قال القرطبي: (لما قالت الملائكة: {إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ} [العنكبوت: 31] قال لوط: الآن الآن. استعجلهم بالعذاب لغيظه على قومه، فقالوا: {أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ}. قال: ويحتمل أن يكون جعل الصبح ميقاتًا لهلاكهم، لأن النفوس فيه أودع، والناس فيه أجمع).
وقوله تعالى: {فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ} .
أي: وحين جاء أمر العذاب ونزول الهلاك بهم جعل الله عالي قريتهم سافلها وأرسل عليهم حجارة مُسْتَحْجرة قوية شديدة متتابعة.
قال مجاهد: (قوله: {مِنْ سِجِّيلٍ}، بالفارسية، أوّلها حَجَر، وآخرها طين).
وقال ابن عباس: (هو بالفارسية سنك، وجل، "سنك"، هو الحجر، و"جل"، هو الطين. يقول: أرسلنا عليهم حجارة من طين).
وقال البخاري (سِجّيل: الشديد الكبير، سِجّيل وسجِّينٌ، اللام والنون أختان).
وعن قتادة: ({مَنْضُودٍ}، يقول: مصفوفة). وقال الربيع بن أنس: ({مَنْضُودٍ}: نضد بعضه على بعض)، وقيل: يتبع بعضه بعضًا عليهم. وعن أبي بكر الهذلي بن عبد الله قال: (أما قوله: {مَنْضُودٍ}، فإنها في السماء منضودة معدَّة، وهي من عُدَّة الله التي أَعَدَّ للظلمة).
وقوله: {مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ} . قال مجاهد: (معلمة). أي معلمة مختومة، قيل: عليها أسماء أصحابها، كل حجر مكتوب عليه اسم الذي ينزل عليه.
والخلاصة كما ذكر المفسرون: أن جبريل عليه السلام احتمل القرية بجناحه، ثم صَعِد بها، حتى إن أهل السماء ليسمعون نابحة كلابها، وأصوات دجاجها، ثم كفأها على وجهها، فصار أعلاها أسفلها، ثم أتبعها الله بالحجارة، فاهلكها الله وما حولها من المؤتفكات.
وفي التنزيل: {جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ} .
وقوله: {وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ} . قال مجاهد: (يُرْهِب بها من يشاء).
قال ابن كثير: (أي: وما هذه النقمة ممن تشبّه بهم في ظلمهم ببعيد عنه).
قلت: وقد جاء التهديد في السنة الصحيحة والوعيد الشديد على من قلد قوم لوط في فعلتهم، وذلك في أحاديث:
الحديث الأول: أخرج الإمام أحمد في المسند بسند حسن عن ابن عباس مرفوعًا: [من وجدتموه يعمل عملَ قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به](1).
الحديث الثاني: أخرج ابن ماجه بسند حسن عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم في الذي يعمل عمل قوم لوط. قال:[ارجُموا الأعلى والأسْفَل. ارجُموهما جميعًا](2).
(1) حديث حسن. أخرجه أحمد في المسند (1/ 300)، وأبو داود في السنن (4462)، وابن ماجه (2561)، والحاكم (4/ 255)، وإسناده حسن.
(2)
حديث حسن. أخرجه ابن ماجه في السنن (2562) - كتاب الحدود - باب من عمِلَ عمَل قوم لوط.
الحديث الثالث: أخرج ابن ماجه بسند حسن عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [إن أخوفَ ما أخاف على أمتي عَمَلُ قوم لوطٍ](1).
وقد ذهب الإمام الشافعي وجماعة من أهل العلم أن اللائط يقتل سواء كان مُحصنًا أو غير محصن. واختار أبو حنيفة أن يلقى من شاهق ويُتبع بالحجارة كما فعل الله بقوم لوط، والله تعالى أعلم.
84 -
86. قوله تعالى: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ (84) وَيَاقَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (85) بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (86)}.
في هذه الآيات: ذِكْرُ الله قصة شعيب عليه السلام مع قومه، فقد دعاهم لإفراد الله تعالى بالعبادة والتعظيم، ونبذ التلاعب بالمكيال والموازين، وحذرهم عذاب يوم محيط. ثم أكَّد الأمر لهم بالوفاء في المكيال والميزان بالقسط وإعطاء الناس حقوقهم دون بخس أو ظلم، واجتناب سبيل المفسدين. فإن ما يبقى من الربح الحلال خير لهم من الغش والمكر والخداع إن كانوا حقًا مؤمنين، فإنه لم يُكَلَّف هو بمراقبتهم بل الله هو الرقيب على أعمالهم.
أي: وكذلك أرسلنا إلى ولد مدين أخاهم شعيبًا أن أطيعوا الله وأفردوه بالتعظيم، وتذللوا له بالعبادة ولا تصرفوها إلى غيره، فهو إلهكم الواحد الأحد.
قال ابن جرير: ({مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ}، يقول: ما لكم من معبود سواه يستحق عليكم العبادة غيره).
وقوله: {وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ} . أي: لا تبخسوا الناس أثناء بيعكم في
(1) حديث حسن. انظر صحيح سنن ابن ماجه - حديث رقم - (2077) - كتاب الحدود - الباب السابق.
مكيالكم وميزانكم، بل أوفوهم حقهم ولا تتبعوا سبيل الغواية والغش والخداع.
وفي آية الأعراف: {أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ} .
أخرج ابن حبان في صحيحه، والطبراني في "الصغير والكبير" بسند حسن عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [من غشنا فليس منا، والمكر والخداع في النار](1).
وقوله: {إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ} . قال الحسن: (الغنى ورُخْص السعر).
وقال قتادة: (يعني خير الدنيا وزينتها).
قال ابن كثير: ({إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ}، أي: في معيشتكم ورزقكم فأخاف أن تُسلَبُوا ما أنتم فيه بانتهاككم محارمَ الله).
وقوله: {وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ} . أي: محيط بإهلاكه وعذابه.
قال النسفي: (والمراد عذاب الاستئصال في الدنيا أو عذاب الآخرة).
أي: أوفوا الناس كيلهم وميزانهم بالعدل - يقول شعيب لقومه - وأدّوا إليهم تمام حقوقهم بغير بخس ولا نقص ولا تلاعب ولا احتكار.
قال قتادة: ({وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ}، يقول: لا تظلموا الناس أشياءهم).
وقوله: {وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ} . قال الضحاك: (يقول: ولا تسعوا في الأرض مفسدين، يعني: نقصان الكيل والميزان).
وقوله تعالى: {بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ} .
أي: ما يبقى لكم من الربح الحلال بعد إتمام الكيل والميزان ووفاء الناس حقوقهم خير لكم من الغش والمكر والمال الحرام، إن كنتم مصدقين بوعد الله ووعيده، وحلاله وحرامه، وما أنا إلا نذير لكم ولم يوكل إليّ أمر مراقبتكم أثناء مكيلكم
(1) حديث حسن. أخرجه ابن حبان في "صحيحه"(1107)، والطبراني في "المعجم الصغير"(ص 153)، و"المعجم الكبير"(3/ 69/ 1)، وأبو نعيم في "الحلية"(4/ 188)، وانظر سلسلة الأحاديث الصحيحة - حديث رقم - (1058).
ووزنكم وبيعكم وتعاملكم، فراقبوا الله تعالى الذي ينظر إلى معاملاتكم ويعلم سركم ونجواكم.
وعن مجاهد: ({بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ}، قال: طاعة الله خير لكم). وقال قتادة: (حظكم من ربكم خير لكم). وقال ابن عباس: ({بَقِيَّتُ اللَّهِ}: رزق الله). وقال ابن زيد: (الهلاك في العذاب، والبقية في الرحمة).
وفي التنزيل: {قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ} [المائدة: 100].
أخرج أبو نعيم في "الحلية" بإسناد حسن عن أبي أمامة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[إن روح القدس نفث في رُوعي أن نفسًا لن تموت حتى تستكمل أجلها وتستوعب رزقها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب، ولا يحملن أحدكم استبطاء الرزق أن يطلبه بمعصية الله، فإن الله تعالى لا يُنال ما عنده إلا بطاعته](1).
87 -
90. قوله تعالى: {قَالُوا يَاشُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ (87) قَالَ يَاقَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (88) وَيَاقَوْمِ لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ (89) وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ (90)}.
في هذه الآيات: مقابلة قوم شعيب لرسولهم بالاستهزاء والتهكم: هل صلاتك تأمرك بتركنا عبادة الأوثان؟ وترك التطفيف واللعب بالمكيال والميزان؟ وهي أموالنا نفعل فيها ما نشاء! ألست أنت الحليم الرشيد! فأجابهم شعيب مستنكرًا سوء موقفهم: ما ظنكم - أيها القوم - لو كنت على بصيرة وبرهان من ربي فيما أدعوكم إليه، ولست
(1) حديث حسن. انظر تخريج مشكاة المصابيح (15)، وتخريج "فقه السيرة"(96) - الألباني. وانظر صحيح الجامع الصغير - حديث رقم - (2081).
ممن يخالف سره علنه، إن أريد إلا إصلاح أحوالكم لما يرضي ربكم، عليه توكلت وإليه أنيب. ويا قوم لا يحملنكم عداوتي على الإصرار على الكفر وظلم الناس أشياءهم، وإنما عليكم الاتعاظ بمن هلك من الأقوام قبلكم، فسارعوا إلى استغفار ربكم والتوبة إليه إن ربي رحيم تواب ودود.
فقوله: {قَالُوا يَاشُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا} . أي: أجابوه مستهزئين على سبيل التهكم. {أَصَلَاتُكَ} - قال الأعمش: (قراءتك). وفي لفظ: (قرآنك). وكان شعيب - صلوات الله وسلامه عليه - فيما ذكر كثير الصلاة.
قال القرطبي: (فلما أمرهم ونهاهم عيَّروه بما رأوه يستمر عليه من كثرة الصلاة، واستهزؤوا به). أي: هل صلاتك وقراءتك تأمرنا بترك عبادة الأصنام والأوثان! ! قال الحسن: (إي والله، إن صلاته لتأمرهم أن يتركوا ما كان يعبد آباؤهم).
وإنما أمرهم بتوحيد الله عز وجل، والتزام طاعته واجتناب نواهيه، ومن أخص ذلك ما هم عليه من الغش والتطفيف واللعب بالمكيال والميزان.
وقوله: {أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ} . قال الثوري: (يعنون الزكاة).
وقال ابن كثير: ({أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ}، فنترك التَّطفيف على قولك، وهي أموالنا نفعل فيها ما نريد).
وقوله: {إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ} .
قال ابن جريج: (يستهزئون). وقال ابن زيد: (المستهزئون، يستهزئون: {إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ}).
قال ابن جرير: (فإنهم أعداء الله، قالوا ذلك له استهزاءً به، وإنما سَفَّهوه وجَهَّلوه بهذا الكلام).
وقوله: {قَالَ يَاقَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي} . أي: ما ظنكم لو كنت على بصيرة وبرهان من ربي فيما أدعوكم إليه من إفراد الله تعالى بالعبادة، وحفظ الأموال وترك الغش والخداع.
وقوله: {وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا} - فيه قولان متكاملان:
1 -
الرزق الحسن هو الرزق الحلال الطيب.
2 -
الرزق الحسن كناية عن النبوة.
وقوله: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ} .
قال الثوري: (أي: لا أنهاكم عن شيء وأخالفُ أنا في السر فأفعله خفية عنكم).
وقال قتادة: (يقول: لم أكن لأنهاكم عن أمر وأركَبه).
وقوله: {إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ} .
قال النسفي: (ما أريد إلا أن أصلحكم بموعظتي ونصيحتي وأمري بالمعروف ونهيي عن المنكر {مَا اسْتَطَعْتُ} ظرف، أي مدة استطاعتي للإصلاح، وما دمت متمكنًا منه لا آلو فيه جهدًا).
وقوله: {وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ} . أي: وما بلوغي مرامي في إصابة الحق في نصحكم ودعوتكم إلا بعون الله وتوفيقه.
وقوله: {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ} . أي: اعتمدت في أمري كله.
وقوله: {وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} . قال مجاهد: (أرجع).
وقوله: {وَيَاقَوْمِ لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي} . أي: لا يحملنكم عداوتي وكراهيتي وما أنا عليه من الدين الحق على الإصرار على كفركم وما فيه سوء عاقبتكم من بخس الناس في المكيال والميزان وعدم الوفاء.
قال قتادة: ({لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي}، يقول: لا يحملنكم فراقي).
وقال ابن جريج: ({لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي}، قال: عداوتي وبغضائي وفراقي).
وقوله: {أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ} . أي: من الغرق {أَوْ قَوْمَ هُودٍ} ، من العذاب {أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ} من الرجفة.
وقوله: {وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ} . قال قتادة: (إنما كانوا حديثًا منهم قريبًا، يعني قوم نوح وعاد وثمود وصالح). أو قال: (إنما كانوا حديثي عهد قريب، بعد نوح وثمود).
والمقصود أحد معنيين يكمل بعضهما بعضًا:
1 -
وما قومُ لوط - أيها القوم الذين ائتفكت بهم الأرض - ببعيد هلاكهم منكم.
2 -
وما دارُ قوم لوط منكم ببعيد.
أفلا تتعظون بمهالك هؤلاء الأقوام فَيَحْمِلكم ذلك على أخذ العبرة والحذر أن يصيبكم بشقاقي مثل الذي أصابهم.
وقوله تعالى: {وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ} .
أي: سارعوا بالمغفرة لنيل عفو الله ورضوانه، والتزموا منهج التوبة لتستقبلوا عظيم رحمته وإحسانه. {إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ} - قال النسفي:(يغفر لأهل الجفاء من المؤمنين. {وَدُودٌ} يحب أهل الوفاء من الصالحين). وقال ابن جرير: (يقول: هو رحيم بمن تاب وأناب إليه، أن يعذبه بعد التوبة، {وَدُودٌ}، يقول: ذو محبة لمن أناب وتاب إليه، يودُّه ويحبه).
قلت: والودود فعول بمعنى مفعول، من الوُدِّ، فالله تعالى مودود أي: محبوب في قلوب أوليائه، أو هو فعول بمعنى: فاعل، أي: أن الله تعالى يودُّ عباده الصالحين، بمعنى: يرضى عنهم (1).
وفي التنزيل:
1 -
قال تعالى: {وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ} [البروج: 14].
2 -
وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا} [مريم: 96].
وفي صحيح سنن الترمذي عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[إذا أحب الله عبدًا نادى جبريل: إني قد أحببتُ فلانًا فأحِبَّهُ، فينادي في السماء، ثم تُنْزل له المحبة في الأرض، فذلك قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا}](2).
91 -
95. قوله تعالى: {قَالُوا يَاشُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ (91) قَالَ يَاقَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (92) وَيَاقَوْمِ
(1) انظر جامع الأصول (4/ 179)، وكتابي: أصل الدين والإيمان (1/ 396) لتفصيل ذلك.
(2)
حديث صحيح. أخرجه الترمذي في الجامع - حديث رقم - (3384) - كتاب التفسير - سورة مريم، آية (96). وانظر صحيح سنن الترمذي - حديث رقم - (2528).
اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ (93) وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ (94) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا بُعْدًا لِمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ (95)}.
في هذه الآيات: استمرار استهزاء قوم شعيب برسولهم واستضعافه بل وتهديده. ومفاصلة شعيب لهم محذرًا لهم عذاب الله ونقمته دون جدوى منهم. ونزول أمر الله بعذابهم بالصيحة فأصبحوا في ديارهم جاثمين. ونجاةُ شعيب بإذن الله ومن معه من المؤمنين.
فقوله: {قَالُوا يَاشُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ} .
إِخْبَارٌ عن إجابة قوم شعيب لشعيب: قالوا يا شعيب ما نعلم حقيقة كثير مما تخبرنا به ومما تقوله، ولا نفهم صحة ما تتكلم به، وهو إنكار منهم وعناد بلا ريب. لأنه كما قال سفيان:(وكان يقال له: "خطيب الأنبياء")(1).
وقوله: {وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا} . قال النسفي: (لا قوة لك ولا عز فيما بيننا فلا تقدر على الامتناع منا إن أردنا بك مكرهًا.
وقوله: {وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ} . قال ابن زيد: (قالوا: لولا أن نتقي قومك ورهطك لرجمناك). قال ابن جرير: {لَرَجَمْنَاكَ} يعنون: لسببناك. وقال بعضهم: معناه: لقتلناك). والرجم أيضًا اللعن، ومنه: الشيطان الرجيم، أي الملعون المطرود عن الخير.
وقوله: {وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيز} . قال القرطبي: (أي ما أنت علينا بغالب ولا قاهر ولا ممتنع).
وقوله: {قَالَ يَاقَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ} . أي: أَبَلَغَ رهطي في قلوبكم أن يكون أعز عليكم وأجل من ربكم ومليككم سبحانه وتعالى. {وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا} . أي: وجعلتم أمره تعالى خلف ظهوركم، فلا تأتمرون بأمره، ولا تجتنبون ما نهاكم عنه، ولا تعظِّمونَهُ حق تعظيمه؟ .
(1) قلت: لكن لا يصح في تلك التسمية دليل من السنة، ولا عن أحد من الصحابة.
قال ابن عباس: (وذلك أن قوم شعيب ورهطه كانوا أعز عليهم من الله، وصغر شأن الله عندهم، عزّ ربّنا وجَلّ).
وقال قتادة: (لم تراقبوه في شيء، إنما تراقبون قومي، {وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا}، لا تخافونه، يقول: عززتم قومكم، وأظهرتم بربكم). أو قال: (واغتررتم بربكم). وقال سفيان: (استخففتم بأمره).
وفي لغة العرب: "نبذ فلان حاجة فلان وراءه ظهره"، إذا تركها ولم يلتفت إليه. والظهريّ منسوب إلى الظهر.
وقوله: {إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} . قال ابن جرير: (يقول: إن ربي محيط علمه بعملكم فلا يخفى عليه منه شيء، وهو مجازيكم على جميعه عاجلًا وآجلًا).
وقوله: {وَيَاقَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ} . أي: اعملوا على تمكنكم ومنازلكم ووسعكم وطريقتكم فإني عامل على تمكني ووسعي وطريقتي. قال ابن كثير: ({اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ}، أي: على طريقتكم. وهذا تهديد ووعيد شديد، {إِنِّي عَامِلٌ}، على طريقتي ومنهجي).
أي: سوف تعلمون من يأتيه عذاب يهلكه ويذله ويهينه، ومن هو المفسد من المصلح، ومن هو كاذب منا فيذوق وبال أمره، وانتظروا العاقبة وما أقول لكم فإني معكم مترقب منتظر. قال القرطبي:({وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ} أي انتظروا العذاب والسخطة، فإني منتظر النصر والرحمة).
أي: ولما حان ميعاد عذاب قوم شعيب نجّى الله تعالى شعيبًا والمؤمنين الذين ناصروه وتابعوه وآمنوا معه برحمته سبحانه، وانتقم من القوم الذين ظلموا فأخمدهم بصيحة جعلتهم في ديارهم هامدين لا حَرَاكَ بهم.
قال ابن كثير: (وذكر ها هنا أنهم أتتهم صيحة، وفي الأعراف رجفة، وفي الشعراء عذابُ يوم الظُّلَّة، وهم أمةٌ واحدة، اجتمع عليهم يومَ عذابهم هذه النقَمُ كلها، وإنما
ذكر في كل سياق ما يناسبه، ففي الأعراف لما قالوا:{لَنُخْرِجَنَّكَ يَاشُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا} [الأعراف: 88]، ناسب أن يذكر هناك الرجفةَ فَرُجِفَت بهم الأرض التي ظلموا بها، وأرادوا إخراج نبيِّهم منها، وها هنا لما أساؤوا الأدب في مقالتهم على نبيهم ناسبَ ذكر الصيحة التي أسكتتهم وأخمدتهم، وفيِ الشعراء لما قالوا:{فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} ، قال:{فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} ، وهذا من الأسرار الغريبة الدقيقة، ولله الحمد والمنة كثيرًا دائمًا).
وقوله: {كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا} . أي: كأنهم لم يعيشوا في تلك المساكن والديار قبل ذلك. قال ابن عباس: ({كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا} يقول: كأن لم يعيشوا فيها).
وقوله: {أَلَا بُعْدًا لِمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ} . أي: ألا أبعد الله مدين بانتقامه منهم، كما أبعد قبلهم ثمود بحلول سخطه بهم.
قال القاسمي: (شبههم بهم، لأن عذابهم كان أيضًا بالصيحة، وكانوا قريبًا منهم في المنزل، نظراءهم في الكفر، وقطع الطريق، وكانوا أعرابًا مثلهم).
96 -
99. قوله: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (96) إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ (97) يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ (98) وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ (99)}.
في هذه الآيات: خَبَرُ إرسال الله تعالى موسى عليه الصلاة والسلام إلى فرعون وملئه، واستكبارهم عن اتباع الحق إلى أمر فرعون المتجبر العنيد. إنه سيقدم قومه يوم القيامة إلى نار الجحيم، وسيتبعهم الله إضافة إلى عذاب الدنيا لعنة، ثم تنالهم لعنة أخرى يوم القيامة، فبئس ما هم فيه من تتابع اللعن عليهم والخزي والشقاء.
فقوله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (96) إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ} .
إِخْبَارٌ من الله تعالى عن إرساله موسى عليه الصلاة والسلام بحججه الدامغة، وبراهينه وأدلته القاطعة، إلى الطاغية فرعون - ملك ديار مصر على أمة القبط - ومن معه في الحكم من الملأ الباغي. قال ابن جرير:({إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ}، يعني: إلى أشراف جنده وتبَّاعه).
وقوله: {فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ} .
أي آثروا المضي خلف مسلك فرعون ومنهجه في البغي والظلم والضلال، وإن أمر فرعون كله جهل وعناد، وكفر وفساد، وما فيه حكمة أو علم أو هدى ورشاد.
وقوله تعالى: {يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ} .
أي يقود قومه يوم القيامة فيمضي بهم إلى النار، وبئس الورد وبئس المصير.
قال قتادة: ({يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} يقول: يقود قومه. قال: فرعون، يقدم قومه يوم القيامة، يمضي بين أيديهم، حتى يهجم بهم على النار).
وعن ابن عباس: (قوله: {يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} يقول: أضلَّهم فأوردهم النار. قال: {الْوِرْدُ} الدُّخول).
وعن الضحاك يقول في قوله: {فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ} : (كان ابن عباس يقول: {الْوِرْدُ} في القرآن أربعة أوراد: في "هود" قوله: {وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ}، وفي "مريم": {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا}، وورد في "الأنبياء": {حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ}، وورد في "مريم" أيضًا: {وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا}. كان ابن عباس يقول: كل هذا الدخول. والله ليردنَّ جهنم كل برٍّ وفاجر: {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا} [مريم: 72]).
وقوله تعالى: {وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ} .
أي: وأتبعهم الله تعالى - إضافة للعذاب الذي أهلكهم به في الدنيا بالغرق - لعنة، ويوم القيامة تنالهم لعنة أخرى، فبئس ما هم فيه من تتابع الطرد والشقاء.
قال مجاهد: ({وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ}، اللعنة في إثر اللعنة). قال: (زيدوا بلعنته لعنة أخرى، فتلك لعنتان).
وعن ابن عباس: ({بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ}، قال: لعنة الدنيا والآخرة).
وعن قتادة قال: (ترادفت عليهم اللعنتان من الله، لعنة في الدنيا، ولعنة في الآخرة).
وفي لغة العرب: الرِّفد: العطاء والصلة، ورفَدَه أعطاه وأعانه، والمقصود: ترادف إحدى اللعنتين الأخرى، من الله تعالى على فرعون وملئه، في الدنيا والآخرة.
وفي التنزيل:
1 -
قال تعالى: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنْصَرُونَ (41) وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ} [القصص: 41، 42].
2 -
وقال تعالى: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر: 46].
100 -
102. قوله تعالى: {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ (100) وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ (101) وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (102)}.
في هذه الآيات: إِعْلامٌ من الله تعالى لنبيّه محمد صلى الله عليه وسلم: أنَّ هذه القصص التي ذكرت لك في هذه السورة هي من أخبار القرى التي دكّها الله بكفر أهلها وطغيانهم وفسادهم وتعظيمهم الشهوات فوق أمر الله ودينه الحق. فمن هذه القرى ما هو قائم بنيانه بائد أهله هالك، ومنها ما هو قائم بنيانه عامر، ومنها ما هو خراب دارسٌ لا أثرَ له ولمن كان يسكنه. وما ظلمهم الله، ولا أغنت عنهم آلهتهم حين نزل بهم بأس الله، إن بأس الله بالمجرمين شديد.
فقوله تعالى: {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ} .
قال ابن عباس: (يعني بـ "القائم" قُرى عامرة، و"الحصيد" قرى خامدة).
وقال قتادة: {قَائِمٌ} على عروشها، و {وَحَصِيدٌ} مستأصلة). أو قال:({مِنْهَا قَائِمٌ}، يرَى مكانه، {وَحَصِيدٌ}، لا يرى له أثر). وقال ابن زيد: (منها قائم يرى أثره، وحصيد بادَ لا يرى أثره). وقال الأخفش: (حصيد أي محصود).
وقوله: {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ} .
قال ابن زيد: (اعتذر - يعني ربنا جل ثناؤه - إلى خلقه فقال: {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ}، مما ذكرنا لك من عذاب من عذبنا من الأمم، {وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ}).
قال النسفي: ({وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ} بإهلاكنا إياهم {وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ} بارتكاب ما به أهلكوا) - أي من الكفر والمعاصي.
أي: لم تنفعهم أصنامهم ولا أوثانهم التي كانوا يعبدونها من دون الله شيئًا حين نزل بهم أمر الله بالإهلاك والدمار، فلا هم نفعوهم بِرَدِّ بأْسِ الله عنهم، ولا هم أنقذوهم مما حلَّ بهم من التدمير والتشريد والهلاك.
وقوله: {وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ} . قال مجاهد وقتادة: (غير تخسير).
يقال في لغة العرب: تبَّ فلان إذا خسر، وتبَّبَهُ غيره إذا أوقعه في الخسران.
قال القرطبي: (والتَّبَاب الهلاك والخسران، وفيه إضمار، أي ما زادتهم عبادة الأصنام، فحذف المضاف، أي كانت عبادتهم إياهم قد خسَّرتهم ثواب الآخرة).
وقوله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} .
إِخْبَارٌ من الله سبحانه عما جاءت به العادة في إهلاك من بغى من الأمم وظلم، وكفر بالله وأجرم، إن عقوبته سبحانه لأهل الشرك والبغي موجعة غليظة مؤلمة.
أخرج البخاري ومسلم عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [إن الله ليُملي للظالم، حتى إذا أخذه لم يُفلِته. ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ}](1).
103 -
108. قوله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الْآخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ (103) وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ (104) يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ (105) فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (106) خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا
(1) حديث صحيح أخرجه البخاري (4686)، ومسلم (2583)، والترمذي (3109)، وابن ماجه (4018)، وأخرجه ابن حبان في صحيحه (5175)، وكذلك البيهقي (6/ 94).
يُرِيدُ (107) وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ (108)}.
في هذه الآيات: إِخْبَارُ الله تعالى أن في تلك القصص عبرة لمن خاف عذاب الله يوم القيامة، إنه يوم يجتمع فيه الخلق جميعهم، وتشهده الملائكة، وقد سبق توقيته في قضاء الله، إنه يوم لا يتكلم فيه أحد إلا بإذن الله، ويقسم الناس إلى فريقين: أهل الشقاوة وأهل السعادة. فأهل الشقاوة يصارون إلى منازلهم في نار جهنم خالدين فيها إلا ما شاء الله، فهو الفعال لما يريد. وأهل السعادة يصارون إلى مراتبهم ومساكنهم في الجنة خالدين فيها، تكرمة الله لهم في عطاء غير مقطوع، ونعيم لا حدود له.
فقوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الْآخِرَةِ} . أي: إن في إهلاك تلك القرى الظالم أهلها لعبرة وعظة لمن أراد النجاة من عذاب الله في الآخرة، فينزجر عن الخوض في ظلمات المعاصي والكفر والآثام، ويعلم أن الله سينصر المؤمنين في الدنيا ويوم يقوم الأشهاد.
قال ابن زيد: ({إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الْآخِرَةِ}، إنا سوف نفي لهم بما وعدناهم في الآخرة، كما وفينا للأنبياء: أنّا ننصرهم).
وفي التنزيل:
1 -
قال تعالى: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} [غافر: 51].
2 -
وقال تعالى: {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [المجادلة: 21].
3 -
وقال تعالى: {فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (13) وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ} [إبراهيم: 13، 14].
أخرج الخطيب في "التاريخ" والديلمي، وأبو نعيم في "الحلية" بسند رجاله ثقات عن أنس مرفوعًا:[النَّصرُ مع الصَّبْرِ، والفَرَجُ مع الكرب، وإن مع العُسْر يُسْرًا](1).
(1) حديث صحيح. أخرجه الخطيب في "التاريخ"(10/ 287)، والديلمي (4/ 111 - 112)، ولبعضه شواهد في المسند (1/ 307)، ومستدرك الحاكم (3/ 541 - 542)، و"الحلية"(1/ 314).
وقوله: {ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ} .
قال مجاهد: (يوم القيامة). وقال الضحاك: (ذلك يوم القيامة، يجتمعٍ فيه الخلق كلهم، ويشهده أهل السماء وأهل الأرض). وفي التنزيل: {وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا} [الكهف: 47].
قال ابن كثير: (أي: يومٌ عظيم تحضره الملائكة كلهم، ويجتمع فيه الرسل جميعهم، وتُحشَر فيه الخلائق بأسرهم، من الإنس والجن والطير والوحوش والدواب، ويحكم فيه العادل {لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا} [النساء: 40]).
وقوله تعالى: {وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ} .
أي: ما نؤخر عنكم مجيء يوم القيامة إلا ليقضي الله ما قضاه من الخلق، وما كتب لهم من الأعمار والأرزاق والأعمال والآجال، فإذا تكامل قضاء الله وقدره في إيجاد ما كتب إيجاده، وسبقت به كلمته وحق قوله، أقام الله الساعة.
والحق أن من مات فقد قامت قيامته، وبدأ معايشة ما قدّم من العمل. فقد أخرج البخاري في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها قالت:[كان رجال من الأعراب جُفاةً يأتون النبي صلى الله عليه وسلم فيسألونه: متى الساعة، فكان يَنْظُر إلى أصغرهم فيقول: إن يَعِشْ هذا لا يُدْرِكْهُ الهرَمُ حتى تقوم عليكم ساعتكم. يعني موْتَهم](1).
وقوله: {يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ} .
أي: لا يستطيع يوم مجيء ذلك اليوم أحد أن ينطق إلا بإذن الله تعالى.
وفي التنزيل:
1 -
قال تعالى: {وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا} [طه: 108].
2 -
وقال تعالى: {يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا} [النبأ: 38].
وفي صحيح البخاري من حديث أنس بن مالك - في الشفاعة - عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري في كتاب الرقاق. انظر مختصر صحيح البخاري (2025). والمقصود بقوله: "لا يدركه الهرم" أي لا يبلغ الشيخوخة ونهاية العمر. أي فسَّر ساعتهم بموتهم وانقراض عصرهم، لأن من مات فقد قامت قيامته.
قال: [ولا يتكلم يومئذ إلا الرسل، ودعوى الرسل يومئذ: اللهم سَلِّمْ سَلِّمْ](1).
وقوله: "لا تكلم" الأصل لا تتكلم، وحذفت إحدى التاءين للتخفيف.
وقوله: {فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ} . أي: من أهل الموقف بين يدي الله يوم القيامة شقي معذب وسعيد منعم، والشقي من كتبت عليه الشقاوة، والسعيد من كتبت عليه السعادة، والكتابة في ذلك عند الله كتابة علم لا كتابة قهر أو جبر.
ففي التنزيل:
1 -
قال تعالى: {وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ} [الشورى: 7].
2 -
وقال تعالى: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشمس: 7 - 10].
3 -
وقال تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} [الليل: 5 - 10].
ومن كنوز السنة الصحيحة في آفاق هذا المعنى أحاديث:
الحديث الأول: أخرج الإمام أحمد والنسائي بسند صحيح عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: [خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي يده كتابان، فقال أتدرون ما هذان الكتابان؟ قال: قلنا لا إلّا أن تُخبرنَا يا رسول الله، فقال للذي في يده اليمنى: هذا كتاب من رب العالمين، فيه أسماء أهل الجنة وأسماء آبائهم وقبائلهم ثم أُجْمِلَ على آخرهم، فلا يُزَادُ فيهم ولا ينقصُ منهم أبدًا. ثم قال للذي في شماله: هذا كتاب من رب العالمين، فيه أسماء أهل النار وأسماء آبائهم وقبائلهم ثم أجمل على آخرهم فلا يزاد فيهم ولا ينقص منهم أبدًا. فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: فلأي شيء إذن نعملُ إنْ كان هذا أمرًا قد فُرِغَ منه؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: سددوا وقاربوا، فإن صاحب الجنة يختم له بعمل أهل الجنة وإن عمل أي عمل، وإن صاحب النار يختمُ له بعمل أهل النار وإن عمل أي عمل، ثم قال بيده فقبضها، ثم قال: فرغ ربكم عز وجل من العباد، ثم قال باليمنى فنبذ بها فقال: فريق في الجنة، ونبذ باليسرى فقال: فريق في السعير](2).
(1) هو بعض حديث أخرجه البخاري (7510)، ومسلم (193) ح (326)، وابن ماجه (4312)، وأحمد (3/ 116)، (3/ 244)، (3/ 247 - 248) - في الشفاعة.
(2)
حديث صحيح. أخرجه أحمد (2/ 167)، والنسائي في "الكبرى"(11473)، والترمذي (2141).
الحديث الثاني: أخرج الإمام أحمد في مسنده، وابن حبان في صحيحه، من حديث عبد الرحمن بن قتادة السلمي، وكان من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، مرفوعًا:[إن الله عز وجل خلق آدم، ثم أخذ الخلق من ظهره، وقال: هؤلاء إلى الجنة ولا أبالي، وهؤلاء إلى النار ولا أبالي، فقال قائل: يا رسول الله فعلى ماذا نعمل؟ قال: على مواقع القدر](1).
الحديث الثالث: أخرج البيهقي في "الأسماء والصفات"، والآجري في "الشريعة" بسند صحيح عن هشام بن حكيم:[أن رجلًا أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله: أنبتدئ الأعمال أم قد قُضي القضاء؟ فقال: إن الله تعالى أخذ ذرية آدم من ظهورهم وأشهدهم على أنفسهم، ثم أفاض بهم في كفيه، فقال: هؤلاء في الجنة وهؤلاء في النار، فأهل الجنة ميسرون لعمل أهل الجنة، وأهل النار ميسرون لعمل أهل النار](2).
الحديث الرابع: أخرج الترمذي بسند صحيح عن عمر بن الخطاب قال: [لما نزلت هذه الآية: {فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ} وسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا نبي الله، فعلى ما نعمل؟ على أي شيء قد فرغ منه، أو على شيء لم يفرغ منه؟ قال: بل على شيء قد فُرغَ منه، وجرت به الأقلام، يا عمرُ ولكنْ كلٌّ مُيَسَّرٌ لما خُلق له](3).
وقوله تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ} .
قال ابن عباس: (يقول: صوت شديد، وصوت ضعيف).
وقال أبو العالية: (الزفير في الحلق، والشهيق في الصدر).
قال ابن كثير: (أي تنفُّسُهم زفيرٌ، وأخذهم النفس شهيق، لما هم فيه من العذاب، عياذًا بالله من ذلك).
وقوله: {خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ} - أي ماكثين فيها أبدًا.
(1) حديث صحيح. أخرجه أحمد في المسند (4/ 186) من حديث عبد الرحمن بن قتادة السلمي، وأخرجه الحاكم (1/ 31)، وانظر سلسلة الأحاديث الصحيحة (48).
(2)
حديث صحيح. أخرجه الآجري (ص 172)، والبيهقي في "الأسماء والصفات"(ص 326). وانظر معناه في صحيح مسلم (8/ 48 - 49)، ومختصر صحيح مسلم (1844) - كتاب القدر. باب: في القدر والشقاوة والسعادة من حديث علي رضي الله عنه. وانظر كتابي: أصل الدين والإيمان (2/ 804) لتفصيل روايات ابن أبي عاصم في السنة، وكذلك البيهقي والآجري وغيرهم.
(3)
حديث صحيح. أخرجه الترمذي في الجامع (3111) من حديث عمر. انظر صحيح سنن الترمذي - حديث رقم - (2486) - كتاب التفسير - سورة هود (105).
قال ابن زيد: (ما دامت الأرض أرضًا والسماءُ سماءً).
قال ابن جرير: (وذلك أن العرب إذا أرادت أن تصف الشيء بالدوام أبدًا قالت: هذا دائم دوامَ السماوات والأرض، بمعنى: أنه دائم أبدًا. وكذلك يقولون: هو باق ما اختلف الليل والنهار، وما سمر ابنا سمير، وما لألأت العُفْرُ بِأذنابها، يعنون بذلك كله: {أَبَدًا}. فخاطبهم جل ثناؤه بما يتعارفون به بينهم فقال: {خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ}، والمعنى في ذلك: خالدين فيها أبدًا).
قلت: وهذا التفسير يخالف القرآن الكريم الذي أثبت عدم بقاء هذه السماوات والأرض يوم القيامة، قال تعالى:{يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ} [إبراهيم: 48]، فهناك سماوات تعقب هذه السماوات وكذلك أرض تعقب هذه الأرض، وتلك التي أرادها الله بالخلود والبقاء والدوام.
وقوله: {إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ} - له أكثر من تأويل عند المفسرين:
الأول: قيل معناه إلا مدة مكثهم في النار. وذلك في أهل التوحيد. فعن قتادة قال: (الله أعلم بثُنَياه. وذكر لنا أن ناسًا يصيبهم سَفْعٌ من النار بذنوب أصابوها، ثم يدخلهم الجنة). وقال الضحاك بن مزاحم: (يخرج قوم من النار فيدخلون الجنة، فهم الذين استثنى لهم).
وعن خالد بن معدان: (في قوله: {لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا} وقوله: {خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ} أنهما في أهل التوحيد).
الثاني: قيل الاستثناء لأهل التوحيد إلا أن يتجاوز الله عنهم فلا يدخلهم النار، فوجهوا الاستثناء إلى أنه من قوله:{فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ} ، {إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ} لا من الخلود. قال أبو مجلز:(هو جزاؤه، فإن شاء الله تجاوز عن عذابه).
الثالث: قيل الاستثناء مدة مقامهم في الموقف. ذكره بعض المفسِّرين.
الرابع: قيل: إلا مدة مقامهم في القبور والموقف. فلم يغيبوا عن الجنة أو النار إلا بقدر إقامتهم في البرزخ والمحشر. ذكره الطبري.
الخامس: قيل: خالدين في الجنة أو النار دوامَ السماء والأرض إلا مدة تعميرهم في الدنيا. ذكره أهل اللغة.
السادس: قيل: هو استثناء الرب ولا يفعله، وهذا متشابه قد وصل بمحكم:"عطاء غير مجذوذ".
السابع: قيل: هو لإعلامهم بأنهم مع خلودهم ففي مشيئة الله، ولا ينافي ذلك عزيمته وجزمه لهم بالخلود، نحو قوله تعالى:{وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلًا} . {فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ} . {قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ} - ذكره ابن أبي العز الحنفي في شرح الطحاوية.
وقوله: {إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} . أي: يفعل ما يشاء ولا مانع لمضي أمره.
بشارة عظيمة لدوام الخلود والسَّعادة لأهل الجنة في عطاء من الله لهم غير مقطوع عنهم. وأما الاستثناء - قلت: الخلاصة فيه - إن منهج التفسير عند الراسخين يتضمن ردّ المتشابه إلى المحكم، فقوله تعالى:{عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} محكم، مثل قوله:{إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ} ، {أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا} ، {لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى} مما يدل أن الاستثناء في قوله:{إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ} استثناء للوقت الذي لم يكونوا فيه في الجنة.
وعن الضحاك ومجاهد: ({عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ}، قال: غير مقطوع).
وقال ابن زيد: (غير منزوعٍ منهم). وقال أبو العالية: ({عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ}: أما هذه فقد أمضاها، يقول: عطاء غير منقطع).
وقد جاءت السنة الصحيحة بمفهوم استمرار النعيم في الجنة ودوام الخلود في روضاتها وملذاتها في عطاء غير مقطوع:
الحديث الأول: أخرج البخاري ومسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [يؤتى بالموت كهيئة كَبْشٍ أملحَ فينادي منادٍ: يا أهل الجنة، فيشرئِبُّون وينظرون فيقول: هل تعرفون هذا؟ فيقولون: نعم، هذا الموتُ، وكلهم قد رآه، ثم ينادي: يا أهل النار، فيشرئِبُّون وينظرونَ فيقول: هل تَعْرِفون هذا؟ فيقولون: نعم، هذا الموتُ، وكلهم قد رآه، فَيذْبَحُ، ثم يقولُ: يا أهل الجنة خلودٌ فلا موتَ، ويا أهل النار خلودٌ فلا موت](1).
(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (4730) - كتاب التفسير -، وانظر مختصر صحيح البخاري حديث (2032) للفظ الآخر، كتاب الرقاق، وأخرجه مسلم (2849)، والترمذي (3156).
وفي لفظ من حديث ابن عمر: [ثم يذبَحُ، ثم ينادي مناد: يا أهل الجنة لا مَوْتَ، ويا أهل النار لا موتَ، فيزداد أهل الجنة فرحًا إلى فرحهم، ويزداد أهل النار حزنًا إلى حزنهم].
الحديث الثاني: أخرج الإمام مسلم في صحيحه عن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [ينادي مُنادٍ: إنّ لكم أن تَصِحّوا فلا تَسْقَموا أبدًا، وإنَّ لكم أن تَحْيَوا فلا تموتوا أبدًا، وإنَّ لكم أن تشِبُّوا فلا تَهرموا أبدًا، وإنَّ لكم أن تَنْعَموا فلا تبأسوا أبدًا](1).
الحديث الثالث: روى مسلم وغيره من أهل السنن عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[مَنْ يَدْخُل الجنة يَنْعَمُ لا يَبْأسُ، لا تَبْلى ثيابُهُ ولا يفنى شبابُه](2).
109 -
111. قوله تعالى: {فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هَؤُلَاءِ مَا يَعْبُدُونَ إِلَّا كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ (109) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (110) وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (111)}.
في هذه الآيات: إِثْباتُ الله لنبيّه فساد منهاج قومه في عبادتهم وأنهم سيجدون تمام جزائهم عند ربهم. وَتَسْلِيَةٌ له بذكر اختلاف الناس على رسولهم موسى صلى الله عليه وسلم من قبل، وأنه لولا قضاء الله ببلوغ الكتاب أجله لعاجل المكذبين بالإهلاك. وإنما الفصل التام يوم يجمع الله الأولين والآخرين، فيقضي بينهم بحكمه وهو العليم الخبير.
خِطَابٌ من الله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: فلا تك - يا محمد - في شك مما يعبد هؤلاء المشركون من قومك من الأوثان والآلهة والأصنام والطواغيت أنه ضلال وجهل وباطل وشرك بالله عز وجل. وهم بذلك إنما يقتفون منهاج آبائهم في فساد عبادتهم ولا يصدرون عن أمر الله عز وجل ووحيه ونور شرعه.
(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم (2837) - كتاب الجنة ونعيمها - باب في دوام نعيم أهل الجنة.
(2)
حديث صحيح. أخرجه مسلم (2836) - كتاب الجنة ونعيمها - الباب السابق. والحديث رواه أحمد (2/ 369)، والدارمي (2/ 332)، وبنحوه الترمذي وصححه ابن حبان.
وقوله: {وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ} . أي: سيجدون عند الله تمام جزائهم دون نقصان.
قال ابن عباس: ({وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ}، قال: ما وُعِدوا فيه من خير أو شر). وقال ابن زيد: (نصيبهم من العذاب).
وقوله: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ} . قال ابن كثير: (ذكر تعالى أنه آتى موسى الكتاب فاختلف الناس فيه، فَمِنْ مُؤمِنٍ به وَمِنْ كافرٍ به، فَلَكَ بمن سَلَفَ من الأنبياء قبلك يا محمد أسوةٌ، فلا يغيظنّكَ تكذيبُهم لك، ولا يهيدَنَّكَ ذلك).
وقوله: {وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ} - فيه تأويلان متكاملان:
التأويل الأول: لولا ما تقدم من تأجيله العذاب إلى أجل معلوم لقضى الله بينهم.
قال ابن جرير: (يقول تعالى ذكره: ولولا كلمة سبقت، يا محمد، من ربك بأنه لا يعجِّل على خلقه بالعذاب، ولكن يتأنّى حتى يبلغ الكتاب أجله - لقضي بين المكذب منهم به والمصدق، بإهلاك الله المكذب به منهم، وإنجائه المصدق به).
التأويل الثاني: لولا قضاء الله ألا يعذب أحدًا إلا بعد قيام حجته البالغة عليه - حجة الوحي والرسل، لأنزل بالمكذبين بأسه.
كما في التنزيل:
1 -
قال تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15].
2 -
وقال تعالى: {وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى (129) فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ} [طه: 129، 130].
قوله: {وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ} . أي: وإن الكافرين لفي شك من الوحي والنبوة شديد.
قال النسفي: ({وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ} من القرآن أو من العذاب {مُرِيبٍ}).
وقال ابن جرير: (وإن المكذبين به منهم، لفي شك من حقيقته أنه من عند الله، {مُرِيبٍ}، يقول: يريبهم، فلا يدرون أحقٌّ هو أم باطل؟ ولكنهم فيه ممترون).
ثم أخبر تعالى أنه سيجمع الأولين والآخرين من جميع الأمم ليقفوا بين يديه لنيل الثواب ونكال العقاب حسب أعمالهم.
وهو قوله تعالى: {وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} .
قال ابن كثير: (أي: عليم بأعمالهم جميعها، جليلها وحقيرها، صغيرها وكبيرها، وفي هذه الآية قراءاتٌ كثيرة، ويرجع معناها إلى هذا الذي ذكرناه، كما في قوله تعالى: {وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ} [يس: 32]).
112 -
115. قوله تعالى: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (112) وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ (113) وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ (114) وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (115)}.
في هذه الآيات: أَمْرُ الله نبيّه والمؤمنين بالاستقامة على المنهج الحق وعدم الركون إلى الطغاة، فإن ذلك سبيل إلى النار والهلاك. وأمْرُهُ كذلك له بإقامة الصلاة في الغداة والعشي وفي ساعات من الليل، فإن الحسنات يذهبن السيئات. وأمره كذلك له بالصبر على أذى المشركين حتى يأتي نصر الله، والله لا يضيع أجر المحسنين.
فقوله: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ} . أي: على الدين الحق. قال سفيان: (استقم على القرآن). وقوله: {وَمَنْ تَابَ مَعَكَ} . قال القرطبي: (أي استقم أنت وهم، يريد أصحابه الذين تابوا من الشرك ومَنْ بعده ممن اتبعه من أمته). قال ابن عباس: (ما نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم آية هي أشد ولا أشق من هذه الآية عليه). ولذلك قال لأصحابه حين قالوا له لقد أسرع إليك الشيب! فقال: [شيبتني هود وأخواتها](1).
وفي صحيح مسلم عن سفيان بن عبد الله الثقفي قال: قلت يا رسول الله قل لي في الإسلام قولًا لا أسأل عنه أحدًا بعدك! قال: [قل آمنت بالله ثم استقم](2).
(1) حديث صحيح. أخرجه الترمذي (3528)، والحاكم (2/ 344)، والطبراني. قال الهيثمي (7/ 37): ورجاله رجال الصحيح. وقد مضى برواياته المختلفة مفصلًا في أول هذه السورة.
(2)
حديث صحيح. أخرجه مسلم (38)، والطيالسي (1231)، والترمذي (2410)، وابن ماجه (3972)، وأخرجه أحمد في المسند (3/ 413)، وابن حبان في صحيحه (942) من حديث سفيان بن عبد الله الثقفي رضي الله عنه.
وقوله: {وَلَا تَطْغَوْا} قال ابن زيد: (الطغيان: خلاف الله، وركوب معصيته). والطغيان مجاوزة الحد. وقيل: أي لا تتجبروا على أحد. قال ابن جرير: (يقول: ولا تعدوا أمره إلى ما نهاكم عنه).
وقوله: {إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} . أي: إنه تعالى بصير بأعمال عباده، لا يغفل عن شيء، ولا يغيب عن علمه شيء، قد أحاط بكل شيء علمًا، فلا يخفى عليه شيء.
وقوله: {وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا}
آية عظيمة من آيات المفاصلة، ونهي الله تعالى عباده المؤمنين الميل إلى أعدائه المشركين أو مداهنتهم أو الرضى بأعمالهم.
ومن أقوال أهل التأويل في هذه الآية:
1 -
قال ابن عباس: ({وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ}، يعني: الركون إلى الشرك).
2 -
وقال أبو العالية: (يقول: لا ترضوا أعمالهم). وقال: (يقول: الركون: الرضى).
3 -
وعن ابن جريج: ({وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا}، قال: قال ابن عباس: ولا تميلوا إلى الذين ظلموا).
4 -
وعن قتادة قال: (يقول: لا تلحقوا بالشرك، وهو الذي خرجتم منه).
5 -
وقال ابن زيد: (الركون: الإدهان. وقرأ: {وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} [القلم: 9]. قال: تركن إليهم، ولا تنكر عليهم الذي قالوا، وقد قالوا العظيم من كفرهم بالله وكتابه ورسله).
وقوله: {فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ} .
أي: فتمسكم النار بركونكم لأهل البغي والشرك والظلم، ثم ليس بكم من دون الله من ناصر ينصركم أو ولي يدفع عنكم عذابه، بل يتخلى الله تعالى عن نصركم ويسلط عليكم عدوكم ولا منجى لكم.
خِطَابٌ من الله تعالى لنبيِّه محمد صلى الله عليه وسلم: أن أقم الصلاة في الغداة والعشي وفي ساعات
من الليل، فإن الإنابة إلى طاعة الله والعمل بما يرضيه، ودعاءه سبحانه يذهب آثام معصية الله ويكفر الذنوب، وهذه الوصايا: من اجتناب الركون إلى الطغاة أو مداهنتهم، ثم تعظيم الله وحده بالصلاة والدعاء والاستغفار من أعظم الذكرى للذاكرين.
أخرج البخاري في صحيحه عن ابن مسعود: [أن رجلًا أصاب من امرأة قُبْلةً، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره، فأنزل الله: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ}. فقال الرجل: يا رسول الله: ألي هذه؟ قال: لجميع أمتي كلهم](1).
ورواه الإمام أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي وابن جرير - واللفظ له - عن ابن مسعود قال: [جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إني وجدتُ امرأةً في بُستان، ففعلت بها كُلَّ شيء، غير أني لم أجامِعْها، قَبَّلْتُها ولَزِمتُها، ولم أفعل غير ذلك، فافعل بي ما شئتَ. فلم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئًا، فذهب الرجل، فقال عمر: لقد ستَرَ الله عليه، لو ستَرَ على نفسه! فأتبعه رسول الله بصرَه ثم قال: رُدُّوه عليَّ. فردُّوه عليه، فقرأ عليه: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ}. فقال معاذ - وفي رواية عُمر -: يا رسول الله، أله وحده، أم للناس كافة؟ فقال: بل للناس كافة](2).
وله تفصيل آخر عند الترمذي في السنن في حديثين صحيحين:
الحديث الأول: أخرج الترمذي وابن ماجه عن عبد الله قال: [جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني عالجت امرأة في أقصى المدينة، وإني أصبت منها ما دون أن أمسها، وأنا هذا، فاقضِ فيَّ ما شئت. فقال له عمر: لقد سترك الله، لو سترت على نفسك، فلم يرد عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئًا، فانطلق الرجل، فأتبعه رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلًا فدعاه، فتلا عليه: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ}. فقال رجل من القوم: هذا له خاصة؟ قال: بل للناس كافة](3).
الحديث الثاني: أخرج الترمذي بسند حسن عن أبي اليسر قال: [أتتني امرأة تبتاع
(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (526)(4687)، ومسلم (2763)، والترمذي (3114)، والنسائي في "التفسير"(267)، وأخرجه ابن ماجه (4254)، وغيرهم.
(2)
حديث صحيح. أخرجه مسلم في الصحيح (2763) ح (42)، وأخرجه أبو داود (4468)، والترمذي (3112)، والطيالسي (285)، وأحمد (4250)، (4290)، (3653)، والطبري (18688)(18682)، وابن حبان (1728)، (1730).
(3)
حسن صحيح. أخرجه الترمذي في السنن (3326) - كتاب التفسير - سورة هود، آية (105).
تمرًا، فقلت: إن في البيت تمرًا أطيب منه. فدخلت معي في البيت، فأهويت إليها فقبلتها. فأتيت أبا بكر، فذكرت ذلك له، فقال: استر على نفسك وتب، ولا تخبر أحدًا، فلم أصبر. فأتيت عمر فذكرت ذلك له. فقال: استر على نفسك وتب، ولا تخبر أحدًا، فلم أصبر. فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له. فقال له: أَخْلَفْتَ غازيًا في سبيل الله في أهله بمثل هذا، حتى تمنى أنه لم يكن أسلم إلا تلك الساعة، حتى ظن أنه من أهل النار. قال: وأطرق رسول الله صلى الله عليه وسلم طويلًا حتى أوحي إليه: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} . قال أبو اليسر: فأتيته، فقرأها عليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال أصحابه: يا رسول الله، ألهذا خاصة أم للناس عامة؟ قال: بل للناس عامَّة] (1).
وفي تفسير {طَرَفَيِ النَّهَارِ} - أقوال عند أهل التأويل:
1 -
قال ابن عباس: (يعني الصبح والمغرب). وكذلك قال الحسن وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم.
2 -
قال الضحاك وقتادة: (هي الصبح والعصر).
3 -
وقال مجاهد: (هي الصبح في أول النهار، والظهر والعصر من آخره).
ورجَّح ابن جرير أن الطرفين الصبح والمغرب. قلت: أما الطرف الأول فالصبح وهو باتفاق المفسرين، وتبقى الفسحة في فهم مدلول الطرف الآخر، ولا شك أنه يدل مع مفهوم قوله تعالى:{وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ} على الصلوات الخمس في كل يوم.
وفي تفسير: {وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ} - أقوال عند أهل التأويل:
1 -
قال مجاهد: ({وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ}، قال: الساعات من الليل، صلاة العتمة).
2 -
وعن الحسن: ({وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ}، قال: العشاء). وقال ابن عباس: (يقول: صلاة العتمة).
3 -
وعن سفيان، عن عبيد الله بن أبي يزيد قال:(كان ابن عباس يعجبه التأخير بالعشاء، ويقرأ: {وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ}).
4 -
عن الحسن قال: (هما زُلفتان من الليل، صلاة المغرب، وصلاة العشاء).
(1) حديث حسن. أخرجه الترمذي (3331) - أبواب تفسير القرآن - سورة هود، آية (105) - وانظر صحيح سنن الترمذي - حديث رقم - (2489) - وأبو اليسر هو كعب بن عمرو.
5 -
وقال الأخفش: (يعني صلاة الليل ولم يعين).
قال القرطبي: ({وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ} أي في زُلَفٍ من الليل، والزّلف الساعات القريبة بعضها من بعض، ومنه سميت المزْدَلِفَة؛ لأنها منزل بعد عَرَفَة بقرب مكة).
قلت: وقوله: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} بعد الأمر بإقام الصلاة آناء الليل وأطراف النهار فيه دلالة كبيرة على عظيم أثر الصلاة في غسل خطايا المؤمن، ويبدأ ذلك من الوضوء والتطهر له، وقد جاءت السنة الصحيحة بآفاق هذا المعنى في أحاديث:
الحديث الأول: أخرج البخاري ومسلم عن أبي هريرة أنه سمعَ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: [أرأيتم لو أنَّ نَهْرًا بباب أحدِكم يغتسل فيه كلَّ يومٍ خَمْسًا، ما تقول ذلك يُبْقي مِنْ دَرَنِه؟ قالوا: لا يُبْقِي مِنْ دَرَنِه شيئًا، قال: فذلك مَثَلُ الصلوات الخمس يَمْحُو الله به الخطايا](1).
وفي لفظ: [وكذلك الصلوات الخمس، يمحو الله بِهنَّ الذنوبَ والخَطايا].
الحديث الثاني: أخرج الإمام مسلم في صحيحه عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول:[الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضانُ إلى رمضان، مكفِّراتٌ ما بينهنَّ إذا اجتُنِبَت الكبائر](2).
الحديث الثالث: أخرج أحمد وأهل السنن عن علي بن أبي طالب، قال: كنت إذا سمعتُ من رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثًا نفعني الله بما شاء أن ينفعني منه، وإذا حَدَّثني عنه أحدٌ استحلفتهُ، فإذا حلفَ لي صَدَّقته، وحدثني أبو بكر - وصَدَق أبو بكر - أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:[ما من مُسْلِمٌ يُذْنِبُ ذنبًا فيتوضأ ويصلي ركعتين، إلا غُفِرَ له](3).
(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري في الصحيح (528) - كتاب مواقيت الصلاة -. باب: الصلوات الخمس كفارة. وأخرجه مسلم (667)، والترمذي (2868)، وأحمد (2/ 379)، والنسائي (1/ 230 - 231)، والدارمي (1/ 268)، وأخرجه ابن حبان (1726).
(2)
حديث صحيح. أخرجه مسلم في الصحيح (233)، والترمذي في الجامع (214)، وأحمد في المسند (2/ 229)، وابن ماجه في السنن (1086).
(3)
حديث حسن. أخرجه أحمد رقم (2)، (47)، (48)، (56)، وابن ماجه (1395)، والنسائي في عمل اليوم والليلة (415)، وأخرجه الحميدي (4)، وابن أبي شيبة (2/ 387).
الحديث الرابع: أخرج الإمام أحمد والطبراني بسند حسن عن أبي أيوب الأنصاري أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: [إن كُلَّ صلاةٍ تَحُطُّ ما بين يَدَيْها من خطيئة](1).
الحديث الخامس: أخرج النسائي وابن خزيمة بسند صحيح عن عثمان رضي الله عنه أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: [من توضأ فأسبغَ الوضوءَ، ثم مشى إلى صلاة مكتوبة، فصلاها مع الإمام غُفِرَ له ذنبُه](2).
وقوله تعالى: {وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} .
قال القاسمي: ({وَاصْبِرْ} أي على مشاق ما أُمرت به من التبليغ، أو على ما يقولون، أو على الصلاة كقوله: {وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} [طه: 132]، ولا مانع من شموله للكل. {فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} أي في أعمالهم فيوفيهم أجورهم من غير بخس).
قلت: وهذا الأمر بالصبر على محن الدعوة وآلام الطريق وإن كان موجّهًا للنبي صلى الله عليه وسلم إمام الأمة في الصبر والجهاد، فإنه خطاب لكل القادة المسلمين والعلماء العاملين من بعده إلى يوم الدين.
أخرج الخطيب في "التاريخ"، والديلمي في "الفردوس" بسند رجاله ثقات عن أنس مرفوعًا:[النَّصْرُ مع الصَّبْر، والفَرَجُ مع الكَرْبِ، وإنَّ مع العُسْرِ يُسْرًا](3).
116 -
117. قوله تعالى: {فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ
(1) حديث حسن. أخرجه أحمد في المسند (5/ 413)، والطبراني في "المعجم الكبير"(4/ 126)، رقم (3879)، وانظر صحيح الجامع - حديث رقم - (2140).
(2)
حديث صحيح. أخرجه النسائي (2/ 112)، وانظر صحيح مسلم (226) نحوه، وصحيح البخاري (159)، (164)، وسنن أبي داود (106)، وسنن الدارمي (697)، وسنن ابن ماجه (285)، ورواه ابن خزيمة من حديث عثمان رضي الله عنه.
(3)
حديث صحيح. أخرجه الخطيب في "التاريخ"(10/ 287)، والديلمي (4/ 111 - 112)، وله شاهد في مسند أحمد (1/ 307) من طريق ابن عباس، وانظر سلسلة الأحاديث الصحيحة (2382).
وَكَانُوا مُجْرِمِينَ (116) وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ (117)}.
في هذه الآيات: إِثْباتُ الله تعالى نجاة القلة المؤمنة التي كانت تنهى عن الفساد في الأرض فيما مضى، ليكون ذلك توجيهًا لهذه الأمة لحمل الأمانة بصدق، فإن الظالمين في متاع قليل ينتهي باستئصالهم. وتقريرٌ من الله تعالى أنه لا يهلك قرية إلا وأهلها ظالمون.
أي: فهلّا كان من تلك الأمم الماضية التي دكَّها الله بسبب عتوها وبغيها وكفرها فئة مؤمنة تنهى عن الفساد في الأرض وتأمر بالمعروف! إنه كان قلة من أهل الخير والأمر بالمعروف والنهي عن الشرور والمنكرات في كل قوم مما مضى، وأولئك هم الذين نجاهم الله برحمته من العذاب الذي نزل بقومهم.
قال ابن زيد: ({إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ}: فإذا هم الذين نجوا حين نزل عذاب الله). وقال ابن جريج: (يستقلّهم الله من كل قوم).
وهذا توجيه قوي لهذه الأمة أن تحمل الأمانة بقوة ولا تتهاون مع انتشار المنكر والآثام، لئلا ينزل بها ما نزل بالأمم قبلها حين فشت فيها الموبقات والمعاصي والفواحش.
قال تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران: 104].
وقد حفلت السنة الصحيحة بأحاديث كثيرة في آفاق هذا المعنى، منها:
الحديث الأول: أخرج أبو داود بسند صحيح عن قيس، قال:[قال أبو بكر، بعد أن حمد الله وأثنى عليه: يا أيها الناس، إنكم تقرؤون هذه الآية، وتضعونها على غير موضعها: {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} [المائدة: 105]، وإنا سمعنا النبي صلى الله عليه وسلم يقول:"إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعُمَّهم الله بعقاب". وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ما من قومٍ يُعْمَلُ فيهم بالمعاصي، ثم
يقدرون على أن يُغَيِّروا، ثم لا يغيِّروا إلا يوشك أن يعمهم الله منه بعقاب"] (1).
الحديث الثاني: أخرج ابن ماجه بسند صحيح عن أبي سعيد الخدري: [أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قام خطيبًا، فكان فيما قال: ألا، لا يَمْنَعَنَّ رجُلًا، هيبةُ الناسِ، أنْ يقولَ بحقٍّ، إذا علمه". قال: فبكى أبو سعيد، وقال: قد والله! رأينا أشياء، فهبنا](2).
الحديث الثالث: أخرج أبو داود بسند صحيح عن رجل من أصحاب النبي: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [لَنْ يهلكَ الناس حتى يَعْذِروا، أو يُعْذِروا، مِنْ أنفسهم](3).
وقوله: {وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ} .
قال مجاهد: (في ملكهم وتجبّرهم، وتركوا الحق). وقال ابن عباس: ({وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ}، قال: ما أُنظروا فيه). وقال قتادة: (من دنياهم).
قال ابن جرير: (إن الله أخبر تعالى ذكره: أن الذين ظلموا أنفسهم من كل أمة سلفت، فكفروا بالله، اتبعوا ما أنظروا فيه من لذّات الدنيا، فاستكبروا وكفروا بالله، واتبعوا ما أنظروا فيه من لذات الدنيا، فاستكبروا عن أمر الله، وتجبَّروا وصدوا عن سبيله. {وَكَانُوا مُجْرِمِينَ}، يقول: وكانوا مكتسبي الكفر بالله).
وقوله تعالى: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} .
قال ابن كثير: (أخبر تعالى أنه لم يهلك قريةً إلا وهي ظالمة، ولم يأت قرية مصلحةً بأسُه وعذابُه قط حتى يكونوا هم الظالمين، كما قال تعالى: {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ} [هود: 101]، وقال: {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت: 46]).
118 -
123. قوله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ
(1) حديث صحيح. أخرجه أبو داود (4338) - كتاب الملاحم - باب الأمر والنهي. انظر صحيح سنن أبي داود - حديث رقم - (3644). ورواه ابن ماجه في السنن (4005) - كتاب الفتن -.
(2)
حديث صحيح. أخرجه ابن ماجه في السنن (4007) - كتاب الفتن - من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. انظر صحيح سنن ابن ماجه (3237).
(3)
حديث صحيح. أخرجه أبو داود في السنن - حديث رقم - (4347) - كتاب الملاحم - باب الأمر والنهي. انظر صحيح سنن أبي داود - حديث رقم - (3653).
الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (119) وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (120) وَقُلْ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ (121) وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (122) وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (123)}.
في هذه الآيات: خِطَابُ الله تعالى لنبيّه صلى الله عليه وسلم أنه - جلّت عظمته - قادر على جعل الناس كلهم على دين واحد، وإنما اقتضت حكمته تقسيم الهداية والإيمان، واختلاف القلوب والأحوال، فأهل الحق هم الناجون من الاختلاف، وأهل الباطل واقعون في الشقاق ومتاهات الأهواء، وقد قضى - جَلَّت حكمته - امتلاء جهنم من كفرة الجن والإنس. إن هذه القصص التي قصها الله عليك - يا محمد - من أخبار الرسل مع أقوامهم إنما هي لتثبيت فؤادك لمواجهة شرك قومك وعنادهم، وليصبر معك المؤمنون على جهاد أعدائهم، والعاقبة للمتقين. فالله وحده له غيب السماوات والأرض ومرجع جميع الأمور، فأفرده - يا محمد - بالعبادة والتوكل، فما ربك بغافل عَمَّا تعملون.
فقوله: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً} . قال قتادة: (يقول: لجعلهم مسلمين كلهم).
والمقصود: أن الله تبارك وتعالى قادر أن يجعل الناس كلهم على دين واحد، من كفر أو إيمان. كما في التنزيل:{وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا} [يونس: 99].
وقوله: {وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ} . قال مجاهد: (أهل الباطل، {إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ}، قال: أهل الحق).
أو قال: ({وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ} قال: أهل الحق وأهل الباطل، {إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ}، قال: أهل الحق).
وقال الحسن: (الناس كلهم مختلفون على أديان شتى، إلا من رحم ربك، فمن رحم غير مختلف). وقال عكرمة: (لا يزالون مختلفين في الهوى).
وقال قتادة: ({وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ}، فأهل رحمة الله أهل جماعة، وإن تفرقت دورهم وأبدانهم. وأهل معصيته أهل فرقة، وإن اجتمعت دورهم
وأبدانهم). وعن الأعمش: {وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ} ، قال: من جعله على الإسلام).
وقيل: لا يزالون مختلفين في الرزق، سخّر بعضهم لبعض.
قلت: والمعنى الأول هو الذي يدل عليه السياق، فالحديث ليس عن الرزق، وإنما عن الهداية والإيمان، فالمتمسكون بهدي الرسل هم القوم المرحومون الناجون من الاختلاف، والبقية في شقاق وضلال، واتباع للأهواء.
أخرج الإمام أحمد في المسند، وأبو داود والترمذي وابن ماجه في السنن، والحاكم من حديث أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[إن اليهود افترقت على إحدى وسبعين فرقة، وإنَّ النصارى افترقوا على ثنتين وسبعين فرقة، وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة، كُلُّها في النار إلا فرقة واحدة. قالوا: ومن هُمْ يا رسول الله؟ قال: ما أنا عليه وأصحابي](1).
وقوله: {وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} - أي لهذا الاختبار، في صدق الإيمان أو اتباع سبيل الكفار، فريق إلى الجنة وفريق إلى النار.
ومن أقوال أهل التأويل في ذلك:
1 -
قال الحسن: ({وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ}، قال: للاختلاف). قال: (خلق هؤلاء لجنته، وخلق هؤلاء لناره، وخلق هؤلاء لرحمته، وخلق هؤلاء لعذابه). وقال: (أما أهل رحمة الله فإنهم لا يختلفون اختلافًا يضرهم).
2 -
قال ابن عباس: {وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} ، قال: خلقهم فريقين، فريقًا يرحم فلا يختلف، وفريقًا لا يرحم يختلف، وذلك قوله:{فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ} [هود: 105]).
وبنحوه قال الإمام مالك: (خلقهم ليكونوا فريقين: فريقٌ في الجنة، وفريقٌ في السعير).
(1) حديث صحيح. أخرجه أحمد (2/ 332)، وأبو داود (4596)، والترمذي (2640)، وابن ماجه (3991)، وأبو يعلى (5910)، (5978)، (6117)، وابن حبان (6247)، (6731)، والحاكم (1/ 128) من حديث أبي هريرة، وله شواهد كثيرة، وورد من طرق يشُدُّ بعضُها بعضًا كما قال الحافظ ابن كثير في التفسير (3842).
3 -
قال مجاهد: ({وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ}، قال: للرحمة خلقهم). وقال عكرمة: (أهل الحق ومن اتبعه، لرحمته).
قلت: والراجح القول الأول والثاني، فإن الله تبارك وتعالى امتحن عباده بالإيمان واتباع المرسلين، فآمن من آمن، وكفر من كفر، فجعلهم في الآخرة فريقين: فريق في الجنة وفريق في السعير.
وقوله: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} .
أي كان ما قضى سبحانه من الامتحان وصدور الجن والإنس فريقين، فريق إلى الجنة وفريق إلى السعير، وتم قضاء الله وقدره بملء جهنم من الجنة والناس أجمعين، جزاء وفاقًا للذين كانوا لا يرجون حسابًا، وأسعد المؤمنين بروضات في جنات النعيم، لقاء صبرهم على الإيمان والدين.
وفي التنزيل:
1 -
قال تعالى: {وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [السجدة: 13].
2 -
وقال تعالى: {وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ} [الزمر: 71].
ومن كنوز السنة الصحيحة في آفاق معنى الآية أحاديث:
الحديث الأول: أخرج البخاري ومسلم عن أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[لا تزال جهنم يلقى فيها وتقول: {هَلْ مِنْ مَزِيدٍ} حتى يضع فيها ربُّ العزة قدمه (وفي رواية: حتى يضع رب العزة عليها قدمه) فينزوي بعضها إلى بعض، وتقول: قَطْ قَطْ، وعزَّتك وكرمك، ولا يزال في الجنة فضل، حتى ينشئ الله لها خلقًا آخر، فيسكنهم في فضول الجنة](1).
قال البغوي في شرح السنة (15/ 257): (والقدم والرجلان، كما جاء في صحيح البخاري ومسلم وغيرهما، من صفات الله سبحانه وتعالى، المنزه عن التكييف والتشبيه، وكذلك كل ما جاء من هذا القبيل في الكتاب أو السنة، كاليد، والإصبع، والعين، والمجيء، والإتيان، فالإيمان بها فرض، والامتناع عن الخوض فيها
(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري في صحيحه - حديث رقم - (6661) - كتاب الأيمان والنذور - وكذلك (4848) - كتاب التفسير - ورواه مسلم في الصحيح (2848) من حديث أنس.
واجب، فالمهتدي من سلك فيها سبيل التسليم، والخائض فيها زائغ، والمنكر معطل، والمكيّف مشبه، تعالى الله عما يقول الظالمون علوًا كبيرًا {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} سبحان ربنا رب العزة عما يصفون).
الحديث الثاني: أخرج البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [اختصمت الجنة والنار، فقالت الجنة: ما لي لا يدخُلني إلا ضَعَفَةُ الناس وسَقَطُهم، وقالت النار: أوثِرتُ بالمتكبرين والمتجبِّرين. فقال الله عز وجل للجنة: أنت رحمتي، أرحم بك من أشاء. وقال للنار: أنت عذابي، أنتقم بك ممن أشاء، ولكل واحدة منكما مِلْؤُها](1).
الحديث الثالث: أخرج الإمام أحمد في المسند عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [لما خلق الله الجنة قال لجبريل: اذهب فانظر إليها، فذهب فنظر إليها ثم جاء فقال: أيْ ربِّ! وعزتك لا يسمع بها أحد إلا دخلها، ثم حفَّها بالمكاره، ثم قال: يا جبريل! اذهب فانظر إليها، فذهب، ثم نظر إليها، ثم جاء فقال: أي رب! وعزتك لقد خشيت أن لا يدخلها أحد، فلما خلق الله النار، قال: يا جبريل! اذهب فانظر إليها، فذهب فنظر إليها، ثم جاء فقال: وعزتك لا يسمع بها أحد فيدخلها، فحفّها بالشهوات، ثم قال: يا جبريل اذهب فانظر إليها، فذهب، فنظر إليها فقال: أي رب وعزتك لقد خشيت أن لا يبقى أحد إلا دخلها](2).
وقوله: {وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ} .
أي: إن هذه الأخبار عن أمم الأقدمين وتكذيبهم رسلهم وكيف دارت الأيام وكانت العاقبة والغلبة للمؤمنين هي مما يقص الله عليك - يا محمد - ليثبت به فؤادك عما تلقى من تكذيب قومك وعنادهم.
وقوله: {وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ} . قال ابن عباس: (في هذه السورة). وقال قتادة: (في هذه الدنيا).
وقول ابن عباس أصح وأنسب للسياق. قال ابن كثير: (والصحيح: في هذه السورة
(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (4849)، (4850)، ومسلم (2846) ح (35)، (36)، وأخرجه الترمذي (2561)، وأخرجه أحمد (2/ 314، 279، 507) من طرق، عن أبي هريرة.
(2)
حديث صحيح. رواه أحمد بسند صحيح من حديث أبي هريرة. انظر تخريج مشكاة المصابيح (5696)، وصحيح الجامع الصغير - حديث رقم - (5086).
المشتملة على قصص الأنبياء وكيف نجّاهم الله والمؤمنين بهم وأهلك الكافرين، جاءك فيها قَصَصٌ حق، ونبأ صِدْقٌ، وموعظة يرتدعُ بها الكافرون، وذكرى يتذكر بها المؤمنون) - وهو قوله:{وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} .
وقوله تعالى: {وَقُلْ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ} - تهديد من الله للكفار على لسان نبيّهم - أي قل لهم يا محمد: امضوا على منهجكم وعلى طريقتكم لتروا مصيركم نهاية المطاف، فإنا ماضون على سنتنا ومنهاج ربنا وكلنا أمل أن النصر والعاقبة لنا.
وقوله تعالى: {وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ} . أي: ترقبوا ما وعدكم الله فإنا مترقبون ما وعدنا.
قال ابن جريج: (يقول: انتظروا مواعيدَ الشيطان إياكم على ما يزيّنُ لكم، {إِنَّا مُنْتَظِرُونَ}).
وفي التنزيل: {فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} [الأنعام: 135].
إِخْبَارٌ من الله تعالى أنه علام الغيوب، والمستقبل بين يديه، ومآل كل أمر إليه، فله الخلق والأمر والكبرياء وحده لا شريك له، وقد أمر عباده بعبادته وحده والتوكل عليه والإنابة إليه، ثم إنه تعالى لا يخفى عليه مكر المجرمين وأحوال الطغاة والمسرفين.
وعن ابن جريج: ({وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ} قال: فيقضي بينهم بحكمه بالعدل).
قال ابن جرير: ({فَاعْبُدْهُ}، يقول: فاعبد ربك، يا محمد، {وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ}، يقول: وفوِّض أمرك إليه، وثق به وبكفايته، فإنه كافي من توكّل عليه).
ثم روى عن عبد الله بن رباح، عن كعب، قال:(خاتمة "التوراة" خاتمة هود).
تم تفسير سورة هود
بعون الله وتوفيقه، وواسع مَنِّه وكرمه
° ° °