المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ منهاج السورة - التفسير المأمون على منهج التنزيل والصحيح المسنون - جـ ٦

[مأمون حموش]

الفصل: ‌ منهاج السورة

قلت: والمتن غريب فيه مبالغة كون السورة كانت تعدل البقرة، ولعل المقصود نسخ بعض آيات فقط، واللهُ تعالى أعلم.

‌موضوع السورة

سقوط الأحزاب وإبطال أحكام الجاهلية

-‌

‌ منهاج السورة

-

1 -

الأمر بالتقوى وعدم اتباع سبيل الكافرين والمنافقين، بل اتباعُ وحي رب العالمين.

2 -

لا يكون للشخص الواحد قلبان، وكذلكَ لا تصير زوجته التي ظاهرها أُمًّا له.

3 -

إنهاء حكم التبني الذي كانَ في الجاهلية، والاستعاضة بالأخوة في الدين والولاية فيه عما فات من النسب لمن لم يُعرف أبوه.

4 -

تقديم الرسول صلى الله عليه وسلم وحكمه، وتأكيد التوارث بالقرابات، وتبقى الأخوة في الدين.

5 -

أخذ العهد على النبيين بتبليغ الرسالة وإقامة الدين، واللهُ تعالى يسأل يوم الحساب عن الصدق وحمل الأمانة وللكافرين عذاب أليم.

6 -

تسخيرُ الله الرياح والجنود يوم الأحزاب لنصر المؤمنين في أزمة الموقف.

7 -

فضح الله سلوك المنافقين يوم الأحزاب، ونقضهم العهود، ومحاولات الفرار.

8 -

الرسول صلى الله عليه وسلم موضع الأسوة، والثناء من الله على الرجال الصادقين، وذم المنافقين.

9 -

أمر الله رسوله تخيير أزواجه، واختيارهن الله ورسوله والدار الآخرة.

10 -

تضعيف جزاء الفاحشة إن صدرت من بيت النبوة، ومضاعفة الأجر للقانتات من نساء خير البرية، والوصية الجامعة لهن ولمن بعدهن من نساء هذه الأمة.

11 -

ثناء الله تعالى على الرجال والنساء من المسلمين والمؤمنين والقانتين والصادقين والصابرين والخاشعين والمتصدقين والصائمين والحافظين فروجهم والذاكرين الله كثيرًا.

ص: 128

12 -

تقديم المؤمنين قول الله ورسوله وأمرهما على كل قول وأمر ورأي، وقصة زواجه صلى الله عليه وسلم بزينب بنت جحش التي كانت تحت متبناه زيد بن حارثة، ونسف أعراف الجاهلية.

13 -

نَعْتُ الله أتباع الرسل في جهادهم لتبليغ الدعوة، ونسْفُ المفهوم الجاهلي في التبني.

14 -

الأمر بالإكثار من ذكره تعالى، وذكر الله عباده الذاكرين، وتحيتهم يوم يلقونه سلام وقد أعدّ لهم الأجر الكريم.

15 -

إرسال الله رسوله بشيرًا ونذيرًا، وتحذيره طاعة المنافقين والكافرين وكفى بهِ تعالى وكيلًا.

16 -

تفصيل ما أحل الله لنبيّهِ صلى الله عليه وسلم من النكاح، وتوضيح الخيار لهُ في التقديم والتأخير والقَسْم.

17 -

نزول آية الحجاب، وتضمنها الأحكام الشرعية الجليلة والآداب الرفيعة.

18 -

استثناء بعض الأقارب من عموم وجوب الاحتجاب من الأجانب، واللهُ يعلمُ السرائر.

19 -

صلاة الله تعالى وملائكتهُ على النبي صلى الله عليه وسلم، والأمر للمؤمنين بامتثال هذا الخلق الحميد.

20 -

تهديد الله تعالى الذين يؤذونه، ويؤذون رسوله، والمؤمنين والمؤمنات.

21 -

الأمر للنساء بالجلباب، فهو الحجاب الشرعي الذي يحفظ الله به النساء من الفتنة.

22 -

تهديدُ الله المنافقين والمرجفين في المدينة بالطرد والخزي واللعن والعذاب الأليم، وتلك هي سنة الله في الذين مضوا ولا تبديل لسنة الله العلي العظيم.

23 -

تفرّد الله سبحانه بعلم الساعة، وتأكيد لَعْنِه تعالى الكافرين وقد أعدّ لهم سعيرًا، وفيه تقلب وجوههم ويسألون الله لساداتهم ورؤسائهم أن يضاعف لهم العذاب ويلعنهم لعنًا كبيرًا.

24 -

تحذيره تعالى عباده المؤمنين مشابهة المنافقين من بني إسرائيل الذين آذوا موسى فبرأه الله من كذبهم، وأَمْرُهُ لهم أن يصدقوه التقوى ففي ذلكَ نجاتهم وسعادتهم.

ص: 129

25 -

ثِقَلُ الأمانة وخشية السماوات والأرض والجبال من حملها، وتشريف الله الإنسان بحملها ليرفعه بها، فَزَلَّ بجهله بقدرها، وقد كتب اللهُ العذاب على المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات، والمغفرة للمؤمنين والمؤمنات.

* * *

ص: 130

بسم الله الرحمن الرحيم

1 -

3. قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (1) وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (2) وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (3)}.

في هذه الآيات: أمرُ الله تعالى نبيَّهُ صلى الله عليه وسلم وهو أمر لأمته - بتقوى الله وعدم اتباع الكافرين والمنافقين، بل اتباع وحي رب العالمين، والتوكل عليه وكفى بهِ وكيلًا ونصيرًا للمؤمنين.

فقوله: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ} - تنبيه بالأعلى على الأدنى، فالخطاب وإن كان لشدّ عزيمة النبي صلى الله عليه وسلم في الثبات على الحق والصبر على ما يلقاهُ، فهو لمن دونه من أمتهِ من باب أولى. قال النسفي:({اتَّقِ اللَّهَ} اثبت على تقوى الله وَدُمْ عليهِ وازدد منهُ، فهو باب لا يدرك مداه). وقال طَلْقُ بن حَبيب: (التقوى أن تعملَ بطاعة الله، على نور من الله، ترجو ثواب الله، وأن تتركَ معصية الله، على نور من الله، مخافة عذاب الله).

وقوله: {وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ} . قال ابن جرير: (فلا تقبل منهم رأيًا ولا تستشرهم مستنصحًا بهم، فإنهم لك أعداء).

وقوله: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} . قال ابن كثير: (أي: فهو أحقُّ أَنْ تَتَّبعَ أوامرَهُ وتُطيعهُ، فإنه عليمٌ بعواقب الأمور، حكيم في أقواله وأفعاله).

وقوله: {وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} . أي: وَعَظِّم منهاج الوحي الذي يلقى إليكَ فوق كل منهاج، فإن في الوحيين - القرآن والسنة - منهاج الاتباع الأكمل.

وعن قتادة: ({وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} أي هذا القرآن).

وقوله: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} . أي: إن ربك - يا محمد - يعلم كل

ص: 131

أعمالكم - أنت وأصحابك - لا يخفى عليه صبركم وجهادكم، وهو مجازيكم على ذلكَ خير الجزاء.

وقوله: {وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} . أي: وفوّض أمرك يا محمد إلى الله، فإنه بالتوكل يُرفع مقام العبد، ويحظى من ربه بالتأييد والفرج والنصر.

وقوله: {وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا} . أي: وحسبكَ يا محمد باللهِ حفيظًا وكفيلًا.

وفي التنزيل نحو ذلك:

1 -

قال تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران: 173].

2 -

وقال تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} [الزمر: 62].

3 -

وقال تعالى: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا} [الفرقان: 58].

وفي صحيح البخاري عن ابن عباس: [{حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ}: قالها إبراهيم عليه السلام حين ألقي في النار، وقالها محمد صلى الله عليه وسلم حين قالوا: {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ}](1).

وروى البخاري عن ابن عباس قال: [كان آخرَ قَولِ إبراهيم عليه السلام حين أُلقي في النار: حَسبي اللهُ ونعم الوكيل](2).

4 -

5. قوله تعالى: {مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ (4) ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا

(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (4563)، كتاب التفسير، سورة آل عمران، آية:(173).

(2)

حديث صحيح. أخرجه البخاري في صحيحه (4564)، كتاب التفسير، عند ذكر الآية السابقة.

ص: 132

آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (5)}.

في هذه الآيات: تقريرُ الله تعالى أنه كما لا يكونُ للشخص الواحد قلبان، كذلكَ لا تصير زوجته التي ظاهرها أمًا لهُ، ولا يصير الدعي ولدًا، بل يلحق بأبيه، فإن لم يعرف الأب فهو أخ لكم في الدين، والله يعفو عن الخطأ وهو الغفور الرحيم.

فقوله: {مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ} . قال ابن كثير: (يقول تعالى مُوَطِّئًا قَبل المقصود المعنوي أمرًا حِسِّيًا معروفًا، وهو أنه كما لا يكونُ للشخص الواحد قلبان في جَوفهِ، ولا تصير زوجتُه التي يُظاهر منها بقوله: أنتِ عليَّ كظهر أمي، أمًّا له، كذلكَ لا يصير الدَّعِيُّ ولدًا للرجلِ إذا تبنَّاهُ فدعاه ابنًا لهُ، فقال: {مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ}، كقوله تعالى: {مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا} [المجادلة: 2]).

وقوله: {وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ} . هو المقصود بالنفي. قال مجاهد: (نزلت هذه الآية في زيد بن حارثة).

وقوله: {ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ} . أي: لا حقيقة له. فمن قال لامرأتهِ أنتِ علي كظهر أمي، أو ادّعى من ليس ابنه أنه ابنه إنما لا يثبتُ ذلكَ بالدعوى، فلا تصير الزوجةُ أمًا ولا يصيرُ المتبنَّى ولدًا.

وقوله: {وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ} . قال سعيد بن جبير: ({يَقُولُ الْحَقَّ}، أي: العدل). وقال قتادة: ({وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ}، أي: الصراط المستقيم).

وقوله: {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ} .

أخرج البخاري ومسلم عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: [أنَّ زَيد بن حارثة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كنا ندعوهُ إلا زيد بن محمد، حتى أنزل اللهُ: {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ}](1). وفي لفظ: [حتى نزل القرآن: {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ

اللَّهِ}].

(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (4782)، كتاب التفسير، سورة الأحزاب، آية (5). وأخرجه مسلم في الصحيح (2425)، وكذلك الترمذي (3209)، والنسائي في "التفسير"(416).

ص: 133

قلت: وللآية سبب نزول آخر، ولعلهُ قد نزلت بهما جميعًا.

فقد أخرج البخاري والنسائي وأحمد عن عائشة رضي الله عنها قالت: [أتت سهلةُ بنت سهيل بن عمرو - وكانت تحتَ أبي حذيفة بن عتبة - رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: إن سالمًا يدخلُ علينا وأنا فُضل، وأنا كنا نراهُ ولدًا وكان أبو حذيفة تبناه كما تبنى رسول الله صلى الله عليه وسلم زيدًا، فأنزل اللهُ: {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ}]. وقولها: "وأنا فُضل" وفي لفظ عند أبي داود: "ويراني فُضلًا" أي مبتذلة في ثياب المهنةِ والبيت.

ورواه مسلم عن ابن أبي مُلَيْكَةَ، عن القاسم، عن عائشة:[أنَّ سالمًا مولى أبي حُذيفةَ كانَ مع أبي حذيفة وأهلهِ في بيتهم. فأتَتْ يعني بنتَ سُهَيْل، النبي صلى الله عليه وسلم. فقالت: إن سالمًا قد بلغَ ما يَبْلُغُ الرجال، وعَقَلَ ما عَقَلُوا، وإنه يَدْخُلُ علينا، وإني أظُنُّ أن في نَفسِ أبي حُذيفة مِنْ ذلكَ شيئًا. فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: أرضعيه تَحْرُمي عليه، ويَذْهَبُ الذي في نفس أبي حذيفة. (وفي رواية: قالت: وكيفَ أُرضِعُهُ؟ وهو رجلٌ كبير، فتبسَّمَ رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: قد علمتُ أنه رجلٌ كبير). (وفي رواية: فقالت إنه ذو لحية. فقال: أرضعيه يذهَبُ ما في وجهِ أبي حذيفة). فرجعتْ إليهِ فقالت: إني قد أرضَعْتُهُ، فذهبَ الذي في نفس أبي حذيفة](1).

فسالم بن عبيد بن ربيعة قد تبناه أبو حذيفة على عادة العرب، ونشأ في حجر أبي حذيفة وزوجته، نشأة الابن، فلما نزل قوله تعالى:{ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ} بطل حكم التبني فشق عليهما أن يمنعاه الدخول لسابق الألفةِ فسألته سهلة كما سبق.

وقد فصّل أبو داود في السنن في ذلكَ، فروى عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، وأم سلمة: [أنَّ أبا حذيفة بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس، كان تَبَنَّى سالمًا، وأنكحهُ ابنة أخيه هند بنت الوليد بن عتبة بن ربيعة، وهو مولى لامرأة من الأنصار. كما تبنّى رسول الله صلى الله عليه وسلم زيدًا - وكان من تَبَنَّى رجلًا في الجاهليةِ دعاه الناس إليه وَوُرِّثَ ميراثه - حتى أنزل اللهُ سبحانه وتعالى في ذلكَ:{ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ} إلى قوله: {فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ} فرُدُّوا إلى آبائهم، فمن لم يُعْلم له أب، كان مولىً، وأخًا في الدين. فجاءت سهلةُ بنت سهيل بن عمرو القرشي، ثم العامري، وهي امرأة أبي حذيفة. فقالت: يا رسول الله، إنا كنا نرى سالمًا ولدًا، وكان يأوي معي، ومع أبي حذيفة في

(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم (1453)، كتاب الرضاع، باب رضاعة الكبير، وأخرجه أبو داود (2061)، وابن حبان (4214) من حديث عائشة. ورواه البخاري بنحوه وكذلكَ أحمد والنسائي.

ص: 134

بيت واحد، ويراني فُضُلًا، وقد أنزل اللهُ عز وجل فيهم ما قد علمت، فكيفَ ترى فيه؟ فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم:"أرضعيه". فأرضعتهُ خمس رضعات، فكان بمنزلةِ ولدها من الرضاعة. فبذلكَ كانت عائشة تأمر بنات أخواتها، وبنات إخوتها: أَنْ يُرضِعْنَ مَن أحبت عائشة أَنْ يراها ويدخل عليها، وإن كان كبيرًا، خَمْسَ رضعاتٍ ثم يدخل عليها. وأبت أمُّ سلمة، وسائر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم: أن يدخلن عليهن بتلكَ الرضاعة أحدًا من الناس، حتى يرضع في المهد، وقلْنَ لعائشة: والله ما ندري لعلها كانت رخصة من النبي لسالم دون الناس] (1).

قلت: والصحيح أنها حادثة عين يمكن تكرّرها بأشباهها في كل زمان، وقد وجدت أيام التخصص في الولايات المتحدة الأمريكية مثل هذه الأحوال، حيث يكثر التبنّي هناك في العائلات المحافظة بتعاون بينهم وبين الكنيسة لحل مشكلة الأولاد اللقطاء الذين يفرزهم فاسد العلاقات في تلك المجتمعات، فيحصل أحيانًا أن يسلم الرجل وزوجته ويتبعهما الطفل الذي نشأ في حجرهما - وقد يكونا قد تعلقا به إذ لا ولد لهما - فيكون حل مشكلةِ دخوله عند كبره في إرضاعه وهو كبير.

وقوله: {فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ} .

أَمْرٌ بردِّ أنساب الأدعياء إلى آبائهم، فإن لم يَعْرِفوا آباءهم فهم إخوانكم في الدين إن كانوا من أهل مِلّتكم ومواليكم إن كانوا محرَّريكم وليسوا ببنيكم.

فعن قتادة: ({ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ} أي أعدل عند الله {فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ} فإن لم تعلموا من أبوه فإنما هو أخوك ومولاك).

قال النسفي: ({فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ} أي فهم إخوانكم في الدين وأولياؤكم في الدين، فقولوا هذا أخي وهذا مولاي، ويا أخي ويا مولاي، يريد الأخوة في الدين والولاية فيه).

والمقصود: إنهاء حكم التبني الذي كان في الجاهليةِ وفي أول الإسلام، والاستعاضة بالأخوة في الدين والولاية فيه عما فات من النسب لمن لم يُعرف أبوه. وقد تزوج النبي صلى الله عليه وسلم بزينب بنت جحش مطلقة متبنّاه زيد بن حارثة بعد هذا الحكم كما قال

(1) حديث صحيح. أخرجه أبو داود في السنن (2061)، كتاب النكاح، باب فيمن حرم به. وانظر صحيح سنن أبي داود (1815)، وأصله في الصحيحين.

ص: 135

تعالى: {لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا} [الأحزاب: 37].

وفي الصحيحين من حديث أبي ذر أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: [ليسَ من رجل ادّعى لِغيرِ أبيهِ وهو يَعْلَمُهُ، إلا كفر](1).

وفي صحيح البخاري من حديث البراء مرفوعًا - لما اعتمر النبي صلى الله عليه وسلم عمرة القضاء - وفيه: [فتبعته ابنةُ حَمْزَةَ تُنادي: يا عَمِّ يا عَمِّ، فتناولها عليٌّ فأخذ بيدها وقال لفاطمة عليها السلام: دونكِ ابنة عمِّك، حَمَلتْها، فاختصمَ فيها علي وَزيدٌ وجعفرٌ فقال عليٌّ: أنا أخذتها وهي بنتُ عمِّي، وقال جعفرٌ: هي ابنةُ عمي وخالتُها تحتي - يعني أسماء بنت عميس -، وقال زيْدٌ: بنتُ أخي، فقضى بها النبي صلى الله عليه وسلم لخالتِها وقال: الخالةُ بمنزلةِ الأم. وقال لعلي: أنت مني وأنا مِنْك. وقال لجعفر: أشبهت خلقي وخُلُقي. وقال لزيد: أنتَ أخونا ومولانا](2).

قال الحافظ ابن كثير معقبًا على هذا الحديث - وقد ذكره عند تفسير هذه الآية -: (ففي هذا الحديث أحكامٌ كثيرةٌ من أحسنها أنه صلى الله عليه وسلم حَكَمَ بالحق، وأرضى كُلًّا من المتنازعين، وقال لزيد: "أنتَ أخونا ومولانا"، كما قال تعالى: {فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ}).

وقوله: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} . أي: ما كان من نسب أحدكم بعضهم لغير أبيهِ خطأ بعد استفراغ الوسع والاجتهاد فلا حرج فيه. قال قتادة: ({وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ} يقول: إذا دعوت الرجل لغير أبيهِ، وأنت ترى أنه كذلك {وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} يقول الله: لا تدعه لغير أبيه متعمدًا. أما الخطأ فلا يؤاخذكم الله به).

وفي التنزيل نحو ذلك:

1 -

قال تعالى: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: 286].

وقد ثبت في صحيح مسلم ومسند أحمد أن الله تعالى قال: (قد فعلت).

(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (3508)، ومسلم (61) - واللفظ له - كتاب الإيمان.

(2)

حديث صحيح. أخرجه البخاري (4251)، كتاب المغازي، باب عمرة القضاء. وأخرجه أحمد (4/ 298)، وابن حبان (4873) من حديث البراء مطوّلًا.

ص: 136

2 -

وقال تعالى: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ} [المائدة: 89].

ومن صحيح السنة المطهرة في آفاق هذا المعنى أحاديث:

الحديث الأول: أخرج البخاري عن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [إذا اجتهد الحاكمُ فأصاب فله أجران، وإن اجتهدَ فأخطأ فله أجر](1).

وفي لفظ: [إذا حكم الحاكم فاجتهدَ ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر].

الحديث الثاني: أخرج الإمام أحمد في المسند، ومسلم في الصحيح، من حديث أبي هريرة مرفوعًا:[فأنزل الله: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} قال: نعم](2). وفي حديث ابن عباس: قال الله: [قد فعلت](3).

الحديث الثالث: أخرج الإمام أحمد في المسند، وابن ماجة في السنن، عن أبي ذر مرفوعًا:[إنَّ الله تعالى تجاوز لي عن أمتي الخطأ والنسيانَ وما استكرهوا عليهِ]. ولفظ ابن ماجة: [إن الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه](4).

وله شاهد عند البيهقي من حديث أبي هريرة بلفظ: [إن الله تجاوز لأمتي عما توسوسُ به صدورهم ما لم تعمل أو تتكلم به، وما استكرهوا عليه](5).

6.

قوله تعالى: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُولُو

(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري في الصحيح - حديث رقم - (7352) - كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة - من حديث عمرو بن العاص رضي الله عنه.

(2)

حديث صحيح. أخرجه مسلم (125)، وأحمد (2/ 412)، وأبو عوانة (1/ 76)، وغيرهم.

(3)

حديث صحيح. أخرجه مسلم (126)، وأحمد (1/ 233)، والترمذي (2992)، والنسائي في "التفسير"(79)، وأخرجه ابن حبان (5069)، والطبري (6454).

(4)

حديث صحيح. أخرجه ابن ماجة (1/ 630)، والحاكم (2/ 198)، وانظر تخريج "الإرواء"(82)، ورواه أحمد، والدارقطني (497). وهو صحيح بمجموع طرقه وشواهده.

(5)

حديث صحيح. أخرجه البيهقي وبنحوه الطحاوي (2/ 56) - شرح معاني الآثار. وابن حزم في "أصول الأحكام"(5/ 149)، وانظر صحيح الجامع (1725) - (1727).

ص: 137

الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا (6)}.

في هذه الآية: تقديمُ الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم ليقدمهُ المؤمنون على أنفسهم، وتأكيدُ التوارث بالقرابات بدلًا من التوارث بالحلف والأخوة في الدين كما كان الأمرُ أول الإسلام، ويبقى النصر والبر والصلة - بين الإخوان - والإحسان.

فقوله: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} - تقديم من الله لرسوله ليكونَ مقدمًا عند المؤمنين على أنفسهم لكونه أرحم بهم وأشفق وأنصح لهم.

قال مجاهد: (هو أب لهم). وَرُوي أنه في بعض القراءة "وهو أبٌ لهم". وقال ابن زيد: (كما أنتَ أولى بعبدكَ، ما قضى فيهم من أمر جاز).

وفي التنزيل نحو ذلك:

1 -

قال تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَاعَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 128].

2 -

وقال تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65].

ومن صحيح السنة العطرة في آفاق ذلكَ أحاديث:

الحديث الأول: أخرج البخاري ومسلم عن أنس رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[لا يؤمن أحدكم حتى أكونَ أحبَّ إليهِ مِن والِدهِ وولده والناس أجمعين](1).

الحديث الثاني: أخرج مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [مِنْ أشدِّ أمَّتي لي حُبًّا، ناس يكونون بعدي، يودُّ أحدهم لو رآني بأهله ومالِه](2).

الحديث الثالث: أخرج البخاري في صحيحه عن عبد الله بن هشام قال: [كُنّا مع

(1) حديث صحيح. أخرجه الشيخان من حديث أنس. انظر مختصر صحيح البخاري (15) ص (12)، وصحيح مسلم (44)، كتاب الإيمان.

(2)

حديث صحيح. أخرجه مسلم في الصحيح (8/ 145)، وله شاهد في مسند أحمد (5/ 156) صححه الألباني في سلسلةِ الأحاديث الصحيحة (1418).

ص: 138

النبي صلى الله عليه وسلم وهو آخِذٌ بِيَدِ عُمَرَ بن الخطاب، فقال له عُمَر: يا رسول الله، لأنتَ أحبُّ إليَّ مِنْ كُلِّ شيء إلا من نفسي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا والذي نفسي بيدهِ حتى أكونَ أحبَّ إليكَ من نَفْسِكَ. فقال لهُ عُمر: فإنه الآن واللهِ لأنتَ أحبُّ إلَيَّ من نَفسي. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: الآن يا عُمر] (1).

الحديث الرابع: أخرج أبو داود بسند حسن عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ["إنما أنا لكم بمنزلة الوالد أُعَلِّمُكُم، فإذا أتى أحدكم الغائطَ فلا يستقبل القبلةَ ولا يستدبرها، ولا يَستَطِبْ بيمينه". وكان يأمر بثلاثة أحجار، وينهى عن الرَّوث والرِّمَّة](2).

الحديث الخامس: أخرج البخاري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [ما من مؤمن إلا وأنا أولى الناسِ بهِ في الدنيا والآخرة، اقرؤوا إن شئتم: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} فأيما مؤمن ترك مالًا فليرثْهُ عَصَبَتُه مَنْ كانوا، فإن تَرَكَ دَيْنًا أَوْ ضِياعًا فليأتني فأنا مولاه](3).

وقوله: {وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} . قال قتادة: (يعظّم بذلكَ حقّهن). وقال ابن زيد: (محرّمات عليهم). قال ابن كثير: {وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} ، أي: في الحُرمةِ والاحترام، والإكرام والتوقير والإعظام، ولكن لا تجوز الخَلوة بهنَّ، ولا ينتشر التحريم إلى بناتهن وأخواتهن بالإجماع).

وقوله: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ} .

أخرج الطيالسي والطبراني بسند صحيح عن ابن عباس قال: [آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم

(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري في صحيحه - حديث رقم - (6632)، كتاب الأيمان والنذور، باب: كيفَ كانت يمين النبي صلى الله عليه وسلم؟ .

(2)

حديث حسن. أخرجه أبو داود (8)، كتاب الطهارة، وأخرجه النسائي (1/ 38)، وابن ماجة (312)، وأخرجه أحمد (2/ 250)، وابن حبان (1440) وإسنادهُ حسن من أجل محمد بن عجلان.

(3)

حديث صحيح. أخرجه البخاري (2399) عند هذه الآية، وكذلك (4781)، ورواه أحمد في المسند (2/ 356)، ورواه ابن جرير (28337).

ص: 139

بين أصحابه وورث بعضهم من بعض، حتى نزلت:{وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} [الأنفال: 75]. فتركوا ذلكَ وتوارثوا بالنسب] (1).

والمقصود: القرابات أولى بالتوارث {فِي كِتَابِ اللَّهِ} أي: في حكم الله، من التوارث بالحِلف وأخوة الدين كما كان عليهِ الأمرُ أول الإسلام، لمَّا آخى النبي صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار، فنسخ الله تعالى ذلكَ بهذه الآية. قال ابن عباس:(كان المهاجري يرث الأنصاري دون قراباته وذوي رحمه، للأخوة التي آخى بينهما رسول الله صلى الله عليه وسلم) ..

وقوله: {إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا} . قال ابن زيد: (إلا أن توصوا لهم). قال ابن كثير: (أي: ذهَبَ الميراث، وبَقي النصر والبرُّ والصِّلة والإحسان والوصية).

وقوله: {كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا} . قال ابن زيد: (أي: أن أولي الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله). والمقصود: هذا الحكم من التوارث بالنسب مسطور في اللوح المحفوظ لا يبدل ولا يغيّر، وإنما شرع تعالى خلافَهُ لحكمة في مدة محدّدة، ثم رَجَعَ الأمر إلى ما هو مكتوب في الكتاب الأزلي لا تبديل لكلمات الله.

7 -

8. قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (7) لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا أَلِيمًا (8)}.

في هذه الآيات: أَخْذُ الله تعالى العهد على النبيين بتبليغ الرسالة وإقامة الدين، وسيسأل سبحانهُ عباده عن الصدق في حمل الأمانة، وأعدّ للكافرين العذاب الأليم.

فقوله: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ} . قال القاسمي: (أي أخذنا عهودهم بتبليغ الرسالة والدعاء إلى الحق والتعاون والتناصر والاتفاق وإقامة الدين وعدم التفرق فيه).

وفي التنزيل نحو ذلك. قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ

(1) حديث صحيح. أخرجه الطيالسي والطبراني. وقال الهيثمي في "مجمع الزوائد": رجاله رجال الصحيح. انظر: "الصحيح المسند من أسباب النزول" - الوادعي - سورة الأنفال، آية (75). وانظر مستدرك الحاكم (4/ 344 - 345).

ص: 140

كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ} [آل عمران: 81].

وقوله: {وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} .

هؤلاء أولو العزم من الرسل، وخصّ من بينهم نبينا محمدًا صلى الله عليه وسلم بالبداية لشرفه صلى الله عليه وسلم في الدنيا والآخرة، ثم رتّبهم حسب تعاقبهم.

أخرج ابن ماجة بسند صحيح عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [أنا سَيِّدُ وَلَدِ آدمَ ولا فَخْرَ. وأنا أَوَّلُ مَنْ تَنْشَقُّ الأرضُ عَنْهُ يوم القيامةِ وَلا فخْرَ. وأنا أَوَّلُ شافِعٍ وَأَوَّلُ مُشَفَّعٍ ولا فَخْرَ. ولواءُ الحمدِ بيدي يومَ القيامةِ ولا فَخْرَ](1).

فالآية بدأت بالحديث عن النبيين ثم جاء التخصيص لأولي العزم منهم وعلى رأسهم أشرفهم وخاتمهم.

قال أبو السعود: (وتخصيصهم بالذكر، يعني قوله: {وَمِنْكَ} إلخ مع اندراجهم في النبيين، للإيذان بمزيد مزيتهم وفضلهم وكونهم من مشاهير أرباب الشرائع وأساطين أولي العزم. وتقديمُ نبينا عليهم، عليهم الصلاة والسلام، لإبانة خطره الجليل).

وقوله: {وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا} . قال ابن عباس: (الميثاق الغليظ: العهد).

وقال قتادة: (ميثاق أخذه الله على النبيين، خصوصًا أن يصدّق بعضهم بعضًا، وأن يتبعَ بعضهم بعضًا).

وقوله: {لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ} . قال مجاهد: (المبلغين المؤدين من الرسل).

وقوله: {وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا أَلِيمًا} . قال ابن جرير: (يقول: وأعدّ للكافرين بالله من الأمم عذابًا موجعًا).

9 -

11. قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (9) إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ

(1) حديث صحيح. أخرجه ابن ماجة في السنن (4308)، كتاب الزهد، باب ذكر الشفاعة. وانظر صحيح سنن ابن ماجة - حديث رقم - (3477).

ص: 141

فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10) هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا (11)}.

في هذه الآيات: امتنانُ الله تعالى على عبادهِ يوم الأحزاب تسخيره الرياح والجنود لنصرهم، وقد جاءهم الكفار من فوقهم ومن أسفل منهم، وصعب الموقف على المؤمنين وكاد يزلزلهم.

فلقد كان لسياسة المباغتة العسكرية التي قام بها النبي صلى الله عليه وسلم في أرجاء شبه الجزيرة العربية أقوى الأثر فى بسط النفوذ في الصحراء، أضف إلى ذلك كسر رأس قريش بتحديها للقدوم إلى بدر الموعد، أضف إلى ذلكَ محاصرة اقتصاد مكة بتهديد طرق تجارتها، أضف إلى ذلك إذلال المسلمين ليهود بني قينقاع وبني النضير وإجلائهم، وشعور بني قريظة بالذل والصغار من بعدهم، كل ذلكَ قد هيأ الظروف لتحالف وثني يهودي لقتال النبي صلى الله عليه وسلم.

وقد ذهب - بالفعل - نفر مِنْ قادة يهود إلى قريش، يغرونهم بالمدد ودعايات الكذب، وأن دين قريش خير مما جاء به محمد، ويستنفرونهم للتحرك جميعًا للقضاء على محمد ودينه، وأن ذلكَ أرضى لله. يروي ابن إسحاق بإسناد رجاله ثقات من حديث عاصم بن عمر بن قتادة وعبد الله بن كعب وغيرهم قالوا:(إنه كان من حديث الخندق أن نفرًا من اليهود، منهم سلاّم بن أبي الحُقيق النضري، وحُيَيّ بن أخطب النّضري، وكنانة بن أبي الحقيق النضري، وهَوذة بن قيس الوائلي، وأبو عَمَّار الوائلي، في نفر من بني النضير ونفر من بني وائل، وهم الذين حَزَّبوا الأحزاب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، خرجوا حتى قدموا على قريش مكةَ، فدعوهم إلى حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقالوا: إنا سنكون معكم عليه حتى نستأصله، فقالت لهم قريش: يا معشر يهود، إنكم أهل الكتاب الأول والعلم بما أصبحنا نَخْتَلِفُ فيهِ نحن ومحمد، أفديننا خير أم دينه؟ قالوا: بل دينكم خير من دينه، وأنتم أولى بالحق منه. فهم الذين أنزل الله تعالى فيهم: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا (51) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا} [النساء: 51 - 52]

إلى قوله تعالى: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} -أي النبوة- {فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا (54) فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ

ص: 142

سَعِيرًا}. فلما قالوا ذلكَ لقريش، سرّهم ونشطوا لما دعوهم إليه من حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم. فاجتمعوا لذلكَ واتعدوا له، ثم خرج أولئكَ النفر من يهودَ، حتى جاؤوا غطفان، من قيس عيلان، فدعوهم إلى حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخبروهم أنهم سيكونون معهم عليهِ، وأن قريشًا قد تابعوهم على ذلك، فاجتمعوا معهم فيه) (1).

وقد وعد وفد اليهود غطفان نصف ثمر خيبر إن هم شاركوا في هذا التحالف - كما ذكر موسى بن عقبة - تحريضًا منهم لغطفان لخوض معركة فاصلة ضد النبي صلى الله عليه وسلم، واستعادة الكبرياء في الأرض والسيطرة على طرق التجارة من جديد.

وهكذا نجح أبناء القردة والخنازير من يهود بتأليب القبائل والأعراب وأحزاب الكفر على النبي صلى الله عليه وسلم، لتخرج هذه الجموع من الأحزاب لملاقاة المسلمين في شوال من السنة الخامسة للهجرة.

قال ابن إسحاق: حدثني يزيد بن رومان في قول الله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا} . قال: (والجنود قريش وغطفان وبنو قريظة، وكانت الجنود التي أرسل اللهُ عليهم مع الريح: الملائكة).

وقوله: {وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا} . قال ابن جرير: (يقول تعالى ذكره: وكان اللهُ بأعمالكم يومئذ، وذلكَ صبرهم على ما كانوا فيهِ من الجَهْدِ والشّدةِ، وثباتهم لعدوهم، وغير ذلكَ من أعمالهم، بصيرًا لا يخفى عليهِ من ذلكَ شيء، يُحصيهِ عليهم، ليجزيهم عليه).

لقد خرج من الجنوب جيشُ قريش وكنانة وحلفاؤهم من أهل تهامة، يقودهم أبو سفيان بن حرب في أربعة آلاف مقاتل، ووافاهم بنو سليم بمر الظهران، في حين خرجت قبائل غطفان من الشرق وهم: بنو فزارة يقودهم عيينة بن حصن، وبنو مرة يقودهم الحارث بن عوف، وبنو أشجع يقودهم معسر بن رخيلة، كما خرجت بنو أسد وقبائل أخرى. واتجهت هذه الأحزاب جميعًا نحو المدينة، لتلتقي قريبًا منها على ميعاد قد اتفقت عليه، ليجتمع بعد أيام حول المدينة جيش مترامي الأطراف قوامُه عشرة آلاف مقاتل، ربما يزيدُ على عدد سكان المدينة بنسائها وصبيانها وشبابها وشيوخها.

إلا أن قيادة المدينة كانت متيقظة حذرة، فقد نقلت استخبارات النبي صلى الله عليه وسلم إليهِ خبر

(1) حديث حسن. انظر سيرة ابن هشام (2/ 214 - 215) بإسناد رجاله ثقات، وقد صرّح ابن إسحاق بالتحديث. وانظر كتابي: السيرة النبوية على منهج الوحيين (2/ 886 - 887).

ص: 143

تجمع الأحزاب خبرًا بعد خبر حتى مستقرها الأخير. فهرعَ النبي صلى الله عليه وسلم لعقد مجلس استشاري عسكري أعلى، تبادل فيهِ الرأي مع قيادة المهاجرين والأنصار حول خطة الدفاع عن المدينة لمواجهة هذا الزحف الوثني اليهودي السافر. وقد أفرز هذا المجلس السريع عن تألق فكر الصحابي النبيل سلمان الفارسي رضي الله عنه الذي قدّمَ خطة عالية الدقة للقائد الأعلى عليه الصلاة والسلام، إذ قال:(يا رسول الله، إنا كنا بأرض فارس إذا حوصرنا خندقنا علينا).

وقد كانت خطة فريدة حكيمة لم تسمع بها العرب من قبل، فهرع الأصحاب للتنفيذ - بأمر نبيهم صلى الله عليه وسلم.

يروي البخاري في صحيحه عن أنس قال: [جعل المهاجرون والأنصار يحفرون الخندق حول المدينةِ، وينقلون التراب على متونهم وهم يقولون:

نحن الذين بايعوا محمدًا

على الإسلام ما بقينا أبدا

قال: فيقول النبي صلى الله عليه وسلم وهو يجيبهم:

اللهم إنه لا خير إلا خير الآخرهْ

فبارك في الأنصار والمهاجرهْ

قال: يؤتون بملء كَفِّي من الشعير فَيصنعُ لهم بإهالة (1) سَنِخَةٍ (2) توضَعُ بين يدي القوم، والقوم جِياعٌ، وهي بَشِعَةٌ في الحَلْقِ ولها رِيحٌ مُنْتِنٌ] (3).

لقد طغت حرارة الإيمان على البرد والجوع القارصين، وعلى شدة التعب ومشقة الحفر، فتناسوا الآلام في سبيل هذا الدين، فيالذة النظر إليهم وهم يحفرون بقوة وينقلون التراب على أكتافهم وظهورهم، وفيهم من كان لا يخدم نفسه عادة - من التجارة والزعماء - لتوفر الخدم والعبيد والإماء، ويا طرب الأسماع لو أصغت إلى أهازيجهم وهي تدور بينهم وبين نبيهم.

ولما وصل المشركون أخذوا يحاولون اقتحام الخندق الذي فوجئوا بهِ ولكن دون جدوى، فلقد أمطرهم المسلمون ورشقوهم بالنبل.

واشتد الخطب على المسلمين، وزادت آلام الحصار والانتظار، فقد سُعِرَ عشرة

(1) الإهالة: هي الدهن من الشحم أو السمن أو الزيت يؤتدم به.

(2)

سنخة: أي متغيرة الرائحة والطعم.

(3)

حديث صحيح. أخرجه البخاري (4100)، كتاب المغازي، باب غزوة الخندق وهي الأحزاب.

ص: 144

آلاف من قريش ويهود وقبائل العرب ضدهم، ولجأ زعماء اليهود إلى المكر والخديعة وألبوا بني قريظة لتنقض العهد وتظهر الغدر.

لقد خشي المسلمون على نسائهم وذراريهم من هذا الغدر المتوقع، ومكثوا في حالة قلق وهمّ وصفها القرآن في هذه السورة - سورة الأحزاب - وهي: قوله تعالى: {إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10) هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا} .

قال قتادة: ({وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ}: شخصت). وعن عكرمة: ({وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ} قال: من الفزع).

فقد أخبر القرآن أنهم أحاطت بهم الأحزاب من فوقهم، في حين هددتهم بنو قريظة من أسفل منهم، وقد ظن المنافقون بالله الظنون، ونزل بالمؤمنين بلاء عظيم كادَ أن يزلزلهم، لولا تثبيت الله سبحانه لهم، وتألق التربية النبوية الدقيقة التي أسعفتهم في مثل هذه الأحوال. وقال النسفي:({إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ} أي من أعلى الوادي من قبل المشرق بنو غطفان {وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ} من أسفل الوادي من قبل المغرب قريش {وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ} مالت عن سننها ومستوى نظرها حيرةً أو عدلت عن كل شيء فلم تلتفت إلا إلى عدوها لشدة الروع {وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ} الحنجرة رأس الغلصمة وهي منتهى الحلقوم، والحلقوم مدخل الطعام والشراب، قالوا: إذا انتفخت الرئة من شدةِ الفزع أو الغضب ربت وارتفع القلب بارتفاعها إلى رأس الحنجرة. وقيل: هو مثل في اضطراب القلوب وإن لم تبلغ الحناجر حقيقة). وعن الحسن: (قوله: {وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا}: ظنونًا مختلفة، ظن المنافقون أن محمدًا وأصحابه يُستأصلون، وأيقن المؤمنون أن ما وعدهم الله حق، أنه سيظهره على الدين كله ولو كره المشركون).

وعن مجاهد: (قوله: {هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ} قال: محصوا).

قال ابن جرير: (قوله: {وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا} يقول: وحُرِّكوا بالفتنةِ تحريكًا شديدًا، وابتلوا وفتنوا).

12 -

20. قوله تعالى: {وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا (12) وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَاأَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ

ص: 145

فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا (13) وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا (14) وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولًا (15) قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لَا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا (16) قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (17) قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا (18) أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (19) يَحْسَبُونَ الْأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ مَا قَاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا (20)}.

في هذه الآيات: فضحُ الله تعالى سلوك المنافقين يوم الأحزاب ونقضهم العهود ومحاولات الفرار من الجهاد بتقديم الأعذار الكاذبة، والله يعلم ما في قلوبهم، وهو العزيز الحكيم.

فعن قتادة: {وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا} . قال: قال ذلكَ أُناسٌ من المنافقين: قد كان محمد يَعِدُنا فتح فارس والروم، وقد حُصِرنا هاهنا، حتى ما يستطيع أحدُنا أَنْ يبرز لحاجته، ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورًا).

لقد غلب الجبن والإرجاف المنافقين والذين في قلوبهم شك يوم الخندق، وشدتهم الدنيا ليركنوا إليها، فلجؤوا إلى تخذيل المؤمنين والسخرية بهذه البشارة: فتح فارس واليمن والشام.

فقد أخرج الإمام أحمد في المسند، والإمام النسائي في السنن، بسند حسن عن البراء قال: [لما كان يوم الخندق عرضت لنا في بعض الخندق صخرة لا تأخذ منها المعاول، فاشتكينا ذلكَ لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاء وأخذ المعول فقال: باسم الله، ثم

ص: 146

ضرب ضربة (فكسر ثلثها) وقال: اللهُ أكبر، أعطيتُ مفاتيح الشام، واللهِ إني لأنظر قصورها الحمر الساعة. ثم ضرب الثانية فقطع الثلث الآخر، فقال: اللهُ أكبر، أعطيت فارس، واللهِ إني لأبصر قصر المدائن الأبيض الآن، ثم ضرب الثالثة، فقال: باسم الله، فقطع بقية الحجر، فقال: اللهُ أكبر، أعطيت مفاتيح اليمن، والله إني لأبصر أبواب صنعاء من مكاني] (1).

وقوله: {وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَاأَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا} .

أي: وإذ قال بعضهم يا أهل يثرب لا مكان لكم تقومون فيه فارجعوا إلى منازلكم.

قال ابن جرير: (أمرهم بالهرب من عسكر رسول الله صلى الله عليه وسلم والفرار منهُ، وترك رسول الله صلى الله عليه وسلم).

وقوله: {وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا} .

قال ابن عباس: (هم بنو حارثة، قالوا: بيوتنا مخلية نخشى عليها السرق).

وعن مجاهد: ({إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ} قال: نخشى عليها السرق). قال قتادة: (إنما كانوا يريدون بذلكَ الفرار).

وقال ابن زيد: (قوله: {وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا} يقول: لو دخلت المدينة عليهم من نواحيها {ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا} سئلوا أن يكفروا لكفروا، قال: وهؤلاء المنافقون لو دخلت عليهم الجيوش، والذين يريدون قتالهم ثم سئلوا أن يكفروا لكفروا. قال: والفتنة: الكفر، وهي التي يقول الله: {وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ} أي: الكفر، يقول: يحملهم الخوف منهم، وخبث الفتنة التي هم عليها من النفاق أن يكفروا به).

وقد قرأ عامة قراء المدينة وبعض قراء مكة: {لَآتَوْهَا} بقصر الألف، بمعنى جاؤوها، في حين قرأها عامة قراء الكوفة والبصرة {لَآتَوْهَا} يقول: لأعطوها، وكلاهما جائز.

وعن قتادة: {ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ} : أي الشرك {لَآتَوْهَا} يقول: لأعطوها، {وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا} يقول: إلا أعطوه طيبة به أنفسهم ما يحتبسونه).

(1) حديث حسن. أخرجه أحمد (4/ 303)، والنسائي (6/ 43 - 44)، وحَسَّنَ إسناده الحافظ في الفتح (7/ 397). وانظر تمام البحث في كتابي: السبرة النبوية (2/ 886).

ص: 147

وقوله تعالى: {وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولًا} .

أي: إنما أراد هؤلاء المنافقون الفرار من المعركة مستهينين بعقد الإيمان الذي يلزمهم بالثبات وعدم الفرار يوم الزحف، وبمعاهدة الله من قبل أن لا يولوا عدوّهم الأدبار فما أوفوا بعهدهم، واللهُ سيسألهم سبحانه عن نقضهم عهده.

وقوله تعالى: {قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لَا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا} .

أي: فأخبر الله نبيّهُ ليقول لهم: إنّ الموت أو القتل الذي تفرون منه لا يزيد في أعماركم وآجالكم، وإنما تمتعون في هذه الدنيا إلى الوقت الذي كتب لكم.

قال قتادة: (وإنما الدنيا كلها قليل). وقال ربيع بن خيثم: (قوله: {وَإِذًا لَا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا} قال: إلى آجالهم).

وقوله: {قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا} .

قال ابن جرير: (يقول تعالى ذكره: قل يا محمد لهؤلاء الذين يستأذنونك ويقولون: إن بيوتنا عورة هربًا من القتل. من ذا الذي يمنعكم من الله إن هو أراد بكم سوءًا في أنفسكم، من قتل أو بلاء أو غير ذلك، أو عافية وسلامة؟ وهل ما يكون بكم في أنفسكم من سوءٍ أو رحمةٍ إلا من قِبَله؟ ).

وقوله تعالى: {قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا} .

أي: إن الله يعلم يا محمد أولئك الذين يعوقون الناس عن الجهاد معك وتحدي الأعداء في ساحة القتال، فيخذلون الناس لينصرفوا عنكَ يقولون لهم: إنا نخاف عليكم الهلاك بهلوكه.

قال قتادة: (هؤلاء ناس من المنافقين كانوا يقولون لإخوانهم: ما محمد وأصحابه إلا أكلة رأس، ولو كانوا لحمًا لالتهمهم أبو سفيان وأصحابه، دعوا هذا الرجل فإنه هالك).

ففضحهم الله تعالى في التنزيل فقال: {قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا (18) أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ} . قال قتادة: ({أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ} في

ص: 148

الغنيمة). وقال مجاهد: (بالخير). وقال غيره: (معناه: أشحة عليكم بالنفقة على ضعفاء المؤمنين منكم).

وقوله: {فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ} .

أي: فإذا حضر البأس، يا محمد، وجاء القتال وحمي الوطيس، خافوا الهلاك والقتل، رأيت الجبن يفتت قلوبهم وهم ينظرون إليكَ لِواذًا بك، تدور أعينهم كدوران الذي يُغشى عليه من الموت النازل به، ولكن إذا انقطعت الحرب واطمأنوا تحركت ألسنتهم بالنفاق والطلب من الغنيمة.

قال قتادة: (أما عند الغنيمة، فأشحّ قوم، وأسوأ مُقاسمة، أعطونا أعطونا، فإنا قد شهدنا معكم. وأما عند البأس فأجبن قوم، وأخذله للحق).

وفي لغة العرب: خطيب مِسْلق أي فصيح، ورجل مسلاق أي مبالغ في الكلام.

والمقصود: خاطبوكم مخاطبة شديدة وآذوكم بالكلام.

وقوله: {أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا} .

أي: فأولئك يا محمد الذين كذبوا ولم يصدقوا الإيمان فأذهب الله أجور أعمالهم وأبطلها، قوم أشحة على الغنيمة إذا ظفر المسلمون، فُرَّارٌ جبناء إذا كان القتال ووجب الثبات. فتضييعهم وأجورهم هين عليه سبحانه فإنه - تعالى - يخذل المنافقين.

وقوله: {يَحْسَبُونَ الْأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا} . قال مجاهد: (يحسبونهم قريبًا). قال ابن جرير: (يقول تعالى ذكره: يحسب هؤلاء المنافقون الأحزاب، وهم قريش وغطفان. {لَمْ يَذْهَبُوا} يقول: لم ينصرفوا، وإن كانوا قد انصرفوا جبنًا وهَلعًا منهم).

والمقصود: أنه لشدةِ ما هم فيهِ من الجبن والخور والخوف يحسبون أن الأحزاب لم ينسحبوا وسيعودوا.

وقوله: {وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ} .

أي: وإن يأت الأحزاب المؤمنين يتمنى المنافقون من شدة ما هم عليه من الخوف والجبن أنهم غيب عنكم في البادية مع الأعراب خوفًا من القتل.

وقوله: {يَسْأَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ} . أي يسألون كل قادم عليهم من جانب المدينةِ عن أخباركم وعما جرى عليكم، فهم يتمنون أن يسمعوا أخبار هلاككم.

ص: 149

وقوله: {وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ مَا قَاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا} . قال ابن كثير: (أي: ولو كانوا بين أظهركم لما قاتلوا معكم إلا قليلًا، لكثرة جبنهم وذِلَّتهم وضعف يقينهم. واللهُ سبحانه وتعالى العالم بهم). وقال ابن جرير: (يقول تعالى ذكره للمؤمنين: ولو كانوا أيضًا فيكم ما نفعوكم، وما قاتلوا المشركين إلا قليلًا: يقول: إلا تعذيرًا، لأنهم لا يقاتلونهم حسبة ولا رجاء ثواب).

21 -

27. قوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا (21) وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا (22) مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا (23) لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (24) وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا (25) وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا (26) وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا (27)}.

في هذه الآيات: تأكيدُ الله تعالى للمؤمنين أن رسوله صلى الله عليه وسلم هو موضع القدوة والأسوة لهم، وثناؤه تعالى على الرجال الصادقين مع الله في عهودهم، وذمُّه تعالى الكافرين والمنافقين وتصويره الخزي والذل الذي لحق باليهود مقابل غدرهم.

فقوله: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} . أصل عظيم في التأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم في أقواله وأفعالهِ ومنهاجه الأكمل.

قال ابن جرير: (لقد كان لكم في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة، أن تتأسوا بهِ، وتكونوا معه حيث كان، ولا تتخلفوا عنه).

وقد هدّد الله تعالى في سورة النساء من لا يرتاح لحكم الوحي في الفصل في الحكم، بل يجد رأيه أحكم وأصوب، فقال جل وعز: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى

ص: 150

يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65].

قال مجاهد: ({حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ}، يقول: شكًا). وقال الضحاك: (إثمًا، {وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} يقول: ويسلموا لقضائك وحكمك، إذعانًا منهم بالطاعة، وإقرارًا لك بالنبوة تسليمًا).

وكان عبد الله بن مسعود يقول: (اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كفيتم).

وفي التنزيل نحو ذلك:

1 -

قال تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء: 115].

2 -

وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء: 59].

3 -

وقال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [آل عمران: 31]. وقال هنا: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} .

ومن كنوز السنة العطرة في آفاق هذه الآية أحاديث:

الحديث الأول: أخرج مسلم في صحيحه عن عائشة مرفوعًا: [ما بالُ رجال بلغهم عني أمر ترخصت فيه فكرهوه وتنزهوا عنه؟ فواللهِ لأنا أعلمهم باللهِ وأشدهم له خشية](1).

الحديث الثاني: أخرج أحمد في المسند بسند صحيح عن سمرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [إذا حدثتكم حديثًا، فلا تزيدُنَّ علي](2).

الحديث الثالث: أخرج الحاكم والطبراني بسند صحيح عن ابن مسعود مرفوعًا: [إنه ليس شيءٌ يقربكم إلى الجنة إلا قد أمرتكم به، وليسَ شيءٌ يقربكم إلى النار إلا قد نهيتكم عنه].

(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم في الصحيح (2356)، كتاب الفضائل، باب علمه صلى الله عليه وسلم بالله تعالى وشدة خشيته. ورواه أحمد وغيره. انظر صحيح الجامع (5449).

(2)

حديث صحيح. أخرجه أحمد (5/ 11)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (346).

ص: 151

وفي لفظ عند الطبراني: [ما تركت شيئًا يقربكم إلى الله تعالى إلا وقد أمرتكم به، وما تركت شيئًا يبعدكم عن الله تعالى إلا وقد نهيتكم عنه](1).

وجاء في سير أعلام النبلاء عن الربيع قال: (سمعتُ الشافعي يقول: إذا وجدتم في كتابي خلاف سنةِ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقولوا بها، ودعوا ما قلتُه).

قال: وسمعت الشافعي يقول: (أي سماء تُظلني، وأي أرض تُقِلُّني إذا رويتُ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثًا فلم أقلْ به).

وجاء في أعلام الموقعين قول الإمام أحمد - كما يروي عنه أبو الحارث -: (لا يجوزُ الإفتاءُ إلا لرجل عالم بالكتاب والسنة).

وكان أبو حنيفة رحمه الله يقول: (لا يحلُّ لأحد أن يأخذ بقولنا ما لم يعرف مأخذهُ من الكتاب والسنة)(2).

وكان الإمام مالك يقول: (السنة سفينة نوح، من ركبها نجا، ومن تخلفَ عنها غرق)(3).

وقوله: {لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} .

أي: هذا التأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم هو منهاج لمن يرجو ثواب الله ورحمته في الآخرة، وأكثر ذكر الله في الخوف والشدة والرخاء.

قال ابن كثير: (ولهذا أمر تبارك وتعالى الناس بالتأسي بالنبي صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب، في صبره ومُصابرته ومُرابطتهِ ومجاهدته وانتظاره الفرجَ من ربه عز وجل، صلواتُ الله وسلامهُ عليه دائمًا إلى يوم الدين - ولهذا قال تعالى للذين تقلقلوا وتضجّروا وتزلزلوا واضطربوا في أمرهم يوم الأحزاب: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} أي: هلا اقتديتم به وتأسَّيْتُمْ بشمائله؟ ! ولهذا قال تعالى: {لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا}).

(1) أخرجه الطبراني في "الكبير"(1647)، وأخرجه الشافعي وابن خزيمة. انظر سلسلة الأحاديث الصحيحة (1803). ورواه الحاكم وغيره بلفظ مقارب. وانظر تفصيل البحث في مقدمة كتابي: السيرة النبوية على منهج الوحيين (1/ 20 - 27).

(2)

انظر رسالة: "رفع التردد" لابن عابدين، وكتاب:"أعلام المسلمين" - الدقر - (17).

(3)

انظر كتابي: السيرة النبوية على منهاج الوحيين: القرآن والسنة الصحيحة (1/ 22).

ص: 152

وقوله: {وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ} .

قال ابن عباس: (ذلكَ أن الله قال لهم في سورة البقرة: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة: 214]. قال: فلما مسهم البلاء حيث رابطوا الأحزاب في الخندق، تأول المؤمنون ذلك، ولم يزدهم ذلكَ إلا إيمانًا وتسليمًا).

والمقصود: لقد فرح المؤمنون الأوائل عند رؤية الأحزاب، فتذكروا وعد الله بالنصر الذي يعقب الابتلاء والاختبار والصدق، وبشائر رسوله صلى الله عليه وسلم حين بشرهم بفتح البلاد إلى فارس والروم. فقالوا:{هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ} .

وقوله: {وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا} . قال قتادة: (وتصديقًا بما وعدهم الله، وتسليمًا لقضاء الله). والمقصود: ما زادهم ذلكَ الضيق والحصار والشدة إلا إيمانًا باللهِ وانقيادًا لرسوله.

والآية دليل على زيادة الإيمان، فإن الإيمان يزيدُ وينقص كما ثبت في الكتاب والسنة.

ففي التنزيل:

1 -

قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا} [الأنفال: 2].

2 -

وقال تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ} [الفتح: 4].

3 -

وقال تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا} [آل عمران: 173].

ومن صحيح السنة المطهرة في ذلكَ أحاديث:

الحديث الأول: أخرج البخاري ومسلم عن أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم:[لا يؤمن أحدكم حتى أكونَ أحبَّ إليهِ مِنْ والدهِ وولدهِ والناس أجمعين](1).

(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (15)، كتاب الإيمان. وانظر مختصر صحيح مسلم (23).

ص: 153

الحديث الثاني: أخرج البخاري عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [يخرج من النار من قال لا إله إلا الله وفي قلبهِ وَزْنُ شعيرة من خير (وفي رواية معلقة وصلها الحاكم ووصلها البخاري: من إيمان)، ويخرج من النار من قال لا إله إلا الله وفي قلبه وَزْنُ بُرَّةٍ مِنْ خَيْر، ويخرج من النار من قال لا إله إلا الله وفي قلبهِ وزن ذرة من خير](1).

الحديث الثالث: روى مسلم من حديث أبي هريرةَ مرفوعًا: [لا تؤمنوا حتى تحابوا](2).

وكتب عُمر بن عبد العزيز إلى عديِّ بن عديِّ: (إن للإيمان فرائضَ وشرائعَ وحدودًا وسُننًا، فمن استكملها استكمل الإيمان، ومن لم يستكملها لم يستكمل الإيمان، فإن أعش فسأبيِّنُها لكم حتى تعملوا بها، وإن أَمُتْ فما أنا على صحبتكم بحريص)(3).

وقوله تعالى: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا} .

أي: من المؤمنين رجال وفوا بما عاهدوا الله عليهِ، فمنهم من فرغ من عمله ورجعَ إلى ربهِ كمن استشهدَ يوم بدر ويوم أحد، ومنهم من هو مرابط ينتظرُ ما وعد الله من نصره أو الشهادة، وما بدلوا تبديلًا.

أخرج البخاري ومسلم والنسائي والترمذي وأحمد عن أنس رضي الله عنه قال: [غاب عمي أنس بن النضر عن قتال بدر، فقال: يا رسول الله غبت عن أول قتال قاتلت المشركين، لِئن الله أشهدني قتال المشركين ليريَنَّ اللهُ ما أصنع. فلما كان يوم أحد وانكشفَ المسلمون قال: اللهم إني أعتذر إليكَ مما صنع هؤلاء - يعني أصحابه - وأبرأ إليكَ مما صنع هؤلاء - يعني المشركين - ثم تقدَّمَ فاستقبله سعد بن معاذ، فقال: يا سعد بن معاذ! الجنةُ وربّ النضر، إنى أجد ريحها من دون أُحد. قال سعد: فما استطعت يا رسول الله ما صنع. قال أنس: فوجدنا به بضعًا وثمانين ضربةً بالسيفِ أو طعنةً برمحٍ أو رمية بسهم، ووجدناهُ قد قُتِلَ وقد مَثَّلَ بهِ المشركونَ، فما عرفه أحد إلا أختهُ ببنانه. قال أنس: كنا نرى أو نظن أنَّ هذه الآية نزلت فيهِ وفي أشباهه: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ

(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري من حديث أنس. انظر مختصر صحيح البخاري (41) - الزبيدي.

(2)

حديث صحيح. وهو جزء من حديث أبي هريرة، انظر مختصر صحيح مسلم - حديث رقم - (42).

(3)

ذكره البخاري في كتاب الإيمان من صحيحه: "باب: قول النبي صلى الله عليه وسلم بني الإسلام على خمس". وهو قول وعمل، ويزيد وينقص. وانظر: مختصر صحيح البخاري ص (6 - 7) - الألباني.

ص: 154

رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا}] (1).

وعن مجاهد: ({فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ} قال: عهده فقتل أو عاش {وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ} يومًا فيهِ جهاد، فيقضي نحبهُ وعهده، فيقتل أو يصدق في لقائه).

وقال أيضًا: ({فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ}: مات على العهد). قال: (النحب: العهد).

وعن ابن عباس: ({فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ}، قال: الموت على ما عاهد الله عليه، {وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ} الموت على ما عاهد الله عليه).

وعن قتادة: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ} على الصدق والوفاء {وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ} من نفسه الصدق والوفاء).

قال ابن الأثير في "النهاية": (النحب: النذر، كأنهُ ألزم نفسهُ أن يصدق أعداء الله في الحرب، فوفى بهِ، وقيل: النحب الموت، كأنه يلزم نفسهُ أن يقاتل حتى يموت).

أخرج ابن سعد في "الطبقات"، وأبو يعلى في المسند، عن عائشة بنت طلحة عن عائشة قالت:[إني لفي بيتي، ورسولُ الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه بالفناء، وبيني وبينهم الستر، أقبل طلحة بن عبيد الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من سرَّهُ أن ينظر إلى رجل يمشي على الأرض وقد قضى نحبه فلينظر إلى طلحة](2).

وفي سنن ابن ماجة بسند حسن عن معاوية بن أبي سفيان، قال: نظر النبي صلى الله عليه وسلم إلى طلحة فقال: [هذا ممن قضى نحبه](3).

ثم روى في الباب عن موسى بن طلحة قال: كنا عند معاوية فقال: [أشهد لسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: طلحة ممن قضى نحبه].

وله شاهد عند الترمذي وابن ماجة من حديث جابر بن عبد الله قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: [من سرَّهُ أَنْ ينظر إلى شهيد يمشي على وجه الأرض فلينظر إلى

(1) حديث صحيح. انظر صحيح البخاري (4783)، وصحيح مسلم (1903)، وسنن الترمذي (3200)، وأخرجهُ النسائي في "التفسير"(422)، وأحمد في المسند (3/ 194).

(2)

حديث صحيح بمجموع طرقه. أخرجه ابن سعد في "الطبقات"(3/ 1/ 155)، وأخرجه أبو يعلى في "مسنده"(ق 232/ 1)، وأبو نعيم في "الحلية"(1/ 88)، وله شاهد عند الحاكم (2/ 415 - 416)، وانظر سلسلة الأحاديث الصحيحة (125).

(3)

حديث حسن. أخرجهُ ابن ماجة في السنن (126). باب في فضائل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، انظر صحيح سنن ابن ماجة (103)، وكذلك (104) للحديث بعده.

ص: 155

طلحة بن عبيد الله] (1). وفي لفظ ابن ماجة: [مرّ طلحة بالنبي صلى الله عليه وسلم فقال: شهيد يمشي على وجه الأرض]. ورواه البغوي في "التفسير" بلفظ: [نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى طلحةَ بن عبيد الله فقال: من أحبّ أَنْ ينظر إلى رجل يمشي على وجه الأرض قد قضى نحبه فلينظر إلى هذا].

وقوله: {وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا} . قال قتادة: (يقول: ما شكُّوا وما ترددوا في دينهم، ولا استبدلوا به غيره). وقال ابن زيد: (لم يغيروا دينهم كما غيّر المنافقون).

والمقصود: أنهم ثبتوا على الوفاء والصدق، والدين الحق، واستمروا على ما عاهدوا الله عليه، ولم ينقضوه كما نقض المنافقون وأهل الزيغ الذين قالوا:{إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا} . {وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولًا} [الأحزاب: 15].

وقوله: {لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ} . قال النسفي: (بوفائهم بالعهد).

وقوله: {وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ} . أي: إذا لم يتوبوا. قال ابن جرير: (بكفرهم بالله ونفاقهم).

وقوله: {أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} . أي: إذا تابوا، فيخلصهم من نفاقهم ويعينهم على سلوك سبيل الهداية والإيمان. قال قتادة:(يقول: إن شاء أخرجهم من النفاق إلى الإيمان).

وقوله: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا} . أي: إنه تعالى سِتِّير على ذنوب التائبين، رحيم بالتائبين المنيبين أن يعاقبهم بعد صدق توبتهم.

وفى المسند وسنن أبي داود عن يعلى بن أمية، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[إنَّ الله تعالى حَيِيٌّ سِتِّير يحب الحياء والسِّتر، فإذا اغتسل أحدكم فليستتر](2).

وفي سنن ابن ماجة عن ابن عمر قال: [كانَ تُعَدُّ لرسول الله صلى الله عليه وسلم في المجلس الواحد مئة مرة من قبل أن يقوم: رب اغفر لي، وتب عليّ، إنك أنتَ التواب الغفور](3).

(1) أخرجه الترمذي (2/ 302 - بولاق)، والطيالسي في مسنده (1793)، وكذلكَ ابن ماجة (125)، وانظر تفسير البغوي (7/ 528)، وسلسلة الأحاديث الصحيحة (126).

(2)

حديث صحيح. أخرجه أبو داود (4012). انظر صحيح أبي داود (3387)، ورواه أحمد في المسند. انظر تخريج "الإرواء"(2393)، وصحيح الجامع (1752).

(3)

حديث صحيح. أخرجه ابن ماجة (3814)، باب الاستغفار. انظر صحيح ابن ماجة (3075).

ص: 156

وقوله: {وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا} . قال مجاهد: (الأحزاب).

وقال قتادة: (وذلكَ يوم أبي سفيان والأحزاب، ردّ الله أبا سفيان وأصحابهُ بغيظهم لم ينالوا خيراّ {وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ} بالجنود من عنده، والريح التي بعث عليهم).

وفي سنن النسائي بسند صحيح عن عبد الرحمن بن أبي سعيد عن أبيهِ قال: [شغلنا المشركون يوم الخندق عن صلاة الظهر حتى غربت الشمسُ وذلكَ قبل أن ينزل في القتال ما نزل الله عز وجل: {وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ} فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بلالاّ فأقامَ لِصلاةِ الظهر فصلاها كما كانَ يصليها لوقتها، ثم أقام للعصر فصلاها كما كان يصليها في وقتها، ثم أذَّنَ المغرب فصلَّاها كما كان يصليها في وقتها](1).

فقوله: {وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ} - إذ لم يحتاجوا إلى منازلة عدوهم ومبارزتهم، بل تكفّل اللهُ تعالى إجلاءهم عن بلادهم وردّهم أذلاء صاغرين. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد باتَ يصلي ويجأر إلى الله تعالى بالدعاء، وكان من دعائهِ كما روى الإمام مسلم:[اللهم منزل الكتاب، سريع الحساب، اهزم الأحزاب. اللهم اهزمهم وزلزلهم](2).

وقد استجاب اللهُ دعاء نبيهِ صلى الله عليه وسلم فأرسل ريح الصبا وحمَّلها نصر جنده، فاقتلعت خيام الأحزاب، وكفأت قدورهم وأطفات نيرانهم ودفنت رحالهم. فخرج المسلمون من الحصار فرحين يلهجون بالتكبيرِ وحمد الله، وهم يرون قوافل جيوش الكفر والأحزاب تشق طريق الصحراء، وقد انفضت عن أرض المعسكر تشتد انسحابًا وهربًا من كل جانب.

يروي البخاري في صحيحه عن سليمان بن صرد رضي الله عنه قال: [قال النبي صلى الله عليه وسلم يومَ الأحزاب: نغزوهم ولا يَغزوننا]. وفي رواية: [الآن نغزوهم ولا يغزونا، نحنُ نسير إليهم](3).

قلت: والحديث تصديق لإشارة الآية الكريمة: {وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ} . فقد

(1) حديث صحيح. أخرجه النسائي في السنن من حديث عبد الرحمن بن أبي سعيد عن أبيه. انظر صحيح سنن النسائي (638) بسند صحيح، كتاب الأذان. باب الأذان للفائت من الصلوات. وانظر الإرواء (1/ 257)، ورواه ابن جرير في "التفسير".

(2)

حديث صحيح. أخرجه مسلم (3/ 1363)، وانظر كتابي: السيرة النبوية (2/ 919) لتفصيل البحث.

(3)

حديث صحيح. انظر صحيح البخاري (4109)، (4110)، كتاب المغازي، باب غزوة الخندق.

ص: 157

وضع الله الحرب بين المؤمنين وقريش، ولم يغز المشركون بعدها المسلمين، بل غزاهم المسلمون في بلادهم. فقد سارَ إليهم عليه الصلاة والسلام يوم فتح مكة بعشرة آلاف مقاتل حتى أذل طغاتهم وكسر شوكة كبرائهم وزعمائهم، ومحا أسطورةَ غطرستهم في جزيرة العرب. وهكذا انتقل مسرح الأحداث والمعارك بعد غزوة الخندق بعيدًا عَنْ أرض المدينة إلى مكة والطائف وتبوك، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم من حصار الخندق يهلّل الله العظيم الذي أذل الكافرين، ونصر المؤمنين.

يروي البخاري في صحيحه عن أبي هريرةَ رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كانَ يقول:[لا إله إلا الله وحده، أعزَّ جنده، ونصر عبده، وغلب الأحزاب وحده، فلا شيء بعده](1).

وقوله: {وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا} . قال قتادة: (قويًا في أمره، عزيزًا في نقمته).

وقو: {وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ} . أي: وأنزل بني قريظة الذين ظاهروا أبا سفيان وراسلوه، ونكثوا العهد الذي بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم {مِنْ صَيَاصِيهِمْ} - أي من حصونهم.

فعن مجاهد: {وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ} قال: قريظة، يقول: أنَّزلهم من صياصيهم، قال: قصورهم). وقال قتادة: (أي من حصونهم وآطامهم). وقال ابن زيد: (الصياصي حصونهم التي ظنوا أنَّها مانعتهم من الله تبارك وتعالى. وأصل الصياصي: جمع صيصة، وعني بها هاهنا: حصونهم، والعرب تقول لطرف الجبل: صيصة. ويقال لأصل الشيء وأعلاه: صيصة. ومنه سميت

صياصي البقر، وهي قرونها؛ لأنَّها أعلى شيء فيها.

أخرج الإمام أحمد في إلمسند بسند صحيح عن عائشة رضي الله عنها قالت: [لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من الخندق ووضع السلاح واغتسل، فأتاه جبريل عليه السلام وعلى رأسهِ الغبار. قال: قد وضعت السلاح؟ فواللهِ ما وضعتُها. اخرج إليهم. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فأين؟ قال: هاهنا، فأشار إلى بني قريظة، فخرجَ رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم](2).

وفي رواية: [أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما فرغ من الأحزاب دخل المغتسل ليغتسل، فجاء

(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (4114)، كتاب المغازي، باب غزوة الخندق وهي الأحزاب.

(2)

حديث صحيح. انظر مسند أحمد (6/ 56)، (6/ 131)، (6/ 280) للروايات المختلفة.

ص: 158

جبريل عليه السلام فقال: أوقد وضعتم السلاح؟ ما وضعنا أسلحتنا بعد، انهد إلى بني قريظة. فقالت عائشة: كأني أنظر إلى جبريل عليه السلام من خلل الباب قد عصب رأسهُ من الغبار].

فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم واستنفر الناس وأعطى الراية علي بن أبي طالب، وسارَ بالمهاجرين والأنصار حتى نزلَ على بئر من آبار بني قريظة من ناحية أموالهم يقال له أنَّى كما ذكر ابن هشام، واستخلف على المدينة عبد الله بن أم مكتوم.

أخرج الإمام مسلم في صحيحه عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: [نادى فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم انصرف عن الأحزاب أن (لا يصلينَ أحد الظهر إلا في بني قريظة). - ورواه البخاري وفي لفظه: لا يصلين أحد العصر - قال فتخوَّف ناسٌ فوتَ الوقت فصلوا دون بني قريظة. وقال آخرون: لا نُصلي، إلا حيث أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن فاتنا الوقت. قال: فما عنف واحدًا من الفريقين](1).

ووصل علي بن أبي طالب رضي الله عنه في فئة من المسلمين، وتبعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى اجتمعَ ثلاثة آلاف مقاتل من الصحابة رضوان الله عليهم، أمام حصن بني قريظة، ومعهم من الخيل ثلاثون فرسًا، قد شدوا الحصار بقوة على يهود.

فحاصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسًا وعشرين ليلة، حتى جهدهم الحصار، وقذف الله في قلوبهم الرعب، إلى أن نزلوا على حكم سعد بن معاذ سيد الأوس؛ لأنهم كانوا حلفاءهم في الجاهلية واعتقدوا أنه يُحسن إليهم في ذلكَ كما فعلَ عبد الله بن أبي بن سلول في مواليهِ بني قينقاع، إلا أنهم خابوا في ظنهم حين قضى فيهم بما يخزيهم.

فقد أخرج الإمام أحمد بسند صحيح عن هشام عن أبيهِ عن عائشة قالت: [أصيب سعد يوم الخندق، رماه رجل من قريش يقال له حبان بن العرقة في الأكحل، فضرب عليهِ رسول الله صلى الله عليه وسلم خيمة في المسجد ليعوده من قريب. قال هشام: فأخبرني أبي أنهم نزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرد الحكم فيهم إلى سعد. قال: فإني أحكم أن تقتل المقاتلةُ وتسبى النساء والذرية وتقسم أموالهم. قال: قال أبي: فأُخْبِرْتُ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لقد حكمت فيهم بحكمِ الله عز وجل](2).

(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (4119)، كتاب المغازي، وأخرجه مسلم (1770)، كتاب الجهاد والسير. وانظر كتابي: السيرة النوية (2/ 934) - لتفصيل البحث.

(2)

حديث صحيح. أخرجه أحمد في المسند (3/ 22)، (3/ 71) - بإسناد صحيح.

ص: 159

ورواه البيهقي من حديث سعد بن أبي وقاص وفي لفظه: [قال: لقد حكمت فيهم بحكم الملك من فوق سبع سماوات](1).

وقوله: {وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ} . أي: حتى نزلوا على حكم سعد بن معاذ للتخلص من أهوال الخوف الذي سحق قلوبهم.

وقو: {فَرِيقًا تَقْتُلُونَ} ، قال قتادة:(الذين ضربت أعناقهم).

وقوله: {وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا} . قال أبو جعفر: (وهم نساؤهم وذراريهم الذين سبوا).

وقوله: ({وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ}. قال ابن إسحاق: (حدثني يزيد بن رومان: يقول: وملككم بعد مهلكهم أرضهم، يعني مزارعهم ومغارسهم وديارهم، يقول: ومساكنهم وأموالهم، يعني سائر الأموال غير الأرض والدور).

وعن ابن زيد: {وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ} قال: قريظة والنضير أهل الكتاب {وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا} قال: خيبر). وقال الحسن: {وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا} هي الروم وفارس، وما فتح الله عليهم). وقيل: هي مكة

وقوله: {وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا} . أي: وكانَ اللهُ على نصر المؤمنين وتوريثهم أموال وديار الكفار والمفسدين في الأرض قديرًا فلا يتعذر عليهِ شيء أرادهُ سبحانهُ، ولا يمتنعُ عليهِ فعل شيء وهو العزيز الحكيم.

28 -

29. قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا (28) وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا (29)}.

في هذه الآياتِ: أَمْرٌ من الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم بتخيير أزواجهِ بين البقاء معهُ على ضيق الحال، ولَهُنَّ على ذلكَ عند الله جزيل الثواب وحسن المآل، أو مفارقته إلى غيره ممن يحصل لهن عنده الحياة الدنيا وزينتُها، فاخترن الله ورسولهُ والدار الآخرة فرضي اللهُ عَنْهُنَ وأرضاهُنَ وجمع لهن بعد ذلكَ بين خيري الدنيا والآخرة.

(1) حديث صحيح. انظر الدلائل (4/ 18) - البيهقي. وكتابي: السيرة النبوية على منهج الوحيين: القرآن والسنة الصحيحة (2/ 940) - لتفصيل الحدث.

ص: 160

يروي البخاري في كتاب المظالم والغصب، وفي كتاب النكاح، وفي كتاب التفسير من صحيحه - وبنحوه روى الإمام مسلم - عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: [لم أزل حريصًا على أن أسأل عُمَرَ رضي الله عنه عن المرأتين من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم اللَّتين قال اللهُ لهما: {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} فحججت معه (وفي رواية: حتى حجّ وحججتُ معهُ) فعدل (1) وعدلت معهُ بالإداوة فتبرَّزَ حتى جاء فسكبتُ على يديهِ من الإداوة، فتوضأَ فقلتُ لهُ: يا أمير المؤمنين مَنْ المرأتان من أزواجِ النبي صلى الله عليه وسلم اللتان قال اللهُ عز وجل لهما: {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} فقال: واعجبي لك يا ابن عباس عائشة وحَفْصَةُ، ثم استقبل عُمَرُ الحديث يَسوقُه، فقال: إني كنتُ وجارٌ لي من الأنصار في بني أميةَ بن زَيْدٍ وهي من عوالي المدينة، وكنا نتناوب النزول على النبي صلى الله عليه وسلم فينزل يومًا وأَنْزِلُ يومًا، فإذا نزلتُ جِئْتُهُ من خبر ذلكَ اليومِ من الأمر وغيرهِ (وفي رواية: من الوحي أو غيره)، وإذا نزل فعلَ مِثلَهُ، وكنا معشرَ قريش نَغْلِبُ النساءَ، فلما قدمنا على الأنصار إذا هم قومٌ تغلبهم نساؤهم، فطَفِقَ نساؤنا يأخذن مِنْ أدب نساء الأنصار، فَصِحْتُ على امرأتي فراجعتني فإنكرْتُ أن تُراجِعَني، فقالت: ولم تُنكرُ أن أراجِعَكَ فواللهِ إِن أزواجَ النبي صلى الله عليه وسلم ليُراجِعْنَهُ، وإن إحداهُنَّ لَتَهْجُرُهُ اليومَ حتى الليل، (وفي رواية: فقالت لي: عجبًا لك يا ابن الخطاب! ما تريدُ أَنْ تُراجَعَ أَنْتَ وإِن ابنتكَ لتراجع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يظلَ يومَهُ غضبانَ) فأفزعني، فقلتُ: خابت من فَعَلَتْ مِنْهُنَّ بعظيم، ثم جمعت عليَّ ثيابي فدخلتُ على حفصةَ، فقلت: أي حَفْصَةُ أتُغَاضِبُ إحداكُنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم اليوم حتى الليل، فقالت: نَعَم، فقُلْتُ: خابت وخَسِرَتْ، أفتَأمَنُ أَنْ يغضبَ الله لغضب رسوله صلى الله عليه وسلم فتهلِكينَ، لا تستكثري على رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا تراجعي! في شيء ولا تَهْجُري! واسأليني ما بدا لكِ، ولا يَغُرَّنَكِ أن كانت جارَتُكِ هي أَوْضأَ منكِ وأحبَّ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد عائشة. (وفي رواية: يا بنية لا يغرنكِ هذه التي أعجبها حُسْنُها حُبُّ رسول الله صلى الله عليه وسلم إياها. يريد عائشة. قال: ثم خرجت حتى دخلتُ على أم سلمة لقرابتي منها فكلمتُها، فقالت أم سلمة: عجبًا لك يا ابن الخطاب دَخَلْتَ في كل شيء حتى تبتغِي أَنْ تدخلَ بينَ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأزواجهِ، فأخذتني واللهِ أخذًا كسرتني عن بعض ما كنتُ أجدُ فخرجتُ من عندها).

وكنا تحدّثنا أن غسَّان تُنْعِلُ النِّعالَ لغزونا، فنزل صاحبي يومَ نَوْبَتِهِ فرجعَ عِشَاءً فضرب بابي ضربًا شديدًا وقال: أنائمٌ هُوَ؟ (وفي رواية: أَثمَّ هوَ) ففزعتُ فخرجْتُ إليه

(1) أي ترك جادة الطريق لقضاء حاجة.

ص: 161

فقال حدث أمرٌ عظيم! قلت: ما هو؟ أجاءت غسّان؟ (وفي رواية: ونحنُ نتخوّفُ مَلِكًا من ملوكِ غسّان ذُكِرَ لَنا أنه يريدُ أَنْ يسير إلينا فقد امتلأت صدورنا منه، فإذا صاحبي الأنصاري يدقُّ الباب فقال: افْتَح افْتَحَ! فقلتُ جاء الغسَّاني؟ فقال: بل أشد من ذلك، اعتزل رسول الله صلى الله عليه وسلم أزواجه، فقلتُ رغمَ أَنْفُ حَفْصَةَ وعائشة).

وبالرواية الأولى: قال لا بل أعظمُ منهُ وأطوَلُ، طَلَّقَ رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءَهُ، قال: قد خابَتْ حَفْصَةُ وخَسِرَتْ، كنتُ أظنُّ أن هذا يُوشِكُ أَنْ يكونَ، فجمعتُ عليَّ ثيابي فصليتُ صلاةَ الفجر مع النبي صلى الله عليه وسلم، فدخلِ مَشْرُبَةَ لهُ فاعتزل فيها، فدخلتُ على حفصةَ فإذا هي تبكي، قلتُ: وما يُبكيكِ؟ أَوَلمْ أكُنْ حَذرْتُكِ؟ أطَلَّقُكُنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت: لا أدري، هو ذا في المشربة (1)، فخرجت فجِئْتُ المِنْبَر، فإذا حولَهُ رَهْطٌ يبكي بعضُهم، فجلستُ معهم قليلًا، ثم غلبني ما أجدُ فجئتُ المشرُبَة التي هو فيها، فقلتُ لغلام له أسود: استأذن لعمر، فدخل فكلم النبي صلى الله عليه وسلم ثم خرج فقال: ذكرتك له فصمت، فانصرفتُ حتى جلستُ مع الرَّهط الذين عند المِنْبَر، ثم غلبني ما أجد فجِئتُ فذكر مثله، فجلست مع الرّهطِ الذين عند المِنْبَر، ثم غلبني ما أجد فجئتُ الغلامَ فقلت: استأذن لعمر، فذكر مثلهُ، فلما وليتُ منصرفًا فإذا الغلامُ يدعوني قال: أذن لكَ رسول الله صلى الله عليه وسلم. (وفي رواية مسلم: قال عمر لما اعتزل نبي الله صلى الله عليه وسلم نساءه قال: دخلتُ المسجد فإذا الناس ينكتون بالحصى، ويقولون طلّق رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه، وذلكَ قبل أن يؤمر بالحجاب، فقلتُ لأعلمن ذلكَ اليوم، قال: فدخلتُ على عائشة فقلتُ يا بنةَ أبي بكر أقد بلغَ من شأنك أن تؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقالت: ما لي وما لك يا ابن الخطاب عليكَ بعيبَتِكَ. قال: فدخلتُ على حفصةَ فقلت لها: يا حفصة أقد بلغَ من شأنكِ أن تؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ واللهِ لقد علمت أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يحبكِ ولولا أنا لطلقكِ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبكت أشد البكاء، فقلت لها: أين رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالَتْ: هو في خزانته في المشرُبة. فدخلتُ فإذا برباحٍ غلامِ رسول الله صلى الله عليه وسلم قاعدًا على أسكفةِ المشربة مُدْلٍ رجليهِ على نقير من خشب وهو جذع يرقى عليهِ رسول الله صلى الله عليه وسلم وينحدر، فناديت يا رباح استأذن لي عندك على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنظر رباح إلى الغرفةِ ثم نظر إليّ فلم يقل شيئًا، ثم قلتُ: يا رباح! استأذن لي عندكَ على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنظر رباح إلى الغرفة ثم نظر إليّ فلم يقل شيئًا، ثم رفعت صوتي فقلت: يا رباح استئذن لي عندكَ على رسول الله صلى الله عليه وسلم فإني أظن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ظن أنما جئتُ من أجل حفصة، واللهِ لئن

(1) المشربة: الغرفة المرتفعة.

ص: 162

أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم بضرب عُنقها لأضربَنَّ عُنقها ورفعتُ صوتي فأومأ إليَّ أن ارقه).

وأما رواية البخاري: (قال: فدخلت عليهِ فإذا هو مضطجِعٌ على رمالِ حَصير ليسَ بينَه وبينَه فراشٌ، قد أَثَّرَ الرِّمالُ بجنبِهِ مُتَّكئٌ على وسادة من أدَمٍ حَشْوُها ليف، فسلمتُ عليهِ ثم قلتُ وأنا قائم: طَلَّقْتَ نساءَكَ (وفي لفظ: يا رسول الله أطلقت نساءكَ)؟ فرفع بصرَهُ إليَّ فقال: لا. فقلتُ: اللهُ أَكبر. ثم قلت: وأنا قائم: أستانس يا رسول الله، لو رأيتَني وكنا معشرَ قريش نغلِبُ النساء، فلما قدمنا على قوم تغلبهُم نساؤُهم. (وفي لفظ: فلما قدمنا المدينة إذا قومٌ تغلبهم نساؤهم) فذكره فتبسَّمَ النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قلت: يا رسول الله لو رأيتني ودخلتُ على حفصة فقلت: لا يغزَنَّكِ أن كانت جارتُكِ هي أوضأَ منكِ وأحبَّ إلى النبي صلى الله عليه وسلم يريدُ عائشة، فتبسَّمَ أخرى (وفي لفظٍ: فتبسَّمَ النبي صلى الله عليه وسلم تَبَسُمَةً أخرى)، (وفي رواية: فأذِنَ لي، قال عمر: فقصصت على رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الحديث، فلما بلغتُ حديث أمّ سلمة تبَسَمَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم). فجلستُ حينَ رأيتهُ تبسم ثم رفعتُ بصري في بيتهِ فواللهِ ما رأيتُ فيهِ شيئًا يردُّ البصر غيرَ أَهَبَةٍ ثلاثةٍ، فقلتُ: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم ادعُ اللهَ فليوسع على أمتك فإن فارس والروم وُسَّعَ عليهم وأُعطوا الدنيا، وهم لا يعبدون الله، وكان متكئًا فقال: أو في شكٍّ أنتَ يا ابن الخطاب! أولئكَ قومٌ عُجِّلَتْ لهم طيباتُهُم في الحياة الدُّنيا، فقلتُ: يا رسول الله استغفر لي، فاعتزلَ النبي صلى الله عليه وسلم من أجل ذلكَ الحديث حين أفشتْهُ حفصة إلى عائشة وكان قد قالَ ما أنا بداخل عليهن شهرًا من شدَّةِ مَوْجِدَتِه عليهن حين عاتبه الله.

وفي رواية مسلم: (قال عمر: فدخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مضطجع على حصير فجلست فأدنى عليهِ إزاره، وليسَ عليه غيره، وإذا الحصير قد أثر في جنبيه، فنظرت ببصري في خزانةِ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا أنا بقبضة من شعير نحو الصاع ومثلها قَرَظا (1)، وإذا أفيق معلق. قال: فابتدرت عيناي، قال: ما يبكيكَ يا ابن الخطاب؟ قال: يا نبي الله وما لي لا أبكي وهذا الحصير قد أثَّرَ في جسمكَ وهذه خزانتكَ لا أرى فيها ما أرى، وذاكَ قيصر وكسرى في الثمار والأنهار، وأنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وصفوته وهذه خزانتك! فقال: يا ابن الخطاب ألا ترضى أن تكونَ لنا الآخرةُ ولهم الدنيا. قلتُ: بلى. قال: ودخلتُ عليهِ حين دخلتُ عليهِ وأنا أرى في وجههِ الغضب، فقلتُ: يا رسول الله، ما يشق عليكَ من شأن النساء، فإن كنتَ طلقتهن فإن الله معكَ وملائكتهُ

(1) القرظ: ورق الشجر.

ص: 163

وجبريلُ وميكائيل وأنا وأبو بكر والمؤمنون معكَ، وقلّما تكلمت وأحمد الله بكلام إلا رجوتُ أن يكون الله يصدق قولي الذي أقول، ونزلت الآية، آية التخيير:{عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ} ، {وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ} . وكانت عائشة بنت أبي بكر وحفصة تظاهران على سائر نساء النبي صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا رسول الله! أطلقتهن؟ قال: لا، قلت: يا رسول الله إني دخلتُ المسجد والمسلمون ينكتون بالحصى يقولون: طلق رسول الله نساءهُ. أفأنزل فأخبرهم أنك لم تطلقهن. قال: نعم إن شئت، فلم أزل أحدثه حتى تحسر الغضب عن وجهه وحتى كشَرَ (1) فضحكَ، وكان من أحسن الناس ثغرًا، ثم نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم ونزلتُ، فنزلت أتشبث بالجذع ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم كأنما يمشي على الأرض ما يمسهُ بيده، فقلتُ يا رسول الله إنما كنت في الغرفةِ تسعةً وعشرين. قال: إن الشهر يكون تسعًا وعشرين، فقمتُ على باب المسجد فناديت بأعلى صوتي: لم يطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه، ونزلت هذه الآية:{وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ} فكنتُ أنا استنبطتُ ذلك الأمر، وأنزل الله عز وجل آية التخيير).

وفي رواية البخاري: (فلما مضت تِسْعٌ وعشرون دخل على عائشة فبدأ بها، فقالت له عائشة: إنك أقسمتَ أن لا تدخلَ علينا شهرًا وإنا أصبحنا لتِسْع وعشرين ليلة أعُدُّها عدًّا! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: الشهر تِسْع وعشرون، وكان ذلكَ الشهرُ تِسعًا وعشرين).

قالت عائشة: فأنزلت آيةُ التخيرٍ، فبدأ بي أوّل امرأة، فقال: إني ذاكِرٌ لكِ أَمْرًا، ولا عليكَ أن لا تعجلي حتى تستأمري أبويكِ. قالَتْ: قد أعلمُ أن أبويَّ لم يكونا يأمراني بفراقِكَ، ثم قال: إن اللهَ قال: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ} إلى قولهِ: {عَظِيمُا} قلت أفي هذا أسْتَأْمِرُ أَبَوَايَّ؟ فإني أُريدُ اللهَ ورسولهُ والدارَ الآخرة، ثمَ خيَّرَ نساءه فقلنُ مثلَ ما قالَت عائشة] (2).

وفي صحيح مسلم من حديث جابر: [ثم نزلت عليهِ هذه الآية: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ} - حتى بلغ - {لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا}](3).

(1) كَشَر: ابتسم وبانت أسنانه.

(2)

حديث صحيح. انظر صحيح البخاري (89) كتاب العلم، و (378) كتاب الصلاة، و (2468) كتاب المظالم. وانظر صحيح مسلم (1479) كتاب الطلاق.

(3)

حديث صحيح. أخرجه مسلم (1478)، كتاب الطلاق، في أثناء حديث طويل. وأخرجه أحمد في =

ص: 164

30 -

34. قوله تعالى: {يَانِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (30) وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا (31) يَانِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا (32) وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا (33) وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا (34)}.

في هذه الآياتِ: تضعيفُ الله تعالى جزاء الفاحشةِ إن صدرت من بيت النبوةِ، ومضاعفته كذلك الأجر للقانتات من نساء خير البرية، والوصيةُ الجامعة من الله سبحانهُ لنساء النبي صلى الله عليه وسلم لتكون وصية لنساء الأمة جميعًا - بالبعد عن الخضوع بالقول أمام الرجال الأجانب، واجتنابِ التبرج، ولزومِ البيت وطاعةِ الله والعلم والذكَر، واللهُ هو اللطيف الخبير.

فقوله: {يَانِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ} .

قيل: المقصود بالفاحشة المبينة: السيئة القبيحة من عصيانهن رسول الله صلى الله عليه وسلم ونشوزهن. وقيل: الزنا واللهُ عاصم رسوله من ذلك. قال ابن عباس: ({مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ}: وهو النشوز وسوء الخلق).

قال ابن كثير: (وعلى كل تقدير فهو شرط، والشرط لا يقتضي الوقوع، كقوله تعالى:{وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر: 65]، وكقوله:{وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام: 88]، {قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ} [الزخرف: 81]، {لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لَاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} [الزمر: 4]. فلما كانت محلّتهن رفيعة، ناسب أن

= المسند (3/ 328)، والنسائي في "الكبرى"(9208).

ص: 165

يُجعلَ الذنبُ لو وقعَ منهنَ مُغَلَّظًا، صيانةً لجنابهن وحِجابِهِنَّ الرفيع).

وعن ابن عباس: ({يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ} قال: يعنى عذاب الآخرة).

وقال مالك، عن زيد بن أسلم:({يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ} قال في الدنيا وفي الآخَرَة).

وقوله: {وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا} . أي: سهلًا هينًا.

وقوله: {وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ} الآية.

قال ابن عباس: (قوله: ({وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ}

الآية، يعني: تطع الله ورسوله. {وَتَعْمَلْ صَالِحًا} تصوم وتصلي).

قال ابن جريرِ: (يقول تعالى ذكره: ومن يطع الله ورسولهُ منكنّ، وتعمل بما أمر الله به {نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ} يقول: يعطها الله ثواب عملها، مثلي ثواب عمل غيرهن من سائر نساء الناس {وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا} يقول: وأعتدنا لها في الآخرةِ عيشًا هنيئًا في الجَنَّة). قال ابن كثير: (فإنهن في منازلِ رسول الله صلى الله عليه وسلم في أعلى عِلِّيين، فوق منازلِ جميعِ الخلائقِ، في الوسيلةِ التي هي أقرب منازل الجَنَّة إلى العرش).

وقوله: {يَانِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ} .

قال قتادة: (يعني من نساء هذه الأمة). والمقصود: لفت نظرهن إلى مكانتهن في النساء وكونهن موضع الأسوةِ وفي محل الصدارة.

وقوله: {فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ} . قال ابن عباس: (يقول: لا ترخصن بالقول، ولا تخضعن بالكلام). وقال ابن زيد: (خضع القول ما يكره من قول النساء للرجال مما يدخلُ في قلوب الرجال). وقال السدي: (يعني بذلكَ ترقيق الكلام إذا خاطبن الرجال).

قلت: والخطاب وإن كانَ موجهًا إلى نساء النبي صلى الله عليه وسلم اللواتي هُن في أعلى مقاماتِ الحشمةِ والعفاف والأدب، فإنهُ يَنْسَحِبُ إلى عمومِ نساءِ الأمةِ من باب أولى، ليسمعن تلكَ الوصايا ويصغين لها، ويمتثلن ما فيها من أحكام رفيعة.

وقوله: {فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} . قال قتادة: (نفاق). وقال عكرمة: (شهوة زنا). وقيل: ({مَرَضٌ}: دَغَل). والمقصود: لا تخاطب المرأةُ الرجالَ بكلام فيه ترخيم كما تخاطبُ زوجها، الأمر الذي يثير أهل القلوب الضعيفة والمريضة.

ص: 166

وقوله: {وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا} . قال ابن زيد: (قولًا جميلًا حسنًا معروفًا في الخير).

وقوله: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} - أصل بليغ في حفظ المرأة وصيانة فطرتها.

أي: اسْكُنّ والْزَمْنَ بيوتكن ولا تخرجن منها إلا لحاجة. وفي لغة العرب: (وقر يقر وقارًا) إذا سكن. فإنكن إن خرجتن دون حاجة وتعاطيتن الخروج دون سبب شرعي لا تَأمَنَّ من فتنةِ الشيطان.

ومن كنوز السنة العطرة في آفاق هذه الآية أحاديث:

الحديث الأول: روى مسلم في صحيحه عن جابر: [أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى امرأةً، فأتى امرأَتَهُ زينب، وهي تَمْعَسُ مَنِيئة (1) لها، فقضى حاجَتَهُ، ثم خرجَ إلى أصحابهِ فقال: إن المرأةَ تُقْبِلُ في صورةِ شيطان، وتدبرُ في صورة شيطان، فإذا أبصر أحدُكُمْ امرأةً فليأتِ أهله، فإنَّ ذلكَ يردُّ ما في نفسهِ](2).

الحديث الثاني: أخرج الترمذي بسند صحيح عن عبد الله، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[المرأةُ عورةٌ، فإذا خرجت استشرَفها الشيطان](3).

الحديث الثالث: أخرج البزار بسند صحيح عن أبي الأحوص، عن عبد الله، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[إنَّ المرأة عورة، فإذا خرجت استشرفها الشيطان، وأقرب ما تكونُ بروحَةِ ربِّها وهي في قَعْرِ بيتها](4). وفي لفظِ عند ابن خزيمة: [وأقرب ما تكونُ من وجهِ ربها وهي في قعر بيتها].

وله شاهد عند الطبراني بسند حسن عنه موقوفًا في حكم المرفوع: [النساء عورة، وإن المرأة لتخرجُ من بيتها وما بها بأس، فيستشرفها الشيطانُ، فيقولُ: إنك لا تمرين بأحد إلا أعجبتِهِ، وإن المرأةَ لتلبَسُ ثيابها، فيقالُ: أين تريدين؟ فتقول: أعود

(1) الجلد، وتمعس من معست الجلد، أي: دلكته. والمراد: الدباغ والإصلاح.

(2)

حديث صحيح. أخرجه مسلم (1403)، كتاب النكاح، باب ندب من رأى امرأة، فوقعت في نفسه، إلى أن يأتي امرأته أو جاريته فيواقعها.

(3)

حديث صحيح. أخرجه الترمذي (1173)، أبواب الرضاع. انظر صحيح سنن الترمذي (936).

(4)

إسناده على شرط البخاري ومسلم، وله شواهد كثيرة، منها الحديث الأول والثاني. وانظر صحيح الترغيب (1/ 344) - للفظ ابن خزيمة، ورواه ابن حبان.

ص: 167

مريضًا، أو أشهدُ جنازة، أو أصلي في مسجد! وما عبدت أمرأةٌ ربَّها مثل أن تعبدَهُ في بيتها] (1).

قال المنذري: (قوله: "فيستشرفها الشيطان" أي ينتصب ويرفعُ بصره إليها ويَهُمُّ بها؟ لأنَّها قد تعاطت سببًا من أسباب تسلطه عليها، وهو خروجها من بيتها).

الحديث الرابع: روى مسلم عن زينب امرأة عبد الله قالت: [قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا شَهِدَتْ إحداكُنَّ المسجد فلا تمسّ طيبًا](2).

وقوله: {وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى} .

التبرج: إظهار الزينةِ، وإبرازُ المرأةِ محاسنها للرجال، وقيل: هو التبخترُ والتكسر.

قال قتادة: ({وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى}. أي: إذا خرجتن من بيوتكن، قال: كانت لهن مشية وتكسُّر وتغنج، يعني بذلكَ الجاهليةَ الأولى فنهاهن الله عن ذلك).

وقال مجاهد: (كانت المرأةُ تخرجُ تمشي بين يدي الرجال، فذلكَ تبرج الجاهلية).

وقال مقاتل: (التبرج: أنَّها تلقِي الخمار على رأسها، ولا تشدّهُ فيواري قلائِدَها وقِراطَها وعُنُقَها، ويبدو ذلكَ كلُّه، وذلكَ التبرج، ثم عمت نساء المؤمنين في التبرج).

وقال ابن جرير: حدثني ابنُ زهير، حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا داود - يعني ابنَ أبي الفُرات - حدثنا علباءُ بن أحمرَ، عن عكرمةَ، عن ابن عباس قال: (تلا هذه الآية: {وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى} . قال: كانت فيما بين نوح وإدريسَ، وكانت ألفَ سنةٍ، وإنَّ بطنَين من ولدِ آدمَ كان أحدُهما يسكنُ السهلَ، والآخرَ يسكنُ الجبل، وكان رجال الجبلِ صِباحًا وفي النساء دَمامَةٌ. وكانَ نساءُ السهل صِباحًا وفي الرجال دمامة، وإن إبليس أتى رجلًا من أهلِ السهل في صورة غُلام، فآجَرَ نفسهُ منه، فكان يخدُمه واتخذ إبليسُ شيئًا مثل الذي يُزَمّر فيه الرّعاء، فجاء فيهِ بصوتٍ لم يَسمع

(1) إسناده حسن. رواه الطبراني في "الكبير" من حديث ابن مسعود. انظر صحيح الترغيب (1/ 345).

(2)

حديث صحيح. أخرجه مسلم (443)، كتاب الصلاة. باب خروج النساء إلى المساجد إذا لم يترتب عليه فتنة، وأنها لا تخرج مطيبة.

ص: 168

الناس مثله، فبلغَ ذلكَ من حوله، فانتابُوهم يسمعون إليهِ، واتخذوا عيدًا يجتمعون إليهِ في السنة، فَتَبَرَّجَ النساء للرجال، قال: ويتزيَّنُ الرجالُ لهنَّ، وإنَّ رجلًا من أهلِ الجبل هَجَمَ عليهم في عيدهم ذلكَ، فرأى النِّساءَ وصَبَاحَتَهُنَّ، فأتى أصحابَهُ فأخبرهم بذلك، فتحولوا إليهن. فنِزلوا مَعَهُنَّ وظهرت الفاحِشَةُ فيهن، فهو قوله تعالى:{وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى} ).

ومن كنوز السنة العطرة في آفاق هذه الآية أحاديث:

الحديث الأول: يروي البخاري عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: [لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المخنثين من الرجال، والمترجلات من النساء]. وفي رواية: [لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المتشبهين من الرجال بالنساء، والمتشبهات من النساء بالرجال](1).

الحديث الثاني: أخرجَ أبو داود في السنن عن أبي هريرةَ رضي الله عنه قال: [لعنَ رسول الله صلى الله عليه وسلم الرَجُلَ يَلْبَسُ لِبْسَةَ المرأة، والمرأةَ تَلْبَسُ لِبْسَةَ الرَجل](2).

الحديث الثالث: أخرج أبو داود بسند صحيح عن عائشة أنَّها قالت: [يرحمُ الله نساء المهاجرات الأول، لما أنزل الله: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} شققن أكنف مروطهن، فاختمرن بها](3).

الحديث الرابع: أخرج الترمذي وأبو داود بسند حسن عن أبي موسى، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[إذا اسْتَعْطَرَتْ المرأةُ فمَرَّتْ على القومِ لِيجدوا ريحها، فهي كذا وكذا، قال: قولًا شديدًا](4). وفي لفظٍ عند ابن حبان والحاكم: [فهي زانية].

وقوله: {وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} .

قال ابن كثير: (نهاهنَّ أولًا عن الشر ثم أمرهن بالخير، من إقامة الصلاة، وهي

(1) حديت صحيح. أخرجه البخاري (10/ 280)، وأخرجهُ أبو داود (4930)، والترمذي (2785).

(2)

حديث صحيح. أخرجه أبو داود في السن (4098). وأخرجه ابن ماجة (1903). وانظر صحيح سنن أبي داود (3454)، باب لبس النساء.

(3)

حديث صحيح. أخرجه أبو داود في السن - حديث رقم - (4102) - باب لبس النساء. وانظر صحيح سنن أبي داود (3457) - عند هذه الآية.

(4)

حديث حسن. أخرجه الترمذي (2949)، وأبو داود (4173)، باب في المرأة تتطيب للخروج، وانظر صحيح أبي داود (3516)، وصحيح الجامع (320).

ص: 169

عبادة الله وحده لا شريكَ له، وإيتاء الزكاة، وهي الإحسانُ إلى المخلوقين، {وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} ، وهذا من بابِ عطف العام على الخاص).

وقوله: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} .

قال قتادة: (فهم أهل بيتٍ طهرهم الله من السوء، وخصَّهم برحمة منه).

والآيةُ نص صريح في دخول أزواج النبي صلى الله عليه وسلم في أهل البيت.

أخرج الإمام أحمد في المسند، وأبو يعلى والطبراني بسند صحيح عن الأوزاعي عن شداد - أبو عمار - قال:[دخلتُ على واثلة بن الأسقع وعنده قومٌ، فذكروا عليًّا رضي الله عنه، فلما قاموا قال لي: ألا أُخْبِرُكَ بما رأيتُ من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قلتُ: بلى. قال: أتيتُ فاطمة أسألُها عن علي فقالت: توجّه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. فجلستُ أنتظرهُ حتى جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه علي وحَسَنٌ وحُسَيْنٌ، كُلُّ واحِدٍ منهما بيده حتى دَخَلَ، فأدنى عليًا وفاطمةَ وأجلسَهُما بين يديهِ، وأجلسَ حَسَنًا وحُسينًا كُلُّ واحِدٍ منهما على فخذه، ثم لفَّ عليهم ثوبَهُ - أو قال: كساءَهُ - ثم تلا هذه الآية: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} وقال: اللهم هؤلاء أهلُ بيتي، وأهلُ بيتي أحقُّ](1).

ورواهُ ابن جرير عن الوليد بن مسلم، عن أبي عمرو الأوزاعي بسنده نحوه، زاد في آخره:[قال واثلةُ، فقلتُ: وأنا يا رسول الله من أهلك؟ قال: وأنتَ من أهلي. قال واثلة: إنها من أَرْجَى ما أَرتجي](2).

وروى الترمذي بسند صحيح عن عمر بن أبي سلمة، ربيب النبي صلى الله عليه وسلم قال: [لما نزلت هذه الآية على النبي صلى الله عليه وسلم: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} في بيت أم سلمة، فدعا فاطمةَ وحسنًا وحسينًا، فجللهم بكساء، وعليّ خلف ظهره فجلله بكساء ثم قال: "اللهم هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس وطهرهم

(1) حديث صحيح، أخرجه أحمد (4/ 107)، وأبو يعلى (7486)، والطبراني (2670)، والبيهقي (2/ 152)، وصححه الحاكم (3/ 147)، ووافقه الذهبي، وإسنادهُ على شرط الصحيح.

(2)

حديث صحيح. أخرجه أحمد (4/ 107)، والطبري (28494)، وابن حبان (6976)، والحاكم (3/ 147)، وإسناده على شرط الصحيح.

ص: 170

تطهيرًا". قالت أم سلمة: وأنا معهم يا نبي الله، قال: أنَّتِ على مكانكِ، وأنتِ على خير] (1).

وقوله: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ} . أي: واذكرن فضل الله عليكن فيما جعلكن في بيوت تُتلى فيها آيات الله والحكمة - يعني: الكتاب والسنة -، فاعملن بمقتضى ذلكَ وأقمن شكره.

وعن قتادة: ({وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ}: أي السنة، قال: يَمْتَنّ عليهم بذلك). وأحظاهن بهذه النعمةِ عائشة رضي الله عنها، فإنه لم ينزل الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم في فراش امرأةٍ سواها. قال بعض العلماء:(لأنه لم يتزوج بكرًا سواها، ولم ينم معها رجلٌ في فراشها سِواه، فناسبَ أن تخصَّصَ بهذه المَزِيَّةِ، وأن تُفرَدَ بهذه الرتبة العلية) - ذكره ابن كثير.

وقوله: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا} .

قال ابن جرير: (يقول تعالى ذكره: إن الله كان ذا لطف بكنّ، إذ جعلكنّ في البيوت التي تُتلى فيها آياته والحكمة، خبيرًا بِكُنَّ إذ اختاركن لرسوله أزواجًا).

35.

قوله تعالى: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (35)} .

في هذه الآية: ثناء الله تعالى على الرجال والنساء من المسلمين والمؤمنين والقانتين والصادقين والصابرين والخاشعين والمتصدقين والصائمين والحافظين فروجهم والذاكرين الله كثيرًا، وقد أعدَّ لهم مغفرة وأجرًا عظيمًا.

أخرج الترمذي في السنن بسند صحيح - من حديث عكرمة - عن أم عمارة

(1) حديث صحيح. أخرجه الترمذي في التفسير عند هذه الآية. انظر صحيح سنن الترمذي (2562)، ورواه مسلم عن عائشة مختصرًا.

ص: 171

الأنصارية: [أنَّها أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: ما أرى كل شيء إلا للرجال، وما أرى النساء يذكرن بشيء، فنزلت هذه الآية: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} الآية](1).

وله شاهد في مسند أحمد وسنن النسائي عن عبد الرحمن بن شَيبَةَ، قال:[سمعتُ أمَّ سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم تقول: قلتُ للنبي صلى الله عليه وسلم: ما لنا لا نُذكَرُ في القرآن كما يُذكر الرجال؟ قالت: فلم يَرُعْني منه ذاتَ يومٍ إلا ونِداؤُه على المنبر، قالت: وأنا أسرّح شعري، فلفَفْتُ شعري، ثم خرجت إلى حجرتي حُجرَةِ بيتي، فجعلتُ سَمعي عند الجريد، فإذا هو يقول على المنبر: يا أيها الناس! إن الله يقول: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} إلى آخر الآية](2).

وشاهد آخر عند ابن جرير في "التفسير" عن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب، عن أم سلمة رضي الله عنها، قالت: [قلت: يا رسول الله، أيذكر الرجال في كل شيء ولا نُذكرُ؟ ! فأنزل الله تعالى:{إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ ..... }

الآية] (3).

وقوله: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} تأكيد أن الإيمان أَخَصُّ من الإسلام، فَإِنْ ذُكِرَ الإسلام وحده فهو يشمل الإيمان، وإن فُرِّقَ بينهما فالإيمان أخصُّ من الإسلام.

وفي التنزيل نحو ذلك:

1 -

قال تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} [آل عمران: 19].

2 -

وقال تعالى: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات: 14].

ومن صحيح السنة المطهرة في ذلك أحاديث، منها:

الحديث الأول: أخرج أبو داود بسند صحيح عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:

(1) صحيح الإسناد. أخرجه الترمذي في التفسير، سورة الأحزاب، الآية (35). انظر صحيح سنن الترمذي (2563)، ورواه الحاكم بنحوه من حديث أم سلمة.

(2)

حديث صحيح. أخرجه أحمد (6/ 305)، والنسائي في "التفسير"(425)، والطبراني (23/ 650)، وإسناده صحيح، رجالهُ رجال البخاري ومسلم غير عبد الرحمن، وهو ثقة.

(3)

حديث صحيح. أخرجه ابن جرير (28509)، وإسناده حسن، وله شواهد.

ص: 172

[إذا زنى العبدُ خرج منه الإيمان فكان على رأسه كالظلةِ، فإذا أقلع رجع إليه](1).

الحديث الثاني: أخرج البخاري ومسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن](2).

وقوله: {وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ} . أي المطيعين والمطيعات. قال ابن كثير: (القنوتُ: هو الطاعة في سكون، {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ} [الزمر: 9]، وقال تعالى: {وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ} [الروم: 26]، {يَامَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ} [آل عمران: 43]، {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة: 238]، فالإسلام بعده مرتبة يرتقى إليها وهي الإيمان، ثم القنوت ناشئ عنهما).

وقوله: {وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ} . قال النسفي: في النيات والأقوال والأعمال).

فإن الصدق خصلة محمودة رفيعة، وإن الكذب خصلة ذميمة مشينة. وفي الصحيحين عن عبد الله رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[إن الصدق يهدي إلى البِر، وإنَّ البِرَّ يهدي إلى الجَنَّة، وإن الرجل ليصدق حتى يكون صديقًا. وإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإنَّ الفجور يهدي إلى النار، وإِن الرجل ليكذب حتى يكتب عند الله كذابًا](3).

وفي صحيح البخاري عن سمرة بن جندب رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: [رأيتُ رَجُلَيْن أتياني، قالا: الذي رأيتَهُ يشُقُّ شِدْقُهُ فكذَّابٌ يَكْذِبُ بالكَذْبَةِ تُحْمَلُ عنه حتى تبلُغَ الآفاق فَيُصْنَعُ به إلى يوم القيامة](4).

وقوله: {وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ} . قال القرطبي: (والصابر عن الشهوات وعلى الطاعات في المَكْرهِ والمَنْشَط). وقال ابن كثير: (هذه سَجِيَّةُ الأثباتِ، وهي الصبرُ على المصائِبِ، والعلمُ بأن المقدور كائن لا محالةَ، وتَلَقّي ذلكَ بالصَّبْر والثبات، وإنما

(1) حديث صحيح. انظر صحيح الجامع (600)، وكتابي: أصل الدين والإيمان (2/ 1091 - 1093) لتفصيل هذا البحث.

(2)

حديث صحيح. أخرجه البخاري (2475)، وانظر مختصر صحيح مسلم - حديث رقم - (43).

(3)

حديث صحيح. أخرجهُ البخاري (6094)، كتاب الأدب، وأخرجه مسلم (2607)، وكذلك ابن حبان في "صحيحه"(273) من حديث ابن مسعود.

(4)

حديث صحيح. أخرجهُ البخاري في الصحيح (6096)، كتاب الأدب، وانظر كذلك (845) منه.

ص: 173

الصبرُ عند الصدمةِ الأولى، أي: أصعَبُهُ في أَوَّلِ وَهْلَةٍ، ثم ما بعدهُ أسهَلُ منه، وهو صِدْقُ السَجِيَّةِ وثباتها).

وقال ابن القيم: (فالصبر حبس النفس عن الجزع والتسخط، وحبس اللسان عن الشكوى، وحبس الجوارح عن التشويش).

وقال الإمام أحمد: (الصبر في القرآن في نحو تسعين موضعًا).

قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (153)} [البقرة: 153].

وفي صحيح مسلم عن أبي مالك الحارث بن عاصم الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [الطهور شطر الإيمان والحمدُ لله تملأ الميزان، وسبحان الله والحمد للهِ تملآن ما بين السماوات والأرض، والصلاة نور، والصدقة برهان، والصبر ضياء، والقرآن حجة لك أو عليك. كل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبِقُها](1).

وقوله: {وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ} .

الخشوع لغة: الانخفاض والذل والسكون. يقال خشع ببصره أي غَضّه وذلكَ كما قال تعالى: {وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا} [طه: 108] أي سكنت وذلت وخضعت.

قال الجنيد: (الخشوع تذلل القلوب لعلَّام الغيوب). وقيل: (الخشوع: الانقياد للحق). وقيل: (الخشوع خمود نيران الشهوة وسكون دخان الصدور وإشراق نور التعظيم في القلب).

فالخشوع سجية يحبها الله في قلوب عباده وجوارحهم، وقد عاتب سبحانهُ المؤمنون بقوله:{أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ} [الحديد: 16].

وفي صحيح الإمام مسلم عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: [ما كان بين إسلامنا وبين أن عاتبنا الله بهذه الآية إلا أربع سنين](2).

(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم (223)، كتاب الطهارة، باب فضل الوضوء.

(2)

حديث صحيح. انظر مختصر صحيح مسلم (2170)، وكتابي أصل الدين والإيمان (1/ 234 - 237) لتفصيل هذا البحث وعلاقته بالإيمان بأسماء الله وصفاته الحسنى.

ص: 174

وفي معجم الطبراني بإسناد صحيح عن أبي الدرداء رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: [أول شيء يرفع من هذه الأمة الخشوع حتى لا ترى فيها خاشعًا](1).

وقوله: {وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ} .

الصدقة: هي الإحسان إلى الفقراء والضعفاء والمساكين، ومَنْ لا يكفيهم كسبهم أو لا كاسب لهم.

وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [ما مِنْ يُصْبحُ العبادُ فيهِ إلا ملكَانِ ينزلان، فيقول أحدهما: اللهم أعْطِ مُنْفِقًا خَلَفًا، ويقول الآخر: اللهُم أعط مُمْسِكًا تَلَفًا](2).

وقوله: {وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ} .

الصوم عبادة عظيمة، فيها تزكية البدن وتطهير النفس. قال سعيد بن جبير:(من صامَ رمضان وثلاثة أيامٍ من كل شهر دخلَ في قوله: {وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ}).

وفي صحيح البخاري عن سهل رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [إنَّ في الجنةِ بابًا يُقالُ لهُ: الرَّيَّانُ، يَدْخُلُ منه الصائمون، يوم القيامةِ، لا يدخلُ مِنه أحدٌ غيرُهم، يقال أين الصائمون؟ فيقومون لا يدخلُ منه أحدٌ غيرهم، فإذا دخلوا أُغْلِقَ، فلم يدخل منه أحدٌ](3).

وقوله: {وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ} . أي: عن المحارم والمآثم لا عن المباح.

ولما كان الصوم من أفضل ما يعين على كسر الشهوة وحفظ الفرج لمن لم يستطع التحصن بالنكاح فناسبَ ذكره قبل هذه مباشرة.

ففي الصحيحين عن عبد الله بن مسعود قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم فقال: [من استطاعَ

(1) إسناده صحيح. أخرجه الطبراني في "المعجم الكبير". وانظر صحيح الجامع الصغير (2566).

(2)

حديث صحيح. أخرجه البخاري (3/ 241)، ومسلم (1010)، وأحمد (2/ 305 - 306).

(3)

حديث صحيح. أخرجه البخاري في صحيحه (1896)، كتاب الصوم، باب الرَّيان للصائمين.

ص: 175

الباءةَ فليتزوج فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج، ومَنْ لم يستطع فعليهِ بالصوم، فإنه لهُ وِجاءٌ] (1).

وفي التنزيل:

1 -

قال تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} [المؤمنون: 5 - 7].

2 -

وقال تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (30) وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ} [النور: 30، 31].

وفي سنن أبي داود وابن ماجة بإسناد حسن عن حكيم عن أبيه، قال:[قلت: يا رسول الله! عوراتنا ما نأتي منها وما نذر؟ قال: احفظ عَوْرَتَكَ إلا مِنْ زَوْجَتِكَ أَوْ ما مَلَكَتْ يمينك. قال: قلتُ: يا رسول الله! إذا كانَ القومُ بعضهم في بعض؟ قال: إن استطعتَ أَنْ لا يرَينَّها أحدٌ فلا يرَيَنَّها. قال: قلت: يا رسول الله! إذا كان أحدنا خاليًا، قال: اللهُ أحقُّ أَنْ يُستَحْيا منهُ من الناس](2).

وفي صحيح مسلم وسنن أبي داود عن أبي سعيد الخدري، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[لا ينْظُرُ الرجلُ إلى عُرْيَةِ الرَّجُل، ولا المرأةُ إلى عُرية المرأة، ولا يفضي الرجل إلى الرجل في ثوبٍ واحد، ولا تفضي المرأة إلى المرأة في ثوبٍ](3).

وقوله: {وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ} .

قال ابن جرير: (والذاكرين الله بقلوبهم وألسنتهم وجوارحهم والذاكرات).

قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا (41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (42)} [الأحزاب: 41، 42].

وفي سنن أبي داود والنسائي وابن ماجة عن أبي سعيد، وأبي هريرة قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [إذا أيقَظَ الرجل أهلَهُ من الليل فصلَّيا أو صَلَّى ركعتين جميعًا كُتِبا في

(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (1905)، كتاب الصوم. باب الصوم لمن خاف على نفسه العُزْبَة.

وانظر كذلك (5065) - (5066)، ورواه مسلم في الصحيح (1400)، كتاب النكاح.

(2)

حديث حسن. أخرجه أبو داود (4017)، كتاب الحمَّام. باب ما جاء في التعري. ورواه ابن ماجة (1920). وانظر صحيح سنن أبي داود (3391).

(3)

حديث صحيح. أخرجه مسلم (338)، وأخرجه أبو داود (4018)، كتاب الحمَّام.

ص: 176

الذاكرين والذاكِرات] (1). وفي لفظ: [كُتِبا تلك الليلة من الذاكرين الله كثيرًا والذاكرات].

وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: [كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسير في طريق مكة، فَمَرَّ على جَبَلٍ يُقال له جُمْدان، فقال: سيروا، هذا جُمْدَانُ، سَبَقَ المُفَرِّدُون. قالوا: وما المُفَرِّدون؟ يا رسول الله! قال: الذاكرون الله كثيرًا والذاكرات](2).

وقوله: {أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} .

أي: أعد الله لهم مغفرةً لذنوبهم، وثوابًا عظيمًا في الآخرة جزاء اندراجهم تحت تلك النعوت الجليلة والأوصاف الرفيعة التي ضمتها هذه الآية الكريمة.

36 -

38. قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا (36) وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا (37) مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا (38)}.

في هذه الآياتِ: تقديمُ المؤمنين قول الله ورسوله وأمرهما على كل قول وأمر ورأي، وقصة تزويج الله رسوله من زينب بنت جحش التي كانت تحت متبناه زيد بن حارثة ونسف أعراف الجاهلية.

فقوله: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} .

قال الحسن: (ليس لمؤمن ولا مؤمنة إذا أمر الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم بأمر أن

(1) حديث صحيح. أخرجه أبو داود (1309)، أبواب قيام الليل، وأخرجه النسائي في "الكبرى"(1310)، وأخرجه ابن ماجة (1335)، وابن حبان (2569).

(2)

حديث صحيح. أخرجه مسلم في الصحيح (2676)، كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار.

ص: 177

يعصياه). قال القرطبي: (لفظ "ما كان، وما ينبغي" ونحوهما، معناها الحظر والمنع. فتجيء لحظر الشيء والحكم بأنه لا يكون).

والمقصود: وجوب التحاكم إلى الله ورسوله - والقبول بحكم الوحي - من المؤمنين.

وفي التنزيل نحو ذلك:

1 -

قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (1)} [الحجرات: 1].

2 -

وقال تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65)} [النساء: 65].

3 -

وقال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (31) قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} [آل عمران: 31، 32].

ومن كنوز السنة العطرة في آفاق ذلكَ أحاديث:

الحديث الأول: أخرج الإمامُ أحمد وأبو داود والترمذي عن أبي رافع عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [لا ألفِيَن أحدكم متكئًا على أريكته، يأتيه الأمرُ من أمري، مما أمرتُ به، أو نهيتُ عنه، فيقولُ: لا أدري ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه](1).

الحديث الثاني: أخرج الإمام أحمد والحاكم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [تركتُ فيكم شيئين، لن تضلوا بعدهُما، كتابَ الله وسنتي، ولن يتفرقا حتى يردا عليَّ الحوض](2).

الحديث الثالث: أخرج البخاري عن عمر رضي الله عنه: [أن رجلًا من اليهود قال له: يا أمير المؤمنين! آية في كتابكم تقرؤونها لو علينا معشر اليهود نزلت لاتخذنا ذلكَ اليوم عيدًا. قال: أي آية؟ قال: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3]. قال عمر: قد عرفنا ذلكَ اليوم والمكان الذي نزلت فيه على النبي صلى الله عليه وسلم وهو قائم بعرفة يومَ جمعة، وأنا واللهِ بعرفة] (3).

(1) حديث صحيح. انظر صحيح سنن أبي داود (3849)، وصحيح الترمذي (2145)، ورواه أحمد.

(2)

حديث صحيح. انظر مسند أحمد (3/ 14)، وسلسلة الأحاديت الصحيحة (1761).

(3)

حديث صحيح. أخرجه البخاري في صحيحه (45)، كتاب الإيمان. باب زيادة الإيمان ونقصانه.

ص: 178

قال أبو حنيفة: (حرام على من لم يعرف دليلي أن يفتي بكلامي، فإننا بشر، نقول القول اليوم ونرجع عنه غدًا). وقال أيضًا: (نحن قوم نقول القول اليوم ونرجع عنه غدًا، ونقول غدًا ونرجع عنه بعد غد، كلنا خطاء إلا صاحب هذا القبر، يعني فيهِ قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم). وكان يقول: (إذا صحّ الحديث فهو مذهبي)(1).

وبنحوه قال الإمامُ مالك إمام أهل المدينة: (ليس أحد بعد النبي صلى الله عليه وسلم إلا ويؤخذ من قوله ويترك إلا النبي صلى الله عليه وسلم)(2). وكان يقول: (لا يصلح آخر هذه الأمةِ إلا بما صلح به أولها).

ومضى على منهاجه الإمام الشافعي وكان يقول: (ما من أحد إلا وتذهب عليهِ سنة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتعزب عنه، فمهما قلت من قول، أو أصَّلْتُ من أصلٍ، فيهِ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خلافُ ما قلت، فالقول ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو قولي)(3).

وسار على منهاجه تلميذهُ المحدث الإمام أحمد، وكان يقول:(لا تقلدني ولا تقلد مالكًا ولا أبا حنيفة ولا الشافعي ولا الأوزاعي ولا الثوري رحمهم الله تعالى، وخذ من حيث أخذوا، من قلة فقه الرجل أن يقلد دينَهُ الرجال)(4).

أراد بذلكَ الإمام أحمد أن يمشي طالب العلم على بصيرةٍ، ويفتح قلبهُ وعقله لعلماء الأمةِ وقادتها، دون تعصب وانغلاق، فما جاء بالدليل الصحيح عن الله ورسوله مضى متبعًا له منقادًا لأمره.

وقوله: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا} . تهديد ووعيد، لكل من علم الحق الذي دل عليهِ الكتاب والسنة ثم جانبه وتَنَكَّب له.

قال ابن جرير: (ومن يعص الله ورسوله فيما أمرا أو نهيا {فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا} يقول: فقد جار عن قصد السبيل، وسلكَ غير سبيل الهدى والرشاد).

وفي التنزيل نحو ذلك:

1 -

قال تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ

(1) انظر: "حاشية ابن عابدين"(1 - 63). وكتابي: السيرة النبوية (1/ 18 - 19).

(2)

انظر ابن عبد الهادي في "إرشاد السالك"(1/ 227)، والمرجع السابق (1/ 18).

(3)

رواه الحاكم بسنده المتصل إلى الإمام الشافعي. وانظر ابن عساكر (15/ 1/ 2).

(4)

انظر كتاب: "أعلام الموقعين" - ابن قيم الجوزية - (2/ 302)، وتمام البحث في مقدمة كتابي: السيرة النبوية على منهج الوحيين (1/ 15 - 19).

ص: 179

نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء: 115].

2 -

وقال تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 63].

3 -

وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 33].

وفي الصحيحين عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [ما بالُ أقوامٍ قالوا كذا وكذا؟ لكني أصلي وأنام، وأصوم وأفطِرُ، وأتزوج النساء، فمَنْ رَغِبَ عن سنتي فليس مني](1).

وعند البيهقي بسند صحيح عن سعيد بن المسيب أنه رأى رجلًا يصلي بعد طلوع الفجر أكثر من ركعتين يكثرُ فيها الركوع والسجود، فنهاه، فقال: يا أبا محمد: يعذبني الله على الصلاة؟ قال: لا، ولكن يعذبك على خلاف السنة.

وقوله: {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ} الآية.

كانت زينب بنت جحش تحت زيد بن حارثة، وكان زيد قد تبناهُ رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنعم اللهُ عليهِ بالإسلام، وأنعم عليهِ النبي صلى الله عليه وسلم بالعتق من الرق، وهو قول تعالى:{أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ} . وكان زيد سيدًا كبير الشأن جليل القدرِ حبيبًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، يقال له الحب، ولابنه أُسامة الحب ابن الحب. وقد زوجهُ ابنة عمته زينب بنت جحش الأسدية، أمها أميمة بنت عبد المطلب، وأصدقها عشرة دنانير وستين درهمًا وخمارًا وملحفة ودرعًا وخمسين مدًّا من طعام وعشرة أمداد من تمر كما ذكر مقاتل، فمكثت عنده سنة أو نحوها ثم وقع بينهما خلاف فجاء يشكوها إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فيقول له: أمسك عليكَ زوجكَ.

وعن علي بن حسين قال: (كان الله تبارك وتعالى أعلم نبيّه صلى الله عليه وسلم أن زينب ستكونُ من أزواجهِ، فلما أتاه زيد يشكوها قال: اتق الله وأمسك عليك زوجك، قال الله: {وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ}).

فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يخشى وقوع هذا الزواج من زوجة متبناه، إذ كانَ ذلك معيبًا في

(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم في الصحيح - حديث رقم - (1401)، كتاب النكاح، وهو جزء من حديث طويل. ورواه البخاري.

ص: 180

الجاهلية، فأراد الله أن يمضي أمره، وأن ينسف ما تبقى من آثار تلكَ الأعراف الفاسدة البالية، التي كان عليها العرب قبل الإسلام.

أخرج البخاري عن أنس: [أن هذه الآية: {وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ} نزلت في شأن زينب بنت جحش وزيد بن حارثة](1).

وقد قضى الله في هذا الزواج أن يتم، فطلّق زيد زينب رضي الله عنها، وعقد الله النكاح الجديد من فوق سبع سماواتٍ، حتى كانت زينب تفخر بذلكَ على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم.

فقد أخرج ابن سعد ورجاله رجال الصحيح عن أنس قال: [نزلت في زينب بنت جحش {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا} قال: فكانت تفخرُ على نساء النبي صلى الله عليه وسلم تقول: زوجكن أهلكن (وفي رواية: زوجكن أهاليكن) وزوجني الله من فوق سبع سماوات). وفي رواية: (إن الله أنكحني في السماء).

وأصل معناه في صحيح الإمام البخاري، إذ كانت تمازح النبي صلى الله عليه وسلم أحيانًا فتقول:[زوجنيك الرحمن من فوق عرشه](2).

وفي صحيح مسلم ومسند أحمد عن أنس قال: [لما انقضت عدة زينبَ بنت جحش قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لزيد بن حارثة: ما أجِدُ أحدًا آمنَ عندي وأوثق في نفسي منك، ائتِ زينب فاخطبها علي. قال: فانطلق زيد فأتاها وهي تخمر عجينها، فلما رأيتها عظمت في صدري فلم أستطع أن أنظر إليها حين عرفت أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد ذكرها، فوليتها ظهري ونكصت على عقبي وقلت: يا زينب أبشري، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكرك. قالت: ما أنا بصانِعة شيئًا حتى أؤامر ربي، فقامت إلى مسجدها، ونزل القرآن: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا}](3).

فلما بنى رسول الله صلى الله عليه وسلم بزينب بنت جحش رضي الله عنها، أَوْلَمَ فأشبعَ الناس خبزًا ولحمًا، ثم خرج صبيحة بنائه فمر على أمهات المؤمنين فسلم عليهن وسلّمن عليه

(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (4787)، (7420)، والترمذي (3212)، والنسائي في "التفسير"(427)، وابن حبان (7045)، وأحمد (3/ 149 - 150).

(2)

حديث صحيح. أخرجه البخاري من حديث أنس، في الصحيح (7420)، وانظر لرواية ابن سعد: "الصحيح المسند من أسباب النزول - الوادعي - سورة الأحزاب، آية (37).

(3)

حديث صحيح. أخرجهُ مسلم في الصحيح (1428)، وأحمد في المسند (3/ 190 - 196).

ص: 181

ودعون له، فلما رجع إلى بيتهِ إذا رجلان جرى بهما الحديث فذهب ليتأخر، حتى تداركا أمرهما وأسرعا بالخروج فأرخى الستر وأنزل الله آية الحجاب.

ففي صحيح الإمام البخاري عن أنس قال: [أَوْلَمَ رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بنى بزينب ابنة جحش فأشبع الناس خبزًا ولحمًا، ثم خرج إلى حجر أمهات المؤمنين كما كان يصنع صبيحة بنائه فيسلم عليهن ويدعو لهن، ويسلمن عليه، ويدعون له، فلما رجع إلى بيتهِ رأى رجلين جرى بهما الحديث، فلما رآهما رجع عن بيتهِ، فلما رأى الرجلان رسول الله صلى الله عليه وسلم رجع عن بيتهِ وثبا مسرعين، فما أدري أنا أخبرته بخروجهما أم أُخْبِر، فرجع حتى دخل البيت وأرخى الستر بيني وبينه، وأنزلت آية الحجاب](1).

وقوله: {لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا} .

قال قتادة: (يقول: إذا طلقوهُن، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم تبنّى زيد بن حارثة).

قال ابن جرير: ({لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ} يعني: في نكاحِ نساء من تَبَنَوا وليسوا بِبَنيهم ولا أولادهم على صحة إذا هم طلقوهنّ وبنّ منهم {إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا} يقول: إذا قضوا منهنّ حاجاتهم وآرابهم وفارقوهنّ وحَلَلْنَ لغيرهم، ولم يكن ذلكَ نزولًا منهم لهم عنهنّ).

وقوله: {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا} . أي: وكان قضاء الله مقضيًا لا محالة.

والمقصود: قضاء الله تعالى في أن تصير زينب زوجة للنبي صلى الله عليه وسلم، وإبطال مفهوم الجاهلية المتعلق بذلك.

وقوله: {مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ} . قال قتادة: (أي أحل الله له).

والمقصود: ما كان على النبي من حرج - من إثم - فيما أحل الله له من نكاحِ امرأة متبناه بعد تطليقه لها ومفارقته إياها.

وقوله: {سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا} . قال ابن كثير: (أي: هذا حكمُ الله في الأنبياء قبله، لم يكن ليأمُرَهم بشيء وعليهم في ذلكَ حَرَجٌ، وهذا رَدٌّ على من تَوَهَّمَ من المنافقين نقصًا في تَزْويجه امرأة زيد مولاه ودَعِيِّه الذي كان قد تبنَّاه).

وقوله: {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا} . قال النسفي: (قضاء مقضيًا، وحكمًا مبتوتًا).

(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (4791)، وأخرجه مسلم (1428)، وسيأتي تفصيل ذلكَ إن شاء الله عند بلوغ آية الحجاب في هذه السورة.

ص: 182

39 -

40. قوله تعالى: {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا (39) مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (40)}.

في هذه الآياتِ: نَعْتُ الله أتباع الرسل في جهادهم لتبليغ منهاج النبوة ولو كره الكافرون. ونَسْفُه تعالى المفهوم الجاهلي في التَّبني فرسول الله صلى الله عليه وسلم ليس أبًا لأحد من الصحابة بل هو رسول رب العالمين وخاتم النبيين.

فقوله: {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ} .

قال ابن جرير: (يقول تعالى ذكره: سنة الله في الذين خلوا من قبل محمد من الرسل، الذين يبلغون رسالات الله إلى من ارسلوا إليه، ويخافون الله في تركهم تبليغ ذلكَ إياهم، ولا يخافون أحدًا إلا الله، فإنهم إياه يرهبون إن هم قصروا عن تبليغهم رسالة الله إلى من ارسلوا إليه. يقول لنبيه محمد: فمن أولئكَ الرسل الذين هذه صفتهم، فكن ولا تخش أحدًا إلا الله، فإن الله يمنعك من جميع خلقه).

ومن ثمّ فالاية فيها نعتٌ لأتباع الرسل الذين يحملون ميراث النبوة، أن يمضوا على منهاج الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يخافون في الله لومة لائم. وإلا فإن انتشار المنكر في البلاد ينزل سخط رب العباد، وينعكس بفساده على كل شيء.

وفي التنزيل نحو ذلك:

1 -

قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة: 67].

2 -

وقال تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (71)} [التوبة: 71].

ومن كنوز السنة الصحيحة في ذلك:

الحديث الأول: أخرج ابن ماجة بسند حسن عن عائشة، قالت: سمعت رسول الله

ص: 183

- صلى الله عليه وسلم يقول: [مُرُوا بالمعروف وانهوا عن المنكر، قبل أن تدعوا فلا يُستجاب لكم](1).

الحديث الثاني: أخرج الترمذي وابن ماجة وأحمد والحاكم بسند صحيح عن أبي سعيد الخدري: [أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام خطيبًا. فكان فيما قال: ألا، لا يَمْنَعَنَّ رَجُلًا، هَيْبَةُ الناس، أن يقولَ بحقٍّ، إذا علمه. قال: فبكى أبو سعيد، وقال: قد والله! رأينا أشياء، فهبنا](2). ولفظ أحمد: [لا يحقرنَّ أحدكم نفسهُ أن يرى أمر الله فيه مقال ثم لا يقوله، فيقول الله: ما يمنعكَ أن تقول فيه؟ فيقول: رَبِّ، خَشيتُ الناس. فيقول: فأنا أحقُ مَنْ أن يُخشى].

الحديث الثالث: أخرج الإمامُ أحمد في المسند، والإمام أبو داود في السنن، بسند صحيح عن أبي بكر الصديق أنه قال:[أيها الناس! إنكم تقرؤون هذه الآية: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} [المائدة: 105]، وإني سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إنَّ الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا بيده، أوشَكَ أن يَعُمَّهُم الله بعقابٍ منه] (3).

وفي رواية عند ابن ماجة: [إن الناس إذا رأوا المنكر لا يغيرونه، أوشك أن يعمهم الله بعقابه].

الحديث الرابع: أخرج ابن ماجة بسند حسن عن عبيد الله بن جرير، عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ما من قوم يُعمل فيهم بالمعاصي، هم أعزُّ منهم وأمنعُ، لا يغيرون، إلا عَمَّهُم الله بعقاب](4).

وقوله: {وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا} . أي: كفى باللهِ ناصرًا وحافظًا ومعينًا.

وقوله: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} .

أي: ما كان محمد أيها الناس أبا زيد بن حارثة، ولا أبا أحدٍ من رجالكم، فيحرم

(1) حديث حسن. أخرجه ابن ماجة (4004)، كتاب الفتن، باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

(2)

حديث صحيح. أخرجه الترمذي (2/ 30)، وابن ماجة (4007)، والحاكم (4/ 506)، وأحمد (3/ 19)، (3/ 50)، (3/ 61)، وانظر السلسلة الصحيحة (168).

(3)

حديث صحيح. أخرجه أحمد (16)، (29)، وأبو داود (2/ 217)، والترمذي (2/ 25)، (2/ 177)، وابن ماجة (2/ 484) من حديث أبي بكر الصديق رضي الله عنه.

(4)

حديث حسن. أخرجه ابن ماجة في السنن - حديث رقم - (4009)، كتاب الفتن، باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وانظر صحيح سنن ابن ماجة - حديث رقم - (3238).

ص: 184

عليه نكاحُ زوجته بعد فراقه إياها، وإنما هو رسول الله صلى الله عليه وسلم ونبيّه الذي لا نبي بعده.

قال ابن كثير: (وإذا كان لا نبيّ بعده فلا رسول بعده بطريق الأَوْلى والأحرى، لأنَّ مقام الرسالة أخصُّ من مقام النبوة، فإن كل رسول نبيّ، ولا ينعكس).

ومن كنوز السنة الصحيحة في ذلك أحاديث:

الحديث الأول: أخرج البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: [إنَّ مثَلي ومثلَ الأنبياء من قبلي كمَثَل رَجُل بنى بَيْتًا فَأَحْسَنهُ وأَجْمَلَهُ إلا مَوضِعَ لَبِنَةٍ من زاوية، فجعل الناس يطوفون بهِ ويَعْجَبُونَ لهُ ويقولون: هلّا وُضِعَتْ هذه اللَّبنَة؟ قال: فأنا اللَّبِنَةُ، وأنا خاتمُ النبيين](1).

الحديث الثاني: أخرج أحمد والترمذي بسند صحيح عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [إنّ الرسالة والنبوّةَ قد انقطعت، فلا رسولَ بعدي ولا نبي. قال: فشقّ ذلك على الناس. قال: قال: ولكن المُبَشِّرات. قالوا: يا رسول الله، وما المبشرات؟ قال: رؤيا الرجل المسلم، وهي جزءٌ من أجزاء النبوة](2).

الحديث الثالث: أخرج مسلم والترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: [فُضِّلتُ على الأنبياء بست: أُعطيتُ جوامعَ الكلم، وَنُصِرتُ بالرعب، وأُحِلَّت لي الغنائم، وجُعِلت لي الأرضُ طهورًا ومسجدًا، وأُرسلت إلى الخلق كافة، وخُتِمَ بي النبيّون](3).

الحديث الرابع: أخرج البخاري ومسلم عن جبير بن مطعم قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: [إن لي أسماءً: أنا محمد، وأنا أحمدُ، وأنا الماحي الذي يمحو الله بي الكفر، وأنا الحاشِرُ الذي يُحشَرُ الناسُ على قدمي، وأنا العاقبُ الذي ليس بعدَهُ نبيّ](4).

(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري في الصحيح (3535)، كتاب المناقب، وأخرجه مسلم (2287)، وأخرجه كذلك الطيالسي - حديث رقم - (1785).

(2)

حديث صحيح. أخرجه أحمد (3/ 267)، والترمذي (2272)، وإسناده على شرط مسلم.

(3)

حديث صحيح. أخرجه مسلم (523)، والترمذي بإثر (1553)، وأحمد (2/ 411 - 412).

وأخرجه ابن ماجة في السنن (567) مختصرًا.

(4)

حديث صحيح. أخرجه البخاري (3532)، (4896)، ومسلم (2354)، وأحمد (4/ 80).

ص: 185

وقوله: {وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا} .

أي: وكان الله بكل أعمالكم وأقوالكم وغير ذلكَ من أحوالكم وأحوال جميعِ الخلق ذا علم لا يخفى عليه خافية.

41 -

44. قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا (41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (42) هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا (43) تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا (44)}.

في هذه الآياتِ: أمْرُ الله تعالى عباده المؤمنين الإكثار من ذكره وتسبيحه ليكونوا في مقامِ الأولياء الذاكرين. وإعلامهُ تعالى عباده الذاكرين أنه يبادلهم الذكر فيذكرهم في الملأ الأعلى وتشاركهُ الملائكة بالدعاء والاستغفار لهم وهو الرحيم بالمؤمنين. إن تحيتهم يوم يلقونه سلام وقد أعدّ لهم الأجر الكريم.

فقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا} .

أمر من الله عباده بإكثارِ ذكره على نعمه التي لا تحصى فينعكس ذلكَ على قلوبهم وجوارحهم ونفوسهم بالأمن والطمانينة.

قال ابن عباس: (لم يُعذَر أحد في ترك ذكر الله إلَّا من غُلب على عقله).

وفي التنزيل:

1 -

قال تعالى: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ} [البقرة: 152].

2 -

وقال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2)} [الأنفال: 2].

ومن صحيح السنة العطرة في آفاق هذه الآية أحاديث:

الحديث الأول: أخرج الترمذي وابن ماجة بسند حسن عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ألا أنبئكم بخير أعمالكم، وأزكاها عند مليككم، وأرفعِها في دَرَجاتكم، وخيرٌ لكم من إعطاء الذهب والوَرِق، وخيرٌ لكم من أن تلقوا

ص: 186

عدُوَّكم فتضربوا أعناقَهم ويضربوا أعناقكم؟ قالوا: وما هو يا رسول الله؟ قال: ذِكْرُ الله عز وجل] (1).

الحديث الثاني: أخرج أحمد والترمذي بسند حسن عن عبد الله بن بُسر قال: [جاء أعرابيان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال أحدهما: يا رسول الله، أيُّ الناس خيرٌ؟ قال: من طالَ عُمُره وحَسُن عمله. وقال الآخر: يا رسول الله، إن شرائِعَ الإسلام قد كثرت علينا، فمُرني بأمرٍ أتشبَّثُ به. قال: لا يزالُ لسانُكَ رطبًا بذكر الله](2).

الحديث الثالث: أخرج الطبراني في "الأوسط" بإسناد حسن في الشواهد عن أنس مرفوعًا: [ما جلس قومٌ يذكرون الله عز وجل إلا ناداهم مُنادِ مِن السَّماء: قوموا مغفورًا لكم، قد بُدَّلت سيئاتكم حسنات](3).

الحديث الرابع: أخرج الإمام أحمد بسند رجاله رجال الصحيح عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ما مِنْ قومٍ جَلَسُوا مَجْلِسًا لم يذكروا الله فيه إلا رأوه حسرةً يوم القيامة](4).

وله شاهد عند الطبراني والبيهقي بإسنادٍ صحيح من حديث معاذ مرفوعًا بلفظ: [ليسَ يتحَسَّرُ أهلُ الجنةِ على شيءٍ، إلا على ساعةٍ مرَّت بهم لم يذكروا الله عز وجل فيها].

وقوله تعالى: {وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} .

أي: وعظموه سبحانهُ بإشغال ألسنتكم في الصباح والمساء وفي معظم أحوالكم بالتسبيح والتهليل والتحميد والتكبير.

قال مجاهد: (وهذه كلمات يقولهن الطاهر والمحدِث والجنب).

(1) حديث حسن. أخرجه الترمذي (3377)، وابن ماجة (3790)، وأحمد (6/ 446)، والحاكم (1/ 496)، وقال الهيثمي في "المجمع" (10/ 73): رواه أحمد وإسناده حسن.

(2)

حديث حسن. أخرجه أحمد (4/ 190)، والترمذي (3375)، وابن ماجة (3793)، وصححه الحاكم (1/ 495)، ووافقه الذهبي.

(3)

حسن لشواهده. أخرجه الطبراني في "الأوسط"(434)، وانظر المسند (3/ 142)، ورواه البزار وأبو يعلى. انظر سلسلة الأحاديث الصحيحة (2210).

(4)

أخرجه أحمد (2/ 224) ورجاله رجال الصحيح، كما في "المجمع"(10/ 80). وهو حديث حسن. وانظر للشاهد بعده صحيح الجامع الصغير (5322).

ص: 187

وقوله: {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ} .

حثٌّ على الإكثار من الذكر، فإنكم إذا ذكرتم ربكم بادلكم سبحانه بذكركم في الملأ الأعلى من ملائكتهِ، وانشغلت الملائكةُ بالدعاء والاستغفار لكم.

ففي التنزيل:

1 -

قال تعالى: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ (152)} [البقرة: 152].

2 -

وقال الثاني: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (7) رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (8) وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9)} [غافر: 7 - 9].

ومن صحيح السنة العطرة في ذلكَ أحاديث:

الحديث الأول: روى مسلم عن أبي هريرةَ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: [قال الله عز وجل: أنَّا عِنْدَ ظَنِّ عبدي بي، وأنا معهُ حين يذكرني](1).

الحديث الثاني: روى مسلم أيضًا عن أبي هريرةَ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [يقول الله عز وجل: أنَّا عندَ ظَنِّ عبدي بي، وأنا معهُ حين يذكرِني، إن ذَكَرَنِي في نَفْسِهِ، ذكرتُهُ في نَفْسي، وإنْ ذكرني في ملأٍ، ذَكَرْتُهُ في ملأٍ هُمْ خيْرٌ منهم، وإنْ تَقَرَّبَ مني شبرًا، تقرَّبْتُ إليهِ ذِراعًا، وإِنْ تَقَرَّبَ إليَّ ذِراعًا، تَقَرَّبْتُ مِنْه باعًا، وإِنْ أَتاني يمشي، أتيتُهُ هرولة](2).

الحديث الثالث: أخرج أبو داود بسند صحيح عن البراء بن عازب، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[إن الله وملائكته يصلون على الصف الأول](3).

وفي رواية: [إن الله وملائكتهُ يصلون على الصفوف المقدمة].

(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم في صحيحه - حديث رقم - (2675)، كتاب التوبة. باب في الحض على التوبة والفرح بها، وهو جزء من حديث أطول.

(2)

حديث صحيح. أخرجه مسلم في الصحيح - حديث رقم - (2675)، كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب الحث على ذكر الله تعالى.

(3)

حديث صحيح. انظر صحيح أبي داود (670)، ورواه أحمد في المسند، وله شواهد كثيرة. والرواية بعده للنسائي. وانظر صحيح الجامع (1838).

ص: 188

الحديث الرابع: أخرج أحمد بسند صحيح عن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [إذا عاد الرجل أخاه المسلم مشى في خرافة الجَنَّة حتى يجلس، فإذا جلسَ غمرتهُ الرحمة، فإن كان غدوة صلى عليه سبعون ألف ملك حتى يمسي، وإن كانَ عشيًّا صلى عليه سبعون ألف ملك حتى يصبح](1).

وقوله: {لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} . قال ابن زيد: (من الضلالة إلى الهدى).

قال: (والضلالة: الظلمات، والنور: الهدى).

أخرج أحمد في مسندهِ، وابن حبان في صحيحه، عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:[إن الله تعالى خلق خلقهُ في ظلمة، ثم ألقى عليهم من نوره، فمن أصابه من ذلكَ النور اهتدى، ومن أخطأهُ ضَلَّ](2).

والظلمةُ: هي ظلمة الطباع والجهل والأهواء والخضوع للغرائز والشهوات. والنور: هو نور الوحي ونور السنة، نور النبوة والرسالات. نور الفطرة والميثاق مع الله، الذي أخذه سبحانهُ على عباده بِنَعْمان، وهو واد إلى جنب عرفات.

وقوله: {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا} .

أي: اختصهم برحمته سبحانه في الدنيا والآخرة. هداهم في الدنيا إلى سبيل الحق والرشاد، ونجاهم في الآخرةِ من عذاب النار، وهيأ لهم حسن ضيافة واستقبال.

قال تعالى: {وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ (23) سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} [الرعد: 23، 24].

وفي صحيح البخاري عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال -: [قَدِمَ على النبي صلى الله عليه وسلم سَبْيٌ، فإذا امرأةٌ من السَّبيِّ تَحْلُبُ ثَدْيَها تَسقي، إذا وَجَدَتْ صبيًا في السَّبي أخذتهُ، فألصَقَتْهُ ببطنها وأَرضَعته، فقال لنا النبي صلى الله عليه وسلم: أترون هذه طارحة ولدها في النار؟ قُلنا: لا، وهي تقدرُ على أن لا تَطْرَحَهُ، فقال: لله أرحم بعبادهِ من هذه بولدها](3).

(1) حديث صحيح. أخرجه أحمد (1/ 81)، وأبو داود (3099)، وابن ماجة (1/ 440)، والحاكم (1/ 349)، وأبو يعلى في "مسنده"(77)، والبيهقي (3/ 380).

(2)

حديث صحيح. أخرجه أحمد (2/ 176)، (2/ 197)، وابن حبان (1812)، والحاكم (1/ 30)، وانظر سلسلة الأحاديث الصحيحة (1076).

(3)

حديث صحيح. أخرجه البخاري (5999)، كتاب الأدب، باب رحمة الولد وتقبيله ومعانقته.

ص: 189

وفي مسند أحمد بسند صحيح عن أنس قال: [مَرَّ النبي صلى الله عليه وسلم في نفر من أصحابهِ، وصَبيٌّ في الطريق، فلما رأت أمُّهُ القومَ خشيت على ولدها أن يُوطَأَ، فأقبلت تسعى وتقول: ابني ابني! وسَعَتْ فأخذته، فقال القوم: يا رسول الله، ما كانت هذه لِتُلقي ابنَها في النار. قال: فخفَّضَهُم النبي صلى الله عليه وسلم فقال: لا، واللهِ ما يلقي حبيبه في النار](1).

ورواه الحاكم بلفظ: [والله، لا يلقي الله حبيبه في النار].

وقوله: {تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ} .

قال قتادة: (تحية أهل الجنة السلام). قال ابن جرير: (يقول جل ثناؤه: تحية هؤلاء المؤمنين يوم القيامة في الجَنَّة سلام، يقول بعضهم لبعض: أمنة لنا ولكم بدخولنا هذا المدخل من الله أن يعذبنا بالنار أبدًا).

وظاهر الآية يحتمل - كما ذكر الحافظ ابن كثير - أن تكون تحيتهم من الله تعالى يوم يلقونه {سَلَامٌ} . أي: يوم يُسَلِّمُ عليهم، كما قال تعالى:{سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ (58)} [يس: 58].

وقوله: {وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا} . يعني في جناتِ النعيم، من ألوانِ الطعام والشراب واللباس والملاذّ والمناكح والمناظر وما لا عينٌ رأت ولا أذنٌ سمعت ولا خطر على قلب بشر.

45 -

48. قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (45) وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا (46) وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا (47) وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (48)}.

في هذه الآياتِ: تأكيدُ الله تعالى لنبيّه صلى الله عليه وسلم تكليفه بالبشارة والنذارة والشهادة على الأمم والدعوة إلى منهاج النبوة وبثّ البشرى للمؤمنين بأن لهم من الله فضلًا كبيرًا. وأمُره تعالى بعدم الإصغاء لقول الكافرين والمنافقين ومكرهم والتوكل على الله وكفى به تعالى وكيلًا.

(1) أخرجه أحمد (3/ 104)، وأبو يعلى (3747)، وقال الهيثمي في "المجمع" (10/ 212): رواه أحمد والبزار، ورجاله رجال الصحيح. وانظر صحيح الجامع (6972).

ص: 190

فعن قتادة: ({يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا} على أمتك بالبلاغ، {وَمُبَشِّرًا} بالجنة، {وَنَذِيرًا} بالنار).

أخرج البخاري في صحيحه، وأحمد في مسنده، عن عطاء بن يسار قال:[لقيت عبد الله بن عمرو بن العاص فقلت: أخبرني عن صِفَةِ رسول الله صلى الله عليه وسلم في التوارة. قال: أجل، والله إنه لموصوف في التوارة بصفته في القرآن: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا}، وحِرْزًا للأُمِّيين، أنت عبدي ورسولي، سَمَّيْتُكَ المتوكل، لست بِفَظٍّ ولا غليظ ولا صَخَّابٍ في الأسواق: ولا يدفع السيئة بالسيئة، ولكن يعفو ويغفر، ولن يقبضَهُ الله حتى يُقيمَ به المِلّةَ العَوْجاء، بأن يقولوا: لا إله إلا الله، فيفتح بها أعْيُنًا عُميًا، وآذانًا صُمًّا، وقلوبًا غلفًا](1).

وقوله: {وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ} . قال قتادة: (إلى شهادة أن لا إله إلا الله).

وقوله: {بِإِذْنِهِ} . أي: بأمر الله إياك بذلك وتوفيقه.

وقوله: {وَسِرَاجًا مُنِيرًا} . قال ابن كثير: (أي: وأَمْرُكَ ظاهرٌ فيما جئت به من الحق، كالشمس في إشراقها وإضاءتها، لا يجحدُها إلا مُعانِدٌ).

وقوله تعالى: {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا} .

أي: وبشر أهل الإيمان - يا محمد - بأن لهم من الله مقابل ما هم عليه من الإيمان والعمل الصالح الأجر الكبير والثواب الوفير.

وقوله تعالى: {وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا} .

أي: ولا تصغ لقول كافر أو منافق، ولا تستجب لأهوائهم في تركك بلاغ هذا الوحي العظيم أو التفاوض عليه على طريقتهم، واصبر على أذاهم واستعن بالله في طريق جهادك وكفى بالله حافظًا وناصرًا ومعينًا.

وعن مجاهد: (قوله: {وَدَعْ أَذَاهُمْ} قال: أعرض عنهم). وعن قتادة قال: (أي اصبر على أذاهم).

(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (2125)، (4838)، وأحمد (2/ 174)، وأخرجه البغوي في "الأنوار"(455)، وله شاهد عند الدارمي من حديث كعب.

ص: 191

49.

قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا (49)} .

في هذه الآية:

1 -

إطلاق النكاح على العقد وحده.

2 -

إباحة طلاق المرأة قبل الدخول بها.

3 -

وأن الطلاق لا يقع إلا إذا تقدمه نكاح.

4 -

وأنه لا عدة على المرأة المطلقة قبل الدخول بها.

5 -

وأنه لا بد من المتاع وهو السراح الجميل حسب العسر واليسر إن لم يكن سمى لها صداقًا، فإن كان قد سمى لها صداقًا فلها النصف.

قال ابن عباس: (فهذا في الرجل يتزوج المرأة، ثم يطلقها من قبل أن يمسها، فإذا طلقها واحدة بانت منه، ولا عدة عليها تتزوج من شاءت، ثم قرأ: {فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا}. يقول: إن كان سمى لها صداقًا، فليس لها إلا النصف، فإن لم يكن سمى لها صداقًا، مَتَّعها على قدر عسره ويُسره، وهو السراح الجميل).

والجمهور على أنه لا يصح الطلاق قبل النكاح، وهو مذهب الشافعي وأحمد.

وعن ابن عباس قال: (إذا قال: "كل امرأة أتزوجها فهي طالق" قال: ليس بشئ من أجل أن الله تعالى يقول: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ

} الآية). وقال: (ألا ترى أن الطلاق بعد النكاح). وقال: (فلا طلاق قبل النكاح).

وإنما خالف في ذلك مالك وأبو حنيفة فذهبا إلى صحة الطلاق قبل النكاح. والحق ما ذهب إليه الجمهور، وخاصة إذا ثبت تأييد ذلك من صحيح السنة العطرة في أحاديث:

الحديث الأول: أخرج أبو داود والترمذي وابن ماجة وأحمد بسند حسن عن عمرو بن

ص: 192

شعيب عن أبيه عن جده، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:[لا طلاق لابن آدمَ فيما لا يملك](1).

الحديث الثاني: أخرج ابن ماجة بسند حسن عن المِسْور بن مخرمة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[لا طلاقَ قبلَ نِكاح. ولا عِتْقَ قبل مِلْكٍ](2).

الحديث الثالث: أخرج ابن ماجة بسند صحيح لغيره عن علي بن أبي طالب، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[لا طلاقَ قبلَ النِكاح](3).

وأما كون المطلقة غير المدخول بها لا عدة عليها فأمْرٌ مجمع عليه بين الفقهاء، فلها أن تذهب وتتزوج مباشرة لصريح قوله تعالى:{ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} .

وأما مفهوم المتعة هنا فكما جمع ابن عباس بين فهم الآياتِ في ذلك:

الآية الأولى: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} [البقرة: 237].

الآية الثانية: {لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ} [البقرة: 236].

الآية الثالثة: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا (49)} [الأحزاب: 49].

فإنه إن كان سمّى لها صداقًا فليس لها إلا النصف، وإن لم يكن سمَّى لها صداقًا أمتعها على قدر عُسْرِه ويُسْرِه وهو السَّراحُ الجميل.

وفي صحيح البخاري عن عباس بنِ سَهْلٍ، عن أبيه وأبي أسيد قالا:[تزوج النبي صلى الله عليه وسلم أُمَيْمَة بِنْتَ شُراحِيلَ، فلما أُدْخِلتْ عليه بَسَطَ يَدَهُ إليها، فكأنها كَرهَتْ ذلك، فأمَر أبا أُسَيْدٍ أنْ يُجَهِّزَها وَيَكْسُوَها ثَوْبين رَازِقيَّيْن](4).

(1) حديث حسن. أخرجه أبو داود (2190 - 2192)، والترمذي (1181)، وابن ماجة (2047)، وأحمد (2/ 189 - 190)، والحاكم (2/ 305)، وله شواهد.

(2)

حديث حسن صحيح. أخرجه ابن ماجة في السنن (2048)، كتاب الطلاق، باب لا طلاق قبل النكاح، وانظر صحيح سنن ابن ماجة (1667).

(3)

صحيح لغيره. أخرجه ابن ماجة (2049)، الباب السابق. انظر صحيح ابن ماجة (1668).

(4)

حديث صحيح. أخرجه البخاري (5256)، كتاب الطلاق. وانظر كذلك (5257)، (5637).

ص: 193

50 -

52. قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِكَيْلَا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (50) تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلَا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَلِيمًا (51) لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا (52)}.

في هذه الآياتِ: تفصيل الله تعالى ما أحل لنبته صلى الله عليه وسلم من النكاح، وتوضيح الخيار له في التقديم والتأخير والقَسْم.

فقوله: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ} . قال مجاهد: (صدقاتهن).

قال ابن زيد: (كان كل امرأة آتاها مهرًا، فقد أحلّها الله له).

والمقصود: أحل الله تعالى لنبيّه صلى الله عليه وسلم من النساء أزواجه اللاتي أعطاهن مهورهن.

وفي صحيح مسلم وسنن ابن ماجة عن أبي سلمة قال: [سالت عائشة: كم كان صداق نساء النبي صلى الله عليه وسلم؟ قالت: كان صداقه في أزواجه اثنتي عشرة أوقية ونَشًّا. هل تدري ما النَّشُ؟ هو نصف أوقية. وذلك خمس مئة درهم](1).

ويستثنى من نسائه أم حبيبة بنت أبي سفيان، فإن النجاشي أمهرها أربع مئة دينار،

(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم (1426)، كتاب النكاح، وأخرجه ابن ماجة في السنن (1886)، كتاب النكاح، باب صداق النساء، واللفظ له.

ص: 194

وكذلك صفية بنت حيي أعتقها وجعل عتقها صداقها، وكذلك جويرية بنت الحارث أدّى عنها كتابتها إلى ثابت بن قيس بن شمّاس وتزوجها.

وقوله: {وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ} .

قال ابن جرير: (يقول: وأحللنا لك إماءك اللواتى سبيتهُنَّ فملكتهنَّ بالسباء، وصرن لك بفتح الله عليك من الفيء).

وقال ابن كثير: (أي: وأباح لك التَسرِّي مما أخذت من الغنائم، وقد ملك صفية وجويرية وتزوَّجهما. وملَكَ ريحانَةَ بنت شمعون النَّضرية، ومارية القبطية أم ابنه إبراهيم علبه السلام، وكانتا من السراري رضي الله عنهما).

وفي قوله: {وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ} .

قال: (هذا عدل وَسَط بين الإفراط والتفريط، فإنَّ النصارى لا يتزوَّجون المرأة إلا إذا كان الرجلُ بينه وبينها سبعةُ أجداد فصاعدًا، واليهود يتزوَّج أحدهُم بنتَ أخيه وبنتَ أخته، فجاءت هذه الشريعة الكاملة الطاهرة بهدمِ إفراط النَّصارى، فأباح بنتَ العمِّ والعمَّةِ، وبنت الخال والخالةِ، وتحريمَ ما فرّطت فيه اليهودُ من إباحة بنت الأخ والأخت، وهذا شنيعٌ فظيعٌ. وإنما قال: {وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ} فوَحَّدَ لفظ الذكر لِشَرَفه، وجَمعَ الإناث لنقصهن كقوله: {عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ} [النحل: 48]، {يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} [البقرة: 257]، {وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} [الأنعام: 1]، وله نظائر كثيرة).

وعن قتادة: ({اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ} المراد: من هاجر معه إلى المدينة). وفي رواية: (أي: أسلمن).

والمقصود: لا يحل لك من قرابتك المذكور تفصيلها إلا بهذا الشرط.

وقوله: {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} .

قال قتادة: (ليس لامرأة أن تهب نفسها لرجل بغير أمر ولي ولا مهر، إلا للنبي، كانت له خالصة من دون الناس).

وقال ابن زيد: (كان كل امرأة آتاها مهرًا فقد أحلها الله له إلى أن وهب هؤلاء أنفسهن له، فأحللن له دون المؤمنين بغير مهر خالصة لك من دون المؤمنين إلا امرأة لها زوج).

ص: 195

يروي ابن جرير عن صالح بن مسلم قال: سألت الشعبي عن امرأة وهبت نفسها لرجل، قال:(لا يكون، لا تحل له، إنما كانت للنبي صلى الله عليه وسلم).

وفي الصحيحين والمسند والسنن عن سهل بن سعد الساعدي: [أن امرأة جاءت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، جئتُ لأَهَبَ لك نفسي، فنظر إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فَصَعَّدَ النَّظَر إليها وَصَوَّبَهُ ثم طَأْطَأَ رأسَهُ، فلما رأتِ المرأةُ أنه لم يَقْضِ فيها شيئًا جَلَسَت، فقام رجل من أصحابه فقال: يا رسول الله، إن لم يكنْ لك بها حاجةٌ فزوجنيها، فقال له: هل عندك مِن شيء؟ فقال: لا والله يا رسول الله، قال: اذهبْ إلى أهلِكَ فانظر هل تجدُ شيئًا، فذهب ثم رجع فقال: لا والله يا رسول الله، ما وجَدْتُ شيئًا. قال: انظرْ وَلَوْ خَاتَمًا من حديد، فذهب ثُمَّ رجَعَ فقال: لا والله يا رسول الله، ولا خاتَمًا مِن حديد ولكِنْ هذا إزاري - قال سهل: ما لَهُ رداءٌ - فلها نِصْفُه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما تصنع بإزارك؟ إن لَبِسْتَهُ لم يَكُنْ عليها منه شَيْءٌ، وإن لَبِسَتْهُ لم يَكُنْ عليك شيء. فجلس الرجل حتى طال مَجْلِسُهُ، ثم قام فرآه رسول الله صلى الله عليه وسلم مُوَلِّيًا فأمَرَ بِهِ فَدُعِيَ، فلما جاء قال: ماذا معك من القرآن؟ قال: معي سورةُ كذا وسورةُ كذا وسورةُ كذا عَدَّها، قال: أتَقْرَؤُهُنَّ عَنْ ظَهْر قَلْبكَ؟ قال: نعم، قال: اذهب فقد مَلَّكْتُكَها بما معك من القرآن](1).

وفي صحيح البخاري عن ثابت البُنَانِيّ قال: [كُنْتُ عِندَ أنَسٍ وعندَه ابنَةٌ له. قال أنس: جاءت امرأةٌ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تَعْرِض عليه نفسها. قالتْ: يا رسولَ الله، ألكَ بي حاجة؟ فقالت بنْتُ أنس: ما أقَلَّ حياءَها، واسَوأتاهْ، واسَوأتاهْ، قال: هي خيرٌ منك، رَغِبَت في النبي صلى الله عليه وسلم فعَرَضَتْ عليه نَفْسَها](2).

وقوله: {قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} .

أي: قد علمنا - يا محمد - ما فرضنا على المؤمنين وما خصَصناهم به في أحكام النكاح دونك، فإنه لا يحل لهم عقد نكاح على حرّة مسلمة إلا بولي عصبة وشهود

(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (5030)، كتاب فضائل القرآن، باب القراءة عن ظهر قلب، وأخرجه كذلك (2310)، ورواه مسلم (1425)، وأبو داود (2111)، والترمذي (1114)، والنسائي (6/ 113)، وابن ماجة (1889)، وأحمد (5/ 336)، وابن حبان (4093).

(2)

حديث صحيح. أخرجه البخاري (5120)، كتاب النكاح، باب عرض المرأةِ نفسَها على الرجل الصالح. وانظر كذلك الحديث (6123).

ص: 196

عدول، ولا يحل لهم منهن أكثر من أربع، ويحل لهم مما ملكت أيمانهم - مؤمنات أو كتابيات - بالسباء والتسري وغير ذلك من أسباب الملك.

فعن قتادة: ({قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ} قال: إن مما فرض الله عليهم أن لا نكاح إلا بولي وشاهدين). وقال: (كان مما فرض الله عليهم أن لا تزوج امرأة إلا بولي وصداق عند شاهدي عدل، ولا يحلّ لهم من النساء إلا أربع، وما ملكت أيمانهم).

وقوله: {لِكَيْلَا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} .

أي: بَيَّنا هذا البيان وشرحنا هذا الشرح لكيلا يكون عليك ضيق في أمر أنت فيه محتاج إلى السّعة. قال القرطبي: {لِكَيْلَا} متعلق بقوله: {إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ} أي فلا يضيق قلبك حتى يظهر منك أنك قد أثمت عند ربك في شيء. ثم آنس تعالى جميع المؤمنين بغفرانه ورحمته فقال تعالى: {وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} ).

وقوله: {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ} - يحمل تأويلين حسب سبب النزول:

سبب النزول الأول:

أخرج البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: [كنت أغار على اللاتي وهبن أنفسهن لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأقول: أتهب المرأة نفسها؟ فلما أنزل الله تعالى: {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ}. قلت: ما أرى ربك إلا يسارع في هواك](1).

ورواه الحاكم وفيه: (فأنزل الله هذه الآية في نساء النبي صلى الله عليه وسلم).

ورواه أحمد عنها بلفظ: [أنَّها كانت تُعَيِّرُ النساء اللاتي وهبن أنفسهن لرسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: ألا تستحي المرأة أن تعرضَ نفسَها بغيرِ صَدَاق؟ فأنزل الله عز وجل: {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ}، قالت: إني أرى ربّك يُسارع لك في هواك].

والمعنى: ({تُرْجِي} - تؤخر - من شئت من الواهبات، {وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ} -

(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (5113)، ومسلم (1464)، ح (50)، وابن ماجة في السنن (2000)، وأخرجه أحمد في المسند (6/ 158).

ص: 197

أي وتقبل منهن من تشاء فتضمها إلى زوجاتك، وتردّ منهن من تشاء، ومن رددتها فأنت كذلك بالخيار بعد ذلك، إن شئت عُدْتَ فيها فآويتها. ولهذا قال:{وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ} .

قال البخاري: (قال ابن عباس: {تُرْجِي}: تُؤَخِّر، {أَرْجِهْ} [الأعراف: 111]: أخِّرْهُ).

قال عامر الشعبي: (كُنَّ نساءَ وهبن أنفسهن للنبي صلى الله عليه وسلم، فدخل ببعضهن وأرجأَ بعضَهن لم يُنكحن بعده، منهم أم شَريك).

سبب النزول الثاني:

أخرج البخاري ومسلم وأبو داود عن معاذةَ: [عن عائشة رضي الله عنها: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يستأذن في يوم المرأة مِنّا، بعد أن أُنْزِلت هذه الآية: {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ}. فقلت لها: ما كُنتِ تقولين؟ قالت: كنتُ أقولُ له: إنْ كان ذاكَ إليَّ فإني لا أُريدُ يا رسول الله، أن أوثِرَ عليك أحدًا](1).

قال مجاهد: ({تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ} : تعزل بغير طلاق من أزواجك من تشاء.

{وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ} قال: تردّها إليك).

قال قتادة: (فجعله الله في حل من ذلك أن يدع من يشاء منهن، ويأتي من يشاء منهن بغير قسم، وكان نبي الله يقسم). قال: ({وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ}: جميعًا هذه في نسائه، إن شاء أتى من شاء منهن، ولا جناح عليه). وقال ابن زيد: (من ابتغى أصابه، ومن عزل لم يصبه).

فالمعنى: لا حرج عليك في أزواجك أن تترك القسم لهنَّ فَتُقَدِّمَ من شئت، وتؤخر من شئت.

وبالجمع بين سببي النزول يكون المقصود أنّ الآية نزلت في الواهبات، وفي زوجاته صلى الله عليه وسلم. فهو يقدم من شاء من الواهبات ويؤخر، وكذلك يقدم من شاء من الزوجات في القَسْم ويؤخر.

(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (4789)، كتاب التفسير، وأخرجه مسلم (1476)، وأبو داود (2136)، وأخرجه أحمد (6/ 76)، وابن حبان (4206).

ص: 198

وقوله: {ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلَا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ} .

قال قتادة: (إذا علمن أن هذا جاء من الله لرخصة، كان أطيب لأنفسهن، وأقل لحزنهن).

والأجمل من ذلك أن يقال: إنه كان يَقْسِمُ لهن صلى الله عليه وسلم ويقيم العدل بينهن والإنصاف رغم الرخصة له في الاختيار، فإذا علمن ذلك منه فرِحْن بذلك واستبشرن به واعترفن بالجميل له والفضل والمِنّة.

وقوله: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ} . قال ابن جرير: (يقول: والله يعلم ما في قلوب الرجال من ميلها إلى بعض من عنده من النساء دون بعض بالهوى والمحبة، يقول: فلذلك وضع عنك الحرج يا محمد فيما وُضعَ عنك من ابتغاء من ابتغيت منهنّ ممن عزلت، تفضلًا منه عليك بذلك وتكرمة).

وقوله: {وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَلِيمًا} . أي: {عَلِيمًا} بضمائر الأسرار ومما لا يمكن دفعه من ميل القلوب، {حَلِيمًا} على عباده، يفسح لهم الوقت ليتوبوا إليه فلا يعاجلهم بالعقوبة.

وفوله تعالى: {لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا} .

قال ابن عباس: (نُهِيَ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتزوج بعد نسائه الأُوَل شيئًا).

وقال قتادة: (لما خَيّرهن، فاخترن الله ورسوله والدار الآخرة قصره عليهن فقال: {لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ} وهن التسع اللاتي اخترن الله ورسوله). قال ابن كثير: (فلما اخترن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان جزاؤهن أنَّ الله قصرَه عليهنّ، وحرَّم عليه أن يتزوج بغيرهن، أو يستبدل بِهنّ أزواجًا غيرهُنَّ، ولو أعجبه حُسنُهنَّ إلا الإماء والسَّراري فلا حَجْرَ عليه فيهن. ثم إنه تعالى رفع عنه الحجر في ذلك ونسخ حكم هذه الآية، وأباح له التزوج، ولكن لم يقع منه بعد ذلك تزوُّجٌ لتكون المِنَّةُ للرسول، عليهِنَّ).

ص: 199

أخرج الترمذي وأحمد والنسائي بسند صحيح عن عائشة رضي الله عنها قالت: [ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أحَلَّ الله له النساء](1).

وعن قتادة: ({وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا} أي حفيظًا). قال ابن جرير: (يقول: وكان الله على كل شيء ما أحل لك وحرّم عليك، وغير ذلك من الأشياء كلها، حفيظًا لا يعزُب عنه علم شيء من ذلك، ولا يؤوده حفظ ذلك كله).

53 -

54. قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا (53) إِنْ تُبْدُوا شَيْئًا أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (54)}.

في هذه الآياتِ: ورود آية الحجاب، التى تعددت أسباب نزولها واحتاجت إليها الأمة حتى أكرم الله تعالى المسلمين بنزولها، وهي تتضمن كثيرًا من الأحكام الجليلة والآداب الشرعية الرفيعة.

الأحاديث الواردة في أسباب نزولها:

الحديث الأول: أخرج الترمذي بسند صحيح عن أنس بن مالك قال: [تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل بأهله، قال: فصنعت أمي أم سُليم حَيسًا فجعلته في تور فقالت: يا أنس اذهب بهذا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقل له: بعثت بهذا إليك أمِّي وهي تقرؤك السلام وتقول: إن هذا لك منا قليل يا رسول الله، قال: فذهبت به إلى رسول الله فقلت: إن أمي تقرؤك السلام وتقول: إن هذا منا لك قليل، فقال:"ضعه"، ثم قال: "اذهب فادع

(1) موقوف صحيح. أخرجه أحمد (6/ 41)، (6/ 180)، والترمذي (3216)، والنسائي (6/ 56)، وابن حبان (6366) وإسناده صحيح على شرطهما.

ص: 200

لي فلانًا وفلانًا من لقيت، وسمى رجالًا، قال: فدعوت من سمّى، ومن لقيت.

قال: قلت لأنس: عدد كم كانوا؟ قال: زهاء ثلاث مئة، قال: وقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا أنس هات بالتور"، قال: فدخلوا حتى امتلأت الصفة والحجرة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ليتحلق عشرة عشرة، وليأكل كل إنسان مما يليه"، قال: فأكلوا حتى شبعوا، قال: فخرجت طائفة، ودخلت طائفة، حتى أكلوا كلهم، قال: فقال لي: "يا أنس ارفع" قال: فرفعت فما أدري حين وضعت كان أكثر أم حين رفعت، قال: وجلس طوائف منهم يتحدثون في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس وزوجته مولية وجهها إلى الحائط، فثقلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلم على نسائه، ثم رجع فلما رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد رجع، ظنوا أنهم قد ثقلوا عليه، فابتدروا الباب فخرجوا كلهم، وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أرخى الستر ودخل، وأنا جالس في الحجرة فلم يلبث إلا يسيرًا حتى خرج عليّ وأنزلت هذه الآيات، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأهن على الناس:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ} إلى آخر الآية. قال الجعد: قال أنس: أنا أحدث الناس عهدًا بهذه الآيات وحجبن نساء النبي صلى الله عليه وسلم] (1).

الحديث الثاني: أخرج البخاري في مواضع من صحيحه عن أنس رضي الله عنه قال: [أَوْلَمَ رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بنى بزينب ابنة جحش، فأشبِع الناس خبزًا ولحمًا، ثم خرج إلى حجر أمهات المؤمنين كما كان يصنع صبيحة بنائه فيُسَلِّم عليهن ويَدْعو لهن، وَيُسَلِّمْنَ عليه ويَدْعونَ لَهُ، فلما رجع إلى بيته رأى رجلين جرى بهما الحديث فلما رآهما رجع عن بيته، فلما رأى الرجلان رسول الله صلى الله عليه وسلم رجع عن بيته وثبا مسرعين فما أدري أنا أخبرته بخروجهما أم أُخْبِرَ، فرجَعَ حتى دخل البيت وأرخى الستر بيني وبينه، وأُنزلت آية الحجاب](2). وفي رواية: (فأنزل الله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ .... }

).

الحديث الثالث: أخرج البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: [كان عمر بن الخطاب يقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم أَحْجِبْ نساءَكَ. قالت: فلم يفعل، وكان أزواج

(1) حديث صحيح. أخرجه الترمذي في التفسير. انظر صحيح سنن الترمذي - حديث رقم - (2571)، وأصله في الصحيحين.

(2)

حديث صحيح. أخرجه البخاري (4791)، ومسلم (1428)، والنسائي في "التفسير"(440).

ص: 201

النبي صلى الله عليه وسلم يخرجن ليلًا إلى ليل قبيل المناصع، فخرجت سودة بنت زمعة وكانت امرأة طويلة، فرآها عمر بن الخطاب وهو في المجلس فقال: عرفناك يا سودة حرصًا على أن ينزل الحجاب. قالت: فأنزل الله عز وجل آية الحجاب] (1).

وله شاهد عند البخاري عن أنس قال: [قال عمر بن الخطاب، يا رسول الله، يدخل عليك البرُّ والفاجِرُ، فلو أمرتَ أمهات المؤمنين بالحجاب؟ فأنزل الله آية الحجاب](2).

الحديث الرابع: أخرج الطبراني في "المعجم الصغير" ورجاله ثقات عن عائشة رضي الله عنها قالت: [كنت آكُلُ مع النبي صلى الله عليه وسلم في قعب، فمَرَّ عمر فدعاه فأكل فأصابت إصبعه إصبعي، فقال: حَسٍّ - أو: أَوَّه - لو أطاع فيكن ما رأتكُنَّ عينٌ، فنزلت آية الحجاب](3).

فقوله: {لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ} - حَظْرٌ على المؤمنين دخول منازل رسول الله صلى الله عليه وسلم بغير إذن، كما كان يصنع أهل الجاهلية في دخولهم وبقي ذلك في ابتداء الإسلام، حتى غار الله لهذه الأمة فنهاهم عن الدخول إلى بيوت بعضهم دون إذن.

وفي الصحيحين من حديث عقبة بن عامر مرفوعًا: [إياكم والدخولَ على النساء](4).

وقوله: ({إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ}. قال ابن عباس: (غير ناظرين الطعامَ أن يُصْنَع). وقال قتادة: (غير متحينين طعامه). وقال مجاهد: (- غير - متحينين نضجه).

والمعنى: إذا دعيتم إلى الطعام في بيوت نبي الله صلى الله عليه وسلم فَلَبّوا، ولكن لا ترقبوا الطعام - إن لم تُدعوا - حتى إذا طُبِخَ وقارب على النضج والاستواء تعرضتم للدخول بسيف

(1) حديث صحيح. انظر صحيح البخاري (146)، كتاب الوضوء. باب خروج النساء إلى البَرَاز. وكذلك (4793)، كتاب التفسير، سورة الأحزاب، آية (33). ورواه مسلم وغيره.

(2)

حديث صحيح. أخرجه البخاري في الصحيح (4790)، كتاب التفسير، عند هذه الآية.

(3)

حديث صحيح. رواه الطبراني في "الصغير "، وعزاه الهيثمي إلى "الأوسط" وقال: رجاله رجال الصحيح غير موسى بن أبي كثير وهو ثقة. انظر: "الصحيح المسند من أسباب النزول" - الوادعي - سورة الأحزاب، آية (53).

(4)

حديث صحيح. أخرجه البخاري (5232)، ومسلم (2172)، وأخرجه أحمد (4/ 149)، وأخرجه الترمذي في السنن - حديث رقم - (1171).

ص: 202

الحياء، فإن هذا مما يكرهه الله ويَذُمُّه. وهذا نصَّ في ذم التطفّل والطفيليين وتحريم ذلك السلوك.

وقوله: {وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا} .

أى: ولكن إذا دعاكم رسول الله صلى الله عليه وسلم فادخلوا البيت الذي دعاكم إليه.

وفي صحيح مسلم عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [إذا دعا أحدُكم أخاه فَلْيُجِبْ، عُرْسًا كانَ أو غيره](1).

وفي صحيح البخاري ومسند أحمد من حديث أبي هريرة مرفوعًا: [لو دُعيتُ إلى ذِراعٍ لأجَبْتُ، ولو أُهْدِيَ إليَّ كُرَاع لَقَبِلْتُ](2).

وقوله: {فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا} .

أي: فإذا فرغتم من الطعام فتحركوا للخروج وتفرقوا فانتشروا في الأرض، فإن في ذلك تخفيفًا عن أهل المنزل.

وقوله: {وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ} . قال مجاهد: (بعد أن تأكلوا).

أي: ولا مسترسلين بالحديث بعد انتهائكم من الطعام إيناسًا من بعضكم لبعض، كما حصل لأولئك النفر الثلاثة الذين أحرجوا رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وقوله: {إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ} .

أي: إن دخولكم بيوت النبي من غير أن يؤذن لكم، ثم استمتاعكم بالحديث بعد فراغكم من أكل الطعام إذا دعيتم، كل ذلك كان يشق على رسول الله صلى الله عليه وسلم فيستحي من إخراجكم أو الإشارة إليكم بما يعرفكم بذلك، والله تعالى لا يستحيي من بيان الحق لكم.

وقوله: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} .

قال قتادة: (بلغنا أنهن أمرن بالحجاب عند ذلك). قال ابن كثير: (أي: وكما نهيتكم عن الدخول عليهن، كذلك لا تنظُروا إليهنَّ بالكُلِّية، ولو كان لأحدكم حاجة يريد تناوُلَها منهن فلا ينظر إليهنَّ، ولا يسألهن حاجةً إلا من وراء حجاب).

(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم في الصحيح (1429) ح (100)، وفي صحيح البخاري نحوه.

(2)

حديث صحيح. أخرجه البخاري (5178)، كتاب النكاح، وكذلك (2568)، كتاب الهبة وفضلها والتحريض عليها. وأخرجه أحمد (2/ 424)، وابن حبان (5291).

ص: 203

وقوله: {ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ} . قال النسفي: (من خواطر الشيطان وعوارض الفتن وكانت النساء قبل نزول هذه الآية يبرزن للرجال وكان عمر رضي الله عنه يحب ضرب الحجاب عليهن ويود أن ينزل فيه وقال يا رسول الله! يدخل عليك البر والفاجر فلو أمرت أمهات المؤمنين بالحجاب فنزلت).

وقوله: {وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ} .

قال القرطبي: (هذا تكرار للعلة وتأكيد لحكمها، وتأكيد العلل أقوى في الأحكام).

وقوله: {وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا} . أي: فلهن حكم الأمهات في التحريم.

قال الشافعي: (وأزواجه صلى الله عليه وسلم اللاتي مات عنهن لا يحل لأحد نكاحهن، ومن استحلّ ذلك كان كافرًا، لقوله تعالى: {وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا}).

وقوله: {إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا} . قال ابن جرير: (يقول: إن أذاكم رسول الله صلى الله عليه وسلم ونكاحكم أزواجه من بعده عند الله عظيم من الإثم).

وقوله تعالى: {إِنْ تُبْدُوا شَيْئًا أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا} .

أي: إن الله تعالى يعلم السر وأخفى، فهو يعلم ما تخفيه صدور أهل الخواطر المكروهة من الذين خوطبوا بالآيات السابقة، بقوله:{وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا} . قال القرطبي: (البارئ سبحانه وتعالى عالم بما بدا وما خفي وما كان وما لم يكن، لا يخفى عليه ماض تَقَضَّى، ولا مستقبل يأتي. وهذا على العموم تمدّح به، وهو أهل المدح والحمد. والمراد به هاهنا التوبيخ والوعيد لمن تقدّم التعريض به في الآية قبلها).

55.

قوله تعالى: {لَا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ وَلَا أَبْنَائِهِنَّ وَلَا إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ أَخَوَاتِهِنَّ وَلَا نِسَائِهِنَّ وَلَا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا (55)} .

في هذه الآية: استثناء بعض الأقارب من عموم وجوب الاحتجاب من الأجانب،

ص: 204

فإنه لا يجب على النساء الاحتجاب من الآباء والأبناء والإخوة وأبناء الإخوة وأبناء الأخوات ونساء المؤمنات والأرقاء من الذكور والإناث، وأمْرٌ للنساء خاصة في ختام الآية بلزوم خشية الله وامتثال أمره والخوف منه، فإن الله تبارك وتعالى شاهد على ما يبدين من زينتهن وما يخفين منها، وهو سبحانه يعلم صدق السرائر في لزوم العفاف من إرادة الفتنة وإشاعة الفساد، والله لا يحب الفساد.

فقوله: {لَا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ} .. الآية كلها. قال مجاهد: (أن تضع الجلباب).

وعن قتادة: (قوله: {لا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ}

إلى {شَهِيدًا} : فرخص لهؤلاء أن لا يحتجبن منهم).

وهذه الآية كقوله تعالى: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ} [النور: 31].

وعن ابن زيد: ({وَلَا نِسَائِهِنَّ} قال: نساء المؤمنات الحرائر ليس عليهن جناح أن يرين تلك الزينة، قال: وإنما هذا كله في الزينة. قال: ولا يجوز للمرأة أن تنظر إلى شيء من عورة المرأة).

قلت: والنصوص بمجموعها تدل على جواز كشف المرأة شعرها وزينتها الظاهرة أمام عموم النساء، ولا دليل على التفريق بين مسلمة وغير مسلمة، فالآية هنا خرجت مخرج الغالب في العشرة، وأن المقصود عموم النساء والزيادة بـ "هنّ" إيقاعية لانسجامها مع ما قبلها، وأما الاحتجاج بدعوى وصف الأجنبية أو غير المسلمة محاسن المرأة المسلمة لذويها من الرجال، فإن ذلك غير مختص بغير المسلمات، بل إن كان في المسلمات من يشيع ذلك منهن فالتغطية أولى.

وقوله: {وَلَا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ} . يعني به أرقاءَهُنَّ من المذكور والإناث.

قال ابن زيد: (وكان أزواج النبي صلى الله عليه وسلم لا يحتجبن من المماليك).

وقوله: {وَاتَّقِينَ اللَّهَ} . قال ابن جرير: (يقول: وخفن الله أيها النساء أن تتعدَّين ما حدّ الله لَكُنَّ، فتبدين من زينتكنَّ ما ليس لكنّ أن تبدينه، أو تتركن الحجاب الذي أمركنّ الله بلزومه، إلا فيما أباح لكنَّ تركه، والْزَمْنَ طاعته).

وقوله: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا} . أي: إن الله شاهد على كيفية امتثالكم لأمر الحجاب، وستر الزينة والعورات، أو كشف ما يجوز من الزينة لمن أباح

ص: 205

الله له. فهو تعالى شاهد على عباده بطاعة أمره أو مخالفته، وشاهد على كل شيء. قال ابن عطاء:(الشهيد الذي يعلم خطرات القلوب كما يعلم حركات الجوارح).

56.

قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (56)} .

في هذه الآية: تَأْكيدُ صلاة الله تعالى وملائكته الكرام، على النبي عليه الصلاة والسلام، وأَمْرُ المؤمنين بامتثال هذا الخُلُق الرفيع في مختلف الأوقات والأزمان، وأفضل ذلك يوم الجمعة أعظم الأيام.

قال البخاري: (قال أبو العالية: صلاة الله تعالى ثناؤه عليه عند الملائكة، وصلاة الملائكة الدعاء. وقال ابن عباس: {يُصَلُّونَ}: يُبَرِّكون) - هكذا علّقَهُ البخاري عنهما.

وقال الترمذي: (ورُوي عَنْ سُفيانَ الثوري وغير واحدٍ من أهل العلم قالوا: صلاة الرب الرحمةُ، وصلاةُ الملائكةِ الاستغفارُ).

قال ابن كثير: (والمقصود من هذه الآية أن الله سبحانه وتعالى أخبر عبادَهُ بمنزلِةِ عبده ونبيِّه عندَهُ في الملأ الأعلى، بأنه يُثني عليه عند الملائكة المقربين، وأن الملائكة تُصَلي عليه. ثم أمر تعالى أهل العالم السفلي بالصلاة والتسليم عليه، ليجتمع الثناءُ عليه من أهل العالَمين العُلوي والسفلي جميعًا).

وقد أخبر الله تعالى في محكم التنزيل أنه يصلي على عباده المؤمنين:

1 -

قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا (41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (42) هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا} [الأحزاب: 41 - 43].

2 -

وقال تعالى: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة: 155 - 157].

وقد حفلت السنة العطرة بآفاق هذه الآية وصفة الصلاة على هذا النبي الكريم، عليه وعلى النبيين أفضل الصلاة والتسليم. وذلك في أحاديث:

الحديث الأول: أخرج البخاري وأحمد والنسائي عن كعب بن عُجْرَة قال: قيل:

ص: 206

يا رسول الله، أما السلام عليك فقد عَرَفناه، فكيف الصلاة؟ فقال: أقولوا: اللهم صَلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد. اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد] (1).

الحديث الثاني: أخرج الإمام أحمد والشيخان ومعظم أهل السنن عن ابن أبي ليلى قال: لقيني كعبُ بن عُجْرَة فقال: ألا أُهدي لك هَدِيّة؟ خَرَجَ علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلنا: يا رسول الله، قد عَلِمْنَا - أو: عرفنا - كيف السلامُ عليك، فكيف الصلاة؟ قال: قولوا: اللهم صلِّ على محمد وعلى آل مُحَمَّدٍ، كما صَلَّيْتَ على آل إبراهيم إنك حميد مجيدٌ. اللهم بارك على مُحَمَّدٍ وعلى آل محمد، كما باركت على آل إبراهيمَ، إنك حميد مجيدٌ] (2).

الحديث الثالث: أخرج البخاري في كتاب التفسير من صحيحه - عند تفسير هذه الآية - عن أبي سعيد الخدري قال: [قلنا: يا رسول الله، هذا التسليم فكيف نُصَلّي عليك؟ قال: قولوا: اللهم صَلِّ على مُحَمَّدٍ عَبْدِكَ ورسولكَ، كما صَلَّيتَ على آلِ إبراهيم، وبارك على محمدٍ وعلى آل محمدٍ، كما باركت على إبراهيم" (3). وفي رواية:(كما صليت على إبراهيم. وبارك على محمد وآل محمد، كما باركت على إبراهيم وآل إبراهيم).

الحديث الرابع: أخرج أحمد والشيخان عن أبي حُميد الساعدي أنهم قالوا: يا رسول الله، كيف نُصلي عليك؟ قال: قولوا: [اللهم، صَلِّ على محمد وأزواجه وذُرِّيَتِهِ، كما صَلَّيْتَ على آل إبراهيم، وبارك على محمد وأزواجه وذريته، كما باركت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيدٌ](4).

الحديث الخامس: روى مسلم وأبو داود والنسائي والترمذي عن أبي مسعود

(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري في صحيحه (3370) عند تفسير هذه الآية، وأخرجه النسائي في "اليوم والليلة"(359)، وأخرجه أحمد في المسند (4/ 244).

(2)

حديث صحيح. أخرجه أحمد (4/ 241)، والبخاري (6357)، كتاب الدعوات، باب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم. وأخرجه مسلم (406)، وأبو داود (976) - (977)، والنسائي (3/ 48)، وابن ماجة (904)، وأخرجه ابن حبان (912)، وغيرهم.

(3)

حديث صحيح. أخرجه البخاري (4798)، كتاب التفسير. سورة الأحزاب، آية (56).

(4)

حديث صحيح. أخرجه البخاري (3369)، ومسلم (407)، وأبو داود (979)، والنسائي (3/ 49)، وأخرجه ابن ماجة (905).

ص: 207

الأنصاري قال: [أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن في مجلس سعدِ بن عُبادة، فقال له بشير بن سعد: أمرنا الله أن نُصَلِّي عليك يا رسول الله، فكيف نُصَلِّي عليك؟ قال: فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى تَمَنَّيْنا أنه لم يسأله، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قولوا: اللهم صَلِّ على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على آل إبراهيم، في العالمين إنك حميد مجيد. والسلام كما قد علمتم](1).

قلت: وواجب على المصلِّي أن يصلي على رسول الله صلى الله عليه وسلم في التشهد الأخير كما ذهب الشافعي وغيره، فإن تركه لم تكتمل صلاته.

فقد أخرج أبو داود وابن خزيمة وأحمد بسند حسن عن أبي مسعود البدرى أنهم قالوا: يا رسول الله، أما السلام فقد عرفناه، فكيف نُصَلِّي عليك إذا نحن صَلُّيْنا في صلاتنا؟ فقال:[قولوا: اللهم، صل على محمد وعلى آل محمد .... ](2).

وفي المسند وسنن أبي داود والترمذي والنسائي عن فَضَالة بن عُبَيْد - صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولى: [سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم، رجلًا يدعو في صلاته، لم يُمَجِّد الله تعالى، ولم يُصَلِّ على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عَجَّلَ هذا". ثم دعاه فقال له - أو لغيره -: "إذا صلى أحدُكم فليبدأ بتحميد رَبِّه جَلَّ وعَزَّ والثناء عليه، ثم يُصلي على النبي صلى الله عليه وسلم"، ثم يدعو بَعْدُ بما شاء"](3).

وأما فضائل وثواب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فكثيرة، وفي ذلك أحاديث جميلة: الحديث الأول: أخرج مسلم في صحيحه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [من صلّى عليّ واحدة، صلى الله عليه بها عشرًا](4).

الحديث الثاني: أخرج الديلمي بسند حسن عن أبي بكر الصديق مرفوعًا: [أكثروا

(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم (405)، وأبو داود (980)، والترمذي (3220)، وأخرجه النسائي (3/ 45)، ورواه ابن جرير في التفسير.

(2)

حديث حسن. أخرجه أبو داود (980)، وابن خزيمة (711)، وابن حبان (1909)، وأحمد (4/ 119)، وصححه الحاكم (1/ 268) على شرط مسلم ووافقه الذهبي.

(3)

حديث صحيح. أخرجه أبو داود (1481)، باب الدعاء. وأخرجه الترمذي (3477)، والنسائي (3/ 44)، وأحمد (6/ 18)، وابن خزيمة (709 - 710)، وابن حبان (1960)، وصححه الحاكم (1/ 230)، ووافقه الذهبي، وأقره الألباني. انظر صححيح أبي داود (1314).

(4)

حديث صحيح. رواه مسلم (408) - في كتاب الصلاة - من صحيحه.

ص: 208

الصلاة عليّ، فإن الله وَكَّلَ بي ملكًا عند قبري، فإذا صَلَّى على رجل من أمتي قال لي ذلك الملك: يا محمد! إن فلانَ بن فلان صلى عليك الساعة] (1).

الحديث الثالث: أخرج الطبراني بسند حسن عن عمار مرفوعًا: [إنَّ لله ملكًا أعطاه أسماع الخلائق فهو قائم على قبري إذا مُتُّ، فليس أحدٌ يصلي على صلاة إلا قال: يا محمد صلى عليك فلان بن فلان. قال: فيصلي الرب تبارك وتعالى على ذلك بكل واحدة عشرًا](2).

الحديث الرابع: أخرج أحمد والحاكم بسند رجاله ثقات عن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه قال: [خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فاتبَعْتُه حتى دَخَلَ نخلًا، فَسَجَد فأطال السجودَ، حتى خفت - أو: خشيت - أن يكون الله قد توفَّاه أو قَبَضَهُ. قال: فَجئتُ أنْظُرُ، فرفع رأسه فقال: مالكَ يا عبدَ الرحمن؟ قال: فذكرتُ ذلك له فقال: إن جبريلَ عليه السلام قال لي: ألا أُبَشِّرك؟ إن الله عز وجل يقول: من صَلَّى عليك صَليتُ عليه، ومن سَلَّم عليكَ سَلَّمْتُ عليه](3).

الحديث الخامس: أخرج الترمذي بسند حسن عن أبي بن كعب قال: [كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ذهب ثلثا الليل قام فقال: يا أيها الناسُ، اذكروا الله اذكروا الله، جاءت الراجفة تتبعها الرادفةُ، جاء الموتُ بما فيه، جاء الموتُ بما فيه. قال أُبَيٌّ: قلتُ: يا رسول الله، إني أكْثِرُ الصلاة عليك، فكم أجعلُ لك من صَلاتي؟ قال: ما شئت. قلت: الربعُ؟ قال: ما شئت، فإن زدت فهو خير لك. قلت: فالنصفُ؟ قال: ما شئت، فإن زِدْتَ فهو خير لك. قلت: فالثلثين؟ قال: ما شئت، فإن زِدْتَ فهو خير لك. قلت: أجعل لك صلاتي كلها؟ قال: إذن تكفى هَمَّكَ، ويُغْفَرُ لك ذنبُكَ](4).

(1) حديث حسن. أخرجه الديلمي (1/ 1/ 31)، وانظر سلسلة الأحاديث الصحيحة (1530).

(2)

حديث حسن. انظر: السخاوي في "القول البديع" ص 117، وزوائد البزار (306)، وكذلك أخرجه بنحوه البخاري في "التاريخ"(3/ 2/ 416)، وانظر المرجع السابق - السلسلة الصحيحة - عقب الحديث (1530)، وصحيح الجامع الصغير (2172).

(3)

أخرجه أحمد (1/ 191)، والحاكم (2/ 333)، وصححه ووافقه الذهبي، وذكره الهيثمي في "المجمع" (2/ 287) وقال: رواه أحمد (3/ 845) ورجاله ثقات.

(4)

حديث حسن. أخرجه الترمذي (2457)، وأحمد (5/ 136)، وصححه الحاكم (2/ 513) ووافقه الذهبي. وقال الترمذي:(حسن صحيح)، وله شواهد.

ص: 209

وله شاهد في مسند أحمد عن الطفيل بن أبيّ، عن أبيه قال: قال رجل: يا رسول الله، أرأيتَ إن جعلتُ صلاتى كُلَّها عليك؟ قال:[إذن يكفِيكَ الله ما أَهَمَّكَ من دُنياك وَآخِرَتِكَ](1).

الحديث السادس: أخرج النسائي وأحمد وابن حبان بسند حسن عن عبد الله بن أبي طلحة، عن أبيه: [أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء ذات يوم والسرور يُرى في وجهه، فقالوا: يا رسول الله، إنا لنرى السرورَ في وجهك. فقال: إنه أتاني المَلَكُ فقال: يا محمد، أما يُرضيكَ أنَّ رَبَّكَ عز وجل يقول: إنه لا يُصلي عليك أحدٌ من أمتك إلا صليت عليه عشرًا، ولا يُسَلِّم عليك أحدٌ من أُمَّتِكَ إلا سَلَّمْتَ عليه عشرًا؟ قلت: بلى" (2).

الحديث السابع: أخرج النسائي وأبو يعلى بسند جيد عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [مَنْ ذكرت عنده فليصل عليَّ، ومن صلَّى علي مرةً واحدةً صلّى الله عليه عشرًا](3).

الحديث الثامن: أخرج البخاري في "الأدب المفرد" بسند جيد عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [مَنْ صَلَّى عليَّ صلاةً واحدةً صَلَّى الله عليه عشرَ صَلَوات، وحَطَّ عنه عشرَ خطيئات](4).

الحديث التاسع: أخرج الترمذي وأحمد والنسائي بسند جيد عن علي بن الحسين عن أبيه: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: [البخيل من ذُكِرْتُ عنده ثم لم يُصَلِّ عليَّ](5).

الحديث العاشر: أخرج الترمذي بسند حسن عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [رَغِمَ أنْفُ رَجُلٍ ذُكِرْتُ عِنْدَهُ فَلَمْ يُصَلِّ عَلَيَّ، وَرَغِمَ أنفُ رجُلٍ دخَلَ عليه رمضانُ

(1) حديث حسن. أخرجه أحمد في المسند (5/ 136)، وانظر الحديث السابق.

(2)

حديث حسن. أخرجه النسائي (3/ 50)، وأحمد (4/ 30)، (4/ 152)، وأخرجه ابن حبان (915)، وصححه الحاكم (2/ 420)، ووافقه الذهبي.

(3)

إسناده جيد. أخرجه النسائي في "الكبرى"(9889)، وأبو يعلى (4002)، وأخرجه الطيالسي (2122)، وله شواهد.

(4)

حديث صحيح. أخرجه البخاري في "الأدب المفرد"(643)، والنسائي في "الكبرى"(9890)، وأخرجه أحمد (3/ 102)، (3/ 261)، وابن حبان (904) وسنده جيد.

(5)

حديث صحيح. أخرجه الترمذي (3546)، والنسائي (9884) في الكبرى، وأحمد في المسند (1/ 301)، وإسماعيل القاضي (35)، وابن حبان (959). وصححه الحاكم (1/ 549)، ووافقه الذهبي. وذكره ابن حجر في "الفتح" (1/ 168) وقال:(لا ينحط عن درجة الحسن).

ص: 210

ثم انسلخَ قبْلَ أن يُغْفَرَ له، ورغِمَ أنف رجل أدركَ عنده أَبَواهُ الكِبَرَ فَلَم يدخلاهُ الجَنَّة] (1).

الحديث الحادي عشر: أخرج الترمذي بسند صحيح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [ما جَلَسَ قَوْمٌ مَجْلِسًا لم يَذكِروا الله فيه، ولمْ يُصَلوا على نبيِّهم، إلا كان عليهم تِرة، فإن شاء عَذَّبَهمُ، وإِن شَاءَ غَفرَ لهم](2).

الحديث الثاني عشر: أخرج ابن ماجة بسند حسن عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [مَنْ نَسِيَ الصلاةَ عَليَّ خَطِئَ طريقَ الجَنَّة](3).

الحديث الثالث عشر: أخرج مسلم في الصحيح عن عبد الله بن عمرو بن العاص، أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول:[إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثلَ ما يقول، ثم صَلُّوا عليَّ، فإنه مَنْ صَلَّى عليَّ صلاةَ صَلَّى الله عليه بها عَشْرًا، ثم سَلُوا الله لي الوسيلة، فإنها منزلةٌ في الجَنَّة لا تنبغي إلا لعبدٍ من عبادِ الله، وأرجو أن أكون أنا هو، فمن سألَ لي الوسيلة حَلَّت عليه الشفاعة](4).

الحديث الرابع عشر: أخرج أبو داود وابن ماجة بسند صحيح عن أبي حُميد الساعدي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [إذا دخل أحدكُم المسجدَ فَلْيُسَلِّم على النبي صلى الله عليه وسلم ثم ليقل: اللهم افتح لي أبواب رحمتك. وإذا خرج فليقل: اللهم إني أسالك من فضلك](5).

الحديث الخامس عشر: أخرج الطبراني والبيهقي عن عليٍّ مرفوعًا: [كُلُّ دعاء محجوبٌ حتى يُصَلِّي على النبي صلى الله عليه وسلم](6).

57 -

58. فقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا

(1) حديث حسن صحيح. انظر صحيح سنن الترمذي - حديث رقم - (2810).

(2)

حديث صحيح. انظر صحيح سنن الترمذي (2691)، أبواب الدعوات. وانظر مسند أحمد (2/ 446)، (2/ 481، 484)، ورواه ابن حبان (590).

(3)

حديث حسن صحيح. أخرجه ابن ماجة (908). وانظر صحيح سنن ابن ماجة (740).

(4)

حديث صحيح. أخرجه مسلم (384)، كتاب الصلاة. باب استحباب القول مثل قول المؤذن لمن سمعه ثم يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ثم يسأل الله له الوسيلة.

(5)

حديث صحيح. أخرجه أبو داود (465)، وابن ماجة (772). انظر صحيح ابن ماجة (626).

(6)

حسن لغيره. قال الهيثمي في "المجمع"(10/ 160): رواه الطبراني في "الأوسط" ورجاله ثقات. ورواه البيهقي في "الشعب". انظر سلسلة الأحاديث الصحيحة (2035).

ص: 211

وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا (57) وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (58)}.

في هذه الآياتِ: تهديدُ الله تعالى الذين يؤذونه ويؤذون رسوله باللعن والعذاب المهين. والعطف على ذلك بتهديد الذي يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا وتوعدهم بالنكال منهم من ذلك الإثم المبين.

فقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا (57)} .

تهديد وتوعد للعصاة الآثمين المتجرئين على مخالفة أوامر الله ورسوله المصرِّين على ركوب ذلك بالطرد من رحمة الله في الدنيا والآخرة، ثم الخلود في العذاب المهين.

قال قتادة: (يا سبحان الله ما زال أناس من جهلة بني آدم حتى تعاطوا أذى ربهم).

وقال عكرمة: (الذين يؤذون الله ورسوله هم أصحاب التصاوير).

قلت: والآية عامة تشمل جميع ألوان مخالفة أوامر الله ورسوله، ولا دليل على تخصيص أمر دون أمر كما جاء في كتب التفاسير.

وفي الصحيحين عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [يقول الله عز وجل: يُؤذيني ابنُ آدم، يسبُّ الدَّهْرَ، وأنا الدَّهْر، أُقَلِّب ليله ونهارَه](1).

وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} .

قال مجاهد: ({وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ} يقفّون. {بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا} يقول: بغير ما عملوا).

والمعنى: والذين يقفّون المؤمنين والمؤمنات، ويعيبونهم طلبًا لشينهم، وينسبون لهم ما هم براء من فعله، فقد احتملوا زورًا وكذبًا وفرية شنيعة، وركبوا إثمًا واضحًا

(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (4826)، ومسلم (2246)، وأحمد (2/ 238)، وأخرجه أبو داود (5274)، وابن حبان (5716).

ص: 212

بينًا. قال ابن جرير: (بهتان: أفحش الكذب {وَإِثْمًا مُبِينًا}، يقول: وإثمًا يبين لسامعه أنه إثم وزور).

قال قتادة: (فإياكم وأذى المؤمن، فإن الله يحوطه ويغضب له).

وفي صحيح مسلم ومسند أحمد عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: [أَتَدْرونَ ما الغيبة؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: ذكْرُكَ أخاك بما يكره. قيل: أفرأيت إن كان في أخي ما أقولُ؟ قال: إن كان فيه ما تقول، فقد اغْتَبْتَه، وإنْ لم يكنْ فيه، فقد بَهَتَّهُ](1).

وفي المعجم "الأوسط" للطبراني بسند قابل للتحسين لشواهده عن البراء بن عازب مرفوعًا: [الربا اثنان وسبعون بابًا، أدناها مِثْلُ إتيانِ الرجل أُمَّه، وإنَّ أربى الربا استطالة الرجل في عِرض أخيه](2).

59 -

62. قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (59) لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا (60) مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا (61) سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا (62)}

في هذه الآياتِ: أَمْرُ الله تعالى نبيَّه صلى الله عليه وسلم بِأَمْرِ أزواجه وبناته ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن، وفي امتثال ذلك حفظهن وحمايتهن من البغاة وأعوان الشيطان الرجيم. وتهديدٌ منه تعالى للمنافقين والمرجفين في المدينة بالطرد والخزي واللعن والعذاب الأليم. وتلك هي سنة الله في الذين مضوا ولا تبديل لسنة الله العلي العظيم.

(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم (2589)، كتاب البر والصلة. باب تحريم الغيبة، ورواه أحمد (2/ 384 - 386)، وأبو داود (4874)، والترمذي (1934).

(2)

حسن لشواهده. أخرجه الطبراني في "الأوسط"(1/ 143/ 1)، ورواه البيهقي بإسناد لا بأس به، كما قال المنذري في "الترغيب"(3/ 50). وانظر سلسلة الأحاديث الصحيحة (1871).

ص: 213

فقوله: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ} .

الجلباب: هو الملاءَة التي تلتحف به المرأة فوق ثيابها. قال البغوي في "التفسير": (هو الملاءة التي تشتمل بها المرأة فوق الدرع والخمار).

وقال ابن حزم "3/ 217": (والجلباب في لغة العرب التي خاطبنا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم هو ما غطّى جميع الجسم لا بعضه) وصححه القرطبي في تفسيره.

وقال ابن كثير "3/ 518": (هو الرداء فوق الخمار، وهو بمنزلة الإزار اليوم).

وقد قيل في تفسيره سبعة أقوال أوردها الحافظ في "الفتح"(1/ 336) وما ذُكِر هو الراجح فيها المنسجم مع كلام العرب وسياق الآية. وبعض العلماء في هذا الزمان يرى أنّ أقرب لباس إليه هو العباءة التي تستعملها اليوم نساء نجد والعراق ونحوهما.

والخلاصة: أَمَرَ الله تعالى نبيَّه صلى الله عليه وسلم أن يأمر زوجاته وبناته - لشرفهن في الأمة - ثم يليهن النساء المؤمنات في الأمر، أن يدنين عليهن من جلابيبهن ليتميَّزْنَ بحجاب الفطرة والعفاف عن لباس أهل الجاهلية والإماء.

أخرج أبو داود بسند صحيح عن أم سلمة قالت: [لما نزلت: {يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ} خرج نساء الأنصار كأن على رؤوسهن الغربان من الأكسية](1).

ورواه عبد الرزاق وعبد بن حميد من حديث أم سلمة بلفظ: [من أكسية سود يلبسنها].

والغربان: جمع غراب، فشبهت الأكسية في سوادها بالغربان.

فأمر الله المرأة إذا خرجت من دارها أن تلتحف فوق ثيابها بالجلباب والملاءَة لأنه أستر لها وأبعد عن أن يصف حجم رأسها وأكتافها، وأشرف لسيرتها. والجلباب يستعمل في الغالب عند الخروج من الدار.

ففي الصحيحين وغيرهما عن أم عطية رضي الله عنها قالت: [أَمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نخرجهن في الفطر والأضحى: العواتق والحيض وذوات الخدور، فأما الحيض

(1) حديث صحيح. أخرجه أبو داود (4401)، باب لبس النساء. وانظر صحيح سنن أبي داود (3456). وحجاب المرأة المسلمة ص (38) للرواية الأخرى.

ص: 214

فيعتزلن الصلاة ويشهدن الخير ودعوة المسلمين. قلت: يا رسول الله إحدانا لا يكون لها جلباب؟ قال: لتلبسها أُختها من جلبابها] (1).

قال الشيخ أنور الكشميري في "فيض الباري"(1/ 388) تعليقًا على هذا الحديث: (وعلم منه أن الجلباب مطلوب عند الخروج، وأنها لا تخرج إن لم يكن لها جلباب. والجلباب رداء ساتر من القرن إلى القدم).

وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير في قوله: {يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ} قال: (يسدلن عليهن من جلابيبهن، وهو القناع فوق الخمار، ولا يحل لمسلمة أن يراها غريب إلا أن يكون عليها القناع فوق الخمار، وقد شدت به رأسها ونحرها)(2).

والجلباب حجاب الفطرة لستر زينة المرأة عن الأجانب سواء خرجت إليهم أو دخلوا عليها، وقد صح عن عائشة أنَّها كانت إذا صلت تجلببت، الأمر الذي يدل على أن الجلباب ليس خاصًّا بالخروج.

وأخرج ابن سعد بسند رجاله ثقات عن قيس بن زيد قال: [إنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم طلق حفصة بنت عمر

فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل عليها فتجلببت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن جبريل أتاني فقال لي: أرجع حفصة فإنها صوامة قوامة، وهي زوجتك في الجَنَّة] (3).

والآية لا تدل على أن وجه المرأة عورة يجب عليها ستره، بل غاية ما فيها الأمر بإدناء الجلباب عليها، وهو أمر مطلق، ثم إن القرآن يفسر بعضه بعضًا. وتفصيل ذلك:

أ - آية النور: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ .... } الآية [النور: 31].

(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (351)، (974)، (981)، وأخرجه مسلم (890)، ح (10 - 11). والعواتق: جمع العاتق، وهي الشابة أول ما تدرك.

(2)

انظر: "الدّر"(5/ 222)، وحجاب المرأة المسلمة ص (39 - 40).

(3)

أخرجه ابن سعد (8/ 58) بإسناد رجاله كلهم ثقات رجال مسلم من حديث قيس بن زيد، واختلف في صحبته، وأخرجه الحاكم (4/ 15) وذكر له شاهدًا من حديث أنه. قال الألباني في "حجاب المرأة المسلمة" (ص 40):(فيتقوى به إن شاء الله تعالى).

ص: 215

وقد تبين عند تفسير هذه الآية أن الوجه لا يجب ستره، فوجب تقييد الإدناء هنا بما عدا الوجه توفيقًا بين الآيتين.

ب - إن السنة مُبَيِّنَةٌ للقرآن مخصصة لعمومه مقيدة لمطلقه. وقد دلت النصوص الكثيرة منها على أن الوجه لا يجب ستره، فوجب تفسير هذه الآية على ضوئها، وتقييدها بها.

ففي الصحيحين عن سهل بن سعد: [أن امرأة جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله جئت لأهب لك نفسي، فنظر إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فَصَعَّدَ النظر إليها وصَوَّبَه، ثم طأطأ رأسه، فلما رأت المرأة أنه لم يقصد فيها شيئًا جلست](1).

قال الحافظ في "الفتح"(9/ 173): (وفيه جواز تأمل محاسن المرأة لإرادة تزويجها وإن لم تتقدم الرغبة في تزويجها ولا وقعت خطبتها؛ لأنه صلى الله عليه وسلم صَعَّدَ فيها النظر وصَوَّبَه، وفي الصيغَة ما يدل على المبالغة في ذلك، ولم يتقدم منه رغبة، ولا خطبة).

وفي الصحيحين والمسند عن عطاء بن أبي رباح قال: [قال لي ابن عباس: ألا أريك امرأة من أهل الجَنَّة؟ قلت: بلى. قال: هذه المرأة السوداء أتت النبي صلى الله عليه وسلم قالت: إني أصرع، وإني أتكشف فادع الله لي، قال: إن شئت صبرت ولك الجَنَّة، وإن شئت دعوت الله أن يعافيك، فقالت: أصبر، فقالت: إني أتكشف فادع الله لي أن لا أتكشف، فدعا لها](2).

وفي "تاريخ ابن عساكر"(19/ 2/73) في قصة صلب ابن الزبير أن أمه (أسماء بنت أبي بكر) جاءت مسفرة الوجه متبسمة.

وروى أبو نعيم (1/ 164) عن أبي السليل قال: (جاءت ابنة أبي ذر وعليها مجنبتا صوف سفعاء الخدين، ومعها قفة لها، فمثلت بين يديه وعنده أصحابه فقالت: يا أبتاه زعم الحراثون والزراعون أن أفلسك هذه بهرجة، فقال: يا بنية ضعيها فإن أباك أصبح والحمد لله ما يملك من صفراء ولا بيضاء إلا أفلسه هذه) - ورجاله ثقات (3).

(1) أخرجه البخاري (9/ 107)، ومسلم (4/ 143)، والنسائي (2/ 86)، والبيهقي (7/ 84) وترجم له بـ:"باب نظر الرجل إلى المرأة يريد أن يتزوجها".

(2)

حديث صحيح. أخرجه البخاري (10/ 94)، ومسلم (8/ 16)، وأخرجه أحمد (رقم 3240).

(3)

انظر المزيد من هذه الآثار الصحيحة في كتاب: "حجاب المرأة المسلمة" - الألباني - ص (32 - 33).

ص: 216

قلت: فثبت أن الوجه ليس بعورة يجب ستره، وهو مذهب أكثر العلماء كما قال ابن رشد في "البداية"(1/ 89) ومنهم أبو حنيفة ومالك والشافعي ورواية عن أحمد كما في "المجموع"(3/ 169)، وحكاه الطحاوي في "شرح المعاني"(2/ 9) عن صاحبي أبي حنيفة أيضًا. وإن كان الأولى في هذا الزمان تغطية المرأة وجهها لانتشار الفتن وضياع الشباب وقلة الحياء وقلة غض البصر.

وقوله: {ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ} .

قال السدي: (كان ناس من فُسَّاق أهل المدينة يخرجون بالليل حين يختلط الظلام إلى طرق المدينة يتعرضون للنساء، وكانت مساكن أهل الفدينة ضيقة، فإذا كان الليل خرج النساء إلى الطرق يقضين حاجَتَهُنَّ، فكان أولئك الفُسَّاق يتبعون ذلك منهنَّ، فماذا رأوا امرأة عليها جلباب قالوا: هذه حُرَّة، كفُّوا عنها. وإذا رأوا المرأة ليس عليها جلباب، قالوا: هذه أَمَة. فوثبوا إليها).

وقال مجاهد: (يَتَجَلْبَبْنَ فيعلم أنهنّ حرائِرُ فلا يَعرِض لهنَّ فاسِقٌ بأذى من قول ولا ريبة).

قلت: بل الجلباب واجب على الحرائر والإماء، فلا فرق في وجوب ذلك على جميع النساء، ومن ثمَّ فإن في جلباب المرأة صرف أطماع الفساق عنها على العكس من المرأة المبدية مفاتنها وزينتها، فإنها تحمل بسلوكها ذلك الفساق أن يهموا بها. فالجلباب هو حجاب الفطرة يحمي الله تعالى به الفتاة المسلمة.

وقوله: {وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} .

قال النسفي: ({وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا} لما سلف منهن من التفريط {رَحِيمًا} بتعليمهن آداب المكارم).

فائدة (1): في كون المراد بآية الحجاب قوله: {يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ} نظر، إذ قد صرحت الروايات في شان قصة زينب السابقة بنزول قوله:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ} الآية. وفي شأن قول عمر - عند الطبري - فأنزل الله آية الحجاب، قال الله:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا}

فالقول بتعدد الأسباب للنزول أولى.

فائدة (2): قول عمر: "عرفناك يا سودة" - فبالرواية الأولى قبل الحجاب، وبأخرى بعد الحجاب - فلعله وقع مرتين. وربما المراد بالحجاب الأول غير الثاني - كما ذكر الحافظ - والحاصل أن عمر رضي الله عنه وقع في قلبه شيء من اطلاع الأجانب على

ص: 217

الحريم النبوي حتى صرح بقوله للنبي صلى الله عليه وسلم: "أحجب نساءك"، حتى نزلت آية الحجاب.

ثم إن عمر قصد أن لا يبدين أشخاصهن أصلًا ولو كن مستترات فبالغ فَمُنِعَ وأُذِنَ لهن بالخروج لحاجتهن دفعًا للمشقة.

وقوله: {لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ} .

تَوَعُّدٌ من الله تعالى للمنافقين الذين يظهرون الإيمان ويبطنون الكفر، ولأهل القلوب المريضة - أهل الزنا والفجور -، ولأهل الإرجاف في المدينة بالكذب والباطل، أن يُسَلِّط الله عليهم نبيَّه والمؤمنين.

فحن عكرمة: {وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} قال: هم الزناة). وقال قتادة: ({وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ}: شهوة الزنا). وقال أبو صالح: (الزناة). قال ابن زيد: (أهل الزنا من أهل النفاق الذين يطلبون النساء فيبتغون الزنا. وقرأ: {فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} [الأحزاب: 32]، قال: والمنافقون أصناف عشرة في براءة، قال: فالذين في قلوبهم مرض صنف منهم مرض من أمر النساء).

وعن قتادة: ({وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ}. الإرجاف: الكذب الذي كان نافقه أهل النفاق، وكانوا يقولون: أتاكم عدد وعدّة). قال ابن كثير: (يعني الذين يقولون: جاء الأعداء، وجاءت الحروب. وهو كذب وافتراء).

وعن ابن عباس: (الإرجاف التماس الفتنة، والإرجاف: إشاعة الكذب والباطل للاغتمام به). قلت: وأصل الإرجاف التحريك من (الرجفة) وهي الزلزلة، فيقال للخبر الكاذب خبر متزلزل غير ثابت، أو لاضطراب قلوب المؤمنين به.

وعن ابن عباس: ({لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ} يقول: لنسلطنك عليهم). وقال: (لم ينتهوا عن إيذاء النساء وأن الله عز وجل قد أغراه بهم). وعن قتادة: (أي لنحملنك عليهم لنحرشنك بهم). وقال السدي: (لنُعلِمَنَّك بهم). قال القرطبي: (أي لنسلطنّك عليهم فتستأصلهم بالقتل).

وقوله: {ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا} . قال قتادة: (أي بالمدينة).

قال ابن جرير: (يقول: ثم لننفينهم عن مدينتك فلا يسكنون معك فيها إلا قليلًا من

ص: 218

المدة والأجل، حتى تنفيهم عنها، فتخرجهم منها). وقال القاسمي:({إِلَّا قَلِيلًا} أي زمنًا قليلًا ريثما يستعدون للرحلة).

وقوله: {مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا} . أي: مطرودين منفيين أينما وجدوا.

فهم مبغوضون لله والخلق، لا يستريحون بالخروج للصوق اللعنة بهم أينما حلّوا ونزلوا، فقوله:{مَلْعُونِينَ} في محل نصب حال، أي هذه حالتهم حيثما وجدوا.

وقوله: {أُخِذُوا} . أي لِذِلِّتهم وَقلَّتهم وهوانهم.

وقوله: {وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا} . قال النسفي: (التشديد يدل على التكثير).

والمقصود: أسروا وبولغ في قتلهم لذلّتهم وقلتهم ونزول اللعنة بهم.

وقوله: {سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ} .

أي: هذا الذي فعل بهم ليس ببدع، فإن سنة الله في المفترين والمنافقين قبلهم أن يسلط عليهم أهل الإيمان فيقهروهم ويمحقوا تمرّدهم.

قال قتادة: (يقول: هكذا سنة الله فيهم إذا أظهروا النفاق). وَنُصب قوله: {سُنَّةَ} على المصدر، أي سَنَّ الله فيمن أرجف بالأنبياء وأظهر نفاقه أن يؤخذ ويقتل.

وقوله: {وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا} . أي تحويلًا وتغييرًا.

قال السدي: (يعني أن من قُتل بحق فلا دية على قاتله).

والمقصود: مضت سنة الله التي لا تتبدل ولا تتغير في قهر المؤمنين لأهل التمرد والنفاق والذين يحبون إشاعة الكذب والفواحش في الأرض، وهؤلاء المنافقون من قومك - يا محمد - سينالهم ما نال من مضى قبلهم على منهاجهم.

63 -

68. قوله تعالى: {يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا (63) إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا (64) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (65) يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَالَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا

ص: 219

الرَّسُولَا (66) وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا (67) رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا (68)}.

في هذه الآياتِ: تأكيدُ الله تعالى انفراده بعلم الساعة وقد تكون الساعة قريبًا. وقد لعن الله الكافرين وأعدّ لهم سعيرًا. فيه تُقَلّب وجوههم ويسألون الله لساداتهم ورؤسائهم في الكفر أن يضاعف لهم العذاب وأن يلعنهم لعنًا كبيرًا.

فقوله: {يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ} .

قال ابن جرير: (يقول تعالى ذكره: {يَسْأَلُكَ النَّاسُ} يا محمد {عَنِ السَّاعَةِ} متى هي قائمة؟ قل لهم: إنما علم الساعة {عِنْدَ اللَّهِ} لا يعلم وقت قيامها غيره).

وقد كان المشركون يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الساعة على سبيل الهزء، واليهود على سبيل الامتحان، فأمر الله رسوله أن يجيبهم بأنه علم قد استأثر الله به.

وقوله: {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا} .

أي: وما يشعرك يا محمد لعله دنا وقت مجيئها واقترب موعدها، وهو تهديد للمستعجلين وقوعها وإسكات للممتحنين في سؤالها.

وفي التنزيل نحو ذلك:

1 -

قال تعالى: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} [القمر: 1].

2 -

وقال تعالى: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ} [النحل: 1].

3 -

وقال تعالى: {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ} [الأنبياء: 1].

وفي صحيح مسلم عن حذيفة قال: [قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم مقامًا، ما ترك شيئًا يكون في مقامه ذلك إلى قيام الساعة إلا حَدَّثَ به، حفظه من حفظه، ونسيه من نسيه، قد علمه أصحابي هؤلاء، وإنه ليكون منه الشيء قد نسيته، فأراه فأذكره، كما يذكر الرجل وجه الرجل إذا غاب عنه، ثم إذا رآه عرفه](1).

(1) حديث صحيح. انظر صحيح مسلم (8/ 172)، كتاب الفتن، باب: في الفتن وصفاتها. وهو في مختصر صحيح مسلم برقم (1993)، ورواه البخاري.

ص: 220

وفي الصحيحين عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: [بُعثت أنا والساعة كهاتين](1) - يعني إصْبعين.

وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا} .

اللعن: الطرد والإبعاد عن الرحمة. قال ابنِ جرير: (يقول تعالى ذكره: إن الله أبعد الكافرين به من كل خير، وأقصاهم عنه {وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا} يقول: وأعدَّ لهم في الآخرة نارًا تتقد وتتسعر ليصليهموها).

وقوله: {خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} . أي: ماكثين فيها إلى غير نهاية. قال النسفي: (هذا يَرد مذهب الجهمية؛ لأنهم يزعمون أن الجَنَّة والنار تفنيان).

وقوله: {لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا} . أي: لا يجدون معينًا ولا مغيثًا ينجيهم من الخلود في عذاب الله أو يخلصهم منه.

وقوله تعالى: {يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَالَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا} .

قال ابن كثير: (أي يسحبون في النار على وجوههم، وتُلوى وجوهُهم على جهنم، يقولون وهم كذلك، يتمنّون أن لو كانوا في الدار الدنيا ممن أطاع الله وأطاع الرسول، كما أخبر عنهم في حال العَرَصات بقوله: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَالَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا (27) يَاوَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا (28) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا (29)} [الفرقان: 27 - 29]. وقال تعالى: {رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ} [الحجر: 2]).

قال القرطبي: {يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ} : وهذا التقليب تغيير ألوانهم بلفح النار، فتسودّ مرّة وتخضرّ أخرى. وإذا بدّلت جلودهم بجلود أخر فحينئذ يتمنون أنهم ما كفروا {يَقُولُونَ يَالَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا} أي لم نكفر فننجو من هذا العذاب كما نجا المؤمنون).

وقوله: {وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا} . قال قتادة: (أي رؤوسنا في الشر والشرك). وقال ابن زيد: (هم رؤوس الأمم الذين أضلوهم).

وقال طاووس: (سادتنا يعني الأشراف، وكبراءنا يعني العلماء) - رواه ابن أبي حاتم.

(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (6504)، كتاب الرقاق. وأخرجه مسلم (2951).

ص: 221

والمقصود: اعترافهم باتباع أمراء الضلالة، وعلماء الجهالة، الذين يمكرون بدين الله ويصدون عن سبيله ويبغونها عوجًا.

وقوله: {فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا} . أي فحرفونا عن سبيل التوحيد ومنهاج الرسل.

وقوله: {رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ} . قال قتادة: (عذاب الدنيا وعذاب الآخرة).

وقيل: عذاب الكفر وعذاب الإضلال. أي عَذَّبهم مثْلي ما تعذّبنا فإنهم ضلوا وأضلوا.

وقوله: {وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا} .

هكذا قرأها عاصم {كَبِيرًا} ، وعامة القراء قرؤوها "كثيرًا"، وهما قراءتان مشهورتان. والمعنى: بالباء يدل على أشد اللعن وأعظمه، وبالثاء يدل على تكثير اللعائن وتتابعها عليهم.

69 -

71. قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا (69) يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا (71)}.

في هذه الآياتِ: تحذيرُ الله تعالى عباده المؤمنين مشابهة المنافقين من بني إسرائيل الذي آذوا موسى فبين الله براءته وكان عند الله وجيهًا. وأمْرُه تعالى المؤمنين أن يصدقوه التقوى وأن يقولوا قولًا سديدًا. فإنهم إن فعلوا ذلك قابلهم سبحانه بمغفرة ذنوبهم وإصلاح أحوالهم وأعمالهم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزًا عظيمًا.

فقوله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا} .

خطاب من الله تعالى لأصحاب نبيه محمد صلى الله عليه وسلم: أنْ لا تؤذوا رسول الله بقول يكرهه أو بفعل لا يحبه، فتكونوا أمثال الذين رموا موسى بعيب كذبًا، وآذوه بألوان كثيرة من الأقوال والأفعال، فأظهر الله كذبهم مما رموه به وأعز رسوله.

ومن إيذائهم لموسى قولهم: {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا} [المائدة: 24]،

ص: 222

وقولهم: {لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ} [البقرة: 55]. وقولهم: {لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ} [البقرة: 61].

أخرج البخاري في كتاب التفسير من صحيحه - عند هذه الآية - عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [إنَّ موسى كان رجلًا حَييًّا. وذلك قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا}](1).

ثم إن البخاري رواه بهذا الإسناد مفصلًا في كتاب أحاديث الأنبياء. قال أبو هريرة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [إنَّ موسى كان رجُلَا حَييًّا سِتِّيرًا لا يُرَى من جِلدِه شيءٌ استِحياءً مِنْه، فآذاهُ منْ آذاهُ مِنْ بني إسرائيل، فقال: ما يَسْتَتِرُ هذا التَّسَتُّرَ إلا مِنْ عَيْبٍ بجلده، إِمَّا بَرَصٌ وَإِمَّا أُدْرَةٌ (2)، وِإمَّا آفةٌ، وإنَّ الله أرادَ أن يُبَرِّئَهُ ممّا قالوا لموسى، فخَلا يَوْمًا وَحْدَهُ فوضَعَ ثيابَهُ على الحجر ثم اغتسل فلما فرغَ أقبل إلى ثيابه لِيأخُذَها وإنَّ الحجرَ عدا بثوبِه، فأخذ موسى عصاهُ وطلبَ الحجرَ فجعل يقول: ثوبي حَجَرُ، ثوبي حَجَرُ، حتى انتهى إلى ملأٍ من بني إسرائيل فَرَأَوْهُ عُرْيانًا أحْسَنَ ما خَلَقَ الله وأبْرأهُ مما يقولون. وقام حَجَرٌ فأخذ بثوبِه فَلَبسَهُ وطَفِقَ بالحَجرِ ضربًا بعصاه، فو الله إنَّ بالحَجَرِ لَنَدَبًا من أثرِ ضَرْبِهِ ثلاثًا أو أربعًا أَو خمْسًا، فذلك قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا}](3).

وفي الصحيحين والمسند عن شقيق، عن عبد الله قال:[قَسَمَ رسول الله صلى الله عليه وسلم ذاتَ يوم قَسْمًا، فقال رجل من الأنصار: إن هذه القسمة ما أريد بها وجهُ الله. قال: فقلت: يا عدوَّ الله، أما لأخبرنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بما قلت. قال: فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فاحمَرَّ وجهه، ثم قال: رحمةُ الله على موسى، لقد أُوذِيَ بأكثرَ من هذا فَصَبَر](4).

وهذه القسمة كانت يوم حنين، كما جاء في الرواية الأخرى عند البخاري عن أبي وائل، عن عبد الله رضي الله عنه قال: [لمّا كان يومُ حُنين آثرَ النبي صلى الله عليه وسلم ناسًا، أعْطى الأقْرَعَ مِئَةً من الإبل، وأعطى عُيينة مِثْلَ ذلك، وأعطى ناسًا، فقال رجل: ما أُرِيدَ

(1) حديث صحيح. أخرجه "البخاري (4799) - كتاب التفسير - وانظر كذلك الحديث (278).

(2)

انتفاخ في الخصية.

(3)

حديث صحيح. أخرجه البخاري (3404)، كتاب أحاديث الأنبياء، ورواه الترمذي (3221)، والنسائي في "التفسير"(444)، والطبري (28673).

(4)

حديث صحيح. أخرجه البخاري (4335)، كتاب المغازي، وأخرجه مسلم (1062)، وأخرجه أحمد (1/ 235)، وابن حبان (2917).

ص: 223

بهذه القِسْمة وَجْهُ الله، فقلت: لأخْبِرَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم، قال: رحم الله موسى قَدْ أوذيَ بأكثرَ مِنْ هذا فصَبَرَ] (1).

وقوله: {وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا} . أي صاحب وَجَاهَةٍ وَجَاهٍ وقَدْرٍ عند ربه تعالى.

قال الحسن البصري: (كان مستجاب الدعوة عند الله). وقال بعض السلف: [لم يسأل الله شيئًا إلا أعطاه، ولكن مُنِعَ الرؤية لما يشاء الله عز وجل).

وقال بعضهم: (من وجاهته العظيمة أنه شفع في أخيه هارونَ أن يُرسِلَهُ الله معه، فأجاب الله سُؤْلَهُ، وقال: {وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا (53)} [مريم: 53].

والوجيه في كلام العرب: من وَجُهَ إذا صار وجيهًا، أي: ذا جاه وقَدر. ووجوه البلد أشرافه. قال الزمخشري: ({وَجِيهًا} أي ذا جاه ومنزلة عنده. فلذلك كان يميط عنه التهم ويدفع الأذى ويحافظ عليه لئلا يلحقه وصم ولا يوصف بنقيصة، كما يفعل الملك بمن له عنده قربة ووجاهة).

وقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا} .

أمْرٌ من الله عباده المؤمنين بلزوم منهج التقوى والقول السديد الذي فيه نصرة الحق وزهوق الباطل.

قال ابن عباس: (من سَرَّه أن يكونَ أكرم الناس فليتق الله). وقال عكرمة: (القول السديد: لا إله إلا الله). وقال مجاهد: {وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا} يقول: سدادًا). وقال قتادة: (أي عدلًا. يعني به في منطقه وفي عمله كله. والسديد: الصدق). وجميع ما سبق داخل تحت مفهوم الآية وبيانها.

وقوله: {يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} .

قال القرطبي: (وعد جل وعز بأنه يجازي على القول السداد بإصلاح الأعمال وغفران الذنوب، وحسبك بذلك درجة ورفعة منزلة).

وقوله: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} .

أي: ومن يصدق الله طاعته ومتابعة رسوله فقد ظفر بالكرامة العظمى من الله.

(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (4336)، كتاب المغازي، باب غزوة الطائف في شوال سنة ثمان، وانظر الحديث (3150)، كتاب فرض الخمس.

ص: 224

وفي التنزيل:

1 -

قال تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا (69) ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا (70)} [النساء: 69، 70].

2 -

وقال تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (152)} [النساء: 152].

وفي صحيح البخاري عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[إنَّ أهل الجَنَّة يتراءَوْنَ أهْلَ الغُرَفِ من فوقهم، كما تتراءَوْن الكوكب الدُّري الغابر في الأفق من المشرق أو المغرب لِتَفَاضُلِ ما بينهم. قالوا: يا رسول الله، تلك منازل الأنبياء لا يَبْلُغُها غَيْرُهم؟ قال: بلى، والذي نفسي بيده، رجال آمنوا بالله وصدقوا المُرْسَلين](1).

72 -

73. قوله تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا (72) لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (73)}.

في هذه الآياتِ: تأكيدُ ثقل الأمانة، وخشيةُ السماوات والأرض والجبال من حملها، وتقدَّم الإنسان لحملها ليرفعه الله بها، ولكنه كان متعثرًا في ذلك ظلومًا لنفسه، جهولًا أغلب أحيانه بقدرها وثوابها. وقد كتب الله العذاب على المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات، والمغفرة للمؤمنين والمؤمنات، وكان الله غفورًا رحيمًا.

فإلى تفصيل ذلك من أقوال المفسرين:

1 -

عن سعيد بن جبير في قوله: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا} قال: (الأمانة: الفرائض التي افترضها الله على العباد).

(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (3256)، كتاب بدء الخلق، وكذلك (6556)، ورواه مسلم.

ص: 225

2 -

وعن سعيد عن ابن عباس: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ} . قال: الأمانة: الفرائض. قال: عرضت على آدم، فقال: خذها بما فيها، فإن أطعت غفرت لك، وإن عصيت عذّبتك، قال: قد قبلت، فما كان إلا قدر ما بين العصر إلى الليل من ذلك اليوم حتى أصاب الخطيئة).

3 -

وعن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قال:(الأمانة: الفرائض، عَرَضها الله على السماوات والأرض والجبال، إن أدوها أثابهم وإن ضيّعوها عذَّبهم الله. فكرهوا ذلك وأشفقوا من غير معصية، ولكن تعظيمًا لدين الله ألا يقوموا بها، ثم عرضها على آدم فقبلها بما فيها، وهو قوله تعالى: {وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا}، يعني: غِرًّا بأمر الله).

4 -

وقال العوفي عن ابن عباس: (يعني بالأمانة: الطاعة، عَرَضها عليهم قبل أن يعرِضَها على آدم فلم يُطقِنها. فقال لآدم: إني قد عرضتُ الأمانةَ على السماوات والأرض والجبال فلم يُطِقْنَها، فهل أنت آخذٌ بما فيها؟ قال: يا ربِّ، وما فيها؟ قال: إن أحسنتَ جُزيت، وإن أسأت عُوقِبْتَ. فأخذها آدمُ فتَحَمَّلها، فذلك قوله: . {وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا}).

5 -

وقال أبيُّ بن كعب: (من الأمانةِ أن المرأة اؤتمنَتْ على فَرْجِها).

6 -

وقال قتادة: (الأمانة الدين والفرائض والحدود).

7 -

وقال مالك، عن زيد بن أسلم قال:(الأمانة ثلاثةٌ: الصلاة، والصومُ، والاغتسال من الجنابة).

قلت: وجميع ما سبق من الأقوال يعضد بعضه بعضًا، ومفادها أن حمل هذا الدين بامتثال أوامره وتكاليفه واجتناب نواهيه أشفقت منه السماوات والأرض والجبال حين عُرض عليها، وقَبِل الإنسان حمله حين علم عظيم الثواب الذي يعقب ذلك الجهاد في حراسة الدين وإقامته في الأرض، ولكنه سرعان ما يظلم نفسه باتباع هواه وشيطانه ويدخل في متاهات الجهل وينسى ما كان أُعِدّ له مقابل الثبات على الحق والمجاهدة في حمل الأمانة.

أخرج أبو داود بسند حسن عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [خَمْسٌ مَنْ جاء بِهنَّ مع إيمانٍ دخل الجَنَّة، مَنْ حافظ على الصلوات الخمس على وُضوئهن وركوعهنَّ وسجودهن ومواقيتهن، وصام رمضان، وحج البيت إن استطاع إليه

ص: 226

سبيلًا، وأعطى الزكاة طَيِّبَةً بها نَفْسُهُ، وأَدَّى الأمانة. قالوا: يا أبا الدرداء، وما أداء الأمانة؟ قال: الغسل من الجنابة] (1).

فالحديث يدل جميعه على حفظ الدين، وما غُسل الجنابة إلا مثال الصدق في حمل هذه الأمانة، وإلا فجميع أوامر الله تعالى داخلة في مفهوم هذه الأمانة. فإنْ حَمَلَها الإنسان بأمانة رفعه الله بها، وإن ضَئعها واستهتر بحملها خيّبَهُ الله.

وفي الصحيحين والمسند عن حذيفة رضي الله عنه قال: [حَدَّثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثين قد رأيت أحدهما وأنا أنتظر الآخر، حَدَّثنا أن الأمانة نزلت في جَذْرِ قلوب الرجال، ثم نزلَ القرآن، فَعَلِموا من القرآن وعلموا من السنة. ثم حَدَّثنا عن رَفع الأمانة، فقال: ينام الرجلُ النومةَ فتقبض الأمانةُ من قلبه، فيظل أثرُها مثل أثر الوَكْتِ، فتقبض الأمانةُ من قلبه، فيظل أثرها مثل أثر المَجْلِ كَجَمْرٍ دحرجته على رجلِكَ فتراه مُنتبرًا (2) وليس فيه شيء - قال: ثم أخذ حصى فدحرجه على رِجله - قال: فيصبحُ الناسُ يتبايعون لا يكاد أحدٌ يؤدي الأمانةَ، حتى يُقالَ: إنَّ في بني آدمَ رجُلًا أمينًا، حتى يُقال للرجل: ما أجلده وأظرفَه وأعقَله! وما في قلبه حَبَّة من خردلٍ من إيمان. ولقد أتى عَلَيَّ زمانٌ وما أبالي أَيَّكم بايعتُ، إن كان مُسْلِمًا ليردَّنَهُ عليَّ دينُه، وإِن كان نصرانيًا أو يهوديًا ليردنَّه عليّ ساعيه، فأما اليوم فما كنت أبايع منكم إلا فلانًا وفلانًا](3).

وفي مسند أحمد بسند حسن عن عبد الله بن عمرو، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:[أربعٌ إذا كنَّ فيكَ فلا عليكَ ما فاتكَ من الدُّنيا، حفظُ أمانةٍ، وصِدْقُ حديثٍ، وحُسن خليقةٍ، وعفَّةُ طُعْمَة). وفي لفظ: [أربع إذا كنَّ فيك فلا عليكَ ما فاتكَ من الدنيا: صدقُ الحديث، وحفظُ الأمانة، وحسنُ الخلق، وعفةُ مطعم](4).

وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة قال: [بينما كان النبي صلى الله عليه وسلم يُحَدِّثُ إذ جاء

(1) حديث حسن. أخرجه أبو داود في السنن (429). وانظر صحيح أبي داود (414).

(2)

الوكت: الأثر اليسير في الشيء. المجل: قشرة رقيقة يجتمع فيها ماء من أثر العمل. ومنتبرًا: متورِّمًا.

(3)

حديث صحيح. أخرجه البخاري (6497)، (7076)، ومسلم (143)، وأخرجه أحمد (5/ 383)، والترمذي (2179)، وابن ماجة (2053)، والبيهقي (10/ 122).

(4)

حديث حسن. انظر مسند أحمد (2/ 177)، ح (6614)، وقال الهيثمي في "المجمع" (18123):(رواه أحمد والطبراني، وإسنادهما حسن). وانظر صحيح الجامع (886).

ص: 227

أعرابي فقال: متى الساعة؟ قال: إذا ضُيِّعت الأمانة فانتظر الساعة. قال: كيف إضاعتها؟ قال: إذا وُسِّدَ الأمرُ إلى غير أهله فانتظر الساعة] (1).

وقوله: {لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ} .

أي: ليعذب الله المستهترين بحمل الأمانة - بعد المعاهدة والتوثيق بحفظها والقيام بها - من المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات. قال قتادة: (هذان اللذان خاناها).

وقال الحسن: (اللذان خاناها، اللذان ظلماها: المنافق والمشرك).

وقوله: {وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} . قال قتادة: (هذان اللذان أدّياها).

وقوله: {وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} قال ابن جرير: ({وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا} لذنوب المؤمنين والمؤمنات، بستره عليها، وتركه عقابهم عليها {رَحِيمًا} أن يعذبهم عليها بعد توبتهم منها).

والمقصود: قَابَلَ الله تعالى مَنْ صَدَقَ من عباده بِحَمْل الأمانة ولم يَسْتَهْتِر بها بالصفح والمغفرة لِما يكونُ من الزَّلَلِ أثناء الطريق، وبالرحمة التي تنجيهم من عذابه في الآخرة. وَقَابَلَ الذين خانوا الامانة بعد توثيق العهد بِحَمْلِها والقيام بلوازمها بالخزي في الدنيا والعذاب في الآخرة، والله لا يظلم أحدًا.

تَمَّ تفسير سورة الأحزاب بعون الله وتوفيقه، وواسع مَنِّه وكرمه

* * *

(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (59) - كتاب العلم. وانظر كذلك الحديث (6496).

ص: 228