المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ منهاج السورة - التفسير المأمون على منهج التنزيل والصحيح المسنون - جـ ٦

[مأمون حموش]

الفصل: ‌ منهاج السورة

‌34 - سُوْرَةُ سَبَإٍ

وهي سورة مكية باتفاق المفسرين إلا آية واحدة اختلف فيها، وهي الآية السادسة:{وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} الآية. قيل: هي مكية، قاله ابن عباس. وقيل: بل هي مدنية، قاله مقاتل. وعدد آياتها (54). وسميت بسبأ لتضمنها قصة قوم آمنوا فاغدق الله عليهم من النعم، ثم انتكسوا فتبدّلت بالنقم.

‌موضوع السورة

قصة سبأ وارتباط الإيمان بالإنعام، وانتكاس ذلك ليكون الخزي والحرمان.

-‌

‌ منهاج السورة

-

1 -

الحمدُ لله الملك في الأولى وفي الآخرة، والعالم بما يلج في الأرض وما ينزل من السماء وما يعرج فيها الموصوف بالرحمة والمغفرة.

2 -

استعجال الكفار الساعة واستبعادهم أمر الحساب، وتأكيد الله لهم إحصاءه أعمالهم ليوم الثواب والعقاب، وثناء الله على المؤمنين تصديقهم بهذا الكتاب.

3 -

تعجب مشركي قريش بالبعث بعد الموت، واتهامهم رسول الله بالجنون أو الكذب، وانتصار الله لنبيّه، وصرفهم لرؤية آيات مقدرته.

4 -

فضل الله تعالى على داود وسليمان عليهما السلام، جزاء الطاعة والشكر لله والإحسان.

ص: 231

5 -

قصة موت سليمان عليه السلام، والعبرة في ذلك للشياطين والسحرة والكهان.

6 -

قصة سبأ قصة الإنعام من الله المنان، ومقابلة تكذيب القوم وجحودهم شكره تعالى بالخزي والحرمان.

7 -

إثبات أمر الشفاعة لله الرزاق الفتاح العليم، فهو الذي يجمع خلقه ويخزي الشركاء وهو العزيز الحكيم، وهذا الرسول أرسله الله كافة للناس ورحمة للعالمين.

8 -

استعجال المشركين البعث والقيامة، وإصرارهم على الكفر بهذا القرآن، وحوار المستكبرين والمستضعفين يوم القيامة، وهم في غمرات العذاب قد أسروا الندامة.

9 -

سنة الله في الأمم: هم يختارون الكبر والطغيان والفرح بزينة الحياة الدنيا والتفاخر بالأموال والأولاد، ثم يأتيهم العذاب.

10 -

تَبَرُّؤ الملائكة في أرض المحشر ممن عبدوهم، وتأكيدهم أن القوم كانوا يعبدون الجن أكثرهم بهم مؤمنون.

11 -

تكذيب الكفار الرسل واتهامهم بالكذب، وتوعدهم الله السنن كما حلّ بمن قبلهم.

12 -

توجيه الله نبيّه لوعظ قومه بطاعة الله، والصدق في أمر محمد صلى الله عليه وسلم.

13 -

سنةُ الله تعالى في قذف الحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق مَهين.

14 -

حصاد الكفار يوم بدر، وفزعهم يوم الحشر، ولا نجاة لهم من النار.

15 -

انعدام قبول التوبة عند فوات الأوان، ويحال بين الكفار وبين ما يشتهون ليذوقوا الهوان.

* * *

ص: 232

بسم الله الرحمن الرحيم

1 -

2. قوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (1) يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ (2)}.

في هذه الآياتِ: كل الحمد لله الذي له ما في السماوات وما في الأرض خلقًا وملكًا وتصرفًا وتدبيرًا. وكل الحمد لله الذي لم يزل حكيمًا خبيرًا. وكل الحمد لله في الأولى والآخرة على ما أعدّ للمؤمنين نعيمًا كبيرًا، وعلى ما أنزل بالكافرين به عذابًا مستطيرًا. فهو يعلم عدد القطر النازل في الأرض والحب المبذور وما يؤول إليه فيخرج نباتًا مختلف الألوان جميلًا. ويعلم ما يعرج في السماء من أعمال العباد فيجازي بالصالحات ثوابًا وأجرًا وفيرًا. وهو الرحيم بالمؤمنين الغفور للتائبين سبحانه وتعالى عما يقولون علوًا كبيرًا.

فقد قال عن نفسه: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} .

قال الشهاب: (السماوات والأرض عبارة عن هذا العالم بأسره).

و{الَّذِي} يجوز أن تكون في محل جر على النعت أو البدل، أو في موضع رفع خبر لمبتدأ محذوف، أو في محل نصب بمعنى (أعني) حكاه القرطبي.

وقوله: {وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ} كقوله: {وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} .

وقوله: {وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} . قال قتادة: (حكيم في أمره، خبير بخلقه).

وقوله: {يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ} قوله: {فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ} . أي يدخل في ذلك ما فيها من الكنوز والدفائن والأموات.

وقوله: {وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا} . أي: من النبات والعيون والشجر والدواب.

ص: 233

وقوله: {وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ} . أئي: من الأمطار والثلوج والبرد والصواعق والأرزاق والمقادير والبركات.

وقوله: {وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا} . أي: من الملائكة وأعمال العباد.

وقوله: {وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ} . أي: عن ذنوب التائبين إليه، رحيم بهم فلا يعاجل عصاتهم بالعقوبة.

3 -

6. قوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (3) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (5) وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (6)}.

في هذه الآياتِ: استعجالُ الكفار الساعة استهزاء وكبرًا، وأمر الساعة بيد الله، ويومئذ يجزي المؤمنين الأجر والرزق الكريم، ويخذل المشركين ويوفيهم العذاب الاليم، وأهل العلم مصدقون بأن هذا القرآن هو الحق المبين.

فقوله: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ} .

أي: ويستعجلك يا محمد كفار مكة - الذين جحدوا قدرة الله أن يعيدهم بعد فنائهم بهيئتهم قبل فنائهم - بقيام الساعة استهزاء وتكذيبًا، فقل لهم: بلى وربي قسمًا به لتأتينكم، وهذه إحدى ثلاث آيات لا رابع لهن في القرآن يقسم بها رسول الله صلى الله عليه وسلم على وقوع المعاد لمنكريه. فالآية الأولى في سورة يونس:{وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} . وهذه هي الآية الثانية: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ} . والآية الثالثة في سورة التغابن: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ} [التغابن: 7].

قال أبو سفيان لكفار مكة: (واللات والعزى لا تأتينا الساعة أبدًا ولا نبعث). فقال الله: قل يا محمد: {قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ} .

ص: 234

وقرأ بعضهم {ليأتينكم} بالياء، أي البعث. والقراءة الأولى أشهر بين القراء.

وقوله: {عَالِمِ الْغَيْبِ} . قرأه قراء المدينة بالضم "عالمُ" وهي قراءة نافع وابن كثير على الابتداء. وقرأه بعض قراء الكوفة والبصرة "عالمِ" بالجر، وهي قراءة عاصم وأبي عمرو. وقرأ بقية قراء الكوفة:"علَّام" وهي قراءة حمزة والكسائي على المبالغة.

ومن قرأها بالرفع كان الخبر قوله: {لَا يَعْزُبُ عَنْهُ} . قال ابن عباس: (لا يغيب عنه).

قال الحافظ ابن كثير: (أي الجميع مندرج تحت علمه فلا يخفى عليه شيء، فالعظام وإن تلاشت وتفرقت وتمزقت فهو عالم أين ذهبت وأين تفرقت، ثم يعيدها كما بدأها أول مرّة فإنه بكل شيء عليم).

وقوله: {لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} .

يقال: عَزَبَ يعزُبُ ويعزِبُ إذا بَعُدَ وغاب. قال الفراء: (والكسر أحبَّ إلي) أي يعزِب. حكاه القرطبي. وقوله: {مِثْقَالُ ذَرَّةٍ} . قال ابن جرير: (زنة ذرة في السماوات ولا في الأرض. لا يغيب عنه شيء من زنة ذرة فما فوقها فما دونها أين كان في السماوات ولا في الأرض: {إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ}. يقول: هو مثبت في كتاب يبين للناظر فيه أن الله تعالى ذكره قد أثبته وأحصاه وعلمه فلم يعزب عن علمه).

وفي قراءة الأعمش: {ولا أصغرَ من ذلك ولا أكبرَ} بالفتح، والرفع أشهر عند القراء.

وقوله تعالى: {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} .

لقد أثبت ذلك سبحانه في الكتاب المبين كي يثبت الذين آمنوا بالله ورسوله - وعملوا بما أمرهم الله ورسوله به، وانتهوا عما نهاهم عنه - على طاعتهم ربهم والقيام بواجبات دينهم، حتى يَحْظَوا بمغفرة ذنوبهم والرزق الكريم وهو الجَنَّة ونعيمها.

قال قتادة: {أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ} : لذنوبهم {وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} : في الجَنَّة).

وقوله: {وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ} - فيه تأويلان:

التأويل الأول: {مُعَاجِزِينَ} . أي لا يعجزون. قاله قتادة.

ص: 235

التأويل الثاني: قيل بل {مُعَاجِزِينَ} : أي مسابقين. يقال: عاجزه وأعجزه إذا غالبه وسبقه.

قال القرطبي: {وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا} أي في إبطال أدلتنا والتكذيب بآياتنا {مُعَاجِزِينَ} مسابقين يحسبون أنهم يفوتوننا وأن الله لا يقدر على بعثهم في الآخرة).

وقال ابن زيد: ({وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ}، قال: جاهدين ليهبطوها أو يبطلوها وهم المشركون، وقرأ: {لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ}).

وكلا المعنيين حق، فهم يحاولون المعاجزة بجحودهم ولكنهم لا يعجزون، ويجهدون لإبطال الحق ولكن ينقلب السحر على الساحر.

وقوله: {أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ} .

قال قتادة: (الرجز: سوء العذاب، الأليم: الموجع).

وقوله: {وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ} .

قال مقاتل: (الذين أوتوا العلم هم مؤمنو أهل الكتاب). وقال ابن عباس: (هم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم). وقيل: (جميع المسلمين).

فلما ذكر سبحانه الذين سعوا في إبطال النبوة وإنكار البعث والحساب والجزاء ونوال الثواب ونكال العقاب يوم القيامة، بيَّن أن الذين أوتوا العلم يرون أن القرآن حق ويدافعون عن دينهم ونبيهم ما يحاوله المشركون من النيل منهم، وأنهم إذا عاينوا قيام الساعة وفصل الحساب بمجازاة الأبرار والفجار بما كانوا علموه من كتب الله أنه واقع لا محالة قالوا:{هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ} [يس: 52].

{لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [الروم: 56].

{قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ} [الأعراف: 53].

وهذا الحق يهدي إلى صراط العزيز الذي لا يغالب، والحميد في أقواله وأفعاله وأمره ونهيه، وعند خلقه، فأياديه عندهم ونعمه لديهم.

7 -

9. قوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ

ص: 236

مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ (7) أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلَالِ الْبَعِيدِ (8) أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (9)}.

في هذه الآياتِ: لقد قال المشركون من قريش والكفار بالله ورسوله متعجبين بالبعث بعد الموت هل ندلكم أيها الناس على من يخبركم أنكم عائدون بعد تقطعكم في الأرض كهيئتكم قبل الممات؟ لا بد أنه إما أن يكذب وإما أن يكون مجنونًا. كلا يا محمد ليس الأمر كذلك، بل إن أولئك المشركين قد أبعدوا الذهاب عن طريق الحق، فهم قادمون على عذاب الآخرة، وكان أولى بهم أن ينظروا عن أيمانهم وشمائلهم كيف السماء قد أحاطت بهم ولو شئنا لأسقطنا قطعًا منها كما فعلنا بمن أسرف قبلهم، أو لخسفنا بهم الأرض وزلزلناها من تحتهم كما خسفنا بمن كذب الرسل قبلهم، ففي إحاطة السماء بهم من غير عمد وبثبات الأرض من حولهم لدلالة لكل من أناب لله وأقرّ له بالوحدانية والطاعة والإخبات أن فاعل ذلك لا يمتنع عليه فعل شيء أراد فعله.

فعن قتادة: ({وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ} قال: ذلك مشركو قريش والمشركون من الناس. {يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ} إذا أكلتكم الأرض وصرتم رفاتًا وعظامًا وقطعتكم السباع والطير {إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} ستحيون وتبعثون. قال قالوا تكذيبًا. {أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} قال: قالوا إما أن يكون يكذب على الله {أَمْ بِهِ جِنَّةٌ} وإما أن يكون مجنونًا).

وقال ابن زيد: (قال الله: {بَلِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلَالِ الْبَعِيدِ} وأمره أن يحلف لهم ليعتبروا وقرأ: {قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [التغابن: 7] وقرأ: {قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ}).

وفتحت الألف في قوله "أَفترى" لأنَّها ألف استفهام، وأما الألف التي بعدها (ألف افتعل أي ألف افترى) فذهبت لأنَّها خفيفة زائدة تسقط باتصال الكلام بها، ومثلها في القرآن قوله:{بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ} [ص: 75]، وقوله:{أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ} [الصافات: 153]، وقوله:{أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ} [المنافقون: 6].

قال شيخ المفسرين: (وأما ألف آلآن وآلذّكرين فطولت هذه ولم تطول تلك لأن

ص: 237

آلآن وآلذكرين كانت مفتوحة، فلو أسقطت لم يكن بين الاستفهام والخبر فرق).

وقوله: {أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ} . قال ابن كثير: (أي حيثما توجهوا وذهبوا فالسماء مطلة عليهم والأرض تحتهم، كما قال عز وجل: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ (47) وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ}).

وقوله: {إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ} . قال القرطبي: (فكيف يأمنون الخسف والكسف كما فعل بقارون وأصحاب الأيكة).

والكسف: القِطَع. وفي الآية تحذير للعباد من حلول الكوارث وأسباب الدمار فيهم إن لم يعتبروا بمن سبقهم في الضلال والاستهزاء.

وقوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ} . قال سفيان عن قتادة: (المنيب المقبل إلى الله تعالى). وقال سعيد عن قتادة: (والمنيب المقبل التائب).

وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:[بادروا بالأعمال فتنًا كقطع الليل المظلم يصبح الرجل مؤمنًا ويمسي كافرًا، أو يمسي مؤمنًا ويصبح كافرًا، يبيع دينه بعرض من الدنيا](1).

وله رواية عند الترمذي بلفظ: [بادروا بالأعمال الصالحة فستكون فتن].

وهي رواية مفسرة للأولى. أي ليكن استعدادكم قائمًا وجاهزيتكم حاضرة في التماس الأعمال الصالحة والمعالي، فإن كثرة الخبث سيقابلها الله بكثرة فتن تهدد قلوب الناس ومستقبلهم عقاب الله لهم، فستكون الفتن كقطع الليل المظلم، وَقِطَعُ إلليل أي طوائفه، فكلما ذهبت منه ساعة مظلمة أعقبتها ساعة مثلها، وكذلك الفتن.

وفي صحيح مسلم عن الأغرِّ بن يسار المُزني رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:[إنه ليُغان على قلبي وإني لأستغفر الله في اليوم مئة مرّة](2).

10 -

13. قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا يَاجِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (10) أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ

(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم في الصحيح - حديث رقم - (118)، كتاب الإيمان، باب الحث على المبادرة بالأعمال قبل تظاهر الفتن.

(2)

حديث صحيح. أخرجه مسلم في الصحيح (2702)(41). والغَيْن: ما يتغشى القلب من الغفلات.

ص: 238

بَصِيرٌ (11) وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ (12) يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ (13)}.

في هذه الآياتِ: يخبر جل ثناؤه عن أثر الطاعة وما يتذلل لأجلها من تسخير للخيرات وأسباب التمكين والقوة، فقد جمع سبحانه لعبده ونبيه داود عليه السلام بين النبوة والملك والتمكن والجنود ذوي العَدد والعُدد، وبارك له بصوت جميل كان إذا سَبَّحَ شاركته الجبال الشامخات والطيور السارحات وجاوبته بأنواع اللغات. ثم أخبر سبحانه أنه سخر له الحديد وأسباب القوة فيسويها بيده ويصنع منها الدروع ويقدر المسامير في الحلق ليثقب الدروع فينتفع بها في البيع والتجارة، فكان يأكل بذلك من عمل يده من صنعة فتحها الله عليه فوسع له في معيشته فلا يحتاج لأحد، ويتصدق على الفقراء والمساكين وينفق في مصالح المسلمين، وكذلك سخر لسليمان الريح يتحرك بمركبه فيها يرهب أعداء الله يفاجئهم بقدوم سريع، فدانت له الأرض وهو يحكم بالعدل وسلطان الحق وهيبته، كما سخّر له كذلك سبحانه جنودًا من الجن لا يغادرون أمره، فأنشؤوا له البنيان والقصور والمساجد والمساكن ونحتوا له الأحواض التي يُجبى فيها الماء، وقدور الطعام التي تكفي الجيوش، فاعملوا بطاعة الله مزيدًا يا آل داود، فإن شكر الله عليها يقتضي دوامها.

فعن ابن عباس: ({أَوِّبِي مَعَهُ} قال: سبحي معه). والتأويب في كلام العرب الرجوع أو الترجيع.

وفي نصب {وَالطَّيْرَ} وجهان عند أهل العلم بالعربية: الوجه الأول: أنَّ الطير نوديت كما نوديت الجبال، فتكون منصوبة من أجل أنَّها معطوفة على مرفوع لكن بما لا يحسن إعادة رافعه عليه. والوجه الثاني: أنَّ تكون منصوبة بفعل محذوف تقديره سخّرنا، فيكون المعنى: يا جبال أوبي معه وسخرنا له الطير.

وقال القاسمي: ({يَاجِبَالُ} بدل من {فَضْلًا} أو من {آتَيْنَا}).

وقوله: {وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ} . قال قتادة: (سخر الله له الحديد بغير نار. وقال: كان يسويها بيده ولا يدخلها نارًا ولا يضربها بحديدة).

ص: 239

وقوله: {أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ} . وهي التوامّ الكوامل من الدروع. قال ابن زيد: (السابغات: دروع الحديد). وقال قتادة: (دروع، وكان أول من صنعَها داود، إنما كان قبل ذلك صفائح).

وقوله: {وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ} . قال ابن عباس: (يعني بالسرد: ثقب الدروع، فيسد قتيرها). وقال ابن زيد: (السرد: حلقة، أي قدّر تلك الحلق). وقال قتادة: (كان يجعلها بغير نار، ولا يقرعها بحديد ثم يسردها. والسرد: المسامير التي في الحلق).

وقال: (كانت صفائح فأُمِرَ أن يسردها حلقًا).

قال شيخ المفسرين: (وعنى بقوله: {وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ}: وقدِّر المسامير في حلق الدروع حتى يكون بمقدار لا تغلظ المسمار وتضيق الحلقة فتفصم الحلقة، ولا توسع الحلقة وتصغر المسامير وتدقها فتسلس في الحلقة).

وذكر قول مجاهد: (لا تصغر المسمار وتعظم الحلقة فتسلس، ولا تعظم المسمار وتصغر الحلقة فيفصم المسمار).

فهذه علوم وصناعة وحضارة يفتحها الله على أنبيائه وأوليائه لما كان هَمُّهم تعظيم أمره والحكم بشريعته وأن يعبد الله وحده في الأرض ولا يشرك به، لما كان همّهم ومطلبهم هو حراسة دين الله وسياسة الدنيا به، إذن: فليخضع الحديد لجلالة مرادهم، ولتمض الرياح لخدمة غرضهم، ولتشاركهم الطبيعة تسبيحهم وصلاتهم وقتالهم، ولتضع الملائكة أجنحتها رضًا لما أهمهم، ولتقرأ الأجيال المتعاقبة في القرآن الكريم أن طاعة الرحمان تورث العزّ والقوة والنعيم في الدنيا والآخرة.

فاعمل يا داود أنت وآلك بطاعة الله، إني بما تعملون ذو بصر لا يخفى على منه شيء، وأنا مجازيك وإياهم على جميع ذلك.

وقوله: {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ} .

قال قتادة: (تغدو مسيرة شهر، وتروح مسيرة شهر. قال: مسيرة شهرين في يوم).

فسخّرها له سبحانه غدوها إلى انتصاف النهار مسيرة شهر، ورواحها من انتصاف النهار إلى الليل مسيرة شهر، وأكثر القراء بنصب الريح، والمعنى: ولقد آتينا داود منا فضلًا وسخرنا لسليمان الريح. وقرأ عاصم: {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحُ} بالرفع على الابتداء، والأول عليه الإجماع.

ص: 240

وقال الحسن البصري: (كان يغدو على بساطه من دمشق فينزل باصطخر يتغذى بها، ويذهب رائحًا من اصطخر فيبيت بكابل، وبين دمشق واصطخر شهر كامل للمسرع، وبين اصطخر وكابل شهر كامل للمسرع).

وفي رواية: ({غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ} قال: كان يغدو فيقيل في اصطخر، ثم يروح منها فيكون رواحها بكابل).

وقال ابن زيد: {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ} : كان له مركب من خشب، وكان فيه ألف ركن، في كل ركن ألف بيت، تركب فيه الجن والإنس، تحت كل ركن ألف شيطان، يرفعون ذلك المركب هم والعصار، فإذا ارتفع أتت الريح رخاء فسارت به وساروا معه، يقيل عند قوم بينه وبينهم شهر، ويمسي عند قوم بينه وبينهم شهر، ولا يدري القوم إلا وقد أظلهم معه الجيوش والجنود).

وقوله: {وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ} . قال قتادة: (عين النحاس، كانت بأرض اليمن، وإنما يُنْتَفَعُ اليوم بما أخرج الله لسليمان).

وقال ابن زيد: ({وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ}. قال: الصِّفر سال كما يسيل الماء، يعمل به كما كان يعمل العجين في اللين).

فذلل الله سبحانه الريح والنحاس وأسباب القوة والتمكين لنبيِّه سليمان عليه الصلاة والسلام، لما كان شاغله في ذلك العمل بالعدل الذي أوحاه الله إليه، وإقامة الحق وتعظيمه، وحراسة دولة الحق من أن يدخلها الفساد، وسخّر له بذلك جنودًا وجيوشًا جَرَّارة من الجن يطيعونه ويأتمرون بأمره. قال تعالى:{وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ} . ومن يعدل منهم عن أمر الله بأن يطيع سليمان نذقه عذاب جهنم في الآخرة.

فعن قتادة: {وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا} : أي يعدل منهم عن أمرنا عما أمره به سليمان {نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ} ).

وقوله: {يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ} .

المحاريب: جمع محراب، وهو مقدَّم كل مسجد وبيت ومصلى.

قال مجاهد: (قوله: ({مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ}، قال: بنيان دون القصور).

وقال قتادة: ({مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ} وقصور ومساجد).

وقال ابن زيد: (المحاريب: المساكن. وقرأ قول الله: {فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ

ص: 241

يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ} [آل عمران: 39]). وقال الضحاك: (المحاريب: المساجد).

وكذلك يعملون له تماثيل من نحاس وزجاج. قال مجاهد: ({وَتَمَاثِيلَ}، قال: من نحاس). وقال قتادة: (من زجاج ومشبه). وقال الضحاك: ({وَتَمَاثِيلَ}، قال: الصور). قال أبو العالية: (لم يكن اتخاذ الصوَر إذ ذاك محرمًا).

وكذلك ينحتون له ما يشاء من جفان كالجواب: جمع جابية، وهو الحوض الذي يُجْبى فيه الماء. قال ابن عباس:({وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ}: يقول كالجوبة من الأرض).

وفي رواية عنه، قال:(يعني بالجواب: الحياض). وقال مجاهد: ({وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ}: حياض الإبل). وقال قتادة: (جفان كجوبة الأرض من العِظَم، والجوبة من الأرض: يستنقع فيها الماء).

وقوله: {وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ} . وهي أوعية عظيمة يصنع فيها الطعام يكفي القبيلة من الناس. قال سعيد بن جبير: (هي قدور النحاس تكون بفارس). وقال الضحاك: (هي قدور تُعمَلُ من الجبال). وقال قتادة: ({وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ}: عظام ثابتات الأرض لا يزُلن عن أمكنتهن). وقال ابن زيد: (مثالُ الجبال من عِظَمِها يُعْمَلُ فيها الطعام من الكبر والعظم لا تحرّك ولا تنقل كما قال للجبال راسيات).

فاعملوا يا آل داود بطاعة الله شكرًا له على ما أغدق عليكم فخصَّكُم به على سائر خلقه، والتقدير: وقلنا لهم: اعملوا. وأخرج قوله شكرًا مصدرًا من اعملوا: أي اشكروا شكرًا.

فعن محمد بن كعب: (قوله: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا}. قال الشكر: تقوى الله والعمل بطاعته). وقال ابن زيد: (أعطاكم وعلمكم وسخَّر لكم ما لم يسخر لغيركم، وعلمكم منطق الطير، اشكروا له يا آل داود، قال: الحمد طرف من الشكر).

أخرج الطبراني بإسناد حسن عن أبي أمامة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[ما أنعم الله على عبد نعمة فحمد الله عليها إلا كان ذلك الحمد أفضلَ من تلكَ النعمة](1).

وعند ابن ماجة بسند صحيح عن أنس رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [ما أنعم

(1) حديث حسن. أخرجه الطبراني بإسناد حسن من حديث أبي أمامة. انظر صحيح الجامع (5438)، وكتابي: أصل الدين والإيمان (1/ 318) لتفصيل البحث.

ص: 242

الله تعالى على عبدٍ نعمة فقال: الحمد لله، إلا كان الذي أعطى أفضلَ مما أخذ] (1).

وقوله: {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} . قال ابن عباس: (يقول: قليل من عبادي الموحِّدون توحيدهم).

فهذا النعيم والملك والشوكة في الأرض يدجج الله بها أنبياءه لتحمي الحق، ولتهدد المفسد ولتبين جمالَ سلطان العدل وهيبته في الحكم، أنعم الله بها على آل داود واختص سليمان برهبة وجند. وقيل: كان مستقر سليمان بمدينة تدمر، وكان أمر الشياطين قبل شخوصه من الشام إلى العراق، فبنوها له بالصُّفاح - وهي حجارة عريضة رقيقة - والعَمَد والرخام الأبيض والأصفر، قاله ابن زيد. وفيه يقول النابغة:

إلا سليمانَ إذ قال الإله له

قُمْ في البريّة فاحْدُدْها (2) عن الفَنَد

وخَيِّسِ (3) الجن إني قد أذنت لهم

يبنون تَدْمُرَ بالصُّفاحِ والعمد

فمن أطاعك فانفعه بطاعته

كما أطاعك وادْلُلْه على الرشد

ومن عصاك فعاقِبْهُ معاقبة

تنهى الظلوم ولا تقْعُدْ على ضمد (4)

قال القرطبي رحمه الله: ووجدت هذه الأبيات منقورة في صخرة بأرض يَشْكُر أنشأهن بعض أصحاب سليمان عليه الصلاة والسلام:

ونحن ولا حول سوى حول ربنا

نروح إلى الأوطان من أرض تَدْمُرِ

إذا نحن رُحْنا كان رَيْثُ رواحِنا

مسيرةَ شهرٍ والغدُوّ لآخَرِ

أُناسٌ شَرَوا لله طوعًا نفوسَهم

بنصر ابن داودَ النبي المطهَّرِ

لهم في معالي الدين فضل ورفعة

وإن نُسبوا يومًا فمن خير معشَرِ

متى يركبوا الريح المطيعة أسرعَتْ

مبادرةً عن شَهرْها لم تُقَصِّر

تظلهمُ طيرٌ صفوف عليهم

متى رَفرفت من فوقهم لم تُنَفَّرِ

14.

قوله تعالى: {فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ

(1) حديث صحيح. أخرجه ابن ماجة في السنن (3805) - كتاب الأدب - باب فضل الحامدين. وانظر صحيح سنن ابن ماجة - حديث رقم - (3067). وصحيح الجامع (5439)، والمرجع السابق في بحث: أنواع شكر الناس.

(2)

الحد: المنع. والفند: الخطأ. أي امنعها عن التجاوز والخطأ والعصيان.

(3)

خيِّس: ذلّل. أي استعملهم كما شئت جنودًا يعملون لك تحت أمرك.

(4)

الضمد: الحقد.

ص: 243

تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ (14)}.

في هذه الآية: يخبر الله جَلَّ ذكره عن قصة موت سليمان لتكون عبرة للجانّ الذين يَدَّعُون علم الغيب ولغيرهم من الإنس من أتباع الشياطين، من المنجمين والسحرة والكهان والعرافين، فقد عَمَّى الله موته على الجان المسخّرين له في الشاق من الأعمال والبنيان، فقد مكث متكئًا على منسأته - وهي عصاه - بعد فراق روحه لجسده مدة طويلة، قيل سنة من الزمان - إلى أن أكلت دابة الأرض - وهي الأرضة - عصاه، فضعُفَت وسقط إلى الأرض، فتبينوا أن موته كان قبل ذلك بأوان، وعلمت الجن والإنس أن من ظنّ علم الغيب من الجان كان كاذبًا وصاحب أوهام.

فعن ابن عباس: (قوله: {إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ} يقول: الأرضة تأكل عصاه).

وقال السدي: (المنسأة: العصا بلسان الحبشة). وقال قتادة: (أكلت عصاه حتى خرّ).

وقرأ عامة قراء المدينة "مِنْسَأته" على وزن "مِفعلة". وقرأها بعض قراء البصرة "مِنساتَه" غير مهموزة، وهي قراءة نافع وأبي عمرو، واختار ابن جرير الهمز، وإن كانتا قراءتين مشهورتين.

وقوله: {فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ} .

أي العذاب المذل. قال ابن جرير: (حولًا كاملًا بعد موت سليمان وهم يحسبون أن سليمان حيّ).

لقد قصّ الله علينا في هذه الآياتِ خبر نبيه سليمان عليه الصلاة والسلام، وما أنعم عليه بطاعته وشكره وتذليل أسباب القوة والتمكين له في الأرض، لحماية الحق وحراسة الدين، وإرهاب عدو الله والجهاد لتعلو كلمة الله، ويعلو منهاجه فوق كل منهج.

وقد أخبرنا نبينا صلى الله عليه وسلم عن بعض طموحات أخيه سليمان في بلوغ المعالي وأسباب القوة.

ففي الصحيحين والمسند عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [قال سليمانُ بن داودَ: لأطوفَنَّ الليلة على مئة امرأة كُلُّهُنَّ تأتي بفارس يُجاهد في سبيل

ص: 244

الله، فقال له صاحبه: قل إن شاء الله، فلم يقل إن شاء الله. فطاف عليهنَّ فلم تحمِلْ مِنْهُنَّ إلا امرأةٌ واحدة جاءت بشقِّ إنسان، والذي نفسُ محمد بيده، لو قال: إن شاء الله لم يحنثْ وكان دَرَكًا لحاجته] (1).

وقد صنفه البخاري في كتاب الجهاد والسير، باب من طلب الولد للجهاد. ثم ذكره في أكثر من موضع.

فعلّمنا نبينا صلى الله عليه وسلم بذلك أن لا نتكلم في المستقبل إلا بربطه بمشيئة الله، كما قال جل ثناؤه:{وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} [الكهف: 23، 24]. فإذا جمع المؤمن بين طموح سليمان عليه السلام وحبه لرؤية الحق عاليًا مهيمنًا في الأرض منتصرًا وأهله أعزة، وبين كمال التوكل والتوحيد والتوجه لله ورَبْطِ الأمر بمشيئته سبحانه، فقد استمسك بالعروة الوثقى، وعسى الله أن يريه أيامه في نصر الحق وأهله، إنه قريب من المؤمنين.

ثم قصّ الله سبحانه قَصَصَ من أسرف ولم يعظم شعائره، بعد أن قص قَصَصَ من عَظَّم أمره وعمل بشرعه ومنهاجه. فقال جل ذكره.

15 -

22. قوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (15) فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ (16) ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ (17) وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ (18) فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (19) وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (20) وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا

(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري في صحيحه - حديث رقم - (2819)، كتاب الجهاد والسير، وكذلك (3424)، ورواه مسلم وأحمد وغيرهم.

ص: 245

فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (21) قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (22)}.

في هذه الآياتِ: يقص الله سبحانه على نبيه صلى الله عليه وسلم خبر سبأ، وهم قوم سكنوا اليمن وينسبون إلى رجل من العرب اسمه سبأ، وبلقيس منهم، وقد كانوا يعيشون في نعمة وغبطة في بلادهم، واتساع في أرزاقهم وثمارهم، وجمال في جنانهم وبساتينهم، فبعث الله إليهم رسله يأمرونهم بتوحيده وشكره على ما أغدق عليهم، فكانوا كذلك ما شاء الله، ثم انتكسوا وأصابهم الكبر، فعوقبوا بالسيل والتفرق في البلاد، فصاروا عبرة في الزمان لكل من طغى في النعم بدلًا من شكرها، فصار يقال: تفرقوا أيدي سبأ.

وقيل: اسم سبأ عبد شمس بن يشجُبَ بن يعرُب بن قحطان. وإنما سمي سبأ لأنه أول من سبى في العرب، وكان يقال له الرائش لأنه أول من غنم في الغزو فأعطى قومه، وذكروا أنه بَشَّر برسول الله صلى الله عليه وسلم وقال:

سيملِكُ بَعْدَنا مُلْكًا عظيمًا

نبيٌّ لا يُرَخّصُ في الحَرام

ويملك بعْده منْهُم مُلوكٌ

يدينون العبادَ بغير ذامِ

ويَملك بعدهم منَّا مُلوك

يصير المُلك فينا باقْتسام

ويَمْلك بَعْدَ قَحْطانٍ نبيٌّ

تَقِيٌّ جَبينُهُ (1) خيرُ الأنام

وسُميَ أحْمَدًا يا ليت أني

أعَمِّرُ بعد مَبْعَثِه بعَام

فأعضُده وأحبُوه بنصري

بكُل مُدجَّجٍ وبِكُل رامِ

متى يَظْهَرْ فكونوا ناصِريه

ومَنْ يلقاهُ يُبْلِغُه سلامي

أخرج الإمام أحمد بإسناد حسن عن ابن عباس رضي الله عنهما: [أنَّ رجلًا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن سبأ: ما هو أرجل أم امرأة أم أرض؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بل هو رجل ولد له عشرة، فسكن اليمن منهم ستة، والشام منهم أربعة، فأما اليمانيون: فَمَذْحِجُ، وكِنْدَةُ، والأزد، والأشعريون، وأنمار، وحِمْيَر. وأما الشامية فَلَخْمٌ، وجُذامٌ، وعامِلةُ، وغسّان](2).

(1) الكلمة غير مناسبة وينكسر فيها الشعر، والأصح منها "وَجْهُهُ".

(2)

حديث حسن. أخرجه الإمام أحمد في المسند (1/ 316)، وإسناده لا بأس به لأنه من رواية أبي =

ص: 246

وقد قرأ عامة قراء المدينة"مساكِنهم"، وقرأها بعض الكوفيين "مسكِنِهم" وقرأها حمزة "مسكَنِهم" وهي قراءات معروفة.

وقوله: {جَنَّتَانِ} . أي بستانان كانا بين جبلين عن يمين من أتاهما وشماله، ورفعت، والتقدير: آية هي جنتان.

وعن قتادة: ({لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ} قال: كانت جنتان بين جبلين، فكانت المرأة تُخرج مِكْتَلها على رأسها فتمشي بين جبلين فيمتلى مكتلها وما مست بيدها، فلما طغوا بعث الله عليهم دابة يقال لها جُرَذ فنقبت عليهم فغرقتهم، فما بقي لهم إلا أثل وشيء من سدر قليل).

قال ابن زيد: (ولم يكن يرى في قريتهم بعوضة قط، ولا ذُباب ولا بُرغوث ولا عقرب ولا حية، وإن كان الركب ليأتون في ثيابهم القُمَّل والدواب فما هم إلا أن ينظروا إلى بيوتهم فتموت الدواب. قال: وإن كان الإنسان ليدخل الجنتين فيمسك القُفَّة على رأسه فيخرج حين يخرج وقد امتلأت القفة من أنواع الفاكهة ولم يتناول منها شيئًا بيده. قال: والسدّ يسقيها).

وعن قتادة: (قوله: {بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ} قال: وربكم غفور لذنوبكم، قوم أعطاهم الله نعمة وأمرهم بطاعته ونهاهم عن معصيته).

وقال وهب بن منبه اليماني: القد بعث الله إلى سبأ ثلاثة عشر نبيًا فكذبوهم: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ} يقول تعالى ذكره: فثقبنا عليهم حين أعرضوا عن تصديق رسلنا سدهم الذي كان يحبس عنهم السيول).

= عبد الرحمن أحد العبادلة عن ابن لهيعة، وله طرق وشواهد.

فقد أخرج الترمذي بسند حسن عن فروة بن مسيك المرادي قال: [أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله، ألا أقاتل من أدبر من قومي، بمن أقبل منهم؟ فاذن لي في قتالهم وأمرني، فلما خرجث من عنده سأل عني ما فعل الغُطيفي؟ فأُخبر أني قد سرت، قال: فأرسل في أثري فردني فأتيته وهو في نفر من أصحابه فقال: "ادع القومِ فمَنْ أسْلمَ منهم فاقبل منه، ومَنْ لم يُسْلِم فلا تَعْجَلْ حتى أُحْدِثَ إليك"، قال: وأنْزِلَ في سَباء ما أنزل، فقال رجل: يا رسول الله، وما سبأ أرض أو امرأة؟ قال: "ليس بأرض ولا امرأة، ولكنه رجلٌ وَلَدَ عشْرة من العرب فتيامَنَ منهم سِتةٌ، وتشاءَمَ منهم أربعة، فأما الذين تشاءموا فَلخْمٌ، وجُذامٌ، وغسانُ، وعامِلَةُ. وأما الذين تيامَنوا: فالأَزدُ، والأشعرون، وحِميَرُ، وكِندَةُ، ومَذْحِجُ، وأنمارُ". فقال رجل: يا رسول الله، ما أنمار؟ قال: "الذين منهم خَثْعَمُ وبجيلةُ"]. صحيح سنن الترمذي (2574).

ص: 247

والعرم في معناه أقوال كثيرة:

1 -

قال ابن عباس: (السدّ). فالتقدير: سيل السد العَرِم.

2 -

قال عطاء: (اسم الوادي). وقال قتادة: (العرم وادي سبأ كانت تجتمع إليه مسايل من الأودية قيل من البحر وأودية اليمن). وقال ابن عباس: (واد كان باليمن، كان يسيل إلى مكة، وكانوا يسقون وينتهي سيلهم إليه).

3 -

وقال مجاهد: (العرِم: ماء أحمر أرسله الله تعالى في السد فشقه وهدمه).

4 -

وقال ابن عباس: (العرم المطر الشديد).

واختار ابن جرير أن العرم: المسنَّاة التي تحبس الماء، واحدها: عرمة.

ويبدو أن العرم سدّ بَنَتْه بلقيس وهو المسنّاة بلغة حمير. قيل: لما ملكت جعل قومها يقتتلون على ماء واديهم فنهتهم فلم يطيعوا، فتركت ملكها فجاؤوا يعتذرون. قالوا:(فإنا نطيعك وإنا لم نجد فينا خيرًا بعدك فجاءت فأمرت بواديهم فسدّ بالعرم) - ذكره المغيرة بن حكيم.

وقال قتادة: (لما ترك القوم أمر الله بعث الله عليهم جُرَذًا يسمى الخُلْد فثقبه من أسفله حتى غرّق به جناتهم وخرب به أرضهم عقوبة بأعمالهم).

وقوله: {وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ} . قال ابن عباس: (أبدلهم الله مكان جنتيهم جنتين ذواتي أَكل خمط، والخمط: الأراك).

قال أبو عبيدة: (هو كل شجر ذي شوك فيه مرارة). وكذلك قال الزجاج في الخمط، قال:(كل نبت فيه مرارة لا يمكن أكله).

وقيل للبن"خمط" إذا حُمّض. وقوله: {وَأَثْلٍ} . قال ابن عباس: (والأثل: الطرفاء).

وللأثل أصول غليظة يتخذ منه الأبواب، وقيل منه اتخذ مِنْبَرُ النبي صلى الله عليه وسلم واحدته أثلة، والجمع أثلات. قال الحسن:(الأثل الخشب).

وقوله: {وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ} . قال الأزهري: (السِّدر من الشجر سدران: بريّ لا ينتفع به ولا يصلح ورقه للغَسُول وله ثمر عَفِص لا يؤكل، وهو الذي يسمى الضّال. والثاني: سِدْر ينبت على الماء وثمره النَّبق وورقه غَسول يشبه شجر العُنّاب).

قال القاسمي: ({وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ} أي قلة لا تسمن ولا تغني من جوع).

ص: 248

وهذا كما قال قتادة: (بينما شجر القوم خير الشجر إذ صيّره الله من شر الشجر بأعمالهم).

وقوله: {ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا} . التقدير: جزيناهم ذلك بما كفروا، فإن {ذَلِكَ} في محل نصب.

وقوله: {وَهَلْ نُجَازِي} كذلك قرأها قراء الكوفة. وأما قراء المدينة والبصرة فقرؤوها "يُجازى" وكلاهما قراءتان معروفتان.

والمجازاة هنا المكافأة، فالجزاء لأهل الإيمان مع التفضل الحسنة بعشر أمثالها، والمكافاة لأهل الكبائر والكفر والسيئة بمثلها، فلا يكافأ على عمله إلا الكفور، فلا يغفر الله له من ذنوبه، وأما المؤمن فيتفضل عليه.

فعن مجاهد: ({وَهَلْ نُجَازِي} نعاقب).

وعن قتادة: ({ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ}، قال: إن الله تعالى إذا أراد بعبده كرامة تقبّل حسناته وإذا أراد بعبده هوانًا أمسك عليه ذنوبه حتى يوافى به يوم القيامة. قال: وذكر لنا أن رجلًا بينما هو في طريق من طرق المدينة إذ مرّت به امرأة فأتبعها بصره حتى أتى على حائط فشج وجهه فأتى نبى الله ووجهه يسيل دمًا، فقال: يا نبي الله فعلت كذا وكذا، فقال له نبي الله: إن الله إذا أراد بعبد كرامة عجّل له عقوبة ذنبه في الدنيا، وإذا أراد بعبد هوانًا أمسك عليه ذنبه حتى يوافيَ به يوم القيامة كأنه عَيْرٌ أبتر).

قلت: وهذا يصلح شاهدًا لما أخرج الترمذي بسند صحيح عن أنس مرفوعًا: [إذا أراد الله بعبده الخير عجّل له العقوبة في الدنيا، وإذا أراد بعبده الشر أمسك عنه بذنبه حتى يُوافى به يوم القيامة](1).

وقوله: {وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً} .

يذكر سبحانه أنهم كانوا في غبطة وأمن، وقرى متقاربة متواصلة كثيرة الشجر والثمار، فلا يحتاج المسافر حمل زاد ولا ماء، فكانوا يسيرون من اليمن إلى الشام في قرى ظاهرة متواصلة مقدرة السير، أي ما يحتاج المسافرون فيها، فلما بطروا النعمة

(1) حديث صحيح. أخرجه الترمذي (2/ 64)، والبيهقي في "الأسماء" ص (154)، وانظر سلسلة الأحاديث الصحيحة (1220) بلفظ مقارب، وصحيح الجامع الصغير (305).

ص: 249

قالوا ربنا باعد بين أسفارنا استهزاء وتكبرًا وحُبًّا للمغامرة التي بمعنى العلو في الأرض وظن السيطرة عليها لا بمعنى المعالي والتسابق في الخيرات، فعندها أبدلهم الله بها وقطعهم في الأرض فصاروا مثلًا بين الناس يقال: تفرقوا أيادي سبأ.

فعن مجاهد: ({الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا} قال: الشام). وقال ابن عباس: (الأرض التي باركنا فيها هي الأرض المقدسة. وقوله: {قُرًى ظَاهِرَةً} قال: يعني قرى عربية، بين المدينة والشام). وقال مجاهد: ({قُرًى ظَاهِرَةً}: السَّرَوَات).

وقال ابن زيد: (إن كانت المرأة لتخرجُ معها مِغْزَلُها ومكتلُها على رأسها، تروح من قرية وتغدوها، وتبيت في قرية، لا تحمل زادًا ولا ماءً لما بينها وبين الشام).

وقال الحسن: (كان أحدهم يغدو فيقيل في قرية ويروح، فيأوي إلى قرية أخرى. قال: وكانت المرأة تضع زِنْبيلها على رأسها ثم تمتهن بمغزلها فلا تأتي بيتها حتى يمتلى من كل الثمار).

وقوله: {وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْر} . قال ابن جرير: (يقول تعالى ذكره: وجعلنا بين قراهم والقرى التي باركنا فيها سيرًا مقدرًا من منزل إلى منزل، وقرية إلى قرية، لا ينزلون إلا في قرية، ولا يغدون إلا من قرية).

وقال القرطبي: (أي جعلنا بين كل قريتين نصف يوم حتى يكون المقيل في قرية والمبيت في قرية أخرى. وإنما يبالغ الإنسان في السير لعدم الزاد والماء ولخوف الطريق، فإذا وجد الزاد والأمن لم يحمل على نفسه المشقة ونزل أينما أراد).

وقوله: {سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ} .

قال قتادة: (لا يخافون ظلمًا ولا جوعًا، وإنما يغدون فيقيلون ويروحون فيبيتون في قرية أهلِ جنة ونهر).

وقوله: {آمِنِينَ} منصوب على الحال، أي: فكانوا يسيرون إلى مقاصدهم آمنين.

والأمن أمرٌ عظيم لا يعرف قدره إلا من حُرِمه، وقد أشار إليه عليه الصلاة والسلام وإلى قيمته، فيما رواه الترمذي وابن ماجة بسند حسن عن عبيد الله بن محصن، قال

ص: 250

رسول الله صلى الله عليه وسلم: [من أصبح منكم آمنًا في سِرْبِهِ، مُعَافىً في جسده، عنده قوتُ يومه، فكأنما حِيزَتْ له الدنيا بحذافيرها](1).

ومع ذلك تكبر هؤلاء القوم فَفَرَّطُوا بالأمن وضيعوا النعم واستبدلوها بالنقم، لما أصابهم الغرور والعجب وهو أخطر ما يهدد العبد في رخائه، ولذلك حذّر النبي صلى الله عليه وسلم من الوقوع به أشد التحذير.

فقد أخرج البيهقي بإسناد حسن عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [لو لم تكونوا تُذنبون لخِفْتُ عليكم ما هو أكبَرُ من ذلك العُجْبَ العُجْبَ](2).

وقوله. {فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا} .

فيه قراءتان مشهورتان:

1 -

قرأه عامة قراء المدينة والكوفة على وجه الدعاء {رَبَّنَا بَاعِدْ} .

2 -

وقرأه بعض قراء مكة والبصرة بلفظ: "بعِّد" على وجه الدعاء أيضًا. وهناك قراءة بلفظ: "باعَدَ" أو "بَعَّدَ" على وجه الخبر لكن ذلك ليس بالقوي.

فتأويل الكلام هو كما اختار ابن جرير رحمه الله: (فقالوا: يا ربنا باعد بين أسفارنا فاجعل بينا وبين الشأم فَلَوات ومَفاوِزَ لنركب فيها الرواحل ونتزود معنا فيها الأزواد، وهذا من الدلالة على بطر القوم نعمةَ الله عليهم وإحسانه إليهم وجهلهم بمقدار العافية، ولقد عجل لهم ربهمٍ الإجابة كما عجل للقائلين: {وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}).

وقال ابن عباس: (فإنهم بطروا عيشهم وقالوا: لو كان جنى جناتنا أبعد مما هي كان أجدر أن نشتهيه، فَمُزِّقوا بين الشام وسبأ، وبذلوا بجنتيهم جنتين ذواتي أكل خمط وأثل وشيء من سدر قليل).

وخلاصة القول:

فبعد أن سرد سبحانه قصة تبديل جناتهم لما أعرضوا فَصَّلَ سبحانه في الآياتِ التالية

(1) حديث حسن. أخرجه الترمذي في الجامع (2347)، وابن ماجة في السنن (2/ 525)، وانظر سلسلة الأحاديث الصحيحة (2318).

(2)

حديث صحيح. أخرجه اليهقي بسند حسن من حديث أنس. انظر صحيح الجامع (5179)، وكتابي أصل الدين والإيمان (2/ 1202) لتفصيل البحث.

ص: 251

لها مظاهر من إعراضهم وكبرهم وأقوالهم وأفعالهم التي استحقوا بها التشريد والعذاب، ومن ذلك طلبهم المباعدة بين قراهم ظلمًا وعلوًا في الأرض.

قال ابن زيد: ({فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا} حتى نبيت في الفلوات والصحارى، {وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ} قال: وكان ظلمهمِ إياها عملَهم بما يسخط الله عليهم من معاصيه مما يوجب لهم عقاب الله. {فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ} يقول: صيَّرناهم أحاديث للناس يضربون بهم المثل في السبِّ فيقال: تفرق القوم أيادي سبأ، وأيدي سبأ إذا تفرقوا وتقطعوا).

ولعَمْر الله كم ضيَّع المسلمون من النعم والبساتين والمياه العذبة بمعاصيهم، فهي قصة تتكرر منذ ذلك الزمان، فإذا ما رأيت طبيعة غناء تجري تحت بساتينها الأنهار رأيت محاولة الناس للتفلت من الأدب والحياء مع ربهم سبحانه الذي أنعم عليهم بهذا الجمال، وبهذه الأنهار والثمار، من أجل سرورهم وسعادتهم، فتراهم بدلًا من الشكر والحمد لله المنعم المتعال يرقصون ويغنون بالغناء الماجن، ويتكشفون رجالًا ونساءً لتظهر سوءاتهم وعوراتهم، ويشربون الخمور ويرفعون أصوات معازفهم وكأنهم مسخوا قردة وخنازير. كما قال القائل:

وعند الينابيع حاناتهم

وقرب المياه وتحت الشجر

ونسوتهم عاريات وقد

أضعن الحياء وطهر الخضر

فلا من يغار على عرضه

ولا من يقوم بغض البصر

مقاه تعج بروَّادها

لقيل وقال ولعب الزهر

وخلف الإمام ترى واحدًا

أو اثنين في صلوات السحر

فقد أسهروا خلف راء لهم

وناموا عن الفجر بعد السهر

وقاموا وللشمس رمضاؤها

كمن قد أصيب بمس وضر

فيبدل الله تلك الحدائق الغناء بفلوات وصحارى، أو بعمران مستمر يغيب معه اللون الأخضر، ويغور الماء في الأرض، لتتكرر المأساة ببغي الناس وعصيانهم كما فعل بقوم سبأ.

قال قتادة: قال عامر الشعبي: (أما غسّان فقد لحقوا بالشام، وأما الأنصار فلحقوا بيثرب، وأما خزاعة فلحقوا بتهامة، وأما الأزد فلحقوا بعُمان).

فقد خرجت غسّان إلى بصرى، وخرج الأوس والخزرج إلى يثرب ذات نخل، فأتوا على بطن مر، فقال بنو عثمان:(هذا مكان صالح لا ينبغي به بدلًا). فأقاموا فيه

ص: 252

فسموا لذلك خزاعة؛ لأنهم انخزعوا من أصحابهم، واستقامت الأوس والخزرج حتى نزلوا المدينة، ونزلت "أزد السراة" السراة، ونزلت "أزد عمان" عمان، ثم أرسل الله تعالى على السد فهدمه، فكان ما حلّ بهم من تبديل النعمة وتحويل العافية عقوبة على ما ارتكبوه من الكفر والآثام لعبرة لكل صبار على المصائب صبور على النعم، فالمؤمن متوازن في قلبه ومشاعره بين الشكر وبين الصبر دومًا.

فقد أخرج البيهقي بإسناد صحيح عن سعد رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [عجبت للمسلم إذا أصابته مصيبة احتسب وصبر، وإذا أصابه خير حمد الله وشكر، إن المسلم يؤجر في كل شيء حتى في اللقمة يرفعها إلى فيه](1).

وله شاهد في زوائد المسند بإسناد جيد عن أنس رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أعجبت للمؤمن، إن الله تعالى لم يقض له قضاءً إلا كان خيرًا له] (2).

ولذلك قال قتادة في قوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} ، قال:(كان مُطَرِّف يقول: نعم العبد الصبار الشعكور، الذي إذا أُعْطيَ شكر وإذا ابْتُليَ صبر).

وهذه الصفة لا تجدها إلا عند المؤمن، فإن خوفه من الله وحبّه له يجعله بين هذين المقامين، مقام الصبر ومقام الشكر، ولا يشترك معه أحد به، فمن لم يمتلئ قلبه بتعظيم الله وخوفه فلربما تذمر ونطق بالسخط عند المصيبة، ولربما شتم وكفر، فلذلك أُفرد المؤمن بهذا النعت الطيب.

ففي صحيح مسلم من حديث صهيب مرفوعًا: [عجبًا لأمر المؤمن، إن أمره كلَّه له خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرًا له](3).

وقوله: {وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ} .

قرأ عامة قراء الكوفة "صَدَّق" بالتشديد، بمعنى أنه قال إبليس ظنًا منه:{وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} [الأعراف: 17]، وقال:{قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (83)} [ص: 82، 83]. ثم صَدَّق ظنه ذلك فيهم، فحقق ذلك بهم وباتباعهم

(1) حديث صحيح. أخرجه البيهقي، والطيالسي (211) بإسناد صحيح، وله شاهد في مسند أحمد (6/ 13). وانظر صحيح الجامع (3881)، والسلسلة الصحيحة (147).

(2)

إسناده صحيح. أخرجه عبد الله بن أحمد في مسند أبيه (5/ 24)، وأبو يعلى (2/ 200).

(3)

حديث صحيح. انظر مختصر صحيح مسلم (2092)، وصحيح مسلم (2999) كتاب الزهد.

ص: 253

إياه. فالمعنى أن ما ظنه إبليس قد حصل لأنهم كانوا أطوعَ له، ونزلوا عند أمره مخالفين أمر الله إلا قلة من المؤمنين، أما أولئك الذين بدلناهم بجنتيهم جنتين ذواتي أكل خمط وأثل عقوبة لهم، فظن إبليس أنهم سيطيعونه فحصل ما توقع أنهم خضعوا لإغوائه ولا قوة لديه على إجبارهم، بل هم قوم معظمون لشهواتهم، فانسجمت إرادتهم مع إرادة إبليس فكان العذاب.

وأما عامة قراء المدينة والشام والبصرة فقد قرؤوها بالتخفيف: "ولقد صَدَقَ" أي صدق عليهم ظنه. قال مجاهد: (ظن ظنًا فاتبعوا ظنه). وقال قتادة: (آلله، ما كان إلا ظنًا ظنّه، والله لا يصدق كاذبًا ولا يكذب صادقًا).

وقال الحسن: (لما أهبط آدم عليه السلام من الجَنَّة ومعه حوّاء وهبط إبليس قال إبليس: أَمَّا إذا أصبتُ من الأبوين ما أصبت فالذرية أضعف وأضعف، فكان ذلك ظنًا من إبليس، فأنزل الله تعالى: {وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ}).

وقال ابن عباس: (إن إبليس قال: خُلقت من نار وخُلق آدم من طين، والنار تحرق كل شيء، {لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا} فصدق ظنه عليهم).

وقال ابن زيد: (أرأيت هؤلاء الذين كرمتهم عليّ وفضلتهم وشرَّفتهم لا تجد أكثرهم شاكرين، وكان ذلك ظنًا منه بغير علم، فقال الله: {فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}).

وخلاصة المعنى: أنَّ إبليس ظن أنه إن أغواهم أجابوه، وإن أضلهم أطاعوه فصدق ظنه بهم، فقليل من عباد الله الشاكرون.

وقوله: {وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ} . قال الحسن: (والله ما ضربهم بعصا ولا سيف ولا سَوْط، إلا أماني وغرورًا دعاهم إليها).

وقوله: {إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ} . قال قتادة: (وإنما كان بلاء ليعلم الله الكافر من المؤمن).

وإلّا بمعنى لكن، فالاستثناء منقطع، والتقدير: وما جعلنا له سلطانًا عليهم ولكن سلَّطناه عليهم بوسوسته لنعلم من يؤمن بالآخرة صدقًا ويقينًا.

وقيل بل الاستثناء متصل، بمعنى: ومافَإن له سلطان عليهم غيرَ أنا سلطناه عليهم ليتم الابتلاء. وربك يا محمد على أعمال هؤلاء الكفرة وعلى كل شيء حفيظ، فهو عالم بكل شيء ويحْفَظ كل شيء على العبد حتى يجازيه عليه، كما في الحديث القدسي: [يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها عليكم ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيرًا

ص: 254

فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه] (1).

فهذا فعلنا بولينا داود وبابنه سليمان وبمن أطاعنا، وذاك فعلنا بسبأ ومن بطروا وعصوا أمرنا، فقل يا محمد لهؤلاء المشركين أن يدعوا من زعموا لله شركاء أن يفعلوا بهم بعض أفعالنا من إنعام أو إياس، فإن عجزوا فليعلموا أنهم مبطلون كذبة، ولا تملك آلهتهم المزعومة ذرة في السماوات والأرض لا مشاعًا ولا مقسومًا، فالشرك في الربوبية لا يصلح.

فعن قتادة: (قوله: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ} يقول: ما لله من شريك في السماء ولا في الأرض، {وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا} من الذين يدعون من دون الله {مِنْ ظَهِيرٍ} من عون بشيء).

23 -

28. قوله تعالى: {وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (23) قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (24) قُلْ لَا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ (25) قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ (26) قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكَاءَ كَلَّا بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27) وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (28)}.

في هذه الآياتِ: إثبات أمر الشفاعة لله الرزاق الفتاح العليم، فهو الذي يجمع خلقه ويخزي الشركاء وهو العزيز الحكيم. وهذا الرسول أرسله الله كافة للناس ورحمة للعالمين. وتفصيل ذلك:

إن حقيقة أمر الشفاعة أنه سبحانه هو يتفضَّل على أهل الإخلاص فيغفر لهم بوساطة دعاء من أن له أن يشفع ليكرمه بذلك ولينال المقام المحمود، لا كما يظن المشركون أن الشفاعة تكون بأن يشفع الشفيع ابتداء. فجعل سبحانه أعظم الأسباب التي تنال بها

(1) حديث صحيح. رواه مسلم من حديث أبي ذر. وهو جزء من حديث طويل. انظر صحيح مسلم (8/ 17). ورواه أحمد في المسند (5/ 160).

ص: 255

شفاعته هي تجريد التوحيد والتوجه له جل ثناؤه، وهي عكس ما عند المشركين من أن الشفاعة تُنال باتخاذهم شفعاء وعبادتهم وموالاتهم من دون الله، فأثبت ذلك في كتابه بقوله:{مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة: 255].

قال الحافظ ابن كثير: (لا يتجاسر أحد على أن يشفع لأحد عنده إلا بإذنه له في الشفاعة).

وقال جل ذكره: {وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} [الأنبياء: 28]، وهو سبحانه لا يرضى من القول والعمل إلا ما أفرد به وجهه، وإلا ما وافق منهاج رسوله صلى الله عليه وسلم.

أخرج الإمام أحمد بسند حسن عن أبي فضالة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [إذا جمع الله الأولين والآخرين ليوم لا ريب فيه نادى مناد: من كان أشرك في عمل عمله لله أحدًا فليطلب ثوابه من عنده، فإن الله أغنى الشركاء عن الشرك](1).

وفي صحيح الإمام مسلم عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [إذا جمع الله الأولين والآخرين يوم القيامة يُرفع لكل غادر لواء فقيل: هذه غدرة فلان بن فلان](2).

والشفاعة يوم القيامة أنواع:

1 -

الشفاعة الأولى: وهي العظمى الخاصة بنبينا صلى الله عليه وسلم من بين الأنبياء والمرسلين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، ليتخلص الناس من شقاء الزحام وآلام المحشر.

2 -

شفاعته صلى الله عليه وسلم في أقوام قد تساوت حسناتهم وسيئاتهم فيشفع فيهم ليدخلوا الجَنَّة.

3 -

شفاعته صلى الله عليه وسلم في أقوام آخرين قد أمر بهم إلى النار أن لا يدخلوها.

4 -

شفاعته صلى الله عليه وسلم في رفع درجات من يدخل الجَنَّة فيها فوق ما كان يقتضيه ثواب أعمالهم.

5 -

الشفاعة في أقوام أن يدخلوا الجَنَّة بغير حساب. "حديث عكاشة".

6 -

الشفاعة في تخفيف العذاب عمن يستحقه، كشفاعته في عمه أبي طالب أن يخفف عذابه.

(1) حديث حسن. انظر تخريج المشكاة (5318)، وصحيح الجامع الصغير (496).

(2)

حديث صحيح. أخرجه مسلم في صحيحه (1735)، كتاب الجهاد، باب تحريم الغدر، وانظر المرجع السابق - حديث رقم - (497).

ص: 256

7 -

شفاعته أن يؤذن لجميع المؤمنين في دخول الجَنَّة، ويستشهدون بحديث مسلم عن أنس: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: [أنا أول شفيع في المجنة].

8 -

شفاعته في أهل الكبائر من أمته ممن دخل النار ليخرجوا منها، وتشاركه فيها الملائكة والنبيون والمؤمنون. ويستشهدون بحديث الإمام أحمد عن أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي].

وتفصيل كل هذه الأنواع وأدلتها في كتابي: أصل الدين والإيمان، عند الصحابة والتابعين لهم بإحسان، فلله الحمد والمنة.

وقوله: {وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} . أي: لا تنفع شفاعة شافع إلا أن يؤذن له أن يشفع لمن أذن الله وأراد له الشفاعة، والله لا يأذن لأحد من أوليائه أن يشفع لكافر، فقل يا محمد لهؤلاء المشركين، كيف وأنتم أهل كفر تعبدون من تعبدونه من دون الله زعمًا أنه يُقَرِّبكم وأنه سيشفع لكم! !

وعامة القراء قرؤوا: {أُذِنَ لَهُ} . وقرأ بعض الكوفيين "أَذِنَ له". و"مَنْ" يجوز أن ترجع إلى الشافعين أو ترجع إلى المشفوع لهم.

وقوله: {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ} . أي جُلّي الفزع عن قلوبهم. قال مجاهد: (كشف عنها الغطاء يوم القيامة). وقال ابن عباس: (يعني جُلي). وتفصيل ذلك:

1 -

أي إن الشفاعة لا تكون من أحد هؤلاء المعبودين من دون الله من الملائكة والأصنام، إلا أن الله تعالى يأذن للأنبياء والملائكة في الشفاعة وهم على غاية الفزع من الله كما قال سبحانه:{وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} [الأنبياء: 28].

قال القرطبي رحمه الله: (والمعنى: أنَّه إذا أذن لهم في الشفاعة وورد عليهم كلام الله فزعوا، لما يقترن بتلك الحال من الأمر الهائل والخوف أن يقع في تنفيذ ما أذن لهم فيه تقصير، فإذا سُرِّيَ عنهم قالوا للملائكة فوقهم وهم الذين يوردون عليهم الوحي بالإذن {مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ} أي ماذا أمر الله به، فيقولون لهم: {قَالُوا الْحَقَّ} وهو أنه أذن لكم في الشفاعة للمؤمنين).

2 -

وقيل: ذلك الفزع يكون في كل أمر يأمر به الرب تعالى، أي لا تنفع الشفاعة إلا من الملائكة الذين هم فزعون مطيعون لله دون الجمادات والشياطين.

فعن الشعبي قال: قال ابن مسعود في هذه الآية: {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ} قال: (إذا حدث أمر عند ذي العرش سمع مَنْ دونه من الملائكة صوتًا كجرِّ السلسلة على الصفا،

ص: 257

فَيُغْشَى عليهم، فإذا ذهب الفزع عن قلوبهم تنادوا {قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ} قال: فيقول: من شاء قال: الحق وهو العلي الكبير).

فهذا مقام رفيع في الرهبة والعظمة، وهو أنه سبحانه إذا تكلم بالوحي فسمع أهل السماوات كلامه أرعدوا من الهيبة حتى يلحقهم مثل الغشي.

قال ابن عباس: ({حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ}: أي جُلي عن قلوبهم وزال الفزع عنها، سأل بعضهم بعضًا: ماذا قال ربكم؟ فيخبر بذلك حملة العرش للذين يلونهم ثم الذين يلونهم لمن تحتهم، حتى ينتهي الخبر إلى أهل السماء الدنيا).

وقد ورد تفسير هذه الآية في روائع من كنوز السنة الصحيحة:

الحديث الأول: أخرج الإمام البخاري في صحيحه عند تفسير هذه الآية، عن أبي هريرة رضي الله عنه يقول:[إن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: إذا قضى الله تعالى الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانًا لقوله، كأنه سلسلة على صفوان (1)، فإذا فزع عن قلوبهم قالوا: ماذا قال ربكم؟ قالوا للذي قال الحق وهو العلي الكبير، فيسمعها مسترق السمع، ومسترق السمع هكذا بعضه فوق بعض - ووصف سفيان بيده فحرفها ونشر بين أصابعه - فيسمع الكلمة فيلقيها إلى من تحته ثم يلقيها الآخر إلى من تحته، حتى يلقيها على لسان الساحر أو الكاهن، فربما أدركه الشهاب قبل أن يلقيها وربما ألقاها قبل أن يدركه، فيكذب معها مئة كذبة، فيقال: أليس قد قال لنا يوم كذا وكذا، كذا وكذا، فيصدق بتلك الكلمة التي سمعت من السماء](2).

الحديث الثاني: أخرج أبو داود وابن خزيمة بسند صحيح عن مسروق عن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [إذا تكلم الله تعالى بالوحي سمعَ أهل السماء للسماء صَلْصَلَةً كَجَرِّ السِلْسِلَةِ على الصَّفا، فَيُصْعَقون، فلا يزالون كذلك حتى يأتيهم جبريل، حتى إذا جاءهم جبريل فُزّعَ عن قلوبهم، قال: فيقولونَ: يا جبريلُ! ماذا قال ربك، فيقول: الحق، فيقولون: الحق الحق](3). وفي رواية عند الترمذي: [قالوا: الحق وهو العلي الكبير، قال: والشياطين بعضهم فوق بَعْض].

(1) الصفوان: الصخر الأملس.

(2)

حديث صحيح. أخرجه البخاري (4701)، وأبو داود (3989)، والترمذي (3223)، وغيرهم.

(3)

حديث صحيح. أخرجه أبو داود (2/ 536 - 537)، وابن خزيمة في "التوحيد" ص (95 - 96)، والبيهقي في "الأسماء والصفات" ص (200)، وانظر السلسلة الصحيحة (1293).

ص: 258

الحديث الثالث: أخرج البخاري عن هشام بن عروة قال: [قال الحارث بن هشام لرسول الله صلى الله عليه وسلم: كيف يأتيك الوحي؟ قال: يأتيني في صلصلة كصلصلة الجرس فيفصم عني حين يفصم وقد وعيتُه، ويأتي أحيانًا في مثل صورة الرجل فيكلمني به كلامًا وهو أهون عليَّ]. وفي لفظ: [أحيانًا يأتيني مثل صلصلة الجرس وهو أشدُّه علي فيفصم عني وقد وعيت عنه ما قال، وأحيانًا يتمثل لي الملك رجُلًا فيكلمني فأعي ما يقول. قالت عائشة رضي الله عنها: ولقد رأيته ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد فيفصم عنه وإن جبينه ليتفصَّدُ عرقًا](1).

الحديث الرابع: أخرج الإمام مسلم في الصحيح، والترمذي في الجامع، عن ابن عباس قال:[بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس في نفر من أصحابه، إذ رُمي بنجم فاستنار، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما كنتم تقولون لمِثْل هذا في الجاهلية إذا رأيتموه؟ ". قالوا: كُنَّا نقولُ: يموت عظيم، أو يولد عظيم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فإنه لا يُرْمَى به لِمَوْتِ أحَدٍ ولا لحياتِه، ولكِنَّ رَبُّنا تبارك اسْمُهُ وتعالى، إذا قَضى أَمْرًا سَبَّحَ حَمَلةُ العرش، ثم سَبَّحَ أهلُ السماء، الذين يلونَهم، ثم الذين يلونَهُم حتى يَبْلُغَ التسبيحُ إلى هذه السماء، ثم سألَ أهلُ السماء السادسةِ، أهلَ السماء السابعة: ماذا قال ربكم؟ قال: فيخبرونَهُمْ ثم يستخبرُ أهلُ كلِّ سَمَاء، حتى يَبْلُغَ الخبَرُ أهلَ السماء الدنيا، وتَخْتطفَ الشياطين السَّمْعَ فَيُرْمَوْنَ فيقذِفُونَه إلى أوليائهم، فما جاؤوا به على وجهه فهو حَقٌّ، ولكنَّهم يُحَرِّفونَهُ ويزيدون] " (2).

وهنا يرد سؤال هام: لماذا كل هذه الرهبة وكل هذا العناء مع نزول الوحي من أمر الله؟

الجواب: إنه ثقل الأمانة التي ألقاها الله سبحانه على نبيّه وعلى أمته من بعده، ليعلم أهل الحق قيمة الحق الذي شرّفهم الله به فيأخذوه بقوة وحزم لا هزل في حمله ولا تقاعس، كما قال جل ثناؤه لنبيه صلى الله عليه وسلم:{إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا} [المزمل: 5]، وكما قال سبحانه:{يَايَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ} [مريم: 12]، وكما قال لبني إسرائيل:{خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 63].

(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري في صحيحه - حديث رقم - (2) كتاب بدء الوحي. وصلصلة الجرس: صوت وقوع الحديد بعضه على بعض، ويفصم: يقلع، ويتفصد: من الفصد وهو قطع العرق لإسالة الدم، فشبه جبينه بالعرق المفصود مبالغة لكثرة العرق.

(2)

حديث صحيح. أخرجه مسلم في الصحيح (7/ 36 - 37). وانظر صحيح سنن الترمذي (2576).

ص: 259

والخلاصة في المعنى كما ذكر ابن جرير: (فإذا أذن الله لمن أذن له أن يشفع فزع لسماعه إذنه). والعرب تستعمل فُزِّع في معنيين: فتقول للشجاع الذي به تنزل الأمور التي يُفْزع منها: هو مُفَزَّع. وتقول للجبان الذي يفزع من كل شيء: إنه لَمُفَزَّع. وقد قرأها عامة القراءأ فُزِّعَ" وقرأها مجاهد: "فُزِعَ" وقرأها الحسن: "فُرغَ" والأول أصحّ وعليه إجماع القراء.

وقوله: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} .

قال قتادة: (قد قال ذلك أصحاب محمد للمشركين: والله ما أنا وأنتم على أمر واحد، إن أحد الفريقين لمهتد).

فلما ذكر أن آلهتهم لا يملكون مثقال ذرة مما يملكه الرب سبحانه، سألهم سؤالا يثبت لهم به عجز منطقهم فقال: من يخلق لكم هذه الأرزاق الكائنة من السماوات - أي: عن المطر والشمس والنجوم والقمر - وما فيها من المنافع المختلفة، وتلك الخارجة من الأرض عن الماء والنبات والتراب والشجر، فلن يجيبوا بأن هذا من فعل آلهتهم، إذن فليصرفوا العبادة كلها إلى من تفرد بالخلق والرزق والربوبية، فليفردوا له الألوهية سبحانه. وقد خاطبهم بذلك في أجمل خطاب، وفي بالغ الأدب: فما دام واحد من الفريقين مبطلًا والآخر محق، ونحن قد أقمنا البرهان على تفرده سبحانه باستحقاق الألوهية والتوحيد، فدل على بطلان منطق الشرك وفساد منهجه.

قال ابن جرير: (ذلك أمر من الله لنبيه بتكذيب من أمره بخطابه بهذا القول بأجمل التكذيب، كما يقول الرجل لصاحب له يخاطبه وهو يريد تكذيبه في خبر له: أحدنا كاذب، وقائل ذلك يعني صاحبه لا نفسه، فلهذا المعنى صيَّر الكلام بأو).

وقال بعض نحويي البصرة: (ليس ذلك لأنه شك ولكن هذا في كلام العرب على أنه هو المهتدي).

وقال آخرون: (معنى ذلك: إنا لعلى هدى، وإنكم إياكم في ضلال مبين).

فالعرب تضع "أو" أحيانًا في موضع واو الموالاة كقول القائل:

فلما اشتد أمر الحرب فينا

تأملنا رياحًا أو رِزامًا

يعني رياحًا ورزامًا.

ص: 260

وقوله: {قُلْ لَا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ} .

هو كقوله تعالى: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} [الكافرون: 6]. أي: فلا تسألون عما أجرمنا أي اكتسبنا، ونحن لا نُسأل أيضًا عما تعملون، فإنما نقصد الخير لكم. قال ابن كثير:(معناه التبري منهم).

وفي التنزيل:

{وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (41)} [يونس: 41].

قلت: وفي الآية لطائف تربوية في عمل الدعوة، حيث أسند الإجرام إلى النفس وأراد به الزلات والصغائر التي لا يخلو منها مؤمن، وذكر هذ الإجرام المنسوب إلى النفس بصيغة الماضي الذي يفيد تحقيق المعنى، ثم أسند العمل إلى المخاطبين وأراد به الكفر والمعاصي والكبائر، فعبَّر عن الهفوات بما يعبر به عن العظائم، وعن العظائم بما يعبر به عن الهفوات التزامًا لمنهج الإنصاف، وعبر عن العمل بصيغة الحاضر لا بصيغة الماضي، فقدمت الآية بذلك منهجًا للدعاة إلى الله أن لا ينزهوا أنفسهم عند دعوة غيرهم، بل لا بد أن تترافق دعوتهم مع إظهار الحذر على أنفسهم مما يحذِّرون، وعلى التواضع المعبر عن حاجتهم أولًا لما يدعون ولما ينصحون.

وقوله: {قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ} . قال قتادة: ({قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا} يوم القيامة {ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا} أي يقضي بيننا). وقوله: {وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ} . قال ابن عباس: (القاضي). فيومئذ يتبين المهتدي من الضال كما قال جل ذكره: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ (14) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ (15) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ فَأُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ (16)} [الروم: 14 - 16]. فالله سبحانه هو الفتاح العليم فلا يحتاج لشهود تعرفه المحق من المبطل.

والفتاح: هو الحاكم بين عباده. يقال: فتحَ الحاكم بين الخصمين: إذا فصل بينهما، ويقال للحاكم: الفاتح، وقيل: هو الذي يفتح أبواب الرزق والرحمة لعباده، والمُنْغَلِقَ عليهم من أرزاقه. قال ابن كثير:{وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ} أي: الحاكم العادل العالم بحقائق الأمور). وفي سورة الأعراف: {رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ} والعليم: شديد العلم بحقائق الأمور، وتفصيل ذلك في كتابي أصل الدين

ص: 261

والإيمان، عند الصحابة والتابعين لهم بإحسان، فلله الحمد وعليه التكلان.

وقوله: {قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكَاءَ} .

أي قل لهم يا محمد - لهؤلاء المشركين - أروني ماذا خلق أصنامكم من الأرض أم لهم شرك في السماوات! بينوا ذلك ولا تكتموه!

فإن كانت الرؤية هنا من رؤية القلب، فيكون {شُرَكَاءَ} مفعولًا ثالثًا (1) لأرى، وحينئذ يكون المعنى كما ذكر القرطبي:(أي عرفوني الأصنام والأوثان التي جعلتموها شركاء لله عز وجل، وهل شاركت في خلق شيء فبينوا ما هو؟ وإلا فلِمَ تعبدونها).

وأما إن كانت الرؤية يقصد بها رؤية البصر فيكون نصب {شُرَكَاءَ} على الحال، أي دعوني أبصر من ألحقتم لله شركاء. قال القاسمي في هذا التأويل:(ما زعمتموه شريكًا إذا برز للعيون وهو خشب وحجر تمت فضيحتكم).

ثم قال: {كَلَّا} لإبطال المقايسة، فالله سبحانه ليس له شريك بل هو {الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}: أي الموصوف بالغلبة القاهرة والحكمة الباهرة، فأين شركاؤكم التي هي أخسّ الأشياء وأذلها من هذه الرتبة العالية والمنزلة الرفيعة.

وقيل: إن {كَلَّا} هي ردّ لجوابهم المحذوف، أي أروني الذين ألحقتم به شركاء؟ قالوا: هي الأصنام. فقال: كلا، ليس له شركاء، بل هو الله العزيز الحكيم، والضمير {هُوَ} عائد إما لله أو للشأن - قاله أبو السعود.

وقوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} .

أي: لتبشر من أطاعك بالجنة، وتنذر من عصاك بالنار، كما قال تعالى في سورة الأعراف:{قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} [الأعراف: 158]. وكما قال في سورة الفرقان: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا (1)} .

قال قتادة: (أرسل الله محمدًا إلى العرب والعجم فأكرمهم على الله أطوعهم له).

وفي الصحيحين عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [أعطيت خمسًا لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل، وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي،

(1) المفاعيل الثلاثة هي: ياء المتكلم، والاسم الموصول، ولفظة "شركاء".

ص: 262

وأعطيت الشفاعة، وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة] (1).

وفي صحيح مسلم من حديث جابر أيضًا: [بعثت إلى الأسود والأحمر].

قال مجاهد: (يعني الجن والإنس). وقال غيره: (يعني العرب والعجم)، وكلا المعنيين حق، فنبينا صلى الله عليه وسلم أرسل إلى الخلق جميعهم.

وقوله: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} . قال القاسمي: (فيحملهم جهلهم على ما هم فيه من الغيّ والضلال).

وفي التنزيل: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ} [الأنعام: 116].

وفي التنزيل كذلك:

{وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (103)} [يوسف: 103].

29 -

33. قوله تعالى: {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (29) قُلْ لَكُمْ مِيعَادُ يَوْمٍ لَا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلَا تَسْتَقْدِمُونَ (30) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ وَلَا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ (31) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ (32) وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (33)}.

في هذه الآياتِ: استعجالُ المشركين البعث والقيامة، وإصرارهم على الكفر بهذا

(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري في الصحيح (438)، كتاب الصلاة، وكذلك أخرجه برقم (335)، كتاب التيمم، ورواه مسلم في كتاب الصلاة (521) بنحوه.

ص: 263

القرآن، ومشهد الخزي والهوان في حوار المستكبرين والمستضعفين وقد أسروا الندامة لما رأوا العذاب، وجمع الله بهم في النار وتقطعت بهم الأسباب.

فقوله تعالى: {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} .

قد تكرر مثل هذا السؤال من المشركين من مختلف الأمم والأقوام لرسلهم: {مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} ؟ فأجابهم هنا: {لَكُمْ مِيعَادُ يَوْمٍ} كما أجابهم الله في سورة نوح: {إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [نوح: 4]. وكما أجابهم في سورة هود: {وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ (104) يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ} [هود: 104، 105]. وفي سورة يونس: {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (48) قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلَا نَفْعًا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (49) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتًا أَوْ نَهَارًا مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ (50) أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ} [يونس: 48 - 51].

ويستعجلك يا محمد هؤلاء المشركون بالبعث والقيامة، فأخبرهم أن ذلك اليوم ميعاد قادم إذا أتى لا تمهلون ساعة للتوبة والإنابة، ولا تستقدمون قبله العذاب فتعجلوه بمشيئتكم واستهزائكم، فالته سبحانه قد جعل له أجلًا، ولكن إذا جاء فتيقنوا أنكم بشرككم وكفركم هذا ستصبحون نادمين، فلا أحد يستطيع أن يواجه عذاب الله وبطشه، بل الكل مقهور ذليل أمام أمره وهيبته.

ولكنهم بدلًا من الانتباه من الغفلة صرحوا بأنهم يكفرون بالقرآن، وبمحمد عليه الصلاة والسلام، ولا يؤمنون بالكتاب الذي جاء به غيره من بين يديه ظلمًا وعُجُبًا وعلوًا في الأرض. فلو ترى يا محمد ذلك الكبر والعجب يوم يصبح بين يدي الله صَغارًا وهوانًا، إذ يتحاور الظالمون يقول المستضعفون لزعمائهم ورؤسائهم: لولا أنتم أيها الرؤساء والكبراء في الدنيا لكنا مؤمنين بالئه متبعين لأمره. فأجابوهم - بذل وهوان وفي محاولة منهم للتخلص من أي تبعة -: بل منعكم إيثاركم الكفر والشهوات من اتباع الحق. فأجابوهم: بل هو مكركم لنا بالليل والنهار وصدَّنا عن الهدى وأن نمتثل أمركم لتعظيمكم على حساب تعظيم الحق حتى وقعنا في الشرك والكفر بالله. ثم أسرَّ الجميع الندامة لما عاينوا الأغلال وأبصروا جهنم ومهاولها جزاء على ما قدموا واكتسبوا.

فعن قتادة: ({لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ} الذي جاءنا به محمد صلى الله عليه وسلم، ولا بالكتاب الذي جاء به غيره من بين يديه).

ص: 264

وجملة {يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا} بدل من "يِرْجِعُ". قال القاسمي: (أي يتجاذبون أطراف المحادثة ويتراجعونها بينهم).

وقال ابن زيد: ({بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا} .

يقول: بل مكركم بنا في الليل والنهار أيها العظماء الرؤساء حتى أزلتمونا عن عبادة الله).

أي: حتى جعلناكم له أشباهًا وأمثالًا ونظراء.

وعن قتادة: (قوله: {وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا} شركاء. وقوله: {وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ} يقول: وندموا على ما فرطوا من طاعة الله في الدنيا حين عاينوا عذاب الله الذي أعدَّه لهم).

وقوله: {وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} .

قال أبو جعفر: (وَغُلَّت أيدي الكافرين بالله في جهنم إلى أعناقهم في جوامع من نار جهنم جزاء بما كانوا بالله في الدنيا يكفرون. قال: ما يفعل الله ذلك بهم إلا ثوابًا لأعمالهم الخبيثة التي كانوا في الدنيا يعملونها ومكافأة لهم عليها).

ففي هذه الآياتِ العظيمة فضيحة للعلاقة التي كانت بين المتكبرين في الأرض وأعوانهم على الظلم يكشفها الله باسرارها على رؤوس الملأ يوم القيامة، فيكشف دعوة الجبابرة إلى تعظيم أنفسهم وإلى حماية أهوائهم واستذلال الأعوان لديهم لتحقيقها وصرف قلوبهم ليعظموهم ويمدحوهم بالكذب والجور والاستهزاء بالحق وأوامر الله العظيم لخلقه. وقد وصف الله ذلك بالمكر، وأصل المكر في كلام العرب الاحتيال والخديعة. قال النحاس:(والمعنى - والله أعلم - بل مكركم في الليل والنهار، أي مسارتكم إيانا ودعاؤكم لنا إلى الكفر حملنا على هذا). وقال سفيان الثوري: (بل عملكم في الليل والنهار). وقال قتادة: (بل مكركم بالليل والنهار صدّنا، فأضيف المكر إليهما لوقوعه فيهما). ووصفه القرطبي بقوله: (وهذا من قبيل قولك: ليلهُ قائم ونهاره صائم). فمضى العمر القصير على التجسّس وإشاعة الرذيلة في الأرض ومصادرة الحق وأهله، فالنار مثواكم أجمعين.

34 -

39. قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا

ص: 265

أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (34) وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (35) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (36) وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ (37) وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ (38) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (39)}.

في هذه الآياتِ: توجيهُ الله تعالى الخطاب للمشركين المستكبرين أنه كذلك أمر الأمم التي سلفتكم والقرى من قبلكم كلما شعروا بالترف طغوا وتكبروا وكفروا بنعم الله وبلقائه، فأعمتهم الدنيا وزينتها وزادتهم عتوًا وغرورًا، وظنوا أن وفرة الرزق والنعم دليل رضا الله عنهم، فكذبهم الله بقوله: بأنه سبحانه لا ينظر إلى أموال الناس وصورهم فهو خلقهم وخلق أموالهم وأولادهم، فلا تغني عنهم كثرة الولد مع الكفر بل هم في العذاب محضرون. وإنما الله يقسم بين الناس الرزق ويخلف على المنفق في سبيله، وهو خير الرازقين، فليست أموالكم وأولادكم دليلًا على محبتنا لكم.

فعن قتادة: (قوله: {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ} قال: هم رؤوسهم وقادتهم في الشر. {وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى} قال: لا يعتبر الناس بكثرة المال والولد، وإن الكافر قد يُعطى المال وربما حُبِسَ عن المؤمن).

وعن مجاهد: (قوله: {عِنْدَنَا زُلْفَى} قال: قربى). وقال ابن زيد: (قالوا نحن أكثر أموالًا وأولادًا، فأخبرهم الله أنه ليست أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى {إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا}. قال: وهذا قول المشركين لرسولى الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه. قالوا: لو لم يكن الله عنا راضيًا لم يعطنا هذا، كما قال قارون: لولا أن الله رضي بي وبحالي ما أعطاني هذا، قال:{أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ} إلى آخر الآية [القصص: 78].

وفي صحيح الإمام مسلم، عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: [إن الله تعالى

ص: 266

لا ينظر إلى صوركم وأموالكم، ولكن إنما ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم] (1).

وفي مسند الإمام أحمد بسند قوي عن عقبة بن عامر مرفوعًا: [إذا رأيت الله يعطي العبد من الدنيا على معاصيه ما يحب فإنما هو استدراج. ثم تلا: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ (44)} [الأنعام: 44]] (2).

وقال ابن زيد: {فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا} : بأعمالهم الواحد عشر، وفي سبيل الله بالواحد سبعُ مئة). وقرأها الجمهور "جزاءُ الضعف"، وقرأها الزهري ونصر بن عاصم "جزاءًا لضعف".

وقوله: {وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ} . أي: في غرفات الجنان، آمنون من عذاب الله.

وقوله: {وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ} . أي: يعملون محاولين إبطال حججنا وآي كتابنا، مريدين إطفاء نوره وإشاعة الباطل في الأرض، يحسبون أنهم يفوتوننا بأنفسهم أو يعجزوننا فليعلموا أنهم {فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ} .

وقوله: {قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ} .

المعنى: إن الله قسم الأرزاق في الحياة الدنيا وفي الدار الآخرة، فهو يوسع الرزق ويقتره كيف يشاء بحكمته وعلمه - جلَّت أسماؤه وصفاته - امتحانًا لعباده، فلا يدل شيء من هذا القَسْم في الأرزاق بينهم في الدن يا على ما في العواقب، فسعة الرزق في الدنيا لا تدل على سعة الرزق أو سعادة الآخرة ولكن أكثر الناس لا يتأملون ذلك فلا يعلمون.

وقوله: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ} . أي: لكن الإنفاق في سبيل الله والعمل الصالح مكنوز لصاحبه يفرح به يوم يلقى ربه.

وقال سعيد بن جبير: ({وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ}، قال: ما كان في غير إسراف ولا تقتير).

وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما من يوم

(1) حديث صحيح. رواه مسلم برقم (2564)(33)، وكذلك أيضًا (34)، ورواه أحمد.

(2)

حديث صحيح. أخرجه أحمد في المسند (4/ 145)، وأخرجه ابن جرير في التفسير (7/ 115)، وانظر سلسلة الأحاديث الصحيحة (414).

ص: 267

يصبح العباد فيه إلا ملكان ينزلان، فيقول أحدهما: اللهم أعط منفقًا خَلَفًا، ويقول الآخَرُ: اللهم أعط ممسكًا تلفًا" (1).

وأخرج الطبراني بسند صحيح عن خباب، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[كل نَفَقَةٍ يُنْفقها العبد يُؤجَرُ فيها إلا البنيان](2).

ويبدو أن المقصود الإسراف في أمر البناء وكثرة الاهتمام بالعمران أكثر من حاجة العبد. قال القرطبي: (وأما البنيان فما كان منه ضروريًا يكن الإنسان ويحفظه فذلك مخلوف عليه ومأجور ببنيانه).

وقد ذكر أن ابنًا لمحمد بن سيرين بنى دارًا وأنفق فيها مالًا كثيرًا، فذكر ذلك لمحمد بن سيرين فقال:(ما أرى بأسًا أن يبني الرجل بناء ينفعه).

قلت: لقد جاء في الحديث الصحيح - الذي رواه البيهقي عن أبي هريرة - عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [إن الله تعالى إذا أنعم على عبد نعمة يحب أن يرى أثر النعمة عليه، ويكره البؤس والتباؤس، ويبغض السائِل المُلْحِفَ، ويحب الحييَّ العفيف المتعفف](3). وله شاهد عنده من حديث عمران بن حصين بلفظ: [إن الله إذا أنعم على عبد نعمة يحب أن يرى أثر نعمتِه على عبده]. وإن من آثار النعمة البناء الحسن والثياب الحسنة ما دام قد اجتنب الإسراف والخيلاء.

40 -

45. قوله تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ (40) قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ (41) فَالْيَوْمَ لَا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (42) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُكُمْ وَقَالُوا مَا هَذَا إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرًى وَقَالَ الَّذِينَ

(1) حديث صحيح. أخرجه الإمام مسلم في صحيحه - حديث رقم - (1010).

(2)

حديث صحيح. انظر تخريج المشكاة (5182)، وصحيح الجامع الصغير (4442).

(3)

حديث صحيح. أخرجه البيهقي في "الشعب"(2/ 231/ 1). وانظر سلسلة الأحاديث الصحيحة (1320)، وللشاهد: انظر صحيح الجامع الصغير - حديث رقم - (1708).

ص: 268

كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (43) وَمَا آتَيْنَاهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ (44) وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (45)}.

في هذه الآياتِ: تبرئة الله الملائكة كما برأ عيسى بن مريم يوم نسبوا له ولأمه الإلهية، وأكَّد أن هؤلاء قد وقعوا في عبادة الجن، وفيه ردٌّ على من يلبسه الجن ويتعامل معه ويزعم الإنسي أن من يأتيه هو ملك يعلمه من الغيب، فهدّدهم جميعًا في أرض المحشر، فاليوم لا يملك بعضكم أيها الملائكة للذين كانوا يعبدونكم في الدنيا أو يعبدون الجن نفعًا ينفعون به أنفسهم ويخلصوها من عذاب جهنم، ذوقوا ما كسبتم: فإنهم كانوا إذا سمعوا القرآن اتهموه بالإفك والكذب أو السحر ليخلصوا من تبعة أوامره ونواهيه، فتعاملوا مع الحق باستهزاء وما عندهم كتب منزلة تثبت ما يدعونه أنه سحر، ولا بُعث إليهم نبي قبل محمد صلى الله عليه وسلم، وما بلغوا عشر ما أعطينا من قبلهم الذين دمرناهم بكفرهم، فانظر يا محمد كيف كان تغييري بهم وعقوبتي.

فقوله: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ} .

قرأها نافع: {ويوم نحشرهم جميعًا ثم نقول} بالنون.

وعن قتادة: ({وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ}؟ استفهام كقوله لعيسى: {أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [المائدة: 116]). وهذا فقه من قتادة بهذا الربط بين الآيتين، فبرأ الله عيسى والملائكة.

وقوله: {أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ} . أي: أكثرهم بالجن مصدقون يزعمون أنهم بنات الله، تعالى الله عما يشركون وعما يفترون.

وقوله: {فَالْيَوْمَ لَا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا} . قال ابن جرير: (يقول تعالى ذكره: فاليوم لا يملك بعضكم أيها الملائكة للذين كانوا في الدنيا يعبدونكم نفعًا ينفعونكم به ولا ضرًّا ينالونكم به أو تنالونهم به).

وقوله: {وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ} . أي فها أنتم قد وردتموها ببغيكم وشرككم وصرفكم العبادة والتعظيم لغير الله العلي العظيم، فذوقوا حرها ولهيبها مقابل ما ارتضيتم لأنفسكم منهجًا يسخط الله تعالى.

ص: 269

فكأن الملائكة قالوا سبحانك يا إلهنا تنزهت أسماؤك وتقدست عن أن يكون معك إله، أنت ولينا من دونهم نبرأ إليك من فعل هؤلاء فنحن عبيدك، بل كانوا يعبدون الشياطين من الجن الذين أضلوهم وزينوا لهم {أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ} .

قال الحافظ ابن كثير: (أي تبرأ الملائكة من عابديهم بغير حق).

فاليوم لا يملك بعضكم لبعض شفاعة ونجاة أو عذابًا وهلاكًا، أي لا يملك بعضكم للآخر نفعًا ولا ضرًا. ونقول: ذوقوا جزاءكم فقد كان القرآن يتلى عليكم فتقولون ما هذا إلا [رجل] يعنون محمدًا صلى الله عليه وسلم مغاير لنهج الآباء في الآلهة التي كانوا يعبدونها، فتارة تقولون لما جاءكم به إفكًا وتارة تقولون سحرًا. فقوله:{إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ} : قال: ابن جرير: (يبين لمن رآه وتأمله أنه سحر).

فكذبهم الله بقوله: {وَمَا آتَيْنَاهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا} أي: فما أنزلنا على هؤلاء المشركين القائلين عن القرآن إنه سحر كتبًا يدرسونها. قال قتادة: (أي يقرؤونها).

قال القرطبي: (أي لم يقرؤوا في كتاب الله بطلانَ ما جئت به ولا سمعوه من رسول بعث إليهم، كما قال: {أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ (21)} [الزخرف: 21]).

وقوله: {وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ} . قال قتادة: (ما أنزل الله على العرب كتابًا قبل القرآن ولا بعث إليهم نبيًا قبل محمد صلى الله عليه وسلم).

وقد سلك من قبلهم مسلكهم فكذبوا {وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ} . قال ابن عباس: (من القوة في الدنيا). وفي رواية عنه: (وما جاوزوا معشار ما أنعمنا عليهم).

أي ما بلغ مشركو قريش عشر ما أعطى الله من قبلهم ومكنهم، ومع ذلك لما طغوا أهلكهم، قال ابن زيد:(ما بلغ هؤلاء أمة محمد صلى الله عليه وسلم معشار ما آتينا الذي من قبلهم وما أعطيناهم من الدنيا وبسطنا عليهم. قال: وقوله: {فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} يقول: فكذبوا رسلي فيما أتوهم به من رسالتي فعاقبناهم بتغييرنا بهم ما كنا آتيناهم من النعم، فانظر يا محمد كيف كان نكير. يقول: كيف كان تغييري بهم وعقوبتي). وقال النقاش: (ما بلغ الذين من قبلهم معشار شكر ما أعطيناهم). وقيل: (ما أعطى الله تعالى من قبلهم معشار ما أعطاهم من العلم والبيان والحجة والبرهان).

والمعشار والعشر لغتان، والمعنى واحد. وقيل: المعشار عشر العشر. وقيل:

ص: 270

المعشار عشر العشير، والعشير عشر العشر، فيكون جُزءًا من ألف جزء فالمراد المبالغة. قال ابن عباس. (فليس أمة أعلمَ من أمته، ولا كتاب أبين من كتابه).

قال القرطبي: ({فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ}: أي عقابي في الأمم، وفيه محذوف وتقديره: فأهلكناهم فكيف كان نكيري).

46 -

54. قوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ (46) قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (47) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (48) قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ (49) قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ (50) وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلَا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ (51) وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (52) وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (53) وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ (54)}.

في هذه الآياتِ: يقول تعالى ذكره لنبيه صلى الله عليه وسلم: قل يا محمد لهؤلاء المشركين المعاندين من قومك: إنما أعظكم بواحدة، وهي طاعة الله سبحانه، بأن تقوموا اثنين اثنين وفرادى فرادى رجلًا ورجلين يقوم الرجل مع الآخر فيصدقان الحديث هل علمتم بمحمد صلى الله عليه وسلم جنونًا ثم ينفرد كل بنفسه ليقرأ حديث نفسه أن محمدًا صادق وما يريد من أجر إلا رضا ربه عز وجل، فلم يسألكم مالا ولا سلطانًا والله شهيد على حقيقة ما يقول. ثم قل لهم يا محمد: إن ربي يقذف بالحق وهو الوحي يقذفه في قلب نبيّه فهو علام ما يغيب وما لم يكن مما هو كائن، والباطل لا ينشئ خلقًا، والباطل إبليس، فلا يستطيع إعادة حياة بعد فنائها، فقل لهم: إن ضَلَلْتُ عن الهدى فضلالي على نفسي، وإن استقمت فبوحي الله وتوفيقه، وهو السميع لما أقول القريب ممن يكلمه. ولو ترى يا محمد مصير هؤلاء المكذبين في الدنيا إذ يحصدهم المؤمنون يوم بدر ثم يفزعون يوم المحشر إذا عاينوا عذاب الله فلا يعجزوننا هربًا ولا فوت لهم ولا نجاة من

ص: 271

النار، وأخذهم من قرب فالكل قريب منه فلا ينفعهم إيمان بعد رؤية العذاب، وقد تركوا الإيمان في الدنيا وحاربوا أهله وعطلوا الحكم بأمر الله وتحاكموا لأهوائهم، فإنى لهم من مكان بعيد - من الآخرة إلى الدنيا - أن يحدثوا توبة وقد فات الأمر وحيل بينهم وبين الرجوع للدنيا، كما فُعل بمن قبلهم من الكفار الذين قضوا حياتهم في ريب وشك بالله والآخرة.

فقوله: {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ} . قال مجاهد: (بطاعة الله)، {أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى} قال:(واحدًا واثنين). وقال السدي: (وُحدانًا ومجتمعين). وقال قتادة: (رجلًا ورجلين). و {أَنْ} في محل جر بدلًا من الواحدة، أو في محل رفع خبر لمبتدأ محذوف تقديره هي، أي:(هي أن تقوموا). واختار الزجاج أن تكون بموضع نصب بمعنى لأن تقوموا.

والقيام: المقصود به، القيام لطلب الحق، وليس مضاد القعود. كما قال جل ذكره:{وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ} [النساء: 127].

وقيل: {مَثْنَى وَفُرَادَى} (منفردًا برأيه ومشاورًا لغيره). وقيل: (مناظرًا مع غيره ومفكرًا في نفسه). وقيل: (المثنى عمل النهار والفرادى عمل الليل) - حكاه الماوردي.

قال القرطبي: (وقيل: إنما قال مثنى وفرادى لأن الذهن حجة الله على العباد وهو العقل، فأوفرهم عقلًا أوفرهم حظًا من الله، فإذا كانوا فرادى كانت فكرة واحدة، وإذا كانوا مثنى تقابل الذهنان فتراءى من العلم لهما ما أضعف على الانفراد والله أعلم).

وقال ابن جرير: (يقوم الرجل منكم مع آخر فيتصادقان على المناظرة، هل علمتم بمحمد صلى الله عليه وسلم جنونًا قط، ثم ينفرد كل واحد منكم فيتفكر ويعتبر فردًا هل كان ذلك به فتعلموا حينئذ أنه نذير لكم).

قلت: وإنما وعظهم القيام للدعوة والتماس الحق مثنى وفرادى وليس مع العامة لأن الجموع الكثيرة مظنة الضياع والفوضى ولا تكاد تجدها على الحق.

وعند قوله: {ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا} ، الوقوف هنا، عند أبي حاتم وابن الأنباري.

وقيل: ليس بوقف لأن المعنى: ثم تتفكروا هل جربتم على صاحبكم كذبًا أو رأيتم فيه جِنَّة أو في أحواله من فساد، أو اختلف إلى أحد ممن يدعي العلم بالسحر، أو تعلم الأقاصيص وقرأ الكتب أو عرفتموه بالطمع في أموالكم، أو تقدرون على معارضته في سورة واحدة، فإذا عرفتم بهذا الفكر صدقه فما بال هذه المعاندة؟ حكاه القرطبي.

ص: 272

ثم قال سبحانه وتعالى: {إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ} .

أخرج البخاري في صحيحه عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: [صعد النبي صلى الله عليه وسلم الصفا ذات يوم فقال: يا صباحاه، فاجتمعت إليه قريش، فقالوا: ما لك؟ فقال: أرأيتم لو أخبرتكم أن العدو يصبّحكم أو يمسيكم أما كنتم تصدقوني؟ قالوا بلى. قال: فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد. فقال أبو لهب: تبًا لك ألهذا جمعتنا؟ فأنزل الله تعالى: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ}](1).

وقوله: {قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ} . قال قتادة: (يقول لم أسألكم على الإسلام جُعلًا).

وقو: {إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ} . قال أبو جعفر: (ما ثوابي على دعائكم إلى الإيمان بالله والعمل بطاعته وتبليغكم رسالته إلا على الله).

وقوله: {وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} . أي: والله على حقيقة ما أقول لكم شهيد يشهد لي، وهو كذلك شهيد على كل ما يجري في هذا الكون.

وقوله: {قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَّامُ الْغُيُوبِ} . قال ابن عباس: (أي يقذف الباطل بالحق علام الغيوب). وعن قتادة: ({قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ} أي بالوحي {عَلَّامُ الْغُيُوبِ (48) قُلْ جَاءَ الْحَقُّ} أي القرآن {وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ} والباطل إبليس: أي ما يخلق إبليس أحدًا ولا يبعثه).

وقال ابن زيد: (يزهق الله الباطل ويثبت الله الحق الذي دمغ به الباطل. وقرأ: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ (18)} [الأنبياء: 18]).

وقرأ عيسى بن عمر "علّامَ الغيوب" على أنه بدل، والمعنى: قل إن ربي علام الغيوب يقذف بالحق. وأما الرفع فهو على أنه خبر لمبتدأ محذوف.

وقوله: {قُلْ جَاءَ الْحَقُّ} . قال قتادة: (يريد القرآن). وقيل جاء صاحب الحق، أي الكتاب وما فيه من حجج. {وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ}. قال قتادة:(الشيطان، أي ما يخلق الشيطان أحدًا) وما يعيد.

(1) حديث صحيح. انظر صحيح البخاري (4770)، كتاب التفسير، وكتابي: السيرة النبوية على منهج الوحيين: القرآن والسنة الصحيحة (1/ 187) لتفصيل البحث ورواياته.

ص: 273

قال القاسمي رحمه الله: (فإنه ما دام موجودًا إما أن يبدئ فعلًا أو يعيده، فإذا هلك لم يبق له إبداء ولا إعادة).

وقيل: {مَا} استفهامية، أي جاء الحق فأي شيء بقي للباطل؟ كقوله تعالى:{فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ (8)} [الحاقة: 8]، أي لا ترى، والله أعلم.

وفي الصحيحين من حديث ابن مسعود رضي الله عنه: [أنه لما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد الحرام يوم الفتح ووجد تلك الأصنام منصوبة حول الكعبة، جعل يطعن الصنم منها بسية قوسه ويقرأ: {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا (81)} [الإسراء: 81]. {قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ} ] (1).

وقوله: {قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي} . قال القرطبي: (وذلك أن الكفار قالوا تركت دين آبائك فضللت. فقال له: قل يا محمد إن ضللت كما تزعمون فإنما أضل على نفسي، {وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي} من الحكمة والبيان، أي سميع ممن دعاه قريب الإجابة).

وقيل وجه النظم: قل إنَّ ربي يقذف بالحق ويُبَيِّنُ الحجة، وضلال من ضل لا يبطل الحجة، ولو ضللت لأضررت بنفسي، لا أنه يبطل حجة الله وإذا اهتديت فذلك فضل الله إذ ثبتني على الحجة إنه سميع قريب.

قلت: وهذا تأويل لطيف فيه صلة قوية بما قبله من الآياتِ.

وقوله: {وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا} - فيه أكثر من تأويل:

1 -

قال ابن عباس: (هذا من عذاب الدنيا).

2 -

وقال ابن زيد: (هؤلاء قتلى المشركين من أهل بدر، نزلت فيهم هذه الآية. قال: وهم الذين بدّلوا نعمة الله كفرًا وأحلوا قومهم دار البوار جهنم، أهل بدر من المشركين).

3 -

وقال سعيد بن جبير: (هم الجيش الذي يخسف بهم بالبيداء يبقى منهم رجل يخبر الناس بما لقي أصحابه، فيفزعون، فهذا هو فزعهم).

4 -

وقال الحسن: (فزعوا يوم القيامة حين خرجوا من قبورهم).

(1) حديث صحيح. انظر صحيح البخاري (4287)، كتاب المغازي، والمرجع السابق (3/ 1277).

ص: 274

5 -

وقال السدي: (هو فزعهم يوم بدر حين ضربت أعناقهم بسيوف الملائكة فلم يستطيعوا فرارًا ولا رجوعًا إلى التوبة).

وخلاصة المعنى: ولو ترى يا محمد هؤلاء المشركين إذا نزل بهم عذاب من الله من قتل أو بأس أو موت فيفزعون عند معاينته فلا فوت ولا هرب منه، فقد كانوا إذا تتلى عليهم آياتنا بينات قالوا ما هذا إلا رجل يريد أن يصدكم عما يعبد آباؤكم.

وقوله: {فَلَا فَوْتَ} . قال ابن عباس: (فلا نجاة). وقال الضحاك: (لا هرب).

وقو: {وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ} . أي من القبور. وقيل: حيث كانوا فهم من الله قريب. وقيل: أخذوا من جهنم فألقوا فيها. وقيل: أخذوا من بطن الأرض إلى ظهرها عند فزع القيامة. وجميعها أقوال يحتملها البيان الإلهي.

وقوده: {وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ} . قال مجاهد: (قالوا آمنا بالله). وقال قتادة: ({وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ} قال: بالرسول صلى الله عليه وسلم. يعني حين عاينوا عذاب الله). وقال الحسن: (بالبعث). وقيل: بالقرآن. وقال ابن زيد: ({وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ} بعد القتل {وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} قال: هؤلاء قتلى أهل بدر من قتل منهم وقرأ: {وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلَا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ {(51) وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ ...... } الآية. قال: التناوش: التناول، وأنى لهم تناول التوبة من مكان بعيد وقد تركوها في الدنيا. قال: وهذا بعد الموت في الآخرة).

قلت: وكلها أقوال متقاربة يحتملها البيان الإلهي تزيد في وضوح المعنى ويقتضيها الإعجاز.

وعن ابن عباس: ({وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ} قال: يسألون الردّ وليس بحين ردّ).

وقال الضحاك: (التناوش الرجعة، أي يطلبون الرجعة إلى الدنيا ليؤمنوا وهيهات من ذلك).

وقد قرأها قراء المدينة {التَّنَاوُشُ} ، وقراء البصرة والكوفة {التناؤش} بمعنى التنؤش، وهو الإبطاء، وهما قراءتان مشهورتان، والعرب تقول للقوم في الحرب إذا دنا بعضهم من بعض بالرماح ولم يتلاقوا: قد تناوش القوم.

فيكون المعنى: فمن أي وجه لهم التناوش والرجعة أو تناول التوبة عند معاينة العذاب أو القتل، فإن الإيمان لن يقبل منهم حينئذ، كما قال عز وجل في موضع آخر:{وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ} وكقوله سبحانه: {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى

ص: 275

النَّارِ فَقَالُوا يَالَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنعام: 27]. وكقوله جل ثناؤه: {رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ (12)} [السجدة: 12].

ثم قال: {مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} . قال مجاهد: (من الآخرة إلى الدنيا).

وقوله: {وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ} . قال قتادة: (أي بالإيمان في الدنيا، {وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ}. قال: أي يرجمون بالظن يقولون لا بعث ولا جنة ولا نار).

وعن مجاهد: ({وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} قال: قولهم ساحر، بل هو كاهن بل هو شاعر). وقال ابن زيد: ({وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} قال: بالقرآن).

وقوله: {وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ} . - فيه أقوال:

1 -

قال الحسن: (حيل بينهم وبين الإيمان بالله).

2 -

وقال مجاهد: (من الرجوع إلى الدنيا ليتوبوا).

3 -

وقال قتادة: (كان القوم يشتهون طاعة الله أن يكونوا عملوا بها في الدنيا حين عاينوا ما عاينوا).

4 -

وقيل: حيل بينهم وبين ما يشتهون من مال وولد وزهرة الدنيا.

قال مجاهد: (من مال أو ولد أو زهرة).

5 -

وقال ابن زيد: ({وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ} في الدنيا التي كانوا فيها والحياة).

قلت: والبيان الإلهي يحتمل كل ما مضى من تأويل، والإعجاز القرآني يقتضيه.

والأشياع: جمع شِيَع. وشِيعَ: جمع شيعة. فأشياع هي جمع الجمع. فيكون المعنى أن الله سبحانه عاقبهم على تكذيبهم للحق في الدنيا وتعظيم نفوسهم وشهواتهم فوقه بأن منعهم من الإيمان عند نزول العذاب، وبان منعهم من أسباب النجاة والسعادة في الآخرة، {كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ} من الأمم الكافرة.

فعن ابن أبي نجيح: ({كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ} قال: الكفار من قبلهم).

وقال قتادة: (أي في الدنيا كانوا إذا عاينوا العذاب لم يقبل منهم إيمان).

أي: لأنهم كانوا في شك من نزول العذاب فحيل بينهم وبين ما يشتهون في الدنيا

ص: 276

من أموالهم وأهليهم لما سلط الله عليهم العذاب والقتل الذي كانوا منه في شك مريب: أي موجب لصاحبه ما يريبه من مكروه. وكذلك حيل بينهم وبين ما يشتهون من السعادة في الآخرة.

وفي لغة العرب: أراب الرجل إذا أتى ريبة وركب فاحشة، فأرابه أوقعه في ريبة وتهمة، فهو للمبالغة في الشك.

تم تفسير سورة سبأ بعون الله وتوفيقه، وواسع منّه وكرمه

* * *

ص: 277