الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
37 - سُوْرَةُ الصَّافَّاتِ
وهي سورة مكية، وعدد آياتها (182)
وسميت كذلك لاشتمالها على آيات في صفات الملائكة.
قال المهايميّ: (سميت بها لاشتمال الآية التي هي فيها على صفات للملائكة تنفي إلهية الملائكة من الجهات الموهمة لها فيهم. فينتفي بذلك إلهية ما دونهم، فيدل على توحيد الله، وهو من أعظم مقاصد القرآن) - ذكره القاسمي رحمه الله.
موضوع السورة
ثناء الله على الملائكة الصافات
وتقريعٌ وتوبيخ للمشركين في ادعائهم لله البنات
ونَعْتُ حالهم وأتباعهم يوم الخزي في مشهد الذل والحسرات
-
منهاج السورة
-
1 -
إقسام الله تعالى بالملائكة الصافات لربها في السماء، الزاجرات للسحاب تسوقه حيث شاء، التاليات للذكر وأخبار الأمم ما مضى منها وما جاء.
2 -
الله تعالى هو الخالق المدبر المزين السماء بزينة الكواكب، وحفظًا من كل شيطان مارد، وإليه المعاد ولا يعجزه شيء.
3 -
حشر المجرمين يوم القيامة وأشباههم ونظائرهم من الفجرة إلى نار جهنم.
4 -
تقريع وتوبيخ للمشركين، ووصف الحوار بينهم وبين أتباعهم المستضعفين.
5 -
نَعْتُ الله حال المؤمنين المتقين، وما أعدّ لهم سبحانه في جنات النعيم.
6 -
حوار بين المؤمن المصدق بالبعث وصاحب له مكذب، هذا في النعيم وذاك في الجحيم.
7 -
نَعْت طعام المجرمين من شجرة الزقوم، وشرابهم عليها من ماء الحميم.
8 -
وحدة منهاج الأنبياء: الدعوة والصبر والدعاء، يعقبه النصر والفرج وإهلاك أهل الكفر والكبرياء.
9 -
تقريع وتوبيخ لمشركي قريش، في ادعائهم لله البنات ولهم البنون، وجعلهم بينه -تعالى- وبين الجِنَّة نسبًا ولقد علمت الجِنَّة إنهم لمحضرون.
10 -
تنزيه الملائكة ربهم تبارك وتعالى عما يقول الظالمون، وسنة الله سبحانه في نصر المؤمنين وأن جنده هم الغالبون، وتنزيه الله تعالى نفسه عما يصفون، والسلام منه على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
بسم الله الرحمن الرحيم
1 -
24. قوله تعالى: {وَالصَّافَّاتِ صَفًّا (1) فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا (2) فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا (3) إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ (4) رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ (5) إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ (6) وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ (7) لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ (8) دُحُورًا وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ (9) إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ (10) فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمْ مَنْ خَلَقْنَا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لَازِبٍ (11) بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ (12) وَإِذَا ذُكِّرُوا لَا يَذْكُرُونَ (13) وَإِذَا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ (14) وَقَالُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (15) أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (16) أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ (17) قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ دَاخِرُونَ (18) فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ يَنْظُرُونَ (19) وَقَالُوا يَاوَيْلَنَا هَذَا يَوْمُ الدِّينِ (20) هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (21) احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ (22) مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ (23) وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ (24)}.
في هذه الآيات: يقسم الله جل ثناؤه بالملائكة وهي الصافات لربها في السماء، والزاجرات للسحاب تسوقه حيث شاء، والتاليات لما يُتلى على الناس من القرآن وأخبار الأمم ما مضى منها وما ذهب وما جاء، فيقسم بها سبحانه وهو العظيم يقسم بما شاء، بأن معبودكم أيها الناس هو الله وحده فلا يستحق غيره العبادة والإخلاص والدعاء، فهو خالق السماوات والأرض وما بينهما وَمُدَبِّرُ مشارق الشمس ومغاربها في الصيف وفي الشتاء، وهو الذي زيّن السماء الدنيا بالكواكب ذات الضياء، وحفظًا للأخبار من مسترق السمع الذي يلقيها على من هو بالسحر والكهانة والكذب مشّاء، فيطردون عن ذلك وينتظرهم عذاب أليم يوم القيامة إذا جاء، لكن من استرق السمع
أتبعه شهاب حارق وضّاء، فاستفت واستخبر يا محمد مشركي مكة أهم أمتن وأقوى أم السماوات والأرض والجبال، فإذا وجدوا أنفسهم مضطرين إلى الجواب بصغر خلقهم وتضاؤله -وهي حقيقة الأمر- فليعترفوا بأن الله لا يعجز عن أمر ولا يتعالى عليه أمر بعد هذا كالبعث وغيره، ولكن عجب إنكارهم واستهزاؤهم وقسوة قلوبهم فلا يخافون ولا يتعظون، وإذا عاينوا برهانًا من آيات الكائنات أو في الآفاق قابلوه بالسخرية بدل التدبر والاعتبار، واتهموه بالسحر والكذب، ثم عاودوا التكذيب بإمكان بعثهم بعد موتهم هم وآبائهم، واستبعدته عقولهم المتحجرة، فقل لهم: بلى ستبعثون وأنتم أذلاء صاغرون، وإنما هي صيحة واحدة فإذا أنتم قيام تنظرون، فتقولون يا ويلنا هذا يوم الجزاء، هذا الذي كنتم به تكذبون، فاليوم يأمر الرحمان ليُحْشَر الذين ظلموا أنفسهم بالمعاصي والكفر والموبقات هم وأشباههم ونظائرهم من الفجرة أو نساؤهم الكافرات، وكذلك الأصنام التي كانوا يعبدونها من دون الله زيادة في التخذيل والحسرات، ثم يقال تهكمًا بهم: فاهدوهم إلى صراط النيران الملهبات، واحبسوهم في الموقف في عرصات القيامة والساحات، ليسألهم الله لماذا طغوا وكيف آثروا الحياة الدنيا على دار الباقيات الصالحات.
وتفصيل ذلك.
يروي ابن جرير عن ابن مسعود أنه قال: {وَالصَّافَّاتِ صَفًّا} : هي الملائكة. {فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا} : هي الملائكة. {فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا} : هي الملائكة).
وعن قتادة: {وَالصَّافَّاتِ صَفًّا} ، قال: قسم أقسم الله بخلق ثم خلق ثم خلق. والصافات: الملائكة- صفوفًا في السماء).
فهي تصف في السماء كصفوف الخلق في الدنيا للصلاة، وقيل: تصف أجنحتها في الهواء واقفة فيه حتى يأمرها الله بما يريد، كالعبيد بين أيدي ملوكهم صفوفًا.
قال شيخ المفسرين: (أقسم الله تعالى ذكره بالصافات، والزاجرات، والتاليات ذكرًا، فأما الصافات: فإنها الملائكة الصافات لربها في السماء، وهي جمع صافة، فالصافات جَمْعُ جَمْعٍ).
وقيل: المراد بالصافات جماعة المؤمنين إذا قاموا صفًا في الصلاة أو الجهاد، والأول أرجح.
أخرج الإمام أحمد في المسند، وأبو داود في السنن، والطبراني بسند صحيح عن
ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [أقيموا الصُّفوف فإنما تصفون بصفوف الملائكة، وحاذوا بين المناكب، وسُدُّوا الخَلَل، ولينوا بأيدي إخوانكم، ولا تذروا فُرجات للشيطان، ومن وصل صفًا وصله الله، ومن قطع صفًا قطعه الله عز وجل](1).
وأصله في صحيح الإمام مسلم من حديث حذيفة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [فُضِّلْنَا على الناس بثلاث: جُعِلَت صفوفنا كصفوف الملائكة، وَجُعِلَت لنا الأرض كلها مسجدًا، وَجُعِلَ لنا ترابها طهورًا إذا لم نجد الماء](2).
وكذلك في صحيح مسلم عن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ألا تصفّون كما تصف الملائكة عند ربهم؟ قلنا وكيف تصف الملائكة عند ربهم؟ قال: يتمون الصفوف المتقدمة ويتراصّون في الصف](3).
فقوله: {وَالصَّافَّاتِ} قسم، والواو بدل من الباء. قيل المراد: برب الصافات- حكاه القرطبي. قلت: لكن الله سبحانه يقسم بما شاء، فيقسم بالتين وبالزيتون ويقسم بالقمر وبالنجم، وبالشمس وبالليل وبالنهار، وبكل ما يحب فله الكبرياء وحده، وهنا يقسم بالملائكة، وهو قوله:{وَالصَّافَّاتِ صَفًّا} .
قال الحسن: (صفًّا لصفوفهم عند ربهم في صلاتهم).
وقوله: {فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا} عطف عليه. قيل الملائكة تزجر السحاب تسوقه حيث أمر الله، وقيل: بل هي آيات القرآن يزجر الله بها ما زجر عنه وحكاه في القرآن.
قال مجاهد: ({فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا}: الملائكة). وقال قتادة فيها: (ما زجَرَ الله عنه في القرآن).
قلت: والراجح قول مجاهد أنها الملائكة، وإليه ذهب السدي بقوله:(إنها تزجر السحاب).
واختاره الحافظ ابن كثير، وشيخ المفسرين -ابن جرير- حيث قال: (لأن الله
(1) حديث صحيح. انظر صحيح أبي داود (672)، وتخريج الترغيب (1/ 173)، وكتابي: أصل الدين والإيمان- عند الصحابة والتابعين لهم بإحسان (1/ 539) - في تفصيل صفات الملائكة.
(2)
حديث صحيح. أخرجه مسلم (522)، كتاب المساجد ومواضع الصلاة.
(3)
حديث صحيح. أخرجه مسلم (430) - كثاب الصلاة- باب الأمر بالسكون في الصلاة. . . وإتمام الصفوف الأُوَل والتراصّ فيها والأمر بالاجتماع.
تعالى ذكره ابتدأ القسم بنوع من الملائكة وهم الصافون بإجماع من أهل التأويل، فلأن يكون الذي بعده قسمًا بسائر أصنافهم أشبه). فالفاء عاطفة في الصفات.
وقوله: {فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا} - فيه تفاسير:
التفسير الأول: هم الملائكة. قال مجاهد: ({فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا}: الملائكة). وهو قول ابن عباس وابن مسعود.
التفسير الثاني: أي هو ما يُتلى في القرآن من أخبار الأمم قبلنا. قال قتادة: (ما يُتلى عليكم في القرآن من أخبار الناس والأمم قبلكم).
التفسير الثالث: قيل الأنبياء يتلون الذكر على أممهم فهم التاليات. ذكره الماوردي. والراجح التفسير الأول وهم الملائكة، واختاره ابن كثير وقال:(أي الملائكة يجيئون بالقرآن من عند الله تعالى إلى الناس، كقوله تعالى: {فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا (5) عُذْرًا أَوْ نُذْرًا} [المرسلات: 5 - 6].
ثم جاء جواب القسم: {إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ} .
فأقسم سبحانه بالصافات صفًا، بأن معبودكم المستحق عليكم كمال الإخلاص والعبادة واحد لا شريك له، فأفردوه بالطاعة ولا تجعلوا في عبادتكم نصيبًا لغيره.
قال مقاتل: (وذلك أن الكفار بمكة قالوا: أجعل الآلهة إلهًا واحدًا، وكيف يسع هذا الخلق فرد إله! فأقسم الله بهؤلاء تشريفًا).
ثم قال سبحانه يعرفهم بنفسه: {رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا} .
فهو الله الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما ولم يشاركه أحد في الخلق، وهو القيّم على جميع ما خلق فلا تصلح العبادة إلا له، فلا تشركوا معه من لا يملك نفعًا ولا ضرًّا، فالكل فقير إليه مفتقر إلى رحمته.
وقوله: {وَرَبُّ الْمَشَارِقِ} . قال ابن جرير: (يقول: ومُدَبِّر مشارق الشمس في الشتاء والصيف ومغاربها، والقيّم على ذلك ومصلحه، وترك ذكر المغارب لدلالة الكلام عليه). وقال ابن كثير: (أي هو المالك المتصرف في الخلق بتسخيره بما فيه من أجرام السماء التي تظهر من المشرق وتغرب من المغرب).
وعن قتادة: ({إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ} قال: وقع القسم على هذا إن إلهكم لواحد، {رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ} قال: مشارق الشمس في الشتاء والصيف).
وقال السدي: (المشارق ستون وثلاث مئة مَشْرِق، والمغارب مثلها عدد أيام السنة).
والآية كقوله تعالى: {رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ} . يعني شروق الشمس والقمر في الصيف والشتاء واختلاف مطالعهما. وكقوله تعالى: {فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ} [المعارج: 40]. فالله سبحانه خلق الأرض كروية فنصف الكرة المواجه للشمس يكون فيه اليوم نهارًا، والنصف الخلفي ليلًا، ولما كانت الأرض أو الشمس تدور بقدرته سبحانه من الشرق إلى الغرب، ففي كل لحظة يتكون شروق وغروب لا يفتران أبدًا. ثم إن شروق الشمس في الصيف من المشرق مع ميل إلى الشمال، وغروبها من الغرب مع ميل نحو الشمال، والقمر في الصيف يشرق من الشرق مع ميل نحو الجنوب، ويغرب من الغرب مع ميل نحو الجنوب.
وأما في الشتاء فتشرق الشمس من المشرق مع ميل نحو الجنوب، وتغرب من الغرب مع ميل نحو الجنوب، وكذا القمر يشرق شتاء من المشرق مع ميل نحو الشمال ويغرب في الغرب مع ميل نحو الشمال، فتبارك رب المشرقين ورب المغربين، فكما أن للشمس مشرقين فكذلك فإن للقمر مشرقين، تبارك الله أحسن الخالقين.
وفي رفع قوله: {رَبُّ} وجهان عند أهل العربية:
الوجه الأول: خبر ثان لإنّ في قوله: {إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ} . ثم قال: {رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} .
والوجه الثاني: بدل من قوله {لَوَاحِدٌ} ، وهو أرجح لأن الخبر هو قوله:{لَوَاحِدٌ} .
وقوله تعالى: {إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ (6) وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ} .
قال قتادة: (خلقت النجوم ثلاثًا، رجومًا للشياطين، ونورًا يهتدى بها، وزينة لسماء الدنيا).
وفي قوله: {وَحِفْظًا} قال: (يقول: جعلتها حفظًا من كل شيطان مارد).
فالله سبحانه قد امتنّ على عباده بأن زيّن لهم السماء الدنيا، فيأنسون إذا نظروا إليها ولو شاء لجعلها مظلمة سوداء تورث الضيق في صدورهم وفي نفوسهم كلما أبصروها، ثم سخّر الكواكب لتنبعث منها الشهب فتحرق الشياطين الذين يحاولون استراق السمع والخبر والغيب من السماء في الأمر قضاه الله وتَحَدَّثَ به الملائكة، فيحاولون استراقه
ليلقوه على ألسنة الكهان والسحرة والكذبة لِيُعْبَدوا إياهم من دون الله، وليفسدوا على بني آدم دينهم وليشتركوا معهم في عذاب جهنم يوم القيامة، كما قال جل ثناؤه:{وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ (5) وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [الملك: 5 - 6]. فعطف سبحانه على الشياطين من اشترك معهم في السحر والكفر، فأشركهم جميعًا في عذاب السعير وبئس المصير.
ولقد قرأ جماعة من قراء الكوفة: {بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ} أي بزينة هي الكواكب. في حين قرأها قراء المدينة والبصرة وبعض الكوفيين: "بزينةِ الكواكب" أي زينا السماء التي تليكم بتزيينها بالكواكب، فكانت زينتها الكواكب.
وقد رُوي عن بعض قراء الكوفة نصب لفظ "الكواكبَ"، أي بتزييننا الكواكبَ، كما يجوز فيها الرفع لغة بأن زينتها الكواكب، ولكن الأشهر في القراءة هو الكسر.
وأما قوله: {وَحِفْظًا} فهو بدل من اللفظ، أي وحفظناها حفظًا، والواو أدخلت للتكرير، أي وزيناها حفظًا لها والله أعلم.
وخلاصة المعنى: أن الله سبحانه قد حفظ أمره من كل شيطان متمرد عات إذا حاول استراق السمع أتاه شهاب فأحرقه، فالمارد هو العاتي من الجن والإنس، والعرب تسميه شيطانًا.
وقوله تعالى: {لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ (8) دُحُورًا وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ} .
الملأ الأعلى هم أهل السماء الدنيا فما فوقها كلهم أعلى بالنسبة لأهل الأرض.
وعن قتادة: ({لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى} قال: مُنِعوها). وقال ابن جرير: (ويعني بقوله {إِلَى الْمَلَإِ} إلى جماعة الملائكة التي هم أعلى مَنْ هم دونهم).
وعن مجاهد: ({يُقْذَفُونَ}: يرمون. {مِنْ كُلِّ جَانِبٍ} قال: من كل مكان. وقوله: {دُحُورًا} قال: مطرودين).
وعن السدي: (في قوله: {عَذَابٌ وَاصِبٌ} قال: الموجع). وقال ابن عباس: (يقول: لهم عذاب دائم). وفي رواية: (شديد).
وفي لغة العرب: وَصَبَ الشيء يَصِبُ بالكسر وُصوبًا إذا دام، والوصَب: المرض. فيمكن الجمع بين التفسيرين بمعنى: {وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ} أي دائم متواصل فيزداد
لاستمراره وجعًا وألمًا. وفي التنزيل: {وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا} .
وأما (دَحَر) في لغة العرب فهو بمعنى طرد وأبعد، ويبدو أن الشياطين قبل نزول آيات الدحر والشهب الحارقة وقبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يسترقون السمع ويجيئون بالأخبار، وربما كانوا لا يقذفون إلا من بعض الجوانب فصاروا يرمون واصِبًا. قال القرطبي:(وإنما كانوا من قبل كالمتجسِّسَةِ من الإنس، يبلغ الواحد منهم حاجته ولا يبلغها غيره، ويسلم واحد ولا يسلم غيره، بل يقبض عليه ويعاقب وينكل. فلما بعث النبي صلى الله عليه وسلم زيدَ في حفظ السماء، وأعدت لهم شهب لم تكن من قبل، ليدحروا عن جميع جوانب السماء، ولا يقروا في مقعد من المقاعد التي كانت لهم منها، فصاروا لا يقدرون على سماع شيء مما يجري فيها، إلا أن يختطف أحد منهم بخفة حركته خطفة، فيتبعه شهاب ثاقب قبل أن ينزل إلى الأرض فيلقيها إلى إخوانه فيحرقه، فبطلت من ذلك الكهانة وحصلت الرسالة والنبوة).
قال ابن عباس: (كان للشياطين مقاعد في السماء يستمعون الوحي فينزلون إلى الأرض فزادوا في الكلمة تسعًا. . . فلما كانت بعثته عليه الصلاة والسلام فمنعَ الشياطين مقاعدهم وأتبعهم شهاب لا يخطئهم فيحرقهم، فشكوا ذلك إلى إبليس، فأرسل جنوده فرأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بين جَبَليْ نخلة، فرجعوا وأخبروا إبليس بما رأوا. . . وقال: هذا الذي حدث).
وتفصيل ذلك:
المرحلة الأولى: مرحلة سهولة السمع للشياطين يسترقون خبر السماء.
المرحلة الثانية: مرحلة إرسال الشهب المتواصلة الحارقة، حتى عَزَّ استراق السمع إلا على من خطف الخطفة.
وأصل ذلك ما روى البخاري في صحيحه، والترمذي في جامعه، وابن ماجة في سننه، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [إذا قضى الله تعالى الأمر في السماء، ضربت الملائكة باجنحتها خُضعانًا لقوله، كأنه سلسلة على صفوان، فإذا فُزِّعَ عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم؟ قالوا للذي قال الحقَّ وهو العلي الكبير، فيسمعها مسترقو السمع، ومسترقو السمع هكذا واحد فوق الآخر، فربما أدرك الشهابُ المستمع قبل أن يرمي بها إلى صاحبه، فَيُحْرِقَهُ، وربما لم يدركْه، حتى يرميَ بها إلى الذي يليه، إلى الذي هو أسفلُ منه حتى يُلقوها إلى الأرض، فتلقى على فم الساحر،
فيكذب معها مئة كَذْبَةٍ، فَيُصَدَّقُ، فيقولون: ألم يُخْبِرْنا يومَ كذا وكذا، يكون كذا وكذا، فوجدناه حقًّا للكلمة التي سمعت من السماء] (1).
وفي الصحيحين عن ابن عباس قال: [انطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم في طائفة من أصحابه عامدين إلى سوق عكاظ، وقد حيل بين الشياطين وبين خبر السماء وأرسلت عليهم الشهب فرجعت الشياطين. فقالوا: ما لكم؟ فقالوا: حيل بيننا وبين خبر السماء وأرسلت علينا الشهب. قال: ما حال بينكم وبين خبر السماء إلا ما حدث، فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها فانظروا ما هذا الأمر الذي حدث، فانطلقوا فضربوا مشارق الأرض ومغاربها ينظرون ما هذا الأمر الذي حال بينهم وبين خبر السماء. قال: فانطلق الذين توجهوا نحو تهامة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بنخلة وهو عامد إلى سوق عكاظ وهو يصلي بأصحابه صلاة الفجر. فلما سمعوا القرآن تسمعوا له فقالوا: هذا الذي حال بينكم وبين خبر السماء، فهناك رجعوا إلى قومهم فقالوا يا قومنا إنا سمعنا قرآنًا عجبًا يهدي إلى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربنا أحدًا، وأنزل الله عز وجل على نبيّه صلى الله عليه وسلم: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ} [الجن: 1](2).
ولقد قرأ عامة قراء المدينة والبصرة: {لَا يَسَّمَّعُونَ} . في حين قرأها بعض الكوفيين: "لا يَسْمعون". بمعنى يتسمعون لكن لا يسمعون. قال مجاهد: (كانوا يتسمعون ولكن لا يسمعون). وأصل {يَسَّمَّعُونَ} يَتَسَمَّعون، فأدغمت التاء في السين لقربها منها، واختار الجمهور القراءة بالتسكين:"يَسْمَعون"، ومنهم ابن جرير، وأما بالتشديد فهي قراءة حمزة وعاصم في رواية حفص، ويبدو أنهما قراءتان مشهورتان.
وأما قوله: {إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ} فهو استثناء من قوله: {وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ} .
وقيل: بل الاستثناء يرجع إلى غير الوحي لقوله تعالى: {إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ} [الشعراء: 212]. فيسترق الواحد منهم شيئًا مما يتفاوض فيه الملائكة مما سيكون في العالم قبل أن يعلمه أهل الأرض، وهذا لخفة أجسام الشياطين، فيرجمون عندها بالشهب فيتقدمهم الأجسر ليلقي الكلام إلى من يليه، ثم يلقيه الآخر إلى من تحته، حتى تنزل تلك الكلمة إلى الكهان، فيكذبون معها مئة كذبة لأنها لا تكفي أن يصاغ منها
(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (4701)، كتاب التفسير. باب قوله:{إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ} [الحجر: 18]. ورواه الترمذي وابن ماجة وغيرهم.
(2)
حديث صحيح. أخرجه البخاري (4921)، في كتاب التفسير، وأخرجه كذلك برقم (773)، كتاب الأذان. ورواه مسلم (449/ 149)، والترمذي (3323)، ورواه أحمد (1/ 252).
قصة أو حدث، فيزيدون ويكذبون، عليهم لعائن الله، ليفتنوا الناس عن دينهم الحق. كما قال ابن عباس:(ويختطف الشياطين السمع فيُرمون فيقذفونه إلى أوليائهم فما جاؤوا به على وجهه فهو حق، ولكنهم يحرّفونه ويزيدون).
وفي لغة العرب: خطَفَ وخَطِفَ وخَطَّفَ وخِطَّفَ من الخَطْفِ وهو الاستلاب، والخطّاف هو الشيطان يَخْطَفُ السمع يسترقه، والخطْف أَخذ الشيء بسرعة.
وأصل (خطّف) اختطف، أدغمت التاء في الطاء، ومن كسر الخاء في (خِطَّفَ) فلالتقاء الساكنين، وهناك من كسر الطاء مع التشديد (خِطِّفَ) فاتبع الكسر الكسر.
وقوله: {فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ} . أي: مضيء. قال ابن عباس: (تحرقهم من غير موت).
وقيل في الثاقب: (إنه المستوقد) قاله زيد بن أسلم. وعن قتادة: (قوله: {فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ} قال: من نار، وثقوبه: ضوءه). وقال السدي: (شهاب مضيء يحرقه حين يرمى به). وفي رواية أخرى عن ابن عباس: (لا يُقتلون بالشهاب ولا يموتون ولكنها تحرقهم من غير قتل، وتُخَبِّلُ وتُخَدّج من غير قتل).
وسئل الضحاك: هل للشياطين أجنحة؟ فقال: (كيف يطيرون إلى السماء إلا ولهم أجنحة).
قلت: وهذا ثابت في السنة الصحيحة. فقد أخرج الطبراني والحاكم والبيهقي بسند صحيح عن أبي ثعلبة الخشني رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[الجن ثلاثة أصناف، فَصِنْفٌ لهم أجنحة يطيرون بها في الهواء، وصِنْفٌ حياتٌ وكِلاب، وصِنْفٌ يحِلّون ويظعَنون](1).
ثم قال جل ثناؤه: {فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمْ مَنْ خَلَقْنَا} .
قال مجاهد: (أي من خلقنا من السماوات والأرض والجبال والبحار).
أي استفت يا محمد مشركي قومك منكري البعث، هل هم أشد خلقًا من الآيات الكونية الكبرى التي هي أعظم مما أنكروا حتى يظنوا أنهم لا يبعثون، وقد قال الله:{لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ} [غافر: 57]. وقال أيضًا: {أَأَنْتُمْ
(1) حديث صحيح. أخرجه الحاكم والطبراني والبيهقي. انظر صحيح الجامع (3109)، وانظر تخريج أحاديث "مشكاة المصابيح"(4148).
أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا (27) رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا} [النازعات: 27 - 28].
فقوله: {فَاسْتَفْتِهِمْ} أي فاسألهم. يعني: اسأل أهل مكة. وقيل يدخل في قوله: {مَنْ خَلَقْنَا} الملائكة ومن سلف من الأمم الماضية.
ثم قال سبحانه: {إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لَازِبٍ} . قال ابن عباس: (أي لا صق).
وفي رواية: (يقول: ملتصق). وفي رواية: (من التراب والماء فيصير طينًا يَلْزَق).
وقال السدي: (إنه الخالص). وقال مجاهد: (هو الطين الحرّ الجيد اللزج).
قال ابن جرير: (وصف باللزوب لأنه تراب مخلوط بماء، وكذلك خلق ابن آدم من تراب وماء ونار وهواء).
وفي لغة العرب: طين لازب أي لازق، واللازب أيضًا الثابت. تقول: صار الشيء ضَرْبةَ لازب أو ضربة لازم بقلب الباء ميمًا، ولكنه بالباء أفصح، لزَبَ يلْزَبُ لزْبًا ولُزوبًا فهو لازب. كما قال النابغة:
ولا تحسبن الخير لا شَرَّ بعده
…
ولا تحسبن الشَّرَ ضربةَ لازب
ثم قال سبحانه: {بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ} . قال قتادة: (عجبَ محمد عليه الصلاة والسلام من هذا القرآن حين أُعْطِيَه، وسخر منه أهل الضلالة).
وقال الفرّاء: (العجب إن أسند إلى الله عز وجل فليس معناه من الله كمعناه من العباد، وكذلك قوله: {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} [البقرة: 15] ليس ذلك من الله كمعناه من العباد).
وهذا فيمن قرأها بضم التاء "بل عَجْبتُ" أي بل عظم عندي وكبر اتخاذهم لي شريكًا، وتكذيبهم تنزيلي وهم يسخرون، قرأها بذلك قرّاء الكوفة.
وأما قراء البصرة والمدينة فقرؤوها بالفتح: "بل عَجِبْتَ" أي عجبت يا محمد أنت من تكذيب هؤلاء المنكرين للبعث وأنت موقن مصدقٌ بما أخبر الله من الأمر العجيب وهو إعادة الأجسام بعد فنائها، وهم بخلاف حالك يسخرون ويستهزئون، وإذا عاينوا آية واضحة يكذبون ويترددون.
قال ابن جرير: (فإن قيل: أكان التنزيل بإحداهما أو بكلتيهما؟ قيل التنزيل بكلتيهما. فهل نزل مرتين؟ لا، إنما مرة، ولكنه أُمِرَ صلى الله عليه وسلم أن يقرأ بالقراءتين).
ثم قال سبحانه: {وَإِذَا ذُكِّرُوا لَا يَذْكُرُونَ} . قال قتادة: (أي لا ينتفعون ولا يبصرون).
وقال سعيد بن جبير: (أي إذا ذكر لهم ما حلّ بالمكذبين من قبلهم أعرضوا عنه ولم يتدبروا).
وقوله تعالى: {وَإِذَا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ} . قال قتادة: (يسخرون منها ويستهزئون).
وقوله تعالى: {وَقَالُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ} . قال القرطبي: (أي إذا عجزوا عن مقابلة المعجزات بشيء قالوا هذا سحر وتخييل وخِداع).
وقوله تعالى: {أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (16) أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ} .
قال قتادة: (تكذيبًا بالبعث. {قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ دَاخِرُونَ} قال: أي صاغرون).
فنَعَتَ المشركون من قريش للنبي صلى الله عليه وسلم أن ما جاء به سحر يبين لمن تأمله ورآه أنه سحر وهم يستسخرون -أي يستدعون السخر من غيرهم ليشاركوهم الهزل- وهم يستغربون أن يبعثوا، فكيف ببعث آبائهم؟ ! فأجابهم الله سبحانه بأن القيامة ستقوم وإن كرهتم، وستحضرون أذلاء على رغمكم وإن أنكرتموه اليوم بزعمكم.
وقوله: {فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ} . قال السدي: (هي النفخة). وقال الحسن: (أي صيحة واحدة). فالزجرة -تعني النفخ في الصور- النفخة الثانية.
وقوله: {فَإِذَا هُمْ يَنْظُرُونَ} . أي يعاينون ما وعدهم الله من أمر الساعة وكذبوه، فاليوم يأتون ينظر بعضهم إلى بعض وقد حق ما أنكروه. قال القرطبي:(وسميت الصيحة زجرة لأن مقصودها الزجر، أي يزجر بها، كزجر الإبل والخيل عند السَّوق).
وفي قوله: {يَنْظُرُونَ} ثلاثة تفاسير يحتملها البيان الإلهي:
التفسير الأول: ينظرون إلى بعضهم. قال القرطبي: ({يَنْظُرُونَ} أي: ينظر بعضهم إلى بعض).
التفسير الثاني: قيل: ينتظرون ما يفعل بهم. ذكره بعض المفسرين.
التفسير الثالث: يعاينون ما وعدهم الله من أهوال البعث والقيامة أمامهم. ذكره ابن جرير.
فلما أبصروا ذلك على الحقيقة قالوا: {يَاوَيْلَنَا هَذَا يَوْمُ الدِّينِ} .
قال قتادة: (يدين الله فيه العباد بأعمالهم).
فدعوا على أنفسهم ونادوها بالويل حين علموا ما سيحل بهم وهم واقفون في يوم
الدين -أي يوم الحساب- وقيل يوم الجزاء.
فأجابهم المؤمنون والملائكة: {هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ} .
قال السدي: (يوم يُقضى بين أهل الجنة وأهل النار).
وقيل: بل هو من قول بعضهم لبعض- أي هذا هو اليوم الذي كذبنا به.
وقيل: بل هو من قول الله تعالى لهم.
قلت: ولا شك أن البيان الإلهي يحتمل جميع ما سبق، فهو من قول المؤمنين أو الملائكة أو من قول بعضهم لبعض على وجه الندم، أو من قول الله تعالى لهم:{هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ} حيث يفصل الله بعدله وبقضائه بين خلقه، ويأمر ملائكته الكرام أن يفصلوهم في أرض المحشر، فيفصلوا الكفار عن المؤمنين، فيقول جل ثناؤه لملائكته:{احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ (22) مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ} .
أي: اجمعوا الذين كفروا بالله في الدنيا وعصوه وأسعروا الحياة بالظلم والطغيان وتحكيم الهوى وإبعاد منهج الله عن القضاء والحكم، هم وأشباههم ممن شاركوهم المكر والكبر في الأرض، وما عبدوا في الدنيا من دون الله، فوجهوهم إلى الباب الذي سيدخلون منه إلى جهنم، وكان في الكلام محذوفًا تقديره: فيقال: {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ} . وفيه أكثر من تأويل:
التأويل الأول: هو ما روي عن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال: (يعني بأزواجهم: أشباههم وأمثالهم). وفي رواية: (ضُرباءهم). وعن ابن عباس: (نظراءهم. وفي رواية: يعني أتباعهم ومن أشبههم من الظلمة).
التأويل الثاني: هو ما روي عن ابن زيد: (أزواجهم في الأعمال، وقرأ: {وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً (7) فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (8) وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (9) وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ} [الواقعة: 7 - 10]. قال: فالسابقون زوج، وأصحاب الميمنة زوج، وأصحاب الشمال زوج. قال: كلّ من كان من هذا حشره الله معه، وقرأ:{وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ} [التكوير: 7]. قال: زُوِّجَت على الأعمال، لكل واحد من هؤلاء زوج، زوّج الله بعض هؤلاء بعضًا، زوج أصحاب اليمين أصحاب اليمين، وأصحاب المشْأمة أصحابَ المشأمة، والسابقين السابقين. قال: فهذا قوله: {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ} . قال: أزواج الأعمال التي زَوّجهنّ الله) ذكره ابن جرير.
ورُوي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه في قول الله عز وجل: {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ} . قال: (الزاني مع الزاني، وشارب الخمر مع شارب الخمر، وصاحب السرقة مع صاحب السرقة) ذكره القرطبي. وبنحوه عن قتادة: (فيحشر الكافر مع الكافر). حيث حملوا الظلم على الشرك- كما قال جل ثناؤه: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13]. فاحشروا الذين ظلموا- أي احشروا المشركين وأشياعهم في الشرك.
التأويل الثالث: {وَأَزْوَاجَهُمْ} : نساؤهم المرافقات لهم على الكفر. فقد روي عن مجاهد والحسن: ({وَأَزْوَاجَهُمْ}: نساؤهم المرافقات على الكفر).
التأويل الرابع: قرناؤهم من الشياطين. قال الضحاك: {وَأَزْوَاجَهُمْ} : قرناءهم من الشياطين). وقال مقاتل: (يحشر كل كافر مع شيطانه في سلسلة).
وقوله: {وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ (22) مِنْ دُونِ اللَّهِ} .
أي من الأوثان والشياطين وإبليس وكل ما عُبِدَ من دون الله سبحانه.
وخلاصة القول: أن الله سبحانه يأمر ملائكته أن يحشروا المشركين به الظالمين بتنحية منهاجه ووحيه عن الحكم، ومن شابههم ووافقهم في القول والعمل من نسائهم وذرياتهم وأشياعهم ومن صرفوا لهم الطاعة من قرنائهم من الشياطين والأوثان والأصنام ومن رضي أن يصرف الناس إليه العبادة من دون الله سبحانه، فيأمر الله بجمعهم ثم توجيههم إلى صراط النار وأبوابها وبئسَ المصير الذي ينتظرهم بما أخلفوا الله عبادته وأشركوا بألوهيته. لذلك قال:{وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ (22) مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ} . قال ابن عباس: (يقول: وجهوهم. وقيل: إن الجحيم الباب الرابع من أبواب النار! . وقيل: {فَاهْدُوهُمْ} أي سوقوهم إلى النار. وقيل: أي دلّوهم. يقال: هديته الطريق أو هديته إلى الطريق إذا دللته عليه.
ثم قال سبحانه: {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ} . أي: احبسوهم للحساب ثم سوقوهم إلى النار.
وفيه تفاسير:
1 -
قيل: يسألهم هل يعجبهم ورود النار. ذكره بعض المفسرين كابن جرير والقرطبي.
2 -
قيل: بل ذلك للسؤال عن أعمالهم. فعن القرظي: {إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ} قال: عن أعمالهم وأقوالهم وأفعالهم). وعن ابن عباس: (عن ظلم الخلق). وعن الضحاك: ({إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ} عن خطاياهم).
3 -
وقيل: بل لسؤالهم عما كانوا يعبدون من دون الله. قال ابن عباس: (عن لا إله إلا الله).
4 -
وقيل: سؤالهم {أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ} [الأنعام: 130] إقامة للحجة.
5 -
وقيل: يساقون إلى النار أولًا ثم يحشرون للسؤال إذا قربوا من النار.
قلت: والبيان الإلهي يحتمل كل هذه الآفاق من التأويل.
25 -
49. قوله تعالى: {مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ (25) بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ (26) وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (27) قَالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ (28) قَالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (29) وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْمًا طَاغِينَ (30) فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا إِنَّا لَذَائِقُونَ (31) فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ (32) فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ (33) إِنَّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (34) إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ (35) وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ (36) بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ (37) إِنَّكُمْ لَذَائِقُو الْعَذَابِ الْأَلِيمِ (38) وَمَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (39) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (40) أُولَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ (41) فَوَاكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ (42) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (43) عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ (44) يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (45) بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ (46) لَا فِيهَا غَوْلٌ وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ (47) وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ (48) كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ (49)}.
في هذه الآيات: تقريعٌ وتوبيخٌ للمشركين، ووصف الحوار بين الرؤساء وأتباعهم المجرمين، الذين اشتركوا بالمكر والتكذيب وإيذاء المرسلين، ليشتركوا اليوم في العذاب الأليم. ونَعْتٌ للصورة المقابلة صورة المؤمنين المتقين، وما أعدّ الله لهم في جنات النعيم.
فقوله تعالى: {مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ} . تقريع وتوبيخ للمشركين.
قال قتادة: (لا والله لا يتناصرون ولا يدفع بعضهم عن بعض).
وأصل {تَنَاصَرُونَ} -تتناصرون-. فطرحت إحدى التاءين للتخفيف.
وقوله تعالى: {بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ} . أي: أذلاء خاضعون لمصيرهم الشقي.
قال ابن عباس: ({بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ} قال: خاضعون ذليلون). وقال قتادة: ({بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ} في عذاب الله). وقال الحسن: (منقادون). وقال الأخفش: (ملقون بأيديهم). والمعنى واحد مفاده أنهم يعانون الذل اليوم أمام الخلق بعدما عاشوا الكبر في الدنيا وظلم الناس.
ثم قال سبحانه: {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ} . وفيه تأويلان:
1 -
قيل: يعني الرؤساء والأتباع يتخاصمون يسأل بعضهم بعضًا ويوبخه في أنه أضله أو فتح له بابًا من المعصية.
2 -
وقيل: بل هو التخاصم بين الإنس والجن. قال قتادة: {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ} ، قال: الإنس على الجن). أي: أقبل الإنس على الجن يتساءلون.
وقوله تعالى: {قَالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ} . قال السدي: (تأتوننا من قِبل الحق تزينون لنا الباطل وتصدونا عن الحق). وعن مجاهد: {تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ} قال: عن الحق، الكفار تقوله للشياطين). وقال قتادة:(قالت الإنس للجن إنكم كنتم تأتوننا عن اليمين. قال: من قبل الخير فتنهوننا عنه وتبطئوننا عنه).
فأخزى الله الكافرين الذين صدوا عن سببل الله في الدنيا، واستهزؤوا بالقرآن الذي كشف الله به لهم سبل الشياطين ليجتنبوها، ولكنهم شاركوهم في اتباع الشهوات والكبر والعلو في الأرض، فألزمهم الله موقف الذل في عرصات القيامة، يقولون للجن: لقد كنتم تأتوننا من قِبل الدين والحق وما ظاهره التقوى فتخدعوننا بأقوى الوجوه والسبل. واليمين في كلام العرب: القوة والقدرة على الكلام وإقامة الحجج، فأخزى الله الفريقين وتوعدهم بالعذاب. وهذه الآيات تشبه حوار المستكبرين والمستضعفين وهم يتخاصمون في دركات النار في سورة سبأ:
{وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ (31) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ
اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ (32) وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [سبأ: 31 - 33].
وكذلك تشبه قوله تعالى في سورة إبراهيم: {وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ قَالُوا لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ} [إبراهيم: 21].
وكذلك الآيات من سورة غافر: {وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِنَ النَّارِ (47) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ} [غافر: 47 - 48].
وهنا قال في سورة الصافات يصف تخاصمهم: {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (27) قَالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ} .
قال ابن عباس: (يقولون كنتم تقهروننا بالقدرة منكم علينا لأنا كنا أذلاء وكنتم أعزاء فأقنعتمونا بالكفر).
فكنّى عن القوة والقدرة باليمين، لأن اليد اليمنى تستعمل عادة أكثر، فهي أقوى غالبًا، فكنى بها سبحانه عن الهيمنة للسادة على العامة، فجاؤهم بالقوة والإجبار لتحبيذ الكفر لديهم على الإيمان، فاستخفوهم فأطاعوهم، فاليوم يندمون حيث لا فائدة من الندم.
وفي قائل ذلك ثلاثة تفاسير:
التفسير الأول: هو قول الكفار للشياطين- كما قال مجاهد.
التفسير الثاني: هو قول الإنس للجن- كما قال قتادة.
التفسير الثالث: هو من قول الأتباع للمتبوعين- كما روي عن ابن عباس.
وفي كلمة اليمين تفاسير أيضًا:
التفسير الأول: أي تأتوننا عن طريق الخير وتصدوننا عنها- قاله قتادة.
التفسير الثاني: أي تأتونا عن اليمين التي نحبها ونتفاءل بها لتغرونا بذلك من جهة النصح. فالعرب تتفاءل بما جاء عن اليمين وتسميه السانح.
التفسير الثالث: أي تأتوننا مجيء من إذا حلف لنا صدقناه. فاليمين عندئذ بمعنى الحلف.
التفسير الرابع: أي تأتوننا من قبل الدِّين فتهونون علينا أمر الشريعة وتنفروننا عنها.
قال القرطبي: (وهذا القول حسن جدًّا، لأن من جهة الدين يكون الخير والشر، واليمين بمعنى الدين، أي كنتم تزينون لنا الضلالة).
التفسير الخامس: اليمين بمعنى القوة. أي تمنعوننا بقوة وغلبة وقهر. كما قال جل ثناؤه: {فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ} أي بالقوة، وقوة الرجل عادة في يمينه.
وكقول الشاعر:
إذا ما راية رُفِعَت لمجد
…
تلقاها عَرابَةُ باليمين
أي بالقدرة والقوة. وقد روي هذا المعنى عن ابن عباس.
التفسير السادس: أي تأتوننا من قبل الحق أنه معكم- قاله مجاهد.
وكلها معان متقاربة مفادها أن الله سبحانه سيخزي أهل الباطل جنّهم وإنسيّهم على اختلاف مللهم ونحلهم، ويذيقهم الندامة وهم يختصمون في دركات النار، كل يلقي اللوم على الآخر في المصير الذي آل إليه.
ثم قال جل ثناؤه يصف جواب المتبوعين المتكبرين: {قَالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (29) وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْمًا طَاغِينَ (30) فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا إِنَّا لَذَائِقُونَ (31) فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ} .
وفيه تفسيران:
1 -
هو من قول الجن لمن تبعهم من الإنس.
قال قتادة: (قالت لهم الجن {بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} حتى بلغ {قَوْمًا طَاغِينَ (30) فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا} الآية. قال هذا قول الجن).
وقال ابن جرير: (قالت الجن للإنس مجيبة لهم: بل لم تكونوا بتوحيد الله مقرين وكنتم للأصنام عابدين، وما كان لنا عليكم من حجة فنصدكم بها عن الإيمان ونحول بينكم من أجلها وبين اتباع الحق، بل كنتم أيها المشركون قومًا طاغين على الله متعدين إلى ما ليس لكم التعدّي إليه من معصية الله وخلاف أمره).
وقوله: {بَلْ كُنْتُمْ قَوْمًا طَاغِينَ} . قال السدي: (كفار ضلال).
2 -
قيل هو من قول الرؤساء لأتباعهم يتبرؤون منهم ومن أعمالهم لما عاينوا الأهوال يوم القيامة.
قال ابن كثير: (قالوا -أي المستكبرون- ليس الأمر كذلك بل كانت قلوبكم منكرة للإيمان قابلة للكفر، وما كان لنا سلطان وحجة فيما دعوناكم إليه بل كنتم متجاوزين عن الحق طاغين، ولهذا استجبتم لنا فتركتم الحق وخالفتم الرسل).
وأما قوله: {فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا إِنَّا لَذَائِقُونَ} .
فهو من قول الرؤساء والمتبوعين أيضًا. أي وجب علينا وعليكم قول ربنا وما كتب علينا من العذاب وأخبر عنه الرسل: {وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [السجدة: 13]. أي استسلموا للقدر الكوني بعدما فاتهم مدافعة القدر بالقدر، وبعدما أفسدوا على أنفسهم مصيرها، واستهزؤوا بالقدر الشرعي وإمكانية اختيار الحياة الأفضل لهم في الدنيا والآخرة، فإذا بالحياة الدنيا قد انقضت، وإذا بهم أمام القدر الكوني الذي ينتظرهم، فقد ولّى زمن الاختيار، وحقّ اليوم ما كتب الله عليهم كتابة علم وحكمة وعدل، فهو الذي خلقهم ويعلم ما توسوس به نفوسهم.
أخرج الإمام أحمد والحاكم بسند صحيح عن عبد الرحمن بن قتادة السلمي، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[إن الله خلق آدم، ثم أخذ الخلق من ظهره فقال: هؤلاء في الجنة ولا أبالي، وهؤلاء في النار ولا أبالي](1).
وأصله في صحيح الإمام مسلم من حديث عائشة رضي الله عنها، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[إن الله تعالى خلق الجنة، وخلق النار، فخلق لهذه أهلًا، ولهذه أهلًا](2).
وقوله: {فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ} .
قال القرطبي: (أي زينا لكم ما كنتم عليه من الكفر بالوسوسة والاستدعاء).
(1) حديث صحيح. أخرجه أحمد (4/ 186)، والحاكم (1/ 31). وانظر السلسلة الصحيحة (48).
(2)
حديث صحيح. أخرجه مسلم في الصحيح (8/ 55) - كتاب القدر-. وانظر مختصر صحيح مسلم (1855). وكتابي: أصل الدين والإيمان (2/ 1213) - لتفصيل البحث.
فأخبر سبحانه عن اشتراكهم معًا في لهب وعذاب جهنم، الضال والمضل منهم، فهذا جزاء المشركين المجرمين، فقد كبر جُرمًا أن يستكبروا على "لا إله إلا الله" ويعبدوا من دونه سبحانه تافهًا لا يملك لنفسه ضرًا ولا نفعًا. وفي الكلام محذوف تقديره إذا قيل لهم (قولوا) لا إله إلا الله يستكبرون. وينسبون الشعر والجنون إلى النبي صلى الله عليه وسلم. فعن السدي في قوله:{إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ} قال: (يعني المشركين خاصة). وعن قتادة: ({وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ} يعنون محمدًا صلى الله عليه وسلم).
يروي ابن سعد في الطبقات: (أن وفدًا من زعماء قريش قدموا إلى أبي طالب ليلتمسوا إليه أن يكف ابن أخيه، فاستدعاه وقال له: يا ابن أخي، هؤلاء عمومتك وأشراف قومك وقد أرادوا أن ينصفوك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قولوا أسمع. قالوا: تدعنا وآلهتنا وندعك وآلهتك. قال أبو طالب: قد أنصفك القوم فاقبل منهم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أرأيتم إن أعطيتكم هذه هل أنتم معطيَّ كلمة إن تكلمتم بها ملكتم العرب ودانت لكم المعجم. فقال أبو جهل: إن هذه كلمة مربحة. أَنْعِمْ وأبيك لنقولنها وعشر أمثالها. فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: قولوا لا إله إلا الله. فاشمأزوا ونفروا منها وغضبوا وقاموا وهم يقولون: اصبروا على آلهتكم إن هذا لشيء يراد).
لقد علم القوم أن لا إله إلا الله تُعَرِّيهم وتكشف في حياتهم الظلم والبغي والاستكبار.
لقد أدرك القوم أن لا إله إلا الله تحول بينهم وبين استعباد الناس بالقهر والإجبار.
لقد أيقن القوم أن لا إله إلا الله تمنعهم من إطلاق شهواتهم وتهددها بالدمار.
لقد فطن القوم أن لا إله إلا الله تكشف المال الحرام الذي عمروا به قصورهم بالكذب والاستهتار.
فتواصوا فيما بينهم بالصبر على الآلهة المزيفة، ظنًا منهم أنها تمنعهم وتحمي الأموال الحرام التي أكلوها، أو تغطي على الدماء الحرام التي سفكوها.
ففضحهم الله وأخزاهم وانتصر لنبيّه من بينهم، فقال سبحانه:
وعن قتادة: {بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ} بالقرآن {وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ} أي صدّق من كان قبله من المرسلين).
قال الحافظ ابن كثير: (يعني ليس شاعرًا ولا مجنونًا، بل جاء بالحق الذي أرسلته به وصدق المرسلين الذين أخبروا بصفاته الحميدة ودينه القويم في كتبهم، فكانت حاله كما أخبروا عنه من الصدق والأمانة والصراط المستقيم في المنهج والدعوة إلى الله).
وخلاصة القول: {بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ} يعني القرآن والتوحيد. {وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ} في منهاجهم. {إِنَّكُمْ لَذَائِقُو الْعَذَابِ الْأَلِيمِ} والأصل: لذائقون حذفت النون للإضافة-. {وَمَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} . أي: بما كسبتم واجترحتم من الشرك وعبادة غير الله الأحد.
ثم قال سبحانه استثناء ممن يذوق العذاب: {إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ} .
قال قتادة: (هذه ثنية الله). وقال ابن جرير: (إلا عباد الله الذين أخلصهم يوم خلقهم لرحمته وكتب لهم السعادة في أم الكتاب، فإنهم لا يذوقون العذاب لأنهم أهل طاعة الله وأهل الإيمان به).
فهؤلاء لا يناقشون الحساب، ويجزون الحسنة بعشر أمثالها إلى سبع مئة ضعف إلى أضعاف كثيرة.
وقد قرأها قراء المدينة والكوفة بفتح اللام: {المُخلَصِينَ} يعني: من أخلصهم لطاعته سبحانه ولحراسة دينه والقيام بأمره، في حين قرأها الباقون بكسر اللام أي المخلِصين لله في العبادة. وقيل هو استثناء منقطع، أي يذوق المجرمون العذاب لكن المخلصين لا يذوقون. بل لهم نعيم ورزق وصفه الله بقوله:{أُولَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ} . قال قتادة: (في الجنة). وقال مقاتل: (حين يشتهونه). وقيل: يعني رزق الجنة. وقيل: هي الفواكه التي جاء ذكرها تفسيرًا للرزق بقوله: {فَوَاكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ} .
و{فَوَاكِهُ} : جمع فاكهة، كما قال جل ذكره:{وَأَمْدَدْنَاهُمْ بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ} [الطور: 22].
والفاكهة: هي الثمار رطبها ويابسها، {وَهُمْ مُكْرَمُونَ} بذلك متنعمون بالمراتب العالية التي نالوها، وبالدرجات الرفيعة التي بلغوها، وبسماع كلام الله ولقائه والنظر إلى وجهه جل ثناؤه- كما قال سبحانه:{وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا} [مريم: 62].
وقوله: {عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} . أي يخدمون ويرفهون وينعمون، وهم على سرر متقابلين مقابلة. قال مجاهد:(لا ينظر بعضهم في قفا بعض تواصلًا وتحاببًا). وقال ابن عباس: (على سرر مكللة بالدّر والياقوت والزبرجد، السرير ما بين صَنعاء إلى الجابية، وما بين عدن إلى أيلة). وقيل: (الأسرّة تدور كيف شاؤوا فلا يرى أحد قفا أحد).
ثم قال سبحانه: {يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ} .
قال قتادة: (كأس من خمر جارية، والمعين: هي الجارية).
وقال الضحاك: (كلّ كأس في القرآن فهو خمر).
والكأس في لغة العرب: هو كل إناء فيه شراب فإن كان فارغًا سمي إناءً وليس بكأس. قال السدي: (كل كأس في القرآن فهي الخمر، والعرب تقول للإناء إذا كان فيه خمر كأس، فإذا لم يكن فيه خمر قالوا إناء وقدح).
والمعين في لغة العرب: الماء الجاري الظاهر. ومنه قال الزجاج: ({بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ} أي من خمر تجري كما تجري العيون على وجه الأرض).
وقوله: {بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ} . فلتأنيث الكأس أنثت البيضاء.
قال الحسن: (خمر الجنة أشد بياضًا من اللبن). فبيضاء صفة للكأس، ولذة: قيل هو مصدر جعل اسمًا -أي بيضاء لذيدة-. كما يقال شراب لدٌّ ولذيذ. وقيل: أي ذات لذة فحذف المضاف. قال ابن جرير: (يقول: هذه الخمر لذة يلتذها شاربوها).
ثم وصفها بتميزها من خمر الدنيا الذي يؤذي العقل ويسخط الرب سبحانه.
فقال: {لَا فِيهَا غَوْلٌ وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ} . أي: لا تغتال عقولهم. وفيه تفاسير:
التفسير الأول: (الغول: هو الصداع). قال ابن عباس: (يقول: ليس فيها صداع).
وكذلك قال الحسن: (صداع).
التفسير الثاني: (الغول: وجع البطن). قال قتادة: (الغول وجع البطن).
وقال مجاهد: (لا فيها وجع بطن). وهو رواية عن ابن عباس أيضًا: (هي الخمر ليس فيها وجع بطن). وفي رواية أخرى عنه قال: (في الخمر أربعُ خصال: السكر والصداع والقيء والبول، فلما ذكر خمر الجنة نزهها عن هذه الخصال).
فليس في خمر أهل الجنة أذى تتشكّى منه بطونهم.
التفسير الثالث: أي لا تغول عقولهم، أي لا تذهب بها كخمور الدنيا. كما قال القائل:
وما زالت الكأس تغتالنا
…
وتذهب بالأولِ الأول
أي تصرع واحدًا واحدًا. فالعرب تقول غاله الشيء واغتاله إذا أخذه من حيث لم يَدْر. قال بعض أهل اللغة: {لَا فِيهَا غَوْلٌ} أي ليس فيها (غائلةُ) الصداع. لأنه قال في موضع آخر: ({لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا}. وقال أبو عبيدة: (الغَوْل أن تغتال عقولهم). وقال آخر: الغضب غُولُ الحلم لأنه يغتالُه ويذهب به. واغتاله: قتلهُ غيلة. ومنه قول السدي: ({لَا فِيهَا غَوْلٌ}: لا تغتال عقولهم). وقال الشعبي: (لا تغتال عقولهم فتذهب بها).
التفسير الرابع: أنَّها داء. فعن مجاهد: ({لَا فِيهَا غَوْلٌ} قال: داء). أي: لا يمرضون.
التفسير الخامس: أنَّها مغص. قاله ابن كيسان.
التفسير السادس: أنَّها إثم. قال الكلبي: ({لَا فِيهَا غَوْلٌ} أي إثم، نظيره {لَا لَغْوٌ فِيهَا وَلَا تَأْثِيمٌ} [الطور: 23].
التفسير السابع: الغول هو المكروه والأذى. أي ما فيها ما يؤذيهم من مكروه، فإن العرب تقول لمن أصابه مكروه أو داهية عظيمة غالَ فلانًا غولٌ.
وعن سعيد بن جبير: (في قوله: {لَا فِيهَا غَوْلٌ} قال: أذى ولا مكروه).
التفسير الثامن: الغول فساد يلحق في خفاء. قال بعض أهل المعاني: (يقال: اغتاله اغتيالًا إذا أفسد عليه أمره في خفية. ومنه الغول والغيلة وهو القتل خفية).
وخلاصة المعنى عندي: بأن الخمر التي اختص الله بها أهل الجَنَّة تكريمًا لهم لَمَّا اجتنبوا خمر الدنيا الذي حرّمه عليهم وما فيه من فساد لأجسامهم وعقولهم وأموالهم ودينهم هو خمر خفصه الله من أن يكون فيه أي نوع من أنواع الإفساد: من صداع ووجع بطن ومغص وداء أو مرض أو مكروه أو ذهاب بالعقل أو فساد خفي أو إثم وغير ذلك.
وإليه ذهب ابن جرير رحمه الله حيث قال: (وكلها متضمنة بالمعنى أي لا أذى فيها ولا مكروه على شاربيها في جسم ولا عقل ولا غير ذلك). وبنحوه قال ابن كثير رحمه
الله: (ليس فيها سكر ولا صداع ولا قيء ولا بول، وهذه الخصال المجموعة هي الغول).
ثم وصفها سبحانه بقوله: {وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ} . وفيها قراءتان وتأويلان:
القراءة الأولى: هي قراءة قراء المدينة والبصرة وبعض الكوفيين بفتح الزاي: {يُنْزَفُونَ} .
ومنه فالتأويل الأول: أي ولا هم عن شربها تُنْزَفُ عقولهم. فعن ابن عباس: ({وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ} قال: لا تُنْزَف فتذهب عقولهم). وقال ابن زيد: (لا تُنْزِفُ العقول).
وقال قتادة: (لا تغلبهم على عقولهم). وقال مجاهد: (لا تذهب عقولهم) أي لا يسكرون.
القراءة الثانية: وهي قراءة عامة قراء الكوفة: "يُنْزِفون" بكسر الزاي. أي فيكون: التأويل الثاني: ولا هم عن شربها يَنْفَدُ شرابهم. وفي لغة العرب يقال: أنَّزف الرجل فهو منزوف إذا فنيت خمره. فالمعنى: أنَّهم من الشراب لا ينفدون.
قال القرطبي رحمه الله: (ومعنى "ينزِفون" الصحيح فيه أن يمال: أنَّزف الرجل إذا نفد شرابه، وهو يبعد أن يوصف به شراب الجَنَّة، ولكن مجازه أن يكون بمعنى لا ينفد أبدًا).
وكلا القراءتين مشهورة، ومن ثمّ فكلا التأويلين سالك قائم.
فقد وصف الله شراب أهل الجَنَّة في سورة محمد بقوله: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ (15)} [محمد: 15].
أخرج الإمام أحمد في المسند، والترمذي في الجامع، بسند صحيح عن معاوية بن حيدة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[إن في الجَنَّة بحرَ الماء، وبحرَ العسل، وبحرَ اللبن، وبحرَ الخمر، ثم تشقّق الأنهار بعد](1).
فهو خمر لذة للشاربين، يتدفق من بحر الخمر الذي لا ينفد، وطعمه منزه أن
(1) حديث صحيح. أخرجه الترمذي في السنن (2571) من حديث معاوية بن حيدة. انظر صحيح سنن الترمذي (2078). ورواه أحمد بإسناد صحيح. انظر تخريج المشكاة (5650)، وكتابي: أصل الدين والإيمان (2/ 776) لتفصيل البحث.
يلحق به أذى في أجسام وعقول المؤمنين تكرمة الله لهم.
قال ابن القيم: (نفى الله عن خمر الجَنَّة جميع آفات خمر الدنيا من الصداع والغول واللغو والإنزاف وعدم اللذة).
ثم تابع سبحانه وصف نعيم أهل الجَنَّة فقال: {وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ (48) كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ} .
وفي قوله: {قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ} تفاسير:
التفسير الأول: أي نساء قد قصرن النظر إلى أزواجهن لا ينظرن لغيرهم. قال ابن عباس: (أي نساء قد قصرن طرفهن على أزواجهن فلا ينظرن إلى غيرهم). وقال السدي: (قصرن أبصارهن وقلوبهن على أزواجهن فلا يُردن غيرهم). وقال ابن زيد: (لا ينظرن إلا إلى أزواجهن قد قَصَرْنَ أطرافهن على أزواجهن ليس كما يكون نساء أهل الدنيا).
واختاره ابن جرير وقال: (وعند هؤلاء المخلَصين من عباد الله في الجَنَّة قاصرات الطرف، وهُن النساء اللواتي قَصَرْن أطرافهن على بعولتهن ولا يُردن غيرهم ولا يمدُدن أبصارهن إلى غيرهن). وقال ابن كثير: (أي عفيفات لا ينظرن إلى غير أزواجهن).
التفسير الثاني: قاصرات الطرف أي محبوسات على أزواجهن. وهو تفسير يناسب قوله: "مقصورات" أكثر. وقد روي هذا المعنى عن عكرمة قال: {قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ} أي محبوسات على أزواجهن). فإن قاصرات مأخوذ من قولهم قد اقتصر فلان على كذا إذا اقتنع به وعدل عن غيره.
التفسير الثالث: قاصرات الطرف أي لا يَغَرْن - قاله مجاهد.
وخلاصة القول: أنَّهم نساء اصطفاهن الله زوجات كريمات للمؤمنين، اختص بكل مؤمن مجموعة منهن لا يغادرنه إلى غيره، ولا ينظرن إلى سواه، ولا يعشقن ويتودّدن إلا إليه، ولا يغرن بين بعضهن، فهن مصروفات إليه وحده تكرمة الله لأهل الإيمان والجهاد والإحسان.
وأما قوله: {عِينٌ} أي عظام العيون، واحدتها عيناء. وفيه أكثر من تأويل:
التأويل الأول: (العين: جمع عيناء). والعيناء المرأة الواسعة العين عظيمتها، وهي أحسن ما تكون من العيون.
قال ابن زيد: (العيناء: العظيمة العين). وقال السدي: (عين: عظام العيون، الواحدة عيناء).
وقال ابن جرير: (يعني بالعين النُّجْلَ العيون عظامها). وقال النسفي: ({عِينٌ} جمع عيناء أي نجلاء واسعة العين).
التأويل الثاني: (العين: الحسان العيون). فعن مجاهد: ({عِينٌ}: حسان العيون).
التأويل الثالث: (العين: شديدات بياض العين شديدات سوادها). قال الحسن: (الشديدات بياض العين الشديدات سوادها).
والتأويل الأول والثاني أقرب لمعنى اللغة. يقال: رجل أعين إذا كان واسع العين بين العين، والجمع عِين. واختاره القرطبي وقال:(وأصله فعْلٌ بالضم فكسرت العين، لئلا تنقلب الياء واوًا. ومنه قيل لبقر الوحش عين والثور أعيق والبقرة عيناء). وقال الحافظ ابن كثير: ({عِينٌ}: أي حسان الأعين جميلات المظهر عفيفات تقيات نقيات).
ثم قال سبحانه: {كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ} . أي مصون. وفيه تفاسير:
التفسير الأول: قيل شبههن ببطن البيض تحت القشر لشدة بياضه، وذلك أنه لم يمسّه شيء.
فعن السدي: ({كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ} قال: البيض حين يُقْشَر قبل أن تمسَّه الأيدي).
وعن ابن عباس: (شبهن ببطن البيض قبل أن يقشر وتمسّه الأيدي).
وقال عطاء: (شبهن بالسِّحاء الذي يكون بين القشرة العليا ولباب البيض).
قال الجوهوي: (وسَحَاة كل شيء قشرة والجمع سَخام. وقال ابن جرير: (هو القشر الرقيق الذي على البيضة بين ذلك). وقال ابن كثير: (وصفهن بترافة الأبدان بأحسن الألوان، وقد شبههن بالبيض المكنون كيف أن البيضة المكنونة بالقشرة الخارجية لم تمسَّها يد، فهن كذلك من حيث أنهن لم يمسهن أحد، وبياضهن دقيق كرقة البيضة من الداخل بيضاء شفافة). قال القرطبي: (والعرب تشبه المرأة بالبيضة لصفائها وبياضها).
التفسير الثاني: قيل بل شبهن بالبيض الذي يحضنه الطائر وهو إلى الصفرة أميل، فشبه بياضهن في الصفرة بذلك.
قال ابن زيد: ({كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ} قال: البيض الذي يكنه الريش، مثل بيض النعام الذي قد أكنه الريش من الريح، فهو أبيض إلى الصُّفرة فكأنه يَبْرُقُ فذلك المكنون).
وقال الحسن: (شبهن ببيض النعام، تكنها النعامة بالريش من الريح والغبار، فلونها أبيض في صفرة، وهو أحسن ألوان النساء).
وتقول العرب إذا وصفت الشيء بالحسن والنظافة: كأنه بيض النعام المغطّى بالريش. قال النسفي: ({كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ} مصون، شبههن ببيض النعام المكنون في الصفاء، وبها تشبه العرب النساء وتسميهن بيضات الخدور).
وقال القاسمي رحمه الله: (أي بيض نعام في الصفاء، مستور لم يركب عليه غبار.
ثم ذكر قول الشهاب حيث قال: وهذا على عادة العرب في تشبيه النساء بها. وخصت ببيض النعام لصفائه وكونه أحسن منظرًا من سائره. ولأنها تَبِيض في الفلاة وَتُبْعِد بيضها عن أن يمس. ولذا قالت العرب للنساء "بيضات الخدور"، ولأن بياضه يشوبه قليل صفرة مع لمعان، كما في الدُّر، وهو لون محمود جدًّا. إذ البياض الصرف غير محمود. وإنما يحمد إذا شابه قليلُ حمرة في الرجال، وصفرة في النساء) انتهى.
التفسير الثالث: قيل عني بالبياض هنا: اللؤلؤ، وبه شبههن في بياضه وصفائه.
فعن ابن عباس: (قوله: {كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ} يقول: اللؤلؤ المكنون). وهذا كقوله تعالى: {وَحُورٌ عِينٌ (22) كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ} . أي في أصدافه. كقول القائل:
وهي بيضاء مِثلُ لؤلؤة الغوَّ
…
اص مِيزَتْ من جَوْهر مكنون
التفسير الرابع: قيل المكنون المصون عن الكسر، أي إنهن عذارى.
التفسير الخامس: قيل أي رقتهن كرقة الجلدة التي رأسها في داخل البيضة التي تلي القشرة. وتسمى في اللغة "الغِرقِئ".
واختار ابن جرير التفسير الأول. أي: شبهن بياض البيض داخل القشر (الجلدة المُلبَسَة المُحّ) قبل أن تمسه يد. قال: (وذلك لا شك هو المكنون، فأما القشرة العليا فالطائر يمسها والأيدي تباشرها والعُشّ يلقاها، والعرب تقولى لكل مَصُون مكنون سواء كان لؤلؤًا أم بيضًا أم مَتاعًا. قال: وتقول لكل شيء أضمرته الصدور: أكنّته فهو مُكنٌّ).
قلت: وخلاصة المعنى عندي أن الله سبحانه قد خَبَّأ للمؤمنين في الجَنَّة زوجات هن
خلاصة في البياض الفاتن الجذّاب، وغاية في الرقة والحسن: كرقة جلدة البيض الداخلية، وكحسن وصفاء البيض داخل القشرة، وكبيض النعام المغطّى بالريش وكاللؤلؤ في أصدافه، عذارى لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان، وزوّدهن بأسباب الفتنة والرقة والجمال تكرمة الله لأهل الإيمان.
50 -
74. قوله تعالى: {فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (50) قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ (51) يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ (52) أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَدِينُونَ (53) قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ (54) فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ (55) قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ (56) وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (57) أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ (58) إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (59) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (60) لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ (61) أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ (62) إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ (63) إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ (64) طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ (65) فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ (66) ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِنْ حَمِيمٍ (67) ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ (68) إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ (69) فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ (70) وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ (71) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ (72) فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (73) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (74)}.
في هذه الآياتِ: يخبر سبحانه عن بعض حديث أهل الجَنَّة وهم يتذكرون حوادث الدنيا التي صمدوا لها وعاكسوا أهواء الشياطين وأهل الهوى فيها، وهو جلوس اليوم على السرر يتنادمون ويتسامرون على شرابهم وطعامهم وفي اجتماعاتهم ولقاءاتهم ومجالسهم، والخدم يحيط بهم من كل جانب يتسابقون لخدمتهم وتوفير أطيب الطعام لهم وألذ الشراب وأجمل اللباس والرفاه والنعيم. فقال قائل منهم: إني كان لي صاحب بقي على الكفر وكان يقول - للمؤمن - مستبعدًا: أأنت تصدق بالبعث بعد الفناء، وبالحساب بعد انعدام البقاء، وقد صارت الأجساد عظامًا ورفاتًا! فاطلع المؤمن من مجلسه في الجَنَّة فاأصره الله مقعد صاحبه في جهنم، فحمد الله قائلًا له: والله إنك
كدت تهلكني لو أطعتك، ومضيت في سبيلك، ولكن الله مَنَّ علي بصحبة أهل الإيمان، ومخالفتك والتصديق بالحق وتعظيم الله والخوف من لقائه، ولولا ذلك لكنت محضرًا معك، فاليوم لا موت بل خلود في دار الكرامة، ولا عذاب فهو النعيم المقيم، وهو الفوز العظيم.
فلمثل هذا الذي أعطى الله المؤمنين - من الكرامة في الآخرة - ليعمل العاملون، ليدركوا هذا بطاعة ربهم. لكن هل يقارن هذا الفضل بشجرة الزقوم طعام أهل النار، أنبتها الله في النار التي تحرق الخشب تحديًا لهم ومخالفة لعقولهم التي لم تدرك عظمة الله الذي يخلق ما يشاء، فكانت بذلك فتنة لهم أن كذبوا الرسل وعاندوا القدر. ثم إنها شجرة قبيحة ثمارها كرؤوس الشياطين في القبح ولا بد لهم من أكلها ليشبعوا منها داء وسمًّا ورجسًا وقيحًا وصديدًا.
ثم إنهم لشاربون على هذا الزقوم شرب الحميم ليهضموها، ثم هم باقون في عناء وعذاب في نار جهنم، فمرجعهم دومًا إليها بعد الطعام وقبله، فلقد مضوا في حياتهم معظمين سيرة الآباء وما فيها من كبر وحب للرياسة والظلم، فساروا على منهاجهم وكذبوا بالحق الذي أكرمهم الله به على لسان المرسلين، ولقد كان لهم فيما مضى من الأمم عبرة لمن شاء منهم أن يَذكَرَ أو أراد شكورًا، أن دمرهم الله يوم كذبوا الرسل المنذرين، فهلا نظروا واعتبروا إلامَ صار أمر من قبلهم، وما الذي أعقبهم كفرهم بالله ومنهاج رسله، ولكن الله نجَّى المخلصين الذين اتبعوا المرسلين. فإلى تفصيل ذلك:
فعن قتادة: ({فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ} قال: أهل الجَنَّة).
قال القرطبي: (أي يتفاوضون فيما بينهم أحاديثهم في الدنيا. وهو من تمام الأنس في الجَنَّة. وهو معطوف على معنى {يُطَافُ عَلَيْهِمْ}. المعنى: يشربون فيتحادثون على الشراب كعادة الشراب). وقال ابن كثير: (أقبل بعضهم على بعض يتساءلون عن أحوالهم وكيف كانوا في الدنيا وما إذا كانوا يعانون فيها، وذلك من حديثهم على شوابهم واجتماعهم في تنادمهم ومعاشرتهم في مجالسهم وهو جلوس على السرر، والخدم بين أيديهم يسعون ويجيئون بكل خير عظيم من مآكل ومشارب وملابس وغير ذلك مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر).
وقد جيء به ماضيًا كما عودنا الله سبحانه في إخباره، فإن ذلك سيكون يومًا ماضيًا قد تحقق.
وقوله تعالى: {قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ} . في مفهوم القرين أكثر من معنى:
1 -
القرين شيطان. قال مجاهد: ({إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ}، قال: شيطان). أي قرينه من الشيطان كان يوسوس له بإنكار البعث.
2 -
قرين: أي صديق ملازم أو شريك له من بني آدم.
فعن ابن عباس: (هو الرجل المشرك يكون له الصاحب في الدنيا من أهل الإيمان، فيقول له المشرك: إنك لتصدِّق بأنك مبعوث من بعد الموت أئذا كنا ترابًا؟ فلما أن صاروا إلى الآخرة وأدخل المؤمن الجَنَّة وأدخل المشرك النار، فاطلع المؤمن فرأى صاحبه في سواء الجحيم: ). {قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ}
قلت: والمعنى الثاني أرجح، لأن الشيطان يمكن أن يوسوس لكل واحد بإنكار البعث - فلا خصوصية للحدث هنا - والله تعالى أعلم.
وقوله: {يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ} . من التصديق وليس من التصدّق.
قد قرأها عامة القراء بتخفيف الصاد، لكن روي عن حمزة قراءتها بتشديد الصاد "المُصَّدِّقين" أي أئنك لمن المتصدقين بالمال طلبًا لثواب الآخرة.
والقراءة الأولى أشهر وأرجح، إذ لا معنى للصدقة هنا، لقوله تعالى بعدها:{أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَدِينُونَ} . قال ابن عباس: (يقول: أئنا لمجازون بالعمل كما تدين تُدان). أي هل نحن مجزيون محاسبون بعد الموت؟ أتصدق هذا؟
وقوله تعالى: {قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ} . في تحديد قائله تفاسير:
التفسير الأول: هو من قول الله تعالى لأهل الجَنَّة.
التفسير الثاني: هو من قول المؤمن لإخوانه في الجَنَّة، هل أنتم مطلعون إلى النار لنظر حال ذلك القرين؟ !
التفسير الثالث: هو من قول الملائكة.
والراجح التفسير الثاني أنه من قول القائل هل أنتم مطلعون إلى النار من كوى الجَنَّة ومطالّها لأريكم ذاك القرين بين أهل النار.
رُوي عن كعب الأحبار: (إن في الجَنَّة كُوى إذا أراد أحد من أهلها أن ينظر إلى عدوه في النار اطلع فيها فازداد شكرًا).
وفي الكلام محذوف تقديره - قالوا: نعم -.
وقوله تعالى: {فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ} . قال ابن عباس: (يعني في وسط الجحيم). وقال مطرف بن عبد الله: (والله لولا أنه عُرِّفَه ما عرفه، لقد غيرت النار حِبْرَه وسِبْرَه) - أي لونه وهيئته.
وطَلَع وأطْلَعَ واطّلَع بمعنى واحد. وفي كلام العرب: تعبت حتى انقطع سوائي أي وسطي.
وقوله تعالى: {قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ} . قال السدي: (لتهلكني). والردى: الهلاك. وقيل: لتوقعني في النار.
وقوله تعالى: {وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ} . قال قتادة: (أي في عذاب الله).
يَعني: ولولا نعمة الله علي بالهداية والتوفيق والتثبيت على الإيمان لكنت محضرًا معك في العذاب.
وقوله تعالى: {أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ (58) إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} - فيه تفاسير:
التفسير الأول: هو من قول المؤمن على جهة الحديث بنعمة الله، بأنهم لا يموتون ولا يعذبون، أي هذه حالنا وصفتنا لا موت بل نعيم دائم مقيم.
التفسير الثاني: هو من قيل أهل الجَنَّة للملائكة حين يُذبح الموت. ويقال: يا أهل الجَنَّة خلود ولا موت، ويا أهل النار خلود ولا موت.
فعن قتادة: (قوله: {أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ} إلى قوله: {الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}. قال: هذا قول أهل الجَنَّة).
التفسير الثالث: هو من قول المؤمن توبيخًا للكافر الذي أنكر البعث وليس عنده إلا الموت في الدنيا.
التفسير الرابع: قيل الهمزة في {أَفَمَا} للاستفهام، دخلت على فاء العطف والمعطوف محذوف، فيكون المعنى: أنحن مخلدون منعمون، فما نحن بميتين ولا معذبين.
قلت: وكلها تفاسير متقاربة، وإن كان السياق يدل على استمرار حديث المؤمن الذي أشار بعدها إلى غاية فرحه وفوزه إذ نجّاه الله من متابعة قرين السوء وصاحب
الهوى والدنيا، فآثر الآخرة على الملذات الفانية، فاليوم يقول:{إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} .
وقوله تعالى: {لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ} . فيه أكثر من تأويل:
التأويل الأول: أنَّه من قول المؤمن، وهو مناسب للسياق، لما رأى ما أعدَّ الله له في الجَنَّة فقال: لمثل هذا النعيم والفوز والفضل والعطاء ليعمل العاملون في الدنيا ليصيروا إليه في الآخرة.
التأويل الثاني: قيل هو من قول الملائكة.
التأويل الثالث: قيل بل هو من قول الله عز وجل لأهل الدنيا، أي: قد سمعتم عن كرامة المؤمنين في الجَنَّة وما يلقونه من الحفاوة والتكريم والتلذذ بالخيرات والنساء وألوان الطعام والشراب والثياب، فليعمل عامل أراد وأحب مثل هذا المصير يوم القيامة.
قلت: وكلها معان يحتملها البيان الإلهي وهي من جنس اختلاف التنوع لا التضاد، مفادها أن الفوز العظيم في الجَنَّة لمن استقام على الحق ودافع عنه، ومضى على منهاج النبوة معظمًا الوحي والحق وداعيًا إليه.
وقوله: {أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا} .
قال بعض أهل اللغة: النُّزْل: ما يُهَيَّأُ للنزيل، والجمع أنْزال. والنُّزُلُ والنُّزل لغتان، والمعنى هنا: الفضل والضيافة والعطاء. وفي التنزيل: {جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا} [الكهف: 107].
قال الأخفش: (هو من نزول الناس بعضهم على بعض. يقال: ما وَجْدَنا عندكم نُزُلا).
وقال النحاس: (والنُّزُل في اللغة الرزق الذي له سعة). ويقال: أقيم للقوم نُزُلهم.
وأصله الغِذاء الذي يصلح أن ينزلوا معه ويقيموا فيه.
وقوله: {شَجَرَةُ الزَّقُّومِ} . قال القرطبي: (وشجرة الزقوم مشتقة من التزقم وهو البلع على جهد لكراهتها ونَتْنِها).
والمعنى: فهل نعيم الجَنَّة وما فيها من ملاذ الطعام والشراب خيرٌ ضيافة ورزقًا واستقبالًا وعطاء أم شجرة الزقوم طعام أهل النار؟ !
وقوله تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ (63) إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ} .
قال قتادة: (لما ذكر شجرة الزقوم افتتن الظلمة فقالوا ينبئكم صاحبكم هذا أن في النار شجرة، والنار تأكل الشجر، فأنزل الله ما تسمعون: {إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ} غذيت بالنار ومنها خلقت). قال ابن كثير: (ومعنى الآية: إنما أخبرناك يا محمد بشجرة الزقوم اختبارًا نختبر به الناس مَن يصدق منهم ممن يكذب).
وعن السَّدي، قال:(قال أبو جهل لما نزلت: {إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ} قال: تعرفونها في كلام العرب أنا آتيكم بها، فدعا جارية فقال: ائتيني بتمر وزُبْد، فقال: دونكم تَزَقَّموا، فهذا الزقوم الذي يخوفكم به محمد، فأنزل الله تفسيرها: {أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ (62) إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ}. قال: لأبي جهل وأصحابه).
أي: سيتزقم أبو جهل الزقوم مزيجًا بالحميم والصديد كما كان يتزقم التمر بالزبد في الدنيا.
وعن مجاهد: ({إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ} قال: قول أبي جهل إنما الزقزم التمر والزبد أتزقَّمه).
فجعلها سبحانه فتنة للمشركين لما استبعدوا الأمر بعقولهم فقالوا: كيف يكون في النار شجرة، والنار تحرق الشجر، وذلك كما استبعدوا قبل ذلك قبول خلق الأغلال والقيود والحيات والعقارب وخزنة النار في جهنم، فحمل هذا الاستبعاد من جاء بعدهم من أهل الرأي والفلسفة والتحاكم للعقل فوق الوحي أن صرفوا الجَنَّة والنار إلى نعيم أو عقاب تتخلله الأرواح، وَزَوَّرُوا حقائق الغيب لتتلاءم وقصر عقولهم وضيق نفوسهم وآفاقهم، مشككين فيما أجمعت عليه الأمة الذي لا يجوز تأويله بل التسليم للوحي فيه.
وقيل بل المعنى بقوله: {فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ} أي عقوبة لهم على ما كذبوا وعاندوا، كقوله:{ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (14)} [الذاريات: 14]. فنسأل الله الثبات على الإيمان بالغيب وتعظيم الوحي، وأن ينوِّر عقولنا سبحانه بنور هذا الوحي حتى يصدر عنها الفهم المنير المستقيم الذي لا يختلط بالأقيسة العقلية الفاسدة أو الحيل الشيطانية المختلفة، والله الموفق.
والخلاصة: أنَّها - أي شجرة الزقوم - شجرة تخرج في قعر جهنم ثم تتفرع فيها، {طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ} - أي ثمرها شبه في قبحه برؤوس الشياطين.
وهو تبشيع لها وتكريه لذكرها وتمثيل لقبحها. وقد سمي الطلع طلعًا لطلوعه، ثم إن نسبها في القبح لأعيان الشياطين وتشبيه طلعها برؤوسهم التي استقر قبحها في النفوس - وإن كان غير مرئي - هو أبلغ في بيان حقيقتها المؤذية.
وقد صار مثلًا في حياة الناس قولهم لكل قبيح هو كصورة الشيطان، كما يصفون كل صورة جميلة حسنة بصورة الملك - كقول صواحب يوسف:{مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ} [يوسف: 31].
قال ابن جرير: (كان طلع هذه الشجرة يعني شجرة الزقوم في قبحه وسماجته رؤوس الشياطين في قبحها).
قلت: ولهذا التشبيه التخييلي في نفوس الناس أصل إذا علم أن من الشياطين من هو في صورة الحيات والأفاعي والكلاب، فيستقر بذلك في النفوس القبح والخبث.
فقد أخرج الطبراني في معجمه "الكبير"، والحاكم في مستدركه، والبيهقي في "الأسماء" بسند صحيح عن أبي ثعلبة الخشني رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {الجِنُّ ثلاثة أصناف: فصِنف لهم أجنحة يطيرون بها في الهواء، وصِنْفٌ حيات وكِلاب، وصِنْفٌ يحِلُّون ويظعنون] (1).
وكذلك أخرج الطبراني في "الكبير"، وابن حبان في صحيحه، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[الحيَّات مَسْخٌ الجِنِّ صورة، كما مُسِخَت القردةُ والخنازير من بني إسرائيل](2).
وقوله تعالى: {فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ} .
هو كقوله تعالى: {لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ (6) لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ} [الغاشية: 6، 7]. فلا بد لهم من أكلها إذ لا طعام غيره، وبه ستمتلئ بطون الكفار في النار.
أخرج الإمام أحمد في المسند، والترمذي في الجامع، بسند صحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: [لو أن قطرةً من الزقوم قطرت في دار الدنيا
(1) حديث صحيح. رواه الطبراني والحاكم والبيهقي من حديث أبي ثعلبة الخشني. انظر تخريج المشكاة (4148)، وصحيح الجامع (3109).
(2)
حديث صحيح. أخرجه ابن حبان (1080)، والطبراني في "الكبير"(11946)، وانظر: سلسلة الأحاديث الصحيحة - حديث رقم - (1824).
لأفسدت على أهل الدنيا معايشهم، فكيف بمن تكون طعامه] (1).
وفي رواية: [أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تلا هذه الآية وقال: اتقوا الله حق تقاته، فلو أن قطرة من الزقوم قطرت في بحار الدنيا لأفسدت على أهل الأرض معايشهم، فكيف بمن يكون طعامه].
وقوله تعالى: {ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِنْ حَمِيمٍ} . أي: بعد أكلهم من تلك الشجرة، يسقون من ماء حميم يقطع أمعاءهم. والشَّوْب لغة: الخلط والمزج، والعرب تقول: شاب فلان طعامه وشرابه إذا خلطهما بشيء يشوبهما شوبًا وشيابة، وأصل الحميم الماء المحموم الذي أسخن فانتهى حرّه، وأصله على وزن مفعول فصرف إلى فعيل. وفي ذلك تفاسير:
التفسير الأول: أنَّه شراب حار يشربونه بعد طعامهم. فعن ابن عباس: (قوله: {ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِنْ حَمِيمٍ} قال: يقول: لمزجًا، يعني شرب الحميم على الزقوم).
التفسير الثاني: هو أنه يمزج لهم الزقوم بالحميم ليُجمع لهم بين مرارة الزقوم وحرارة الحميم، تغليظًا لعذابهم وتجديدًا لبلائهم. فعن السدي قال:(الشوب: الخَلْط وهو المزج).
التفسير الثالث: هو أن الحميم يخلط بالصديد الخارج من قيحهم وأجسامهم.
فعن ابن زيد: {ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِنْ حَمِيمٍ} قال: حميم يُشاب لهم بغساق مما تَغْسِقُ أعينهم وصديد من قيحهم ودمائهم مما يخرج من أجسادهم).
وخلاصة المعنى: إنهم يُدْعَون إلى شراب حار ممزوج بالقيح والغساق والصديد ليهضموا به طعامهم من شجرة الزقوم المزة المؤذية، كما قال جل ذكره في سورة محمد:{وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ} .
وقوله تعالى: {ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِنْ حَمِيمٍ} فيه أكثر من تأويل:
التأويل الأول: أنَّ الحميم خارج الجحيم فيشربون ثم يعودون. قال مقاتل: (الحميم خارج الجحيم فهم يوردون الحميم لشربه ثم يردُّون إلى الجحيم، لقوله
(1) حديث صحيح. أخرجه أحمد (1/ 300 - 301)، والترمذي (2585)، وابن حبان (7470).
وأخرجه النسائي وابن ماجة. انظر صحيح الجامع (5126)، وتخريج المشكاة (5683).
تعالى: {هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ (43) يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ} [الرحمن: 43، 44]).
وقال القشير: (ولعل الحميم في موضع من جهنم على طرف منها).
وقال النسفي: (أي أنه يذهب بهم عن مقارهم ومنازلهم في الجحيم وهي الدركات التي أسكنوها إلى شجرة الزقوم فيأكلون إلى أن يمتلئوا، ويسقون بعد ذلك ثم يرجعون إلى دركاتهم، ومعنى التراخي في ذلك ظاهر).
التأويل الثاني: أن تكون ثم بمعنى الواو. أي هم في عناء مستمر قبل الطعام والشراب وبعده.
فعن قتادة: ({ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ} قال: فهم في عناء وعذاب من نار جهنم.
وتلا هذه الآية: {يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ} ).
قال أبو عبيدة: (يجوز أن تكون {ثُمَّ} بمعنى الواو). وقال القاسمي: (أي مصيرهم إلى دركاتها أو إلى نفسها لا مفر لهم منها ولا محيص كيفما تحولوا).
التأويل الثالث: قيل: إن هذا يدل على أنهم كانوا حين أكلوا الزقوم في عذاب غير النار ثم يردون إليها. ذكره القرطبي.
قلت: وبالجمع بين هذه التفاسير نخلص إلى أن الكافرين لما جاعوا كان الطعام عقوبة لهم، ولما عطشوا بعد الطعام كان الشراب حميمًا يقطع أمعاءهم، ثم عادوا من تلك الوجبة إلى المعاناة في دركات جهنم من لفحها وسمومها، فهم ينتقلون من عناء إلى عناء.
وقوله تعالى: {إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ (69) فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ} .
الإهراع في لغة العرب: الإسراع. قال الفراء: (الإهراع الإسراع برعدة).
وقال أبو عبيدة: {وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ} [هود: 78]، قال: يُسْتَحَثُّون إليه كأنهم يَحُثُّ بعضهم بعضًا). وأهرع فلان: إذا سار سيرًا حثيثًا فيه شبه بالرعدة. ويقال: جاء فلان يُهرع إلى النار إذا استحثه البرد إليها.
قال ابن جرير: (فهؤلاء وجدوا آباءهم ضلالا عن قصد السبيل غير سالكين محجّة الحق فهؤلاء يُسرع بهم في طريقهم ليقتفوا آثارهم وسنتهم).
وقيل: يزعجون من شدة الإسراع، هُرعَ وأهْرعَ إذا أزعِجَ.
فعن ابن عباس: (قوله: {إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ} أي وجدوا آبَاءَهُمْ ضالين).
وعن مجاهد: {فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ} قال: كهيئة الهرولة). وعن السدي: ({يُهْرَعُونَ} قال: يسرعون). وقال ابن زيد: (يستعجلون إليه).
والخلاصة: أنَّ هؤلاء المشركين المعظمين غير الله المحتكمين لغير شرعه ومنهاجه آثروا تقليد الآباء في طريقتهم ونهجهم رغم عوارها وانحرافها على الاحتكام للحق والقرآن وما فيه من التحذير من سبل الهوى ومواقع الفتن والهلاك، وكيف كان مصير الأمم قبلهم حين تحاكمت للأعراف والتقاليد والآباء دون برهان من الله ونور من الوحي، فقال جل ثناؤه:{وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ (71) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ (72) فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ} . فانظر يا محمد وتأمّل كيف صيَّرنا أمر من كذبوا رسلنا وأنبياءنا حين أنذروهم بطشتنا إذا استمروا على الكفر وآثروا تعظيم الشهوات على الحق. أفلم نهلكهم فنجعلهم عبرة وعظة لمن جاء بعدهم ليعتبروا ويتعظوا كيف كان غِبُّ أمر من أصروا على البغي وكذبوا الرسل.
وقوله: {إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ} . قال السدي: (الذين استخلصهم الله).
أي استخلصهم من الكفر، فهو استثناء من {الْمُنْذَرِينَ}. وقيل: بل هو استثناء من قوله: {وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ} . وكلا المعنيين سالك قائم، والله تعالى أعلم.
75 -
113. قوله تعالى: {وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ (75) وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76) وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ (77) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (78) سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ (79) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (80) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (81) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (82) وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ (83) إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (84) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ (85) أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ (86) فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (87) فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (88) فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ (89) فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ (90) فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ (91) مَا لَكُمْ لَا تَنْطِقُونَ (92) فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ (93) فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ (94) قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ (95) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ (96) قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ (97)
فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ (98) وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ (99) رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (100) فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ (101) فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَابُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَاأَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102) فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَاإِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ (106) وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (107) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (108) سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ (109) كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (110) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (111) وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (112) وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ (113)}.
في هذه الآياتِ: يخاطب الله تعالى نبيّه محمدًا عليه الصلاة والسلام ويخبره بما لقي النبيون قبله من أقوامهم وكم صبروا على دعوتهم، وكم تحملوا من إيذائهم، فهذا نوح صلوات الله وسلامه عليه لما عاندوه وواجهوه بالاستهزاء بعد صبر طويل دعا ربه سبحانه أني مغلوب فانتصر، فاستجاب له تعالى وقال:{فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ} كنا له إذ دعانا، فأهلكنا قومه بطوفان عظيم، فهلكوا غرقًا وجعلنا ذرية أتباعه المؤمنين باقية من بعد هلاكهم، إذ الناس اليوم كلهم من ذريته، فالعجم والعرب أولاد سام بن نوح، والترك والصقالبة أولاد يافث، والسودان أولاد حام بن نوح، وتركنا لنوح في الأرض الثناء الحسن بين الناس، فلا يذكر إلا بخير، فسلام وأمان على نوح في العالمين من أن يذكره أحد بسوء، فقد نجاه الله والمؤمنين، وأهلك بقية قومه المكذبين. وإن من أهل دينه ومنهاجه إبراهيم عليه أزكئ الصلاة وأتم التسليم، إذ نبذ الشرك والأوثان وتوجه إلى الله بقلب سليم. وخاطب أباه وقومه أن ينتهوا عن الشرك بالله ويفردوه سبحانه بالتعظيم، قال فما ظنكم يوم تلقونه وقد صرفتم العبادة لغيره وهو الله الواحد الأحد العظيم. فَدَعَوْهُ لعيدهم فنفر منهم بدعوى أنه سقيم، ثم انطلق إلى آلهتهم يستنطقهم ألا تأكلون، فجعل يضربها باليمين حتى أقبلوا إليه يستعجلون، فقال لهم أتعبدون ما تنحتون، والله خلقكم وأعمالكم وما تكسبون، فحاولوا أن يلقوه في الجحيم فردهم الله بكيدهم وما يمكرون، فأعلن براءته منهم ومن شركهم، وأنه ذاهب إلى الله بعمله وقلبه ونيته، ومهاجر وتاركهم مستأنسًا بدعاء الله الكريم، أن يهب له
ذرية من الصالحين. فلما فاصلهم وعظَّم منهاج رب العالمين، وهبَ له غلامًا آنَسه به ثم ابتلاه بأمره أن يذبحه حتى يفرغ القلب لله العظيم، ففعل وتلّه للجبين، ففداه الله بذبح عظيم، ورضي بذلك عن قلب إبراهيم، واصطفاه من بين العالمين، ثم بشره بإسحاق نبيًا من الصالحين. وبارك عليهما ومن ذريتهما طائع لربه محسن وظالم لنفسه مبين. فإلى تفصيل ذلك:
قوله تعالى: {وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ} . قال قتادة: (أجاب الله).
والنداء هو الاستغاثة. قال ابن جرير: (ولقد نادانا نوح بمسألته إيانا هلاك قومه فقال: {قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا (5) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا} [نوح: 5، 6] إلى قوله: {رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا} [نوح: 26]. فلنعم المجيبون كنا له إذ دعانا فأجبنا له دعاءه فأهلكنا قومه {وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ} قال: من الأذى والمكروه الذي كان فيه من الكافرين، ومن كرب الطوفان والغرق الذي هلك به قوم نوح. {وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ} قال: يقول: وجعلنا ذرية نوح هم الذين بقوا في الأرض بعد مَهْلك قومه، وذلك أن الناس كلهم من بعد مَهْلك نوح إلى اليوم إنما هم ذريّة نوح، فالعجم والعرب أولاد سام بن نوح، والترك والصقالبة والخَزَر أولاد يافث بن نوح، والسودان أولاد حام بن نوح).
وعن قتادة قال: (فالناس كلهم من ذرية نوح).
ففي الذرية تفسيران:
التفسير الأول: أنَّهم من نسل أولاده.
فعن السدي: ({وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ}. قال: من الغرق). قال ابن عباس: (لما خرج نوح من السفينة مات من معه من الرجال والنساء إلا ولده ونساءه، فذلك قوله: {وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ}).
وعن سعيد بن المسيب قال: (كان ولد نوح ثلاثة والناس كلهم من ولد نوح، فسام أبو العرب وفارس والروم واليهود والنصارى، وحام أبو السودان من المشرق إلى المغرب: السند والهند والنوب والزنج والحبشة والقبط والبربر وغيرهم، ويافث أبو الصقالبة والترك واللان والخزر ويأجوج وماجوج وما هنالك).
التفسير الثاني: أنَّهم أهل الإيمان الذين آمنوا معه.
قلت: وهذا هو الراجح عندي، فليست قرابة النسل والدم هي المقصودة - والله تعالى
أعلم - ودليل ذلك قوله سبحانه في الآية الآخرى: {قِيلَ يَانُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ (48)} [هود: 48].
وقوله: {ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ} [الإسراء: 3]. فكلتا الآيتين تدل أن ثَمَّ ذرية ونسلًا لغير ولد نوح، وإنما نجى الله المؤمنينن وجعل ذريتهم هم الباقين إذ أغرق سبحانه من كفر، والله تعالى أعلم.
قال القاسمي: (والمراد بأهله من آمن معه). وقال النسفي: ({وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ} قال: ومن آمن به وأولاده).
وقوله تعالى: {وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (78) سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ} .
قال ابن عباس: (يقول: يُذكر بخير). وقال قتادة: (أبقى الله عليه الثناء الحسن في الآخرين). وقوله: {فِي الْآخِرِينَ} فيه تفاسير:
التفسير الأول: أي تركنا عليه ثناء حسنًا في كل أمة، فإنه محبب إلى الجميع - ذكره مجاهد.
التفسير الثاني: أي تركنا عليه هذه الكلمة باقية، يعني يسلمون عليه تسليمًا ويدعون له.
التفسير الثالث: أي في أمة محمد صلى الله عليه وسلم.
التفسير الرابع: قيل في الأنبياء إذ لم يبعث بعده نبيّ إلا أمر بالاقتداء به، كما قال الله تعالى:{شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا} [الشورى: 13].
والحق أن ذكر نوح جميل في الأرض، والثناء عليه قائم بين الأنبياء والأمم، حتى أني أذكر أني رأيت في بعض الجامعات التابعة للكنيسة في أمريكا قصة الخلق وهم يعرضونها بطريقة ضوئية صوتية مسرحية، وهم يعبّرون بها عن مجاهدة نوح قومه ودعوته إليهم - وقومه يستهزئون ويضحكون ويسخرون - ويشيرون إلى جهاده بالثناء الحسن.
فذكر نوح حسن بين الناس جميعًا صلوات الله وسلامه عليه.
وقوله: مبتدأ وخبر. والتقدير {سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ} : تركنا عليه هذا الكلام الحسن {سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ} . أو يكون التقدير: فقلنا {سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ} . قال النسفي: (أي ثبت هذه التحية فيهم جميعًا ولا يخلو أحد منهم منها كأنه قيل ثبت الله التسليم على نوح وأدامه في
الملائكة والثقلين يسلمون عليه عن آخرهم. {إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} .
قال: علل مجازاته بتلك التكرمة السنية بأنه كان محسنًا {إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ} . قال: ثم علل كونه محسنًا بأنه كان عبدًا مؤمنًا ليريك جلالة محل الإيمان وأنه القصارى من صفات المدح والتعظيم).
فجزاه الله أحسن الجزاء إذ أبقى ذكره عطرًا في الأرض، فهو الكريم سبحانه لا يضيع الإحسان لديه، وهو المؤمن جل ثناؤه لا يضيع الإيمان وأهله بين يديه، بل كما قال جل ثناؤه:{إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [يوسف: 90]. فقمة الإيمان هي مرتبة الإحسان كما وصفها النبي صلى الله عليه وسلم لجبريل عليه السلام حين قال له: أخبرني عن الإحسان؟ قال: [أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك].
وقوله تعالى: {ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ} . قال قتادة: (أنجاه الله ومن معه في السفينة وأغرق بقية قومه). فلم يبق إلا ذكرهم القبيح في الأرض، وكان سبب إغراقهم أن تأخروا عن الإيمان، وضيَّعوا العمر باللهو والشهوات والإجرام، ومحاولة الاستهزاء بالمؤمنين والنيل من أهل الإحسان.
قال القرطبي: (و {ثُمَّ} ليس للتراخي هاهنا، بل هو لتعديد النعم، كقوله: {أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ (16) ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا} [البلد: 16، 17]. أي ثم أخبركم أني قد أغرقت الآخرين، وهم الذين تأخروا عن الإيمان).
وقوله تعالى: ({وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ}. قال مجاهد: (على منهاج نوح وسنته).
وفي رواية: (على منهاجه وسنته). وقال ابن عباس والسدي: (أي من أهل دينه). وقيل: إن من شيعة محمد لإبراهيم - ذكره بعض أهل العربية -، وإن كان السياق يدل على الأول، فهو المذكور أولًا، إي إن إبراهيم مضى على منهاج نوح عليهما الصلاة والسلام.
وقوله تعالى: {إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} . قال السدي: (من الشرك). أي قلب سليم من الشرك. قال مجاهد: (لا شك فيه). وعن هشام بن عروة قال: (كان أبي يقول لنا: يا بني لا تكونوا لعَّانين، الم تروا إلى إبراهيم لم يلعن شيئًا قط، فقال تعالى: {إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ}). وقال القاسمي: (أي أقبل إلى توحيده بقلب خالص من الشوائب،
باق على الفطرة، سليم عن النقائص والآفات، محافظ على عهد التوحيد الفطري، منكر على من غيّر وبدّل).
وقال النسفي: " ({وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ (83) إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ}. قال: أي من شيعة نوح، أي ممن شايعه على أصول الدين أو شايعه على التصلب في دين الله ومصابرة المكذبين. قال: ومعنى المجيء بقلبه ربه أنه أخلص لله قلبه وعلم الله ذلك منه فضرب المجيء مثلًا لذلك).
وحكى الزمخشري: أنَّه ما كان بين نوح وإبراهيم إلا نبيان، هود وصالح. وكان بين نوح وإبراهيم ألفان وست مئة وأربعون سنة - ذكره القرطبي.
وقال: (ويحتمل مجيئه إلى ربه وجهين: أحدهما عند دعائه إلى توحيده وطاعته، الثاني عند إلقائه في النار).
قلت: وسلامة القلب كناية عن السلامة كلها، وعن السلامة والأمن في الدنيا والآخرة. كما في الحديث:[إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب](1).
قال عوف الأعرابي: (سألت محمد بن سيرين ما القلب السليم؟ فقال: الناصح لله عز وجل في خلقه).
وقوله تعالى: {إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ (85) أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ} .
فأنكر على أبيه آزر وعلى قومه عبادة الأوثان والأصنام. وبقوله: {مَاذَا تَعْبُدُونَ} فإن "ما" و"ذا" في محل نصب، والتقدير: تعبدون ماذا. وقد تكون "ما" مبتدأ وخبره "ذا". والإفك أسوأ الكذب. وقوله: {أَئِفْكًا} حال منصوب - أي: تريدون آلهة آفكين. وقوله: {آلِهَةً} في محل نصب بدل من "إفْكًا". أو في محل نصب مفعول به لتريدون.
والمعنى: أتريدون بطريق الإفك والكذب آلهة دون الله {فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} .
وفيه تفسيران:
الأول: - {فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} - أنه فاعل بكم يوم تلقونه وقد عظمتم سواه وخضعتم لغيره وعبدتم من دونه. قال قتادة: ({فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} يقول: إذا لقيتموه وقد عبدتم غيره). وهو تحذير، كقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ
(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري ومسلم. انظر مختصر صحيح مسلم (956)، وكتابي: أصل الدين والإيمان (1/ 325) للروايات المختلفة. وهو جزء من حديث أطول.
الْكَرِيمِ (6) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7) فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ} [الانفطار: 6 - 8].
أخرج الإمام مسلم عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[قال الله تعالى: الكبرياء ردائي، والعِزُّ إزاري، فمن نازعني في شيء منهما عذبته](1).
ورواه الإمام أحمد عنه بلفظ: [قال الله تعالى: الكبرياء ردائي، والعظمة إزاري، فمن نازعني واحدًا منهما قذفته في النار](2).
ورواه الحاكم بسند صحيح عن أبي هريرة ولفظه: [قال الله تعالى: الكبرياء ردائي، فمن نازعني في ردائي قصمته](3).
وأخرج البزار عن أبي هريرة، وأبو نعيم في الحلية، عن شداد بن أوس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[قال الله تعالى: وعزتي وجلالي، لا أجمع لعبدي أمْنَين ولا خوفين، إن هو أمنني في الدنيا أخفته يوم أجمع عبادي، وإن هو خافني في الدنيا أمّنته يوم أجمع عبادي](4).
فمن لاقى الله متكبرًا على طاعته وعبادته فلا أمن له، بل الفزع والخوف والقلق من المهاول يوم القيامة، إذ الأمن هو الإيمان وفي أهل الإيمان، والخوف في الكفر والكبر وفي أهل الكبر.
الثاني: قيل بل المعنى: أي شيء أوهمتموه حتى أشركتم به غيره.
قال القاسمي: (والمعنى: لا يقدّر في وهم ولا ظن ما يصد عن عبادته. لأن استحقاقه للعبادة أظهر من أن يختلج عرق شبهة فيه).
والاستفهام إنكاري في الحالتين، أي المراد إنكار ما يقتضيه الظن، وكلا المعنيين سالك.
(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم (8/ 35 - 36)، وأخرج البخاري في الأدب المفرد (552) نحوه.
(2)
حديث صحيح. أخرجه أحمد (2/ 248)، وانظر سلسلة الأحاديث الصحيحة (541).
(3)
حديث صحيح. أخرجه الحاكم وغيره. انظر صحيح الجامع الصغير - حديث رقم - (4185).
(4)
حديث حسن. أخرجه أبو نعيم في "الحلية"(6/ 98)، والبزار كما ذكر الهيثمي في "المجمع"(10/ 308). وانظر صحيح الجامع (4208)، والسلسلة الصحيحة (742).
وقوله تعالى: {فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (88) فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ} . فيه أكثر من تأويل:
التأويل الأول: ذكر أن قومه كانوا أهل تنجيم فرأى نجمًا قد طلع فعصب رأسه وقال إني مطعون ليخرجوا عنه فيخالفهم إليها فيكسرها.
فعن ابن عباس: (فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (88) فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ}. قال: قالوا له وهو في بيت آلهتهم اخرج، فقال إني مطعون، فتركوه مخافة الطاعون). قال الضحاك:(أشار لهم إلى مرض وسقم يُعدي كالطاعون، وكانوا يهربون من الطاعون، فلذلك {فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ} أي فارين منه خوفًا من العدوى).
التأويل الثاني: أنَّهم أزف عيد لهم فدعوه للحضور لمشاركتهم فنظر إلى نجم، وأعلمهم بأن ذلك النجم لم يطلع إلا بسقم له وكانوا يعتقدون بعلم التنجيم.
قال ابن زيد: (أرسل إليه ملكهم فقال: إن غدًا عيدنا فاحضر معنا. قال: فنظر إلى نجم فقال: إن ذلك النجم لم يطلع قط إلا طلع بسقم لي، فقال: {إِنِّي سَقِيمٌ}).
وفي رواية: (فنظر إلى نجم طالع فقال: (إن هذا يطلع مع سقمي).
قال القرطبي: (وكان علم النجوم مستعملًا عندهم منظور فيه، فأوهمهم هو من تلك الجهة، وأراهم من معتقدهم عذرًا لنفسه، وذلك أنهم كانوا أهل رعاية وفلاحة، وهاتان المعيشتان يحتاج فيهما إلى نظر في النجوم).
التأويل الثالث: أي إنهم لما طلبوا منه الخروج معهم نظر إلى السماء متفكرًا ماذا يعمل وقال لهم كلامًا فهموا منه أنه سقيم على مقتضى ما يعتقدونه.
قال الحسن: (المعنى أنهم لما كلّفوه الخروج معهم تفكر فيما يعمل). وقال قتادة: (والعرب تقول لمن تفكر: نظر في النجوم). أي نظر فيما نجم له من الرأي أي فيما طلع له منه.
وقيل: فعلم أن كل حي يسقم فقال: {إِنِّي سَقِيمٌ} . أي: ضعيف.
قال الحافظ ابن كثير: (يعني أنه نظر إلى السماء متفكرًا فيما يلهيهم به).
التأويل الرابع: أي نظر في الأشياء فعلم أن لها خالِقًا ومدبرًا. فقال إني سقيم إذا ذكر الموت.
قال الضحاك: (معنى: {سَقِيمٌ} سأسقم سقم الموت، لأن من كتب عليه الموت
يسقم في الغالب ثم يموت، وهذا تورية وتعريض، كما قال للملك لما سأله عن سارّة هي أختي، يعني أخوة الدين).
وعن قتادة: ({فَتَوَلَّوْا}: فنكصوا عنه {مُدْبِريِنَ} منطلقين).
والراجح عندي أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام أوهمهم بطريقة التورية والتعريض فقال لهم كلامًا هو حق في نفس الأمر، لكنهم فهموا منه أنه سقيم حسب ما يعتقدون، وليس هذا من باب الكذب الذي يذم فاعله. وإلى هذا المعنى ذهب ابن كثير وقال:(وإنما أطلق الكذب على هذا تجوّزًا، وإنما هو من المعاريض في الكلام لمقصد شرعي ديني، كما جاء في الحديث: إن في المعاريض لمندوحةً عن الكذب).
قلت.: وهذا المعنى مخرّج في الصحيحين والمسند من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [لم يَكْذِبْ إبراهيم إلا ثلاثَ كَذَبات: ثنتين منهن في ذات الله، قولُهُ: {إِنِّي سَقِيمٌ}. وقوله: {قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} [الأنبياء: 63]. وبينما هو ذات يوم وسارَة، إذ أتى على جَبَّار من الجبابرة، فقيل له: إن هاهنا رجلًا معه امرأة من أحسن الناس، فأرسل إليه، فسأله عنها، فقال: مَنْ هذه؟ قال: أختي، فأتى سارة، فقال: يا سارة ليس على وجه الأرض مؤمن غيري وغيرك، وإن هذا سألني، فأخبرتُه أنك أختي، فلا تكذبيني، فأرسل إليها، فلما دخلت عليه ذهب يتناولها بيده، فَأخِذَ، فقال: ادعي الله لي، ولا أضرك، فدعت فأطلق، فدعا بعضَ حجبته، فقال: إنك لم تأتني بإنسان! إنما أتيتني بشيطان! فأخْدَمَها هاجر، فأتته وهو قائم يصلي، فأومأ بيده مَهْيا؟ قالت: ردّ الله كَيْدَ الفاجر في نحره، وأخدم هاجر] (1).
وقوله تعالى: {فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ (91) مَا لَكُمْ لَا تَنْطِقُونَ (92) فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ} . أصل الروغان في لغة العرب من راغ رواغًا، يقال: راغ الثعلب روغانًا ورواغًا وأراغ وارتاغ إذا طلب وأراد، وراغَ إلى كذا مال إليه سرًّا وحاد. وفلان يُراوغ في الأمر مراوغة، وراغ فلان عن فلان إذا حاد عنه.
فيكون معنى الآية: أي حاد إبراهيم وراغ عن قومه وعن الخروج معهم إلى آلهتهم، فقرب لها طعامًا فما باشرته، فعزم عليها ألا تأكلون، فاستهزأ بها بقوله: {مَا لَكُمْ لَا
(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (3358)، كتاب أحاديث الأنبياء. وكذلك أخرجه برقم (5084)، كتاب النكاج، وأخرجه مسلم (2371)، كتاب الفضائل، ورواه أحمد والطبري وغيرهم.
تَنْطِقُونَ} ثم انهال عليها بيمينه ينسفها ويكسرها بقوة. وفي الكلام محذوف تقديره: "فقرب إليها طعامًا، فلم يرها تأكل".
وعن السدي: ({فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ}، قال: ذهب إليهم). وقال قتادة: (مال إليهم).
وقال الكلبي: (أقبل إليهم). وقيل: جاء إليهم وعَدَلَ إليهم. وكله بإمعنى واحد بمعنى مال، ومنه قول الشاعر:
ويريك من طرف اللسان حلاوة
…
ويروغ عنك كما يروغ الثعلب
وطريق رائغ: أي مائل.
وعن قتادة: ({فَقَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ} يستنطقهم {مَا لَكُمْ لَا تَنْطِقُونَ}؟ {فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ}: فأقبل عليهم يكسرهم).
قال ابن عباس: (لما خلا جعل يضرب آلهتهم باليمين). وقال الضحاك: (خصّ الضرب باليمين لأنَّها أقوى والضرب بها أشد).
وفي قوله {بِالْيَمِينِ} أكثر من تأويل:
التأويل الأول: اليمين بمعنى القوة. فقد ورد ذلك التأويل عن بعض أهل العربية كالفراء قال: (ضربًا بالقوة واليمين القوة).
التأويل الثاني: اليمين هو الحلف. قيل المراد بذلك اليمين التي حلفها بقوله: {وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ} [الأنبياء: 57].
التأويل الثالث: اليمين بمعنى العدل. واحتجوا بقوله سبحانه: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (44) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ} [الحاقة: 44، 45] أي بالعدل. قال القرطبي: (فالعدل لليمين، والجور للشمال. ألا ترى أن العدو عن الشمال والمعاصي عن الشمال والطاعة عن اليمين، ولذلك قال: {قَالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ} [الصافات: 28] أي من قبل الطاعة. فاليمين هو موضع العدل من المسلم والشمال موضع الجور. ألا ترى أنه بايع الله بيمينه يوم الميثاق، فالبيعة باليمين، فلذلك يُعطى كتابه غدًا بيمينه، لأنه وفى بالبيعة، ويُعْطى الناكث للبيعة الهارب برقبته من الله بشماله، لأن الجور هناك. فقوله: {فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ} أي بذلك العدل الذي كان بايع الله عليه يوم الميثاق ثم وفّى له هاهنا).
قلت: وكلها تفاسير متقاربة، إذ المقصود أن إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه أقبل
على الأصنام والأوثان يكسرها بقوة يمينه، وبصدق عهده مع ربه، حتى لا يُعبد في الأرض إلا الله سبحانه، وهذا هو كمال العدل.
وقوله تعالى: {فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ} .
زفّ في لغة العرب من (زفف). يقال زت العروس إلى زوجها من باب ردَّ، وأزفّها وازدَفَّها زِفافًا. وزفَّ القوم في مشيهم يزفون زفيفًا إذا أسرعوا. والمِزفّة المِحفّة التي تُزَفّ فيها العروس، وقيل هو مشي الخيلاء، ومنه أُخِذَ زِفاف العروس إلى زوجها. والمراد بالآية هنا أنهم أقبلوا إليه مسرعين لينظروا ما الأمر؟ وقد قرأها قراء المدينة والبصرة وبعض الكوفيين {يَزِفُونَ} نحو قولهم زفت النعامة إذا كان أول عدوها وآخر مشيها. وهناك جماعة من أهل الكوفة قرؤوها:"يُزِفُّون" من أَزَفَّ فهو يُزِفّ. قال الأصمعي: (أزففت الإبل أي حملتها على أن تَزِفّ). وقال أبو إسحاق: (الزفيف أول عَدْوِ النعام).
أي جاؤوا على هذه الحالة بمنزلة المزفوفة على هذه الهيئة.
وهناك من قرأها: "يَزِفون" بالتخفيف. قال الفراء: (لا أعرفها). ويبدو أن إجماع القراء والفصحاء على القراءة الأولى: "يَزِفون". وفي الآية أقوال متشابهة:
1 -
يسرعون. فعن ابن زيد: ({فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ} قال: أي يسرعون).
2 -
ينسلون. فعن مجاهد قال: (الوزيف: النَّسَلان).
3 -
يَجْرون. فعن ابن عباس قال: (فأقبلوا إليه يجرون).
4 -
يمشون. فعن السدي قال: ({فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ}، قال: يمشون).
5 -
يستعجلون. قال ابن زيد عن أبيه: (يستعجلون. قال: يَزِفّ: يستعجل).
وكلها متقاربة في المعنى من باب اختلاف التنوع لا التضاد، مفادها أنهم هرعوا إليه حين علموا خبر ما صُنِعَ بآلهتهم فأقبلوا مسرعين يجرون.
وقوله تعالى: {قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ (95) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} .
في الكلام محذوف تقديره: (قالوا من فعل هذا بآلهتنا)؟ فردّ عليهم: أتعبدون ما تنحتون! قال قتادة: (الأصنام). أي تعبدون أصنامًا أنتم تنحتونها بأيديكم تنجرونها. قال القرطبي: (والنحت النجر والبري، نحته ينحِته بالكسر نحتًا أي براه والنّحاتة البُراية والمِنحت ما ينحت به).
وأما قوله: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} ففيه تفاسير:
التفسير الأول: أنْ تكون "ما" مصدرية، أي تكون مع الفعل مصدرًا أو بمعنى المصدر، والتقدير عندئذ:(والله خلقكم وعملكم).
التفسير الثاني: أن تكون "ما" بمعنى الذي، أي في محل نصب. فيكون التقدير حينئذ:(والله خلقكم والذي تعملون منه الأصنام وهو الخشب والحجارة والنحاس وبقية المواد التي كانوا ينحتون منها أصنامهم). وهذا كقوله تعالى: {بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ} [الأنبياء: 56].
قال قتادة: (والله خلقكم وما تعملون بأيديكم).
التفسير الثالث: أن تكون "ما" استفهامية. بمعنى تصغير شأنهم، وتحقير لعملهم، والتقدير عندئذ:(والله خلقكم فسواكم وأنشأ لكم سمعًا وبصرًا وفؤادًا وما تعرفون عن أنفسكم من دقائق الخلق في أجسامكم وما لا تعرفون، فأي شيء تعملونه أو تخلقونه أنتم؟ وبأي عقل خضعتم لحجارة صنعتها أيديكم).
التفسير الرابع: أن تكونا "ما" نافية. والتقدير: (والله خلقكم وما أنتم تعملون ذلك بل الله سبحانه هو خالقه).
قلت: وأرجح التفاسير عندي هو التفسير الأول، لأن فيه شمولًا لبقية المعاني، ثم هو مذهب المؤمنين الوسط بين القدرية والجبرية.
فأهل السنة يثبتون أن الأفعال خلق لله عز وجل واكتساب للعباد، ويبطلون الانحراف الذي وقع به غيرهم كالقدرية الذين يقولون لا قدر، بل الإنسان يخلق أفعاله السيئة، أو كالجبرية الذين ينسبون الظلم لله من حيث يدرون أو لا يدرون. فكلاهما وقع في الشرك بالله - إذْ يجعلون خالقًا غير الله، أو يَنْسِبُونَ الظلم لله والشك بحكمته -، تعالى الله عما يصفون.
أخرج البخاري في كتاب "أفعال العباد" عن حذيفة رضي الله عنه مرفوعًا: [إن الله تعالى يصنع كل صانع وصنعته](1).
(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري في "خلق أفعال العباد"(117)، وابن أبي عاصم في "السنة" - حديث رقم - (358)، والحاكم في "المستدرك"(1/ 31)، والبيهقي في "الصفات"(37) وإسناده صحيح، رجاله ثقات.
فالمعنى الأول يشمل بقية المعاني، فالله تعالى كتب في اللوح المحفوظ أفعال العباد كتابة علم لا جبر فيها، وفرغ من مقادير الخلق قبل أن يخلق السماوات والأرض.
أخرج الإمام أحمد بسند صحيح عن عبادة بن الوليد بن عبادة قال: حدثني أبي، قال:[دخلت على عبادة وهو مريض أتخايل فيه الموت فقلت: يا أبتاه أوصني واجتهد لي. فقال: أجلسوني، فلما أجلسوه قال: يا بني إنك لم تطعم الإيمان ولم تبلغ حق حقيقة العلم بالله حتى تؤمن بالقدر خيره وشره. قلت: يا أبتاه! وكيف لي أن أعلم ما خير القدر وشره؟ قال: تعلم أن ما أخطأك لم يكن ليصيبك، وما أصابك لم يكن ليخطئك، يا بني إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن أول ما خلق الله القلم، ثم قال له: اكتب. فجرى في تلك الساعة بما هو كائن إلى يوم القيامة. يا بني إن مت ولست على ذلك دخلت النار](1).
وله طريق آخر في المسند عنه بلفظ: [دعاني أبي حين حضره الموت فقال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن أول ما خلق الله القلم فقال له: اكتب. قال: يا رب وما أكتب؟ قال: اكتب القدر ما هو كائن إلى الأبد](2).
وفي رواية: [اكتب مقادير كل شيء حتى تقوم الساعة].
وفي لفظ: [اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة].
فقواعد الإيمان بالقدر عند المؤمنين - أهل الحديث - ثلاثة، وهي صفات الله الحسنى:(العلم، والحكمة، والعدل). وقد فصلتها بأدلتها في بحث أركان الإيمان بالقدر في كتابي: أصل الدين والإيمان - عند الصحابة والتابعين لهم بإحسان، ولله الحمد والمنة.
وقوله تعالى: ({قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ (97) فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ}.
قال ابن جرير رحمه الله: (ذُكر أنهم بنوا له بنيانًا يشبه التنور، ثم نقلوا إليه الحطب وأوقدوا عليه).
(1) حديث صحيح. أخرجه أحمد والترمذي من حديث عبادة. انظر مسند أحمد (5/ 317)، وتخريج المشكاة (94). ورواه الترمذي في التفسير (2/ 232).
(2)
حديث صحيح. أخرجه أحمد في المسند (5/ 317). وانظر تخريج المشكاة (94)، وكتابي: أصل الدين والإيمان (2/ 807) لبقية الروايات.
أي إنهم تشاوروا في أمره لما غلبهم بحجته فقالوا: اصنعوا له بنيانًا تملؤونه حطبًا فتضرمونه ثم ألقوه في ذلك الجحيم. والجحيم في لغة العرب: جمر النار بعضه على بعض والنار على النار.
قال النسفي: ({فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ}: في النار الشديدة. وقيل كل نار بعضها فوق بعض فهي جحيم).
وقال قتادة: ({فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ}. قال: فما ناظرهم بعد ذلك حتى أهلكهم. {وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ}: ذاهب بعمله وقلبه ونيته).
وفي هذه الآية الكريمة تفاسير:
التفسير الأول: أي مهاجر من بلد قومي ومولدي، ومن حيث يعصى الله ويشرك به إلى حيث يعبد الله وحده لا شريك له، فأتمكن من عبادته لا إله إلا هو.
قال ابن جرير: (يقول: إني مهاجر من بلدة قومي إلى الله. أي إلى الأرض المقدسة ومفارقهم فمعتزلهم لعبادة الله). وقال مقاتل: (هو أول من هاجر من الخلق مع لوط وسارّة إلى الأرض المقدسة وهي أرض الشام).
قال القرطبي: (هذه الآية أصل في الهجرة والعزلة. وأول من فعل ذلك إبراهيم عليه السلام، وذلك حين خلصه الله من النار. {وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي}. أي مهاجر من بلد قومي ومولدي، إلى حيث أتمكن من عبادة ربي فإنه {سَيَهْدِينِ} فيما نويت إلى الصواب).
التفسير الثاني: أي ذاهب بعملي وقلبي ونيتي.
قال قتادة: ({وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ}، قال: ذاهب بعمله وقلبه ونيته).
التفسير الثالث: قيل: قاله لمن هاجر معه من أهله ترغيبًا منه لهم.
التفسير الرابع: قيل: قاله لمن فارقه من قومه توبيخًا منه لهم.
التفسير الخامس: قيل: قال هذا قبل إلقائه في النار، أي ذاهب إلى ما قضاه على ربي، أو ذاهب إلى ربي، أي ميت لتصوره أنه سيموت بإلقائه في النار على المعهود من أمرها بإتلاف ما يلقى فيها. ويكون عندئذ قوله:{سَيَهْدِينِ} أي إلى الخلاص منها أو إلى الجَنَّة.
قلت: والراجح من ذلك أنه اعتزلهم صلوات الله وسلامه عليه، وترك المكان الذي
يعصون الله فيه، وهاجر منه بجسده وبنيَّته وقلبه - جمعًا بين التفاسير - كما قال تعالى في سورة مريم حين قال إبراهيم لأبيه وقومه:{وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا (48) فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا} [مريم: 48، 49].
فكأفاه الله سبحانه حين فاصلهم والتزم منهج الحق ولم يخالطهم في مجالس المعصية والاستهزاء بالله، أن جعل النبوة في ذريته فآنسه بعد وحشته وفي غربته، إذ آثر الغربة والحق على الالتقاء بهم والسكوت على باطلهم. فكان كرم الله عليه عظيمًا إذ أمَدّه بخير الأنس وأفضل الجلساء وهم الأنبياء جعلهم في ذريته وأحيا بهم ذكره ومواقف إيمانه.
وجميل ما ذكر القاسمي رحمه الله في التفسير حيث قال: {وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي} أي مهاجر إلى بلد أعبد فيه ربي، وأعصم فيه ديني. قال: قال الرازي: فيه دليل على أن الموضع الذي تكثر فيه الأعداء، تجب مهاجرته. وذلك لأن إبراهيم عليه السلام، مع ما خصّه تعالى به من أعظم أنواع النصرة، لما أحسن من قومه العداوة الشديدة، هاجر، فلأن يجب على غيره، بالأولى).
قلت: وهذا من أروع الكلام والتفسير، وقد حفلت به نصوص القرآن والسنة:
1 -
قال تعالى في سورة النساء: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا (140)} [النساء: 140].
فاعتبر سبحانه استمرار الجلوس ومتابعة القعود مع القوم وهم يستهزئون بالله وآياته ورسله ودينه وشرعه نفاقًا يحشر صاحبه معهم، ويصبح مثلهم.
2 -
قال تعالى في سورة الأنعام: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (68)} [الأنعام: 68].
3 -
أخرج البخاري ومسلم عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه - يعني لما وصلوا الحِجْر - ديار ثمود فيما بين المدينة والشام: [لا تدخلوا
على هؤلاء المُعَذَّبين إلا أن تكونوا باكين، فإن لم تكونوا باكين فلا تدخلوا عليهم، لا يصيبكم ما أصابهم] (1).
وفي رواية: [لما مرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحجر قال: لا تدخلوا مساكِنَ الذين ظلموا أنفسهم أن يصيبكم ما أصابهم إلا أن تكونوا باكين، ثم قَنَّعَ رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه وأسرع السير حتى أجاز الوادي].
4 -
أخرج ابن حبان في صحيحه عن أبي سعيد وأبي هريرة رضي الله عنهما قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ليأتين عليكم أمراء يقربون شرار الناس ويؤخرون الصلاة عن مواقيتها، فمن أدرك ذلك منكم فلا يكونن عريفًا ولا شرطيًا ولا جابيًا ولا خازنًا](2).
5 -
وفي صحيح الإمام مسلم بشرح النووي عند حديث غزاة الكعبة الذين يهلكهم الله جميعًا. قال صلى الله عليه وسلم: [فيهم المستبصر والمجبور وابن السبيل يهلكون مهلكًا واحدًا، ويصدرون مصادر شتى، يبعثهم الله على نياتهم](3).
قال النووي: (وفيه من الفقه التباعد من أهل الظلم والتحذير من مجالستهم ومجالسة البغاة ونحوهم من المبطلين لئلا ينالهم ما يعاقبون به. ثم قال: وفيه أن مَنْ كَثرَ سواد قوم جرى عليهم حكمهم في ظاهر عقوبات الدنيا).
6 -
وروى عبد الله بن الإمام أحمد في كتاب الزهد لأبيه عن مالك بن دينار قال: [أوحى الله إلى نبي من أنبياء بني إسرائيل، أن قل لقومك: لا تدخلوا مداخل أعدائي، ولا تلبسوا ملابس أعدائي، ولا تركبوا مراكب أعدائي، ولا تطعموا مطاعم أعدائي، فتكونوا أعدائي كما هم أعدائي](4).
ثم قال جل ثناؤه عن إبراهيم: {رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ} .
فعن السدّي قال: (ولدًا صالحًا). وفي الكلام محذوف والتقدير: ربّ هب لي ولدًا صالحًا من الصالحين، فترك ذكره اجتزاء. وفي القرآن الكريم من هذا كثير، كقوله
(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (433)، (3381)، (4420). وانظر مختصر صحيح مسلم (1834)، وكتابي: أصل الدين والإيمان (1/ 666) لتفصيل البحث.
(2)
حديث صحيح. أخرجه ابن حبان (1558 - موارد الظمآن) وانظر السلسلة الصحيحة (360).
(3)
حديث صحيح. انظر صحيح مسلم (8/ 166 - 167). وكتابي: أصل الدين والإيمان، عند الصحابة والتابعين لهم بإحسان (1/ 667) لمزيد من التفصيل.
(4)
انظر كتاب: "الجواب الكافي" - لابن القيم رحمه الله ص (38) - (39). والمرجع السابق.
سبحانه: {وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ} [يوسف: 20] أي زاهدين من الزاهدين.
قال الحافظ ابن كثير: ({رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ}: يعني أولادًا مطيعين يكونون عوضًا عن قومه وعشيرته الذين فارقهم).
وقوله تعالى: {فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ} . أي: بغلام يكون حليمًا في كبره يوصف بالحلم إذا هو كَبِر، وأما في الطفولة فلا يوصف عادة بذلك.
وعن عكرمة: ({فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ} قال: هو إسحاق). وعن قتادة: (بُشر بإسحاق. قال: لم يُثْنَ بالحلم على أحد غير إسحاق وإبراهيم).
ويبدو أن الراجح هو إسماعيل عليه السلام (1) وهو أكبر من إسحاق، وهذا ما رجَّحه ابن كثير في التفسير. قال النسفي:(انطوت البشارة على ثلاث: على أن الولد غلام ذكر، وأنه يبلغ أوان الحلم لأن الصبي لا يوصف بالحلم، وأنه يكون حليمًا - وأي حلم أعظم من حلمه حين عرض عليه أبوه الذبح فقال: {سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ}).
وخلاصة القول: أنَّ الله سبحانه قد استجاب دعوة إبراهيم عليه الصلاة والسلام، فوهبه ولدًا صالحًا متسعَ الصدر حسنَ الصبر والإغضاء في كل أمر، موصوفًا بالحلم وهو رأس الصلاح وأصل الفضائل، والراجح أنه إسماعيل صلوات الله وسلامه عليه، وقد سبق له من الله الثناء العطر في سورة مريم حيث قال جل ثناؤه:{وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا (54) وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا} [مريم: 54، 55].
وقوله: {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ} فيه أكثر من تأويل:
التأويل الأول: أي شبَّ حتى شابه أباه في السعي. قال مجاهد: (لما شَبَّ حتى أدرك سعيُه سَعْيَ إبراهيم في العمل).
التأويل الثاني: (السعي: المشي). قال قتادة: (أي لما مشى مع أبيه).
التأويل الثالث: (السعي: الاحتلام). فعن ابن عباس: ({فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ} قال: هو الاحتلام).
(1) وروي ذلك عن أبي هريرة وابن عمر وابن عباس وسعيد بن المسيب ومجاهد والشعبي وغيرهم.
التأويل الرابع: (السعي: سعي العبادة). فعن ابن زيد قال: (هو السعي في العبادة).
وعن ابن عباس قال: (صام وصلى، ألم تسمع الله عز وجل يقول: {وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا} [الإسراء: 19]).
التأويل الخامس: (السعي: سعي العقل). قال الحسن: (هو سعي العقل الذي تقوم به الحجة).
قلت: وجمعًا بين التفاسير المتشابهة يكون المعنى: أنَّه لما ترعرع الغلام ووصف بالعقل والحلم وحسن العبادة، وفهم واقع الحياة والعمل، وشابه أباه إبراهيم عليه السلام في السعي والحركة رأى إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه في منامه أنه يؤمر بذبحه فاستشاره قائلًا:
وذلك ليعلم ما عنده من العزم والصدق لا ليخيّره في أمر الله إذ رؤيا الأنبياء حق.
قال قتادة: (رؤيا الأنبياء حق إذا رأوا في المنام شيئًا فعلوه). وقال عبيد بن عمير؟ (رؤيا الأنبياء وحي ثم تلا هذه الآية: {أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ}).
قال ابن كثير: (أعلم ابنه ليكون أهون عليه وليختبر صبره وجلده وعزمه في صغره على طاعة الله وطاعة أبيه. قال: امض يا أبت لما أمرك الله من ذبحي، سأصبر وأحتسب عند الله وصدق فيما وعد).
قال مقاتل: (رأى ذلك إبراهيم عليه السلام ثلاث ليال متتابعات). قيل: رأى إبراهيم عليه السلام في ليلة التروية كأن قائلًا يقول: إن الله يأمرك بذبح ابنك. فلما أصبح روَّى في نفسه أي فَكَّرَ أهذا الحلم من الله أم من الشيطان؟ فسمّي يوم التروية. فلما كانت الليلة الثانية رأى ذلك أيضًا فلما أصبح عرف أن ذلك من الله فسمي يوم عرفة. ثم رأى مثله في الليلة الثالثة فَهَمَّ بنحره فسمي يوم النّحر.
والخلاصة: لقد رأى إبراهيم عليه السلام في منامه الأمر له بذبح ابنه، وعلم أنه لا بد أن يمتثل الأمر، فإن رؤيا الأنبياء حق. قال محمد بن كعب:(كانت الرسل يأتيهم الوحي من الله تعالى أيقاظًا ورقودًا، فإن الأنبياء لا تنام قلوبهم).
وفي صحيح البخاري من حديث أنس - في الإسراء -: [والنبي صلى الله عليه وسلم نائمة عيناه ولا ينام قلبه، وكذلك الأنبياء تنام أعينهم ولا تنام قلوبهم](1).
وله شاهد عن ابن سعد في الطبقات من حديث عطاء مرسلًا بلفظ: [إنا مَعْشَرَ الأنبياء تنام أعيننا ولا تنام قلوبنا](2).
ولقد قرأ عامة قراء المدينة والبصرة: {مَاذَا تَرَى} بفتح التاء: أيْ أيُّ شيء تأمر، أو ماذا ترى من الرأي. في حين قرأ ذلك الكوفيون بالضم:"ماذا تُرى" أي ماذا تشير وماذا تُرى من صبرك أو جزعك من الذبح؟ ولم يقل له ذلك على وجه المؤامرة في أمر الله وإنما شاوره ليعلم صبره لأمر الله أو لتقرّ عينه إذا رأى من ابنه طاعة في أمر الله. وإلا فهو ماض في كل الأحوال لأمر الله، ولكن الغلام تألق في جوابه وإيمانه:{يَاأَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} .
ولقد كثر التأويل في أمر الذبح، فمنهم من قال: ذبحه وقال الله أكبر، فقال الذبيح: لا إله إلا الله. ومنهم من قال: انقلبت السكين، ومنهم من قال: كلما قطع جزء التأم، أو قال وجد حلقه نحاسًا. وكل ذلك لا دليل عليه. قال القرطبي:(وهذا كله جائز في القدرة الإلهية، لكنه يفتقر إلى نقل صحيح، فإنه أمر لا يدرك بالنظر وإنما طريقه الخبر).
ثم قال سبحانه: {فَلَمَّا أَسْلَمَا} . وفيه تفاسير:
التفسير الأول: أي أسلما وانقادا لأمر الله. وقرأها ابن مسعود: "فلما سَلَّما" أي فوّضا أمرهما إلى الله. قال ابن عباس: (استسلما). وقال السدي: (أسلما لأمر الله).
التفسير الثاني: أي أسلم أحدهما نفسه لله وأسلم الآخر ابنه.
قال عكرمة: (أسلما جميعًا لأمر الله ورضي الغلام بالذبح ورضي الأب بأن يذبحه. فقال: يا أبت اقذفني للوجه كيلا تنظر إليّ فترحمني، وأنظر أنا إلى الشفرة فأجزع ولكن أدخل الشفرة من تحتي وامض لأمر الله، فذلك قوله: {فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ}. فلما فعل ذلك: {وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَاإِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ}). وقال قتادة: (أسلم هذا نفسه لله وأسلم هذا ابنه لله). وقال ابن إسحاق: (أي سلم إبراهيم لذبحه حين أمر به، وسلم ابنه للصبر عليه حين عرف أن الله أمره بذلك فيه). وقال ابن
(1) حديث صحيح. انظر صحيح البخاري (2/ 396)، (4/ 485) من طريق شريك بن عبد الله عنه.
(2)
حديث يشهد له ما قبله. انظر طبقات ابن سعد (1/ 171)، والسلسلة الصحيحة (1705).
كثير: (أي استسلما وانقادا، إبراهيم امتثل أمر الله، وإسماعيل امتثل طاعة الله وأبيه).
وكلا المعنيين يحتمله البيَان الإلهي، فالتأويل بأحدهما سالك قائم.
وقوله: {وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ} فيه معان متشابهة، منها:
المعنى الأول: صرعه على وجهه ليذبحه من قفاه ولا يشاهد وجهه عند ذبحه.
قال مجاهد: (وضع وجهه للأرض. قال لا تذبحني وأنت تنظر إلى وجهي عسى أن ترحمني ولا تجهز على، اربط يديّ إلى رقبتي ثم ضع وجهي على الأرض).
وقال الجوهري: (أي صرعه كما تقول كبّه لوجهه).
وأصل التّل في كلام العرب: الدفع والصرع. قال ابن عباس: (معناه كبَّه على وجهه). قال ابن جرير: ({وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ}، يقول: وصرعه للجبين، والجبينان ما عن يمين الجبهة وعن شمالها، وللوجه جبينان والجبهة بينهما).
المعنى الثاني: أي صرعه وحوّل وجهه إلى القبلة.
فعن قتادة: ({وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ} قال: كبّه وحوّل وجهه إلى القبلة).
وخلاصة القول: أنَّ إبراهيم وإسماعيل انقادا لأمر الله، فانقاد إبراهيم ليمتثل الوحي، وانقاد إسماعيل لطاعة الله وطاعة أبيه صابرًا محتسبًا، فكبه إلى الأرض ووجهه إلى القبلة وأراد مباشرة الأمر:{وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَاإِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ (106) وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} .
رُوي أن الشيطان عرض لإبراهيم عند جمرة العقبة ليفتنه عن الأمر فرماه بسبع حُصيات حتى ذهب، ثم عرض له عند الجمرة الوسطى فرماه بسبع حصيات حتى ذهب، ثم عرض له عند الجمرة الأخرى فرماه بسبع حصيات حتى ذهب، ثم مضى إبراهيم لأمر الله. رُوي ذلك عن ابن عباس.
فلما أخذ إبراهيم عليه الصلاة والسلام الشفرة ليمتثل أمر الله فداه الله سبحانه.
قال ابن عباس: (التفت فإذا كبش فأخذه فذبحه). وقال مجاهد: (ذُبح بِمِنى في المَنْحَر). وقيل: (ذبح بالمقام).
فصدق إبراهيم الرؤيا وامتثل أمر الله فجعل له من أمره فرجًا ومخرجًا، كما قال جل ثناؤه:{وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} [الطلاق: 2، 3].
وقوله: {إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} . أي نجزيهم بالخلاص من الكرب والشدائد والمصائب في الدنيا والآخرة. ثم أصل البلاء: الاختبار. ويكون في الخير والشر. فبقوله: {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ} . قال ابن زيد: (وهذا من البلاء المكروه). أي الأمر بذبح الولد، فكان بلاء فيه شدة ومحنة عظيمة.
وقوله تعالى: {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} .
أصل الفدية الجزاء، والذبح اسم المذبوح. وذكر ابن جرير عن اليهودي الذي أسلم من علماء يهود فسأله عمر بن عبد العزيز الخليفة الراشد: أيُّ ابْنَيْ إبراهيم أُمِرَ بذبحه؟ فقال: (إسماعيل، والله يا أمير المؤمنين، وإن يهود لتعلم بذلك ولكنهم يحسدونكم معشر العرب على أن يكون أباكم الذي كان من أمر الله فيه والفضل الذي ذكره الله منه لصبره لما أمر به، فهم يجحدون ذلك ويزعمون أنه إسحاق لأن إسحاق أبوهم).
قلت: ويؤيد هذا قوله سبحانه في الآية بعدها: {وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (112) وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ} .
أي إن الكلام الأول كان عن إسماعيل ثم جاء ذكر إسحاق.
ففداه الله سبحانه بذبح عظيم. قال مجاهد: (الذبح العظيم: شاة، وقال العظيم: المتقبل). وفي قوله {عَظِيمٍ} تفاسير:
التفسير الأول: لأنه كان رعى في الجَنَّة. فعن ابن عباس: (رعى في الجَنَّة أربعين خريفًا).
وفي رواية قال: (خرج عليه كبش من الجَنَّة، وقد رعى قبل ذلك أربعين خريفًا).
التفسير الثاني: عظيم القدر. قال النحاس: (عظيم في اللغة يكون للكبير والشريف).
وقال القرطبي: (أي عظيم القدر ولم يرد عظيم الجثة، وإنما عظم قدره لأنه فُدي به الذبيح أو لأنه متقبل، قال: وأهل التفسير على أنه هاهنا للشريف أو المتقبل).
التفسير الثالث: عظيم أي عظيم الأجر متقبل عند الله. فعن مجاهد: (العظيم: النفيس).
التفسير الرابع: قيل عظيم لأنه ذِبْحٌ ذُبِحَ بالحق وذلك ذبحه بدين إبراهيم.
قال الحسن: (ما يقول الله {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} لذبيحته التي ذبح فقط، ولكنه الذَّبح على دينه، فتلك السنة إلى يوم القيامة، فاعلموا أن الذبيحة تدفع ميتة السوء فضحّوا عباد الله).
وخلاصة القول: أنَّ الله سبحانه قد أدخل السرور على قلب آل إبراهيم لما أخلص الخلة والمحبة لله، وأخلص اله الطاعة لله جل ثناؤه، ففداه بذبح هو كبش عظيم القدر عند الله، عظيم أجر ذبحه والتقرب إلى الله به، سنة الله في أمر أبوها إبراهيم إلى يوم القيامة.
أخرج الإمام أحمد في مسنده، وأبو داود في سننه، من طريق عثمان بن طلحة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم دعاه بعد دخوله الكعبة فقال له:[إني كنت رأيت قرني الكبش حين دخلت البيت، فنسيت أن آمرك أن تُخَمِّرهما فَخَمِّرْهما، فإنه لا ينبغي أن يكون في البيت شيءٌ يلهي المصلي. وفي رواية: يُشغل المصلي](1).
قال سفيان: (لم يزل قرنا الكبش معلقين في البيت حتى احترق البيت فاحترقا).
فشرع سبحانه وتعالى الأضحية إحياء لذكرى هذا الموقف من إبراهيم وابنه إسماعيل عليهما الصلاة والسلام، ذكرى التوحيد والصدق والأمانة إلى يوم القيامة.
والأضحية واجبة على الموسر، ذهب إلى ذلك أبو حنيفة رحمه الله، وبعض المالكية والليث والأوزاعي وربيعة الرأي.
والحجّة عندهم ما رواه الإمام أحمد في المسند بسند حسن عن أبي هريرة مرفوعًا: [من كان له سعة ولم يضحّ فلا يقربن مصلانا](2).
ووجه الدلالة: أنَّه لما نهى من كان ذا سعة عن قربان المصلى إذا لم يضحّ دلّ هذا على أنه قد ترك واجبًا، فكأنه لا فائدة من التقرب مع ترك هذا الواجب. وفيه إشارة خفية إلى وجوب صلاة العيد في المصلى. كيف لا وإن هذا مؤيد بحديث أم عطية - في الصحيحين عنها - قالت:[أُمرنا أن نخرجَ العواتِقَ والحُيَّضَ في العيدين يشهدن الخير ودعوة المسلمين ويعتزل الحيض المصلى](3).
(1) حديث صحيح. أخرجه أحمد في المسند (4/ 68)، (5/ 380)، ورجاله ثقات.
(2)
حديث حسن. أخرجه أحمد وابن ماجة. انظر ابن ماجة (3123)، وصحيح ابن ماجة (2532).
(3)
حديث صحيح. انظر صحيح البخاري (974) كتاب العيدين. وكذلك (981) أيضًا. ورواه مسلم.
وفي رواية: [قالت امرأة يا رسول الله إحدانا ليس لها جلباب! قال: لتلبسها صاحبتها من جلبابها].
فلما أمر بالخروج دلّ ذلك على أن الأمر بالصلاة من باب أولى.
وأما دليل الوجوب الثاني: فهو أنه إن اجتمعت مع يوم الجمعة في يوم واحد سقطت الجمعة عمن صلى العيد، وصلاة الجمعة فرض باتفاق الفقهاء، ولا يسقط الفرض إلا فرض مثله. فدل ذلك على أن صلاة العيد واجبة.
فقد روى أبو داود بسند صحيح عن أبي هريرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[قد اجتمع في يومكم هذا عيدان، فمن شاء أجزأه من الجمعة، وإنا مجمعون](1).
ثم روى أيضًا بإسناد صحيح عن إياس بن أبي رملة الشامي قال: [شهدت معاوية بن أبي سفيان وهو يسأل زيد بن أرقم. قال: أشهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عيدين اجتمعا في يوم؟ قال: نعم، قال: فكيف صنع؟ قال: صلى العيد ثم رخص في الجمعة، فقال: من شاء أن يصليَ فليصل](2).
وجملة القول: أن عيد الأضحى سمّي كذلك من الأُضْحِيَّة. ويقال أيضًا في لغة العرب: إِضْحِيّة، والجمع أضاحي. قال الفراء:(الأضحى يذكر ويؤنث، فمن ذكر ذهب إلى اليوم).
وسنن الذبح كما وردت عن النبي صلى الله عليه وسلم فهي:
1 -
الذبح يبدأ بعد صلاة العيد، حتى آخر أيام التشريق.
ففي الصحيحين عن جندب بن عبد الله البجلي قال: [شهدت النبي صلى الله عليه وسلم يوم النحر قال: من ذبح قبل أن يصلي فليعد مكانها أخرى، ومن لم يذبح فليذبح](3).
وعن علي رضي الله عنه قال: [أيام النحر: يوم الأضحى وثلاثة أيام بعده]. وفي
(1) حديث صحيح. أخرجه أبو داود في السنن (1073). انظر صحيح أبي داود (948). وانظر صحيح الجامع الصغير (4241)، وكتابي: السيرة النبوية (2/ 634) لتفصيل البحث.
(2)
حديث صحيح. انظر صحيح سنن أبي داود (945)، والمرجع السابق (2/ 634).
(3)
حديث صحيح. أخرجه البخاري (5562)، كتاب الأضاحي، باب من ذبح قبل الصلاة أعاد. ورواه مسلم في الصحيح (1960) ح (1)، (2) - كتاب الأضاحي - باب وقتها.
الحديث: [كل أيام التشريق ذبح](1). وهو مذهب الشافعي رحمه الله، والأوزاعي والحسن البصري رحمهم الله أجمعين.
2 -
يستحب الجَذَع في الأضحية.
فقد أخرج الإمام أحمد في المسند عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: [نعمت الأضحية الجَذَعُ من الضأن](2).
والجذع: عند الحنفية والحنابلة هو ما أتم ستة أشهر.
وفي صحيح مسلم عن أنس قال: [ضحى صلى الله عليه وسلم النبي بكبشين أملحين أقرنين ذبحهما بيده وسمّى وكبَّرَ ووضع رجله على صِفاحِهما](3). وفي رواية: [قال: ويقول: باسم الله والله أكبر).
3 -
أن يذبح بيده ويكبر.
فقد كان ذلك من هديه عليه الصلاة والسلام.
يروي أبو داود بسند جيد عن جابر: [أنه شهد مع النبي صلى الله عليه وسلم الأضحى بالمصلى، فلما قضى خُطْبَتَه نزل من منبره وأُتيَ بكبشِ فذبحه بيده وقال: باسم الله والله أكبر، هذا عني وعمن لم يضح من أمتي](4).
فيذبح المضحي ويقول: باسم الله والله أكبر، اللهم هذا عن فلان، ويسمي اسمه أو اسم من يذبح لأجله.
4 -
من السنة أن تُحَدَّ شفرة الذبح وتخفى عن الشاة، وتبعد الشياه لئلا ترى مصرع بعضها.
ففي صحيح مسلم عن شداد بن أوس قال: [ثنتان حفظتهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
(1) حديث حسن لشواهده. أخرجه أحمد (4/ 82)، والبيهقي (9/ 295) من حديث جبير بن مطعم مرفوعًا. وانظر سلسلة الأحاديث الصحيحة - حديث رقم - (2476).
(2)
حديث حسن في الشواهد. أخرجه أحمد (2/ 444)، (2/ 445)، والبيهقي (9/ 27)، وغيرهما.
(3)
حديث صحيح. أخرجه مسلم في الصحيح من حديث أنس، ورواه البخاري بنحوه. انظر صحيح البخاري (5564)، (5565)، كتاب الأضاحي، باب وضع القدم على صَفْحِ الذبيحة، وباب التكبير عند الذبح، وانظر صحيح مسلم (1966) واللفظ له.
(4)
حديث صحيح. أخرجه أبو داود في السنن (2810)، باب: في الشاة يضحى بها عن جماعة. انظر صحيح سنن أبي داود (2436).
إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القِتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحَ، وليُحِدَّ أحدكم شفرته وليرح ذبيحته] (1).
5 -
يجوز أن يشترك في البقرة سبعة وفي البعير عشرة.
ففي صحيح مسلم عن جابر، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[البقرة عن سبعة، والجزور عن سبعة].
قال ابن عباس: [كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر، فحضر الأضحى، فاشتركنا في البقرة سبعة، وفي البعير عشرة] رواه الترمذي وسنده صحيح (2).
6 -
إباحة التصرف بها، فله توزيعها ثلاثة أثلاث: ثلث لأهله وأصحابه، وثلث يتصدق به، وثلث يدخره ويوفره. وله غير ذلك مما يرى فيه المصلحة.
فقد روى مسلم عن نبيشة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [إني كنت نهيتكم عن لحوم الأضاحي فوق ثلاث كيما تَسَعَكم، فقد جاء الله بالخير، فكلوا وتصدقوا وادخروا، إن هذه الأيام أيام أكل وشرب وذكر الله](3).
7 -
يُتَّقى من الضحايا المريضة كالعوراء والعرجاء والعجفاء.
فقد روى مالك عن البراء بن عازب، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل، ماذا يُتَّقى من الضحايا؟ فأشار بيده وقال: أربعًا - وكان البراء يشير بيده ويقول يدي أقصر من يد رسول الله صلى الله عليه وسلم[العرجاء البَيِّنُ ظَلَعُها، والعوراء البَيِّن عَوَرُها، والمريضة البَيِّنُ مرضها، والعجفاء التي لا تُنْقى (4)](5).
وقوله: {وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ} فيه تفاسير:
التفسير الأول: أي تركنا له الثناء الحسن في الأرض. كما قال قتادة: (أبقى الله عليه
(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم في الصحيح (1955)، كتاب الصيد والذبائح، باب الأمر بإحسان الذبح والقتل، وتحديد الشفرة.
(2)
حديث صحيح. أخرجه الترمذي (907/ 194/ 2)، وابن ماجة (3131)، والنسائي (7/ 222).
(3)
حديث صحيح. انظر صحيح مسلم (977)، ح (106) كتاب الجنائز، وكذلك (1972)، كتاب الأضاحي، وصحيح الجامع (2472)، ورواه أحمد.
(4)
النقى: مخ العظام وشحمها. يريد أنه لا يوجد فيها شحم لهزالها وضعفها.
(5)
حديث صحيح. انظر صحيح سنن ابن ماجة (2545)، وسنن النسائي (7/ 214)، ورواه أبو داود (2785/ 505/ 7)، ورواه الترمذي (1530/ 27/ 3) مختصرًا.
الثناء الحسن في الآخرين). قال ابن جرير: (يقول تعالى ذكره: أمَنَةٌ من الله في الأرض لإبراهيم أن لا يذكر من بعده إلا بالجميل من الذكر).
وقال القرطبي: ({وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ} أي على إبراهيم ثناء جميلًا في الأمم بعده، فما من أمة إلا تصلي عليه وتحبه).
التفسير الثاني: أي تركنا عليه أن يقال: {سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ} .
قال عكرمه: (هو السلام على إبراهيم أي سلامًا منا).
التفسير الثالث: قيل هو دعاء إبراهيم عليه السلام: {وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ} .
التفسير الرابع: قيل بل هو سلامة له من آلافات، مثل:{سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ} .
وجملة القول: أنَّ الله سبحانه قد أحيا في الأرض ذكر إبراهيم في قلوب الأمم عامة، والمؤمنين خاصة، فلا يناله أحد بسوء إحياة من الله لذكرى الصدق في الإيمان والإخلاص في اليقين والدفاع عن الحق وحراسته في الأرض، فصلوات الله وسلامه على إمام التوحيد إبراهيم، وعلى جميع المرسلين، وعلى نبينا محمد خاتم الأنبياء والرسل أجمعين.
وقوله تعالى: {سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ (109) كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (110) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ} .
فلقد استحق إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه - بحسن القيام لله وتعظيم أمره ووحيه ونبذ الأوثان وكسر الأصنام واحتقار كل ما يعبد من دون الله - حسن الثناء من الله جزاء إحسانه في مراقبة الله سبحانه وتعظيم شعائره. ثم استحق الإضافة إلى جميع المؤمنين الذين أعطوا العبودية لله حقها فاستحقوا الإضافة إلى الله تعالى.
وقوله تعالى: {وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ} .
قال قتادة: (بشر به بعد ذلك نبيًا، بعدما كان هذا من أمره لما جاد لله بنفسه). وقال ابن عباس: (بشر بنبوّته).
والسياق يدل أن الذبيح إسماعيل، فلما فداه الله وأدخل على إبراهيم وأهله السرور بذلك، زاده الله بشارة وسرورًا، أن بشره بنبوة أخرى في ذريته، وهي نبوة إسحاق وكان من الصالحين. وكان ذلك بعد قصة الذبح حيث عاد إبراهيم إلى بلاد كنعان فأتت البشرى من الملائكة.
قال ابن جرير: (وبشرنا إبراهيم بإسحاق نبيًا شكرًا له على إحسانه وطاعته).
وكذلك بشروا سارة فضحكت وصكت وجهها، ولم يُعلم أن سارة أتت إلى الحجاز، مما يدل أن البشارة بإسحاق كانت ببلاد كنعان، وأن البشارة بولادته ونبوته بعد قصة الذبح - كما يدل السياق - والله تعالى أعلم.
ثم قال سبحانه: {وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ} وفيه أكثر من تأويل:
التأويل الأول: أي كثرنا ولدهما فباركنا على إبراهيم وعلى أولاده، وعلى إسحاق إذ أخرج الله كل أنبياء بني إسرائيل من صلبه.
التأويل الثاني: أي ثنينا عليهما النعمة.
التأويل الثالث: جعلنا البركة في الذرية والكثرة.
وكلها تفاسير متقاربة مفادها أن العناية الإلهية أحاطت بذرية إبراهيم، وأن النبوة مضت في أولاده - صلوات الله وسلامه عليهم -.
وقوله: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ} . فالمحسن يزداد شرفًا إلى شرف، ونورًا على نور، والمسيء لا تنفعه بنوة النبوة، قال السدي:(المحسن: المطيع لله، والظالم لنفسه: العاصي لله). قال القرطبي: (فاليهود والنصارى وإِن كانوا من ولد إسحاق، والعرب وإن كانوا من ولد إسماعيل، فلا بد من الفرق بين المحسن والمسيء والمؤمن والكافر. وفي التنزيل: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} الآية، أي أبناء رسل الله فرأوا لأنفسهم فضلًا).
114 -
148. قوله تعالى: {وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ (114) وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (115) وَنَصَرْنَاهُمْ فَكَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ (116) وَآتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ (117) وَهَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (118) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِمَا فِي الْآخِرِينَ (119) سَلَامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ (120) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (121) إِنَّهُمَا مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (122) وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (123) إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلَا تَتَّقُونَ (124) أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ (125) اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (126) فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ
لَمُحْضَرُونَ (127) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (128) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (129) سَلَامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ (130) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (131) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (132) وَإِنَّ لُوطًا لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (133) إِذْ نَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (134) إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ (135) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (136) وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ (137) وَبِاللَّيْلِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (138) وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (139) إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (140) فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ (141) فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ (142) فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (144) فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ (145) وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ (146) وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (147) فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ (148)}.
في هذه الآياتِ: يذكر سبحانه ما منَّ على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام إخوة إبراهيم وإسماعيل وإسحاق، بعد أن ذكر قصة إنجاء إسماعيل من الذبح والفداء، ليصل النسب بعضه ببعض، نسب المنهج ونسب النبوة وصلة الحق. فذكر سبحانه تفضله على موسى وهارون ابني عمران أن جعلهما نبيَّيْن، ونجَّاهما ومن آمن معهما من المصيبة التي لحقت بفرعون وآله، مصيبة الهلاك وغمّ الغرق والدمار، ثم أكرمهما بالتوراة فيه هدى ونور، كلام الله العظيم، يهدي به سبحانه إلى صراطه المستقيم، وقد رضي الله عن إيمان موسى وهارون فأضافهما إلى جماعة عباده المؤمنين. ثم ذكر سبحانه قصة نبيِّه إلياس وكان من المرسلين، إذ أنكر على قومه الشرك في العبادة إذ يدعون صنمًا - يقال له - "بعلًا" من دون الله العظيم. الذي خلقهم وهو ربهم ورب آبائهم الماضين. فاستهزؤوا فهم في جهنم سيحضرون. لقد كان إلياس من عباد الله المؤمنين، كما كان لوط من المرسلين، إذ أنكر الفواحش في قومه المجرمين، فاستهزؤوا فنجاه الله والمؤمنين، ثم دمَّر القوم المسرفين، فجعل القرية عاليها سافلها وأمطرهم حجارة فتأملوا عاقبتهم وما لحق بهم إذا مررتم عليهم مصبحين أو ممسين، في طريق تجارتكم من المدينة إلى الشام أفلا تعقلون.
وأما يونس صلوات الله عليه وعلى من سبقه من المرسلين، فقد سارع إلى الفلك المشحون - أمتعة - هربًا من قومه المستكبرين المماطلين، لكن القرعة قد وقعت عليه حين هاج البحر فأقرعوا من يلقي نفسه ليخف الحمل من الراكبين، فألقى يونس بنفسه
فالتقمه الحوت في الماء وعلم أنه قد عاجل قومه فسارع إلى استدراك الأمر فلزم الاستغفار والاعتراف لله بالمن والفضل وكان من المسبّحين، فنجاه الله بتسبيحه ورحمته إنه هو الرحمان الرحيم، وأخرجه إلى أرض لا نبت فيها وهو مريض سقيم، فأنبت عليه شجرة من يقطين، أظلته وأكل من ورقها وقد كان إدئه أرسله إلى مئة ألف أو يزيدون، فآمنوا فمتعهم الله إلى وقت آجالهم ومنتهى أعمارهم. فإلى تفصيل ذلك.
قوله تعالى: {وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ (114) وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ} . وفي الكرب العظيم تأويلان:
التأويل الأول: من الكرب العظيم وهو الرق الذي لحق ببني إسرائيل.
قال قتادة: ({وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ} قال: من آل فرعون).
التأويل الثاني: من الكرب العظيم وهو الغرق الذي أهلك الله به فرعون وقومه.
قال السدي: ({مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ} من الغرق).
وجمعًا بين القولين: قال ابن جرير رحمه الله: (ولقد تفضلنا على موسى وهارون ابني عمران فجعلناهما نبيَّين ونجَّيناهما وقومهما من الغمِّ والمكروه العظيم الذي كانوا فيه من عُبودة آل فرعون، ومما أهلكنا به فرعون وقومه من الغرق).
ثم قال سبحانه: {وَنَصَرْنَاهُمْ فَكَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ} . فأخرجه مخرج الجمع مع أن المراد موسى وهارون في قوله: ({وَنَجَّيْنَاهُمَا} أن المقصود بقوله: {وَنَصَرْنَاهُمْ} أي هم وأتباعهم من المؤمنين. ثم إن العرب تذهب أحيانًا بالأمير والرئيس والنبي إلى الجمع بأتباعه وحاشيته وجنوده إذا كان المقصود ذلك، وبالإفراد إذا كان المقصود نفسه، وفي القرآن ما يشبه هذا كقوله جل ثناؤه:{فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ} [يونس: 83].
فقال: {مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ} وقال في موضع آخر: {وَمَلَإئْهِ} . فكلا المعنيين قائم والله تعالى أعلم.
وقوله: {وَآتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ} . قال قتادة: (التوراة ويعني بالمستبين: المتبين هدى ما فيه وتفصيله وأحكامه). واستبان في لغة العرب بمعنى تبيّن الأمر حتى صار بَيِّنًا مستبينًا.
وقوله: {وَهَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} . أي طريق النجاة في الدنيا والآخرة وهو
تعظيم أمر الله ومنهاجه ودينه الذي لا اعوجاج فيه وهو الإسلام.
فعن قتادة: {وَهَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} قال: الإسلام).
أي أبقينا الثناء الجميل والذكر العطر على موسى وهارون بين الأنام إلى يوم القيامة، جزاء الإحسان وتعظيم حرمات الله والتزام مقام الإيمان، فكان لهما شرفًا، عليهما الصلاة والسلام، الإضافةُ لهما من الله إلى من ارتضى من عباده المؤمنين المقربين، جماعة الحق المبين، وليبقى يقال بين الأنام، سلام على موسى وهارون.
وقوله تعالى: {وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} فيه تفاسير:
التفسير الأول: أنَّه إدريس عليه السلام. فعن قتادة: (كان يقال: إلياس هو إدريس).
وروي عن ابن مسعود قوله: (إسرائيل هو يعقوب، وإلياس هو إدريس).
التفسير الثاني: إلياس نَبيٌّ من بني إسرائيل. قال ابن إسحاق: (وهو إلياس بن ياسين بن فنحاص بن العيزار بن هارون بن عمران).
التفسير الثالث: قيل هو عم اليسع وقيل هو ابن عم اليسع. قال ابن عباس: (هو عمّ اليسع).
التفسير الرابع: نبي أرسل لأهل مدينة بعلبك غربي دمشق. اختاره الحافظ ابن كثير.
التفسير الخامس: هو إلياس بن ياسين من ولد هارون أخي موسى. ذكره النسفي في التفسير.
التفسير السادس: هو من أنبياء بني إسرائيل من بعد زمن سليمان. بعثه الله لما انتشرت الوثنية بمساعدة ملوك بني إسرائيل، وبنوا لها المذابح وعبدوها من دون الله، وتركوا التحاكم إلى التوراة. فقام إلياس عليه السلام يوبخهم على ضلالهم، ويدعوهم إلى توحيد الله سبحانه ويسمى في التوراة "إيليا" وله نبأ فيها كبير. ذكره القاسمي في التفسير.
قلت: وخلاصة القول - أنه نبي من أنبياء بني إسرائيل بعثه الله ليهدي به من ضل عن الطريق واتبع سبل الشياطين وعبد الأوثان وتحاكم إلى الأهواء وعظَّم الشهوات،
فصلوات الله وسلامه على إلياس وعلى المرسلين، وعلى إمامهم محمد صلى الله عليه وسلم الرسول الأمين.
وقوله تعالى: {إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلَا تَتَّقُونَ (124) أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ (125) اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ} . وفي قوله: {بَعْلًا} تفاسير:
التفسير الأول: بَعْلٌ: تعني (ربّ). فعن عكرمة: ({أَتَدْعُونَ بَعْلًا} قال: يقول أتدعون ربًّا، وهي لغة أهل اليمن، تقول: مَنْ بَعْل هذا الثور: أي من ربّه).
وقال قتادة: (هذه لغة باليمانية: أتدعون ربًا دون الله). وروي أيضًا عن عكرمة: ({أَتَدْعُونَ بَعْلًا} قال إلها). فالعرب تقول لربّ الشيء بعده، وبعل الدار ربَّها، ولزوج المرأة بعلها. ويقولون لما استغنى من الزرع بماء السماء ولم يكن سقيًا (هو بعل).
التفسير الثاني: بَعْلٌ، صنم عبدوه من دون الله. فقد روي عن ابن عباس:{أَتَدْعُونَ بَعْلًا} ، قال: صنمًا). وقال الضحاك: (يعني صنمًا كان لهم يسمى بَعْلًا). وقال ابن زيد: (بعل: صنم كانوا يعبدون، كانوا ببعلبك وهم وراء دمشق وكان بها البعل الذي كانوا يعبدون). قال النحاس: (والقولان صحيحان: أي أتدعون صنمًا عملتموه ربًّا). وقال مقاتل: (صنم كسره إلياس وهرب منهم).
قال القرطبي: (فالمعنى: أتدعون ربًّا اختلقتموه، و {أَتَدْعُونَ} بمعنى أتسمّون. حكى ذلك سيبويه. ثم قال: وقيل: كان مِنْ ذَهَب "أي الصنم" وكان طوله عشرين ذراعًا، وله أربعة أوجه، فُتِنوا به وعظَّموه حتى أخدموه أربع مئة سادِن وجعلوهم أنبياءه، فكان الشيطان يدخل في جوف بعل ويتكلم بشريعة الضلالة، والسَّدَنة يحفظونها ويعلمونها الناس، وهم أهل بعلبك من بلاد الشام. وبه سميت مدينتهم بعلبك).
التفسير الثالث: بعل، هي امرأة كانوا يعبدونها. قال ابن إسحاق:(سمعت بعض أهل العلم يقول: ما كان بَعْلٌ إلا امرأة يعبدونها من دون الله).
التفسير الرابع: بعل، ملك. قاله بعض المفسرين.
قلت: وجملة القول أنهم صرفوا العبادة لملك أو صنم أو امرأة أو آلهة دون الله لا تستحق العبادة، إذ لا تملك دفع الضر عنهم ولا تحويلًا، ولا تملك جلب النفع لهم ولا تعجيلًا. فعابهم الله بذلك: أنَّكم تدعون بعلًا وتذرون خالق الكون وبارئه وخالقكم ومصوركم، فتبارك الله أحسن الخالقين.
وقوله: {وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ} . أي أحسن الصانعين، أحسن من يقال له خالق. أما الناس فيصنعون ولا يخلقون، فيقال لمبدعهم أمرًا من أمور الصناعة أو التجارة أو بعض الآلات والأدوات صانع، ولا يقال له خالق، وإن كان الناس يتجاوزون، فالخلق وهو الإبداع من عدم لا ينبغي إلا لله عز وجل.
وقوله تعالى: {اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ} .
قرأها بالفتح لاسم الجلالة قراء الكوفة نصبًا على البدلية من قوله: {أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ} . في حين قرأها قراء مكة والمدينة والبصرة بالضم "اللهُ ربكم وربُّ آبائكم الأولين" في محل رفع مبتدأ، والجملة استئنافية، فيكون المعنى: هو الله ربكم.
قال ابن جرير: (وتأويل الكلام: ذلك معبودكم أيها الناس الذي يستحق عليكم العبادة، ربكم الذي خلقكم، ورب آبائكم الماضين قبلكم، لا الصنم الذي لا يخلق شيئًا ولا يضر ولا ينفع).
وقوله تعالى: {فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ} . قال قتادة: (في عذاب الله).
وقوله تعالى: {إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ} . أي الذين اتبعوه من قومه وصدقوا منهاجه فأخلصهم الله النجاة. وقُرِئ بالكسر: "المخلِصين" والأول أشهر.
قال الحسن: (سلام على الياسين). قرأها بوصل الألف كأنها ياسين، والمراد إلياس عليه السلام، فعليه وقع التسليم، ولكنه اسم أعجميّ.
قال القرطبي: (والعرب تضطرب في هذه الأسماء الأعجمية ويكثر تغييرهم لها. قال ابن جني: العرب تتلاعب بالأسماء الأعجمية تلاعبًا، فياسين وإلياس والياسين شيء واحد). وفي ذلك قراءات:
القراءة الأولى: قراءة قراء المدينة. {سلام على آل ياسين} - بمعنى سلام على آل محمد.
قال النحاس: (فكأنه والله أعلم جعل اسمه إلياس وياسين ثم سلّم على آله، أي أهل دينه ومن كان على مذهبه، وعُلِم أنه إذا سلَّم على اله من أجله فهو داخل في
السلام، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:"اللهم صل على آل أبي أوفى". وقال الله تعالى: {أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} ).
وهذه القراءة هي قراءة شيبة ونافع. قلت: (فالمعنى: وتركنا عليه الثناء الحسن: {سَلَامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ} أمنة من الله لآل ياسين). وهذا كما قال علي بن سليمان: (فإن العرب تسمي قوم الرجل باسم الرجل الجليل منهم. فعلى هذا: "سلام على إلياسين" سمى كل رجل منهم بإلياس).
القراءة الثانية: وهي قراءة قراء مكة والبصرة والكوفة. "سلام على إلْياسين".
قيل: هو اسم إلياس عليه السلام، فيقال له: إلياس وإلياسين مثل إبراهيم وإبراهام. فعن السدي: ("سلام على إلياسين"، قال: إلياس). واختاره ابن جرير، وقال:(لأن سياق السورة السلام على النبي وحده، فكذا إلياسين إنما على إلياس دون آله). وقال في موضع آخر: (لأن الله أخبر عن كل نبي وحده بالسلام فكذا إلياس، وهو نفسه إلياسين).
القراءة الثالثة: "سلام على إدْراسين". ورويت عن ابن مسعود، نحو قوله:{وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ} ، وفي موضع آخر:{وَطُورِ سِينِينَ} . وكلاهما موضع واحد، سمي مرّة بهذا ومرة بذاك. وقيل: إلياس اسم من أسماء العبرانية كإسماعيل وإسحاق، فقرئ هنا إلياسين وإدريسين وإدرَسين وإدراسين، على أنَّها لغات في إلياس وإدريس. قال القرطبي:(ولعلَّ لزيادة الياء والنون في السريانية معنى).
قلت: والراجح عندي أن الله سلَّم على إلياس كما سلّم على من قبله من المرسلين دون آلهم مما يتناسب مع السياق، ومع قوله في الآية التي قبلها:{وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ} . فدَل أن المخاطب إلياس عليه السلام والذي يسمى إلياسين أيضًا كبقية الأسماء الأعجمية التي تأخد أشكالا متقاربة - والله تعالى أعلم. فبقي لإلياس في الأرض الثناء الحسن كبقية المصطفين الأخيار، أصحاب الحق الأبرار، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، جزاء من الله لحسان، قربهم منه سبحانه ووصلهم بنسب جماعة الإيمان.
وقوله تعالى: {وَإِنَّ لُوطًا لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} . إذ أقام الحجة على قومه ونصح لهم، وبين لهم مغبة الاستمرار في فواحشهم وانحرافهم، بأنهم يستعجلون بذلك عذاب الله أن يقع بهم. فأجابوه مستهزئين:{قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَالُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ} . فنجاه الله
المؤمنين، فهم أهله أهل الإيمان الصالحين. ولم ينفع زوجته نبوة زوجها لنجاتها وقد كانت راضية بفعل القوم المجرمين، وما كانت من الطائعين لله المخبتين، فنجا لوط ومن آمن معه {إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ}. قال الضحاك:(يقول إلا امرأته تخلفت فمسخت حجرًا، وكانت تسمى هيشفع). وعن السدي: {إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ} قال: الهالكين). وغَبَرَ في لغة العرب من الأضداد، يقال: غَبَرَ الشيءُ إذا بقي، ويقال غبر الشيء إذا مضى، والمراد هنا أنَّها غبرت ومضت مع الهالكين.
وقوله تعالى: {ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ} . قال ابن جرير: (يقول: ثم قذفناهم بالحجارة من فوقهم فأهلكناهم بذلك).
وقوله تعالى: {وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ (137) وَبِاللَّيْلِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} . قال قتادة: (قالوا: نعم والله صباحًا ومساء يطؤونها وطأ، مَنْ أخذ من المدينة إلى الشام، أخذ على سدوم قرية قوم لوط).
فخاطب سبحانه العرب وهم يمرون في طريق تجارتهم على منازل قوم لوط التي دمرها الله، فيرونها وقت الصباح أو وقت المساء خلال مرورهم. {أَفَلَا تَعْقِلُونَ}. قال ابن زيد:(قال: أفلا تتفكرون ما أصابهم في معاصي الله أن يصيبكم ما أصابهم) - فتعتبرون وتتدبرون.
قال ابن كثير: (فأهلكهم الله بأنواع العقوبات وجعل محلتهم من الأرض بحيرة نتنة قبيحة المنظر والطعم والريح، وجعلها بسبيل مقيم يمر بها المسافرون ليلًا ونهارًا. ثم قال: أفلا تعتبرون كيف دمّر الله عليهم وتعلمون أن للكافرين أمثالها).
وقوله تعالى: {وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (139) إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (140) فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ} .
يونس هو ذو النون ابن متى، كما قال جل ذكره في سورة الأنبياء:{وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87)} .
وفي الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[لا ينبغي لعبد أن يقول: أنَّا خيرٌ من يونس بن متّى](1).
(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (3395)، كتاب أحاديث الأنبياء، وكذلك (7539)، ورواه مسلم.
وقصته عليه السلام مذكورة في القرآن في ثلاث سور: في الأنبياء والصافات وفي سورة (ن). فقد بعثه الله إلى أهل نينوى بالموصل فدعاهم إلى الله العظيم فتمادوا فخرج مغاضبًا لهم ووعدهم بالعذاب بعد ثلاث، فلما رأوا الأمر كذلك وقد علموا أن الرسل لا تكذب خرجوا إلى الفلاة والصحراء بأطفالهم ونسائهم وأنعامهم ومواشيهم وفرقوا بين الأمهات وأولادها ثم جاروا إلى الله متضرعين متذللين، ورغت الإبل وفصلانها، وخارت البقر وأولادها، وثغت الغنم وسخالهم، فكشف الله عنهم العذاب ورفعه سبحانه كما قال في سورة يونس:{فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ (98)} [يونس: 98].
وأما يونس عليه الصلاة والسلام فقد أتى البحر فركب مع قوم في سفينة فهاج البحر بها وأشرفوا على الغرق وظنوا أنهم هالكون إن لم يتخففوا من أحمالهم، فاقترعوا على رجل يلقونه ليخفف الحمل فوقعت القرعة على يونس عليه السلام ثلاث مرات.
قال الحافظ ابن كثير: (فقام يونس عليه السلام وتجرد من ثيابه، ثم ألقى نفسه في البحر، وقد أرسل الله سبحانه من البحر الأخضر - فيما قاله ابن مسعود - حوتًا يشق البحار حتى جاء فالتقم يونس حين ألقى نفسه من السفينة، فأوحى الله إلى ذلك الحوت أن لا تأكل له لحمًا، ولا تهشم له عظمًا، فإن يونس ليس لك رزقًا، وإنما بطنك تكون له سجنًا) ذكره عند تفسيره سورة الأنبياء. وأما في الصافات فقال: (ولما استقر يونس في بطن الحوت ظنّ أنه قد مات ثم حرك رأسه ومدّ رجليه وأطرافه فإذا هو حي، فقام فصلى في بطن الحوت وكان من جملة دعائه: يا رب اتخذت لك مسجدًا في موضع لم يبلغه أحد من الناس).
قلت: وأَبَقَ في لغة العرب أي هرب، ومنه قولهم أبق العبد يأبِقُ ويأبُقُ فهو آبق إذا هرب وتباعد. وقيل: إنما قيل ذلك ليونس عليه السلام لأنه خرج بغير أمر الله عز وجل مستترًا من الناس. فانضم إلى أهل تلك السفينة المشحونة والمملوءة والموقرة بالأحمال. كما قال جل ثناؤه: {إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ} .
قال قتادة: (كنا نحدَّث أنه الموقر من الفُلك). والفلك يذكر ويؤنث ويعني السفينة.
وأصل المساهمة من السهام التي تُجال. والسَّهم واحد السِّهام. والسَّهم أيضًا النصيب والجمع السُّهْمانُ. والمُسَهَّمُ البُرْد المخطَّط. و"ساهمه" أي قارعه و"أسهم" بينهم أي أقرع. و"استهموا" أي اقترعوا، و"تساهموا" أي تقارعوا. ذكره أهل اللغة.
قال قتادة: ({فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ}، قال: فاحتبست السفينة، فعلم القوم أنما احتبست من حدث أحدثوه، فتساهموا فَقُرعَ يونس فرمى بنفسه فالتقمه الحوت).
والدَّحْضُ في لغة العرب أصله من الزلق. والإدحاض: الإزلاق. يقال: دَحَضَتْ رجْلُهُ أي زَلقَتْ، ودَحَضْتُ حُجَّتَهُ أي أبطلتها، فقوله:{فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ} أي: من المسهومين المغلوبين. فعن مجاهد: (قوله: {مِنَ الْمُدْحَضِينَ} قال: من المسهومين). وقال السدي: (من المقروعين). وقوله: {فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ} . أصل الالتقام الابتلاع. يقال: (لَقِمَ اللُّقْمةَ) إذا ابتلعها، و (تلقّمها) ابتلعها في مُهلة، و (لقَّمها) غيره (تلقيمًا). فالمقصود أن الحوت قد ابتلعه من اللَّقم وهو البلع.
وقوله: {وَهُوَ مُلِيمٌ} . أي: مستحق للوم مكتسب له قد أتى بما يلام عليه.
يقال: (ألام) الرجل إذا أتى بما يلام عليه، والملوم هو الذي يلام استحق ذلك أو لم يستتحق. وقيل: المليم المعيب، لام فلان فلانًا إذا عمل شيئًا معيبًا.
فعن مجاهد: (قوله: {وَهُوَ مُلِيمٌ} قال: مذنب).
وقوله تعالى: {فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} . في مفهوم {الْمُسَبِّحِينَ} تفاسير:
التفسير الأول: لولا أنه كان من الذاكرين الله في الرخاء ما نجّاه في البلاء.
فعن قتادة: ({فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ}. قال: كان كثير الصلاة في الرخاء فنجّاه الله بذلك. قال: وقد كان يقال في الحكمة: إن العمل الصالح يرفع صاحبه إذا ما عَثَر فإذا صُرعَ وجد متكئًا).
التفسير الثاني: لولا أنه كان من المسبحين أي المصلين، للبث في بطنه إلى يوم يبعثون.
قال القرطبي: (أي عقوبة له، أي يكون بطن الحوت قبرًا له إلى يوم القيامة).
واختلف كم أقام في بطن الحوت. قيل أربعين يومًا، وقيل عشرين، وقيل سبعة أيام، أو ثلاثة أيام، وقيل ساعة واحدة، وليس في ذلك خبر صحيح، والعبرة ليست بذلك، والله تعالى أعلم.
وإنما المهم أنه التجأ إلى الله سبحانه بالصلاة والعبادة ليكشف عنه. قال سعيد بن جبير: ({فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ}: قال من المصلين).
التفسير الثالث: لولا أنه من الجائرين إلى الله بالدعاء والتضرع، لاستمر مكوثه في بطن الحوت إلى يوم القيامة.
فعن ميمون بن مهران قال: سمعت الضحاك بن قيس يقول على منبره: (اذكروا الله في الرخاء يذكركم في الشّدة، إن يونُس كان عبدًا لله ذاكرًا، فلما أصابته الشدة دعا الله فقال الله: {فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ}. فذكره الله بما كان منه، وكان فرعون طاغيًا باغيًا:{حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (90) آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} . قال الضحاك: فاذكروا الله في الرخاء يذكركم في الشدة) ذكره ابن جرير.
وعن سعيد بن جبير: ({فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ} قال: قال: لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين. فلما قالها قذفه الحوت وهو مغرب).
وعن قتادة: (قوله: {لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} قال: لصار له بطن الحوت قبرًا إلى يوم القيامة). قال مجاهد: (التقمه ضحى ولفظه عشية).
التفسير الرابع: قيل إن ذلك كان تسبيحًا لا صلاة. قال القرطبي: (والأظهر أنه تسبيح اللسان الموافق للجنان). واحتج بحديث رواه الطبري عن أبي هريرة وفيه: "فسبح في بطن الحوت، فسمعت الملائكة تسبيحه، فقالوا: يا ربنا إنا نسمع صوتًا ضعيفًا بأرض غريبة .. ".
قلت: والراجح عندي بمجموع هذه التفاسير أن يونس صلوات الله وسلامه عليه لما نزل به الكرب سارع إلى الله بالتوجه والتسبيح والتضرع والدعاء، فاعترف لله العظيم بذنبه ثم قال:{لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء: 87]. فكان دعاءً فيه ذكرٌ وتسبيح وتذلل واعتراف بالذنب جمع ألوان الخير كلها.
فقد أخرج الحاكم بسند صحيح لغيره، عن سعد قال:[كنا جلوسًا عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ألا أُخْبِرُكُم بشيءٍ إذا نزل برجل منكم كَرْبٌ أو بلاءٌ من بلايا الدنيا دعا به يُفْرَجِ عنه؟ فقيل له: بلى، فقال: دعاءُ ذي النون: {لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ}](1).
(1) حديث صحيح لغيره. أخرجه الحاكم (1/ 505). وانظر مسند أحمد (1/ 170)، وسلسلة الأحاديث الصحيحة - حديث رقم - (1744).
وكذلك روى الحاكم عن أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[صنائع المعروف تقي مصارعَ السوء والآفات والهلكات، وأهل المعروف في الدنيا، هم أهل المعروف في الآخرة](1).
ولذلك كان مثل هذا الحضور بين يدي الله عز وجل بكامل التذلل والاعتراف بالذنب ورقة القلب والإقرار بالنعم - التي لا يحصيها على العبد إلا الله - هو سيد الاستغفار كما وصفه النبي صلى الله عليه وسلم.
فقد أخرج البخاري في صحيحه، والترمذي في جامعه، عن شداد بن أوس رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[سيّد الاستغفار، أن يقول العبد: اللهم أنت ربي، لا إله إلا أنت، خلقتني وأنا عَبْدُك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك عليَّ، وأبوء بذنبي، فاغفر لي، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت. من قالها من النهار موقِنًا بها، فمات من يومه قبل أن يُمْسي، فهو من أهل الجنة، ومن قالها من الليل وهو موقِنٌ بها فمات قبل أن يُصبحَ، فهو من أهل الجنة](2). هذا لفظ البخاري. وقوله أبوءُ: معناه أقِرُّ وأعترف.
وأما لفظ الترمذي نسخة "التحفة": [ألا أدلك على سيد الاستغفار؟ اللهم أنت ربي، لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك، وابن عَبْدك، وأنا على عَهْدِكَ ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعتُ، وأبوء لك بنعمتك عليّ، وأعترف بذنوبي، فاغفر لي ذنوبي، إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، لا يقولها أحدٌ حين يُمسي إلا وجبت له الجنة].
وأما في نسخة "بولاق" ونسخة "الدعاس" فبلفظه: [لا يقولها أحد حين يمسي فيأتي عليه قدر قبل أن يصبح إلا وجبت له الجنة، ولا يقولها حين يصبح فيأتي عليه قدر قبل أن يمسي إلا وجبت له الجنة](3).
وخلاصة القول: أن الإكثار من العمل الصالح في الرخاء ينجي الله به عبدهُ في الشدةِ، وفي ذلكَ أحاديث عظيمة من كنوز السنة الصحيحة:
(1) حديث صحيح بمجموع طرقه. انظر مستدرك الحاكم (3/ 568)، والمرجع السابق (1908).
(2)
أخرجه البخاري في الدعوات، وأحمد (4/ 122)، وانظر جامع الترمذي (4/ 229) للفظ بعده.
(3)
حديث صحيح. انظر جامع الترمذي نسخة بولاق (2/ 245)، ونسخة الدعاس (3390).
الحديث الأول: أخرج الإمام أحمد والطبراني بسند صحيح عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[تعرّف إلى الله في الرخاء يعرفكَ في الشدة](1).
الحديث الثاني: أخرج النسائي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [تعوذوا بالله من جار السوء في دار المُقام، فإن الجارَ البادي يتحولُ عنك](2).
الحديث الثالث: أخرج البخاري عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [تعوذوا بالله من جَهْدِ البلاء، ودركِ الشقاء، وسوء القضاء، وشماتة الأعداء](3).
الحديث الرابع: أخرج الحاكم بسند حسن عن ابن عباس، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعمه العباس:[يا عَمِّ! أكْثِر الدعاءَ بالعافية](4).
الحديث الخامس: أخرج أبو يعلى في المسند، بسند حسن عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[أكثروا من شهادة أن لا إلهَ إلا الله، قبل أن يُحال بينكم وبينها، ولقنوها موتاكم](5).
الحديث السادس: يروي الضياء بسند صحيح عن الزبير، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[من استطاعَ منكم أن يكونَ له خِبءٌ من عمل صالح فليفعل](6).
وقوله تعالى: {فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ (145) وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينِ} .
في قوله {فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ} تفاسير:
التفسير الأول: نبذناه بالعراء، أي: ألقيناه بالساحل.
فعن ابن عباس: (قوله: {فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ} يقول: ألقيناه بالساحل).
(1) حديث صحيح. انظر صحيح الجامع الصغير (2958)، ورواه الحاكم وأبو نعيم في الحلية.
(2)
حديث صحيح. أخرجه النسائي (2/ 319)، وانظر مستدرك الحاكم (1/ 532)، وسلسلة الأحاديث الصحيحة - حديث رقم - (1443).
(3)
حديث صحيح. أخرجه البخاري في صحيحه (4/ 256) من حديث أبي هريرة، وكذلكَ نحوه (4/ 200)، وفي مسند أحمد (2/ 173).
(4)
حديث حسن. أخرجه الحاكم (1/ 529)، والطبراني (11908)، وانظر: الصحيحة (1523).
(5)
حديث صحيح. أخرجه أبو يعلى في "مسنده"(4/ 1460) من حديث أبي هريرة، وانظر سلسلة الأحاديث الصحيحة - حديث رقم - (468).
(6)
حديث صحيح. أخرجهُ في "الأحاديث المختارة"(1/ 296)، وأخرجهُ الخطيب في "التاريخ"(11/ 263)، وصححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة - عن الزبير مرفوعًا - (2313).
وفي رواية قال: (خرج بهِ، يعني الحوت حتى لفظه في ساحل البحر، فطَرحه مثل الصبي المنفوس، لم ينقص من خلقه شيء).
التفسير الثاني: نبذناه بأرض لا نبات فيها ولا شيء.
فعن قتادة: (قوله: {فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ}، قال: بأرض ليس فيها شيء ولا نبات).
وقال ابن زيد: (ما لفظه الحوت حتى صار مثل الصبي المنفوس، قد نشز اللحم والعظم، فصار مثل الصبي المنفوس، فألقاه في موضع وأنبت الله عليه شجرة من يقطين).
التفسير الثالث: نبذناه بالصحراء. فعن ابن الأعرابي: (قوله: {بِالْعَرَاءِ} - قال: بالصحراء).
التفسير الرابع: نبذناه بالفضاء، فعن الأخفش:({فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ}، قال: بالفضاء).
التفسير الخامس: العراء - هو الواسع من الأرض -. فعن أبي عبيدة: ({فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ}، قال: الواسع من الأرض).
التفسير السادس: العراء - هو المكان الخالي -. قاله الفراء، وذكره القرطبي.
التفسير السابع: العراء - هو وجه الأرض -. قاله أبو عبيدة وأنشد لرجل من خُزاعة:
ورفعتُ رِجلًا لا أخافُ عِثارَها
…
ونبذت بالبلدِ العَرَاء ثيابي
قلت: وفي لغة العرب: (نبذه) أي: ألقاه وطرحه، وقيل: تركهُ. والمراد بأن الله سبحانه قد أمر الحوت أن يخرجه من بطنه لما أكثر الدعاء وألَظَّ بالاستغفار والتسبيح والإقرار بالذنب، فطرحه حيث أمره الله على ساحل البحر في أرض لا شيءَ فيها ولا نبات ولا حياة، تشبه الصحراء.
وقوله: {وَهُوَ سَقِيمٌ} . فيه تفسيران أو معنيان:
المعنى الأول: سقيم أي ضعيف البدن. قال النسفي في تفسيره: (عليل مما ناله من التقام الحوت). وقال القاسمي: ({وَهُوَ سَقِيمٌ} أي مما نالهُ من هذا المحبس الذي يأخذ بالخناق).
المعنى الثاني: سقيم أي مريض قد عاد بدنهُ كبدنِ الصبي المنفوس حين يولد وصار لحمه نيًا طريًا.
روي ذلك عن ابن مسعود: (قوله: {وَهُوَ سَقِيمٌ} قال: كهيئة الفرخ الممعوط الذي ليس عليهِ ريش) ذكره القرطبي. وقد سبق قول ابن عباس نحوه.
وفي لغة العرب: سقم من السَّقام والسُّقْم وهو المرض، والسَّقَمُ مثله أيضًا.
قلت: وجمعًا بين التفسيرين: فإن الله سبحانه قد أخرج يونس عليه السلام من بطن الحوت عليلًا سقيمًا قد تأثر بمكوثه في ذلك المحبس، فعاد بدنه طريًا كما يكون الحال عند الولادة. وأما التوفيق مع قوله:{لَوْلَا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ} [القلم: 49]. فالجواب: أنه نبذ بالعراء بنص آية الصافات وهو سقيم ولكنه غير مذموم، رحمة الله به.
وقوله: {وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ} . أي أنبتنا عنده، فإن {عَلَيْهِ} هنا تعني "عنده". نحو قوله تعالى:{وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ} أي عندي. وقيل بمعنى (له).
وأما قوله: {يَقْطِينٍ} ففيه أكثر من تأويل:
التأويل الأول: اليقطين كل شجرة لا تقوم على ساق.
فعن سعيد بن جبير: ({وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ}. قال: هو كل شيء ينبت على وجه الأرض ليس له ساق).
قال المبرّد: (يقال لكل شجرة ليس لها ساق يفترش ورقها على الأرض يقطينة نحو الدُّبَّاء والبطيخ والحَنْظل، فإن كان لها ساق يُقلّها فهي شجرة فقط، وإن كانت قائمة أي بعروق تفترش فهي نجمةٌ وجمعها نجم).
وبنحوه روي عن ابن عباس والحسن ومقاتل، قالوا:(كل نبت يمتد ويبسط على الأرض ولا يبقى على استواءٍ وليس له ساق نحو القثاء والبطيخ والقرع والحَنْظَل فهو يقطين).
وقال ابن جرير: (وكل شجرة لا تقوم على ساق كالدُّباء والبِطّيخ والحَنْظَل ونحو ذلكَ فهي عند العرب يقطين).
التأويل الثاني: اليقطين هو النبات الذي ينبت ويموت من عامه.
قال سعيد بن جبير: (هو كل شيء ينبت ثم يموت من عامه، فيدخل في هذا الموز).
التأويل الثالث: اليقطين هو القرع وتسميه العرب الدّباء.
فعن ابن عباس: ({شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ} فقالوا عنده القرع، قال: وما يجعلهُ أحق من
البطيخ). وقال السدي: (هو القرع، والعرب تسميه الدّباء).
التأويل الرابع: كل شجر ينبت بمكانه. قال الزجاج: (اشتقاق اليقطين من قَطَنَ بالمكان إذا أقامَ به فهو يفعيل).
التأويل الخامس: قيل هو اسم أعجمي - ذكره القرطبي.
التأويل السادس: قيل ما أنبته الله بالحال. قال بعضهم: (ما كان ثمَّ يقطين فأنبته الله في الحال).
التأويل السابع: قيل: إنما خص اليقطين بالذكر، لأنه لا ينزلُ عليه ذباب.
قال الحافظ ابن كثير: (وذكر بعضهم فوائد في القرع منها: سرعة نباتهِ وتظليل ورقه لكبره ونعومته وأنه لا يقربها الذباب).
التأويل الثامن: شجر له شراب يَرْوِي باللبن.
فعن ابن زيد قال: (أنبت الله عليه شجرة من يقطين، فكان لا يتناولُ منها ورقة فيأخذها إلا أروته لبنًا. قال: شرب منها ما شاء حتى نبت).
قلت: وكلها معان متقاربة تفيد أن الله سبحانهُ قد امتَنّ على يونس عليه السلام بعد محنته في بطن الحوت وما أصابهُ من الضعف والتعب أن أخرجه إلى أرضٍ لا نباتَ فيها ولا شيء، فأكرمه بنبات سريع ترعرع فأظله وسدّ به جوعه وظمأه وحاجته.
وقوله تعالى: {وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ} فيه تفاسير:
التفسير الأول: أن تكون {أَوْ} بمعنى بل. قال الفراء: ({أَوْ} بمعنى بل).
وعن ابن عباس: (قوله: {وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ} قال: بل يزيدون، كانوا مئة ألف وثلاثين ألفًا).
التفسير الثاني: أن تكون {أَوْ} بمعنى الواو. فيكون قوله: "يزيدون" في محل رفع خبر لمبتدأ محذوف تقديره "هم". أي: "وهم يزيدون".
قال سعيد بن جبير: (يزيدون سبعين ألفًا، وقد كان العذاب أرسل عليهم، فلما فرّقوا بين النساء وأولادها، والبهائم وأولادها، وعجّوا إلى الله كشف عنهم العذاب وأمطرت السماءُ دمًا).
التفسير الثالث: أن تكون {أَوْ} للشك بالنسبة إلى مرأى الناظر.
قال القاسمي: (أي إذا رآها الرائي قال: هي مئة ألف أو أكثر. والغرض الوصف بالكثرة). وقال المبرد: (المعنى: وأرسلناه إلى جماعةٍ لو رأيتموهم لقلتم هم مئة ألف أو أكثر، وإنما خوطب العباد على ما يعرفون).
وقال الأخفش: (أي: أو يزيدون في تقديركم). قال ابن عباس: (زادوا على مئة ألف عشرين ألفًا). وفي رواية عنه: (ثلاثين ألفًا). وفي رواية عن الحسن: (بضعًا وثلاثين ألفًا). وعن مقاتل: (سبعين ألفًا). قلت: واللهُ أعلم بدقةِ عددهم فليسَ هذا هو المقصود من عرض هذا الخبر.
وخلاصة القول: أن الله سبحانهُ قد بعث يونس صلى الله عليه وسلم إلى قوم يزيد عددهم عن مئة ألف، يعملون بالمعاصي والآثام، فدعاهم فاستهزؤوا، فغادرهم مغاضبًا وعاجلهم بالدعاء عليهم، فتنَّبهوا وعادوا واستغفروا، وضجّوا ضجّةَ واحدة إلى الله سبحانهُ فكشف عنهم. قال قتادة:(أرسل إلى أهل نينوى من أرض الموصل. قال: قال الحسن: بعثه الله قبل أن يصيبه ما أصابه {فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ} قال: الموت).
وقال النسفي: ({وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ}. قال: المراد به القوم الذين بُعث إليهم قبل الالتقام. ({فَآمَنُوا} به وبما أرسل به {فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ} إلى منتهى آجالهم).
وقال القاسمي: ({فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ} أي حين انقضاء آجالهم بالعيش الهني والمقامِ الأمين، ببركة الإيمان والعمل الصالح. ثم قال: وإنما لم يختم قصته وقصة لوط بما ختم به سائر القصص من قوله: {وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ} إلخ اكتفاء بالتسليم الشامل لكل الرسل المذكورين في آخر السورة).
فهؤلاء القوم لما آمنوا كشف الله عنهم وأنعم عليهم إلى وقت آجالهم، كما قال جل ثناؤه في سورة يونس:{فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ} [يونس: 98].
149 -
182. قوله تعالى: {فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ (149) أَمْ خَلَقْنَا الْمَلَائِكَةَ إِنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُونَ (150) أَلَا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ (151) وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (152) أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ (153) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (154) أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (155) أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُبِينٌ (156) فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (157) وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ
نَسَبًا وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (158) سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (159) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (160) فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ (161) مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ (162) إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ (163) وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ (164) وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ (165) وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ (166) وَإِنْ كَانُوا لَيَقُولُونَ (167) لَوْ أَنَّ عِنْدَنَا ذِكْرًا مِنَ الْأَوَّلِينَ (168) لَكُنَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (169) فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (170) وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ (171) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (172) وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ (173) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (174) وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (175) أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ (176) فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ (177) وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (178) وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (179) سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180) وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (182)}.
في هذه الآيات: يحتج سبحانهُ على كفار قريش - بعدما ذكر أخبار الأمم الغابرة تسلية لنبيّه صلى الله عليه وسلم وتخفيفًا عليهِ مما يلقى من رؤوس مكة من العناد والكبر والتكذيب - وهم ينسبون لله بنات بأنهم الملائكة، ويختصون أنفسهم بالبنين من دونه سبحانه، فيختارون الأفضل لأنفسهم، وما يُعابُ في عرفهم الفاسد ينسبونه لله، تعالى الله عما يقولون علوًا كبيرًا. سلهم يا محمد هل شهدتم خلقهم كذلكَ؟ أم تفترون على الله الكذب، وتُعَلِّقون به الولد، وتعبدونه من دونه سبحانه؟ فهل لديكم بذلكَ برهانٌ تقوم به الحجة، أو كتابٌ اختصّ بكم فيه خبر صادق يدفع عنكم الشبهة، ومن ثمَّ تفترون على الله أبشع الكذب بأن له مع الجنّ مصاهرة ونسبة، تعالى سبحانهُ عما ينسبون له من الصفة، ولقد علمت الجنة أن من قالوا إن الملائكة بنات الله لمحضرون في العذاب يوم القيامةِ، إلا من أخلصهم الله من عبادهِ لرحمته وخلقهم لجنته.
قل لهم يا محمد: فإنكم أيها المشركون بالله وما تعبدون من الآلهة والأوثان والشهوات، ما أنتم بمضلين أحدا إلا من سبق في علم الله أنه صالي الجحيم، مبعدٌ من رحمة الله، ذائق الخزي والندامة يوم القيامةِ، وأما من نسبتم لهم كذبًا أنهم بناتُ الله، فهم الملائكةُ الكرام، كلٌّ لهُ مقام معلوم بين أهل السماء، ومنزلة في العبادةِ والطاعة منزهة عن الرياء، فمنهم قوم مسبحون لا يفترون، ومنهم قوم راكعون وساجدون، ومنهم قومٌ صافون قائمون لا يتزايلون، إلى الطاعة هم متلهفون، لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون. أما مشركو قريش هؤلاء فهم كاذبون منافقون، فقد
كانوا في الجاهلية قبل البعثة يقولون: لو كان عندنا كتاب من السماء كالتوراةِ والإنجيل أو أتانا نبي مثل ما أتى اليهود والنصارى لَكُنَّا الذين سموا في العبادة والطاعةِ والإخلاص بين العالمين، فها هو النبي قد جاءكم من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم، فكفرتم بهِ وآثرتم سبيل الشياطين، فسوف تعلمون خزيَ هذا التناقض والكذب منكم يوم تُكْسَرون في الدنيا ويوم تبعثون، فلقد مضى منا القول لعبادنا المؤمنين، بأنهم هم المنصورون والغالبون، فلا تحزن يا محمد وطمئن أصحابكَ فإن يومَ بدر قادم قريب وسوف يبصرون، حين لا ينفعهم البصر وقد أسرفوا على أنفسهم وكذبوا المرسلين، وكفروا بخاتم النبيين، وبالقرآن آخر كتاب من الله إلى العالمين، ثم هم يوم القيامةِ يقفون بين يدي الله خزايا نادمين، يبصرون ما ضيّعوا وكانوا يقولون مستهزئين، أين العذاب ائتنا به فقد أخذهم العذاب ونزل بساحتهم فجأة فدَكَّهم الصحابة يوم بدر في التراب خانعين، فاطمئن وأصحابك يا محمد واصبر فسوف تبصر مصرع هؤلاء المجرمين. سبحان ربك يا محمد ذي العزةِ والكبرياء والجبروت والملكوت الجبار العظيم، والسلامُ عليك وعلى إخوانك الذين سبقوك في هذا المنهج الكريم، وقد صبروا على أقوامهم الذين وصفوا الله بالنقائص والعيوب فانْتَصرَ الأنبياءُ والرسل لله العزيز الحكيم، ووصفوا الله بما يليقُ بجلالهِ وكماله وكما وصف نفسه ورضي أن يوصف به سبحانه هو الرحمن الرحيم، فسلام عليكَ يا محمد وعلى الرسل والأنبياء أجمعين، والحمدُ لله رب العالمين.
فإلى تفصيل ذلك:
قوله تعالى: {فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ} . هو كقوله سبحانه في آيةِ الإسراء: {أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِنَاثًا إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيمًا} [الإسراء: 40].
فالمراد: سَلْ يا محمد أهل مكة، وذلكَ أن جُهَيْنَةَ وخُزاعة وبني سلمة وبني مُلَيْح وعبد الدار زعموا زورًا وبهتانًا أن الملائكة بنات الله، فوبّخَهم الله بهذا السؤال وعاب عليهم بشاعة تفكيرهم وقباحته إذ ينسبون لأنفسهم ما يشتهون - وهم الذكور - وينسبون ما يعيبهم لله تعالى. كما قال سبحانه يصفهم في سورة النحل:{وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ} [النحل: 58]. فسلهم يا محمد: {أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى (21) تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى} [النجم: 21 - 22] وهو سؤال توبيخ وإنكار.
قال قتادة: ({أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ}، لأنهم قالوا: يعني مشركي قريش: لله البنات ولهم البنون). وقال السدي: (كانوا يعبدون الملائكة).
وقوله تعالى: {أَمْ خَلَقْنَا الْمَلَائِكَةَ إِنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُونَ} . أي: حاضرون مشاهدون لخلقنا إياهم إناثًا، كقوله جل ثناؤه في سورة الزخرف:{أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ} . وكما قال في سورة الزخرف أيضًا: {وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ (19) وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ} . فكيف حكموا على الملائكة أنهم إناثٌ وما شاهدوا خلقهم.
وقوله تعالى: {أَلَا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ (151) وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} .
قال الحافظ ابن كثير: (ألا من كذبهم ليقولون: صدر له ولد {وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} أي لأنهم افتروا على الله ثلاث كذبات في غاية الكفر:
أولًا: جعلوهم بنات لله فجعلوا لله ولدًا تعالى الله وتقدّس.
ثانيًا: وجعلوا ذلكَ الولدَ أنثى.
ثالثًا: ثم عبدوهم من دون الله تعالى وتقدس. وكل منها كافٍ في التخليد في نار جهنم).
ثم قال سبحانه متابعًا توبيخ المشركين: {أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ (153) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (154) أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (155) أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُبِينٌ (156) فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} .
وعن قتادة: ({أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ}. يقول: كيف يجعل لكم البنين ولنفسه البنات ما لكم كيفَ تحكمون، {أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُبِينٌ}. قال: أي عذر مبين).
وعن السدي: ({فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ} أن هذا كذا بأن له البنات ولكم البنون).
أي: فأتوا بحججكم وإثباتاتكم إن كنتم صادقين حقًّا في قولكم وزعمكم.
وقوله: {وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا} فيه تفاسير:
التفسير الأول: قيل الجِنَّة هي الملائكة، وقد وصفوا الملائكة من قبل أنهم بنات الله تعالى الله عما يقولون علوًا كبيرًا.
فعن مجاهد: ({وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا} قال: قال كفار قريش: الملائكةُ بنات
الله، فسأل أبو بكر: مَنْ أمهاتهنّ؟ فقالوا بنات سَرَوات الجن - وفي رواية: مخدّرات الجنّ - يحسبون أنهم خُلقوا مما خُلقَ منه إبليس).
وعن قتادة قال: (قالت اليهود: إن الله تبارك وتعالى تزوج إلى الجنّ، فخرج منهما الملائكة، قال: سبحانه سبح نفسه).
وعن السدي، قال:(الجِنّة: الملائكة، قالوا: هنّ بنات الله).
وقال مقاتل: (قالت اليهود لعنهم الله: إن الله صاهرَ الجنّ فكانت الملائكةُ من بينهم، قال: القائلُ ذلكَ كنانة وخزاعة، قالوا: إن الله خطب إلى سادات الجن فزوجوه من سَرَوات بناتهم، فالملائكة بنات الله من سروات بنات الجن).
وعن مجاهد قال: (إنهم بطن من بطون الملائكة يقال لهم الجنة). وقال بعض أهل اللغة: (قيل لهم جِنّة لأنهم لا يُرَون). وعن السدي: (إنما قيل لهم جِنّة لأنهم خُزان على الجنان والملائكةُ كلهم جنة). وقوله: {نَسَبًا} ، أي: مصاهرة وقربًا.
التفسير الثاني: الجِنّة هي الجن.
فعن قتادة ومقاتل: ({وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا} قالت اليهود لعنهم الله: إن الله صاهر الجنّ فكانت الملائكة من بينهم) ذكره القرطبي.
التفسير الثالث: قيل النسب الذي جعلوهُ بين الله والجنة قولهم إن الله وإبليس أخوان. فعن ابن عباس: (قوله: {وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا} قال: زعم أعداء الله أنه تبارك وتعالى وإبليس أخوان). ذكره ابن جرير.
التفسير الرابع: قيل النسب هو الشرك.
فعن الحسن قال: (أشركوا الشيطان في عبادة الله فهو النسب الذي جعلوه).
ورجّحهُ القرطبي وقال: (قول الحسن في هذا أحسن، دليله قوله تعالى: {إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} أي في العبادة).
قلت: وكل ما سبق وارد في حق هؤلاء المشركين، فقد نسبوا لله الولد، ونعتوا الملائكة إناثًا ربطوهم نسبًا بالله، واختاروا الذكور لأنفسهم فلهم ما يشتهون ولله ما يعيبون، ثم سبكوا خرافة أفرزتها عقولهم ونتن فكرهم وقبح آفاقهم بأن الله تزوج من الجن فأنت الملائكة، فصرفوا شيئًا من العبادةِ للجن ظنّ التقرب إلى الله الذي لعنهم وأبعدهم وذمهم وأعدّ لهم في جهنم سعيرًا، بما أسرفوا في الوصف الذي لا يليقُ
بجلال الله فتعالى الله عما وصفوا وعما اكتسبوا علوًا كبيرًا.
وقوله: {وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ} . فيه تأويلان:
التأويل الأول: قائلوا هذا القول يعلمون أنهم لَمُشْهدون الحساب.
فعن مجاهد: ({وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ}: أنها ستُحْضَر الحساب).
التأويل الثاني: قيل إن قائلي هذا القول سيُحضرون العذاب في النار.
فعن السدي: ({إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ} قال: إن هؤلاء الذين قالوا هذا لمحضرون معذبون).
وقال قتادة: (لمحضرون في النار). واختاره القرطبي وقال: (لأن الإحضار تكرر في هذه السورة ولم يرد الله به غير العذاب).
قلت: والراجح عندي ما يجمع المعنيين معًا. فإن الجن قد علموا على ألسنة الرسل أنهم مجموعون ليوم لا ريبَ فيهِ، واقفون بين يدي الله سبحانه، هم ومن كان يعبدهم من دون الله بما أشركوا مع بعضهم بالله، كما قال جل ثناؤه في سورة الأنعام:{وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَامَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} [الأنعام: 128].
وكقوله سبحانه في السورة نفسها: {يَامَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ (130)} [الأنعام: 130].
ثم إن الملائكة تعلم مصير المشركين بالله المستهزئين بأسمائه وصفاته أنهم قادمون لمعاينة الحساب ونيل نكال العقاب.
وقوله تعالى: {سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (159) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ} .
أي: تعالى الله وتنزه وتقدس عما يصفهُ الظالمون من أن يكون له ولد أو نسب مع الملائكة أو الجن، وتبارك فهو خالقهم جميعًا، وهو العزيز الأحد الصمد لا إله إلا هو، وسيعلم الملحدون بأسمائه وصفاته ما ينالهم يوم يُفْرَزُون في عرصات القيامة، وينجي الله المخلصين أتباع الرسل المتبعين للحق المنزّل، الذي نزل على كل نبي مرسل، والمنصفين في وصفهم لله كما وصف نفسه بوصف مجمل أو مفصّل.
قال ابن جرير: (ولقد علمت الجنة أن الذين قالوا: إن الملائكة بنات الله لمُحضرون العذاب، إلا عباد الله الذين أخلصهم لرحمته وخلقهم لجنته).
وقوله تعالى: {فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ (161) مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ (162) إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ} .
قال الحسن: (ما أنتم عليه بمضلين إلا من كان في علم الله أنه سيصلى الجحيم).
ذكره ابن جرير.
فإن "ما" بمعنى الذي، وقيل بل هي مصدرية، والتقدير: فإنكم وعبادتكم لهذه الطواغيت. وقيل: فإنكم مع ما تعبدون من دون الله. وقوله: {بِفَاتِنِينَ} أي بمضلين.
قال ابن كثير: (أي إنما ينقاد لمقالتكم وما أنتم عليه من الضلالة والعبادة الباطلة من هو أضل منكم ممن ذُرئ للنار: {لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ}. فهذا الضرب من الناس هو الذي ينقادُ لدين الشرك والكفر والضلالة، كما قال تبارك وتعالى: {إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ (8) يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ} أي إنما يضل به من هو مأفوك ومبطل).
وفي هذه الآية ردٌّ على القدرية كما أشار القرطبي رحمه الله، وذكر عن عمرو بن ذر قال:(قدمنا على عمر بن عبد العزيز فَذُكِرَ عنده القدر، فقال عمر: لو أراد الله ألّا يعصى ما خلق إبليس وهو رأس الخطيئة، وإن في ذلكَ لعلمًا في كتاب الله جل وعز، عرفه من عرفه، وجهله من جهله، ثم قرأ: {فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ (161) مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ} إلا من كتب الله عز وجل عليه أن يصلى الجحيم. وقال: فَصَلت هذه الآية بين الناس، وفيها من المعاني أن الشياطين لا يصلون إلى إضلال أحد إلا من كتب الله عليهِ أنه لا يهتدي، ولو علم الله جل وعز أنه يهتدي لحال بينه وبينهم).
قلت: والآية تشبه قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ} ، وقوله:{إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} . فاللهُ سبحانهُ علم ما كان وما يكون وما سيكون وما لن يكون لكن إن قُدِّر وكان كيف سوف يكون، وكتب ذلك كله في اللوح المحفوظ، فلا يضل إلا من سبق في علم الله وكتابته أنه ضال مستهزئ بالحق، ولا يهتدي إلا من سبق في علم الله وكتابته أنه يستحق الهداية وهو محب معظم للحق. قال تعالى:{وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشمس: 7 - 10]. وقال تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5)
وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} [الليل: 5 - 10].
وقد علم الله أسماء هؤلاء أهل الجنة وأسماء قبائلهم ومجموعهم. وأسماء أولئكَ أهل النار وأسماء قبائلهم ومجموعهم.
فقد أخرج الإمام أحمد في المسند، بسند صحيح عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال:[خرجَ علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي يدهِ كتابان، فقال: أتدرون ما هذان الكتابان؟ قال: قلنا لا إلّا أن تُخْبِرَنا يا رسول الله، فقال للذي في يدهِ اليمنى، هذا كتاب من رب العالمين، فيه أسماء أهل الجنة وأسماء آبائهم وقبائلهم ثم أُجْمِلَ على آخرهم، فلا يُراد فيهم ولا يُنقصُ منهم أبدًا. ثم قال للذي في شماله، هذا كتاب من رب العالمين، فيهِ أسماء أهل النار وأسماء آبائهم وقبائلهم ثم أجمل على آخرهم فلا يزاد فيهم ولا يُنقصُ منهم أبدًا. فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: فلأي شيء إذن نَعْمَلُ إن كان هذا أمرًا قد فُرغَ منه؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: سدِّدُّوا وقاربوا، فإن صاحب الجنةِ يختم له بعمل أهل الجنةِ وإن عمل أي عمل، وإنّ صاحب النار يختم له بعمل أهل النار وإن عمل أي عمل، ثم قال بيده فقبضها، ثم قال: فرغ ربكم عز وجل من العباد، ثم قال باليمنى فنبذ بها فقال: فريق في الجنةِ، ونبذ باليسرى فقال: فريق في السعير](1).
وقد استوفيت هذا المفهوم في كتابي: أصل الدين والإيمان، عند الصحابة والتابعين لهم بإحسانٍ - في أبحاث القدر - فلله الحمد والمنة.
وأما أصل الفتنة في اللغة فهو الاختبار والامتحان. تقول (فَتَن) الذهب يفتنه فِتنة إذا أدخله النار لينظر ما جَوْدتُه، ويسمى الصائغ (الفتّان) وكذا الشيطان. وافتُتِنَ الرجل وفُتِنَ فهو مفتون إذا أصابته فتنةٌ فذهب مالهُ أو عقلُهُ. و (فَتَنّهُ تفتينًا) فهو (مُفَتَّن) أي مفتون جدًّا.
وقوله تعالى: {وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ} . أي: مقام في العبادةِ وموضع في السجود ومكان مخصوص في السماوات، كل قد علم مقامه في العبادة لا يتجاوزه ولا يتعداه، وكل قد علم تسخيرهُ وواجبه الذي خلقه الله وأراده له.
وعن ابن زيد: (قوله: {وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ}، قال: هؤلاء الملائكة).
(1) حديث صحيح. أخرجه أحمد (2/ 167)، والنسائي في "الكبرى"(11473)، والترمذي (2141). وانظر سلسلة الأحاديث الصحيحة (46)، وصحيح الجامع (88).
وعن ابن عباس قال: (ما في السماوات موضع شبر إلا وعليهِ ملك يصلي ويسبح).
أخرج ابن نصر في "الصلاة" بسند حسن في الشواهد عن عائشة مرفوعًا: [ما في السماء الدنيا موضع قدم، إلا عليه ملك ساجد، أو قائم، فذلك قول الملائكة: {وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ}، {وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ}، {وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ}].
وله شاهد في معجم الطبراني "الكبير" بسند صحيح على شرط مسلم، عن حكيم بن حزام قال:[بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم في أصحابه إذ قال لهم: أتسمعون ما أسمع؟ قالوا: ما نسمعُ من شيء. قال: إني لأسمع أطيط السماء، وما تلام أن تئط، وما فيها موضع شبر إلا وعليه ملك ساجد أو قائم](1).
ورواه ابن مردويه عن أنس مرفوعًا بلفظ: [أطت السماء ويحقّ لها أن تَئِطَّ، والذي نفسُ محمدٍ بيده، ما فيها موضِعُ شبر إلا وفيه جبهة ملك ساجدٍ يسبح الله بحمده].
وأصل معناه في مسند أحمد وجامع الترمذي وسنن ابن ماجة - بلفظ أشمل - عن أبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [إني أرى ما لا ترون، وأسمعُ ما لا تسمعون، أطّت السماء، وحُقَّ لها أن تئِطَّ، ما فيها موضع أربعِ أصابع، إلا وملكٌ واضعٌ جبهتهُ لله تعالى ساجدًا، والله لو تعلمون ما أعلم، لضحكتم قليلًا ولبكيتم كثيرًا، وما تلذذتم بالنساء على الفُرش، ولخرجتم إلى الصّعدات تجأرون إلى الله](2).
وقيل: بل هو من قول المؤمنين للمشركين، أي لكل مقام في الآخرة. وقيل: أي منا من له مقام الخوف، ومنا من له مقام الرجاء، ومقام الإخلاص، وغيرها، والأول أرجح.
وقوله تعالى: {وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ (165) وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ} ،
أي: فنحنُ الصافون لله لعبادته، والمسبحون المصلون له سبحانه. وفيه أقوال:
القول الأول: أي نحن الصافون أجنحتنا في الهواء ننتظر ما نؤمر.
قال القرطبي: (وقيل: أي لنحن الصافون أجنحتنا في الهواء وقوفًا ننتظر ما نؤمر به).
(1) حديث صحيح. أخرجه ابن نصر في "الصلاة"(43/ 2)، (44/ 1)، والطبراني في "الكبير". انظر سلسلة الأحاديث الصحيحة (1059)، (1060)، وصحيح الجامع (2445).
(2)
حديث صحيح. أخرجه الترمذي في السنن (2312). انظر صحيح سنن الترمذي (1882). ورواه ابن ماجة (4190). ورواه أحمد. انظر تخريج المشكاة (5347)، وكتابي: أصل الدين والإيمان (1/ 549) لتفصيل البحث.
القول الثاني: أي نحن الصافون حول العرش.
قال النسفي: (نَصُفّ أقدامنا في الصلاة أو نَصُفّ حول العرش داعين للمؤمنين).
القول الثالث: أي نحن الصافون في الصلاة والعبادة صفوفًا لا مثيل لها ليقتدي بها المؤمنون في الأرض، وليتأسوا بها. فعن ابن عباس ومجاهد: ({وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ} : الملائكة. {وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ} : الملائكة. {وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ} : الملائكة، نسبح لله عز وجل.
قلت: ويجمع هذه الأقوال والمعاني أن الملائكة صافون في أداء الطاعة وفي منازل الخدمة التي يؤمرون بها.
ففي صحيح مسلم ومسند أحمد وسنن أبي داود والنسائي وابن ماجة عن جابر بن سَمُرة قال: [خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن في المسجد فقال: ألا تَصُفّون كما تَصُفُّ الملائكةُ عند ربها؟ فقلنا يا رسول الله: كيفَ تصفّ الملائكةُ عند ربها؟ قال: يتُمون الصفوف الأُوَل ويتراصون في الصف](1). وفي رواية: [يتمون الصلاة بالصفوف الأُول، ويتراصون في الصف].
وله شاهد في مسند أحمد وسنن أبي داود ومعجم الطبراني بسند صحيح من حديث ابن عمر ولفظه: [أقيموا الصفوف، فإنما تَصُفّون بصفوف الملائكة، وحاذوا بين المناكب، وسُدّوا الخَلَل، ولينوا بأيدي إخوانكم، ولا تذروا فُرُجات للشيطان، ومَنْ وصل صفًّا وصله الله، ومن قطع صفًّا قطعهُ الله عز وجل](2).
فالملائكةُ مرابطون يتقنون القيام بما يؤمرون، كما يخلصون في العبادة، صفوفهم منتظمة تدل على علو مقاماتهم. قال القاسمي رحمه الله:({وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ}: أي في أداء الطاعة ومنازل الخدمة التي نؤمر بها).
يروي ابن جرير عن أبي نضرة قال: (كان عمر إذا أقيمت الصلاة أقبل على الناس بوجهه فقال: يا أيها الناس استووا، إن الله إنما يريدُ بكم هديَ الملائكة عند ربها
(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم (430)، كتاب الصلاة، من حديث جابر بن سمرة، ورواه أحمد وأكثر أهل السنن. وانظر صحيح سنن أبي داود (615).
(2)
حديث صحيح. أخرجه أبو داود في السنن (616)، ورواه أحمد والطبراني. انظر صحيح الجامع (1198)، والسلسلة الصحيحة (743)، وصحيح أبي داود (615).
ويقرأ: {وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ (165) وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ} استووا، تقدم أنتَ يا فلان، تأخر أنتَ أي هذا، فإذا استووا تقدّم فكبر).
فقد كان مشركو مكةَ قبل البعثة يكثرون من القول: لو أن عندنا كتابًا من السماء كالتوراة والإنجيل، أو جاءنا نبي كما أتى اليهود والنصارى لكنا من الذين أخلصهم الله لعبادتهِ وارتضاهم لمنهجه واختارهم لجنته. فكانوا إذا عُيِّروا بالجهل قالوا:{لَوْ أَنَّ عِنْدَنَا ذِكْرًا مِنَ الْأَوَّلِينَ} .
فعن السُّدّي قال: (هؤلاء ناسٌ من مشركي العرب قالوا: لو أن عندنا كتابًا من كتب الأولين أو جاءنا علمٌ من علم الأولين؟ قال: قد جاءكم محمد بذلك).
وعن ابن عباس: (قوله: {لَوْ أَنَّ عِنْدَنَا ذِكْرًا مِنَ الْأَوَّلِينَ (168) لَكُنَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ}. قال: لما جاء المشركين من أهل الكتاب ذكرُ الأولين وعلم الآخرين كفروا بالكتاب {فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} . يقول: قد جاءكم محمد بذلك فكفروا بالقرآن وبما جاء به محمد).
وقال الزجاج: ({فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ}: يعلمون مغبة كفرهم).
قلت: وهذه حال أكثر الأمم التي دمّرها الله في الدنيا، يدّعونَ حب الحق ولكنهم قومٌ خاضعون لأهوائهم لا يستطيعون الخروج من سيطرتها، لأنهم قد واجهت قلوبهم أمراضٌ ما دافعوها منذُ نشأتها، حتى إذا ترعرعت وكبرت وانطبعت حركاتهم وسكناتهم بها، واندمجت بسلوكهم وأفعالهم بحيث لا يستطيعون التخلص منها، فإذا ما أشرق لهم نور من الحق وكادوا ينتصرون له، انتكسوا متقهقرين أمام ضغط الشهوات والكبر والعجب وظهر عُوار ادعائهم وقبح ما وصلوا إليهِ، وفي الآخرة يخزيهم ربهم إذ يحاولون الادعاء من جديد، ويرجون من الله العودة إلى الدنيا والعمل بما يرضيه، فيقول سبحانه يكذبهم في صدق ادعائهم:{وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَالَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (27) بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (28) وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ} .
إن قوله هذا سبحانه بشرى للمؤمنين، وأمل يبعثه في قلوب المرسلين، وهو وعيد
يرسله الله على الكافرين المستكبرين المكذبين. وفيه معان متقاربة:
المعنى الأول: سبقت كلمتنا لهم بالسعادة. قال الفراء: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ} . قال: أي: بالسعادة).
المعنى الثاني: أراد بالكلمةِ قوله سبحانه: {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي} - ذكره القرطبي، وأورد قول الحسن:(لم يُقْتَل من أصحاب الشرائع قط أحد).
المعنى الثالث: لهم الغلبة بالحجج الدامغة. فعن السدي: ({وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ (171) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ} قال: يقول: بالحجج).
المعنى الرابع: سبق لهم منا القضاء والحكم بالنصر والغلبة. فعن قتادة: ({وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ (171) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (172) وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} قال: سبق هذا من الله لهم أن ينصرهم).
قال ابن جرير: (أي مضى بهذا منا القضاء والحكم في أم الكتاب، وهو أنهم لهم النُّصرة والغلبة بالحجج، قال: وإن حزبنا وأهلَ ولايتنا لَهم الغالبون. قال: يقول: لهم الظفر والفلاح على أهل الكفر بنا والخلاف علينا).
وقال ابن كثير: (أي: تقدم في الكتاب الأول أن العاقبة للرسل وأتباعهم في الدنيا والآخرة، كما قال تعالى: {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [المجادلة: 21]. ولهذا قال تعالى: {إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ} أي في الدنيا والآخرة).
قلت: هذه الآيات تجمع النصر والفوز بكل أشكاله في الدنيا والآخرة. فإن القيام بمنهج النبوة منهج الحق والدفاع والذود عن حماه يرافقه سعادة في الدنيا وسعادة في الآخرة. كما إن الدفاع عنه يتطلب علمًا بهذا المنهج، وكلما ازداد أهله علمًا به فتح الله عليهم من الحجج الدامغة وأسباب إحباط محاولات الباطل أكثر وأكثر، لتصفى الغلبةَ في النهاية للرسل ولأتباعهم، وليبقى الباطل مذعورًا حتى ينهزم، كما قال جل ثناؤه:{إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} [غافر: 51]. وكما قال جلت عظمته: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ} [يوسف: 110].
أخرج الإمام أحمد في المسند، وأبو نعيم في الحلية، بإسناد صحيح عن أنس،
عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [النصر مع الصبر، والفرج مع الكرب، وإن مع العسر يسرًا](1).
وأخرج الإمام النسائي بسند صحيح عن سعد، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[إنما ينصر الله هذه الأمة بضعيفها، بدعوتهم وصلاتهم وإخلاصهم](2).
وقوله: {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ} - فيه أقوال:
القول الأول: أي أعرض عنهم حتى يفجؤهم الموت. فعن قتادة: ({فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ}: أي إلى الموت).
القول الثاني: أي أعرض عنهم إلى الوقت الذي أمهلهم الله إليه وهو يعلمه وحده.
فعن الزجاج: ({فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ} قال: إلى الوقت الذي أمهلوا إليه).
وقال القاسمي: ({حَتَّى حِينٍ} أي: إلى استقرار النصر لك).
القول الثالث: أي أمهلهم إلى يوم بدر يوم يُكسرون ويخزيهم الله. فعن السُّدي: (في قوله: {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ} قال: حتى يوم بدر). وقال ابن عباس: (يعني القتل ببدر).
القول الرابع: أي أمهلهم إلى يوم فتح مكة - ذكره القرطبي.
القول الخامس: أي أعرض عنهم إلى حين يعانون العذاب يوم القيامة.
فعن ابن زيد: ({فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ} قال: يوم القيامة).
قلت: يخفف الله في هذه الآية عن نبيّه ويسليه بأن لا يأبَهَ لاستهزاء المشركين، ويعرض عنهم إلى أن يأذن الله في إحقاق أمره ونصر نبيه وصحبه، يوم يسحق المؤمنون رؤوس الكفر بمكة في يوم بدر، ويوم يستقر النصر للمسلمين في فتح مكة، ويحكم المسلمون بمنهج الوحي، ثم ستبصرهم يا محمد أنت وأصحابكَ وقد أخزاهم الله في الدنيا، ويوم القيامة يفضحهم بما بيّتوا من مكر وكبر وظلم، ثم يصليهم جهنم وساءت مصيرًا. فاصبر على أذاهم اليوم يا محمد فإن الغَدَ ليس لصالحهم فسننصرك ونظفرك بهم. وهذه الآية كقوله تعالى في سورة الأحزاب: {وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ
(1) حديث صحيح. أخرجه الخطيب في "التاريخ"(10/ 287)، والديلمي (4/ 111 - 112). وانظر مسند أحمد (1/ 307)، والحلية لأبي نعيم (1/ 314)، ومستدرك الحاكم (3/ 541 - 542)، وسلسلة الأحاديث الصحيحة (2382).
(2)
حديث صحيح. انظر صحيح سنن النسائي (2978)، وصحيح الجامع - حديث رقم - (2384).
أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا} [الأحزاب: 48].
وكقوله جل ذكره في سورة الحجر: {وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ} [الحجر: 85].
وكقوله جل ثناؤه في سورة المزمل: {وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا} [المزمل: 10].
وقوله تعالى: {وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ} .
قال القاسمي رحمه الله: (أي بَصِّرهُمْ وعَرِّفْهُمْ عاقبة البغي والكفر، وما نزل بمن أُنْذِرَ قبلهم، أوضح لهم الدلائل والحجج في مجاهدتكَ إياهم بالوحي والقرآن. فإن لم يبصروا الآن: {فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ} أي ما قضينا لك من التأييد والنصرة).
قلت: وهو تفسير لطيف جميل جامع. وإبصارهم ذلكَ سيكون في الدنيا والآخرة. قال قتادة: (سوف يبصرون حين لا ينفعهم الإبصار).
وقال ابن زيد: (أنظرهم فسوف يبصرون ما لهم بعد اليوم. قال: يقول: يبصرون يوم القيامة ما ضيّعوا من أمر الله، وكفرهم بالله ورسوله وكتابه، قال: فأبصرهم وأبصر واحد). ذكره ابن جرير.
وقوله تعالى: {أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ (176) فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ} .
فقد كانوا يقولون من فرط تكذيبهم واستهزائهم متى هذا العذاب، يطلبون تعجيله من شدة تكذيبهم وعنادهم، فإذا نزل بدارهم وساحتهم فبئس الصباح صباحهم، وبئس اليوم يومهم.
والعرب تقول: نزل بساحة فلان العذاب إذا أصابهُ ونزل به. والساحة هي فناء الدار.
قال السدي: ({فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ}، قال: بدارهم. {فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ}، قال: فبئس ما يصبحون). وقال الزجاج: (وكان عذاب هؤلاء بالقتل). قال القرطبي:
({فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ}: أي بئس صباح الذين أنذروا بالعذاب، وفيه إضمار: أي فساء الصباح صباحهم. قال: وخصّ الصباح بالذكر لأن العذاب كان يأتيهم فيه).
أخرج البخاري في صحيحه عن أنس رضي الله عنه: [أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى خَيْبَرَ ليلًا. وكان إذا أتى قومًا بليلٍ لَمْ يُغِرْ بهم حتى يُصبحَ، فلما أَصْبَحَ خَرَجَت اليهودُ بمساحيهم ومكاتلهم، فلما رَأَوْهُ قالوا: مُحمدٌ والله، محمد والخميس. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: خَرِبَتْ خَيْبَرُ، إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين](1).
وفي رواية: [فقتل النبي صلى الله عليه وسلم المقاتِلة وسبى الذُّرية]. ورواه مسلم.
والمساحي: جمع مسحاة، وهي المجرفة، والمكاتل: جمع مكتل، وهو القفة.
والخميس: الجيش. وقوله: "خربت" - أي فتحت.
وفي رواية مسلم: [فقالوا: محمد والخميس، ورجعوا إلى حصنهم. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اللهُ أكبر خربت خيبر، إنا إذا نزلنا بساحة قومٍ فساء صباحُ المنذرين].
فكأن قوله تعالى هنا: {فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ} يريد به يوم مكّن النبي صلى الله عليه وسلم من أعدائه المشركين.
وقوله تعالى: {وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (178) وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ} .
أعادها سبحانه تكرارًا وتأكيدًا بأن الأمر قادم لا محالة، وأن غدًا لناظره قريب. فهو تأكيد لما مضي من التهديد والوعيد. قال ابن جرير:(وأعرض يا محمد عن هؤلاء المشركين وخلِّهم وفريتهم على ربهم {حَتَّى حِينٍ}. قال: يقول إلى حين يأذن الله بهلاكهم. {وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ} يقول: وأنظرهم فسوف يرون ما يحل بهم من عقابنا حين لا تنفعهم التوبة).
ثم ختم السورة سبحانه بتنزيه نفسه، وبالمدح والثناء لجبروته ولعزتهِ وكبريائه، فهو العزيز الجبار المتكبر رب كل شيءٍ ومليكه، فتنزيهًا للهِ رب القوة والبطش عما يصفه هؤلاء المشركون من قريش، وتسبيحًا لله سبحانه عما ينسبه أولئك المشركون له من البنات والولد، وكل السلام على المرسلين لسلامة ما وصفوه به من النقائص والعيوب، وكل الأمن على أتباع الرسل الذين مضوا على منهاجهم في وصف الله بما
(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (371)، ومسلم (3/ 120)، والنسائي (6/ 131 - 132)، وأخرجه أحمد في المسند (3/ 101 - 102)، وله روايات كثيرة.
يليق بجلاله وكماله، وكل السلام والأمن على المؤمنين الذين يقومون بمقتضى هذه الصفات ولوازمها، والحمدُ أولًا وآخرًا لله العظيم رب العالمين.
فقال جل ثناؤه: {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180) وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} .
فعن قتادة: {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ} : أي عما يكذبون، يسبح نفسه إذا قيل عليه البُهتان).
وقوله: {رَبِّ الْعِزَّةِ} مجرور على البدل. وقوله: {وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ} فيه هدي للمؤمنين أن يسلموا على المرسلين إذا ذكروهم.
أخرج البيهقي بسند حسن من حديث أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[صَلّوا على أنبياء الله ورسله، فإن الله بعثهم كما بعثني](1).
وله شاهد رواه ابن عساكر بإسناد حسن عن وائل بن حجر، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[صلّوا على النبيين إذا ذكرْتُموني، فإنهم قد بُعثوا كما بُعثت](2).
فكان يربط صلوات الله وسلامه عليه النسب بعضه ببعض، نسب النبوة، نسب الوحي، نسب الإيمان، فإن الأنبياء ملة واحدة وجماعة واحدة ودينهم واحد.
ففي الصحيحين عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[أنا أولى الناس بعيسى بن مريم في الدنيا والآخرة، ليس بيني وبينهُ نبي، والأنبياء أولاد علات - وفي رواية: إخوة من علات - أمهاتهم شتى ودينهم واحد](3).
وبنو العلات هم أولاد الرجل الواحد من نساء شتى. لذا كان من هديه صلوات الله وسلامه عليه أن يحث الأمة على الصلاة عليه، ويجمع إبراهيم صلى الله عليه وسلم وآل إبراهيم في ذلك.
أخرج الإمام أحمد في المسند، والنسائي في السنن، بسند صحيح عن زيد بن خارجة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول: [صلّوا عليّ، واجتهدوا في الدعاء وقولوا: اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد، وبارك على محمد وآل محمد، كما
(1) حديث حسن. انظر صحيح الجامع الصغير- حديث رقم - (3676).
(2)
حديث حسن. انظر تخريج فضل الصلاة (45) - الألباني. وصحيح الجامع الصغير (3675).
(3)
حديث صحيح. أخرجه البخاري (3442)، (3443)، كتاب أحاديت الأنبياء، ورواه مسلم.
باركت على إبراهيم وآل إبراهيم، إنك حميد مجيد] (1).
فوصل عليه الصلاة والسلام نسب التوحيد بعضه ببعض، وأكد الصلة مع إمام المنهج إبراهيم، عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم.
وفي قوله تعالى: {وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ} أكثر من تأويل عند المفسرين:
التأويل الأول: أي سلام على الذين بلغوا عن الله تعالى التوحيد والرسالة.
فهو سلام حفظه الله للأنبياء والرسل على ألسنة المؤمنين إلى يوم القيامة. كما سبق بحديث الإمام البيهقي عن أبي هريرةَ، قَوْلُه عليه الصلاة والسلام:[صلوا على أنبياء الله ورسله، فإن الله بعثهم كما بعثني].
التأويل الثاني: أي مَدْحٌ لهم من الله جل وعز، وثناء على رفعة الوصف الذي وصفوه به سبحانهُ متحدين به الكافرين والمستهزئين الذين ينسبون إلى الله البنات والولد والنقائص والعيوب.
قال ابن كثير: (فسبحان ذي العزة التي لا ترام عن قولِ هؤلاء المعتدين المفترين، وسلام الله على المرسلين في الدنيا والآخرة لسلامة ما قالوه في ربهم وصحته وحقّيته). وقال القاسمي: (أي سلام وأمان وتحية على المرسلين المبلغين رسالات ربهم). وقال النسفي: (اشتملت السورة على ذكر ما قاله المشركون في الله ونسبوه إليه مما هو منزه عنه، وما عاناهُ المرسلون من جهتهم وما خولوه في العاقبة من النصرة عليهم، فختمها بجوامع ذلكَ من تنزيِه ذاته عما وصفه به المشركون، والتسليم على المرسلين، والحمدُ لله رب العالمين على ما قيض لهم من حسن العواقب، والمراد تعليم المؤمنين أن يقولوا ذلكَ ولا يَخُلّوا به ولا يغفلوا عن مضمنات كتابه الكريم ومودعات قرآنه المجيد).
التأويل الثالث: أي أمن لهم من الله جل وعز يوم الفزع الأكبر.
قال ابن جرير: (وأمنة من الله للمرسلين الذين أرسلهم إلى أممهم الذين ذكرهم في هذه السورة وغيرهم من فزع يوم العذاب الأكبر وغير ذلك من مكروه أن ينالهم من قِبل الله تبارك وتعالى.
(1) حديث صحيح. أخرجه أحمد والنسائي بإسناد صحيح من حديث زيد بن خارجة. ورواه ابن سعد والطبراني في الكبير. انظر صحيح الجامع (3677).
قلت: والآية تشمل جميع ما ذكر من بث السلام في الأرض وتحرك الألسنة إلى يوم القيامة بالسلام على المرسلين، وتقرب المؤمنين إلى ربهم بالصلاة على النبيين، وربط قلوبهم وحياتهم ومنهجهم بمنهاج المرسلين، ثم هو مدح الله لهذه القدوة من البشر ليؤصل الاقتداء والتأسي بهم في حياة أتباع الرسل أن صدقوا الله ما وصفوه، فصدقهم النصر في الدنيا وسيصدقهم الأمن من الفزع الأكبر في الآخرة، ودخول الجنةِ والخلود بنعيمها، واللهَ نسألُ أن ينعم علينا بالتزام منهاجهم في الدنيا وبالحياةِ بقربهم في جنةِ الفردوس في الآخرة.
وقوله هنا: {وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} . فيه أكثر من فهم عند المفسرين:
الفهم الأول: أي الحمدُ لله على إرسال المرسلين مبشرين ومنذرين. ذكره القاسمي حيث قال: ({وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} أي على نعمهِ، التي أجَلّها إرسال الرسل لإظهار أسمائه الحسنى وشرائعه العليا، وإصلاح الأولى والأخرى).
الفهم الثاني: أي الحمدُ لله على ما صدق الرسل النصر والتأييد. ذكره النسفي وقال: (والحمدُ لله رب العالمين على ما قيض لهم من حسن العواقب).
الفهم الثالث: أي الحمدُ لله على هلاك المشركين.
ودليله: {فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} ذكره القرطبي.
الفهم الرابع: أي الحمدُ لله على جميع ما أنعم به على الخلق أجمعين. ذكره ابن جرير رحمه الله حيث قال: (والحمدُ لله رب الثقلين الجن والإنس خالصًا دون ما سواهُ لأن كل نعمة لعباده فمنه، فالحمدُ لهُ خالص لا شريكَ لهُ كما لا شريكَ له في نعمة عندهم بل كلها من قِبله ومن عنده).
الفهم الخامس: الحمدُ لله يدل على إثبات صفة الكمال لهُ وتنزيهه عما يقولون. ذكره الحافظ ابن كثير حيث قال: (ولما كان التسبيح يتضمن التنزيه والتبرئة من النقص ويستلزم إثبات الكمال، كما أن الحمدَ يدلُ على إثبات صفات الكمال ويستلزم التنزيه من النقص، قرن بينهما في هذا الموضع وفي مواضع كثيرة من القرآن، ولهذا قال تبارك وتعالى: {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180) وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}).
الفهم السادس: -وهو فَهْمٌ أضيفه ولم أجده عند المفسرين-: وهو الحمدُ لله الذي علّمنا صفاته العظمى وأسماءهُ الحسنى لندعوهُ بها، ويلهج القلبُ بالأنس والطمأنينة
لذكرها، لئلا نزيغ في معرفته ونخوض في أوحال الفلسفة ومتاهات الرأي والقول على الله بغير علم، فسبحانَ من نزه نفسهُ ووصفها بما يحب، وكل الحمد له جل ثناؤه أن علّمنا ما يُحِبُّ، ودلّنا على ما لا يُحِبّ، حُبًّا منه لنا لنصل إلى ما نحبّ. كما قال جل ثناؤه في سورة النساء، يصف مصير ومستقبل المؤمنين به كما وصف نفسه والمنزهين له عن النقائص والفحشاء:{وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا} .
أخرج الطبراني في "الكبير"، وابن حبان في صحيحه، بسند صحيح عن أبي شريح الخزاعي قال:[خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أبشروا أبشروا، أليسَ تشهدون أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله؟ قالوا: نعم. قال: فإن هذا القرآن سببٌ طرفه بيد الله وطرفه بأيديكم، فتمسكوا به، فإنكم لن تضلوا ولن تهلكوا بعده أبدًا](1).
وروى البزار بسند صحيح - موقوفًا - عن عبد الله بن مسعود قال: [إن هذا القرآن شافعٌ مشَفَّعٌ، من اتبعه قاده إلى الجنة، ومن تركه أو أعرض عنه زُخَّ (2) في قفاه إلى النار](3).
وكل ما سبق في معنى المد مراد، فهم يعمّ إرساله تعالى الرسل ونصرهم وإهلاك عدوهم، كما يعمّ تبرئة وتنزيه نفسه سبحانه، وما هدانا له من العلم عنه وعن أسمائه وصفاته، فالحمدُ لله أولًا وآخرًا، والصلاة على أنبيائه ورسله، والسلام على أتباعهم والقائمين على منهاجهم إلى يوم القيامة.
تم تفسير سورة الصافات بعون الله وتوفيقه، وواسع منّه وكرمه
* * *
(1) حديث صحيح. أخرجه الطبراني في "المعجم الكبير"(1/ 77/ 1)، وابن أبي شيبة في "المصنف"(12/ 165)، وانظر سلسلة الأحاديث الصحيحة (713).
(2)
زخّ: أي دُفع.
(3)
صحيح موقوف. انظر المعجم الكبير للطبراني (10/ 244)، والحلية لأبي نعيم (4/ 108)، والكامل لابن عدي (3/ 127)، وعلل الدارقطني (5/ 102).