المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ منهاج السورة - التفسير المأمون على منهج التنزيل والصحيح المسنون - جـ ٦

[مأمون حموش]

الفصل: ‌ منهاج السورة

‌31 - سورة لقمان

وهي سورة مكية، وعدد آياتها (34)

‌موضوع السورة

وصية لقمان عليه السلام

منهاج جامع لأصول الإسلام

-‌

‌ منهاج السورة

-

1 -

ثناء الله تعالى على القرآن الكريم، وعلى عباده المؤمنين المتقين.

2 -

ذكر حال الأشقياء بعد ذكر حال السعداء، فأهل الشقاء في لهو ولعب واستهزاء بالدين، ولهم عذاب مهين. وأهل السعادة أهل الإيمان في جنات النعيم، يتقلبون في ملذاتها وَعْدُ العزيز الحكيم.

3 -

خَلْقُ الله السماوات بلا عمد، وتثبيته الأرض بالجبال، ونشره الخلائق في أرجاء الأرض، وإنزاله الماء وإنباته النبات، فماذا خلق الطواغيت والأوثان؟ !

4 -

خبر لقمان عليه السلام، ونصيحته الجامعة لابنه، وتخليد القرآن هذه الوصية.

5 -

امتنان الله تعالى على العباد تسخيره لهم ما في السماوات وما في الأرض، وإسباغه عليهم نعمه الظاهرة والباطنة، ومقابلة كثير منهم تلك النعم بالجدل والتنطع واتباع منهاج الشياطين.

ص: 70

6 -

إقرار المشركين لله خلق السماوات والأرض ومع ذلك هم يعبدون غيره وأكثرهم جاهلون.

7 -

أقلام الدنيا ومداد قدر البحار لا يكفي لكتابة كلمات الله ومعاني أسمائه وصفاته.

8 -

ما خلق الناس كلهم وبعثهم إلا كخلق نفس واحدة وبعثها والله هو السميع البصير.

9 -

إخبار الله تعالى عن عجائب قدرته في تعاقب الليل والنهار وزيادة أحدهما أو نقصانه، وحركة الشمس ومنازل القمر، وجريان الفلك في البحر.

10 -

تصويره تعالى حالة القوم إذا غشيهم الموج في البحر كيف يخلصون لله الدعاء والدين، فاذا نجاهم إلى البر عاد أكثرهم مشركين.

11 -

أمْرُ الله تعالى عباده أن يصدقوه التقوى ويستعدوا للقائه ويحذروا غرور الشيطان وهذه الحياة الدنيا.

12 -

الله وحده الذي يعلم وقت الساعة وينزل المطر ويعلم ما في الأرحام وما يكون في الغد من قضاء على كل نفس من عمل أو موت، وهو العليم الحكيم.

* * *

ص: 71

بسم الله الرحمن الرحيم

1 -

5. قوله تعالى: {الم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (2) هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ (3) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5)}.

في هذه الآيات: انتصار الله تعالى لهذا القرآن العظيم، الذي فيه هدى ورحمة للمحسنين، الذين يقيمون الصلاة بأركانها وواجباتها، ويؤتون الزكاة بمقاديرها ومواقيتها، وهم بالآخرة مؤمنون. أولئك أهل الهداية من ربهم وأولئك هم الفائزون.

فقوله تعالى: {الم} . مفهومه كسابقه في أول سورة البقرة وآل عمران. وهو أنّ هذا القرآن هو من جنس هذه الأحرف التي يتخاطب العرب بها، وهو مع ذلك يتألق في إعجازه ويتحدى الخلق جميعًا أن يأتوا بسورة من مثله.

وقوله تعالى: {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ} - انتصار لهذا القرآن الحكيم بيانًا وتفصيلًا.

وقوله تعالى: {هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ} . قال ابن جرير: (يقول: هذه آيات الكتاب بيانًا ورحمة من الله، رحم به من اتبعه وعمل به من خَلْقِه. وقوله: {لِلْمُحْسِنِينَ} وهم الذين أحسنوا في العمل بما أنزل الله في هذا القرآن).

وقوله: {هُدًى وَرَحْمَةً} بالنصب على الحال. والإحسان هنا حسن الامتثال لأوامر الشريعة كما يدل عليه ما بعده من تفصيل.

وفي صحيح مسلم من حديث عمر مرفوعًا: [الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه. فإن لم تكن تراه فإنه يراك](1).

(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم في صحيحه (1/ 30). وانظر مختصر صحيح مسلم- حديث رقم (2) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

ص: 72

وفي لفظ من حديث أبي هريرة: [قال: يا رسول الله! ما الإحسان؟ قال: أن تعبد الله كأنك تراه، فإنك إن لا تراه فإنه يراك](1).

وفى لفظ آخر: [قال: أن تخشى الله كأنك تراه، فإنك إنْ لا تَكُنْ تراه فإنه يراك](2).

وقوله تعالى: {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} .

أي: إن من إحسان هؤلاء المؤمنين: إقامة الصلاة المفروضة بحدودها وأوقاتها، وما يتبعها من نوافل راتبةٍ وغير راتبةٍ، وإعطاء الزكاة المفروضة مستحقيها من الأقارب والأرحام والمساكين، والإيمان باليوم الآخر يوم يقوم الناس لرب العالمين.

قال القاسمي: (والمراد بالزكاة، على أنها مكية، هي مطلق إخراج المال تقربًا بالتصدق منه، وتزكية للنفس بإيتائه، من وصمة البخل والشح المردي لها. لا أنصباؤها المعروفة، فإنها إنما بُيِّنَت بالمدينة).

وقوله تعالى: {أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} .

أي: هؤلاء على بصيرة ونور من ربهم، ومنهج صائب غايته الفلاح في الدنيا والآخرة.

6 -

7. قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (6) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (7)}.

في هذه الآيات: ذكر حال الأشقياء عقب ذكر صفات السعداء، فأهل الشقاء في لهو ولعب واستهزاء بالدين، ولهم عذاب مهين.

فقوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} . إخبار عن حال الأشقياء الذين أعرضوا عن الوحي إلى

(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم (9) - كتاب الإيمان. باب: الإيمان ما هو؟ وبيان خصاله.

(2)

حديث صحيح. أخرجه مسلم في الصحيح -حديث رقم- (10) - كتاب الإيمان. باب: الإسلام ما هو وبيان خصاله، في أثناء حديث طويل.

ص: 73

كلام الباطل واللهو وآلات الطرب. وتفصيل ذلك من أقوال المفسرين:

1 -

قال ابن عباس: (قوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} قال: باطل الحديث: هو الغناء ونحوه). أو قال: (هو الغناء والاستماع له).

2 -

وقال قتادة: (والله لعله أن لا ينفق فيه مالًا، ولكن اشتراؤه استحبابُه، بحسب المرء من الضلالة أن يختار حديث الباطل على حديث الحق، وما يضر على ما ينفع).

3 -

روى ابن جرير بسند جيد عن سعيد بن جبير عن أبي الصهباء البكري، أنه سمع عبد الله بن مسعود وهو يسأل عن هذه الآية:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ} فقال عَبْدُ الله: (الغناء والذي لا إله إلا هو، يرددها ثلاث مرات).

ورواه ابن أبي شيبة بإسناد صحيح عن ابن مسعود قال: ({وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ}، هو والله الغناء).

4 -

وقال مجاهد: ({وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ} قال: المغَنّي والمغنية بالمال الكثير، أو استماع إليه، أو إلى مثله من الباطل). قال: (شراء المغنية). وقال أيضًا: (الغناء والاستماع له وكل لهو).

5 -

قال ابن جريج: (اللهو: الطبل). وقال الضحاك: ({وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ} هو يعني الشرك).

قلت: وكلها أقوال متقاربة متكاملة، مفادها وصف سلوك أهل الشقوة في إعراضهم عن الوحي الكريم، إلى كلام الباطل والغناء واللهو المشين، وآلات الطرب من مزامير الشيطان الرجيم، مستهترين مستهزئين بمعاني الحق التي خُلقوا لها والتي سيسألون عنها ثم ينتظرهم عذاب أليم، مهين كما استهانوا بآيات الله وسبيله وشرعه.

وقد أخرج الترمذي بسند حسن عن أبي أمامة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: [لا تبيعوا القَيْنات ولا تَشْتَروهُنَّ ولا تُعَلِّموهُنَّ ولا خَيْرَ في تجارة فيهن وثَمَنُهُنَّ حرامٌ. وفي مثل هذا أنزلت هذه الآية: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} إلى آخر الآية](1).

(1) حديث حسن. أخرجه الترمذي (3424) - في التفسير- سورة لقمان (الآية: 6). وانظر صحيح سنن الترمذي -حديث رقم- (2553).

ص: 74

وقوله: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا} الآية.

قال ابن كثير: (أي: هذا المقبلُ على اللهو واللعب والطَّرب، إذا تُليت عليه الآيات القرآنية ولّى عنها وأعرضَ وأدبرَ وتصامَّ وما به من صَمَم، كأنَّه ما يسمعها، لأنه يتأذى بسماعها، إذْ لا انتفاِعَ له بها، ولا أرَبَ له فيها {فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}، أي: يوم القيامة، يؤلمه كما تألم بسماعِ كِتاب الله وآياتِه). وعن مجاهد: {فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا} قال: ثِقلًا).

8 -

9. قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ (8) خَالِدِينَ فِيهَا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9)}.

في هذه الآيات: ذكر مقام أهل السعادة في الدار الآخرة، الذين آمنوا وعملوا الصالحات، فهم يومئذ خالدون في بساتين النعيم، يتقلبون في ملذاتها وَعْدُ العزيز الحكيم.

فقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ (8) خَالِدِينَ فِيهَا} . قال القرطبي: (لما ذكر عذاب الكفار ذكر نعيم المؤمنين). قال ابن كثير: (هذا ذكرُ مآل الأبرار من السعداء في الدار الآخرة الذين آمنوا بالله وصدقوا المرسلين، وعملوا الأعمال الصالحة المتابعة لشريعة الله، {لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ}، أي: يتنعَّمون فيها بأنواع الملاذِّ والمَسَارّ، من المآكل والمشارب، والملابس والمساكن، والمراكب، والنساء والنَّظْرَةِ والسماع الذي لم يَخْطُر ببال أحد، وهم في ذلك مقيمون دائمًا فيها، لا يَظْعَنُون ولا يبغون عنها حِولًا).

وقوله: {وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا} . أي: كائن ذلك لا محالة فهو وعد الله الكريم. قال النسفي: (مصدران مؤكدان، الأول مؤكد لنفسه، والثاني مؤكد لغيره، إذ {لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ} في معنى: وعدهم الله جنات النعيم. فأكد معنى الوعد بالوعد، و {حَقًّا} يدل على معنى الثبات، فأكّد به معنى الوعد ومؤكدهما {لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ} .

وقوله: {وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} . أي: الغالب القاهر كل شيء، الذي قد عزّ كل شيء فقهره، {الْحَكِيمُ}: العالم صاحب الحكمة المتقن لجميع الأمور، فهو الحكيم في أقواله وأفعاله وشرعه وقدره.

ص: 75

10 -

11. قوله تعالى: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (10) هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (11)}.

في هذه الآيات: خَلْقُ الله السماوات بلا عمد، وتثبيته الأرض بالجبال، ونَشْره الخلائق في أرجاء الأرض، وإنزاله الماء من السماء، وإنباته من كل زوج كريم. إنه تعالى هو الخالق لجميع ذلك، فماذا خَلَقَ الطواغيت والأوثان؟ بل الظالمون واقعون في الظلم والضلال والطغيان.

فقوله: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا} . قال مجاهد: (لها عمدٌ لا ترونها).

وقال ابن عباس: (لعلها بعمد لا ترونها). وقال الحسن وقتادة: (ليس لها عمد مرئية ولا غيرُ مرئية).

قلت: والراجح أنه ليس لها عمد، كما قال تعالى في سورة الرعد:{اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} . قال إياس بن معاوية: (السماء على الأرض مثل القُبَّة، يعني بلا عَمَد). وهذا هو اللائق بالسياق. وقوله: {تَرَوْنَهَا} تأكيدٌ لنفي ذلك، والتقدير: أي هي مرفوعة بغير عمد كما ترونها، وهذا هو الأليق بكمال قدرته عز وجل.

وفي التنزيل نحو ذلك:

1 -

قال تعالى: {وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحج: 65].

2 -

وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} [فاطر: 41].

وقوله: {وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ} . قال قتادة: (أي جبالًا).

وقوله: {أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ} . أي: لئلا تضطرب بكم على وجه الماء الغالب المحيط باليابسة. قال قتادة: (أثبتها بالجبال، ولولا ذلك ما أقرَّت عليها خلقًا).

ص: 76

وقوله: {وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ} . قال ابن جرير: (يقول: وفرق في الأرض من كل أنواع الدواب). والمقصود: خلق فيها سبحانه من كل أصناف الحيوانات ففرقها في أرجائها.

وقوله: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ} . قال قتادة: (أي حسن). وقال الشعبي: (والناس أيضًا من نباتِ الأرض، فمن دخل الجنة فهو كريم، ومن دخل النار فهو لئيم).

والمقصود: تقرير من الله تعالى أنه الرازق بعد تقريره جل ذكره أنه الخالق، فقد أنزل من السماء الماء المبارك، فأخرج به من كل زوج من النبات كريم: أي حسن النبتة والمنظر.

وقوله: {هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ} .

تقريع بالمشركين العابدين مع الله غيره، مما لا يملك أن يخلق أو يرزق.

قال قتادة: ({هَذَا خَلْقُ اللَّهِ} ما ذكر من خلق السماوات والأرض، وما بثّ من الدواب، وما أنبت من كل زوج كريم، فأروني ماذا خلق الذين من دونه الأصنام الذين تدعون من دونه).

وقوله: {بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} .

أي: بل المشركون في عبادتهم قد ذهبوا عن سبيل الحق وضلوا سواء السبيل، ودخلوا في متاهات الجهل والعمى الواضح الذي لا خفاء به.

12 -

19. قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (12) وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَابُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13) وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (14) وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (15) يَابُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ

ص: 77

مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (16) يَابُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (17) وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (18) وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (19)}.

في هذه الآيات: يقص تعالى خبر لقمان عليه السلام، آتاه الله العلم والفهم والفقه وكان من الشاكرين. وقد نصح لولده نصيحة بالغة غايتها إقامة الدين. فحذره الشرك وأمره ببر الوالدين، وإقام الصلاة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والصبر على الشدائد واجتناب سبيل المستكبرين، وخفض الصوت فإن رفع الصوت والصياح ليس من صفات المتقين.

فقوله: {وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ} . أي: العلم والفهم والفقه والتعبير.

ولقمان هو عبد صالح أكرمه الله بالحكمة. قال مجاهد: (كان لقمان عبدًا صالحًا، ولم يكن نبيًا). وعن قتادة: ({وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ}، أي: الفقه في الإسلام، ولم يكن نبيًا، ولم يوح إليه).

قلت: ومن حكم لقمان ما رواه الإمام أحمد بسند حسن عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: [أنّ لقمانَ الحكيم كان يقول: إن الله إذا استُودِعَ شيئًا حَفِظَه](1).

وقوله: {أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ} - فيه أكثر من تأويل:

1 -

{أَنِ} بمعنى أي مفسرة. أي: قلنا له اشكر لله. قال النسفي: ({أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ} مفسرة، والمعنى: أي اشكر لله، لأن إيتاء الحكمة في معنى القول).

2 -

{أَنْ} في موضع نصب، والفعل داخل في صلتها. كما حكى سيبويه: كتبت إليه أن قم. قال المهايمي: ({أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ} أي: على ما أعطاك من نعمه، من أوتيها فقد أوتي خيرًا كثيرًا).

(1) حديث حسن. أخرجه أحمد (2/ 87)، والبيهقي في "الشعب"(3344) وإسناده حسن، رجاله ثقات غير نهشل، وهو صدوق، وكرره البيهقي (3343) من وجه آخر، وإسناده حسن.

ص: 78

3 -

قال الزجاج: (المعنى: ولقد آتينا لقمان الحكمة لأن يشكر الله تعالى).

4 -

وقيل: (أي بأن اشكر الله تعالى فَشَكَر، فكان حكيمًا بشكره لنا). قال ابن جرير: (وجعل قوله: {أَنِ اشْكُرْ} ترجمة عن الحكمة، لأن من الحكمة التي كان أوتيها، كان شكره الله على ما آتاه).

قلت: وكلها تفاسير يحتملها البيان الإلهي المعجز، وتزيد في مفهوم الآية تبيانًا وإفهامًا. والشكر لله طاعته فيما أمر به، وقد نبّه الله تعالى على أن الحكمة الأصلية والعلم الحقيقي هو العمل بهما وعبادة الله والشكر له. حتى قيل: لا يكون الرجل حكيمًا حتى يكون حكيمًا في قوله وفعله ومعاشرته وصحبته.

قال السري السقطي: (الشكر أن لا تعصي الله بنعمه). وقال الجنيد: (أن لا ترى معه شريكًا في نعمه). وقيل: هو الإقرار بالعجز عن الشكر. وقيل: (شكر القلب المعرفة، وشكر اللسان الحمد، وشكر الأركان الطاعة، ورؤية العجز في الكل دليل قبول الكل).

وقوله: {وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ} . أي: إنما يرجع ثواب الشكر على الشاكرين، وينقذه الله به كي لا يكون من الهالكين.

وفي التنزيل نحو ذلك:

1 -

قال تعالى: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [إبراهيم: 7].

2 -

وقال تعالى: {مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ} [الروم: 44].

ومن كنوز السنة الصحيحة في آفاق ذلك أحاديث:

الحديث الأول: أخرج ابن حبان في صحيحه، والبغوي في "شرح السنة" بسند حسن عن جابر بن عبد الله قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: [أفضل الذكر لا إله إلا الله، وأفضل الشكر الحمد لله](1).

(1) حديث حسن. أخرجه ابن حبان في "صحيحه"(2326)، والبغوي في "شرح السنة"(1/ 144/ 2)، والخرائطي في "فضيلة الشكر"(2/ 2)، وانظر سنن ابن ماجة - حديث رقم - (3800) نحوه، وسلسلة الأحاديث الصحيحة - حديث رقم - (1497).

ص: 79

الحديث الثاني: أخرج ابن ماجة بسند حسن عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ما أنعم الله على عَبْدٍ نِعمةً فقال: الحمد لله، إلا كان الذي أعطاه أفضلَ مما أخذ](1).

الحديث الثالث: أخرج ابن ماجة والحاكم بإسناد حسن في الشواهد عن عائشة قالت: [كان إذا رأى ما يحبُّ قال: الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وإذا رأى ما يكرهه قال: الحمد لله على كل حال](2).

وقوله: {وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} .

أي: ومن كفر نعمة الله عليه فإنما يرجع بالإساءة على نفسه، فالله غني عن عباده، لا يتضرر بكفر جميع أهل الأرض لو كفروا، فهو الغني لا إله إلا هو، الحميد: المحمود على كل حال، سواء كفر العبد نعمته أو شكرها.

وفي صحيح مسلم من حديث أبي ذر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل: [قال الله تعالى: يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعًا فاستغفروني أغفر لكم. يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضرّي فتضروني ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحدٍ منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئًا، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئًا](3).

وقوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَابُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} .

أي: يقول جل ذكره: واذكر يا محمد قول لقمان لابنه يحذره مغبة الشرك بالله، ويخبره أن الشرك لخطأ من القول عظيم، ونوع من الظلم مبين.

أخرج البخاري ومسلم في صحيحيهما عن عبد الله رضي الله عنه قال: [لَمَّا نَزَلَتْ: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} [الأنعام: 82]، شق ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: أيُّنا لا يظلم نَفْسَهُ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ليس هو كما تظُنُون،

(1) حديث حسن. أخرجه ابن ماجة في السنن - حديث رقم - (3805)، كتاب الأدب، باب فضل الحامدين. وانظر صحيح سنن ابن ماجة (3067).

(2)

صحيح لغيره. أخرجه ابن ماجة (2/ 422)، والحاكم (1/ 499)، وابن السني (رقم 372). وانظر صحيح ابن ماجة (3066)، وسلسلة الأحاديث الصحيحة (265).

(3)

حديث صحيح. أخرجه مسلم في الصحيح (8/ 17)، وأحمد في المسند (5/ 160).

ص: 80

إنما هو كما قال لقمان لابنه: {يَابُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} (1).

وفي رواية لمسلم: [فقالوا أينا لم يلبس إيمانه بظلم؟ فقال: ليس بذلك، ألا تسمعون إلى قول لقمان].

وقوله: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ} .

قَرَنَ وصيته ابنه إفراد الله تعالى بالعبادة والتعظيم، بالبر والإحسان للوالدين، وهذا كما قال تعالى في الذكر الحكيم:{وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [الإسراء: 23]. فإن طاعة الوالدين في البر تأتي بعد طاعة رب العالمين.

وفي الصحيحين عن أبي عبد الرحمن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: [سألتُ النبي صلى الله عليه وسلم: أيُّ العَمَلِ أحَبُّ إلى الله تعالى؟ قال: الصلاة على وقتها. قلتُ: ثم أيُّ؟ قال: بِرُّ الوالدين. قلت: ثم أيُّ؟ قال: الجهاد في سبيل الله](2).

وقوله: {حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ} . قال ابن عباس: (يقول: شدّة بعد شدّة، وخلقًا بعد خلق). وقال الضحاك: (يقول: ضعفًا على ضعف). وقال قتادة: (أي: جهدًا على جهد). وقال مجاهد: (وهن الولد على وهن الوالدة وضعفها).

قال القرطبي: ({وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ} أي: حملته في بطنها وهي تزداد كل يوم ضعفًا على ضعف. وقيل: المرأة ضعيفة الخِلقة ثم يضعفها الحمل).

وقوله: {وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ} . قال ابن كثير: (أي: تربيتُه وإرضاعُه بعد وَضْعِه في عامين، كما قال تعالى:{وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} [البقرة: 233]. ومن ها هنا استنبط ابن عباس وغيره من الأئمة أن أَقَلَّ مدة الحمل ستة أشهر، لأنه قال تعالى في الآية الأخرى:{وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا} [الأحقاف: 15].

قلت: وتخصيص الله تعالى الأم بمشاق الحمل وآلام الوضع وجهد الإرضاع يجعل لها بذلك ثلاث مراتب، وللأب واحدة.

وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: [جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم

(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (4776) - كتاب التفسير، سورة لقمان، آية (13)، وكذلك أخرجه برقم (32) - كتاب الإيمان. وأخرجه مسلم (124) - كتاب الإيمان.

(2)

حديث صحيح. أخرجه البخاري في صحيحه (10/ 336)، وأخرجه مسلم في الصحيح (85).

ص: 81

فقال: يا رسول الله، مَنْ أحقُّ الناس بِحُسْن صَحابتي؟ قال: أمُّكَ. قال: ثم مَنْ؟ قال: ثم أُمُّكَ. قال: ثم مَنْ؟ قالَ: ثم أُمُّكَ. قال: ثُمَّ مَنْ؟ قال: ثُمَّ أبوك] (1).

وقوله: {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ} . أي: تعرف على ربك بالشكر وعلى والديك بالبر، ثم المرجع إلى الله يجزي جزيل الثواب. وفي تأويل {أَنِ} قولان متكاملان:

1 -

{أنْ} في موضع نصب. والتقدير: ووصينا الإنسان بوالديه أن اشكر لي. ذكره الزجاج.

2 -

{أنْ} التفسيرية. قال النحاس: (وأجود منه أن تكون {أن} مفسرة، والمعنى: قلنا له أن اشكر لي ولوالديك).

قيل: الشكر لله على نعمة الإيمان، والشكر للوالدين على نعمة التربية والإحسان.

وجاء التخصيص للوالدة مقابل تعبها وسهرها ومشقتها في رعاية طفلها ليلًا ونهارًا، ليتذكر الولد إحسانها إليه، وجميل العناية التي قدمته له.

وفي التنزيل:

{وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} [الإسراء: 24].

قال سفيان بن عُيَينة: (من صلى الصلوات الخمس فقد شكر الله تعالى، ومن دعا لوالديه في أدبار الصلوات فقد شكرهما).

وخَتَم الله تعالى الآية بقوله: {إِلَيَّ الْمَصِيرُ} ليحث عبده على المسارعة في طاعة الله وبر والديه لينال ما خبأ الله له من أوفر الجزاء وأكرم الثواب.

أخرج الحاكم بسند صحيح لغيره عن عمرو بن ميمون الأودي قال: [قام فينا معاذ بن جبل فقال: يا بني أود! إني رسولُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم: تعلمونَ المعادَ إلى الله، ثم إلى الجنة أو إلى النار، وإقامةٌ لا ظعن فيه، وخلودٌ لا موت، في أجساد لا تموت](2).

(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (5971) - كتاب الأدب، باب البر والصلة. وأخرجه مسلم (2548) - كتاب البر والصلة والأدب. باب بر الوالدين، وأيهما أحق به. ورواه أحمد (2/ 391)، وابن أبي شيبة (3658)، وابن حبان (433 - 434).

(2)

صحيح لغيره. أخرجه الحاكم (1/ 83)، وأورده الهيثمي في "المجمع"(10/ 396) بنحوه، وقال:"رواه الطبراني في الكبير والأوسط". وانظر سلسلة الأحاديث الصحيحة (1668).

ص: 82

ورواه ابن أبي حاتم - ورجاله رجال البخاري ومسلم - من حديث سعيد بن وهب قال: [قَدِمَ علينا مُعاذ بن جبل، وكان بعثه النبي صلى الله عليه وسلم، فقام فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: إني رسولُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم إليكم: أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئًا، وأن تطيعوني لا آلوكُم خيرًا، وإنَّ المصيرَ إلى الله، وإلى الجنة أو إلى النار، إقامَةٌ فلا ظَعَنٍ، وخلودٌ فلا موتٌ](1).

وقوله: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} .

أي: وإن حملاك على مخالفة الدين الحق دين التوحيد إلى دين الجاهلية دين الشرك وتعظيم الطواغيت فلا تتابعهما على ذلك، واحتفظ بحسن الصحبة لهما.

وفي الصحيحين عن أسماءَ بنت أبي بكر رضي الله عنهما: [قلت: قَدِمَتْ علَيَّ أُمِّي وهي مُشْرِكَةٌ في عَهْدِ رسول الله صلى الله عليه وسلم فاسْتَفْتَيْتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، قلتُ: إنَّ أُمِّي قَدِمَتْ وهي راغبةُ، أفاصِلُ أُمِّي؟ قال: نعم. صِلي أُمَّكِ](2).

وقوله: "وهي راغبة": قال ابن عطية: (والظاهر عندي أنها راغبة في الصلة، وما كانت لتقدم على أسماء لولا حاجتها).

ففي الآية مع هذا الحديث دليل على صلة الأبوين الكافرين بما أمكن من المال إن كانا فقيرين.

وقوله: {وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ} . أي: واتبع سبيل المؤمنين في دينك. قال قتادة: (أي من أقبل إليّ). وقال ابن عطاء: (صاحب من ترى عليه أنوار خدمتي).

وقوله: {ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} .

أي: ثم المرجع والمآل إلى الله، فيجازي كلًا بعمله: المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته.

(1) إسناده صحيح. رواه ابن أبي حاتم ورجاله رجال البخاري ومسلم. وأورده الحافظ ابن كثير في التفسير (5213)، وهو يشهد لما قبله.

(2)

حديث صحيح. أخرجه البخاري (2620) - كتاب الهبة وفضلها والتحريض عليها. باب الهدية للمشركين. ورواه مسلم (1003)، وأبو داود (1668)، من حديث أسماء. وأم أسماء هي قُتيلة بنت عبد العزى بن عبد أسد. وأم عائشة وعبد الرحمن هي أم رُومان قديمة الإسلام.

ص: 83

والوصية من الله بالوالدين وإن جاءت معترضة خلال وصية لقمان، إلا أنها تفيد أنها داخلة في وصية لقمان لابنه على وجه الخبر من الله.

وقوله: {يَابُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ} الآية.

قال قتادة: ({إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ} من خير أو شر. {فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ} أي جبل {يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ}: اْي لطيف باستخراجها خبير بمستقرها).

قال القاسمي: (أي إن الخصلة من الإساءة أو الإحسان، إن تك مثلًا في الصغر كحبة الخردل {فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ} أي: فتكن مع كونها في أقصى غايات الصغر، في أخفى مكان وأحرزه، كجوف الصخرة. أو حيث كانت في العالم العلويّ أو السفليّ {يَأْتِ بِهَا اللَّهُ} أي يحضرها ويحاسب عليها {إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ} أي ينفذ علمه وقدرته في كل شيء {خَبِيرٌ} أي يعلم كنه الأشياء، فلا يعسر عليه. والآية هذه كقوله تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا} [الأنبياء: 47] الآية، وقوله: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة: 7 - 8]).

وقوله تعالى: {يَابُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} .

أي: يا بني أقم الصلاة التي أمرك الله بها بحدودها وأركانها والتماس أوقاتها، واؤمر الناس بطاعة الله واتباع أمره، وانههم عن الوقوع في معصيته ومحارمه، واصبر على ذلك مما يلحقك به من الأذى، فإن الصبر على أذى الناس لمن عَزْم الأمور.

قال ابن جريج: (اصبر على ما أصابك من الأذى في ذلك {إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} قال: إن ذلك مما عزم الله عليه من الأمور، يقول: مما أمر الله به من الأمور).

وقال شيخ الإسلام رحمه الله: (ولا بد أيضًا أن يكون حليمًا، صبورًا على الأذى. فإنه لا بد أن يحصل له أذى. فإن لم يحلم ويصبر كان ما يفسد أكثر مما يصلح، كما قال لقمان لابنه: {وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ}).

وقوله: {وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ} - فيه أقوال متقاربة متكاملة:

ص: 84

1 -

قال ابن عباس: (يقول: ولا تتكبر فتَحْتَقِرَ عبادَ الله، وتُعرضَ عنهم بوجهك إذا كَلَّمُوك). أو قال: (لا تعرض بوجهك عن الناس تكبرًا).

2 -

وقال مجاهد: ({وَلَا تُصَعِّرْ} قال: الصدود والإعراض بالوجه عن الناس).

3 -

وعن ميمون بن مهران قال: (هو الرجل يكلم الرجل فيلوي وجهه).

4 -

وعن الضحاك قال: ({وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ} يقول: لا تعرض عن الناس، يقول أقبل على الناس بوجهك وحسن خلقك).

5 -

قال ابن زيد: (تصعير الخدّ: التجبّر والتكبّر على الناس ومحقرتهم).

6 -

وقال إبراهيم النَخَعِيُّ: (يعني بذلك التشديق في الكلام). وما قبله أشبه بالمعنى. قال ابن جرير: (وأصل الصَّعَر داء يأخذُ الإبلَ في أعناقها أو رؤوسها حتى تُلْفَتَ أعناقُها عن رؤوسها، فيشَبَّهُ به الرجل المتكبِّر).

والخلاصة: يوصي لقمان ابنه بِبَسْطِ وجهه للناس إذا كلمهم وعدم احتقارهم، والإقبال عليهم بحسن الخلق وعدم الكبر أو التشدق في الكلام تعاليًا عليهم.

ومن صحيح السنة في آفاق ذلك أحاديث:

الحديث الأول: أخرج البخاري ومسلم عن حارثة بن وهب قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: [ألا أخبركم بأهل النار؟ كل عُتُلٍّ جوّاظ مستكبر](1).

الحديث الثاني: أخرج مسلم عن عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [لا يدخل الجنة من كان في قلبهِ مِثقالُ ذرة من كِبر. فقال رجل: إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنًا ونعله حسنة؟ قال: إن الله جميل يحب الجمال، الكبر بطرُ الحق وغمطُ الناس](2).

الحديث الثالث: أخرج أبو داود بسند صحيح من حديث جابر بن سليم مرفوعًا: [ولا تحقِرَنَّ شيئًا من المَعْروف، وأن تُكَلِّمَ أخاك وأنْتَ مُنْبَسِطٌ إليه وَجْهُكَ إنَّ ذلك من المعروف](3).

(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (8/ 507 - 508)، (10/ 408)، ورواه مسلم (2853).

(2)

حديث صحيح. أخرجه مسلم (91)، وأخرجه أبو داود (4091)، والترمذي (1999).

(3)

حديث صحيح. أخرجه أبو داود (4084) - كتاب اللباس. انظر صحيح سنن أبي داود (3442)، باب: ما جاء في إسبال الإزار، في أثناء حديث طويل. ورواه الترمذي (2877).

ص: 85

الحديث الرابع: أخرج الترمذي وابن حبان بسند حسن لغيره عن أبي ذر مرفوعًا: [تَبَسُّمُكَ في وجه أخيك لك صدقة، وأمرك بالمعروف ونهيك عن المنكر صدقة، وإرشادك الرجل في أرض الضلال لك صدقة، وبصرك الرجل الرديء البصر لك صدقة، وإماطتك الحجر والشوكة والعظم عن الطريق لك صدقة، وإفراغك من دلوك في دلو أخيك لك صدقة](1).

وقوله: {وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا} . قال الضحاك: (يقول: بالخيلاء).

قال ابن كثير: (أي: جذلًا متكبِّرًا جَبّارًا عنيدًا، لا تفعل ذلك يُبْغِضكَ الله، ولهذا قال: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ}، أي: مُختال مُعْجَب في نفسه، فخور أي: على غيره).

وقوله: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} . قال قتادة: (متكبر ذي فخر).

وقال مجاهد: (متكبر. وقوله {فَخُورٍ} قال: يعدّد ما أعطى الله، وهو لا يشكر الله). وفي سورة الإسراء. قال جل ثناؤه: {وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا} [الإسراء: 37].

وفي الصحيحين عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: [بينما رجل يمشي في حلة تُعْجِبُه نفسُه، مُرَجِّلٌ رأسَهُ، يَخْتَالُ في مِشْيَتِهِ، إذ خسف الله به، فهو يتجلجَلُ في الأرض إلى يوم القيامة](2).

وعند البيهقي بسند حسن عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [لو لم تكونوا تُذنبون، لخِفْتُ عليكم ما هو أكبر من ذلك، العُجْبَ العجب](3).

وفي لفظ غيره: [لو لم تكونوا تذنبون خشيت عليكم أكثر من ذلك: العجب].

وقوله: {وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ} . أي: امش مَشْيًا وَسَطًا عَدْلًا ليس بالبطيء المتثبِّط ولا بالسريع المُفْرِط. قال ابن جرير: (يقول: وتواضع في مشيك إذا مشيت، ولا تستكبر، ولا تستعجل، ولكن اتئد).

(1) حديث حسن لغيره. أخرجه الترمذي (1/ 354)، والبخاري في "الأدب المفرد"(128)، وأخرجه ابن حبان في صحيحه (864)، وانظر سلسلة الأحاديث الصحيحة (572).

(2)

حديث صحيح. أخرجه البخاري (10/ 221)، (10/ 222)، وأخرجه مسلم (2088).

(3)

حديث حسن. أخرجه البيهقي، وبنحوه العقيلي (171)، وابن عدي (1/ 164)، والقضاعي في "مسند الشهاب"، وانظر سلسلة الأحاديث الصحيحة (658).

ص: 86

وقوله: {وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ} . قال يزيد بن أبي حبيب: ({وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ} من السرعة. {وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ} يقول: واخفض من صوتك، فاجعله قصدًا إذا تكلمت). قال قتادة: (أمره بالاقتصاد في صوته). والمعنى: نهاه عن المبالغة في الكلام، ورفع الصوت فيما لا فائدة فيه.

وقوله: {إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} .

قال قتادة: (أي: أقبح الأصوات لصوت الحمير، أوّله زفير، وآخره شهيق، أمره بالاقتصاد في صوته). وقال عكرمة: ({إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ}: أشرّ الأصوات). وقال ابن زيد: (لو كان رفع الصوت هو خيرًا ما جعله للحمير). وخلاصة المعنى كما قال ابن كثير: (أي: غاية مَنْ رفعَ صوته أنه يُشَبَّهُ بالحمير في عُلُوِّهِ ورفعِه، ومع هذا هو بغيضٌ إلى الله تعالى).

وقال النسائي في كتاب "التفسير"- عند تفسير هذه الآية:

حدثنا قتيبةُ بنُ سعيد، حدثنا الليث، عن جَعْفَر بن ربيعة، عن الأعْرَجِ، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:[إذا سمعتم صياحَ الدِّيكة فاسألوا الله من فَضْلِه، وإذا سمعتم نهيقَ الحمير فتعوذوا بالله من الشيطان الرجيم، فإنها رأت شيطانًا](1).

20 -

24. قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ (20) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ (21) وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (22) وَمَنْ كَفَرَ فَلَا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (23) نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ (24)}.

في هذه الآيات: امتنانُ الله تعالى على العباد تسخيره لهم ما في السماوات وما في

(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (3303)، ومسلم (2729)، وأخرجه أبو داود (5102)، والترمذي (3459)، والنسائي في "التفسير"(411).

ص: 87

الأرض وإسباغ نعمه عليهم الظاهرة والباطنة، ومقابلة كثير منهم نعم ربهم بالجدل والتنطع وتعظيم الأعراف ودين الآباء الفاسد ومنهج الشيطان الذي يدعوهم إلى عذاب السعير. إنه من يخلص العبادة لله فقد سلك سبيل النجاة، ومن يكفر فإن عذاب الله شديد.

فقوله: {أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} .

قال ابن جرير: (يقول تعالى ذكره: {أَلَمْ تَرَوْا} أيها الناس {أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ} من شمس وقمر ونجم وسحاب {وَمَا فِي الْأَرْضِ} من دابة وشجر وماء وبحر وفلك وغير ذلك من المنافع، يجري ذلك كله لمنافعكم ومصالحكم لغذائكم وأقواتكم وأرزاقكم وملاذكم، تتمتعون ببعض ذلك كله، وتنتفعون بجميعه).

وقوله: {وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً} . قال مجاهد: (هي لا إله إلا الله). وكذلك قال ابن عباس، ثم قال:({ظَاهِرَةً} يقول: ظاهرة على الألسن قولًا، وعلى الأبدان وجوارح الجسد عملًا. وقوله: {وَبَاطِنَةً} يقول: وباطنة في القلوب اعتقادًا ومعرفة).

قال ابن كثير: (وأسبغ عليهم نعمه الظاهرة والباطنة من إرسال الرسل وإنزال الكُتب، وإزاحة الشبَه والعِلَل، ثم مع ذلك كله ما آمن الناس كلُّهم، بل منهم مَنْ يُجادِلُ في الله، أي: في توحيده وإرسال الرسل. ومجادَلَتُهُ في ذلك بغير علم، ولا مستند من حُجَّةٍ صحيحة، ولا كتاب مأثور صحيح، ولهذا قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ}، أي: مُبين مُضِيء).

وقوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ} .

أي: وإذا دعي هؤلاء الذين يجادلون في توحيد الله وإفراده بالعبادة إلى ما أنزل الله على رسوله من الحجة البالغة والفرقان العظيم، اعتذروا باتباع دين الآباء وتقليد الأسلاف في جاهليتهم، يظنون أن معهم في ذلك التوارث العصمة من الضلال. قال تعالى:{أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ} في تزيينه ذلك المنهج الفاسد لهم إلى صلي عذاب النار وسعيرها ولهبها يوم القيامة.

وقوله: {وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} .

قال ابن عباس: (لا إله إلا الله). والمقصود: ومن يخلص العبادة لله تعالى منقادًا

ص: 88

لأمره محسنًا في عمله فقد استمسك بأوثق عروة من حبل متين لا يخشى انقطاعه. قال القاسمي: (وهو تمثيل لحال المؤمن المخلص المحسن، بحال من أراد رقيّ شاهق، فتمسك بأوثق عرى الحبل المتدلّي منه).

وقوله: {وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} . قال النَسفي: (أي هي صائرة إليه فيجازي عليها).

وقوله تعالى: {وَمَنْ كَفَرَ فَلَا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} .

أي: ومن أصَرَّ على الكفر بالله وبما أنزل عليك - يا محمد - فلا تحزن عليه، فإن قدر الله نافذ به، فيجمعهم جميعًا ليوم الفصل فيجازيهم بما اجترحوا إنه تعالى لا تخفى عليه منهم خافية.

وقوله تعالى: {نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ} .

قال القرطبي: (أي نبقيهم في الدنيا مدة قليلة يتمتعون بها. {ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ} أي نلجئهم ونسوقهم {إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ} وهو عذاب جهنم. ولفظ {مَنْ} يصلح للواحد والجمع، فلهذا قال: "كفرُه" ثم قال: "مَرْجِعهم" وما بعده على المعنى).

25 -

28. قوله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (25) لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (26) وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (27) مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (28)}.

في هذه الآيات: إقرارُ المشركين لله خلق السماوات والأرض ومع ذلك هم يعبدون غيره وأكثرهم جاهلون. إن الله له ما في السماوات والأرض، وأقلام الدنيا وبحارها لو كانت مدادًا لا تكفي لكتابة كلمات الله وأسمائه ونعت صفاته وهو العزيز الحكيم. وما خَلْقُ الله الناس كلهم وبعثهم إلا كَخَلْقِ نفس واحدة وبعثها وهو السميع البصير.

فقوله: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} . قال القرطبي: (أي هم يعترفون بأن الله خالقهن فلِمَ يعبدون غيره).

ص: 89

وقوله: {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ} . قال ابن كثير: (إذ قامت عليهم الحجة باعترافهم). وقال النسفي: (إلزام لهم على إقرارهم بأن الذي خلق السماوات والأرض هو الله وحده، وأنه يجب أن يكون له الحمد والشكر، وأن لا يعبد معه غيره). وقيل: {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ} على ما هدانا له من دينه، وليس الحمد لغيره. قلت: وكل ذلك يدخل تحت مفهوم الآية.

وقوله: {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} . قال النسفي: (أن ذلك يلزمهم وإذا نبهوا عليه لم ينتبهوا). وقال ابن جرير: (يقول: بل أكثر هؤلاء المشركون لا يعلمون من الذي له الحمد، وأين موضع الشكر).

وقوله تعالى: {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} .

أي: بل كل ما في السماوات والأرض ملك لله، وهو الغني عن عبادة هؤلاء المشركين، {الْحَمِيدُ} يعني المحمود على نعمه التي أنعمها على خلقه وفي الأمور كلها ولو كره المشركون.

وقوله: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ} .

أي: ولو أن جميع ما في الأرض من أشجار جعلت أقلامًا، وجعل البحر مدادًا وأمدَّه سبعة أبحر معه، لكتابة كلمات الله التامة وأسمائه الحسنى وصفاته العُلا، لتكسرت الأقلام، ونفِدَ ماء البحار عجزًا عن إحصاء ذلك.

وعن قتادة قال: (قال المشركون: إنما هذا كلام يوشك أن ينفد، قال: لو كان شجر البَرِّ أقلامًا، ومع البحر سبعة أبحر ما كان لتنفد عجائب ربي وحكمته وخلقه وعلمه). وعن الحكم قال: حدثنا عمرو: ({وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ} قال: لو بريت أقلامًا والبحر مدادًا، فكتب بتلك الأقلام منه {مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ} ولو مدّه سبعة أبحر).

وقال الربيع بن أنس: (إنّ مَثَل علم العباد كلهم في علم الله كقطرة من ماء البُحُور كُلِّها، وقد أنزل الله ذلك:{وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ}

الآية. يقول: لو كان ذلك البحرُ مدادًا لكلمات الله، والشجر كلّها أقلامًا، لانكسرت الأقلام، وفني ماءُ البحر، وبقيت كلمات الله قائمة لا يُفنيها شيءٌ، لأنَّ أحدًا لا يستطيع أن يقدُر

ص: 90

قَدْرَه، ولا يُثني عليه كما ينبغي، حتى يكون هو الذي يثني على نفسه، إن ربنا كما يقول، وفوق ما نقول).

وهذه الآية كقوله تعالى: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا} [الكهف: 109].

وفي سنن ابن ماجة بسند صحيح عن عائشة قالت: [فقدت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ذات ليلة، من فراشه. فالتمسته. فوقعت يدي على بطن قدميه وهو في المسجد. وهما منصوبتان، وهو يقول: اللهم! إني أعوذ برضاك من سَخَطِكَ، وبمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك، لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك](1).

وقوله: {إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} . أي: عزيز في انتقامه من أعدائه، وقد عزَّ كل شيء وغلبه وقهره. {حَكِيمٌ} في خلقه وأمره، وأقواله وأفعاله، وشرعه وقدره، وفي جميع شؤونه.

وقوله: {مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ} .

قال قتادة: (يقول: إنما خلْقُ الله الناس كلّهم وبعثُهم كخلق نفس واحدة وبعثها). وقال مجاهد: ({كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ} يقول: كن فيكون، للقليل والكثير). والمقصود: أن خلق جميع الناس وبعثهم يوم القيامة بالنسبة لقدرة الله هو في هوانه كخلق نفس واحدة وبعثها، فإن الجميع هين عليه سبحانه ولا يعجزه شيء.

وفي التنزيل نحو ذلك:

1 -

قال تعالى: {وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ} [القمر: 50].

2 -

وقال تعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس: 82].

3 -

وقال تعالى: {فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ (13) فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ} [النازعات: 13 - 14].

وفي صحيح البخاري عن عبد الله رضي الله عنه قال: [جاء حَبْرٌ من الأحبار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا مُحَمَّدُ، إنا نَجِدُ أنَّ الله يجعلُ السماوات على إصْبَع، والأرضينَ على إصْبَع، والشَّجرَ على إصْبَع، والماءَ والثَّرى على إصْبَع، وسائِرَ

(1) حديث صحيح. أخرجه ابن ماجة (3841) - كتاب الدعاء. باب ما تعوَّذ منه رسول الله صلى الله عليه وسلم. انظر صحيح سنن ابن ماجة (3098). ورواه أبو داود في السنن.

ص: 91

الخلائقِ على إصْبَع، فيقول: أنا الملِكُ، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بَدَتْ نواجِذُهُ تصديقًا لِقَوْلِ الحَبْرِ، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم:{وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} [الزمر: 67]] (1).

وقوله: {إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} .

أي: إن الله سميع لأقوال المشركين الذين يقولون لا بعث، بصير بأفعالهم وجرائمهم، كسمعه وبصره بالنسبة إلى نفس واحدة، كما هي قدرته على خلقهم وبعثهم كنفس واحدة.

29 -

32. قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (29) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (30) أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آيَاتِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (31) وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ (32)}.

في هذه الآيات: إخبار الله تعالى عن عجائب قدرته في تعاقب الليل والنهار وزيادة أحدهما أو نقصانه، وحركة الشمس ومنازل القمر، والفلك التي تجري بأمره في البحر، وغير ذلك من الآيات وهو العلي الكبير. وتصويره تعالى حالة القوم إذا غشيهم موج البحر ورأوا الهلاك كيف يخلصون له الدين، فإذا نجاهم إلى البر عاد أكثرهم مشركين.

فقوله: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ} .

قال قتادة: ({يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ} نقصان الليل في زيادة النهار {وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ} نقصان النهار في زيادة الليل).

فالنهار في الصيف طويل وفي الشتاء قصير، والليل في الصيف قصير وفي الشتاء طويل، فإنه تعالى يأخذ من ساعات هذا فيضمها إلى ساعات هذا صيفًا وشتاء.

(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (4811) - كتاب التفسير، وانظر كذلك (7414)، (7415).

ص: 92

وقوله: {وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} . قال قتادة: (يقول: لذلك كله وقت، وحد معلوم، لا يجاوزه ولا يعدوه).

قلت: والشمس والقمر آيتان عظيمتان من آيات الله يخوف الله بحركتهما عباده ليتوبوا إليه قبل فوات الأوان.

وفي التنزيل:

1 -

قال تعالى: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} [يس: 38].

2 -

وقال تعالى: {وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ} [يس: 39].

3 -

وقال تعالى: {لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [يس: 40].

ومن صحيح السنة العطرة في آفاق حركة الشمس والقمر أحاديث:

الحديث الأول: أخرج الشيخان عن أبي ذَرٍّ الغفاري رضي الله عنه قال: [قال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي ذَرٍّ حين غَرَبَت الشمس: أتَدْري أيْنَ تذهب؟ قلتُ: الله ورسوله أعْلَمُ. قال: فإنها تذهَبُ حتى تَسْجُدَ تحت العرش فتستأذِنَ فيؤذَنَ لها، ويوشكُ أن تَسْجُدَ فلا يُقْبَلَ منها، وتَسْتَأذنَ فلا يؤذَنَ لها، فيُقال لها: ارجعى مِنْ حيثُ جِئت، فَتَطْلُعُ مِنْ مَغْرِبها. فذلك قوله تعالى: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} [يس: 38]] (1).

الحديث الثاني: أخرج البخاري ومسلم عن أبي هريرة مرفوعًا: [لا تقوم الساعة حتى تطلعَ الشمسُ من مَغْرِبها، فإذا رآها الناسُ آمنَ مَنْ عليها، فذلك حين {لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ} [الأنعام: 158]] (2).

الحديث الثالث: أخرج أحمد والترمذي بسند صحيح عن عائشة أن رَسول الله صلى الله عليه وسلم

(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (3199) - كتاب بدء الخلق، وأخرجه مسلم (159) نحوه، وأخرجه أحمد (5/ 177)، والترمذي (2186)، وابن حبان (6154).

(2)

حديث صحيح. أخرجه البخاري (4635) - كتاب التفسير، ومسلم (157)، وأحمد (2/ 231)، وأبو داود (4312)، من حديث أبي هريرة.

ص: 93

أخذ بيدها فأشار بها إلى القمر فقال: [يا عائشةُ! استعيذي بالله من شَرِّ هذا، فإن هذا هو الغاسق إذا وقَبَ. يعني القمر](1).

الحديث الرابع: أخرج البخاري عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [إنّ الشمس والقمر لا يَخْسِفان لموت أحد ولا لحياته، ولكنّهما آية من آيات الله، فإذا رأيتموه فَصَلّوا](2).

ورواه عن ابن عباس بلفظ: [إن الشمس والقمر آيتان من آياتِ الله لا يَخْسِفان لموت أحَدٍ ولا لحياتِه، فإذا رأيتم ذلك فاذكروا الله].

وقوله: {وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} . قال القاسمي: (أي: لأن من شاهد مثل ذلك الصنع الرائق، والتدبير الفائق، لا يكاد يغفل عن كون صانعه عز وجل محيطًا بما يأتي ويذر).

والآية فيها تهديد للكافرين الجاهلين حق عظمته سبحانه، المشركين فى عبادته معه غيره، فهو تعالى يحصي أعمالهم عليهم وسيجازيهم بها.

وقوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} .

قال النسفي: (أي: ذلك الوصف الذي وصف به من عجائب قدرته وحكمته التي يعجز عنها الأحياء القادرون العالمون، فكيف بالجماد الذي يدعونه من دون الله، إنما هو بسبب أنه هو الحق الثابت الإلهية، وأن من دونه باطل الإلهية، وأنه هو العليّ الشأن الكبير السلطان).

قلت: وقوله تعالى: {وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} دليل على علوه تعالى فوق جميع خلقه.

ففي التنزيل:

1 -

قال تعالى: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} [النحل: 50].

(1) حديث صحيح. أخرجه الترمذي (2/ 241)، والحاكم (2/ 540 - 541)، وأحمد في المسند (6/ 61)، (6/ 206)، (6/ 237)، وانظر السلسلة الصحيحة (372).

(2)

حديث صحيح. أخرجه البخاري (3201) - كتاب بدء الخلق، باب صفة الشمس والقمر، وانظر لرواية ابن عباس الحديث (3202) من الباب نفسه.

ص: 94

2 -

وقال تعالى: {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} [السجدة: 5].

3 -

وقال تعالى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر: 10].

وفي صحيح البخاري عن أنس: [أن زينب بنت جحش كانت تفخر على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم تقول: زوجكن أهاليكن، وزوجني الله من فوق سبع سماوات](1).

وفي رواية: [إن الله أنكحني في السماء].

وفي رواية أخرى: [زوجنيك الرحمن من فوق عرشه].

وقوله: {الْكَبِيرُ} . أي: الموصوف بالجلال وكِبر الشأن.

وفي التنزيل:

1 -

قال تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ} [الرعد: 9].

2 -

وقال تعالى: {فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ} [غافر: 12].

فالله تعالى هو الكبير الذي هو أكبر من كل شيء، وقد قهر كل شيء، فخضعت له الرقاب ودان له العباد طوعًا وكرهًا.

وقوله: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آيَاتِهِ} .

قال ابن كثير: (يُخبِر تعالى أنه هو الذي سَخَّر البحر لتجري فيه الفلك بأمره، أي: بِلُطْفِه وتسخيره، فإنه لولا ما جعل في الماء من قوة تُحمَل بها السُفن لما جَرَت، ولهذا قال: {لِيُرِيَكُمْ مِنْ آيَاتِهِ}، أي: مِنْ قدرتِه).

وقوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} . أي: صَبَّار في الشدائد والضراء، شكور في الرخاء والسّراء. قال عمر رضي الله عنه:(خير عيش أدركناه بالصبر).

قال الشعبي: (الصبر: نصف الإيمان، واليقين: الإيمان كله).

قال ابن القيم: (وهو - أي الصبر - واجب بإجماع الأمة، وهو نصف الإيمان، فإن الإيمان نصفان: نصف صبر ونصف شكر).

وفي جامع الترمذي بسند حسن عن أنس قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: [إنَّ عِظَمَ الجزاء مع

(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري في "التوحيد"، والترمذي (2/ 210)، وأحمد (3/ 226).

ص: 95

عِظَمِ البلاء، وإنَّ الله تعالى إذا أحَبَّ قومًا ابتلاهم، فمن رضي فله الرضا، ومن سَخِطَ فَلَهُ السُّخطُ] (1).

وقوله: {وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ} .

أي: وإذا غشي هؤلاء الذين يدعون مع الله غيره من الأوثان والطواغيت موج في البحر {كَالظُّلَلِ} أي: كالجبال والغمام، أخلصوا الدعاء لله وحده، فلما نجاهم إلى البر عادوا إلى شركهم. قال مجاهد:({فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ}: أي كافر). وقال ابن زيد: (هو المتوسط في العمل). اْي: فقابل النجاة من تلك الأهوال العظيمة التي أشرف معها على الهلاك بالجحود والكفر أو بضعيف الصلة بالله وبطيء المبادرة في الخيرات.

وفي التنزيل نحو ذلك:

1 -

قال تعالى: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} [العنكبوت: 65].

2 -

وقال تعالى: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا} [الإسراء: 67].

وفي سنن أبي داود ومسند أحمد بإسناد صحيح عن أبي تميمة قال: [شهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأتاه رجل فقال: أنت رسول الله أو قال أنت محمد؟ فقال: نعم. قال: فإلامَ تدعو؟ قال: أدعو إلى الله وحْدَه، مَنْ إذا كان بك ضر فدعوتَهُ كشفه عنك، ومن إذا أصابك عامُ سنة فدعوته أنبت لك، ومن إذا كنت في أرض قَفْرٍ فأضللت فدعوته ردّ عليك](2).

وقوله: {وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ} . قال ابن عباس: (كل جحاد كفور).

وقال مجاهد: ({كُلُّ خَتَّارٍ}: كلّ غدار). وقال قتادة: ({كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ}، الختار: الغدار، كل غدار بذمته كفور بربه).

(1) حديث حسن. أخرجه الترمذي (2/ 64)، وابن ماجة (4031) من حديث أنس. وانظر صحيح الجامع الصغير (2106) والحديث إسناده حسن، رجاله ثقاث.

(2)

حديث صحيح. انظر صحيح سنن أبي داود (3442)، وتخريج المشكاة (918)، ورواه أحمد في المسند. انظر صحيح الجامع (242).

ص: 96

وفي الأثر عن علي رضي الله عنه: (المكر غدر، والغدر كفر) رواه ابن جرير. وفي لغة العرب: الخَتْر. هو أتمُّ الغدر وأبلغه. قال الرازي: (الخَتْر: الغدر. يقال: خَتَرَه فهو خَتّار).

والمقصود: ما يكفر بحجج الله وأدلة توحيده وإفراده بالتعظيم إلا كل غدّار بعهده جحود نعم ربه عليه، فهو يكفرها ولا يشكرها ويتناساها ولا يذكرها.

33 -

34. قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (33) إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}.

في هذه الآيات: أمْرُ الله تعالى عباده أن يصدقوه التقوى ويستعدوا للقائه في يوم لا يدفع والد عن ولده ولا ولد عن والده شيئًا، وأن يحذروا غرور هذه الحياة الدنيا وغرور الشيطان الرجيم. إن الله تعالى وحده الذي يعلم وقت الساعة وينزل المطر ويعلم ما في الأرحام وما يكون في الغد من قضاء على كل نفس من عمل أو موت وهو العليم الحكيم.

فقوله: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا} . تخويف من الله عباده نفسه، والمشهد الرهيب يوم القيامة بين يديه، فلو أراد والد أن يفدي ولده بنفسه لما قُبل منه. وكذلك الولد لو أراد فداء والده بنفسه لم يُقبَلَ منه.

قال القاسمي: (أي ليس بمغن أحدهما عن الآخر شيئًا، لانقطاع الوُصَل في ذلك اليوم الرهيب).

وقوله: {إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} . قال ابن جرير: (يقول: اعلموا أن مجيء هذا اليوم حقّ، وذلك أن الله قد وعد عباده ولا خلف لوعده).

وقوله: {فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} . أي: لا تخدعنكم بلذاتها ومباهجها

ص: 97

وزينتها الفانية، فتصرفكم عن الاستعداد ليوم الرحيل والمعاد.

وقوله: {وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} . قال مجاهد: (الشيطان). وكذلك روي عن ابن عباس وقتادة: (ذاكم الشيطان). فهو يَغُرُّ ابنَ آدم ويعده ويمنِّيه بالأكاذيب حتى يصرفه عن طاعة الله بخيالاته وأوهامه. كما قال تعالى: {يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا} [النساء: 120]. قال سعيد بن جبير: (الغرور: أن تعمل بالمعصية وتتمنى المغفرة).

وقوله: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} .

قال قتادة: (أشياء من الغيب، استأثر الله بهن، فلم يطلع عليهن ملكًا مقرّبًا، ولا نبيًا مرسلًا {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} فلا يدري أحد من الناس متى تقوم الساعة، في أي سنة، أو في أي شهر، أو ليل، أو نهار {وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ} فلا يعدم أحد متى ينزل الغيث، ليلًا أو نهارًا ينزل؟ {وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ} فلا يعلم أحد ما في الأرحام، أذكر أو أنثى، أحمر أو أسود، أو ما هو (1)؟ {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا} خير أم شرّ ولا تدري يا ابن آدم منى تموت، لعلك الميت غدًا، لعلك المصاب غدًا؟ {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} ليس أحد من الناس يدري أين مضجعه من الأرض في بحر أو برّ أو سهل أو جبل، تعالى وتبارك).

وقد حفلت السنة الصحيحة بآفاق ذلك في أحاديث:

الحديث الأول: أخرج البخاري في صحيحه -في كتاب التفسير- عند هذه الآية، عن أبي زُرْعَةَ، عن أبي هريرة رضي الله عنه: [أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كانَ يَوْمًا بارزًا للناس، إذْ أتاهُ رجلٌ يمشي فقال: يا رسول الله، ما الإيمان؟ قال: الإيمانُ: أن تُؤمِنَ بالله وملائكته وَرُسُلِه، ولِقائه، وتؤمِنَ بالبعث الآخر. قال: يا رسول الله، ما الإسلامُ؟ قال: الإسلام أن تَعْبُدَ الله ولا تُشْرِكَ به شيئًا، وتقيمَ الصلاة، وتؤتي الزكاةَ المفروضة، وتصومَ رمضان. قال: يا رسول الله ما الإحسان؟ قال: الإحسانُ: أن تَعْبُدَ الله كأنك تراه فإنْ لم تكنْ تراه فإنه يراك. قال: يا رسول الله، متى الساعة؟ قال:

(1) قد رأى الناس اليوم بعض أخبار الجنين في أشهره الأولى من خلال أجهزة التصوير الحديثة فأشكل على بعضهم فهم هذه الآية. فيقال إن الله تعالى يعلم الذكر من الأنثى في المراحل التي يعجزون عن معرفتها في الأرحام بجميع أجهزتهم.

ص: 98

ما المسؤول عنها بأعلمَ من السائل، ولكن سأحَدِّثك عن أشْراطِها. إذا وَلَدَت المرأة رَبَّتها، فذاكَ مِن أشراطِها. وإذا كان الحُفاةُ العراةُ رؤوسَ الناس، فذاكَ مِنْ أشراطِها، في خمسِ لا يَعْلمُهُنَّ إلا الله:{إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ} ثم انصرف الرجل فقال: رُدّوا عليَّ، فأخذوا ليرُدّوا فلم يرَوْا شيئًا، فقال: هذا جبريل جاء لِيُعَلِّمَ الناس دينهم] (1).

الحديث الثاني: أخرج البخاري في صحيحه عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: [مَفاتيحُ الغيب خَمْسٌ، ثم قرأ {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ}](2).

الحديث الثالث: أخرج الإمام أحمد عن عبد الله بن بُريدة قال: سمعت أبي بُريدة يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: [خمسٌ لا يعلمهن إلا الله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِير}](3).

الحديث الرابع: أخرجَ الإمام أحمد بسند صحيح عن رِبْعِيِّ بن حِرَاش، عن رجل من بني عامر: [أنه استأذن على النبي صلى الله عليه وسلم: أألج؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم لخادمه: اخرُجي إليه فإنه لا يُحسِنُ الاستئذان فقولي له: فَلْيَقُل: السلام عليكم، أأدخلُ؟ قال: فسمعتُه يقول ذلك، قلت: السلامُ عليكم، أأدخلُ؟ فأذِنَ فدخلتُ، فقلتُ: بِمَ أتيتنا به؟ قال: لم آتكم إلا بخير، أتيتكم أن تعبدوا الله وحدَه لا شريك له، وأن تَدَعوا اللات والعُزَّى، وأن تُصَلُّوا بالليل والنهار خمسَ صلوات، وأن تصوموا من السنة شهرًا، وأن تحجُّوا البيتَ، وأن تأخذوا الزكِاة من مالِ أغنيائكم فتردُّوها على فُقَرائكم. قال: فقال: هل بقي من العلم شيء لا تعلمُه؟ قال: قد علمَ الله عز وجل خيرًا، وإنَّ من العلم ما لا يعلمُه إلا الله عز وجل: الخمس: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} (4).

(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (4777) - كتاب التفسير، سورة لقمان، آية (34)، ورواه مسلم في الصحيح (9) من حديث أبي هريرة. وانظر صحيح ابن ماجة (54).

(2)

حديث صحيح. أخرجه البخاري (4778) - كتاب التفسير، الباب السابق. وانظر كذلك (1039).

(3)

صحيح الإسناد. أخرجه أحمد (5/ 353)، والبزار (2249) وإسناده على شرط مسلم، وانظر:"مجمع الزوائد"(7/ 89).

(4)

حديث صحيح. أخرجه أحمد (5/ 369)، وقال الهيثمي في "المجمع" (27/ 42 - 43): ورجاله =

ص: 99

الحديث الخامس: أخرج ابن ماجة والبيهقي بسند صحيح عن عبد الله بن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[إذا كانَ أجَلُ أَحَدِكُمْ بِأَرْضٍ، أَوْثَبَتْهُ إليها الحاجةُ. فإذا بلغَ أقصى أثرِهِ، قَبَضَهُ الله سبحانه. فتقول الأرض يوم القيامة: ربِّ! هذا ما استودعتني](1).

وله شاهد عند الترمذي من حديث أبي عَزَّةَ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [إذا أرادَ الله قبضَ رُوحِ عبدٍ بأرضٍ جعلَ له فيها حاجة].

وقوله: {إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} . قال ابن جرير: (يقول: إنَّ الذي يعلم ذلك كله، هو الله دون كل أحد سواه، إنه ذو علم بكل شيء، لا يخفى عليه شيء، خبير بما هو كائن، وما قد كان).

تم تفسير سورة لقمان بعون الله وتوفيقه، وواسع منّه وكرمه

* * *

= كلهم ثقات أئمة. وأورده ابن كثير في التفسير (5262) وقال: وهذا إسناد صحيح.

(1)

حديث صحيح. أخرجه ابن ماجة (4263) - كتاب الزهد، والبيهقي في "الشعب" (9889). وقال البوصيري في "الزوائد": إسناده صحيح، ورجاله ثقات. وانظر صحيح ابن ماجة (3438). وانظر للشاهد بعده سنن الترمذي (2147)، ومسند أحمد (3/ 429).

ص: 100