الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
30 - سُوْرَةُ الرُّومِ
وهي سورة مكية، وعدد آياتها (60)
موضوع السورة
نصر الروم بعد الهزيمة وعد الله العزيز الرحيم
وكذلك البعث بعد الموت للحساب بين يدي رب العالمين
-
منهاج السورة
-
1 -
خبر انتصار فارس على الروم زمن النبي صلى الله عليه وسلم، والوعد بقلب النصر لتغلب الروم فارس في بضع سنين، وعندها يفرح المؤمنون.
2 -
غفلة أكثر الناس عن حقائق دينهم، بسبب انشغالهم وانغماسهم في أمر دنياهم.
3 -
أهمية التفكر في المخلوقات المحيطة من العالم العلوي والسفلي وما بينهما.
4 -
سنة الله في إنزال النقمة والعذاب في الأمم الظالمة المكذبة للرسل.
5 -
تفرد الله في إنشاء الخلق وإعادته، وانقسام الناس يوم القيامة إلى فريقين.
6 -
تنزيه الله تعالى نفسه، وتوجيه العباد إلى مقام التقديس والتحميد والتهليل والإجلال لله العظيم، في الصباح والمساء وفي الظهيرة وفي كل حين.
7 -
تفرّد الله تعالى بإخراج الحي من الميت وإنبات الأرض القفر وبنحوه يكون خروج الخلق يوم الدين، للقيام بين يدي رب العالمين.
8 -
حجج الله الكونية في الخلق: خلق آدم من تراب، تناسل الذرية من الأصلاب، جعل المصاهرة والختونة والمودة والرحمة، خلق السماوات والكواكب، والأرض والجبال، والسهول والهضاب، والبحار والأنهار، والقفار والأشجار، والنبات والحيوان، واختلاف اللغات والألوان، والنوم في الليل والانتشار في النهار.
9 -
تخويف الله تعالى عباده بالبرق وترغيبهم بالمطر، وتنبيههم إلى رفعه السماء بلا عمد، وتمهيده الأرض، وإخراجه الموتى من القبور للبعث والحساب، آيات لأولي الألباب.
10 -
ضرب المثل لمن عدل بالله شيئًا من خلقه، والله له المثل الأعلى وهو العزيز الحكيم.
11 -
الأمر باتباع الدين الحنيف دين الفطرة، والتحذير من سبيل التفرق والتبديل والتحريف.
12 -
العجب من المشركين يخلصون الدعاء لله في الشدائد، ويشركون به في الرخاء.
13 -
الأمر بإعانة القرابة المحتاجين، والفقراء المساكين، والمسافرين المنقطعين، والتحذير من الربا، والترغيب في الزكاة والصدقات، والتنفير من الشرك.
14 -
ظهور الفساد في البر والبحر عقوبة الله للناس مقابل استهتارهم في حمل الأمانة.
15 -
الأمر بالسير في البلاد للنظر في مصارع الأمم السالفة، والأمر بالتزام منهاج هذا الدين القويم، والإخبار عن ورود الناس يوم القيامة فريقين: فريق في الجنة وفريق في السعير.
16 -
امتنانُ الله على عباده إرسال الرياح مبشرات، بالغيث والمطر ولجريان الممبفن ولبلوغ الخيرات، في المعايش والمكاسب والتجارات.
17 -
الإخبارُ عن إرسال الله تعالى الرسل وانقسام الناس إلى فريقين: مؤمنين مخبتين، وكفار مجرمين. فكان الإنعام بالنصر للمؤمنين، والانتقام من المجرمين.
18 -
امتنان الله مرة أخرى بالريح الطيبة وإنشاء السحب ونعمة المطر ومقارنة ذلك مع الريح المفسدة، فالله هو المحيي والمميت وهو الذي يبعث من في القبور.
19 -
إثبات عدم سماع الأموات في قبورهم نداء الأحياء، وتمثيل الكفر والإعراض عن سماع الحق بالموت والصمم.
20 -
أمر الهداية بيد الله، وقلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمان يقلبها كيف شاء، فمن شاء أقامه، ومن شاء أزاغه.
21 -
تنقّل الإنسان في أطوار الخلق المختلفة، الضعف فالقوة فالضعف مرة أخرى.
22 -
إقسامُ المجرمين يوم القيامة أنّ مكثهم في هذه الحياة الدنيا ما كان غير ساعة.
23 -
رفض اعتذار المجرمين يوم القيامة، وضياع فرصة التوبة والإنابة والندم.
24 -
ضَرْبُ الله الأمثلة للناس في هذا القرآن لينتفعوا بها ولكن الكافرين عن الحق معرضون.
25 -
أمرُ الله تعالى نبيَّه صلى الله عليه وسلم الثبات على الطريق والصبر على الأذى فإن النصر قريب.
* * *
بسم الله الرحمن الرحيم
1 -
7. قوله تعالى: {الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (5) وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (6) يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ (7)}.
في هذه الآيات: ذِكْرُ الله تعالى خبر انتصار فارس على الروم زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وَوَعْدُهُ بقلب النصر لتغلب الروم فارس في بضع سنين، وعندها يفرح المؤمنون بوعد الله لا مخلف له، وإنما أكثر الناس منغمسون في دنياهم لا يعلمون عن حقائق دينهم وأمر مستقبله وأمور الآخرة.
أخرج الترمذي وابن جرير عن الشعبي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: [كانت فارس ظاهرة على الروم، وكان المشركون يحبون أن تظهر فارس على الروم](1).
فنزلت هذه الآية حين غلب سابورُ ملكُ الفرس على بلاد الشام وما والاها من بلاد الجزيرة، وأقاصي بلاد الروم، فاضطَرَّ هرقل ملكَ الروم حتى ألجأه إلى القسطنطينية، وحاصره مُدَّةً طويلة، ثم عادت الدولة لهرقل. وكان المسلمون آنذاك بمكة يعيشون الغربة مع نبيّهم صلى الله عليه وسلم، ولكنهم رغم الحصار فقد كانوا على اطلاع على الأحداث الخارجية ومتابعة للتطورات السياسية في العالم. فقد فهموا من الوحي الكريم منذ اللحظة الأولى، أنهم أبناء واقع مضطرب سيكونون مصلحيه غدًا، وأهل زمن اشتد
(1) حديث حسن. انظر سنن الترمذي (5/ 343 - 344)، وتفسير الطبري (21/ 12).
ظلامه سيكونون منوّريه غدًا، وأحفاد وضع يحكمه الطغاة سيكونون حاكميه ووارثيه غدًا، وأخيار أمة تعثرت في خضوعها للأوثان والطواغيت والشهوات سيكون لهم أمر التصدي لانحرافها وإعادتها لجادة أنبيائها وصالحيها وأبطالها.
لقد حزن المسلمون لهزيمة الروم أمام الفرس، إذ كانوا يرون أن الروم أهل كتاب مثلهم، فبينهما صلة من النسب رغم ما أصاب أولئك من انحراف في كتبهم ومنهاجهم، إذا ما قورنوا مع الفرس وعبدة الأوثان.
أخرج الترمذي بإسناد قوي عن عروة بن الزبير، عن نِيار بن مُكرَم الأسْلَمِيَّ قال:[لما نزلت {الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ}، فكانت فارس يوم نزلت هذه الآية قاهرين للروم، وكان المسلمون يحبون ظهور الروم عليهم، لأنهم وإياهم أهل كتاب، وفي ذلك قوله تعالى: {وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ}، وكانت قريش تحب ظهور فارس، لأنهم وإياهم ليسوا بأهل كتاب، ولا إيمان ببعث، فلما أنزل الله هذه الآية، خرج أبو بكر يصيح في نواحي مكة: {الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ} فقال ناس من قريش لأبي بكر: فذاك بيننا وبينكم، زعم صاحبكم أن الروم ستغلب فارس في بضع سنين، أفلا نراهنك على ذلك؟ قال: بلى، وذلك قبل تحريم الرهان، فارتهن أبو بكر والمشركون، وتواضعوا الرهان وقالوا لأبي بكر: كم نجعل البضع ثلاث سنين إلى تسع سنين، فسَمِّ بيننا وبينك وَسَطًا ننتهي إليه؟ قال: فسمّوا بينهم ست سنين، قال: فمضت سِتُّ السِّنين قبل أن يَظْهَرُوا، فأخذ المشركون رهنَ أبي بكر، فلما دخلت السنة السابعة ظهرت الروم على فارسٍ، قال: فعاب المسلمون على أبي بكر تسميته ست سنين، لأن الله يقول: {فِي بِضْعِ سِنِينَ}. قال: فأسلم عند ذلك ناس كثير](1).
وروى الترمذي عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأبي بكر: [ألا احتَطْتَ يا أبا بكر، فإن البِضْعَ ما بين الثلاث إلى التسع؟ ](2).
(1) حديث إسناده قوي. أخرجه الترمذي في السنن (3/ 344 - 345)، وانظر مسند أحمد (1/ 276) و (1/ 304)، والنسائي في "التفسير"(409)، وكتابي: السيرة النبوية على منهاج الوحيين: القرآن والسنة الصحيحة (1/ 278 - 279).
(2)
أخرجه الترمذي (3191)، والطبري (27866)، وقال الترمذي: هذا حديث غريب.
وأما قوله: {الم} -فقد سبق ذكر مفهوم هذه الحروف المقطعة في أوائل السور- كما في أول سورة البقرة. والروم: هم من سلالة العِيص بن إسحاق بن إبراهيم، وهم أبناء عَمِّ بني إسرائيل، ويقال لهم أيضًا: بنو الأصفر. وكانوا على دين اليونان، واليونان من سلالة يافثَ بن نوح، أبناء عَمِّ التركِ. وكانوا يعبدون الكواكب السيّارة السبعة، ويقال لها: المُتَحيّرة، ويُصَلُّون إلى القطب الشمالي، وهم الذين أسَّسُوا دمشق، وبَنَوا معبدها، وفيه محاريب إلى جهة الشمال. فكان الروم على دينهم إلى بعد مَبْعثِ المسيح بنحو من ثلاث مئة سنة، وكان مَن ملك الشام مع الجزيرة منهم يقال له: قَيصَرُ. فكان أولَ مَن دخل في دين النصارى من ملوك الروم قسطنْطينُ بن قسطس، وأمه مريم الهيلانية الغندقانية من أرض حَرّان، كانت قد تنصَّرَت قبله، فدعته إلى دينها، وكان قبل ذلك فيلسوفًا، فتابعها -يقال: تَقِيَّة- واجتمعت به النصارى، وتناظروا في زمانه مع عبد الله بن أريوس، واختلفوا اختلافًا كثيرًا منتشرًا مُتَشَتِّتًا لا ينضَبِطُ، إلا أنه اتفق من جماعتهم ثلاثُ مئةٍ وثمانيةَ عشرَ أسقفًا، فوضعوا لِقُسطنطين العقيدة، وهي التي يسمونها الأمانة الكبيرة، وإنما هي الخيانة الحقيرة، ووضعوا له القوانين، يعنُونَ كُتُب الأحكام من تحليل وتحريم وغير ذلك مما يحتاجون إليه، وغيَّروا دين المسيِح عليه السلام، وزادوا فيه ونقصوا منه. وصلّوا إلى المشرق واعتاضوا عن السبت بِالأحَد، وعبَدُوا الصَّليب وأحَلّوا الخنزير. واتخذوا أعيادًا أحدثوها كعيد الصليب والقداس والغطاس. وغير ذلك من البَوَاعِيث والشعَانين، وجعلوا له البابا وهو كبيرهم، ثم البتارِكَة ثم المَطارِنَة، ثم الأساقفة والقَسَاوِسة، ثم الشمامِسَة. وابتدعوا الرهبانية. وبنى لهم الملك الكنائس والمعابد، وأسَّسَ المدينة المنسوبة إليه وهي القسطنطينية، يقال: إنه بني في أيامه اثني عشر ألف كنيسة، وبنى بيتَ لحم بثلاثة محاريبَ، وبنت أمه القُمَامَة، وهؤلاء هم المَلَكِيَّة، يعنون الذين هم على دين الملِك. ثم حدثت بعدهم اليعقوبية أتباع يعقوب الإسكاف، ثم النَّسطُورِية أصحاب نسطورا، وهم فِرَقٌ وطوائف كثيرة، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إنهم افترقوا على اثنتين وسبعين فرقة". والغرض أنهم استمروا على النصرانية، كُلَّما هلك قيصر خلفه آخرُ بعدَه، حتى كان آخرُهم هرقلَ. وكان من عقلاء الرجال، ومن أحزم الملوك وأدهاهم، وأبعدهم غَورًا وأقصاهم رَأيًا، فتَمَلَّكَ عليهم في رِياسَة عظيمة وأُبَّهَةٍ كبيرة، فناوأه كِسْرى ملك الفرس، ومَلَكَ البلاد كالعراق وخراسان والرّي، وجميع بلاد المعجم، وهو سابُور ذو الأكتاف. وكانت مملكته أوسَعَ من مملكة قيصرَ، وله رياسةُ المعجم وحَماقَةُ الفُرس، وكانوا مجوسًا يعبدون النار. فتقدّم عن عكرمة أنه بعث
إليه نُوَّابه وجيشه فقاتلوه، والمشهور أن كسرى غزاه بنفسه في بلاده فقهره وكَسَرَهُ وقَصَره، حتى لم يبق معه سوى مدينة قُسْطَنْطِينية، فحاصره بها مُدّة طويلة حتى ضاقت عليه، وكانت النصارى تُعَظّمُهُ تعظيمًا زائدًا، ولم يقدِر كسرى على فتح البلاد، ولا أمكنَه ذلك لحَصانتها، لأن نصفها من ناحية البر ونصفَها الآخر من ناحية البحر، فكانت تأتيهم المِيرة والمدَدَ من هنالك. فلما طال الأمر دَبَّرَ قيصرُ مكيدةً، ورأى في نفسه خدِيعة، فطلب من كسرى أن يقلع عن بلاده على مالٍ يُصالحه عليه، ويشترط عليه ما شاء. فأجابه إلى ذلك، وطلب منه أموالًا عظيمة لا يقدر عليها أحدٌ من ملوك الدنيا، من ذهب وجواهرَ وأقمشةٍ وجوارٍ وخُدّام وأصناف كثيرة. فطاوعه قيصر، وأوهمه أن عنده جميعَ ما طلب، واستقلَّ عقله لَمَّا طلب منه ما طلب، ولو اجتمع هو وإيّاه لعَجَزت قُدرتُهما عن جَمْعِ عُشْره، وسأل كسرى أن يُمَكّنه من الخروج إلى بلاد الشام وأقاليم مَمْلَكَتهِ، ليسعى في تحصيل ذلك من ذخائِرِه وحواصله ودفائنه، فأطلق سراحه، فلما عزم قيصر على الخروج من مدينة قسطنطينيّة، جمع أهل مِلَّته وقال: إني خارج في أمر قد أبرمته، في جُند قد عينته من جيشي، فإن رجعت إليكم قبل الحول فأنا ملككم، وإن لم أرجع إليكم قبلها، فأنتم بالخيار، إن شئتم استمررتم على بيعتي، وإن شئتم وليتم عليكم غيري. فأجابوه بأنك ملكنا ما دمت حيًّا، ولو غبتَ عشرةَ أعوام، فلما خرج من القسطنطينية خرَجَ جرِيدَةً في جيش متوسط، هذا وكسرى مُخَيِّمٌ على القسطنطينية ينتظر ليرجع، فركب قيصر من فوره وسار مُسرعًا حتى انتهى إلى بلاد فارس، فعاث في بلادهم قتلًا لرجالها ومَنْ بها من المُقَاتِلَةِ، أَوَّلًا فأوَّلًا، ولم يزل يقتُل حتى انتهى إلى المدائن، وهي كُرسيُّ مملكة كِسْرى، فقتل من بها وأخذ جميع حَوَاصِله وأموالِه، وأسر نساءَه وحريمَه، وحَلَق رأس وَلَده، وَرَكَّبَهُ على حمار وبعث مَعَهُ من الأساوِرَة من قومه في غايةِ الهَوَان والذلّة، وكتب إلى كسرى يقول: هذا ما طلبت فخُذْه. فلما بلغ ذلك كِسرى أخذه من الغمِّ ما لا يحصيه إلا الله عز وجل، واشتد حَنَقه على البلد، فاشتدَّ في حصارها بِكلِّ ممكن فلم يقدر على ذلك. فلما عَجَز ركب ليأخذ عليه الطريقَ من مَخَاضَةِ جَيحُونَ، التي لا مَسْلَكَ لقيصر إلى القسطنطينية إلا منها، فلما علمَ قيصر بذلك احتالَ بحيلة عظيمة لم يُسبق إليها، وهو أن أَرْصَدَ جُنْدَه وحواصله التي معه عند فَمِ المخاضة، ورَكِبَ في بعض الجيش، وأمر بأحمالٍ من التِّبن والبَعر والرَّوث فَحُمِلَت مَعَه، وسار إلى قريب من يوم في الماء مُصْعِدًا، ثم أمر بإلقاء تلك الأحمال في النهر، فلما مَرّت بِكسْرى ظنَّ هو وجنده أنهم قد خاضوا من هنالك،
فركبوا في طلبهم فَشَغَرت المخاضة عن الفُرس، وقدم قيصرُ فأَمَرَهم بالنهوض في الخَوْضِ، فخاضوا وأسرعوا السير ففاتوا كِسرى وجنودَه، ودخلوا القُسطنطينيَّة. وكان ذلك يومًا مشهودًا عند النصارى، وبقِيَ كسرى وجيوشُه حائرين لا يدرون ماذا يصنعون لم يحصُلُوا على بلاد قيصر، وبلادُهم قد خرّبتها الروم وأخذُوا حَوَاصلهم، وسَبَوا ذَرَاريهم. فكان هذا من غَلب الروم فارِسَ، وكان ذلك بعد تسِع (1) سنين من غَلَبِ الفُرس للروم. وكانت الواقعة الكائنة بين فارسَ والروم حين غَلبت الرومُ بين أذرعاتِ وبُصرى، على ما ذكره ابنُ عباس وعكرمة وغيرهما، وهي طرف بلاد الشام مما يلي بلاد الحجاز. وقال مجاهد: كان ذلك في الجزيرة، وهي أقرب بلادِ الروم من فارسَ، فالله أعلم (2).
وقوله: {لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ} . أي: من قبل ذلك ومن بعده.
وقوله تعالى: {وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} . فإن الروم أهل كتاب، وهذا قاسم مشترك بينهم وبين المسلمين، في حين أن المجوس الفرس ليسوا بأهل كتاب، ولا إيمان ببعث، فطبيعي أن يفرح المؤمنون بنصر الأقرب لدينهم على عدوهم المشترك.
أخرج الترمذي بسند صحيح عن أبي سعيد قال: [لما كان يوم بدر ظهرت الروم على فارس، فأعجب ذلك المؤمنين فنزلت: {الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2)} - إلى قوله-. {يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ} ففرح المؤمنون بظهور الروم على فارس](3).
وقوله: {وَهُوَ الْعَزِيزُ} . أي: في انتقامه من أعدائه، وانتصاره منهم. {الرَّحِيمُ} بعباده المؤمنين الموحِّدين.
وقوله: {وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ} . أي هذا الذي أخبرناك يا محمد عن نصر الروم على فارس بعد هزيمتهم أمامهم هو وعدٌ من الله مقطوع لا بد من وقوعه كما أخبرك الله في التنزيل، فهذه سنة الله في نصر أقرب الطائفتين للحق.
وقوله: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} . أي: بسنن الله وأحكامه وتصريفه بين الأمم.
وقوله: {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} .
(1) الراجح من رواية الترمذي سبع سنين.
(2)
نقلًا عن تفسير ابن كثير. سورة الروم. الآيات (1 - 7).
(3)
حديث صحيح. أخرجه الترمذي في السنن- أبواب القراءات. انظر صحيح الترمذي (2338).
قال ابن عباس: (يعني معايشهم، متى يحصدون ومتى يغرسون). وقال قتادة: ({يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} من حِرْفَتها وتصرّفها وبغيتها).
وقال الحسن البصري: (والله ليَبْلُغُ من أحدهِم بدنياه أنه يقلِبُ الدرهم على ظُفُره، فيخْبِرُك بوزنِه، وما يحسن يُصَلّي).
وقال ابن عباس: ({يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} يعني: الكفار، يعرِفون عُمران الدنيا، وهم في أمر الدين جُهّال).
وجملة القول: إن أكثر الناس في هذه الحياة الدنيا مشغولون بها، متقنون لفنون اكتسابها وتحصيل متاعها وأموالها وزخرفها، حذّاق أذكياء في طرق السَّبق فيها لجمع أكثر ما يمكن من زينتها، وهم غافلون عن أمر آخرتهم، وما بعد موتهم، وما يكون في قبورهم إذا رحلوا عنها، بعيدون عن ربهم، جاهلون في دينهم وما يصلح دنياهم ومعادهم.
أخرج البخاري عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[تعِسَ عبد الدينار، وعبدُ الدرهم، وعبد الخميصة، إنْ أعطي رضيَ، وإن لم يُعطَ سخط، تعسَ وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش. . .](1).
وأخرج البيهقي وابن حبان بسند صحيح، عن أبي هريرة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:[إن الله يبغضُ كلَّ جعظري جَوَّاظ، سَخّاب في الأسواق، جيفة بالليل، حمارٍ بالنهار، عالمٍ بالدنيا، جاهل بالآخرة](2).
8 -
10. قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ (8) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (9) ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى أَنْ
(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (2886)، كتاب الجهاد والسير.
(2)
حديث صحيح. رواه ابن حبان في صحيحه (1957 - موارد)، وأخرجه البيهقي (10/ 194).
كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ (10)}.
في هذه الآيات: ينبّه الله تعالى على أهمية التفكر في هذه المخلوقات المحيطة من العالم العلوي والسفلي، وما بينهما مما يدل على عظمة الله سبحانه ووجوب إفراده بالعبادة والتعظيم. وكذلك ينبّهُ تعالى على سننه في الأمم الظالمة المكذبة كيف أنزل بها بأسه ونقمته وكيف كان عاقبة المكذبين.
فقد أخرج أبو نعيم في الحلية بسند حسن عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[تفكّروا في خلق الله، ولا تفكّروا في الله](1).
وله شاهد عنده من حديث عبد الله بن سلام مرفوعًا بلفظ:
[لا تفكروا في الله، وتفكروا في خلق الله، فإن ربنا خلق مَلَكًا، قدماه في الأرض السابعة السفلى، ورأسه قد جاوز السماء العُليا، ما بين قدميه إلى ركبتيه مسيرة ست مئة عام، وما بين كعبيه إلى أخمص قدميه مسيرة ست مئة عام، والخالق أعظم من المخلوق](2).
وله شاهد آخر رواه الطبراني في "الأوسط" عن سالم بن عبد الله عن أبيه مرفوعًا:
[تفكروا في آلاء الله، ولا تفكروا في الله عز وجل](3).
ففي هذه الأحاديث الأمر بالتفكر بخلق الله، الذي يوصل إلى القيام بتعظيمه سبحانه والاستعداد للقائه، وهو قوله تعالى:{وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ} فخلق الله الخلق بالحق وأجّل لقاءهم إلى يوم الحساب، الذي يكفر به كثير من الناس الذين أعمتهم الدنيا وشهواتها.
وقوله: {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} .
دعوة للتفكر في مصير الأمم السابقة المعاندة المتكبرة، وكيف أهلكها الله بطغيانها وشركها. {كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ}. قال مجاهد:(حرثوها). {وَعَمَرُوهَا
(1) حديث حسن. انظر صحيح الجامع الصغير -حديث رقم- (2973).
(2)
حديث إسناده حسن في الشواهد. أخرجه أبو نعيم في "الحلية"(6/ 66 - 67)، وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة بإثر حديث رقم (1788).
(3)
حديث حسن لغيره. رواه الطبراني في "الأوسط"(6456)، والبيهقي في "الشعب"(1/ 75)، وانظر المرجع السابق، وصحيح الجامع الصغير (2972).
أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا}. قال ابن عباس: (ملكوا الأرض وعمروها).
وقوله: {وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ} . أي: بالحجج والآيات والبراهين القاطعة الدالة على صدق النبوة والوعد والوعيد.
وقوله: {فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} . يعني: إنما حلّ بهم ما حل من العذاب، ونزل بهم ما نزل من النقمة والمصيبة بظلمهم أنفسهم، فالله سبحانه لا يظلم أحدًا شيئًا.
وفي الحديث المقدسي: [قال الله تعالى: يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرمًا فلا تظالموا](1).
وقوله: {ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى} . قال قتادة: (الذين أشركوا: السوءى: أي النار). وقال ابن عباس: (يقول: الذين كفروا جزاؤهم العذاب).
والسوأى: مصدر في هذا الموضع. وقيل: هي اسم، أو في محل نصب خبر كان (2). قال ابن جرير:(السوأى: يعني الخلة التي هي أسوأ من فعلهم، أما في الدنيا، فالبوار والهلاك، وأما في الآخرة فالنار لا يخرجون منها، ولا هم يستعتبون).
وقوله: {أَنْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ} .
المعنى: كانت لهم السوأى لأنهم كذبوا بآيات الله واستهزؤوا بها وبرسله.
11 -
16. قوله تعالى: {اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (11) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ (12) وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكَائِهِمْ شُفَعَاءُ وَكَانُوا بِشُرَكَائِهِمْ كَافِرِينَ (13) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ (14) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا
(1) جزء من حديث طويل رواه مسلم عن أبي ذر، انظر صحيح مسلم (8/ 17)، ومسند أحمد (5/ 160).
(2)
التقدير: كانت السوأى عاقبتهم. وقال بعض علماء النحو: {السُّوأَى} : اسم كان مؤخر مرفوع بضمة مقدرة على الألف، أو مفعول مطلق لأساؤوا، أو مفعول به له بحذف موصوف أي الفعلة السوأى منصوب بفتحة مقدرة على الألف.
وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ (15) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ فَأُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ (16)}.
في هذه الآيات: يخبر تعالى أن إنشاء جميع الخلق ينفرد به وحده لا شريك له ثم إليه الرجوع لا محالة، وهناك يكون الفصل يوم القيامة يوم ييأس المشركون ويتفرق الناس إلى فريقين: فريق في الجنة هم أهل الإيمان والعمل الصالح، وفريق في النار هم أهل العناد والتكذيب بالله والرسل والدار الآخرة، فالمؤمنون يحبرون ويسعدون، والكفار يَشْقَون وييأسون.
فقوله: {اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ} . قال ابن كثير: (أي: كما هو قادر على بَدْأَته فهو قادر على إعادته).
وقوله: {ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} . أي يبعثكم من قبوركم ويحييكم للحساب والجزاء والخلود.
وقوله تعالى: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ} . قال ابن عباس: (يَيْأس المجرمون). وقال مجاهد: (يفتضح المجرمون). أو قال: (يكتئِبُ المجرمون).
وقوله: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكَائِهِمْ شُفَعَاءُ} . يعني: لا تشفع لهم آلهتهم التي كانوا يعبدون، بل تتبرأ منهم أحوج ما يحتاجون إلى شفيع، وكذلك الطغاة يتبرؤون يوم القيامة من أتباعهم ويخونونهم بعدما صرفوا لهم في الدنيا من الخضوع والتعظيم وألوان العبادة.
وقوله تعالى: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ} . قال قتادة: (فرقة والله لا اجتماع بعدها). فيؤخذ بأهل الإيمان ذات اليمين، ويؤخذ بأهل الكفر ذات الشمال، فذاك آخر العهد بينهما، لا لقاء بعد ذلك.
وقوله تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ} .
قال ابن عباس: (يكرمون). وقال مجاهد: (ينعمون). وقال يحيى بن أبي كثير: (الحبرة: اللذة والسماع). وقال قتادة: (فهم في الرياحين والنباتات الملتفة، وبين أنواع الزهر في الجنان يسرون، ويلذّذون بالسماع وطيب العيش الهنيّ).
ولا شك أن الحبرة تشمل عند العرب جميع أنواع السرور والنعيم والغبطة. وخصّ الروضة بالذكر إذ هي أحسن ما رأى الطرفان من النعيم والبساتين.
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[ينادي مناد: إن لكم أن تصحوا فلا تسقموا أبدًا، وإن لكم أن تحيوا فلا تموتوا أبدًا، وإن لكم أن تَشِبُّوا فلا تهرموا أبدًا، وإن لكم أن تنعموا فلا تَبْأَسوا أبدًا](1).
وقوله تعالى: {وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ فَأُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ} .
إن جحود ألوهية الله وضياع الحياة دون تعظيم وخضوع له سبحانه وسجود، ودون شكر وعمل بما يحب، وترك لما يكره ويبغض، ثم تكذيب الرسل وإنكار البعث بعد الموت للحساب، كل هذا جزاؤه الإحضار في العذاب والجمع في جهنم.
17 -
19. قوله تعالى: {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (17) وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ (18) يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ (19)}.
في هذه الآيات: تنزيهٌ من الله تعالى لنفسه وتسبيح وتعظيم، وتوجيه للعباد إلى ذلك المقام الكريم، مقام التقديس والتحميد والتهليل والإجلال لله العظيم، في الصباح والمساء وفي الظهيرة وفي كل حين، فهو الحى الذي يخرج الحي من الميت وينبت الأرض القفر التي أجدبت وبنحوه يكون خروج الخلق يوم الدين.
يروي ابن جرير بسنده عن أبي رزين قال: سأل نافع بن الأزرق ابن عباس: هل نجد ميقات الصلوات الخمس في كتاب الله؟ قال: (نعم. {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ} المغرب {وَحِينَ تُصْبِحُونَ} الفجر {وَعَشِيًّا} العصر {وَحِينَ تُظْهِرُونَ} الظهر، قال:{وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ} .
قال ابن جرير: (يقول تعالى ذكره: فسبحوا الله أيها الناس: أي صلوا له حين تمسون، وذلك صلاة المغرب، وحين تصبحون، وذلك صلاة الصبح. {وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} يقول: وله الحمد من جميع خلقه دون غيره في السماوات من سكانها من الملائكة، والأرض من أهلها، من جميع أصناف خلقه فيها، {وَعَشِيًّا}
(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم (8/ 148). وانظر مختصر صحيح مسلم -حديث رقم- (2140).
يقول: وسبحوه أيضًا عشيًا، وذلك صلاة العصر، {وَحِينَ تُظْهِرُونَ} يقول: وحين تدخلون في وقت الظهر).
وقوله: {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ} . قال ابن عباس: (يخرج من الإنسان ماءً ميتًا فيخلق منه بشرًا فذلك الميت من الحي، ويخرج الحي من الميت، فيعني بذلك أنه يخلق من الماء بشرًا، فذلك الحي من الميت).
وقال الحسن: (المؤمن من الكافر، والكافر من المؤمن).
وقوله: {وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} . أي: فينبتها ويخرج زرعها بعد خرابها وجدوبها. وقوله: {وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ} . أي: فكذلك يبعثكم من قبوركم فيحييكم بعد موتكم إلى موقف الحساب يوم القيامة.
20 -
21. قوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ (20) وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (21)}.
في هذه الآيات: إن من حججه سبحانه تفرده بالخلق والإنشاء، والإيجاد والإعدام، وقد خلق أباكم آدم من قبل من تراب، ثم كل موجود من ذريته له خلق أبيه الأول، هكذا كان انتشار ذريته من بعده. ثم إن من حججه وأدلته على ذلك أيضًا خلقه سبحانه حواء زوجة لأبيكم من ضلع من أضلاعه ليسكن إليها، ثم جعل سبحانه المصاهرة والختونة بعد ذلك مودة بينكم ورحمة تتراحمون بها، إن في ذلك لعظات وعبرًا لقوم يتفكرون ويتذكرون ويعتبرون.
قال قتادة: ({وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ} خلق آدم عليه السلام من تراب. {ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ} يعني ذريته).
أخرج الإمام أحمد بسند صحيح عن أبي موسى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [إن الله خلق آدم من قَبْضَةٍ قبضها من جميع الأرض، فجاء بنو آدم على قَدْر الأرض، جاء
منهم الأبيضُ والأحمرُ والأسودُ وبين ذلك، والخبيثُ والطيبُ، والسَّهلُ والحَزْنُ، وبين ذلك] (1).
وقوله: {ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ} .
أي بدأ الخلق من التراب ثم من الماء المهين، ثم تصور فكان علقة فمضغة فعظامًا مشكّلة على شكل الإنسان، ثم كسا الله العظام لحمًا، ثم أرسل الملك فنفخ فيه الروح، فإذا هو سميع بصير. قال ابن كثير:(ثم خرج من بطن أمه صغيرًا ضعيفَ القُوى والحركة، ثم كُلَّما طال عُمرُه تكاملت قُوَاه وحركاته، حتى آل به الحال إلى أن صار يبني المدائن والحُصون، ويسافر في أقطار الأقاليم، ويركَبُ متنَ البُحُور، ويدور أقطارَ الأرض ويتكَسَّبُ ويجمع الأموال، وله فكْرٌ وغورٌ، ودهاء ومكر، ورأي وعِلم، واتساع في أمور الدنيا والآخرة كلٌّ بِحَسَبِه).
وقوله: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا} . قال قتادة: (خلقها لكم من ضلع من أضلاعه).
وفي التنزيل: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا} [الأعراف: 189].
والمقصود بذلك حواء زوجة أبينا آدم، خلقها الله من آدم من ضِلَعِه الأقصر الأيسر، وألقى المودة سبحانه بين الرجل وزوجته، وهي المحبة والرأفة والألفة.
أخرج ابن ماجة والحاكم بسند صحيح عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [لم يُرَ للمتحابَّيْنِ مثل النكاح](2).
وقوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} .
أي: إن في جعل الزوجة من جنس الأزواج، وبث المحبة والألفة والرحمة، فهو يمسكها لمحبته لها، أو لرحمته بها لحاجتها إليه، أو لوجود الولد، كل ذلك آيات كبيرة تدعو المرء إلى التفكر بنعم الله وآياته.
(1) حديث صحيح. أخرجه أحمد (4/ 400) و (4/ 406)، وأبو داود (4693)، والترمذي (2955).
(2)
حديث صحيح. أخرجه ابن ماجة (1847)، والحاكم (2/ 160)، والبيهقي (7/ 78). وانظر سلسلة الأحاديث الصحيحة (624).
22 -
23. قوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ (22) وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (23)}.
في هذه الآيات: يقول جَلّ ذكره: وإن من حججه أيضًا على كمال قدرته خلق السماوات في ارتفاعها واتساعها، وانتثار كواكبها وأجرامها، والأرض في جبالها ووديانها، وسهولها وهضابها، وبحارها وأنهارها، وقفارها وأشجارها، ونبتها وحيوانها، واختلاف لغات أهلها، وكذلك تباين ألوانهم، ثم نومهم في ليلهم، وعملهم وانتشارهم في نهارهم، كل ذلك آيات بديعة لقوم يسمعون هذه الذكرى ويتفكرون بها.
24 -
25. قوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (24) وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ (25)}.
في هذه الآيات: تخويفُ الله تعالى عباده بالبرق وترغيب لهم بالمطر الذي ينزل عقب البرق فيحيي به الأرض الميتة، وفي ذلك آيات لقوم يعقلون. ومن آياته كذلك السماء رفعها بلا عمد، والأرض مدّها وَمَهَّدَها لخلقه، ويوم البعث يخرجكم من قبوركم بأمره، فإذا أنتم قيام تنظرون.
فقوله: {وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا} . قال قتادة: (خوفًا للمسافر، وطمعًا للمقيم). قال ابن كثير: (يقول تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ} الدالة على عظمته أنه {وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا} تارة تخافون مما يحدث بعده من أمطار مزعجة، أو صواعق متلفة، وتارة ترجونَ وميضَهُ وما يأتي بعدهُ من المطر المحتاج إليه، ولهذا قال تعالى:{وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} ، أى: بعدما كانت هامدة لا نبات فيها ولا شيء، فلما جاءها الماء {اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ}
[الحج: 5]. وفي ذلك عبرةٌ ودلالةٌ واضحة على المعاد وقيام الساعة، ولهذا قال:{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} ).
وقوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ} . قال قتادة: (قامتا بأمره بغير عمد). وذلك كقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا} [فاطر: 41]. وكقوله تعالى: {وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [الحج: 65].
قال النسفي: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ} تثبت بلا عمد {السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ} أي بإقامته وتدبيره وحكمته).
وقوله: {ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ} . أي: من قبوركم ليوم الفصل.
قال قتادة: (دعاهم فخرجوا من الأرض).
وفي التنزيل نحو ذلك:
1 -
قال تعالى: {يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء: 52].
2 -
وقال تعالى: {إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ} [يس: 53].
3 -
وقال تعالى: {فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ (13) فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ} [النازعات: 13 - 14].
وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [يقبض الله الأرض يوم القيامة ويطوي السماء بيمينه ثم يقول: أنا الملك، أين ملوك الأرض](1).
26 -
27. قوله تعالى: {وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ (26) هُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27)}.
في هذه الآيات: إثباتُ الملك كله لله، وإثبات بدئه -تعالى- الخلق ثم إعادته، ولله المثل الأعلى وهو العزيز الحكيم.
فقوله تعالى: {وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ} . قال ابن عباس:
(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (4812)، وأخرجه مسلم (2787)، وغيرهما.
(يقول: مطيعون، يعني الحياة والنشور والموت، وهم عاصون له فيما سوى ذلك من العبادة).
وعن قتادة: ({كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ}: أي مطيع مقرّ بأن الله ربه وخالقه).
والخلاصة: كل من في السماوات والأرض خاضعون لعظمته تعالى، منقادون لأمره فيهم، وإنما استكبر من استكبر من بني آدم عن عبادته سبحانه بإغواء الشياطين لهم. كما قال تعالى:{يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا} [النساء: 120].
وفي صحيح مسلم من حديث عياض بن حمار المُجَاشِعيِّ مرفوعًا: [-يقول الله تعالى-: وإني خلقت عبادي حُنفاءَ كُلَّهُم، وإنهم أتتهم الشياطينُ فاجْتالتهم عن دينهم، وحرَّمت عليهم ما أحْلَلْتُ لهم، وأمرتْهم أن يشركوا بني ما لم أُنْزِلْ به سلطانًا](1).
وفي مسند البزار بسند حسن عن بريدة مرفوعًا: [ليس شيءٌ إلا وهو أطوعُ لله تعالى من ابن آدم](2).
وقوله: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} .
قال ابن عباس: (يقول: كل شيء عليه هين). وقال: ({وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ}: يقول: أيسر عليه). قال مجاهد: (الإعادة أهون عليه من البداءة، والبداءة عليه هين). وقال الربيع بن خَيثم: ({وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ}: ما شيء عليه بعزيز).
وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: [قال الله تعالى: كَذَّبني ابن آدم ولم يَكُنْ له ذلك، وشَتَمني ولم يَكُنْ له ذلك، فأما تكذيبُه إيّايَ فقَوْلُه: لَنْ يعيدني كما بدأني، وليس أوَّلُ الخَلْقِ بأَهْوَنَ عليَّ مِنْ إعادتِه، وأما شَتْمُهُ إيّاي فقوله: اتخذ الله ولدًا، وأنا الأحد الصَّمَدُ، لمْ ألِدْ ولمْ أُولَدْ، ولمْ يَكُنْ لي كُفُوًا أحَدٌ](3).
(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم (2865) - كتاب الجنة ونَعيمها، باب الصفات التي يعرف بها في الدنيا أهل الجنة وأهل النار، في أثناء حديث طويل.
(2)
حديث حسن. أخرجه البزار من حديث بريدة. انظر صحيح الجامع (5269).
(3)
حديث صحيح. أخرجه البخاري (4974) - كتاب التفسير، وانظر كذلك (4482).
وقوله: {وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} .
قال ابن عباس: (يقول: ليس كمثله شيء). وقال قتادة: (مثله أنه لا إله إلا هو، ولا ربّ غيره).
قال ابن جرير: (يقول: ولله المثل الأعلى في السماوات والأرض، وهو أنه لا إله إلا هو وحده لا شريك له، ليس كمثله شيء، فذلك المثل الأعلى، تعالى ربنا وتقدس).
وقوله: {وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} . أي: العزيز في انتقامه من أعدائه، الحكيم في تدبيره شؤون خلقه وفي قدره وشرعه وجميع أفعاله.
28 -
29. قوله تعالى: {ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (28) بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (29)}.
في هذه الآيات: ضربُ الله المثل لمن عدل به شيئًا من خلقه، وإنما المشركون متبعون لأهوائهم، ومن لم يجعل الله له نورًا فما له من نور.
فعن قتادة: (قوله: ({ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ}. قال: مثل ضربه الله لمن عدل به شيئًا من خلقه، يقول: أكان أحدكم مشاركًا مملوكه في فراشه وزوجته، فكذلكم الله لا يرضى أن يعدل به أحد من خلقه).
وقال ابن زيد: (هل تجد أحدًا يجعل عبده هكذا في ماله، فكيف تعمد أنت وأنت تشهد أنهم عبيدي وخلقي، وتجعل لهم نصيبًا في عبادتي، كيف يكون هذا؟ قال: وهذا مثل ضربه الله لهم).
وقوله: {تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ} .
قال ابن عباس: (يقول: تخافونهم أن يرثوكم كما يرث بعضكم بعضًا).
وقال أبو مجلز: (إن مملوكك لا تخاف أن يقاسمك مالك، وليس له ذلك، كذلك الله لا شريك له).
والخلاصة: هو مثل ضربه الله تعالى للعابدين معه غيره -وهم يقرون أن شركاءه من الأوثان والأنداد عبيد له، كما جاء في تلبيتهم "لبيك لا شريك لك، إلا شريكًا هو لك، تملكه وما ملك"- فأتاهم الله بمثل يفهمونه ويعايشونه: أيرتضي أحدكم أن يشاركه عبده وخادمه ماله فهو وإياه يقتسمانه على السواء؟ ! إنكم تخافونهم كما يخاف الأحرار بعضهم بعضًا فيما هو مشترك بينهم. كذلك لا يرضى الله تعالى أن يشاركه أحد في العبادة، فلا تجوز العبادة إلا له سبحانه.
وقوله: {كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} .
أي: كذلك يبين الله الآيات والحجج لقوم يتدبرون ضرب الأمثال ويحسنون المحاكمة.
وقوله: {بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ} .
أي: وإنما اتبع المشركون في عبادتهم أهواءهم ومضوا خلف ميراث الآباء في جاهليتهم، دون نور من علم صحيح من الوحي أو مشكاة الرسل.
وقوله: {فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} .
قال ابن جرير: (يقول: فمن يسدد للصواب من الطرق، يعني بذلك من يوفق للإسلام من أضل الله عن الاستقامة والرشاد؟ {وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} يقول: وما لمن أضل الله من ناصرين ينصرونه، فينقذونه من الضلال الذي يبتليه به تعالى ذكره).
30 -
32. قوله تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (30) مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (31) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (32)}.
في هذه الآيات: أَمْرُ الله تعالى نبيّه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين باتباع الدين الحنيف دين الفطرة، فهو الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون. وأَمْرُهُ تعالى عباده أن يصدقوه التقوى
ويقيموا الصلاة ويحذروا سبيل المشركين، الذين افترقوا في دينهم نتيجة التبديل والتحريف والإيمان ببعضه والكفر ببعض، فكل حزب بما لديهم فرحون.
فقوله: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا} . قال القاسمي: (أي: فقوّمه له، واجعله مستقيمًا متوجهًا له). والحنيف: المائل عن الباطل إلى الدين الحق.
وقوله: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} . قال ابن زيد: (الإسلام، مذ خلقهم الله من آدم جميعًا، يقرون بذلك). قال الزجاج: ({فِطْرَتَ} منصوب، بمعنى اتبع فطرة الله. قال: لأن معنى {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ} اتبع الدين الحنيف واتبع فطرة الله). وقال ابن جرير: {فِطْرَتَ اللَّهِ} مصدر، من معنى:{فَأَقِمْ وَجْهَكَ} لأن معنى ذلك: فطر الله الناس على ذلك فِطرة).
وقوله: {لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} - فيه أقوال متقاربة متكاملة:
1 -
قال عكرمة: (لدين الله). وقال البخاري: (قوله: {لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ}: لدين الله، {خُلُقُ الْأَوَّلِينَ} [الشعراء: 137]: دينُ الأولين، و"الفطرة": الإسلام).
2 -
وقيل: هو خبرٌ بمعنى المطلب، أي لا تبدّلوا خلق الله، فتغيّروا الناس عن فطرتهم التي فَطَرَهم الله عليها.
3 -
وقيل: هو خبَرٌ على بابه، ومعناه: أنه -تعالى- ساوى بين خلقه كلهم في الفطرة على الجِبِلَّةِ المستقيمة، لا يولَدُ أحدٌ إلا على ذلك، ولا تفاوت بين الناس في ذلك.
قلت: وربط الفطرة بالميثاق الذي أخذه الله تعالى على بني آدم ربط قوي، فإن الفطرة والميثاق بينهما صلة من النسب.
قال الإمام الطحاوي رحمه الله: (والميثاق الذي أخذه الله تعالى على آدم عليه السلام وذريته حق)(1).
(1) انظر متن "العقيدة الطحاوية"- (42) - وكتابي: أصل الدين والإيمان (1/ 66 - 70).
ومن صحيح السنة في ذلك أحاديث:
الحديث الأول: أخرج الإمام أحمد بسند حسن عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [أخذ الله تبارك وتعالى الميثاق من ظهر آدم بنعمان -يعني عرفة- فأخرج من صُلْبه كل ذرية ذرأها فنثرهم بين يديه كالذر، ثم كلمهم قبلًا، قال: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ (172) أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ}](1).
الحديث الثاني: أخرج الإمام النسائي في "الكبرى"، وأحمد في المسند، وأبو يعلى بسند صحيح عن الأسود بن سريع قال:[أتيتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وغَزوت معه، فأصبْتُ ظَفَرًا، فقَتَلَ الناس يومئذ، حتى قتلوا الولدان. فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما بالُ أقوام جاوزهم القتل اليوم حتى قتلوا الذرية؟ ! فقال رجل: يا رسول الله، أما هم أبناءُ المشركين؟ فقال: ألا إنما خياركم أبناء المشركين. ثم قال: لا تقتلوا ذُرِّيةً، لا تقتُلوا ذُرِّيَةً. وقال: كُلُّ نَسْمَةٍ تُولَد على الفِطْرة، حتى يُعْرِبَ عنها لسانُها، فأبواها يُهَوِّدَانِها أو يمصِّرانها](2).
الحديث الثالث: أخرج الإمام مسلم في صحيحه عن سعيد بن المُسَيِّبِ، عن أبي هريرة، أنه كان يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ما مِنْ مَوْلودٍ إلا يولَدُ على الفِطرة، فأبواهُ يُهَوِّدَانِه ويُنَصِّرانِه ويُمَجِّسَانِه، كما تُنْتَجُ البهيمةُ بَهيمةً جمعاء (3)، هل تُحِسُّوِنَ فيها من جَدْعاء (4)؟ ثم يقولُ أبو هريرة: اقرؤوا إن شئتم: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} الآية [الروم: 30](5).
وقوله: {ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} . أي التمسك بالدين الحق دين الفطرة هو الدين
(1) حديث صحيح. أخرجه أحمد (1/ 272)، والنسائي في "الكبرى"(11191)، والحاكم عن ابن عباس مرفوعًا، وصححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة (1623).
(2)
أخرجه النسائي في "الكبرى"(8616)، وأحمد في المسند (3/ 435)، (4/ 24)، وأبو يعلى (942)، والطبراني (829)، وقال الهيثمي في "المجمع" (3/ 316):(وبعض أسانيد أحمد رجاله رجال الصحيح). وانظر سلسلة الأحاديث الصحيحة (4/ 1623) ص (163).
(3)
تنتج البهيمةُ بهيمةً جمعاء: أي تولد كاملة سليمة الأعضاء.
(4)
جدعاء: مقطوعة الأنف أو الأذن أو الذنب أو غير ذلك من الأعضاء.
(5)
حديث صحيح. رواه مسلم (2658) - كتاب القدر، باب معنى كل مولود يولد على الفطرة، وحكم موتى أطفال الكفار وأطفال المسلمين.
القويم. قال ابن جرير: (يقول تعالى ذكره: إن إقامتك وجهك للدين حنيفًا غير مغير ولا مبدّل هو الدين القيم، يعني المستقيم الذي لا عوج فيه عن الاستقامة من الحنيفية إلى اليهودية والنصرانية، وغير ذلك من الضلالات والبدع المحدثة).
وقوله: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} .
أي ولكن أكثر الناس ناكبون عن الصراط القويم، دين الله القيم، لجهلهم به أو معاداته.
وقوله: {مُنِيبِينَ إِلَيْهِ} . أي: راجعين إليه. قال ابن زيد: (المنيب إلى الله: المطيع لله، الذي أنابَ إلى طاعة الله وأمره، ورجع عن الأمور التي كان عليها قبل ذلك، كان القوم كفارًا، فنزعوا ورجعوا إلى الإسلام).
وقوله: {وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} .
أي: وخافوه -تعالى- وراقبوه، وأقيموا الصلاة بأركانها وواجباتها في أوقاتها، واحذروا أن تخلطوا أعمالكم بالشرك بالله، بل أفردوه تعالى بالعبادة والتعظيم.
وقوله: {مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا} . قال قتادة: (وهم اليهود والنصارى). أي: واحذروا أن تكونوا مثل الذين فرقوا دينهم فبدلوه وحرّفوه وآمنوا ببعض وكفروا ببعض، وكانوا على ذلك أحزابًا.
وقوله: {كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} . أي كل فرقة من هؤلاء الذين فارقوا الدين الحق وأحدثوا في دينهم البدع والغلو، فرحون مسرورون يحسبون أنهم أتباع الدين الحق أهل النجاة والسعادة، وإنما استزلهم الشيطان وزين لهم أعمالهم.
وفي التنزيل نحو ذلك:
1 -
قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [الأنعام: 159].
2 -
وقال تعالى: {تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ} [الحشر: 14].
أخرج الترمذي والحاكم بسند حسن في الشواهد عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ليأتين على أمتي ما أتى على بني إسرائيل مثلًا بمثل، حذو النعل بالنعل، حتى لو أن فيهم من نكح أمه علانية كان في أمتي من يفعل مثله، إن بني
إسرائيل افترقوا على إحدى وسبعين ملة، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين ملة، كلها في النار إلا واحدة. فقيل يا رسول الله: ما الواحدة؟ قال: ما أنا عليه اليوم وأصحابي] (1).
وأخرج أبو داود بسند حسن عن معاوية بن أبي سفيان أنه قام فقال: ألا إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام فينا فقال: [ألا إنّ مَنْ قبْلَكُم مِنْ أَهل الكتاب افترقوا على ثنتين وسبعين مِلّة، وإنَّ هذه الملة ستفترق على ثلاث وسبعين: ثنتان وسبعون في النار، وواحدة في الجنة، وهي الجماعة. وإنه سيخرج من أمتي أقوام تَجارى بهم تلك الأهواء كما يَتَجَارى الكَلَبُ لصاحبه، لا يبقى منه عرق ولا مفصل إلا دخله](2).
33 -
37. قوله تعالى: {وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (33) لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (34) أَمْ أَنْزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ (35) وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ (36) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (37)}.
في هذه الآيات: تأكيدُ العجب من المشركين في ترك إقبالهم على الله تعالى مع تتابع الحجج عليهم، فإنه إذا نزل بهم كرب أو هول أو شدة أخلصوا التوحيد والدعاء لله، ثم إذا كشف الله الضر عنهم رجع فريق منهم بربهم يشركون. متاع قليل ثم إلى ربهم مرجعهم وسوف يعلمون. فهل عندهم حجة من كتاب أو علم بشركهم فهم إليه يرجعون. إن أكثر الناس يفرحون بالنعم ويقنطون عند الشدائد، والله هو الذي يبسط الرزق لهم ويقدر، وفي ذلك آيات لقوم يؤمنون.
(1) حسن لشواهده. أخرجه الترمذي في "سننه"(5/ 26 - طبعة أحمد شاكر)، والحاكم في "المستدرك"(1/ 128 - 129)، والآجري في "الشريعة"(ص 15 - 16)، وابن الجوزي في "تلبيس إبليس" ص (7)، واللالكائي في "شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة"(147).
(2)
حديث حسن. أخرجه أبو داود في السنن (4597) - كتاب السنة- باب شرح السنة، وانظر صحيح سنن أبي داود -حديث رقم- (3843).
فقوله: {وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ} .
قال القرطبي: ({وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ} أي قَحْط وشِدّة {دَعَوْا رَبَّهُمْ} أن يرفع ذلك عنهم {مُنِيبِينَ إِلَيْهِ} قال ابن عباس: مقبلين عليه بكل قلوبهم لا يشركون. ومعنى هذا الكلام التعجب، عجب نبيّه من المشركين في ترك الإنابة إلى الله تعالى مع تتابع الحجج عليهم، أي إذا مسن هؤلاء الكفار ضرٌّ من مرض وشدّة دعوا ربهم، أي استغاثوا به في كشف ما نزل بهم، مقبلين عليه وحده دون الأصنام، لعلمهم بأنه لا فرج عندها).
وقوله: {ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ} .
أي: ثم إذا كشف الله الضر والشدة عنهم وأنزل بهم العافية والنعمة إذا جماعة منهم يشركون بالله في العبادة والتعظيم.
وقوله: {لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ} . قال ابن كثير: (هي لام العاقبة عند بعضهم، ولامُ التعليل عند آخرين، ولكنها تعليلٌ لِتَقييضِ الله لهم ذلك. ثم توعّدَهم بقوله: {فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ}، قال بعضهم: والله لو توعَّدني حارس دَرْبٍ لَخِفْتُ منه، فكيفَ والمتوعِّدُ هاهنا هو الذي يقول للشيء: كنْ، فيكون).
وقوله تعالى: {أَمْ أَنْزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ} .
قال الضحاك: ({أَمْ أَنْزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا} أي كتابًا). وبه قال قتادة والربيع بن أنس.
وهو استفهام فيه معنى التوقيف. قال النسفي: ({سُلْطَانًا} حجة {فَهُوَ يَتَكَلَّمُ} وتكلمه مجاز، كما تقول كتابه ناطق بكذا، وهذا مما نطق به القرآن، ومعناه الشهادة. كأنه قال: فهو يشهد بشركهم وبصحته {بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ} ما مصدرية، أي بكونهم بالله يشركون، أو موصولة ويرجع الضمير إليها. أي: فهو يتكلم بالأمر الذي بسببه يشركون. أو معنى الآية: أم أنزلنا عليهم ذا سلطان، أي ملكًا معه برهان، فذلك الملك يتكلم بالبرهان الذي بسببه يشركون).
وقوله تعالى: {وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ} .
قال ابن جرير: (يقول تعالى ذكره: وإذا أصاب الناس منا خصب ورخاء، وعافية في الأبدان والأموال، فرحوا بذلك، وإن تصبهم منا شدة من جدب وقحط وبلاء في
الأموال والأبدان {بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} يقول: بما أسلفوا من سَيِّئ الأعمال بينهم وبين الله، وركبوا من المعاصي {إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ} يقول: إذا هم ييأسون من الفرج. والقنوط: هو الإياس).
ويُسْتثنى من ذلك أهل الإيمان، فإنهم يتقلبون بين الصبر والشكر.
وفي التنزيل نحو ذلك:
1 -
قال تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 155].
2 -
ومن صحيح السنة المطهرة في آفاق ذلك أحاديث:
الحديث الأول: روى مسلم في صحيحه عن صهيب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [عجبًا لأمر المؤمن، إن أمْرَهُ كُلَّهُ لهُ خَيْرٌ، وليسَ ذلك لأَحَدٍ إلا للمؤمن: إنْ أصابَتْه سَرَّاءُ شكَرَ فكان خَيْرًا لهُ، وإنْ أصابَتْهُ ضرّاءُ صبَرَ فكان خيرًا له](1).
الحديث الثاني: أخرج عبد الله بن أحمد في مسند أبيه عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [عجبًا للمؤمن لا يقضي الله له شيئًا إلا كان خيرًا له](2).
الحديث الثالث: أخرج البيهقي والطيالسي بسند صحيح عن سعد بن أبي وقاص مرفوعًا: [عجبت للمسلم، إذا أصابته مصيبة احتسب وصبر، وإذا أصابه خيرٌ حمد الله وشكر، إنَّ المسلم يؤجر في كل شيء حتى في اللقمة يرفعها إلى فيه](3).
وقوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} .
(1) حديث صحيح. رواه مسلم (2999) -كتاب الزهد- باب: المؤمن أمره كله خير، ورواه أحمد.
(2)
إسناده صحيح. رواه عبد الله بن أحمد في مسند أبيه (5/ 24)، وأبو يعلى (2/ 200)، وكذلك (2/ 205) من طريق آخر. وانظر سلسلة الأحاديث الصحيحة (148).
(3)
حديث صحيح. أخرجه الطيالسي (211)، والبيهقي. وانظر سلسلة الأحاديث الصحيحة (147).
أي: أولم ير الذين يفرحون عند رخائهم ويقنطون عند شدتهم أنَّ الشدة والرخاء بيد الله، يقلب فيهما عباده كيف شاء، إن في هذا التوسيع والتضييق، والفرج والشدة، ، والغنى والفقر، لآيات لقوم يؤمنون بربهم أنه هو الفاعل المتصرف، يقضي بحكمته وعدله بين خلقه.
38 -
40. قوله تعالى: {فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (38) وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ (39) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (40)}.
في هذه الآيات: الأمْرُ بإعانة القرابة المحتاجين، والفقراء المساكين، والمسافرين المنقطعين ببلد الغربة، فإنَّ كل ما بُذل لوجه الله لقي أهله الفلاح والنجاح. والتحذير من الربا والترغيب في الزكاة والصدقات. والتنفير من الشرك، فإن الله تعالى هو الخالق الرازق المحيي المميت، والأوثان والأصنام والطواغيت عاجزة عن بعض ذلك، فتعالى الله عما يشركون.
فعن الحسن: ({فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ}. قال: هو أن توفيهم حقهم إن كان عندك يسر، وإن لم يكن عندك فقل لهم قولًا ميسورًا، قل لهم الخير). والمسكين: هو الذي لا شيء له يُنْفِقُ عليه، أو له شيء لكن لا يقوم بكفايته، وابن السبيل: هو المسافر انقطع ببلد الغربة واحتاج إلى المال وإن كان في بلده غنيًا. والآية: أمر من الله تعالى باعطاء ذي القربى حقه من البر والصلة والمعونة وكذلك المسكين وابن السبيل.
أخرج الترمذي وابن ماجة بسند صحيح عن سلمان بن عامر يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم قال: [الصدقة على المسكين صدقة، وهي على ذي الرَّحم ثِنْتَان، صَدَقَةٌ وصِلَة](1).
(1) حديث صحيح. أخرجه ابن ماجة (1844) - كتاب الزكاة. والترمذي (661) كذلك. انظر صحيح سنن ابن ماجة (1494) - باب فضل الصدقة، وصحيح سنن الترمذي (531).
وقوله: {ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ} .
قال ابن جرير: (إيتاء هؤلاء حقوقهم التي ألزمها الله عباده، خير للذين يريدون الله بإتيانهم ذلك). وقال ابن كثير: {ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ} ، أي: النظرَ إليه يومَ القيامة، وهو الغايةُ القصوى).
وقوله: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} . أي الفائزون في الدنيا والآخرة.
وقوله: {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ} فيه تأويلان:
1 -
قال مجاهد: (يعطي ماله يبتغي أفضل منه). وقال إبراهيم: (هو الرجل يهدي إلى الرجل الهدية، ليثيبه أفضل منها). وقال طاووس: (هو الرجل يعطي العطية ويهدي الهدية، ليثاب أفضل من ذلك، ليس فيه أجر ولا وزر).
2 -
قال ابن عباس: (الرِّبا رباءانِ، فَرِبًا لا يصحُّ، يعني ربا البيع، وربًا لا بأس به، وهو هَدِيَّةُ الرجل يريد فضلها وإضْعَافَها. ثم تلا هذه الآية {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ}). قال النسفي: (يريد وما أعطيتم أكلة الربا من ربا ليربو في أموالهم {فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ} فلا يزكو عند الله ولا يبارك فيه. وقيل: هو من الربا الحلال، أي وما تعطونه من الهدية لتأخذوا أكثر منها فلا يربو عند الله لأنكم لم تريدوا بذلك وجه الله).
قلت: وقد تحكم الأعراف المتكلفة أحيانًا حياة الناس في مثل هذا النوع من التواصل، فيهدي الرجل صاحبه أو المرأة صديقتها الهدية طمعًا في استقبال أفضل منها والتباري في ذلك، ليس المقصود من الهدية وجه الله تعالى في تأكيد المحبة في سبيله، فالآية تشمله كما تشمل الربا الذي كان في الجاهلية والذي فيه استغلال المحتاجين.
وقوله: {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ} . قال ابن عباس: (هي الصدقة تريدون وجه الله).
وقال قتادة: (هذا الذي يقبله الله ويضعفه لهم عشر أمثالها، وأكثر من ذلك).
والمقصود: أن الثواب المضاعف إنما هو في الزكاة وما كان من الصدقة يبتغى به وجه الله تعالى.
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ما تَصَدّقَ أحدٌ بِصَدَقَةٍ
مِنْ طَيِّبٍ، ولا تقْبَلُ الله إلا الطَّيِّبَ، إلا أَخَذها الرحمن بيمينه -وإن كانت تمرة- فتربو في كفِّ الرحمن حتى تكونَ أعظمَ من الجبل، كما يُرَبِّي أحدُكم فُلُوَّهُ أو فصيلَه] (1).
قال ابن كثير: (أي: هو الخالق الرازق، يُخرج الإنسان من بطن أُمّه عريانًا لا عِلْمَ له ولا سمعَ ولا بَصَرَ ولا قُوى، ثم يرزقه جميع ذلك بعد ذلك، والرِّياشَ واللِّباس والمالَ والأملاك والمكاسب، {ثُمَّ يُمِيتُكُمْ} أي: بعد هذه الحياة، {ثُمَّ يُحْيِيكُمْ}، أي: يوم القيامة. وقوله تعالى: {هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ}، أي: الذين تعبدونهم من دون الله، {مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ}، أى: لا يقدر أحدٌ منهم على فِعْل شيء من ذلك، بل الله سبحانه وتعالى هو المستقل بالخَلْقِ والرّزقِ، والإحياء والإماتة، ثم يبعث الخلائق يوم القيامة).
وقوله: {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} . قال قتادة: (يسبح نفسه إذ قيل عليه البهتان). أي: تقدس وتنزه عن أن يكون له نظير أو مثيل أو شريك أو ولد أو صاحبة، فهو وحده الخالق الرازق الإله الأحد الصمد فلا تجوز العبادة إلا له.
41 -
45. قوله تعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (41) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ (42) فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ (43) مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ (44) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ (45)}.
في هذه الآيات: ظهورُ الفساد المؤذي في البر والبحر عقوبةُ الله للناس بما استهتروا في أمْرِ دينهم وَوُجُوب الأمرِ بالمعروف والنهي عن المنكر. قل -يا محمد- لمشركي قومك: سيروا في البلَاد فانظروا إلى مساكن الذين كفروا من قبلكم وما أنزل الله بهم.
(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم (1014) - كتاب الزكاة. باب قبول الصدقة من الكسب الطيب وتربيتها. والفلوّ: المهر، والفصيل: ولد الناقة.
وأقم وجهك لطاعة ربك والتزم منهاج هذا الدين القويم، قبل مجيء يوم من أيام الله يتفرق الناس فيه فريقين: فريق في الجنة وفريق في السعير، إنَّه من كفر فإن مردّ الكفر على نفسه، ومن عمل صالحًا فقد مهّد لنفسه سبيل النجاة، فالله وعد المؤمنين إسعادهم، والكافرين إنزال الشقاء والتعاسة بهم، فإنه -تعالى- لا يحبهم.
فعن مجاهد: (قوله: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ} قال: قتل ابن آدم أخاه. {وَالْبَحْرِ} قال: أخذ الملك السفن غصْبًا).
وقال زيد بن رُفيع: ({ظَهَرَ الْفَسَادُ} يعني: انقطاع المطر عن البَرِّ يعقبه القحطُ، وعن البحر يعني دوابُّه).
وقال أبو العالية: (مَنْ عصى الله في الأرض فقد أفسدَ في الأرض، لأنَّ صلاحَ الأرض والسماء بالطاعة).
قال ابن جرير: (يقول تعالى ذكره: ظهرت المعاصي في برّ الأرض وبحرها بكسب أيدي الناس ما نهاهم الله عنه). وقال النسفي: ({ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} نحو القحط وقلة الأمطار والريع في الزراعات والربح في التجارات ووقوع الموتان في الناس والدواب وكثرة الحرق والغرق ومحق البركات من كل شيء).
وقوله: {بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ} .
قال ابن كثير: (أي: بأن النقص في الثمار والزروع بسبب المعاصي).
وقال القاسمي: ({بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ} أي من الآثام والموبقات، ففشا الفساد وانتشرت عدواه، وتوارثه جيل عن جيل أينما حلوا وحيثما ساروا).
وفي التنزيل نحو ذلك:
1 -
قال تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى: 30].
2 -
وقال تعالى: {وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُو} [الأنعام: 129].
ومن صحيح السنة المطهرة في آفاق هذه الآية أحاديث:
الحديث الأول: أخرج الحاكم والطبراني بسند صحيح عن ابن عباس، عن
النبي صلى الله عليه وسلم قال: [إذا ظهَرَ الزِّنا والرِّبا في قرية، فقد أحَلُّوا بأنفسهم عذابَ الله](1).
الحديث الثاني: أخرج ابن ماجة والبزار والبيهقي بسند حسن عن عبد الله بن عمر قال: أقبل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: [يا مَعْشَرَ المهاجرين! خَمْسٌ إذا ابتليتم بِهنَّ، وأعوذ بالله أن تدركوهُنَّ: لم تَظْهَر الفاحِشَةُ في قوم قَطُ، حتى يُعلِنوا بها، إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مَضَتْ في أسلافِهم الذين مَضَوا. ولم ينقصوا المِكْيال والميزان، إلا أُخِذوا بالسنينَ وشِدَّةِ المؤونَةِ وجَوْرِ السُّلْطان عليهم. ولم يَمْنَعوا زكاةَ أموالهم، إلا مُنِعوا القَطْرَ مِنَ السَّماء، ولولا البهائِمُ لم يُمطروا. ولم ينقضوا عهد الله وعهد رسوله، إلا سَلَّطَ الله عليهم عَدُوًا من غيرهم، فأخذوا بعض ما في أيديهم. وما لمْ تَحْكُم أئمتهم بكتاب الله، ويتخيّروا مما أنزل الله، إلا جعل الله بأسهم بينهم](2).
الحديث الثالث: أخرج ابن ماجة بسند صحيح عن أبي مالك الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [لَيَشْرَبَن ناسٌ من أمتي الخَمْرَ، يُسَمُّونَها بِغير اسْمِها، يُعْزَفُ على رؤوسهم بالمعازف والمُغَنِّيات، يَخْسفُ الله بهم الأرضَ، ويجعَلُ منهم القردة والخنازير](3).
والخلاصة: أن انتشار الفواحش والآثام في البلاد ينعكس على أهلها بفساد الأحوال، الأمر الذي يتطلب منهم القيام بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ليرفع الله عنهم بذلك ما أصابهم.
وفي صحيح البخاري من حديث أبي قتَادةَ بنِ رِبْعِيّ الأنصاري: [أنه كان يُحدّث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مُرَّ عليه بجنازة. قال: مُسْتَريحٌ ومُسْتَراحٌ مِنْه. قالوا: يا رسول الله، ما المستريحُ والمستراحُ مِنْه؟ قال: العَبْدُ المؤمن يستريحُ من نَصَبِ الدنيا وأذاها إلى رحمة الله عز وجل، والعبد الفاجِرُ يستريحُ منه العباد والبلاد والشجر والدواب](4).
وفي سنن النسائي وابن ماجة بسند حسن، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(1) حديث صحيح. أخرجه الطبراني والحاكم من حديث ابن عباس. انظر صحيح الجامع (692).
(2)
حديث حسن. أخرجه ابن ماجة (4019) - كتاب الفتن. باب العقوبات. ورواه البزار والبيهقي بألفاظ متقاربة. وانظر صحيح سنن ابن ماجة (3245).
(3)
حديث صحيح. أخرجه ابن ماجة في السنن (4020) - كتاب الفتن. باب العقوبات. انظر صحيح سنن ابن ماجة (3247)، ومشكاة المصابيح (4292).
(4)
حديث صحيح. أخرجه البخاري (6512) - كتاب الرقاق، باب سَكَرات الموت.
[حدٌّ يُعْمَلُ به في الأرض، خَيْرٌ لأهل الأرض من أن يُمْطروا أربعين صباحًا](1).
قال شيخ الإسلام رحمه الله معلقًا على هذا الحديث-: (وهذا لأن المعاصي سبب لنقص الرزق والخوف من العدو، كما يدل عليه الكتاب والسنة، فإذا أقيمت الحدود ظهرت طاعة الله ونقصت معصية الله تعالى، فحصلَ الرزق والنصر)(2).
وقوله: {لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} .
قال قتادة: (لعل راجعًا أن يرجع، لعل تائبًا أن يتوب، لعل مستعتِبًا أن يستعتب).
وعن الحسن: ({لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} قال: يتوبون). أو قال: (يرجعُ مَنْ بَعْدهم).
والمعنى: إنما يصيبهم الله بعقوبة بعض أعمالهم وما اجترحوه من الآثام كي ينيبوا إلى الحق ويرجعوا تائبين. كما قال تعالى: {وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الأعراف: 168].
وقوله تعالى: {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ} .
قال ابن جرير: (يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل يا محمد لهؤلاء المشركين بالله من قومك: سِيروا في البلاد، فانظروا إلى مساكن الذين كفروا بالله من قبلكم، وكذبوا رسله، كيف كان آخر أمرهم، وعاقبة تكذيبهم رسل الله وكفرهم، ألم نهلكهم بعذاب منا، ونجعلهم عبرة لمن بعدهم، {كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ}، يقول: فعلنا ذلك بهم، لأن أكثرهم كانوا مشركين بالله مثلهم).
وقوله تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ} .
أي: فوَجِّه وجهك يا محمد إلى طاعة ربك والتزم الملة المستقيمة: منهاج هذا الدين القيم، من قبل مجيء يوم من أيام الله لا راد لمجيئه، قضى الله تعالى فيه تفريق الناس إلى فريقين: فريق في الجنة وفريق في السعير.
وأصل الصدع في لغة العرب الشق، وتصدع القوم إذا تفرقوا. قال ابن عباس:
(1) حديث حسن. أخرجه ابن ماجة (2/ 111)، والنسائي (2/ 257)، وأحمد (2/ 402)، وأخرجه أبو يعلى في "مسنده"(287/ 1)، وانظر: السلسلة الصحيحة (231).
(2)
انظر كتاب "السياسة الشرعية"- ابن تيمية- ص (68).
(قوله: {يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ} يقول: يتفرقون) وقال ابن زيد: (يتفرقون إلى الجنة وإلى النار).
وقوله تعالى: {مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ} .
قال مجاهد: ({فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ}: في القبر). أو قال: (يسوّون المضاجع). قال النسفي: (أي يسوون لأنفسهم ما يسويه لنفسه الذي يمهد فراشه ويوطئه لئلا يصيبه في مضجعه ما ينغص عليه مرقده من نتوء وغيره. والمعنى أنه يمهد لهم الجنة بسبب أعمالهم فأضيف إليهم. وتقديم الظرف في الموضعين للدلالة على أن ضرر الكفر لا يعود إلا على الكافر، ومنفعة الإيمان والعمل الصالح ترجع إلى المؤمن لا تجاوزه).
وقوله تعالى: {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} .
قال القرطبي: (أي يمهدون لأنفسهم ليجزيهم الله من فضله. وقيل: يصدّعون ليجزيهم الله، أي ليميّز الكافر من المسلم {إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ}). وقال ابن كثير: (أي: يُجازيهم مجازاةَ الفضل، الحسنة بعشرِ أمثالها، إلى سبع مئة ضِعْف، إلى ما يشاء الله، {إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ}. ومع هذا هو العادل فيهم، الذي لا يَجُور).
46 -
47. قوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (46) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَانْتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (47)}.
في هذه الآيات: امتنانُ الله على عباده إرسال الرياح مبشرات بالغيث والمطر، ولجريان السفن، ولبلوغ الخيرات في المعايش والتجارات، والسير في البلدان، ولعلهم يشكرون. ولقد أرسل الله الرسل من قبل في الأمم بالبينات، والحجج والدلالات، ليفردوه تعالى بالشكر والتعظيم، فأطاعهم فريق وأبى آخرون، فأنعم تعالى بالنصر على المؤمنين، وانتقم من المجرمين.
فقوله: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ} . قال مجاهد: (بالمطر).
أي: ومن أعلام كمال قدرته إرسال الرياح مبشرات أي بالمطر لأنها تتقدمه.
وقوله: {وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ} . قال قتادة: (المطر). قال ابن جرير: (يقول: ولينزل
عليكم من رحمته، وهي الغيث الذي يحيي به البلاد). والمقصود: أن من رحمته يكون الغيث والخصب عند إرساله تعالى الرياح.
وقوله: {وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ} . أي في البحر عند هبوبها، فتجري السفن بتدبيره سبحانه أو بتكوينه. قال القرطبي:(وإنما زاد {بِأَمْرِهِ} لأن الرياح قد تَهُبُّ ولا تكون مواتية، فلابد: من إرساء السفن والاحتيال بحبسها، وربما عصفت فأغرقتها بأمره).
وقوله: {وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} . قال ابن كثير: ({وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ}، أي: في التجاراتِ والمعايشِ، والسَّيرِ من إقليم إلى إقليم، وقُطْرٍ إلى قُطْر، {وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}، أي: تشكرون الله على ما أنعم به عليكم من النعم الظاهرة والباطنة التي لا تعد ولا تحصى).
تسليةٌ من الله تعالى لعبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم عما يلقاه من أذى قومه وتكذيبهم، فإن الرسل قد تعاقبوا قبله وأيدهم الله تعالى بالأدلة البينات والمعجزات الواضحات، ومع ذلك كَذَّبهم أقوامهم فأنزل الله نقمته بأعدائهم، وما آمن معهم إلا قليل.
وقوله: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} .
هو حقٌّ أوجبه تعالى على نفسه الكريمة تفضلًا منه وتكرمًا ورفعًا لشأن أهل الإيمان.
قال الزمخشري: (قوله: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} تعظيم للمؤمنين، ورفع من شأنهم، وتأهيل لكرامة سنية، وإظهار لفضل سابقة ومزية. حيث جعلهم مستحقين على الله أن ينصرهم، مستوجبين عليه أن يظهرهم ويظفرهم).
48 -
51. قوله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (48) وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ (49) فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (50) وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ (51)}.
في هذه الآيات: إرسالُ الله الرياح وإنشاءُ السحاب وجمعه ونشره في السماء ونزول
المطر من خلاله، واستبشار القوم الذين كانوا قبل نزوله قانطين آيسين. فانظر يا محمد إلى رحمة ربك وقدرته على إحياء الأرض اليابسة بعد موتها، وهو القادر على بعث الموتى من قبورهم لو كانوا يعلمون. إنه لو تابع ربك -يا محمد- بريح مفسدة للزرع لنسي القوم نعمة الله قبل ذلك ولظلوا من بعده يكفرون.
فقوله: {اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ} .
قال القاسمي: (إما سائرًا وواقفًا، مطبقًا وغير مطبق، من جانب دون جانب، إلى غير ذلك).
والآية: إخبار من الله تعالى عن قدرته بإنشاء السحاب وجمعه ونشره في السماء كيف يشاء، لينزل منه الماء.
وقوله: {وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا} . قال قتادة: (أي قطعًا). وقال الضحاك: (متراكمًا). وقوله: {فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ} . قال مجاهد: (الودق: القطر). وقال قتادة: ({فَتَرَى الْوَدْقَ} يعني: المطر {يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ} يعني: من بين السحاب).
وقوله: {فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} .
قال ابن جرير: (يقول: فإذا صرف ذلك الودق إلى أرض من أراد صرفه إلى أرضه من خلقه رأيتهم يستبشرون بأنه صرف ذلك إليهم ويفرحون).
وقوله تعالى: {وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ} . قال قتادة: (أي قانطين).
والمقصود: وإن كان هؤلاء القوم الذين أُمطروا قانطين آيسين من نزوله، فلما جاءهم المطر أشرقت نفوسهم بالفرح ووقع منهم موقعًا عظيمًا.
قال النسفي: ({مِنْ قَبْلِهِ} كرر التأكيد. كقوله: {فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا} [الحشر: 17]. ومعنى التوكيد فيها الدلالة على أن عهدهم بالمطر قد تطاول فاستحكم بأسهم فكان الاستبشار على قدر اغتمامهم بذلك).
وقوله: {فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} .
أي: فانظر يا محمد إلى أثر الغيث الذي أكرم الله به من شاء من عباده كيف أحيا أرضهم بعد موتها ويبسها.
وقوله: {إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} .
قال القرطبي: (استدلال بالشاهد على الغائب). والمقصود: إن الذي يحيي هذه الأرض بعد يبسها ودثورها بهذا الغيث لمحيي الموتى بعد موتهم وهو على ذلك وعلى غيره قدير، وليس شيء عليه بعسير.
وقوله تعالى: {وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ} .
قال ابن عباس: ({فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا}: الزرع، وهو الأثر). وقيل: (فرأوا السحاب). فالمعنى: يقول جل ذكره: ولئن أرسلنا ريحًا مفسدة ما أنبته الغيث فرأى هؤلاء الأثر المفسد: في اصفرار زروعهم بعد اخضراره، ويبسه بعد نضجه، لظلوا من بعد استبشارهم وفرحتهم به يكفرون بربهم، ويجحدون نِعَمَهُ، ويَنْسَون أياديه عندهم.
52 -
53. قوله تعالى: {فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (52) وَمَا أَنْتَ بِهَادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (53)}.
في هذه الآيات: إثباتُ عدم سماع الأموات في قبورهم نداء الأحياء، وتمثيل الكفر والإعراض عن سماع الحق بالموت والصمم، وإنما الهداية بيد الله فهو يهدي من أخبت إليه وكان من المسلمين.
فقوله تعالى: {فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ} .
قال قتادة: {فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} : هذا مثل ضربه الله للكافر، فكما لا يسمع الميت الدعاء، كذلك لا يسمع الكافر {وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ} يقول: لو أن أصمّ ولّى مدبرًا ثم ناديته لم يسمع، كذلك الكافر لا يسمع ولا ينتفعُ بما يسمع).
والمقصود: أن الهداية لأهل العمى عن الحق إنما هي بيد الله، فهو وحده الذي بقدرته يُسْمِعُ الأموات أصوات الأحياء لو شاء، وكذلك فهو يهدي من يشاء، ويضل من يشاء.
قلت: وهذه الآية نص في عدم سماع الأموات في قبورهم نداء الأحياء، وإنما جاء الاستثناء في أمرين خاصين:
الأمر الأول: سماع الميت خفق نعال أصحابه إذا وُضع في قبره.
وهذا سماعٌ محدود بخفق النعال كما ورد في النص الصحيح، لا يتعداه إلى غيره من الأصوات من الناس أو معرفتهم أو سماع حديثهم.
ففي مسند أحمد وسنن أبي داود ومستدرك الحاكم من حديث البراء مرفوعًا: [فيردُ إلى الأرض وتعاد روحه في جسده. فإنه يسمع خفق نعال أصحابه إذا ولوا عنه مدبرين. فيأتيه ملكان شديدا الانتهار فينتهرانه ويجلسانه فيقولان له: من ربك؟ ] الحديث (1).
الأمر الثاني: سماع قتلى بدر توبيخ النبي صلى الله عليه وسلم لهم.
فقد أخرج البخاري في صحيحه من حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: أوقف النبي صلى الله عليه وسلم على قليب بدر فقال: هل وجدتم ما وعد ربكم حقًّا؟ ثم قال: إنهم الآن يسمعون ما أقول. فَذُكِرَ لعائشة، فقالت: إنما قال النبي صلى الله عليه وسلم: إنهم الآن ليعلمون أن الذي كنت أقول لهم هو الحق. ثم قرأت: {فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} حتى قرأت الآية
…
] (2).
قلت: فمفهوم كلام عائشة رضي الله عنها أن ذلك التكليم كان خاصًا برسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن الله أراد أن يخزي الطغاة الذين قتلوا يوم بدر، ولذلك أكد رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك بقوله:"إنهم الآن يسمعون" ويدركون أن الذي كنت أقول لهم هو الحق، ثم ختمت عائشة كلامها بالأصل المعروف، فقرأت الآية. {فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى}. ثم إن هذا المعنى يُستَنْبَطُ من قول عمر:(يا رسول الله، ما تكلم من أجساد لا أرواح لها).
وفي رواية مسلم: (يا رسول الله كيف يسمعون وأنّى يجيبوا وقد جَيَّفُوا). فأجابه عليه الصلاة والسلام بما يُفْهَمُ أنه خاص بهم، فقد أراد الله أن يسمعهم توبيخ نبيّه لهم وقد كذبوا به من قبل، فقال:(والذي نفسي بيده ما أنتم بأسمع لما أقول منهم، ولكنهم لا يقدرون أن يجيبوا).
قال قتادة: (أحياهم الله حتى أسمعهم قوله، توبيخًا وتصغيرًا وَنَقِمَةً وحسرة وندمًا) رواه البخاري (3).
(1) حديث صحيح. أخرجه أبو داود (2/ 281)، والحاكم (1/ 37 - 40)، وأحمد (4/ 287)، (4/ 295 - 296)، والطيالسي (رقم 753)، والنسائي (1/ 282)، وغيرهم.
(2)
حديث صحيح. أخرجه البخاري في صحيحه (3980)، (3981) - كتاب المغازي.
(3)
حديث صحيح. انظر صحيح البخاري (3976) - كتاب المغازي. وكتابي: السيرة النبوية على منهج الوحيين: القرآن والسنة الصحيحة (1/ 595 - 596).
وقوله: {وَمَا أَنْتَ بِهَادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ} .
أي: وما أنت -يا محمد- بمانع الذين أعماهم الله من ضلالتهم، فإنَّ مَنْ لَمْ يُوَفِّقْهُ الله لإصابة الرشد وأعماه عن إبصار طريق الاستقامة وامتثال سبيل محجة الحق فلا سبيل لك إلى هديه ورشده.
وقوله: {إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ} .
كقوله تعالى: {إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} [الأنعام: 36]. قال القرطبي: {إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا} أي لا تُسمع مواعظَ الله إلا المؤمنين الذين يصغون إلى أدلة التوحيد وخلقتُ لهم الهداية). قال ابن جرير: {فَهُمْ مُسْلِمُونَ} يقول: فهم خاضعون لله بطاعته، متذللون لمواعظ كتابه).
54.
في هذه الآية: ترتيب الله تعالى حياة الإنسان بتنقله في أطوار الخلق المختلفة: فهو يخرج من بطن أمه في حالة ضعف ثم يصير شابًا في حالة قوة، ثم يعود إلى الضعف في حالة الشيخوخة، والله هو العليم القدير.
قال قتادة: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ} أي من نطفة. {ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا} الهرم {وَشَيْبَةً} الشَّمَط).
والآية إخبار من الله تعالى عن تنقل الإنسان في أطوار الخلق المختلفة. قال ابن كثير: (فأصله من تراب، ثم من نطفة، ثم من عَلَقة، ثم من مُضْغَة، ثم يصير عظامًا، ثم يُكسى لحمًا، وينفخ فيه الروحُ، ثم يخرج من بطن أمه ضعيفًا نحيفًا واهِنَ القُوَى، ثم يشَبُّ قليلًا قليلًا حتى يكون صغيرًا، ثم حدَثًا، ثم مُراهقًا، ثم شابًا. وهو القوة بعد الضعفِ، ثم يشرَعُ في النقص فيكتهلُ، ثم يشيخ ثم يهرَمُ، وهو الضعف بعد القوة. فتضعف الهمةُ والحركة والبطش، وتَشِيب اللَمَّة، وتتغَير الصفاتُ الظاهرة والباطنة، ولهذا قال تعالى:{ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ} أي: يفعل ما يشاءُ وَيَتَصَرَّفُ في عبيده بما يُريد، {وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ} .
أخرج الترمذي بسند حسن عن ابن عمرة [أنه قرأ على النبي صلى الله عليه وسلم: {خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ} فقال: "مِنْ ضُعْفٍ"](1).
55 -
57. قوله تعالى: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ (55) وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (56) فَيَوْمَئِذٍ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (57)}.
في هذه الآيات: إقسام المجرمين يوم القيامة أن مكثهم في هذه الحياة الدنيا ما كان غير ساعة، وتأكيد أهل العلم والإيمان لهم أن لبثهم في كتاب الأعمال كان من بدء خلقهم إلى يوم بعثهم، ولكنهم كانوا لا يعلمون الحق لانصرافهم إلى الشهوات، وإلى تضييع الأوقات، فيومئذ لا يُقبل منهم اعتذار ولا تبرير ولا ينفعهم الندم أو التوبة من الوقوع في الموبقات والمهلكات.
فعن قتادة: ({وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ} أي يكذبون في الدنيا، وإنما يعني بقوله {يُؤْفَكُونَ} عن الصدق، ويصُدُّون عنه إلى الكذب).
قال ابن جرير: (يقول: كذبوا في قيلهم وقَسَمِهم ما لبثنا غير ساعة، كما كانوا في الدنيا يكذبون ويحلفون على الكذب وهم يعلمون).
والآية إخبار من الله تعالى عن جهل الكفار وكذبهم في الدنيا والآخرة. فقد أنفقوا أعمارهم في دنياهم بتعظيم الطواغيت والشهوات، ثم هم يقسمون يوم القيامة ما لبثوا في الدنيا غير ساعة واحدة، وكأنهم أرادوا استقصار مدتها فلا تقوم عليهم بها الحجة ولا الإعذار.
قال قتادة: (هذا من مقاديم الكلام. وتأويلها: وقال الذين أوتوا الإيمان والعلم: لقد لبثتم في كتاب الله). وقال ابن جُريج: (معنى ذلك: وقال الذين أوتوا العلم بكتاب الله، والإيمان بالله وكتابه).
(1) حديث حسن. أخرجه الترمذي في السنن- أبواب القراءات. انظر صحيح الترمذي (2339).
والمقصود: أنهم إذا قالوا ذلك يوم البعث ردّ عليهم المؤمنون العلماء في الآخرة كما أقاموا عليهم حجة الوحي في الدنيا، إنكم لبثتم في كتاب الأعمال من يوم خلقتم إلى يوم بعثكم هذا، ولكنكم كنتم في الدنيا لا تعلمون أنه حق، لتفريطكم في طلب الحق واتباعه، وانغماسكم خلف أهوائكم وشهواتكم.
وقوله تعالى: {فَيَوْمَئِذٍ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ} .
أي: فيوم القيامة لا ينفع الكفار اعتذارهم عما فعلوا من أعمال الكفر والآثام، ولا يطلب منهم التوبة والإنابة فقد مضى وقت ذلك.
قال القاسمي: ({وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ} أي ولا يطلب منهم الإعتاب. أي إزالة العتب بالتوبة والطاعة. لأنهما وإن كانتا ماحيتين للكفر والمعاصي، فإنما كان لهما ذلك في مدة الحياة الدنيا، لا غير).
وفي التنزيل نحو ذلك:
1 -
قال تعالى: {فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ} [فصلت: 24].
2 -
وقال تعالى: {أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لَا تُبْصِرُونَ (15) اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الطور: 15 - 16].
وفي سنن الترمذي بسند صحيح عن أبي هريرة، وعن أبي سعيد قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [يُؤتى بالعبد يومَ القيامة فيقولُ لَهُ: ألَمْ أجْعَلْ لكَ سمعًا وبصرًا ومالًا وولدًا، وسَخَّرْتُ لك الأنعام والحرثَ، وتركتُكَ ترأسُ وتَرْبَعُ، فكنتَ تَظُنُّ أنَّكَ مُلاقِيَّ يَوْمَكَ هذا؟ فيقول: لا. فيقول له: اليوم أنْسَاكَ كما نسيتني](1).
قال أبو عيسى: (ومعنى قوله: "اليوم أنساك كما نسيتني": اليوم أتركك في العذاب، وكذا فَسَّرَ بعض أهل العلم هذه الآية: {فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ} [الأعراف: 51] قالوا: معناه: اليوم نتركهم في العذاب).
58 -
60. قوله تعالى: {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ (58) كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى
(1) حديث صحيح. انظر صحيح الترمذي (1978) - أبواب صفة القيامة. وأصله في صحيح مسلم.
قُلُوبِ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (59) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ (60)}.
في هذه الآيات: ضَرْبُ الله الأمثلة للناس في هذا القرآن لينتفعوا بها ولكن الذين كفروا عن الحق معرضون، كذلك يختم الله على قلوب الذين لا يعلمون، فاصبر -يا محمد- واثبت على الصراط ولا يَسْتَفِزَّنَكَ عن دينك الذين لا يوقنون.
فقوله: {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ} . قال القرطبي: (أي من كل مَثَل يدلُّهم على ما يحتاجون إليه، وينبههم على التوحيد وصدق الرسل).
وقوله: {وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ} . قال ابن كثير: (أي: لو رأَوا أيَّ آيةٍ كانت، سَواءٌ كانت باقتراحهم أو غيره، لا يؤمنون بها، ويعتقدون أنها سِحْرٌ وباطل، كما قالوا في انشقاق القمر ونحوه، كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ (96) وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ} [يونس: 96 - 97]).
وقوله تعالى: {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} .
قال النسفي: (أي مثل ذلك الطبع وهو الختم يطبع الله على قلوب الجهلة الذين علم الله منهم اختيار الضلال حتى يسموا المحقين مبطلين، وهم أعرق خلق الله في تلك الصفة).
وقوله: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} .
أي: فاصبر -يا محمد- على أذاهم وعداوتهم، واعلم أن وعد الله بنصرك عليهم وإظهار دينك الحق على كل دين وعدٌ حق قادم لابد من إنجازه والوفاء به.
وقوله: {وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ} .
قال القرطبي: (أي لا يستفزنّك عن دينك. والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد أمته، يقال: استخف فلان فلانًا أي استجهله حتى حمله على اتباعه في الغيّ).
وقال القاسمي: {وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ} أي لا يحملنك على الخفة والقلق {الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ} أي بما تتلو عليهم من الآيات البينة، بتكذيبهم إياها ومكرهم فيها. فإنه تعالى منجز لك ما وعدك من نصرك عليهم، وجعله العاقبة لك، ولمن اعتصم بما جئت به من المؤمنين).
قلت: والخطاب ينسحب إلى العلماء والدعاة من بعد النبي صلى الله عليه وسلم، أَنْ يصبروا على تبليغ دعوة الله إلى الخلق مهما حاول الطغاة المَكْرَ بهم أو تسفيه أعمالهم وتشويهها، فإن الله ناصر من ينصره ولو كره الكافرون.
تم تفسير سورة الروم بعون الله وتوفيقه، وواسع منِّه وكرمه
* * *