المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ منهاج السورة - التفسير المأمون على منهج التنزيل والصحيح المسنون - جـ ٦

[مأمون حموش]

الفصل: ‌ منهاج السورة

‌36 - سورة يس

وهي سورة مكية بإجماع أهل التفسير، وعدد آياتها (83).

وهناك من قال: إن قوله تعالى: {وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ} نزلت في بني سلمة من الأنصار، حين أرادوا أن يتحولوا من ديارهم ليقتربوا من المسجد في المدينة.

وسيأتي تفصيل ذلك إن شاء الله.

‌موضوع السورة

انتصار الله للقرآن ولسيد المرسلين

وإنزال نقمته والخزي على الكافرين

-‌

‌ منهاج السورة

-

1 -

انتصار الله لهذا القرآن العظيم، وتأكيده إنزاله على سيد المرسلين، لإنذار قوم بعدوا عهدًا بالإنذار، فهم مغلولون عن قبول الحق إلا أن يخلصوا إلى الله الفرار، وإلا حقت عليهم كلمة الله أنهم أصحاب النار.

2 -

انتفاع المؤمنين بالنذارة وثناء الله عليهم، وإثبات المعاد ببعث الله الموتى من قبورهم، وكل الأعمال والآثار مسطرة في اللوح المحفوظ عند بارئهم.

ص: 324

3 -

ضَرْبُ الله المثل بقصة أصحاب القرية وتكذيبهم المرسلين، ومجيء رجل من أقصى المدينة يسعى يقول يا قوم اتبعوا المرسلين، ويحذرهم مغبة الشرك بالله فأصروا فأنجاه الله وأهلكهم بما كانوا به يستهزئون.

4 -

ذكر الله تعالى بعض الآيات الدالة للمشركين على قدرته على إحياء الموتى من قبورهم بعد فنائهم.

5 -

استهزاء المشركين بأمر البعث والحساب واستبعادهم القيامة، وتأكيد الله ما أنكروه بوصفه تعالى نفخة الفزع ثم نفخة البعث والقيام لله رب العالمين.

6 -

نَعْتُ الله نعيم المؤمنين في الجنة وانشغالهم في ألوان الملذات والسرور.

7 -

نَعْتُ الله حال المجرمين وهم إلى جهنم يحشرون، وقد كان حذّرهم تعالى مغبة عبادة الشيطان الذي أضلهم وأممًا قبلهم لم يكونوا يعقلون.

8 -

تبرئة الله تعالى نبيّه صلى الله عليه وسلم من نظم الشعر، ليغلق الباب على من أراد أن يدعي أن القرآن من كلام محمد صلى الله عليه وسلم وإنما هو كلام الله الذي علم رسوله الذكر.

9 -

امتنانُ الله تعالى على المشركين نعمة الأنعام ذَلَّلَها لهم لطعامهم وشرابهم وركوبهم وحمل أثقالهم.

10 -

عَجْزُ الأوثان والأصنام عن جلب النفع ودفع الضر عن عابديها.

11 -

ذِكْرُ الله قصة بدء الخلق للإنسان من ماء مهين، ثم كبَّرَه ورعاه فإذا هو خصيم مبين، يكفر بقدرة الله تعالى على إعادته والله بكل خلق عليم.

12 -

تنزيه الله نفسه عما يصفه به الكافرون، فإنه تعالى إذا أراد شيئًا إنما يقول له كن فيكون، وله الملك كله سبحانه وإليه يرجعون.

* * *

ص: 325

بسم الله الرحمن الرحيم

1 -

12. قوله تعالى: {يس (1) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (3) عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (4) تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (5) لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ (6) لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (7) إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ (8) وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ (9) وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (10) إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ (11) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ (12)}.

في هذه الآيات: افتتح الله هذه السورة بحرفين: الياء والسين. وكأن المعنى أو المراد هو الإعجاز وتحدي البطلة، فهذا القرآن هو من جنس هذه الأحرف فأتوا بمثله إن استطعتم. ثم أقسم سبحانه بوحيه وتنزيله: إنك يا محمد لمن المرسلين من الله إلى عباده، وإنك لعلى صراط مستقيم وهو الإسلام، صراط الأنبياء جميعًا صلوات الله وسلامه عليهم. وما معك من القرآن هو تنزيل الرب الرحيم بعباده، العزيز في انتقامه، لتنذر مَنْ بَعُدُوا عهدًا بالإنذار، فتجدد النذارة لهم فيخلصوا من الغفلة، مع أن العقاب قد كتبه الله بعلمه على أكثرهم لاستكبارهم وعنادهم وتقليدهم المسرفين من الأمم قبلهم، فهم مغلولون مقيدون أن يأتوا بخير، قد جعل الله بعدله بينهم وبين الإسلام والإيمان سدًّا منيعًا، لأن واقع قلوبهم ونفوسهم يتناسب وذلك، فسواء يا محمد إنذارك وعدمه فهم بالإيمان زاهدون، وبحب الدنيا ماضون، وبتعظيم الشهوات والرياسات مرابطون. فالنذارة تنفع المخبتين، الذين يخشون ربهم ممسين ومصبحين، وباتباع هدي القرآن عاكفون، فأولئك لهم أجر التائبين المستغفرين. فالله

ص: 326

يبعث الموتى من قبورهم ويوردهم ليروا ما قدموا من أعمالهم، فهو العليم قد كتب في اللوح المحفوظ كل أخبارهم. فإلى تفصيل ذلك:

قوله تعالى: {يس} . قال شيخ الإسلام: (إنما ذكرت هذه الحروف في أوائل السور التي ذكرت فيها بيانًا لإعجاز القرآن، وأن الخلق عاجزون عن معارضته بمثله، هذا مع أنه مركب من الحروف المقطعة التي يتخاطبون بها).

وقوله تعالى: {وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ} . قال ابن عباس: (قالت كفار قريش ليست مرسلًا وما أرسلك الله إلينا، فأقسم الله بالقرآن المحكم أن محمدًا من المرسلين). والحكيم صفة للقرآن، أي لا يتعرض لبطلان ولا تناقض، فهو الكتاب المحكم الذي {أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ} ، وكذلك معانيه ونظمه وأحكامه وبينات حججه، فأقسم بتنزيله سبحانه لنبيه محمد عليه الصلاة والسلام، إنك لمن المرسلين، بوحي من الله العظيم.

وقوله تعالى: {إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (3) عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} .

قال قتادة: (قسم كما تسمعون: {إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (3) عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} أي على الإسلام).

فأقسم سبحانه بالقرآن الحكيم: إنك يا محمد لمن المرسلين، على منهج ودين قويم، وشرع مستقيم، منزل من رب العزة الرحيم، بعباده المؤمنين المخبتين.

فقوله: {عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} ، هو كقوله جل ثناؤه:{وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ} .

و{عَلَى} في قوله: {عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} إما صلة الإرسال، أي إنك لمن المرسلين على استقامة من الحق، أو تكون خبرًا لمبتدأ محذوف، والتقدير: إنك لمن المرسلين. إنك على صراط مستقيم.

وقيل: {عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} . أي على طريق الأنبياء الذين تقدموك.

وقوله تعالى: {تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ} . قرأها قراء الكوفة وبعض قراء الشام بالفتح {تَنْزِيلَ} في محل نَصْب مفعول مطلق، والتقدير:"منزل تنزيل العزيز الرحيم". في حين قرأها قراء المدينة والبصرة {تَنْزِيلَ} بالرفع خبرًا لمبتدأ محذوف تقديره (هو)، أو (إنه)، والتقدير: إنه تنزيلُ العزيز الرحيم، أو هذا تنزيل العزيز الرحيم، وكلاهما مشهور عند المفسرين. أما من قرأها بالجر {تَنْزِيلَ} على البدل من القرآن فهي قراءة غير مشهورة.

ص: 327

وقوله: {لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ} . قال قتادة: (قال بعضهم: لتنذر قومًا ما أنذر آباؤهم من إنذار الناس قبلهم. وقال بعضهم: لتنذر قومًا ما أنذر آباؤهم: أي هذه الأمة لم يأتهم نذير حتى جاءهم محمد صلى الله عليه وسلم). وقال عكرمة: (قد أنذروا). فهناك تفسيران:

1 -

تكون {مَا} والفعل مصدرًا -والتقدير: لتنذر قومًا إنذار آبائهم- أي لتنذر يا محمد هؤلاء القوم إنذارًا يشبه الإنذار الذي بلغ الأقوام قبلهم من رسلهم. وقد تكون {مَا} بمعنى الذي، والتقدير قريبٌ من هذا -أي: لتنذرهم مثل ما أنذر آباؤهم-.

فإن قيل: يجوز أن يَكون العرب أنذروا بخبر الأنبياء بالتواتر! فيقال: لكن لم ينذروا برسول من أنفسهم أو ببلاغ مبين.

2 -

تكون {مَا} لا محل لها من الإعراب، وَالتقدير نفي -أي لتنذر قومًا لم ينذروا، أو ما أتى آباءهم قبلك نذير-. كقوله تعالى:{لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ} وكقوله: {وَمَا آتَيْنَاهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ} .

أي لم يأتهم نبي يقيم عليهم الحجة والبلاغ المبين. قال ابن كثير: (لتنذر العرب فإنه ما أتاهم من نذير قبلك) أي بعد إبراهيم عليه السلام.

قلت: وكلا المعنيين حق. فكان هناك فترة من الرسل قبل محمد صلى الله عليه وسلم، ولكنهم كانوا مأمورين بدين إبراهيم دين التوحيد، وقد وصلوا بأخبار الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، فأحب الله أن يقيم عليهم الحجة البالغة بإرسال محمد صلى الله عليه وسلم لينهضوا من الغفلة واتباع الشياطين.

وقوله: {فَهُمْ غَافِلُونَ} . أي معرضون متغافلون عن عقاب الله، فأحب الله أن يجدد الأمر لهم. قال ابن جرير:({فَهُمْ غَافِلُونَ} عما الله فاعل بأعدائه المشركين من إحلال نقمته وسطوته بهم).

وقو له تعالى: {لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} .

هذا فيما سبق من علم الله، فيمن يموت على كفره ولا يؤمن بآيات الله ويكذب رسله. قال شيخ المفسرين:(لقد وجب العقاب على أكثرهم لأن الله قد حتم عليهم في أم الكتاب أنهم لا يؤمنون بالله ولا يصدقون رسله).

ثم قال جل ذكره مفصلًا سبب تركهم الإيمان: {إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا فَهِيَ إِلَى

ص: 328

الْأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ}. قال ابن عباس: (هو كقول الله: {وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ}. [الإسراء: 29] يعني بذلك أن أيديهم موثقة إلى أعناقهم لا يستطيعون أن يبسطوها بخير).

وعن عكرمة قال: (قال أبو جهل: لئن رأيت محمدًا لأفعلن ولأفعلن، فأنزلت: {إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا} إلى قوله {فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ} قال: فكانوا يقولون: هذا محمد، فيقول: أين هو؟ أين هو؟ لا يبصره).

قلت: والمقمح لغة المقنع، وهو أن يحدر الذقن حتى يصير في الصدر ثم يرفع رأسه (1). فهو مثل ضربه الله تعالى لهم في امتناعهم من الهدى كامتناع المغلول، وهو تمثيل لحالة الكبر التي طغت في قلوب المكذبين بالرسل، فانتصب عنقُه كناية وتعبيرًا عن الاستكبار. كما قال القرطبي:(إن هؤلاء صاروا في الاستكبار عن الحق كمن جُعل في يده غُلٌّ فجمعت إلى عنقه. فبقي رافعًا رأسه لا يخفضه، وغاضًا بصره لا يفتحه). قال: (والمتكبر يوصف بانتصاب العنق).

قلت: ولا شك أن الله سبحانه يحرمهم التوفيق إلى الهدى عقوبة منه بهم، نتيجة استكبارهم. قال قتادة:({فَهُمْ مُقْمَحُونَ}: أي فهم مغلولون عن كل خير). وقال مجاهد: (رافعو رؤوسهم، وأيديهم موضوعة على أفواههم). أي أيمان الكفار مغلولة لأعناقهم بالأغلال فلا تبسط في خير. قال أبو جعفرة (فكنى عن الأيمان ولم يجر لها ذكر لمعرفة السامعين بمعنى الكلام).

وقوله: {وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا} .

والسد هو الحاجز بين الشيئين، فهم قوم قد زين الله لهم سوء أعمالهم وتركهم يتخبطون ويترددون، فهم يعمهون ولا يبصرون رشدًا ولا يمتثلون حقًّا.

كما قال مجاهد: {وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا} عن الحق فهم يترددون). وقال قتادة: (ضلالات). وقال ابن زيد: (جعل هذا سدًّا بينهم وبين الإسلام والإيمان، فهم لا يخلصون إليه، وقرأ: {وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ}. وقرأ: {إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ} الآية كلها. وقال: من منعه الله لا يستطيع).

(1) وقيل الإقماح: رفع الرأس وغض البصر. ويقال: أَقْمَحَهُ الغُلُّ: إذا ترك رأسه مرفوعًا من ضيقه. وأقمحت الدابة إذا جذبت لجامها لترفع رأسها. وقمح البعير إذا رفع رأسه عند الحوض وامتنع من الشرب فهو قَمِحٌ أو قامحٌ.

ص: 329

وقوله: {فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ} .

قال قتادة: ({فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ} هدى ولا ينتفعون به).

وروي عن ابن عباس أنه قرأها: {فَأَغْشَيْنَاهُمْ} بالعين، من العشا: وهو أن يمشي بالليل ولا يبصر. ذكره ابن جرير. كما قال تعالى: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} . من العشا في العين، وهو ضعف بصرها حتى لا تبصر بالليل.

وعن الضحاك: ({وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا} أي الدنيا {وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا} أي الآخرة، أي عموا عن البعث وعموا عن قبول الشرائع في الدنيا، قال الله تعالى: {وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ} أي فزينوا لهم في الدنيا ودعوهم إلى التكذيب بالآخرة). وقال السدي: {فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ} قال: محمدًا حين ائتمروا على قتله). وقيل: {وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا} أي غرورًا بالدنيا. {وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا} أي تكذيبًا بالآخرة. وقيل: {مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا} الآخرة {وَمِنْ خَلْفِهِمْ} الدنيا.

وخلاصة المعنى: شبه الله انتصاب الأعناق بحالة المستكبرين عن الحق، فكأن الأغلال قد وضعت في أيديهم وجمعت إلى أعناقهم، فبقيت رؤوسهم منتصبة وقد غضت أبصارهم، وقد علم الله فساد قلوبهم فجعل الشهوات وحطام الدنيا والغي حاجزًا بينهم وبين الإيمان عقوبة لهم، ثم عموا عن البعث وتمادوا في التكذيب في الآخرة فأمهلهم واستدرجهم عقوبة أخرى، فكان ذلك سدًّا من بين أيديهم وسدًّا من خلفهم فضاع العمر عليهم وهم لا يبصرون طريق النجاة.

وقوله تعالى: {وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} .

هو كقوله في سورة البقرة: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} .

أي لما رأى الله تماديهم في الكذب وتعظيمهم الشهوات فوق الوحي -وهو أمر علمه سبحانه وكتبه في اللوح المحفوظ- عاقبهم على ترك قلوبهم وإهمال معالجتها، وعلى مضيهم في طريق الرياء والكبر، فصار الران على قلوبهم، فلا يعرفون معروفًا ولا ينكرون منكرًا إلا ما أشرب من هواهم، فسواء عليك بعد هذا يا محمد إنذارك وعدمه. وهذه الآية ردّ على القدرية الذين يقولون لا قدر.

وقد ذكر الإمام القرطبي عن ابن شهاب: (أن عمر بن عبد العزيز أحضر غيلانَ القَدَرية فقال: يا غيلان! بلغني أنك تتكلم بالقدر، فقال: يكذبون عليَّ يا أمير

ص: 330

المؤمنين. ثم قال: يا أمير المؤمنين! أرأيت قول الله تعالى: {إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (2) إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا} فقال: اقرأ يا غيلان! فقرأ حتى انتهى إلى قوله: {فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا} فقال: اقرأ، فقال:{وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} فقال: والله يا أمير المؤمنين إن شعرت أنّ هذا في كتاب الله قط. فقال له: يا غيلان: اقرأ أول سورة "يس". فقرأ حتى بلغ: {وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} . فقال غيلان: والله يا أمير المؤمنين كأني لم أرها قط قبل اليوم، اشهد يا أمير المؤمنين أني تائب. فقال عمر: اللهم إن كان صادقًا فتب عليه وثبته، وإن كان كاذبًا فسلط عليه من لا يرحمه واجعله آية للمؤمنين، فأخذه هشام فقطع يديه ورجليه وصلبه. وقال ابن عون: فأنا رأيته مصلوبًا على باب دمشق. فقلنا: ما شأنك يا غيلان؟ فقال: أصابتني دعوة الرجل الصالح عمر بن عبد العزيز).

وقوله: {إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ} . قال قتادة: (واتباع الذكر اتباع القرآن).

وقوله: {وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ} قال قتادة: (أي ما غاب من عذابه وناره). وقيل: أن يخشاه في مغيبه عن أبصار الناس وانفراده بنفسه، فهذا الذي ينفع إنذارك له يا محمد: من آمن بالقرآن وخاف الله حين يغيب عن أبصار الناظرين. أما المنافق الذي يظهر الإيمان بالقرآن في الشهادة، ويستخف بدين الله، ويستهزئ بالغيب إذا خلا فهذا لا ينفعه إنذارك ما دام قد طبع الله على قلبه وآثر الشرك على التوحيد.

وقوله: {فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ} . أي: فبشر يا محمد من آمن وعظم الله في السر والعلانية بمغفرة الله لذنوبه فضلًا منه، وبالجنة منَّا منه ورحمة.

ثم قال جل ثناؤه: {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ} .

فأخبر سبحانه بأنه هو يحيي الموتى ردًّا على منكري البعث والجزاء. وقال الضحاك: (أي نحييهم بالإيمان بعد الجهل). والأول أظهر.

وعن ابن زيد: (في قوله: {وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا} قال: ما عملوا. {وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ} قال: أم الكتاب التي عند الله فيها الأشياء كلها هي الإمام المبين).

يروي الترمذي والحاكم بسند صحيح عن أبي سعيد رضي الله عنه قال: [إن بني سَلِمَة شكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد منازلهم من المسجد، فنزلت: {وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا

ص: 331

وَآثَارَهُمْ}] (1). وفي رواية: [كانت بنو سلمة في ناحية المدينة، فأرادوا النقلة إلى قرب المسجد، فنزلت هذه الآية: {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ} فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنَّ آثارَكم تُكتب فلا تَنتقِلُوا].

وله شاهد عند ابن جرير، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال:[كانت منازل الأنصار متباعدة من المسجد، فأرادوا أن ينتقلوا إلى المسجد، فنزلت: {وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ} فقالوا: نثبت في مكاننا] وسنده صحيح (2).

وفي صحيح الإمام مسلم عن جابر رضي الله عنه قال: [خَلَتِ البِقاعُ حولَ المسجد، فأراد بنو سَلِمة أن ينتقلوا قُرْبَ المسجد، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فقال لهم: بلغني أنكم تريدون أن تنتقلوا قُرْبَ المسجد، قالوا: نعم يا رسول الله صلى الله عليه وسلم! قد أردنا ذلك، فقال: يا بني سلمة! ديارَكم، تُكتَبُ آثارُكم، ديارَكُم تُكتَبُ آثاركم. فقالوا: ما يسرنا أنا كنا تحولنا](3). وفي رواية لمسلم في آخره: (إن لكم بكل خطوة درجة). و"ديارَكم" منصوب على الإغراء. والتقدير: الزموا دياركم.

وبنو سَلِمة بكسر اللام هم بطن من الأنصار، وليس في العرب بطن بكسر اللام غيرهم، وكانت ديارهم على مسافة من المسجد تمنعهم في سواد الليل وعند المطر واشتداد البرد، فهمّوا بالتحول إلى قرب المسجد من أجل ذلك، فأخبرهم عليه الصلاة والسلام بأجر الخطا إلى المسجد. وفيهم نزلت هذه الآية.

فقد روى ابن ماجة بإسناد جيد عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: [كانت الأنصار بعيدة منازلهم من المسجد فأرادوا أن يقتربوا، فنزلت: {وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ} فثبتوا](4).

(1) حديث صحيح. رجاله ثقات. انظر صحيح سنن الترمذي (2578) - كتاب التفسير- سورة "يس" آية (12). وله شواهد كثيرة.

(2)

حديث صحيح. أخرجه ابن جرير في "التفسير"(29069). وانظر: الصحيح المسند من أسباب النزول-الوادعي- سورة "يس"، آية (12).

(3)

حديث صحيح. أخرجه مسلم في الصحيح (665)، وأخرجه أحمد في المسند (3/ 332)، وابن حبان في صحيحه (2042) من حديث جابر.

(4)

حديث صحيح. رواه ابن ماجة في السنن (785) بإسناد جيد. انظر صحيح سنن ابن ماجة (637).

وانظر صحيح الترغيب (1/ 303). كتاب الصلاة.

ص: 332

وقد جاء الحض على حضور صلاة الجماعة وأجر المشي إليها وكثرة الخطا في السنة الصحيحة: وفي ذلك أحاديث:

الحديث الأول: أخرج الإمام مسلم عن أبي موسى رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [إن أعظم الناس أجرًا في الصلاة أبعدُهم إليها مَمْشى فأبعدُهم، والذي ينتظر الصلاة حتى يصليها مع الإمام، أعظم أجرًا من الذي يصليها ثم ينام](1).

الحديث الثاني: أخرج الإمام أحمد في المسند بسند صحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[الأبعدُ فالأبعدُ من المسجد أعظمُ أجرًا](2).

والمراد الحض على حضور صلاة الجماعة ولو كان المنزل بعيدًا من المسجد، فالأجر محسوب مضمون من الله سبحانه.

الحديث الثالث: أخرج الإمام مسلم عن أُبَيِّ بن كعب رضي الله عنه قال: [كان رجل من الأنصار لا أَعْلَمُ أحدًا أبعدَ من المسجد منه، كانت لا تخطِئُهُ صلاة، فقيل له: لو اشتريت حمارًا تركبه في الظَّلْماء، وفي الرَّمْضاء (3) فقال: ما يَسُرُّني أن مَنزلي إلى جنب المسجد، إني أريد أن يُكتبَ لي مَمْشايَ إلى المسجد، ورجوعي إذا رجَعْتُ إلى أهلي. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قد جمع الله لك ذلك كلَّهُ](4).

وفي رواية: [فتوجَّعْتُ له، فقلت: يا فلان! لو أنك اشتريت حمارًا يقيك الرمضاءَ وهوامَّ الأرض! قال: أما والله ما أحِبُّ أن بيتي مُطَنَّبٌ (5) ببيت محمد صلى الله عليه وسلم! قال: فَحُمِلْتُ به حِملًا، حتى أتيتُ نبي الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته، فدعاه، فقال له: مثل ذلك، وذكر أنه يرجو أجر الأثر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إنّ لك ما احْتَسَبْت].

فكل هذه الآثار العظيمة تحمل على الحرص على صلاة الجماعة، فهي علامة من علامات الصدق في حياة المؤمن يلبي دعوة ربه وأمر نبيّه، ثم لا عذر مع سماع النداء

(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم في الصحيح (662)، كتاب المساجد. ورواه البخاري بنحوه. وانظر صحيح الترغيب (1/ 305)، كتاب الصلاة.

(2)

حديث صحيح. أخرجه أبو داود في السنن (556). ورواه أحمد وغيره. انظر صحيح الترغيب (1/ 304)، كتاب الصلاة. الترغيب في المشي إلى المساجد.

(3)

هي الأرض الشديدة الحرارة من وقع الشمس.

(4)

حديث صحيح. أخرجه مسلم (663). وانظر المرجع السابق (1/ 306)، ورواه ابن ماجة وغيره.

(5)

أي مشدود بالأطناب. والطنب أحد أطناب الخيمة. قال ابن الأثير: (يعني ما أحب أن يكون بيتي إلى جانب بيته، لأني أحتسب عند الله كثرة خطاي من بيتي إلى المسجد).

ص: 333

إلا بإجابة الدعوة في المسجد، وتكفل الله بكل خطوة إلى الصلاة أن يرفع صاحبها ويمحو من خطاياه.

ففي الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [كُلُّ سلامى من الناس عليه صدقة كل يوم تطلع فيه الشمس، تَعْدِلُ بين الاثنين صدقة، وتعينُ الرجل في دابته فتحمله أو ترفع له عليها متاعه صدقة، والكلمة الطيبة صدقة، وبكل خطوة تمشيها إلى الصلاة صدقة، وتُميط الأذى عن الطريق صدقة](1).

والسلامى واحد السلاميات، وهي مفاصل الأصابع، وهو في الأصل عظم في فِرْسنِ البعير، فلعل المعنى على كل عظم من عظام ابن آدم صدقة، والله تعالى أعلم.

وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:[ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا، ويرفَعُ به الدرجات؟ قالوا: بلى يا رسول الله صلى الله عليه وسلم! قال: إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخُطا إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط، فذلكم الرباط، فذلكم الرباط](2).

فهذه الآية: {وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ. . .} -مع أن السورة مكية والكلام في المدينة حول بني سلمة- فلربما نزلت مرتين: مرة بمكة ومرة بالمدينة أو بالمدينة فقط، والله تعالى أعلم.

وعن مجاهد: ({مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ}، قال: خطاهم بأرجلهم). وقال قتادة: (لو كان مُغْفَلًا شيئًا من شأنك يا ابن آدم أغفل ما تعفي الرياح من هذه الآثار).

ولكن الله منّ بكرمه على المؤمن أن أثابه على خطوات الغدو والرواح إلى المسجد معًا. ففي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[من غدا إلى المسجد أو راح، أعدَّ الله له في الجنة نزلًا كلما غدا أو راح](3).

وقد رأى بعضهم أن البعد عن المسجد أفضل من القرب للأحاديث السابقة، ثم اختلفوا هل له أن يجاوز المسجد الأقرب للأبعد؟ ومذهب مالك أن لا يدع مسجدًا قربَه ويأتي غيره.

(1) حديث صحيح. انظر صحيح البخاري (2707)، (2891)، (2989)، ورواه مسلم، وغيرهما.

(2)

حديث صحيح. أخرجه مسلم (254)، كتاب الطهارة. باب فضل إسباغ الوضوء على المكاره.

(3)

حديث صحيح. أخرجه البخاري (662)، كتاب الأذان. باب فضل من غدا إلى المسجد ومن راح.

ورواه مسلم (669)، كتاب المساجد. والنزل: ما يهيأ للضيف عند قدومه.

ص: 334

قلت: وهذا هو الصحيح. إلا أن يكون تَرْكُهُ للأقرب لعذر، كوجود قبر أو منكر أو إمام غير جدير بالإمامة، ونحو ذلك.

فقد روى الطبراني بسند صحيح عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[ليُصَلِّ الرجل في المسجد الذي يليه ولا يتبع المساجد](1).

فالسنة أن يصلي في مسجد الجوار ولا يتبع المساجد، وأن يمشي إلى الصلاة بوقار. فقد روى ابن جرير بإسناده عن الحسين عن ثابت قال:(مشيت مع أنس فأسرعت المشي، فأخذ بيدي، فمشينا رُويدًا، فلما قضينا الصلاة، قال أنس: مشيت مع زيد بن ثابت فأسرعت المشي فقال: يا أنس أما شعرت أن الآثار تكتب).

وأصل ذلك في الصحيحين عن أبي قتادة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[إذا أتيتم الصلاة فعليكم بالسكينة، ولا تأتوها وأنتم تسعون، فما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فأتموا](2).

وعن مجاهد: (قوله: {فِي إِمَامٍ مُبِينٍ} قال: في أم الكتاب).

وقوله: {مُبِينٍ} أي شديد الوضوح، يبين عن حقيقة جميع ما أثبت فيه. فالله سبحانه قد أحصى كل أثر لابن آدم، وكل ما يصنعه الإنسان من عمل، كما قال جل ثناؤه:{عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ} . وكقوله: {يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ} .

و{وَكُلَّ} في قوله: {وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ} منصوب بفعل محذوف، وكان التقدير: وأحصينا كل شيء أحصيناه. ويمكن رفعه على الابتداء ولكن النصب أولى. وبقوله: {فِي إِمَامٍ مُبِينٍ} قال قتادة: (أراد اللوح المحفوظ) وهو كقول مجاهد. وقال آخرون: (أراد صحائف الأعمال).

فالله نسأل أن يمحو السيئات، ويضاعف لنا الحسنات، ويكرمنا بدخول الجنات، إنه غفور شكور.

13 -

32. قوله تعالى: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ (13) إِذْ

(1) حديث صحيح. أخرجه الطبراني في "الأوسط"(2/ 22)، وانظر السلسلة الصحيحة (2200).

(2)

حديث صحيح. أخرجه البخاري (636)، (908)، وأخرجه مسلم (602)، وأحمد (2/ 532)، ورواه ابن ماجة (775)، وابن حبان (2146)، وغيرهم.

ص: 335

أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ (14) قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ (15) قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ (16) وَمَا عَلَيْنَا إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (17) قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ (18) قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (19) وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَاقَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20) اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ (21) وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (22) أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنْقِذُونِ (23) إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (24) إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ (25) قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَالَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26) بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ (27) وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنْزِلِينَ (28) إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ (29) يَاحَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (30) أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لَا يَرْجِعُونَ (31) وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ (32)}.

في هذه الآيات: يقول الله جل ثناؤه آمرًا نَبِيَّه صلى الله عليه وسلم أن ينذر هؤلاء المشركين ممن حوله أن يحل بهم ما حل بكفار أهل القرية التي بعث إليها ثلاثة رسل ليحذروهم شر الاستمرار على الشرك بالله في العبادة، وشر تحكيم غير منهجه سبحانه، فقابلوهم بالتكذيب والتشاؤم والتهديد، فأكّد المرسلون لهم أنما أعمالهم راجعة بالثواب أو العقاب عليهم، فما بكم التطيّر بنا، ولكنكم قوم أهل معاص وآثام، غلبت عليكم ذنوبكم وطغى إسرافكم. ثم عزّزهم الله مرة أخرى برجل سمع بهم فأقبل إليهم ودعا الناس إلى متابعة الرسل حيث لا يبغون أجرًا، وإنما هم مخلصون بتذكير الناس بالله وبالدار الآخرة ونبذ الأوثان والتحاكم للطاغوت والشيطان، ثم أظهر لهم دينه وتوحيده لربه، وأخبرهم أنه لا ينفعه ولا يضره غيره، ثم عاب آلهتهم بأنها لا تغني عنه شيئًا إن أراده الرحمان بضر ولا تنقذه من خطر قضاه الله، ثم أكد لهم إيمانه بالله ليسمعوا، فقتلوه بعد أن أبدى لهم النصيحة واستضعفوه ولم يكن أحد يدفع عنه، فلما لقي ربه

ص: 336

قال له ادخل الجنة، فدخلها وأفضى إلى رحمة ربه وجنته وكرامته، وهو يقول:{يَالَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26) بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ} . ولا والله ما عاتب الله قومه بعد أن قتلوه، وما بعث لهم جنودًا يقاتلونهم، بل غضب غضبة لم تبق من القوم أحدًا، فأهلكهم بصيحة فبادوا عن وجه الأرض فلم تبق منهم باقية. فيا حسرة العباد على مصائرها حيث ضيعت أوامر الله وفرطت بالحق واستهزأت بالرسل وتحاكمت للهوى والشهوات، وما اعتبرت بمصائر الأمم الهالكة قبلها التي دمرها الله بكفرها وبغيها، ثم الجميع قادمون يوم القيامة للوقوف في أرض المحشر ومعاينة أهوالها. فإلى تفصيل ذلك من أقوال المفسرين.

قوله تعالى: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ (13) إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ} . قال قتادة: (ذُكِرَ لنا أن عيسى بن مريم بعث رجلين من الحواريين إلى أنطاكية مدينة بالروم، فكذبوهما، فأعزهما بثالث، فقالوا: {إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ}).

وعن وهب بن منبه قال: (كان بمدينة انطاكية فرعون من الفراعنة يقال له: أبطيحس بن أبطيحس، يعبد الأصنام صاحب شرك، فبعث الله المرسلين وهم ثلاثة: صادق ومصدوق وسلوم، فقدم إليه وإلى أهل مدينته منهم اثنان فكذبوهما، ثم عزز الله بثالث، فلما دعته الرسل ونادته بأمر الله وصدعت بالذي أُمرت به وعابت دينه وما هم عليه قال لهم:{قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ} .

قلت: ولا دلالة على كون الرسل الثلاثة رسلًا للمسيح عليه السلام ولا دلالة على كون القرية أنطاكية (1). والتعزز: القوة. كما قال مجاهد: {فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ} : قال شدّدنا). وفي رواية قال: (زدنا). وقرأها القراء بالتشديد {فَعَزَّزْنَا} ، سوى عاصم قرأها بالتخفيف {فَعَزَّزْنَا} أي غلبنا، والأول أظهر وعليه إجماع القراء.

وقوله: {فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ (14) قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا} . أي: تأكلون الطعام وتمشون في الأسواق. {وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ} : يأمر به أو ينهى عنه {إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ} بدعواكم الرسالة. فأجاب الرسل: {قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ (16) وَمَا عَلَيْنَا

(1) ذكر ابن كثير أن أنطاكية لم يعرف أنها أهلكت في النصرانية، بل هي أول مدينة آمنت بالمسيح.

قلت: فالعبرة بالحدث لا بالمكان، فهي قصة قوم كذبوا الرسل وأسرفوا على أنفسهم ومكروا لإسكات صوت الحق وأهله فدمرهم الله تدميرًا.

ص: 337

إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} الذي تقوم به الحجة عليكم، بأن الله واحد لا شريك له، فله أسلموا وإليه توجهوا ولا تشركوا، وإليه فتحاكموا وللقائه فاستعدوا، فإنا لله وإنا إليه راجعون.

فهذه عادة الأمم المكذبة يستعجبون إذا أوحى الله إلى بشر فينصرفون عن الحقيقة إلى الخرافة والأوهام، بأنه لو كنتم رسلًا لكنتم ملائكة، كما قال تعالى:{ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} . فأكّد لهم الرسل بأنهم مرسلون من عند الله، ولو كنا كذبة لانتقم الله منا. قال ابن كثير:(ولكن سينصرنا عليكم فما علينا إلا إبلاغكم ما أرسلنا به إليكم، فإن أطعتم فلكم سعادة الدارين وإن عصيتم فعليكم مغبة ذلك).

وقوله: {قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ} . قال ابن جرير: (يعنون إنا تشاءمنا بكم فإن أصابنا بلاء فمن أجلكم).

وقوله: {لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ} . قال قتادة: (بالحجارة). وقيل: لنشتمنكم. وقيل: هو التعذيب المؤلم. وقيل: هو التعذيب المؤلم قبل القتل كالسلخ والقطع والصلب. قال القرطبي: (وعامة ما في القرآن من الرجم معناه القتل).

وقوله: {وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ} . قال قتادة: (ولينالنكم منا عذاب موجع). فأجابهم الرسل: {قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ} . قال وهب بن منبه: (قالت الرسل: {طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ} أي أعمالكم معكم). وقال ابن عباس: (معناه الأرزاق والأقدار تتبعكم).

فالمعنى: أجاب الرسل القوم المتشائمين ببلاغهم: بأن أعمالكم وأرزاقكم وحظكم من الخير والشر معكم ولازم في أعناقكم، وما هو من شؤمنا، فإن أصابكم سوء فبما اجترحت جوارحكم، وبما استذلكم الشيطان باتباع أهوائكم وشهواتكم وتحكيم نفوسكم، وكل ما أصابكم فهو أمر قد كتب عليكم وسبق لكم من الله.

وقوله: {أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ} . قال قتادة: (أي إن ذكرناكم بالله تطيرتم بنا). وقوله: {بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ} . قال يحيى بن سلاّم: (مسرفون في كفركم). وقال قتادة: (مسرفون في تطيركم). وقال ابن بحر: (السرف هاهنا الفساد، ومعناه بل أنتم قوم مفسدون). وقيل: (مسرفون: مشركون، والإسراف مجاوزة الحد، والمشرك يجاوز الحدّ) ذكره القرطبي.

ص: 338

وقال ابن كثير: (أمن أجل أن ذكّرناكم بالحق قابلتمونا بالتهديد والوعيد؟ بل أنتم قوم مسرفون). وقال ابن جرير: (قالوا لهم: ما بكم التطير بنا ولكنكم قوم أهل معاص لله وآثام قد غلبت عليكم الذنوب والآثام).

وخلاصة المعنى: أن الرسل بلغوهم الحق الذي ثقل على نفوسهم، وخافوا منه على مصالحهم ورياساتهم وأهوائهم وشهواتهم، فقابلوهم بالاشمئزاز والتشاؤم والتكذيب والتهديد والوعيد، فكشف لهم الرسل حقيقة الأمر بأنهم لجؤوا إلى التشاؤم بهم ليغطوا حبهم للمعاصي والآثام، وتعلق قلوبهم بالكبر وحب الرياسة والطغيان.

ثم قال جل ثناؤه: {وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَاقَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20) اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ} .

قال قتادة: (ذكر لنا أن اسمه حبيب، وكان في غار يعبد ربه، فلما سمع بهم أقبل إليهم، قال: لما انتهى إليهم يعني إلى الرسل قال: هل تسألون على هذا من أجر؟ قالوا: لا، فقال عند ذلك: {قَالَ يَاقَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20) اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ}). وعن أبي مُجَلِّز قال: (كان صاحب يس حبيب بن مري). وقيل: كان نجارًا. وقيل: قصّارًا.

وقال ابن إسحاق فيما بلغه عن ابن عباس رضي الله عنهما: (أن أهل القرية همّوا بقتل رسلهم فجاءهم رجل من أقصى المدينة ساعيًا لينصرهم من قومه: {قَالَ يَاقَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ}).

ثم قال: {اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا} أي على إبلاغكم رسالة الله. {وَهُمْ مُهْتَدُونَ} فيما يدعونكم إليه من عبادة الله وحده لا شريك له. {وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي} : أي ما يمنعني من إخلاص العبادة للذي خلقني وحده لا شريك له. {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} أي يوم المعاد ليجزي كلًا بعمله. {أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ} : استفهام إنكار وتوبيخ وتقريع. {إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنْقِذُونِ} . أي هذه الآلهة التي تعبدونها لا يملكون من الأمر شيئًا، فلو أرادني الله تعالى بسوء لا تستطيع هذه الآلهة إنقاذي {إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} أي إن اتخذتها آلهة من دون الله تعالى.

ثم خاطب الرسل بقوله: {إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ} الذي أرسلكم {فَاسْمَعُونِ} أي اسمعوا ما أقول لتشهدوا لي بذلك. قال ابن إسحاق: قال ابن مسعود: (خاطب الرسل بأنه مؤمن بالله ربهم. قال: وطِئوه بأرجلهم حتى خرج قُصْبَه من دبره وألقي في بئر وهي

ص: 339

الرسّ وهم أصحاب الرسّ) (1). والقصب: المعي.

وذكر ابن جرير عن قتادة: (هذا رجل دعا قومه إلى الله وأبدى لهم النصيحة فقتلوه على ذلك، وذُكِرَ لنا أنهم كانوا يرجمونه بالحجارة وهو يقول: اللهم اهد قومي، اللهم اهد قومي، اللهم اهد قومي، حتى أقْعصوه وهو كذلك. قال: أدخله الله الجنة وهو فيها حيّ يرزق).

وقيل: معنى قيله: {ادْخُلِ الْجَنَّةَ} وجبت لك الجنة، فهو خبر بأنه قد استحق دخول الجنة، لأن دخولها يستحق بعد البعث. قال مجاهد:(قيل: قد وجبت له الجنة، قال ذلك حين رأى الثواب).

وعن ابن إسحاق عن بعض أصحابه أنَّ عبد الله بن مسعود كان يقول: (قال الله له: ادخل الجنة، فدخلها حيًّا يُرزق فيها قد أذهب الله عنه سقم الدنيا وحزنها ونصبها، فلما أفضى إلى رحمة الله وجنته وكرامته: {قَالَ يَالَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26) بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ}).

قال ابن عباس: (نصح قومه في حياته بقوله: {يَاقَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ} وبعد مماته في قوله: {قَالَ يَالَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26) بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ}). قال: (نصح قومه حيًا وميتًا). وقال أبو مجلز: ({بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي}: إيماني بربي وتصديقي رسله والله أعلم).

وخلاصة المعنى: أنه كان مخلصًا لله في دعوته، دافع عن الحق وعن رسل الحق، وضحّى بنفسه من أجل الحق الذي هدّد رؤوس الكبر والكفر في قومه، فوثبوا عليه فقتلوه ليخلدوا إلى دنياهم دون منافس لهم، وليستعبدوا الناس دون صارف لهم عنهم، فأثابه الله حسن أثر في الدنيا ونعيم في الآخرة، ووصف الله حاله في نعيمه على لسانه بنفسه، فقال:{يَالَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26) بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ} . قال ابن كثير: (أي: أنهم لو اطلعوا على ما حصل لي من النعيم المقيم والثواب العظيم، لقادهم ذلك إلى اتباع الرسل، فرحمه الله ورضي عنه كم كان حريصًا على هداية قومه).

وقال القرطبي: (وفي معنى تمنيه قولان: أحدهما أنه تمنى أن يعلموا بحاله ليعلموا حسن مآله وحميد عاقبته. الثاني: تمنى ذلك ليؤمنوا مثل إيمانه فيصيروا إلى مثل

(1) قلت: والله تعالى أعلم بمثل هذه التفاصيل من الخبر.

ص: 340

حاله). فرحمه الله تعالى فقد تمنى الخير لقتلته والباغين له الغوائل، ولكن الله سبحانه انتقم ممن قتله فجعل النقمة عليهم، فأمر جبريل فصاح بهم صيحة فماتوا عن آخرهم، كما قال جل ثناؤه:

{وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنْزِلِينَ} .

أي ما أنزل الله عليهم رسالة ولابعث لهم نبيًا، كما قال مجاهد في قوله:{جُنْدٍ مِنَ السَّمَاءِ} قال: (رسالة). وقال قتادة: (فلا والله ما عاتب الله قومه بعد قتله. {إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ}).

وقال الحسن: (أي ما أنزلنا عليهم من رسالة ولا نبي بعد قتله. قال: الجند: الملائكة النازلون بالوحي على الأنبياء). واختار ابن جرير أن الجند الملائكة.

وقيل: الجند العساكر، كما ذكر ابن إسحاق عن ابن مسعود قال:(غضب الله له، يعني لهذا المؤمن، لاستضعافهم إياه غضبة لم تبق من القوم شيئًا فعخل لهم النقمة بما استحلوا منه وقال: {وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنْزِلِينَ}. يقول: ما كاثرناهم بالجموع، أي الأمر أيسر علينا من ذلك: {إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ}). وقال قتادة: (خامدون: هلكى).

أي فإذا هم خامدون عن آخرهم لم تبق بهم روح تتردد في جسد، فبادوا عن وجه الأرض ولم تبق منهم باقية. فالله ما أهلكهم بجنده بل بصيحة واحدة فكانوا بها هالكين. وقراءة الجمهور بالفتح {صَيْحَةً} ، وقرأها أبو جعفر المدني {صَيْحَةً} بالرفع -فتكون كان بمعنى وقع- والقراءة الأولى أصح وعليها الإجماع.

(فائدة):

قوله: {وَمَا كُنَّا مُنْزِلِينَ} فيه تصغير لأمرهم وشأنهم، فقد أهلكناهم بصيحة فهلكوا، وأما ما حصل لنبيّنا محمد صلى الله عليه وسلم من التأييد بإنزال الملائكة يوم بدر والخندق -وكان يكفيهم مَلَكٌ واحد أو صيحة كما أُهلكت مدائن قوم لوط وبلاد ثمود وقوم صالح- فهو من أسباب الكرامة والإعزاز وعظائم الأمور التي اختص الله بها هذا النبي الكريم وأمته عليه الصلاة والسلام.

وقوله تعالى: {يَاحَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} .

قال قتادة: (يا حسرة العباد على أنفسها على ما ضَيَّعت من أمر الله وفرّطت في جنب الله. قال: وفي بعض القراءات: يا حسرة العباد على أنفسها}).

ص: 341

وفسّرها مجاهد بقوله: (كان حسرة عليهم استهزاؤهم بالرسل). قال ابن عباس: (حلّ هؤلاء محلّ من يتحسر عليهم).

والحسرة في لغة العرب: أن يلحق الإنسان من الندم ما يصير به حسيرًا. كما ذكر ابن عباس: {يَاحَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ} : يا ويلًا على العباد). وقيل: الحسرة أشد من التلهف على الشيء الفائت. ورجل مُحَسَّرٌ أي مؤذى. ومنه قول ابن كثير في هذه الآية: (يا حسرتهم على أنفسهم وندامتهم يوم القيامة إذا عاينوا العذاب كيف ضيّعوا أمر الله تعالى وفرطوا في جنبه، ولكن لا تنفعهم إذ ذاك الحسرات فسوف يلقون العذاب الأليم لأنهم: {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} أي يكذبونه ويسخرون منه ويجحدون ما أرسل به من الحق).

وذُكر عن أبي العالية أن العباد هاهنا الرسل، وذلك أن الكفار لما عاينوا العذاب قالوا:{يَاحَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ} فتحسروا على قتلهم وترك الإيمان بهم. وروي عن الضحاك بأنها حسرة الملائكة على الكفار حين كذبوا الرسل. وقيل: هو من قول الرجل المؤمن الذي قتلوه. وقيل: من قول الرسل الثلاثة للقوم حين قتلوا الرجل، وقيل: هو من قول القوم لما قتلوا الرجل وفارقتهم الرسل. ذكرها القرطبي.

قلت: وخلاصة المعنى: (الحسرة والويل والندم حاصل لا محالة لكل من استهزأ بالحق وآثر عليه الحياة الدنيا وزينتها، وكذب الرسل وعظّم الشهوات، وضيَّع أوامر الله والحكم بمنهجه، فسوف يلقون غيًا).

وقوله تعالى: {أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لَا يَرْجِعُونَ} .

قال قتادة: (عاد وثمود وقرون بين ذلك كثير).

أي: ألم يتعظ هؤلاء المشركون بمن أهلك الله قبلهم من المكذبين للرسل هل كان لهم رجعة إلى الدنيا أو كرّة.

و{كَمْ} في موضع نصب بـ {يَرَوْا} كما ذهب الفراء، محتجًا بقراءة لابن مسعود:{ألم يروا من أهلكنا} . وذكر وجهًا آخر للنصب -بوقوع {أَهْلَكْنَا} عليها- وكأن المعنى: ألم يروا كم أهلكنا قبلهم من القرون بالعذاب والاستئصال. وفتحت {أَنَّهُمْ} بوقوع {يَرَوْا} عليها. وروي عن الحسن قراءة أخرى بالكسر {إِنهم إلينا لا يرجعون} بكسر الهمزة على الاستئناف.

قلت: والآية ردٌّ على من زعم أن من الخلق من يرجع بعد موته قبل يوم القيامة. قال

ص: 342

النسفي في التفسير: ({أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لَا يَرْجِعُونَ} بدل من {كَمْ أَهْلَكْنَا} على المعنى لا على اللفظ، تقديره ألم يروا كثرة إهلاكنا القرون من قبلهم كونهم غير راجعين إليهم).

وقوله: {وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ (3)} . قال قتادة: (أي هم يوم القيامة).

فالمقصود: حضورهم يوم القيامة للجزاء والحساب.

والقراءة بالتشديد: {وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا} من قراءة عاصم وحمزة وعامة قراء الكوفة. ووجهه: {ن كل لمما} ثم حذفت إحدى الميمات لما كثرت. وقيل: {لَّمَّا} بمعنى: إلا. وقرأها الباقون من قراء المدينة والبصرة بالتخفيف {لمَا} أي (ما) أدخلت عليها اللام التي تدخل جوابًا لإن. والتقدير: وإن كل لجميع لدينا محضرون. وهما قراءتان مشهورتان.

والخلاصة في المعنى: أنّ جميع الأمم والخلق قادمون يوم القيامة، قائمون في صفوف بين يدي خالقهم عز وجل، ثم هم نائلون جزاءهم، صائرون إلى مصائرهم وما كسبت أيديهم، فنسأل الله السلامة في الدنيا والآخرة.

33 -

47. قوله تعالى: {وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ (33) وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ (34) لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلَا يَشْكُرُونَ (35) سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ (36) وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ (37) وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (38) وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (39) لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (40) وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (41) وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ (42) وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلَا صَرِيخَ لَهُمْ وَلَا هُمْ يُنْقَذُونَ (43) إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ (44) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (45) وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (46) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ

ص: 343

آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (47)}.

في هذه الآيات: يقول الله جل ثناؤه لنبيّه صلى الله عليه وسلم: إنه من عظيم الدلالة لهؤلاء المشركين من قومك على قدرة الله سبحانه على إعادة الموتى بعد فنائهم وبعثهم من مرقدهم لمحشرهم هو إحياؤه الأرض الميتة التي خوت من العطاء، بالغيث والقطر فيجعل منها جنات وبساتين وثمارًا من نخيل وأعناب، ويفجر فيها الينابيع والعيون، ليأكلوا من تلك الثمار التي غرسوها أو لم يغرسوها وإنما أنبتها الله ولا جهد بذلك بذلوه لعلهم يشكرون، فتعالى الله الذي خلق من كل شيء زوجين من البشر والنبات والحيوان ومما لا يعلمون. ثم دليل آخر على قدرته على البعث والنشور سبحانه، هو ما يعاقبه من النهار والظلمة، فينسلخُ الليل من النهار والنهار من الليل، وتجري الشمس إلى مقادير مواضعها، وتسجد كل يوم بين يدي ربها الذي قدّر حركتها وحركة القمر الذي يسير في نظام، ويتقلب في منازل، فلا الشمس تصطدم بالقمر، ولا ضوء الشمس يشبه ضوء القمر، ولا الأوقات كلها ليل أو كلها نهار، بل كل يجري في مجرى ومدار، يسبحون الواحد القهار. ثم دلالة ثالثة على قدرته سبحانه أنّه نجّى -من الغرق- مع نوح من اختار تفضلًا، وجعل لهؤلاء المشركين من المراكب مثل تلك السفن يركبونها، ويجحدون تلك النعم تجاهلًا، ولو شئنا لقابلناهم ذلك الجحد بالغرق فهلكوا تقتلًا، ولكن أمهلناهم وأجلناهم علهم يعودون إلى الله تبتلًا، ولكن هيهات فقد قست قلوبهم، فإذا ذُكِّروا بمن هلك قبلهم من الأمم بالمعاصي تكبرًا وسئلوا التوبة مما مضى من الذنوب أو مما هو قادم لاستمرارهم على طريق الفتنة تجبّرًا، أعرضوا، ولو سئلوا الإنفاق استهزؤوا واحتجوا بقدرة الله على الإطعام وبمشيئته تسترًا.

وتفصيل ذلك:

قوله تعالى: {وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ} .

تنبيه من الله تعالى للمشركين على كمال قدرته وعظيم آياته. فهو الذي يحيي الأرض الميتة بالنبات والحب. قال ابن جرير: (يقول تعالى ذكره: ودلالة لهؤلاء المشركين على قدرة الله على ما يشاء وعلى إحيائه من مات من خلقه وإعادته بعد فنائه كهيئته قبل مماته إحياؤه الأرض الميتة التي لا نبت فيها ولا زرع بالغيث الذي ينزله من السماء حتى يخرج زرعها، ثم إخراجه منها الحب الذي هو قوت لهم وغذاء فمنه يأكلون). أي به يتغذون.

ص: 344

وقوله تعالى: {وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ} .

أي جعلنا من الأرض الميتة بعد بث الحَياة فيها بساتين من نخيل وأعناب، وخصصهما بالذكر لأنهما أعلى الثمار، ولمملك فيها من الينابيع وعيون الماء وما تفجر فيها من مياه الأمطار. {لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ}: الهاء تعود على ماء العيون، فقد اندرج الثمر منه. وقيل: بل التقدير: ليأكلوا من ثمر ما ذكرنا، كقوله تعالى:{وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ} . قال النسفي: (والضمير لله تعالى، أي لتأكلوا مما خلقه الله من الثمر).

وقوله: {وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ} . قال ابن كثير: (أي غرسوه ونصبوه، وإلا ففي الحقيقة ما كان إلا رحمة الله بهم لا بسعيهم وكدّهم ولا بحولهم وقوتهم).

- وقيل "ما" في محل جر عطفًا على الثمر. والتقدير: ومِنَ الذي عملت أيديهم مما غرسوا وزرعوا. أو التقدير: (ومما عملته أيديهم) وقد روي ذلك بقراءة عبد الله.

- وقيل "ما" بمعنى المصدر. والتقدير: (ومِنْ عمل أيديهم).

- وقيل "ما" نافية لا محل لها. والتقدير: (ولم تعمله أيديهم). أي من الزرع الذي أنبته الله لهم أو غرسوه بتوفيق الله لهم، لكن هو الذي أنبته لهم وجعل منه ثمرًا ورزقًا، فلا مقارنة بين العملين، والكل من عون الله وتوفيقه.

وذكر القرطبي رحمه الله معنى جميلًا آخر قال: (وقال غيرهم: المعنى: وَمِنَ الذي عملته أيديهم أي من الثمار، ومن أصناف الحلاوات والأطعمة ومما اتخذوا من الحبوب بعلاج كالخبز والدهن المستخرج من السمسم والزيتون).

وقال النسفي: (أي مما عملته أيديهم من الغرس والسقي والتلقيح وغير ذلك من الأعمال إلى أن يبلغ الثمر منتهاه، يعني أن الثمر في نفسه فعل الله وخلقه وفيه آثار من كدّ بني آدم).

قلت: وكل ما ذُكِرَ من المعاني داخل في هذا الكلام الإلهي المعجز، وهذا البيان الرائع، وفي الآية إشارة إلى العمل وفضل تكسب الإنسان بيده. كما روى الإمام أحمد والطبراني عن رافع بن خديج، قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي الكسب أطيب؟ قال:

ص: 345

[أطيب الكسب عمل الرجل بيده، وكل بيع مبرور](1).

ثم قال سبحانه: {أَفَلَا يَشْكُرُونَ} . أي: أفلا يشكرون نعمه سبحانه وهلّا يحمدونه، فكل ما سبق ذكره من الآلاء والنعم تحمل المؤمن على شكر الله، فما من نعمة إلا من الله العلي العظيم، والفضل منه فهو المنعم الكريم.

ثم قال سبحانه: {سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ} .

قال ابن جرير: (يقول: وخلق من أولادهم ذكورًا وإناثًا، ومما لايعلمون أيضًا من الأشياء التي لم يطلعهم عليها خَلَقَ كذلك أزواجًا، مما يضيف إليه هؤلاء المشركون ويصفونه به من الشركاء وغير ذلك).

فنزّه نفسه سبحانه عما يقوله الكفار الذين جحدوا أمره وعبدوا غيره بعدما عاينوا آثار قدرته وعاشوا نعمه، فيا عجبًا إذ لم ينزهوه سبحانه عما لا يليق به وهو الذي جعل من كل الأصناف أزواجًا. كما قال قتادة:(يعني الذكر والأنثى). وقال القرطبي: (والأزواج الأنواع والأصناف، فكل زوج صنف، لأنه مختلف في الألوان والطعوم والأشكال والصغر والكبر فاختلافها هو ازدواجها).

وقوله: {مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ} . أي: من النبات فهو أصناف. {وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ} : فقد خلق منهم ذكورًا وإناثًا. قال تعالى: {لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ (49) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ} [الشورى: 49 - 50]. وقال سبحانه: {وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى} [الليل: 3].

وقال تعالى: {وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا} [النبأ: 8].

وقوله: {وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ} . قال النسفي: (ومن أزواج لم يطلعهم الله عليها، ولا توصلوا إلى معرفتها، ففي الأودية والبحار أشياء لا يعلمها الناس).

وفي التنزيل: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء: 85].

فهناك أصناف من الخلق في البر والبحر والسماء والأرض ما زالت مجهولة للبشر، رغم وصولهم إلى القمر، وغرورهم بركوب الفضاء ورؤية الآفاق والعبر، لكن دون

(1) حديث صحيح. أخرجه أحمد والطبراني والحاكم من حديث رافع بن خديج مرفوعًا. انظر صحيح الترغيب (3/ 3)، وصحيح الجامع الصغير -حديث رقم- (1044).

ص: 346

أن تغير من مناهج حياتهم نحو تعظيم خالق الكون والبشر، فهل علموا أين يأجوج ومأجوج الذي أثبته الله في كتابه وكذلك نبيّه في السنن والسير، وهل عثروا في البحر على مُقام المسيح الدجال ذاك الأعور شيخ اليهود المُنْتَظر، فوجه الاستدلال بالآية أنه إذا انفرد بالخلق سبحانه فلا ينبغي أن يشرك به البشر.

وقوله: {وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ} .

السلخ في لغة العرب: القطع والنزع والكشط. يقال: سلخ جلد الشاة، ويقال: سلخت الشهر إذا أمْضَيْتَه وصرتَ في آخره. ويقال أيضا: انسلخ الشهر من سَنَتِه والرجل من ثيابه والحية من قِشْرها والنهار من الليل، فهي استعارة بمعنى الإخراج، فعبّر عن ذهاب الضوء وإقبال الظلمة بالسلخ من الشيء وظهور المسلوخ. فمن الدلالة على آياته العظيمة وقدرته سبحانه تعاقب الليل والنهار، والظلام والنور. كما قال تعالى:{يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا} .

فقوله: {نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ} يعني نقتطعه منه فيذهب ويقبل الليل، فإذا هم مظلمون داخلون في الظلام. والعرب تقول: أصبحنا إذا دخلنا في الصباح، وأظهرنا إذا دخلنا في الظهر، وأظلمنا إذا دخلنا في الظلام، وبنحوه أضحينا وأمسينا. فالسلخ يشبه قوله في الآية الأخرى:{وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا} أي خرج منها وتركها، وكذلك هنا انسلاخ الليل من النهار، فإذا هم في ظلمة بعد دخول الليل. فعن قتادة:(قوله: {وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ (37)} قال: يولج الليل في النهار، ويولج النهار في الليل).

والإيلاج هو زيادة ما نقص من ساعات هذا في ساعات الآخر، وليس ذلك السلخ، فالنهار يسلخ من الليل كله، وكذا الليل من النهار كله، فيقتطع منه فيذهب، كما في الصحيحين عن عمر رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[إذا أقبل الليل من هاهنا، وأدبر النهار من هاهنا، وغربت الشمس، فقد أفطر الصائم](1).

وقوله: {فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ} . قال القرطبي: (أي في ظلمة، لأن ضوء النهار يتداخل في الهواء فيضيء فإذا خرج منه أظلم).

ثم قال جل ثناؤه: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا} . ومستقرها تحت العرش حيث تسجد كل يوم، وتستأذن الله ربها بالخروج مرة أخرى.

(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (1954)، ومسلم (1100)، وأبو داود (2351)، وغيرهم.

ص: 347

ففي الصحيحين من حديث أبي ذر رضي الله عنه، قال:[قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين غربت الشمس: أين تذهب؟ قلت: الله ورسوله أعلم. قال: فإنها تذهب حتى تسجد تحت العرش فتستأذن فيؤذن لها، ويوشك أن تسجد ولا يقبل منها وتستأذن فلا يؤذن لها ويقال لها: ارجعي من حيث جئت، فتطلع من مغربها، فذلك قوله تعالى: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا} قال: مستقرها تحت العرش](1).

وفي لفظ للبخاري عنه قال: [كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد عند غروب الشمس فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أبا ذر! أتدري أين تغرب الشمس؟ قلت: الله ورسوله أعلم. قال: فإنها تذهب حتى تسجد تحت العرش فذلك قوله تعالى: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} .

وفي رواية أخرى عن أبي ذر قال: [كنت جالسًا عند النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد، فلما غربت الشمس قال: يا أبا ذر! هل تدري أين تذهب الشمس؟ قلت: الله ورسوله أعلم. قال: فإنها تذهب فتسجد بين يدي ربها ثم تستأذن بالرجوع فيؤذن لها وكأنها قد قيل لها ارجعي من حيث جئت، فتطلع من مكانها وذلك مستقرها].

- وقيل مستقرها هو انتهاء سيرها وهو غاية ارتفاعها في السماء في الصيف وهو أوجها، ثم غاية انخفاضها في الشتاء وهو الحضيض.

- وقيل: تجري لمجرى لها إلى مقادير مواضعها، فتجري لأبعد منازلها في الغروب ثم ترجع ولا تجاوزه. قيل: فلا تزال تتقدم كل ليلة حتى تنتهي إلى أبعد مغاربها ثم ترجع. فإذا بلغت أقصى منازلها فطلعت الهنعة كان ذلك اليوم أطول أيام السنة وتلك الليلة أقصر لياليها، فالنهار خمس عشرة ساعة والليل تسع ساعات، ثم يأخذ في النقصان، فإذا طلعت الثريا استوى الليل والنهار، وكل واحد ثنتا عشرة ساعة، ثم تبلغ أدنى منازلها وتطلع النعائم وذلك اليوم أقصر الأيام والليل خمس عشرة ساعة كما قال الحسن:(إن للشمس في السنة ثلاث مئة وستين مطلعًا، تنزل في كل يوم مطلعًا، ثم لا تنزله إلى الحول، فهي تجري في تلك المنازل وهي مستقرها). وقال قتادة: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا} قال: وقت واحد لا تعدوه).

(1) حديث صحيح. أخرجه أحمد والشيخان من حديث أبي ذر. انظر صحيح البخاري (3199)، (4803)، وصحيح مسلم (159)، ومسند أحمد (5/ 158)، وسنن الترمذي (2186)، وصحيح ابن حبان (6152) للألفاظ المختلفة والروايات بعده.

ص: 348

قلت: وكل هذه المعاني داخلة في بيان رسول الله صلى الله عليه وسلم السابق، كما قال ابن عباس:(إنها إذا غربت وانتهت إلى الموضع الذي لا تتجاوزه استقرت تحت العرش إلى أن تطلع). وكل ما سبق بيانه لا يعارض طلوعها من المغرب قُريب الساعة علامةً من علامات القيامة.

ففي صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:[إن أول الآيات خروجًا طلوع الشمس من مغريها، وخرُوج الدابة على الناس ضحًا، وأيهما ما كانت قبل صاحبتها فالأخرى على إثرها قريبًا](1).

وفي صحيح مسلم أيضًا عن أبي ذر: [أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يومًا: أتدرون أين تذهب هذه الشمس؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: إن هذه تجري حتى تنتهي إلى مستقرها تحت العرش، فتخر ساجدة فلا تزال كذلك حتى يقال لها: ارتفعي ارجعي من حيث جئتِ، فترجع فتصبح طالعة من مطلعها ثم تجري حتى تنتهي إلى مستقرها تحت العرش فتخرّ ساجدة ولا تزال كذلك حتى يقال لها ارتفعي ارجعي من حيث جئت، فترجع فتصبح طالعة من مطلعها، ثم تجري لا يستنكر الناس منها شيئًا حتى تنتهي إلى مستقرها ذاك تحت العرش فيقال لها: ارتفعي أصبحي طالعة من مغربك، فتصبح طالعة من مغربها. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أتدرون متى ذلكم؟ ذاك حين {لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا}](2).

فهذا معنى قوله: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا} . والتقدير: وآية لهم الشمس، أو تكون الشمس مرفوعة بفعل محذوف يفسره الثاني. كان يقال: وتطلع الشمس فتجري لمستقر لها، وقد تكون الشمس في محل رفع على الابتداء، وجملة {تَجْرِي} هي الخبر، والله تعالى أعلم.

وقوله: {ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} .

قال ابن جرير: (يقول: هذا الذي وصفناه من جري الشمس لمستقر لها تقدير العزيز في انتقامه من أعدائه، العليم بمصالح خلقه، وغير ذلك من الأشياء كلها لا يخفى عليه خافية).

(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم (8/ 202)، كتاب الفتن. وانظر مختصر صحيح مسلم (2053).

(2)

حديث صحيح. أخرجه مسلم (159)، كتاب الإيمان، باب بيان الزمن الذي لا يقبل فيه الإيمان.

ص: 349

وقوله: {وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ} .

التقدير: وقدرنا القمر منازل كما فعلنا بالشمس، وهي قراءة بعض قراء المدينة ومكة والبصرة وعامة قراء الكوفة. وقرأ بعض المكيين والمدنيين والبصريين بالضم {والقمرُ قدرناه منازل} عطفًا على الشمس، والتقدير ثانية: وآية لهم القمرُ قدرناه منازل، فالشمس والقمر آيتان عظيمتان.

والمعنى: وجعلنا القمر يسير في منازل يستدل بها على مُضِيّ الشهور والزمان، كما يعرف بالشمس تعاقب الليل من النهار، كما قال جل ذكره:{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} . وكقوله: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ} .

قال الحافظ ابن كثير: (فجعل الشمس لها ضوء يخصها، والقمر له نور يخصه، وفاوت بين سير هذه وهذا، فالشمس تطلع كل يوم وتغرب في آخره على ضوء واحد، ولكن تنتقل في مطالعها ومغاربها صيفًا وشتاءً يطول بسبب ذلك النهار ويقصر الليل، ثم يطول الليل ويقصر النهار، وجعل سلطانَها بالنهار، فهي كوكب نهاري، وأما القمر فقدره منازل يطلع في أول ليلة من الشهر ضئيلًا قليل النور، ثم يزداد نورًا في الليلة الثانية، ويرتفع منزله، ثم كلما ارتفع ازداد ضياءً، وإن كان مقتبسًا من الشمس حتى يتكامل نوره في الليلة الرابعة عشرة، ثم يشرع في النقص إلى آخر الشهر حتى يصير كالعرجون القديم، أي كعنق التمر اليابس المنحني).

وذكر الإمام القرطبي في التفسير أسماء هذه المنازل التي تعرفها العرب، قال:(والمنازل ثمانية وعشرون منزلًا، ينزل القمر كل ليلة منها بمنزل، وهي: الشَّرَطان. البطَيْن. الثريّا. الدَّبَران. الهَقْعَة. الهنعة. الذِّراع. النَّثرة. الطرْف. الجَبْهَة. الخراتان. إلصَّرْفة. العَوَّاء. السِّمَاك. الغَفْر. الزُّبَانيَان. الإكلِيل. القَلْب. الشَّوْلة. النَّعائِم. البَلدَّة. سَعْد الذّابح. سَعْد بُلع. سَعْد السَّعود. سَعْد الأخْبِية. الفَرْغ المُقَدَّم. الفَرْغ المؤخَّر. بطن الحوت. فإذا صار القمر في آخرها عاد إلى أولها فيقطع الفلك في ثمان وعشرين ليلة. ثم يستسر ثم يطلع هِلالًا، فيعود في قطع الفلك على المنازل، وهي منقسمة على البروج لكل برج منزلان وثلث فللحَمل الشَّرطَان والبُطين وثلث الثريا، وللثور ثلثا الثريا والدَّبران وثلثا الهَقْعة، ثم كذلك إلى سائرها).

وقد سمي القمر بالقمر لأنه يُقمر أي يبيَضُّ الجو ببياضه حين يسطع إلى أن يَسْتسِرّ.

ص: 350

فالقمر بحركته آية من آيات الرحمان قدّر له منازل للنقصان بعد تناهيه وتمامه واستوائه {حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ} .

قال أبو جعفر: (والعرجون من العذق من الموضع النابت في النخلة إلى موضع الشماريخ). والقديم هو اليابس. قال قتادة: (هو العِذْق اليابس المنحني من النخلة). فالقمر في سيره في منازله إذا كان في آخرها دقّ وتقوس وضاق حتى يصير في آخر الشهر كعنق التمر اليابس المنحني. قال الحسن: (كعذق النخلة إذا قدم فانحنى).

ثم إن هذه الآيات يعيشها كثير من الناس ولا يتدبرونها ولا يستفيدون منها في اقترابهم من الله سبحانه وعلمهم بصفاته وأسمائه جل ثناؤه، فهي آيات عظيمة يزداد المؤمن المتؤمل بها إيمانًا وتعظيمًا لخالق السماوات والأرض، فيزداد له طاعة وخوفًا وحبًا. فالسنة أربعة فصول، لكل فصل سبعة منازل: فأولها الربيع وأوله خمسة عشر يومًا من آذار، وعدد أيامه اثنان وتسعون يومًا، تقطع فيه الشمس ثلاثة بروج: الحَمَل والثور والجوزاء، وسبعة منازل: الشَّرطان والبُطين والثريا والدَّبران والهقعة والهنعة والذِّراع. ثم يدخل فصل الصيف في خمسة عشر يومًا من حزيران، وعدد أيامه اثنان وتسعون يومًا، تقطع الشمس فيه ثلاثة بروج: الشَّرطان والأسد والسُّنْبلة، وسبعة منازل: وهي النثرة والطَّرْف والجبهة والخَراتان والصّرفة والعوّاء والسِّماك. ثم يدخل فصل الخريف في خمسة عشر يومًا من أيلول، وعدد أيامه واحد وتسعون يومًا، تقطع فيه الشمس ثلاثة بروج، وهي الميزان والعقرب والقوس، وسبعة منازل الغُفر والزُّبانان والإكليل والقلب والشولة والنعائم والبلدة. ثم يدخل فصل الشتاء في خمسة عشر يومًا من كانون الأول، وعدد أيامه تسعون يومًا، وربما كان واحدًا وتسعين يومًا، تقطع فيه الشمس ثلاثة بروج: وهي الجدي والدّلو والحوت، وسبعة منازل: سعد الذابح وسعد بُلَع وسعد السّعود وسعد الأخبية، والفَرْغ المقدَّم، والفَرْغُ المؤخَّر، وبطن الحوت. كما ذكر المفسرون.

قال القرطبي رحمه الله: (وهذه قسمة السريانيين لشهورها: تشرين الأول، تشرين الثاني، كانون الأول، كانون الثاني، أشباط، آذار، نيسان، أيار، حزيران، تموز، آب، أيلول. وكلها أحد وثلاثون إلا تشرين الثاني ونيسان وحزيران وأيلول فهي ثلاثون، وأشباط ثمانية وعشرون يومًا وربع يوم. قال: فإذا كانت الشمس في منزل أهلّ الهلالُ بالمنزل الذي بعده، وكان الفجر بمنزلتين من قبله، فإذا كانت الشمس بالثريا في خمسة وعشرين يومًا من نيسان، كان الفجر بالشرطين، وأهلّ

ص: 351

الهلال بالدبران، ثم يكون له في كل ليلة منزلة حتى يقطع في ثمان وعشرين ليلة ثمانيًا وعشرين منزلة. وقد قطعت الشمس منزليتن فيقطعهما، ثم يطلع في المنزلة التي بعد منزلة الشمس فـ {ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} .

وقوله تعالى: {لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} .

قال ابن عباس: (يقول: إذا اجتمعا في السماء كان أحدهما بين يدي الآخر، فإذا غابا غاب أحدهما بين يدي الآخر).

وقال مجاهد: ({لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ}. قال: لا يشبه ضوء أحدهما ضوء الآخر، ولا ينبغي ذلك لهما. {وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ}، قال: يتطالبان حثيثين ينسلخ أحدهما من الآخر).

ولخّص ابن جرير المعنى بقوله: (لا الشمس يصلح لها إدراك القمر فيذهب ضوؤها بضوئه فتكون الأوقات كلها نهارًا لا ليل فيها، ولا الليل بفائت النهار حتى تذهب ظلمته بضيائه فتكون الأوقات كلها ليلًا).

والشمس مرفوعة على الابتداء، فإن (لا) لا تعمل في معرفة.

وهناك تفاسير أخرى لهذه الآية تزيد المعنى جلاء ووضوحًا:

1 -

قيل: الشمس لا تدرك القمر فتبطل معناه، فلكل سلطان لا يدخل الآخر عليه فيذهب سلطانه، حتى يبطل الله ذلك فتطلع الشمس من مغربها.

2 -

وقيل: بل المعنى: إذا طلعت الشمس لم يكن للقمر ضوء، وإذا طلع القمر لم يكن للشمس ضوء. ذكر معناه ابن عباس والضحاك.

3 -

وقيل: أي لا يشبه ضوء أحدهما ضوء الآخر، ذكره مجاهد.

4 -

وقيل: لكل حدّ وعَلَم لا يعدوه ولا يقصر دونه، إذا جاء سلطان هذا ذهب سلطان هذا. قاله قتادة.

5 -

وقيل: إنهما لا يجتمعان في السماء ليلة الهلال خاصة. ذكره الحسن. أي: لا تبقى الشمس حتى يطلع القمر، ولكن إذا غربت طلع القمر.

6 -

وقيل: سير القمر سريع، والشمس لا تدركه في السير، وأما قوله: {وَجُمِعَ

ص: 352

الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ} فهو من علامات القيامة، وذلك حين حَبْس الشمس عن الطلوع، كما تقدم.

والخلاصة من أقوال المفسرين: أن للشمس ضوءًا وسلطانًا وحركة، وللقمر ضوءًا وسلطانًا وحركة، فكل منهما يمضي في ما قدّر له في نظام عجيب، ودوران رهيب، صُنْعَ الله الذي أحسن كل شيء خلقه، فإليه توجهوا واحفِدوا إنه هو السميع القريب المجيب.

وقوله: {وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} .

قال ابن عباس: (في فلك كفلك المِغْزَل). وقال مجاهد: (مجرى كل واحد منهما يعني الليل والنهار في فلك يسبحون: يَجْرون). وقيل: يدورون. وقال الحسن: (الشمس والقمر والنجوم في فلك بين السماء والأرض غير ملصقة ولو كانت ملصقة ما جرت).

قال الحافظ ابن كثير: {وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} : يعني الليل والنهار والشمس والقمر، كلهم يسبحون أي يدورون في فلك السماء. كفلكة المغزل لا يدور المغزل إلاّ بها ولا تدور إلا به).

وقوله تعالى: {وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ} .

المعنى: فدليل لهم آخر على قدرته سبحانه، وعلامة أخرى لهم على هيمنته تعالى على الخلق جميعهم أحياءً كانوا أو أمواتًا، هو حمله سبحانه ذريتهم من نجا منهم برحمته في سفينة نوح. والفلك: السفينة، والمشحون: الموقر المملوء. قال ابن عباس: (المشحون: الممتلئ). أو قال: (المثقل). وقال سعيد: (الموقَر). وقال قتادة: (الموقر، يعني سفينة نوح).

قال شيخ المفسرين -الإمام ابن جرير-: (يعني من نجا من ولد آدم في سفينة نوح، وإياها عنى جل ثناؤه بالفلك المشحون. {وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ}. قال: وخلقنا لهؤلاء المشركين المكذبيك يا محمد تفضلًا منا عليهم من مثل ذلك الفلك الذي كنا حملنا من ذرية آدم مَنْ حملنا في الذي يركبونه من المراكب).

وقال القرطبي: (وآية لهم: يحتمل ثلاثة معان: أحدها عبرة لهم لأن في الآيات اعتبارًا. الثاني: نعمة عليهم لأن في الآيات إنعامًا. الثالث: إنذار لهم، لأن في الآيات إنذارًا. قال: فقيل المعنى: وآية لأهل مكة أنا حملنا ذرية القرون الماضية في الفلك

ص: 353

المشحون، فالضميران مختلفان. قال: وقيل الضميران جميعًا لأهل مكة على أن يكون ذرياتهم أولادهم وضعفاءهم. فالفلك على القول الأول سفينة نوح، وعلى الثاني يكون اسمًا للجنس، خبّر جل وعز بلطفه وامتنانه أنه خلق السفن يحمل فيها من يصعب عليه المشي والركوب من الذرية والضعفاء. قال: وقيل الذرية الآباء والأجداد حملهم الله تعالى في سفينة نوح عليه السلام، فالآباء ذرية والأبناء ذرية. قال: وسمي الآباء ذرية لأن منهم ذرأ الأبناء. قال: وقول رابع أن الذرية النطف حملها الله تعالى في بطون النساء تشبيهًا بالفلك المشحون).

وقوله تعالى: {وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ} .

قال سعيد بن جبير: (هي السفن جُعلت من بعد سفينة نوح عليه السلام على مثلها).

وقال الحسن: (السفن الصغار). وعن ابن عباس: (يعني الإبل خلقها الله كما رأيت فهي سفن البر يُحملون عليها ويركبونها). وقالي مجاهد: (من الأنعام). واختار ابن جرير أنها السفن لقوله تعالى بعدها: {وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلَا صَرِيخَ لَهُمْ} . قال: والغرق في الماء ولا غرق في البر. وذكر قول السدي عن أبي مالك: {وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ} ، قال السفن الصغار. ألا ترى أنه قال:{وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلَا صَرِيخَ لَهُمْ} . واختار ابن كثير أنها الإبل، قال:(فإنا سفن البر يحملون عليها ويركبونها والأنعام جميعًا).

قلت: وخلاصة التفسير أن الله سبحانه دلّهم على قدرته بدلالة أخرى، حيث سخّر لهم البحر تجري فيه السفن بإذنه، وأولها سفينة نوح عليه الصلاة والسلام، أنجاه الله فيها والمؤمنين الذين ما بقي غيرهم في الأرض من ذرية آدم، فلتعلم قريش بأنا قد حملنا آباءهم المؤمنين مع نوح في سفينة النجاة والإيمان والمملوءة بالأمتعة وأصناف الحيوان من كل زوج اثنين، فسارت إلى شاطئ الأمان، وها نحن خلقنا لهم سفنًا مثلها يركبون فيها البحر، تمضي بهم في تجاراتهم ورحلاتهم بأمن العزيز المنان، فليعتبروا وليؤمنوا بمحمد عليه الصلاة والسلام، وليعظموا ما جاءهم من الوحي قبل فوات الأوان، فقول:{مِنْ مِثْلِهِ} كما أفاد الضحاك: هي السفن المتخذة بعد سفينة نوح عليه الصلاة والسلام. ويمكن أن يدخل تحت ذلك أصنافًا أخرى شاهدها الناس اليوم للركوب هي مما فتح الله به على الإنسان وعفمه: من صناعة السيارات والطائرات والمراكب الآلية البرية والبحرية، وكثيرًا ما يُسمع اليوم عن سقوط الطائرات في البحر وغرق بعض المراكب والعبّارات بمن فيها، ليعلم الناس أن كل حركة لدابة في الأرض هي بحفظ الله ورعايته ولو شاء كان الغرق أو الهلاك، وهذا يدعوهم ليفردوا الله

ص: 354

بالِتعظيم والعبادة في كل وقت وحين، وأن يكونوا من أهل:{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} .

وقوله تعالى: {وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلَا صَرِيخَ لَهُمْ وَلَا هُمْ يُنْقَذُونَ} .

أي: لا مغيث لهم إذا نحن غزقناهم، ولا منعة لهم من بأسنا. فعن قتادة فيها قال:(أي لا مغيث). و {صَرِيخَ} على وزن فعيل بمعنى فاعل. أي: فلا مُصْرِخ ولا مغيث، ولا هم ينقذون من الغرق.

وقوله: {إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا} . قيل: رحمةً منصوبة على الاستثناء. وقيل: بل هي مفعول لأجله، والتقدير: للرحمة.

وقوله: {وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ} . قال قتادة: (أي إلى الموت). أي لنمتعهم إلى أجل هم بالغوه. قال ابن جرير: (فكأنه قال: ولا هم ينقذون إلا أن نرحمهم فنمتعهم إلى أجل). وعن يحيى بن سلاّم قال: (إلى القيامة. أي إلا أن نرحمهم ونمتعهم إلى آجالهم، وأن الله عجل عذاب الأمم السالفة، وأخّر عذاب أمة محمد صلى الله عليه وسلم وإن كذبوه إلى الموت والقيامة).

ونصب قوله: {وَمَتَاعًا} لأنه معطوف على قوله: {رَحْمَةً} منصوب مثله.

وقوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} - فيه أكثر من تأويل:

1 -

قال قتادة: (وقائع الله فيمن خلا قبلهم من الأمم وما خلفهم من أمر الساعة).

2 -

قال مجاهد: ({مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ} قال: ما مضى من ذنوبهم. {وَمَا خَلْفَكُمْ} قال: ما يأتي من الذنوب).

3 -

قال الحسن: ({مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ}: ما مضى من أجلكم. {وَمَا خَلْفَكُمْ} ما بقي منه).

4 -

قال سفيان: ({مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ} من الدنيا. {وَمَا خَلْفَكُمْ} من عذاب الآخرة).

5 -

قال ابن عباس: ({مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ} من أمر الآخرة وما عملوا لها. {وَمَا خَلْفَكُمْ} من أمر الدنيا فاحذروها ولا تغتروا بها).

وقيل: {مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ} : ما ظهر لكم، {وَمَا خَلْفَكُمْ} ما خفي محنكم).

وكلها أقوال متقاربة متكاملة، والجواب محذوف، والتقدير: إذا قيل لهم ذلك

ص: 355

أعرضوا. ويدل على ذلك قوله تعالى بعده: {وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ} .

وجملة القول: أن الله سبحانه يعرفهم نِعَمَهُ عليهم ويذكرهم قوته وغضبه إذا حلّ بهم، فلو شاء أغرقهم كما فعل بمن كفر من أسلافهم، ولو شاء متّعهم إلى آجال عسى أن يتداركوا أمرهم، أو يوم القيامة يفضحهم ويعذبهم. ثم هو سبحانه يذكرهم مصائر الأمم والوقائع والآجال، وما مضى من الدنيا وما يستقبلهم من الآخرة، وحقائق القدر كالموت والقبر، ومحاولات الشيطان إفساد آخرتهم عليهم، ومغبّة اتباع الشهوات، ولكن هيهات فقد صُرِفت القلوب عن أمر بارئها، وأعرضت النفوس عن تعظيم ربها، فهي تدفع ثمن إهمال الرياء يعمر القلوب والكبر والغرور، والأمراض التي ترتع في حياتها.

وقوله تعالى: {وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ} .

قال ابن جرير: (معنى الكلام: وإذا قيل لهم اتقوا ما بين أيديكم وما خلفكم أعرضوا وإذا أتتهم آية أعرضوا).

فيكون قوله: {إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ} جوابًا لقوله: {اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ} ولقوله: {وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ} ، فكان الإعراض جوابهم عن الأمرين.

وقوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} .

يصف فيه سبحانه صورة قسوة قلوب هؤلاء المشركين، وما وصلت إليه من آثار الكبر واتباع الشهوات، فهي لم تعد تصغي لرحمة المحتاجين والمساكين، فقد غلّفها العناد والكبر وحب الرياسة واستعباد الضعفاء وظلم الأبرياء، فحين ذكرهم المؤمنون بإطعام المحاويج والفقراء من المسلمين احتجوا بمشيئة الله استهزاء فقالوا: إنما نحن نوافق مشيئة الله فيهم، إن أنتم إلا في ضلال مبين في أمركم لنا بالإنفاق، فحرموهم وقالوا: لو شاء الله أطعمكم فلا نطعمكم حتى ترجعوا إلى ديننا. وقد كان بلغهم من قول المسلمين أن الله هو الرازق، فقالوا هزوًا: أنرزق من لو يشاء الله أغناه. وكانوا يسمعون المؤمنين يُعَلِّقُونَ الأفعال بمشيئة الله، فيقولون لو شاء الله لأغنى فلانًا ولأعز فلانًا، فأخرج الكفار هذا الجواب مخرج الاستهزاء بالمؤمنين، أي إذا كان الله رزقنا فهو قادر على أن يرزقكم فلم تلتمسون الرزق منا؟ .

ص: 356

قال ابن عباس: (كان بمكة زنادقة، فإذا أُمِروا بالصدقة على المساكين قالوا: لا والله أيفقره الله ونطعمه نحن).

وقال الحسن: (يعني اليهود أُمِروا بإطعام الفقراء).

وقيل: هم المشركون، قال لهم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: أعطونا مما زعمتم من أموالكم أنها لله حيث قال الله فيهم: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا} .

وخلاصة القول: أنهم احتجوا بالقدر احتجاجًا باطلًا، شأن أهل الدنيا في كل زمان ومكان، يفرون من الله إلى معاصيهم وشهواتهم معلقين ذلك بقدر الله الذي كفروا به من قبل، فبئس ما كانوا يصنعون.

وفي قوله: {إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} وجهان من التأويل:

1 -

إما هو من قيل الكفار للمؤمنين.

2 -

أو هو من قيل الله للمشركين.

والوجه الأول أولى بالسياق، واختاره ابن جرير وغيره، والله تعالى أعلم.

48 -

70. قوله تعالى: {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (48) مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ (49) فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلَا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ (50) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ (51) قَالُوا يَاوَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ (52) إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ (53) فَالْيَوْمَ لَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَلَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (54) إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ (55) هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ (56) لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ (57) سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ (58) وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ (59) أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَابَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (60) وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (61) وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ (62) هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (63)

ص: 357

اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (64) الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (65) وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ (66) وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيًّا وَلَا يَرْجِعُونَ (67) وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلَا يَعْقِلُونَ (68) وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ (69) لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ (70)}.

في هذه الآيات: يخبر الله سبحانه عن استهزاء المشركين بأمر البعث والقيامة، واستبعادهم بعقولهم القاصرة تخيل حصول ذلك. فكيف بهم يا محمد إذا سمعوا نفخة الفزع في الصور والناس في أسواقهم وطرقهم ومجالسهم وهم يتشاجرون ويتخاصمون في معايشهم وعلاقاتهم، فينفخ إسرافيل بأمر الله تلك النفخة في الصور نفخة يمدها ويطولها فلا يبقى أحد على وجه الأرض إلا أصغى ليساق بعدها الناس إلى محشر القيامة، فلا يستطيعون أن يتركوا وصية على أموالهم وذراريهم، فالأمر أدهى من ذلك وأشد، ولا هم يرجعون إلى معايشهم ودنياهم وأعمالهم وأسواقهم، فهذه هي نفخة الفزع كما قال جل ثناؤه:{وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ} . ثم تكون بعدها نفخة الصعق حيث تموت فيها الخلائق، ثم بعدها نفخة البعث كما قال جل ذكره:{وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ} . فالنفخة الثانية هي نفخة الصعق والموت، والنفخة الثالثة هي نفخة البعث إلى الحشر والنشور والقيام من الأجداث والقبور سراعًا ينسلون أي يمشون مسرعين، فإذا عاينوا ذلك قالوا متحسرين: يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا ومن قبورنا؟ فقد أَشْقَوا أنفسهم وعقولهم بالظن أنهم لا يبعثون، فلما عاينوا البعث فزعوا وعلموا أن القبر وعذابه بالنسبة لما بعده مما يبصرون من الأهوال كالرقاد، فيجيبهم المؤمنون أو الملائكة: هذا ما وعد الرحمان وصدق المرسلون، فإذا هم بصيحة واحدة محضرون في عرصات المحشر لم يجازوا إلا بما عملوا ولا يظلمون. فأما المؤمنون فيرحلون من العرصات إلى الروضات في الجنات، فينشغلون بنعيمها، وحلائلهم معهم في الظلال وعلى السرر متكئون، يطعمون الفاكهة وأنواع الملاذ ويحييهم الله بالسلام. في حين تميز حال الكفار والمشركين وقد ذَكَّرَهُم

ص: 358

الله بعهده وميثاقه عليهم ألا يعبدوا الشيطان فهو العدو لهم، وأن يفردوه سبحانه بالعبادة والتوجه فهو الرحيم بهم. وكم أهلك الله أممًا مشت وراء شيطانها وشهواتها وضيعت أوامر ربها واستهزأت بدينها، فهذه جهنم يعاني فيها اليوم المتكبرون والمجرمون، فاليوم تنطق الأيدي وتشهد الأرجل ويختم على الأفواه، فتحدّث الجوارح عن صاحبها ما اجترح من آثام وموبقات، وما استخدمها في الكيد والمكر من المؤمنين بالله ومنهاجه. فقل يا محمد لهؤلاء المشركين من قومك: لو شاء الله ما عاقبكم فأضلكم على علم وأعماكم عن الهدى فلا تؤمنون حتى تروا العذاب الأليم، ولو شاء لأقعدكم وشلّ حركتكم أو أهلككم في مساكنكم فلا تتقدمون. فمن مدّ الله له في العمر أعاده ضعيفًا بعد قوة ليتواضع إلى الله أحوج ما يحتاج إلى ذلك مع اقتراب الأجل أفلا تعقلون. وهذا النبي الكريم -عليه أفضل الصلاة والتسليم- ما جاءكم بالشعر وصناعة الكلام بل بالقرآن والحق المبين نذارة لكم ولكل حي القلب سليم العقل، وليقيم الله الحجة به على الكافرين، فيحاكمهم له في أعمالهم وما اجترحت جوارحهم فيذوقوا العذاب الأليم.

وتفصيل ذلك:

قوله تعالى: {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} . هو كقوله جل ثناؤه: {يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلَا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ} [الشورى: 18].

وكقوله جل ذكره: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [الأعراف: 187].

وكقوله سبحانه: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتًا أَوْ نَهَارًا مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ (50) أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ} [يونس: 50 - 51].

فلما قيل لهم: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ} . أجابوا مستهزئين: مَتَى هَذَا أتوَعْدُ {مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} .

فقال الله تعالى: {مَا يَنْظُرُونَ} أي ما ينتظرون {إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً} وهي نفخة الفزع.

فالنفخ في الصور ثلاث:

1 -

النفخة الأولى: وهي نفخة الفزع. كما قال جل ثناؤه في سورة النمل: {وَيَوْمَ

ص: 359

يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ}.

2 -

النفخة الثانية: وهي نفخة الصعق. كما قال سبحانه في سورة الزمر: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ} . قال السدي: (أي مات. {إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} قال جبريل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت).

3 -

النفخة الثالثة: وهي نفخة القيام لرب العالمين. كما قال سبحانه في آية الزمر: {ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ} . قال ابن كثير: (أي أحياء بعدما كانوا عظامًا ورفاتًا صاروا أحياء ينظرون إلى أهوال يوم القيامة).

فما ينتظر هؤلاء المكذبون إلا نفخة الفزع والناس يومئذ في أسواقهم ومعايشهم يختصمون ويتشاجرون في مثل عادتهم إذ أمر الله إسرافيل فنفخ في الصور نفخة يمدها ويطولها، فلا يسمعه أحد إلا أصغى ليتًا ورفع ليتًا -أي أمال صفحة عنقه ينصت إلى الصوت من قبل السماء- ثم يساق الموجودون من الناس إلى أرض المحشر، فلا وقت لديهم للوصية ولا رجعة إلى الأسواق والمشاغل. ثم تُتْبع هذه النفخة بنفخة الصعق التي يموت بها المخاليق ثم يقوم الناس لرب العالمين بعد سماع نفخة البعث والقيام.

أخرج الإمام مسلم في صحيحه عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [يخرج الدجال في أمتي فيمكث فيهم أربعين لا أدري أربعين يومًا أو أربعين شهرًا أو أربعين عامًا أو أربعين ليلة، فيبعث الله تعالى عيسى بن مريم عليهما الصلاة والسلام كأنه عروة بن مسعود الثقفي، فيظهر فيهلكه الله تعالى. وفي رواية:(فيطلبُه فيهلكه). ثم يلبث الناس بعده سنين سبعًا ليس بين اثنين عداوة، ثم يرسل الله تعالى ريحًا باردة من قبل الشام، فلا يبقى أحد في قلبه مثقال ذرة من إيمان إلا قبضته، حتى لو أن أحدكم دخل في كبد جبل لدخلت عليه. ويبقى شرار الناس في خفة الطير (1) وأحلام السباع (2) لا يعرفون معروفًا ولا ينكرون منكرًا. قال: فيتمثل لهم الشيطان فيقول: ألا تستجيبون! فيأمرهم بعبادة الأوثان، فيعبدونها، وهم في ذلك دارّة أرزاقهم حسن عيشهم، ثم ينفخ في الصور فلا يسمعه أحد إلا أصغى ليتًا ورفع ليتًا، وأول من يسمعه رجل يلوط حوضه -أي يطينه ويصلحه- فيصعق، ثم لا يبقى أحد إلا صعق، ثم يرسل الله تعالى مطرًا كأنه الطل فتنبت منه أجساد الناس، ثم ينفخ

(1) كناية عن سرعتهم للشرور واتباع الشهوات والفساد، فهي كسرعة الطير.

(2)

كناية عن شدة شروعهم بالعدوان والظلم، فهم بذلك كالسباع الضارية العادية.

ص: 360

فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون. ثم يقال: أيها الناس هلموا إلى ربكم {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ} ثم يقال: أخرجوا بعث النار، فيقال: كم؟ فيقال. من كل ألف تسع مئة وتسعة وتسعين، فيومئذ تبعث الولدان شيبًا، ويومئذ يكشف عن ساق. (وفي رواية: فذلك يوم يجعل الولدان شيبًا)، وذلك يوم يكشف عن ساق] (1).

وفي جامع الترمذي بسند حسن عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [كيف أنعم وصاحب الصور قد التقمه وأصغى سمعه وحنى جبهته ينتظر متى يؤمر بالنفخ؟ فقالوا: يا رسول الله! وما تأمرنا؟ قال: قولوا: حسبنا الله ونعم الوكيل](2).

وذكر ابن جرير بإسناده عن أبي المغيرة القوّاس عن عبد الله بن عمرو قال: (لَيُنْفَخَنَّ في الصور والناس في طرقهم وأسواقهم ومجالسهم، حتى إن الثوب ليكون بين الرجلين يتساومان فما يُرسله أحدهما من يده حتى ينفخ في الصور، وحتى إن الرجل ليغدو من بيته فلا يرجع حتى ينفخ في الصور، وهي التي قال الله: {مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ (49) فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلَا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ} الآية).

وكذلك قال قتادة: (ذُكر لنا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: تهيج الساعة بالناس والرَّجل يَسْقي ماشيته، والرجلُ يُصلح حَوْضه، والرجل يقيم سلعته في سوقه، والرجل يخفض ميزانه ويَرْفَعه، وتهيج بهم وهمْ كذلك فلا يستطيعون توصية ولا إلى أهلهم يرجعون).

قلت: وكلاهما يصلح شاهدًا لما في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: [لا تقوم الساعة حتى تقتتل فئتان عظيمتان تكون بينهما مقتلة عظيمة، دعواهما واحدة، وحتى يُبعث دجالون كذابون قريب من ثلاثين كلهم يزعم أنه رسول الله، وحتى يقبض العلم وتكثر الزلازل ويتقارب الزمان وتظهر الفتن ويكثر الهرج وهو القتل، وحتى يكثر فيكم المال فيفيض، حتى يهمّ رب المال من يقبلُ صدقته، وحتى يعرضه فيقول الذي يعرضه عليه: لا أرب لي به، وحتى يتطاول الناس في البنيان، وحتى يمرّ الرجل بقبر الرجل فيقول يا ليتني مكانه، وحتى تطلع الشمس

(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم في الصحيح (2940)، وأخرجه أحمد في المسند (2/ 166).

(2)

حديث إسناده حسن. أخرجه الترمذي في السنن (2431)، (3243). انظر صحيح سنن الترمذي -حديث رقم- (1980)، (2585). وانظر تخريج المشكاة (5527)، وكتابي: أصل الدين والإيمان (2/ 729) لتفصيل البحث.

ص: 361

من مغربها، فإذا طلعت ورآها الناس آمنوا أجمعون، فذلك حين لا ينفع نفسًا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرًا، ولتقومن الساعة وقد نشر الرجلان ثوبهما فلا يتبايعانه ولا يطويانه، ولتقومن الساعة وهو يُلِيطُ حوضه فلا يسقي فيه، ولتقومن الساعة وقد رفع أكلته إلى فيه فلا يطعمها] (1).

وقوله: {تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ} . أي يختصمون في أحوال دنياهم فتأخذهم الصيحة فيموتون وهم على ذلك. وقد قرأها قراء المدينة {وَهُمْ يَخِصِّمُونَ} بتسكين الخاء وتشديد الصاد، فجمعوا بين الساكنين، ومعناها يختصمون، فكأن التاء أدغمت في الصاد. في حين قرأها بعض قراء مكة والبصرة:{وَهُمْ يُخَصِّمُونَ} بمعنى يختصمون. وقرأها بعض قراء الكوفة: {يَخِصِّمُونَ} أي يخصِمُ بعضهم بعضًا. وقرأها بعضهم الآخر: {يَخْصِمون} على وزن يفعلون، أي من الخصومة، فهم يخصمون من وعدهم مجيء الساعة ويغلبون بالجدل. وكلها قراءات مشهورة.

وخلاصة المعنى: أَنَّ الساعة تفجؤهم وهم غارقون في أمور دنياهم يختصمون عليها، فلا يستطيع هؤلاء المشركون عند ذلك أن يوصوا في أموالهم، ولا أن يرجع أحدهم إلى أهله فإنهم لا يُمْهَلُون بذلك بل يُعَجَّلون إلى الهلاك.

كما قال قتادة: {فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً} أي فيما في أيديهم {وَلَا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ} قال: أُعْجِلوا عن ذلك). وقال ابن زيد: {مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً} الآية قال: هذا مبتدأ يوم القيامة، وقرأ {فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً} حتى بلغ {إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ}). وقيل: لا يستطيع أحدهم أن يوصي غيره بالتوبة والإقلاع، بل يعاجلون بالموت والهلاك في مواضعهم وأسواقهم.

ثم قال سبحانه: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ} .

وهذه هي نفخة البعث والقيام لرب العالمين. كما قال سبحانه: {ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ} . والأجداث هي القبور، واحدها جَدَث. وقوله:{يَنْسِلُونَ} من النَّسَلان، وهو الإسراع في المشي. كما قال ابن عباس:{فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ} . يقول: من القبور يخرجون). والصور هو القَرْن. والآية كقوله تعالى:

(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري في صحيحه (7121) - كتاب الفتن. ورواه بتمامه الإمام مسلم في الصحيح (8/ 170). وانظر مختصر صحيح مسلم -حديث رقم- (2007).

ص: 362

{يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ} ، وكقوله:{مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ} .

فلما رُدّت أرواح المشركين إلى أجسامهم بعد نفخة البعث لموقف الحشر قاموا فقالوا: {يَاوَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا} . والبعث الإثارة، أي من أيقظنا. والوقف الحسن بعد قوله:{قَالُوا يَاوَيْلَنَا} ثم يستأنف الكلام: {مَنْ بَعَثَنَا} .

ثم قال سبحانه: {هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ} .

وفي اسم الإشارة {هَذَا} وجهان. أولًا: مبتدأ و {مَا} مرفوعة على أنها خبر، والمعنى إشارة إلى {مَا}. أي: هذا وعد الرحمان وصَدَقَ المرسلون. ثانيًا: أن تكون {هَذَا} بدلًا من المرقد، أي من صفته، أي: من بعثنا من مرقدنا هذا، فيستأنف الكلام بعدها:{مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ} أي: حالعثكم وعد الرحمان. أو حقّ ما وعد الرحمان بعثكم. فالوقف يكون هنا على {مَرْقَدِنَا هَذَا} . أما الوقف الأول على {مِنْ مَرْقَدِنَا} . ثم يبتدئ الكلام: {هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ} . وأما تأويل من قاله عند المفسرين:

1 -

قد يكون قوله: {هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ} ) من قول المؤمنين. قال مجاهد: (فقال لهم المؤمنون: {هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ}). وفي رواية عنه: (قال: مما سرّ المؤمنون، يقولون هذا حين البعث). وقال قتادة: (قال أهل الهدى: هذا ما وعد الرحمان وصدق المرسلون).

2 -

وقد يكون من قول الملائكة. كما قال الفراء: (فقال لهم الملائكة: {هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ}).

3 -

وقد يكون من قول الكفار لما عاينوا ما أخبرهم به الرسل صدقوهم حيث لا ينفعهم التصديق. قال ابن زيد: (قوله: {قَالُوا يَاوَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا}. ثم قال بعضهم لبعض: {هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ} كانوا أخبرونا أنا نبعث بعد الموت ونحاسب ونجازى).

واختار ابن جرير أن يكون من قول المؤمنين، قال:(لأن الكفار في قيلهم من بعثنا من مرقدنا دليل أنهم كانوا بمن بعثهم من مرقدهم جهالًا فاستثبتوا من غيرهم).

قلت: ولا مانع أن يكون من قول الكفار، ذهبت عنهم دهشة الفزع وتذكروا كلام الرسل.

ص: 363

ثم قال سبحانه: {إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ} .

وهو كقوله تعالى: {يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ} . قال قتادة: (ملك قائم على صخرة بيت المقدس ينادي: أيتها العظام البالية والأوصال المتقطعة: إن الله يأمركن أن تجتمعن لفصل القضاء).

وكقوله جلّ ذكره: {فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ (13) فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ} . وكقوله جل ثناؤه: {وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ} . فيكون معنى الآية كما قال أبو جعفر: (إن كانت إعادتهم أحياء بعد مماتهم إلا صيحة واحدة وهي النفخة الثالثة في الصور. {فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ}. يقول: فإذا هم مجتمعون قد أُحضروا فأشهدوا موقف العرض والحساب لم يتخلف عنه منهم أحد).

وقوله: {جَمِيعٌ} خبر للمبتدأ {إِذَا هُمْ} ، وقوله:{مُحْضَرُونَ} صفة. أي جميعهم قد أحضروا موقف الحساب في المحشر.

وقوله: {فَالْيَوْمَ لَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا} . أي: مما عملت. {وَلَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} ، أي توافون أعمالكم وما اجترحتم أو اكتسبتم من خير أو شر. و {مَا} في محل نصب.

ثم قال سبحانه: {إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ} وفيه تفاسير متكاملة:

1 -

قيل هو افتضاض العذارى. فعن ابن مسعود في قوله: {إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ} . قال: (شغلهم افتضاض العذارى). وقال ابن عباس: (افتضاض الأبكار). وقال أبو قلابة: (بينما الرجل من أهل الجنة مع أهله إذ قيل له تحول إلى أهلك، فيقول: أنا مع أهلي مشغول، فيقال: تحول أيضًا إلى أهلك).

2 -

قيل: مشغولون في السماع. ذكره وَكيع. وقيل: في زيارة بعضهم بعضًا. ذكره ابن كيسان. وقيل: في ضيافة الله تعالى- حكاه القرطبي.

3 -

وقيل: ذلك هو الانشغال بالنعيم. أي هم في نعمة. فعن مجاهد: ({إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ} قال: في نعمة).

4 -

وقيل: هو انشغالهم بالملذات عن الاهتمام بما يلقى أهل النار. قال الحسن: (شغلهم النعيم عما فيه أهل النار من العذاب). وبنحوه روي عن إسماعيل بن أبي خالد قال: (في شغل عما يلقى أهل النار).

ص: 364

وخلاصة المعنى: أن أهل الجنة مشغولون بألوان الملذات من طعام وشراب، وزيارة وضيافة، ونكاح وأفراح، فهم بذلك وغيره من أحوال النعيم والترف وهناءة ورغد العيش الذي شغلهم عن الاهتمام بأهل النار ومصائرهم.

والقراءتان المشهورتان هما: {شُغْل} بتسكين الغين، وهي قراءة قراء المدينة وبعض البصريين. والثانية بضم الغين {فِي شُغُلٍ} وهي قراءة الكوفيين وبعض قراء المدينة والبصرة.

وقوله: {فَاكِهُونَ} -أي فرحون- كما قال ابن عباس. وقيل: عجبون، كما روي عن مجا هد. وقال الحسن:(مسرورون). وقال السدي: (ناعمون). وقيل: معجبون. وكلها متقاربة. والقراءة المشهورة {فَاكِهُونَ} ، وروي عن أبي جعفر القارئ أنه قرأها:{فَاكِهُونَ} ، والأولى عليها إجماع القراء.

وفي لغة العرب: فَكِهَ الرجل فهو فَكِهٌ إذا كان طيبَ النفس مَزَّاحًا. والمفاكهة الممازحة، وتفكّه بالشيء: تَمتَّع به. والفكِه هنا بمعنى المتنغم، وفاكهون أي كثيرو الفاكهة. فهم في مزاح ونعيم وفاكهة وخير كبير.

وقوله: {هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ} . قال مجاهد: (حلائلهم في ظُلَل).

وقرأها بعضهم {ظَلَل} جمع ظُلَّة. أما الظلال جمع ظِلّ، وهي القراءة المشهورة. فهم وأزواجهم في كنّ لا يَضْحون لشمس كما يَضْحى لها أهل الدنيا، فإن الجنة لا شمس فيها.

وقوله: {عَلَى الْأَرَائِكِ} أي على السُّرر. والأرائك هي الحجال فيها الفرش والسرر، واحدتها: أريكة. كما قال مجاهد عن ابن عباس: {عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ} قال: هي السُّرُرُ في الحجال (1)). وقوله: {مُتَّكِئُونَ} صفة لقوله {فَاكِهُونَ} .

وقوله: {لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ} قال يحيى بن سلام: (يدعون: يشتهون). وقال ابن عباس: (يسألون). وهي من دعا، فهم يتمنون من الدعاء، والعرب تقول: دع عليَّ ما شئت، فهم متلذذون بأنواع الفاكهة وبما يخطر ببالهم. وقيل: المعنى أن من ادعى منهم شيئًا فهو له، لأن الله تعالى قد طبعهم على ألا يدعي منهم أحد إلا ما يجمل ويحسن أن يدّعيه، ذكره القرطبي.

(1) الحجال: جمع حجلة. وهي موضع يزين بالثياب والستور للعروس.

ص: 365

أخرج الإمام أحمد والترمذي بسند صحيح عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [المؤمن إذا اشتهى الولد في الجنة، كان حمله ووضعه وسِنّهُ في ساعة واحدة، كما يشتهي](1).

وقوله: {سَلَامٌ} .

قيل: هو خبر للمبتدأ {وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ} . أي لهم فيها ما يدعون مسلّم خالص لهم حقًّا. وقيل: هو خبر لمبتدأ محذوف تقديره هو، أي هو سلام بمعنى المدح. وقيل: هو مرفوع على البدل {مَا} . أي ولهم أن يسلم الله عليهم. وفي قراءة ابن مسعود {سلامًا} في محل نصب حال، أو نصب على التوكيد.

وقوله: {قَوْلًا} . أي أقول ذلك قولًا، فهي مصدر.

وفي مستدرك الحاكم بإسناد صحيح عن جابر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[إذا دخل أهل الجنة الجنة، يقول الله عز وجل: هل تشتهون شيئًا فأزيدكم؟ فيقولون: ربنا وما فوق ما أعطيتنا؟ فيقول: رضواني أكبر](2).

فالله هو السلام، ورضوانه سبحانه يكون سلامًا على أهل الجنة.

وقد ذكر ابن جرير بإسناده عن القرظي يحدث عن عمر بن عبد العزيز قال: (إذا فرغ الله من أهل الجنة والنار، أقبل في ظلل من الغمام والملائكة فيسلم على أهل الجنة فيردّون عليه السلام. قال القرظي: وهذا في كتاب الله: {سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ}).

وقوله: {مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} أي رحيم بهم، إذ تجاوز عما سلف من سيئات أعمالهم، وتداركهم برحمته.

وقوله تعالى: {وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ} - فيه أقوال متقاربة:

1 -

قال قتادة: (عُزلوا عن كل خير).

2 -

قال الضحاك: (يمتاز المجرمون بعضهم من بعض، فيمتاز اليهود فرقة، والنصارى فرقة، والمجوس فرقة، والصابئون فرقة، وعبدة الأوثان فرقة).

(1) حديث صحيح. أخرجه ابن ماجة (4338)، والترمذي (2563)، ورواه أحمد وابن حبان. انظر صحيح سنن الترمذي (2077). وانظر تخريج المشكاة (5648)، وصحيح الجامع (6525).

(2)

حديث صحيح. أخرجه الحاكم (1/ 82) بسند صحيح من حديث جابر بن عبد الله، ورواه ابن حبان (2647)، وانظر السلسلة الصحيحة (1336).

ص: 366

3 -

قال داود بن الجراح: (فيمتاز المسلمون من المجرمين إلا أصحاب الأهواء فيكونون مع المجرمين).

وفي لغة العرب: مازَ الشيءَ إذا عزله وفرزه. وميّزه تمييزًا فانماز وامتاز وتميز واستماز كله بمعنى واحد. يقال: امتاز القوم إذا تميّز بعضهم من بعض.

فقد كان المجرمون متميزين في الدنيا في حياة اختاروها متكبرين، ومساكن اصطفوها متعجرفين، جمعوها وحصّلوها بالبغي والظلم والمال الحرام، وملؤوها بالمكر بدين الله وبالفساد والزنا والفواحش وموائد الخمور مستهزئين غارقين، فاليوم يجنون ما اجترحوا ويتميزون -أيضًا- كما فعلوا في دنياهم فَيُفْصَلون عن المؤمنين، فإنهم واردون غير موردهم وسالكون غير سبيلهم.

وقوله تعالى: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَابَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} .

العهد: الوصية، أي ألم أوصكم بعبادتي وبَلَّغَكُم ذلك الرسل، ألا تشركوا بي ولا تَدَعُوا للشيطان نصيبًا في أعمالكم، وقد علمتم حسده لأبيكم وعداوته لذريته، فاتخذوه عدوًا وبادلوه العداوة وإخلاص الإيمان بالله، فهو طريق النجاة في الدنيا والآخرة، فقد أبان عداوته وغروره وحسده.

وقوله: {وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ} أي أغوى منكم. {جِبِلًّا كَثِيرًا} . قال مجاهد: (أي خلقًا كثيرًا). وقال قتادة: (جموعًا كثيرة)، وقال غيره:(أمما كثيرة). والمعنى واحد. وقد قرأها قراء المدينة وعاصم وبعض الكوفيين: {جِبِلًّا} بكسر الجيم والباء. في حين قرأها بعض قراء مكة والكوفة: {جُبُلًا} . وقرأها أبو عمرو وبعض قراء البصرة: {جُبْلًا} والقراءتان الأولى والثانية أشهر. والمعنى يدور حول الخلق في كل هذه القراءات، وأميل إلى القراءة الأولى {جِبِلًّا} لأنها توافق القراءة المشهورة في مثيلتها في قوله تعالى:{وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ} فهو من الجِبْل: أي الخلق.

وقوله: {أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ} . أي: عداوةَ هذا الشيطان اللعين وحزبه لكم.

ثم قال جل ذكره: {هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (63) اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ} .

أي تقول خزنة جهنم للكافرين توبيخًا لهم: هذه جهنم التي كذبتم بها الرسل، وعشتم في الحياة الدنيا طغاة ظالمين، عاندتم الحق وكفرتم بالله واستكبرتم، فذوقوا

ص: 367

اليوم عذابها وحريقها، فهي ما كنتم توعدون وكما وصفت لكم يوم كنتم تكفرون.

يروي الإمام الترمذي في جامعه، والإمام أحمد في مسنده، بإسناد صحيح، على شرط الشيخين عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [يخرج عنق من النار يوم القيامة لها عينان تبصران، وأذنان تسمعان، ولسان ينطق، يقول: إني وُكِّلْتُ بثلاثة: بكل جبار عنيد، وبكل من دعا مع الله إلهًا آخر، وبالمصورين](1).

وقوله تعالى: {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} .

يروي ابن جرير بإسناده عن الشَّعْبي قال: (يقال للرجل يوم القيامة: عملت كذا وكذا، فيقول: ما عملت، فيختم على فيه، وتنطق جوارحه، فيقول لجوارحه: أبعدكن الله مما خاصمت إلا فيكن).

قلت: وهذا الأثر يصلح شاهدًا للحديث الصحيح الذي رواه مسلم عن أنس بن مالك قال: [كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فضحك، فقال: هل تدرون مِمَّ أضحك؟ قلنا: الله ورسوله أعلم. قال: من مخاطبة العبد ربه، يقول: يا رب ألم تجرني من الظلم؟ قال. يقول: بلى، فيقول: إني لا أجيز على نفسي إلا شاهدًا مني، فيقول: كفى بنفسك اليوم عليك شهيدًا، وبالكرام الكاتبين شهودًا. فيختم على فيه، ويقال لأركانه: انطقي، قال: فتنطق بأعماله، ثم يُخَلّى بينه وبين الكلام فيقول: بعدًا لكن وسحقًا، فعنكن كنت أناضل](2).

وفي رواية من طريق أبي هريرة: [ثم يقال له: الآن نبعث شاهدنا عليك، ويتفكر في نفسه! من ذا الذي يشهد عليّ؟ ! فيختم على فيه، ويقال لفخذه ولحمه وعظامه انطقي، فتنطق فخذه ولحمه وعظامه بعمله، وذلك لِيُعذِرَ من نفسه، وذلك المنافق، وذلك الذي يسخط الله عليه].

وقوله تعالى: {وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ} .

الطمس على العين هو ألا يكون بين الجفنين شق. فيقال: طمس يطمِسُ ويطمُس والمطموس هو الأعمى، وكذا الطميس. فهناك تفسيران للآية:

(1) حديث صحيح. أخرجه الترمذي (2/ 95)، وأحمد (2/ 336)، وانظر السلسلة الصحيحة (512).

(2)

حديث صحيح. أخرجه مسلم في الصحيح (8/ 217). وانظر مختصر صحيح مسلم (1933)، ورواه أحمد والنسائي. انظر صحيح الجامع (7990).

ص: 368

1 -

أضللناهم عن الهدى. قال ابن عباس: (يقول: أضللتهم وأعميتهم عن الهدى).

2 -

تركناهم عميًا. قال قتادة: (يقول: لو شئنا لتركناهم عميًا يترددون). واختاره ابن جرير. وقال القرطبي: (فالمعنى لأعميناهم فلا يبصرون طريقًا إلى تصرفهم في منازلهم ولا غيرها) - إذ لا معنى للضلالة وهم كفار.

وقوله: {فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ} . قال مجاهد: (الطريق، {فَأَنَّى يُبْصِرُونَ} وقد طمسنا على أعينهم).

وأما من ذهب للمعنى الأول: (الضلالة والعمى عن الهدى) فيكون المعنى كما ذى ابن عباس: {فَأَنَّى يُبْصِرُونَ} : فكيف يهتدون). وفي رواية: (يقول: لا يبصرون الحق). وقال قتادة: (ولو نشاء لفقأنا أعين ضلالتهم وأعميناهم من غيّهم وحولنا أبصارهم من الضلالة إلى الهدى، فاهتدوا وأبصروا رشدهم وتبادروا إلى طريق الآخرة. ثم قال: {فَأَنَّى يُبْصِرُونَ} ولم نفعل ذلك بهم، أي فكيف يهتدون وعين الهدى مطموسة، على الضلال باقية).

ثم قال جل ثناؤه: {وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيًّا وَلَا يَرْجِعُونَ} .

قال قتادة: (أي لأقعدناهم على أرجلهم فلم يستطيعوا أن يتقدموا ولا يتأخروا).

وعن ابن عباس: (ولو نشاء أهلكناهم في مساكنهم).

والمكانة والمكان بمعنى واحد. والمضي: مصدر مضى أي ذهب. قال الحسن: (أي لأقعدناهم فلا يستطيعون أن يمضوا أمامهم ولا يرجعوا وراءهم). وقيل: لو نشاء لمسخناهم في المكان الذي اجترؤوا فيه على المعصية. وقال ابن سلام: (هذا كله يوم القيامة يطمس الله تعالى أعينهم على الصراط). وقيل: قد يكون المسخ تبديل صورة الإنسان بهيمة ثم هي لا تعقل موضعًا تقصده فتتحيّر فلا تقبل ولا تدبر.

وخلاصة المعنى: أن الله سبحانه يهددهم بالعطب ونزول العذاب في ديارهم إذا تابعوا بالاجتراء على الشرك بالله واجتراح المعاصي والآثام، إلى أن يعجزوا عن اجتياز الصراط يوم القيامة والجسر على جهنم، فيقذفون فيها خاسئين.

ثم قال سبحانه: {وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلَا يَعْقِلُونَ} .

قال قتادة: (من نَمُدّ له في العمر ننكسه في الخلق لكيلا يعلم بعد علم شيئًا، يعني

ص: 369

الهَرَم). وقال سفيان: (إذا بلغ ثمانين سنة تغير جسمه وضعفت قوته). وقرأها عامة قراء المدينة والبصرة: {نُنَكِّسّهُ} بالتشديد. وأما القراءة بالتخفيف {نَنكسْهُ} فهي قراءة بعض الكوفيين، وبعضهم قرأها {نَنْكُسْه} من نكس الشيء فانتكس إذا قلبه على رأسه، والنُّكْسُ: عود المرض بعد النَّقَه. والقراءة بالتشديد أشهر، فهي من التنكيس وهو تغير الحال، واختار ذلك ابن جرير وقال:(لأن التنكيس من الله في الخلق إنما هو حال بعد حال، وشيء بعد شيء، فذلك تأييد للتشديد). وقال النسفي في تفسيره: (والتنكيس جعل الشيء أعلاه أسفله).

وخلاصة المعنى: أنَّ الله سبحانه قد قضى أن يمرّ الإنسان في الحياة بمراحل: خلقه من ضعف ثم أمدّه بالقوة والشباب، ثم قضى أن يعود إلى الضعف والهرم في الشيخوخة والعجز بعد النشاط. كما قال جل ذكره في سورة الروم:{اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ} . وكما قال في سورة النحل: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ} . وكقولِه تعالى في سورة الحجِ: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا} . وكقوله في سورة التين {ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ} .

قال القرطبي رحمه الله: (فطول العمر يصيّر الشاب هرمًا، والقوة ضعفًا، والزيادة نقصًا، وهذا هو الغالب). ومن آفاق معاني هذه الآية الكريمة ما قال الحافظ ابن كثير رحمه الله -في تفسيرها-: (والمراد من هذه الآية -والله أعلم- الإخبار عن هذه الدار بأنها دار زوال وانتقال لا دار دوام واستقرار. قال: ولهذا قال: أفلا يعقلون، أي يتفكرون بعقولهم في ابتداء خلقهم ثم صيرورتهم إلى سنّ الشيبة ثم إلى الشيخوخة، ليعلموا أنهم خلقوا لدار أخرى لا زوال لها ولا انتقال منها ولا محيد عنها وهي دار الآخرة).

وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يتعوذ بالله من الهرم أو أن يُرد إلى أرذل العمر.

ففي الصحيحين والمسند عن أنس رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول: [اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل والجُبْن والبُخْل والهَرَم، وأعوذ بك من عذاب

ص: 370

القبر، وأعوذ بك من عذاب النار، وأعوذ بك من فتنة المحيا والممات] (1).

وفي مستدرك الحاكم بسند صحيح عن أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول:[اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل والجُبن والبُخل والهرم والقسوة والغفلة، والعَيلة والذِّلة والمسكنة، وأعوذ بك من الفقر والكفر، والفسوق والشقاق والنفاق، والسُّمْعة والرِّياء، وأعوذ بك من الصَّمَمِ والبَكَم والجنون والجذام والبرص وسَيِّئ الأسقام](2).

وكان عليه الصلاة والسلام يسأل الله في دعائه سعةَ الرزق عند كبر السِّنِ واقتراب الأجل.

فقد أخرج الحاكم بإسناد حسن عن عائشة رضي الله عنها، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول:[اللهم اجعل أوسع رزقك عليَّ عند كِبَرِ سني وانقطاع عُمُري](3).

فاللهم إنا نسالك بركة في الشباب، وقوة في الذهاب والإياب، إلى المساجد وفي طلب العلم والجهاد والحرص على المعالي والأخذ بالأسباب، لكل ما يرضيك ومتعنا بالعمر مع القوة والعزم على السير في طريق الأنبياء والصالحين وأولي النهى والألباب، إنك ربي سميع مجيب ودود رحيم.

ثم قال سبحانه: {أَفَلَا يَعْقِلُونَ} . وهي بالياء قراءة قراء الكوفة. وبالتاء {أفلا تعقلون} قراءة قراء المدينة. والأولى أشهر وأنسب للمعنى، فالخطاب للمشركين الذين هدّدهم الله بقوله:{وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ} . وبقوله: {وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ} . أي: أفلا يعقلون قدرة الله على ما يشاء، فهاهم قد عاينوا تصريفه للخلق من صغر إلى كبر، ومن ضعف إلى قوة، ثم من قوة إلى ضعف وتنكيس بعد كبر في هرم، فهلا نظروا وآمنوا بالبعث بعد الموت، واستعدوا للقاء الله مؤمنين معظمين له وحده لا شريك له.

وأما قوله: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ} .

يدافع الله سبحانه فيه عن نبيّه صلى الله عليه وسلم ويبرئه من أن يكون عالمًا بنظم الشعر وصناعة فصحاء العرب، حتى يغلق الباب على من أراد أن يدّعي أن القرآن من كلام محمد صلى الله عليه وسلم.

(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (6367)، كثاب الدعوات. وانظر (2823)، ورواه مسلم.

(2)

حديث صحيح. أخرجه الحاكم في "المستدرك"، والبيهقي في "الدعاء". انظر تخريج المشكاة (2470)، وصحيح الجامع -حديث رقم- (1296).

(3)

حديث حسن. أخرجه الحاكم والطبراني. انظر صحيح الجامع الصغير -حديث رقم- (1266).

ص: 371

فالشعر لم يكن من طبعه عليه الصلاة والسلام، ولا يحسنه ولا تقتضيه جبلته. قال الحافظ ابن كثير:(ولهذا ورد أنه صلى الله عليه وسلم كان لا يحفظ بيتًا على وزن منتظم بل إن أنشده زحفه أو لم يتمه). وذكر قول الشعبي: (ما ولد عبد المطلب ذكرًا ولا أنثى إلا يقول الشعر إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم).

ومع أنه كان يحب الاستماع إليه أحيانًا، ويمدح بلاغته وبيانه ثانية، ويحض بعض شعراء المسلمين كحسّان وغيره على مهاجاة الكفار، إلا أنه لمِ ينظمه وما حبّبه الله إليه، والله أعلم بحكمته حيث قال:{وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} فكان مدحًا لنبيّه عليه الصلاة والسلام وليس ذمًّا.

ففي صحيح مسلم عن عمرو بن الشَّريد عن أبيه قال: رَدِفْتُ (1) رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا فقال: هل معك من شعر أمية بن أبي الصّلت شيء؟ قلت: نعم. قال: هيه (2). فأنشدته بيتًا. فقال: هيه. ثم أنشدته بيتًا. فقال: هيه. حتى أنشدته مئة بيت] (3).

وفي الصحيحين عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [أصدق كلمة قالها الشاعر (4) كلمة لبيد (5): ألا كل شيء ما خلا الله باطل](6).

وفي الصحيحين أيضًا عن البراء قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم يومَ قريظة لحسان بن ثابت: [اهْجُ المشركين، فإن جبريل معك. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لحسان: أجب عني، اللهم أيده بروح القدس](7).

وكذلك حثّ شعراء المسلمين على ذلك- كما روى مسلم عن عائشة رضي الله

(1) أي ركبت خلفه.

(2)

اسم فعل أمر بمعنى تكلم، أي: هات.

(3)

حديث صحيح. أخرجه مسلم (2255)، كتاب الشعر.

(4)

أراد به جنس الشعراء.

(5)

هو لبيد بن ربيعة العامري -أحد الشعراء الفرسان الأشراف- وأحد أصحاب المعلقات، أدرك الإسلام وآمن بالنبي صلى الله عليه وسلم وترك الشعر، ولم يقل في الإسلام إلا بيتًا واحدًا، سكن الكوفة وعمر طويلًا، وتوفي سنة (41) هـ.

(6)

حديث صحيح. أخرجه البخاري (3841)، كتاب مناقب الأنصار. وكذلك (6147)، كتاب الأدب. وانظر صحيح مسلم (2256)، كتاب الشعر. والمراد بالباطل الفاني المضمحل.

(7)

حديث صحيح. أخرجه البخاري (4124)، كتاب المغازي. وكذلك (3213)، كتاب بدء الخلق.

وانظر صحيح مسلم (2485)، (2486)، كتاب فضائل الصحابة.

ص: 372

عنها- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: [اهجوا قريشًا، فإنه أشد عليهم من رشْق النَّبْل](1).

ثم روى عنها أيضًا قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لحسان: [إن روحَ القدس لا يزال يؤيدك ما نافحت عن الله ورسوله. وقالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: هجاهم حسَّانُ فشفى واشتفى].

وروى البخاري في الأدب المفرد -بإسناد صحيح- عن ابن عباس: [أن رجلًا -أو أعرابيًا- أتى النبي صلى الله عليه وسلم فتكلم بكلام بيّن، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن من البيان سحرًا، وإن من الشعر حكمة- وفي لفظ: حِكمًا](2). وفي رواية: (إن من البيان لسحرًا).

وكذلك روى عن عبد الله بن عمرو، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [الشعر بمنزلة الكلام، حسنه كحسن الكلام، وقبيحه كقبيح الكلام](3).

ثم ذكر عن عائشة رضي الله عنها أنها كانت تقول: [الشعر منه حسن ومنه قبيح، خُذ بالحسن ودع القبيح، ولقد رويت من شعر كعب بن مالك أشعارًا، منها القصيدة فيها أربعون بيتًا، ودون ذلك](4).

لكن ثبت أنه كان صلى الله عليه وسلم يتمثل بعض الأبيات من الشعر في مناسبات مع أصحابه، يتغنى بها يشاركهم بهجة الموقف، ولا يعارض هذا وصف الله له بقوله:{وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ} . فالمقصود: أنه لم ينظم الشعر ولم يهتم به، فقد امتلأ قلبه وعقله بالوحي فلا مكان لغيره.

فقد أخرج الإمام البخاري في الأدب المفرد، والترمذي في الجامع، بإسناد صحيح عن شُريح قال:[قلت لعائشة رضي الله عنها: أكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتمثل بشيء من الشعر؟ فقالت: كان يتمثل بشيء من شعر عبد الله بن رواحة، ويتمثل ويقول: ويأتيك بالأخبار من لم تزود](5).

(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم (2490)، كتاب فضائل الصحابة، فضائل حسان بن ثابت.

(2)

حديث صحيح. انظر صحيح الأدب المفرد (669) - باب من قال: "إن من البيان سحرًا".

(3)

صحيح لغيره. انظر المرجع السابق (664) - باب الشعر حسن كحسن الكلام ومنه قبيح.

(4)

حديث صحيح. المرجع السابق (665)، وانظر أحاديث أخرى في الباب.

(5)

حديث صحيح. أخرجه البخاري في الأدب المفرد (867). باب الشعر حسن كحسن الكلام ومنه قبيح. وما جاء ببعض كتب الأدب أنه صلى الله عليه وسلم كسر هذا البيت فقال: "ويأتيك من لم تزود بالأخبار" بدعوى أن الشعر لم يجر على لسانه! مما لا أصل له، مع مخالفته لهذا الحديث الصحيح وغيره. انظر صحيح الأدب المفرد- (666) - تعليق الألباني.

ص: 373

فَنَظْمُ الشعر شيء وارتجازه شيءآخر، فإنك تقرأ في الصحيحين عن البراء، قال: [كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينقل التراب يوم الخندق حتى اغبَرَّ بطنُه يقول:

والله لولا الله ما اهتدينا

ولا تصدّقنا ولا صلينا

فأنزلن سكينة علينا

وثبت الأقدام إن لاقينا

إن الأُلى قد بَغَوا علينا

إذا أرادوا فتنة أبينا

يرفع بها صوته] (1).

وفيهما عن أنس قال: [جعل المهاجرون والأنصار يحفرون الخندق وينقلون التراب وهم يقولون:

نحن الذين بايعوا محمدًا

على الجهاد ما بقينا أبدًا

يقول النبي صلى الله عليه وسلم وهو يجيبهم:

اللهم لا عيشَ إلا عيش الآخرة

فاغفر للأنصار والمهاجرة] (2)

وخلاصة القول: إن ما وقع من النبي صلى الله عليه وسلم اتفاقًا من غير قصد لوزن الشعر لا ينافي كونه عليه الصلاة والسلام ما علم شعرًا وما ينبغي له، بل علّمه الله الذكر والقرآن فرفعه به وملأ قلبه وحياته بروعته، فلم يبق في قلبه مكانًا لغيره. وبنحو هذا يروي ابن القاسم عن مالك أنه سئلِ عن إنشاد الشعر فقال:(لا تكثرن منه فمن عيبه أن الله يقول: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ}. قال: ولقد بلغني أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كتب إلى أبي موسى الأشعري: أن اجمع الشعراء قبلك، وسلهم عن الشعر، وهل بقي معهم معرفة، وأحضر لبيدًا ذلك، قال: فجمعهم فسألهم فقالوا: إنا لنعرفه ونقوله. وسأل لبيدًا فقال: ما قلت بيت شعر منذ سمعت الله عز وجل يقول: {الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ}) ذكره القرطبي.

وقوله: {وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} . أي ذلك من أعلام نبوته عليه الصلاة والسلام، لئلا يظن أنه قوي على القرآن بما في طبعه من القوة على الشعر. وقيل: ما ينبغي له أي ما يتسهل له قول الشعر لا الإنشاد.

(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (4106)، كتاب المغازي. باب غزوة الخندق وهي الأحزاب. وانظر كتابي: السيرة النبوية -على منهج الوحيين- (892) لتفصيل البحث. ورواه مسلم (1803).

(2)

حديث صحيح. أخرجه البخاري (4099)، كتاب المغازي. وانظر كتابي: السيرة النبوية (891). ورواه مسلم في الصحيح (1805) - كتاب الجهاد- باب غزوة الأحزاب وهي الخندق.

ص: 374

وقوله: {إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ} .

هناك تفسيران لقوله: {إِنْ هُوَ} .

1 -

{إِنْ هُوَ} أي محمد، إلا ذكر لكم أيها الناس ذكركم الله بإرساله إياه إليكم، ونبّهكم به على حظكم. ذكره ابن جرير.

2 -

{إِنْ هُوَ} أي هذا الذي يتلوه عليكم، فما علمناه هو ذكر وقرآن. حكاه القرطبي وابن كثير.

وقوله: {وَقُرْآنٌ مُبِينٌ} . قال قتادة: (هذا القرآن). أي يبين لمن تدبره أنه تنزيل رب العالمين، أنزله على محمد الأمين، عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم، وأنه ليس بشعر ولا من كاهن أو ساحر أو مُدَّع أثيم.

وقوله: {لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا} . قال قتادة: (حيّ القلب حيّ البصر).

وفي التنزيل: {لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} ، فهذا القرآن لينذر به كل حي على وجه المعمورة.

وقوله: {وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ} . قال قتادة: (بأعمالهم).

أي: فينتفع بنذارته من كان حيّ القلب مستنير العقل والبصيرة، وليحق القول على الكافرين، ويكون عليهم الحجة وعلى كل ميت الفؤاد بليد.

71 -

83. قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ (71) وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ (72) وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلَا يَشْكُرُونَ (73) وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ (74) لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ (75) فَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ (76) أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (77) وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79) الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ (80) أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (81)

ص: 375

إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82) فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (83)}.

في هذه الآيات: يقول الله سبحانه مخاطبًا نبيّه صلوات الله وسلامه عليه: أو لم ير المشركون ما خلقنا لهم من الأنعام المختلفة من الإبل والبقر والغنم يتصرفون بها كما شاؤوا، وهم لها ضابطون، فهي ذليلة مسخرة لهم لا تمتنع منهم، وتُقاد الجماعة منها بأضعفهم وأصغرهم، فمنها ما يركبون في الأسفار كالإبل، ويحملون عليها أثقالهم ويقضون عليها حاجات ما كانوا ليبلغوها إلا بشق الأنفس، ومنها ما يأكلون إذا احتاجوا فينحرون ويَطْعمون، ولهم فيها منافع: يلبسون أصوافها، ويتخذون من أوبارها وأشعارها أثاثًا ومتاعًا إلى حين، ويشربون من ألبانها وأبوالها يتداوون بها، فهلا أفردوا الله سبحانه بالتوجه والشكر ووحّدوه ولم يشركوا بعبادته أحدًا! ؟ أيشركون من لا يملك لهم رزقًا ولا نصرًا! ؟ بل آلهة لا تملك الانتقام ممن أرادها بسوء، ويوم القيامة تحشر هذه الأوثان والأصنام معهم لتشترك في إقامة الحجة عليهم، فلا تحزن عليهم يا محمد، فإنا قد أحصينا عليهم سرائرهم وعلانياتهم.

أو لم ير المعاند المنكر للحشر والبعث أن الله خلقه ابتداء من ماء مهين، ونطفة ضعيفة هزيلة، ثم إذا رأى من نفسه قوة وشبابًا استكبر وخاصم ربه وتحدّى، وأنكر إمكانية إعادته بعد فنائه وجمع عظامه بعد زواله. قل له يا محمد: بل يحييها الله الذي أنشأها في المرة الأولى، فهو أعلم كيف بعثرها وكيف فرّقها في ذرات الأرض، فهو الذي خلق من الماء شجرًا، فسوّاه أخضر ذا ثمر، ثم صيّره يابسًا، تحتطبون من فروعه وتوقدون به النار. فإذا علمتم هذا أجيبوا: أو ليس الذي فطر السماوات والأرضين وما فيهما بقادر على إعادة البشر كما بدأهم أول مرة، وهو إذا أراد أمرًا قال له كن فيكون، فسبحانه تنزهت صفاته، فهي صفات كمال وجمال، له الملك وإليه ترجعون.

وتفصيل ذلك:

قوله: {أَوَلَمْ يَرَوْا} المراد رؤية القلب، فهم يبصرونها في حياتهم، لكنهم لا يعتبرون ولا يتفكرون.

وقوله: {أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا} . أي: مما أبدعناه من غير تجربة أفدنا منها، ومن غير وساطة ولا شركة.

ص: 376

وقوله: {أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ} . قال قتادة: (أي ضابطون). والأنعام تشمل الإبل والبقر والغنم. كل يستفاد منه حسب اختصاصه.

وقوله: {وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ} . قال قتادة: (يركبونها يسافرون عليها. {وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ} لحومها. {وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ} قال: يلبَسون أصوافها {وَمَشَارِبُ} قال: يشربون ألبانها). وقراءة الجمهور بفتح الراء: {رَكُوبُهُمْ} والمعنى مركوبهم.

وقوله: {أَفَلَا يَشْكُرُونَ} ، أي: لقد ذلل الله سبحانه الأنعام لكم أيها المنكرون للمعاد المعاندون للحق والقرآن، فتركبون عليها، وتأكلون من لحمها، وتشربون من ألبانها، ولكم في أصوافها وأوبارها وأشعارها وشحومها متاع وفوائد، أفلا يدعوكم هذا إلى شكر الله سبحانه على نعمه التي تغمركم وتحيط بكم، فتفردوه بالألوهية وتنبذون الأصنام وعبادة الشيطان.

وقوله تعالى: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ} .

أي رغم كل ما عاينوا من آيات قدرتنا فقد اتخذوا أوثانًا وآلهة لا قدرة لها طمعًا أن ترفع عنهم عذابًا إن حلّ بهم في دنياهم أو أخراهم. كلا: {لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ} من الله إن أراد بهم سوءًا {وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ} . أي رغم عجز هذه الآلهة عن الدفاع أو جلب النصر لهم، فهؤلاء المشركون جند لها في الدنيا يدافعون ويذودون عنها.

وهذه الآية لها تفاسير متكاملة:

التفسير الأول: المشركون في الدنيا جند لأوثانهم يحضرون ويدافعون عنها. قال الحسن: (يمنعون منهم ويدفعون عنهم). فقوله: {وَهُمْ} أي الكفار. {لَهُمْ} أي لآلهتهم جند محضرون. قال قتادة: (أي يغضبون لهم في الدنيا، وهي لا تسوق إليهم خيرًا ولا تدفع عنهم سوءًا، إنما هي أصنام). فهم يعبدون الآلهة ويقومون بها، فهم لها كالجند وهي عاجزة أصلًا عن نصرهم. وهذا التفسير اختاره ابن جرير رحمه الله.

التفسير الثاني: إن هذه الآلهة هي جند لعابديها تحضر معهم لتشهد عليهم عند الحساب. قال مجاهد: {وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ} . قال: عند الحساب). ويؤيد هذا ما جاء في الصحيح والسنن من أن الله يأمر في أرض المحشر يوم القيامة أن يتبع كل قوم ما كانوا يعبدون.

فقد أخرج الإمام مسلم عن أبي هريرة -وبنحوه الترمذي وبقية أهل السنن- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [يجمع الله الناس يوم القيامة في صعيد واحد، ثم يَطَّلِعُ عليهم ربُّ العالمين

ص: 377

فيقول: ألا لِيَتَّبعْ كلُ إنسان ما كان يعبد، فَيُمَثَّلُ لصاحب الصليب صليبُه، ولصاحب التصاوير تصاويره، ولصاحب النار نارُه، فيتبعون ما كانوا يعبدون، ويبقى المسلمون. . .] الحديث (1).

وروى الدارمي نحوه عنه بلفظ: [إذا جمع الله العباد بصعيد واحد نادى مناد: يلحق كل قوم بما كانوا يعبدون، ويبقى الناس على حالهم، فيأتيهم فيقول: ما بال الناس ذهبوا وأنتم هاهنا؟ فيقولون: ننتظر إلهنا، فيقول: هل تعرفونه؟ فيقولون: إذا تعرف إلينا عرفناه. فيكشف لهم عن ساقه فيقعون سجدًا، وذلك قول الله تعالى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ} ويبقى كل منافق فلا يستطيع أن يسجد، ثم يقودهم إلى الجنة](2).

وإلى هذا المعنى ذهب الحافظ ابن كثير- في تفسير قوله: {وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ} - قال: (يعني عند الحساب، يريد أن هذه الأصنام محشورة معهم يوم القيامة عند حساب عابديها ليكون أبلغ في إقامة الحجة).

التفسير الثالث: وهو أن هذه الآلهة والأوثان ستكون جندًا للعابدين لها يحضرون معهم في النار، فلا يدفع بعضهم عن بعض. وقيل: بل الآلهة والأوثان جند الله عليهم في جهنم، لأنهم يلعنونهم ويتبرؤون من عبادتهم. حكاه القرطبي.

التفسير الرابع: وهو أن المشركين جند للأصنام في جهنم على سبيل التهكم والاستهزاء بهم.

قال القاسمي رحمه الله: {لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ} أي لآلهتهم {جُنْدٌ مُحْضَرُونَ} أي معدون لخدمتهم، والذب عنهم، فمن أين لهم أن ينصروهم وهم على تلك الحال من العجز والضعف؟ أي بل الأمر بالعكس. وقيل: المعنى محضرون على أثرهم في النار. وجَعْلُهُم -على هذا- جندًا، تهكم واستهزاء).

قلت: والإعجاز القرآني يشمل كل هذه المعاني والآفاق.

وقوله: {فَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ} . أي: -يا محمد- لما قالوا لك اتهامًا: شاعرًا أو كاهنًا أو ساحرًا أو كذبوا بنبوتك وبالقرآن ووعده ووعيده.

(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم، وأخرج نحوه عبد الله بن أحمد في "السنة" ص (177). انظر مختصر العلو (69) ص (110)، وكتابي: أصل الدين والإيمان (2/ 748) لتفصيل الحديث.

(2)

حديث صحيح. انظر سنن الدارمي (2/ 326)، وسلسلة الأحاديث الصحيحة (584).

ص: 378

وقوله: {إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ} .

قال ابن جرير: (إنا نعلم أن الذي يدعوهم إلى قيل ذلك الحسد، وهم يعلمون أن الذي جئتهم به ليس بشعر ولا يشبه الشعر، وأنك لست بكذاب، فنعلم ما يسرون من معرفتهم بحقيقة ما تدعوهم إليه، وما يعلنون من جحودهم ذلك بألسنتهم علانية).

فسلّى بذلك سبحانه نبيّه عما يلقاه من المشركين واستهزائهم.

ثم قال سبحانه: {أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ} .

وقد ذكر في مناسبتها تفاسير:

التفسير الأول: قيل عني به أبي بن خلف. فعن الحسن قال: (هو أبي بن خلف الجمحيّ). وقال قتادة؛ (ذكر لنا أن أبيّ بن خلف أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعظْم حائل ففتّه ثم ذرّاه في الريح ثم قال: يا محمد من يحيي هذا وهو رميم؟ قال: الله يحييه ثم يميته ثم يُدخلك النار. قال: فقتلهُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد).

التفسير الثاني: قيل بل عني العاص بن وائل السهمي. رُوي ذلك عن سعيد بن جبير قال: (جاء العاص بن وائل السهمي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعظم حائل ففتّه بين يديه فقال: يا محمد! أيبعث الله هذا حيًا بعدما أرمّ؟ قال: نعم، يَبْعَث الله هذا، ثم يُميتك ثم يحييكَ ثم يدخلك نار جهنم. قال: ونزلت الآيات: {أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ} إلى آخر الآية).

التفسير الثالث: قيل بل عني عبد الله بن أبي. قال ابن عباس: (الإنسان هو عبد الله بن أُبَي. قال: جاء عبد الله بن أبي إلى النبي صلى الله عليه وسلم بعظم حائل فكسره بيده ثم قال: يا محمد! كيف يبعث الله هذا وهو رميم؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يَبْعَثُ الله هذا، ويميتك ثم يدخلك جهنم، فقال الله: {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ}).

قلت: والذي أميل إليه في أسباب نزول هذه الآيات هو التفسير الثاني، وذلك لأنه قد صح إسناد ما رواه الحاكم في المستدرك عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: [إن العاصي بن وائل أخذ عظمًا من البطحاء ففتّه بيده، ثم قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أيحيي الله هذا بعد ما أرم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم. يميتك الله ثم يحييك ثم

ص: 379

يدخلك جهنم. قال: ونزلت الآيات من آخر يس] (1).

وخلاصة المعنى: أولم ير هذا الذي يقول متعجبًا من يحيي العظام وهي رميم -أي بالية- أنا خلقناه من نطفة، وهو اليسير من الماء -قال النسفي:(مذرة خارجة من الإحليل الذي هو قناة النجاسة) - فسويناه وعدلناه خلقًا سويًا متكاملًا، حتى إذا رأى من نفسه وعقله وجسده قوة صار خصمًا لربه معاندًا متحديًا يجادل في قدرة الله، ويخاصم بشكل يبين لمن سمع خصومته أنه مخاصم ربّه الذي خلقه وسوّاه وعدله. أوَلَيْسَ من خلقه من هذه النطفة الضعيفة بقادر على إعادته بعد موته. قال النسفي:({فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ} بيّن الخصومة، أي فهو على مهانة أصله ودناءة أوله يتصدى لمخاصمة ربه وينكر قدرته على إحياء الميت بعد ما رمت عظامه، ثم يكون خصامه في ألزم وصف له وألصقه به وهو كونه منشأً من موات، وهو ينكر إنشاءه من موات وهو غاية المكابرة).

وفي التنزيل: {أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (20) فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (21) إِلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ (22) فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ (23) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} .

وأصل النُّطفة في كلام العرب الماء الصافي، والجمع نِطاف، ونَطفان الماء سيلانه، ونطِف ينطِفُ إذا قطر.

ثم قال سبحانه: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} .

قال ابن كثير: (أي استبعد إعادة الله تعالى ذي القدرة العظيمة التي خلقت السماوات والأرض للأجساد والعظام الرميمة، ونسي نفسه وأن الله تعالى خلقه من العدم إلى الوجود، فعلم من نفسه ما هو أعظم مما استبعده وأنكره وجحده، ولهذا قال الله عز وجل: {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ}. أي يعلم العظام في سائر أقطار الأرض وأرجائها أين ذهبت وأين تفرقت وتمزقت). وقال النسفي: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا} بفتّه العظم {وَنَسِيَ خَلْقَهُ} من المني فهو أغرب من إحياء العظم). وفي لغة العرب: رمّ العظم يَرِمّ رِمّة أي بلي فهو رميم ورِمَام.

وقال القرطبي: ({قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ} أي من غير شيء، فهو قادر على

(1) حديث صحيح على شرط الشيخين. أخرجه الحاكم في "المستدرك"، والطبري في "التفسير" (29243). وانظر: الصحيح المسند من أسباب النزول- الوادعي- الآيات من آخر "يس".

ص: 380

إعادتها في النشأة الثانية من شيء وهو عَجْمُ الذَّنب. ويقال عَجْبُ الذَّنب بالباء. {وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} أي كيف يبدئ ويعيد).

قلت: وفي السنة الصحيحة ما يشير إلى هذا المعنى العظيم عن قدرة الله وعلمه بتوضع ذرات العظام بعد فنائها ثم جمعها وتركيبها.

ففي الصحيحين والمسند عن أبي سعيد الخدري، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[إن رجلًا كان قبلكم رغَسَهُ (1) الله مالًا، فقال لبنيه لما حُضِرَ: أي أب كنت لكم؟ قالوا: خيرَ أب، قال: إني لم أعمل خيرًا قط، فإذا مُتُّ فاحرِقوني، ثم اسحقوني، ثم ذرّوني في يوم عاصف، ففعلوا، فجمعه الله، فقال: ما حملك؟ قال: مخافتك، فتلقاه برحمته](2).

وكذلك في الصحيحين عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[ليس شيءٌ من الإنسان إلا يبلى، إلا عظم واحد، وهو عَجْبُ الذَّنب، ومنه يُركَّبُ الخلق يوم القيامة](3).

وقوله: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا} .

قال قتادة: (يقول: الذي أخرج هذه النار من هذا الشجر قادر أن يبعثه). فدلّ سبحانه على كمال قدرته في إحياء الموتى بما يعاينه الناس في حياتهم من إخراج العود اليابس القابل للاحتراق من العود النديّ الرطب. قال القرطبي: (وذلك أن الكافر قال: النطفة حارة رطبة بطبع الحياة فخرج منها الحياة، والعظم بارد يابس بطبع الموت فكيف تخرج منه الحياة. فأنزل الله تعالى: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا}. أي إن الشجر الأخضر من الماء، والماء بارد رطب ضد النار، وهما لا يجتمعان، فأخرج الله منه النار، فهو قادر على إخراج الضد من الضد وهو على كل شيء قدير).

وقوله: {فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ} .

قال النسفي: (تقدحون. ثم ذكر من بدائع خلقه انقداح النار من الشجر الأخضر مع مضادة النار الماء وانطفائها به وهي الزناد التي توري بها الأعراب، وأكثرها من المرخ والعفار، وفي أمثالهم في كل شجر نار. قال: لأن المرخ شجر سريع الوري والعفار شجر تقدح منه النار، يقطع الرجل منهما غصنين مثل السواكين وهما خضراوان يقطر

(1) أي أكثر له من المال.

(2)

حديث صحيح. انظر صحيح البخاري (3478)، وصحيح مسلم (2757)، ومسند أحمد (5/ 383). وله شاهد في سنن النسائي (4/ 113). وانظر صحيح الجامع الصغير (2073).

(3)

حديث صحيح. أخرجه البخاري (4935)، وأخرجه مسلم (2955)(141)، وغيرهما.

ص: 381

منهما الماء، فيسحق المرخ وهو ذكر على العفار وهي أنثى فتنقدح النار بإذن الله).

والهاء في قوله: {مِنْهُ تُوقِدُونَ} تعود على الشجر، مع أنها جمع شجرة، إلا أنه خرج مخرج الثمر.

ثم قال سبحانه: {أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ} .

قال ابن جرير: (فمن لم يتعذر عليه خلق ما هو أعظم من خلقكم فكيف يتعذّر عليه إحياء العظام بعدما قد رمّت وبليت؟ ).

بلى هو قادر على خلق ما يشاء، فهو الفعّال لما يريد، الخلّاق: الكثير المخلوقات، العليم: الكثير المعلومات. والآية كقوله تعالى: {لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} .

وقوله تعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} .

قال قتادة: (هذا مَثَلٌ: إنما أمره إذا أراد شيئًا أن يقول له كن فيكون. قال: ليس مِن كلام العرب شيء هو أخف من ذلك ولا أهون، فأمر الله كذلك).

ثم ختم السورة سبحانه بمدح نفسه، فله كمال الحمد وكمال الثناء وأحسن الأوصاف، قال تعالى:{فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} .

فكل التنزيه لله ملك كل شيء وعنده خزائنه، وكل التقديس لله الذي بيده مقادير الخلق، وكل التبرئة لله من السوء فهو الحى القيوم الذي خضع له ما في السماوات وما في الأرض، وكل الأمر لله البارئ فإليه ترجع العباد يوم المعاد، ثم هو يتفضل فيعفو عمن يشاء ويتجاوز عمن يشاء فضلًا، أو يعذب من يشاء ويغضب على من يشاء عدلًا، فله الكبرياء كله وهو العادل الكريم المنعم المتفضل.

والملكوت في كلام العرب بمعنى الملك، كما قال جل ثناؤه:{قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} . وكقوله سبحانه: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} . قال قتادة: (ملكوت كل شيء: مفاتح كل شيء).

وقراءة الجمهور بالتاء على الخطاب في قوله: {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} . وهناك من قرأها بالياء {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} . والأولى أشهر بين القراء، والله تعالى أعلم.

تم تفسير سورة يس بعون الله وتوفيقه، وواسع مَنِّه وكرمه

ص: 382