المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ منهاج السورة - التفسير المأمون على منهج التنزيل والصحيح المسنون - جـ ٦

[مأمون حموش]

الفصل: ‌ منهاج السورة

‌35 - سُوْرَةُ فَاطِرٍ

وهي سورة مكية، وعدد آياتها (45).

وسميت فاطر لذكر هذا الاسم الجليل في طليعتها، وهي ختام السور المفتتحة بالحمد.

‌موضوع السورة

مفاتيح الخير والعزة بيد الله العظيم

فاطر السماوات والأرض ومخزي الكافرين

-‌

‌ منهاج السورة

-

1 -

الثناء على الله تعالى فاطر السماوات والأرض، منشئ الملائكة بأجنحة يطيرون بها، جعلهم رسلًا بينه وبين المرسلين.

2 -

إثبات مفاتيح الخير ومغاليقه بيده تعالى، فما يفتح لا مغلق له، وما يغلق لا فاتح له.

3 -

تذكير قريش بنعم الله عليهم لِيُفْرِدُوه بالعبادة والتعظيم، وتحذيره لهم غرور الحياة الدنيا ومصير الأولين الهالكين، وتسليةٌ لنبينا الكريم صلى الله عليه وسلم.

ص: 279

4 -

تأكيد هلاك وعذاب الكافرين، ونجاة ومغفرة ذنوب المؤمنين، ولهم في الآخرة الأجر الكريم.

5 -

إرسال الله الرياح بشرًا تثير سحابًا فيحيي بالماء المنهمر الأرض الميتة، وكذلك يحيي سبحانه الموتى وإليه النشور.

6 -

العزة لله وحده، وإليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه.

7 -

لا يحيق المكر السيِّئ إلا بأهله، والماكرون لهم عذاب شديد، ومرد مكرهم سيكون عليهم.

8 -

ذكر أطوار الخلق: من تراب ثم من نطفة، ثم التناسل، فالحمل، فالوضع، وكل في كتاب مبين.

9 -

آية الله العظيمة في اختلاف مياه البحرين: المالح والعذب، وفي استخراج اللحم والحلي وجريان الفلك.

10 -

آية الله الكبيرة في تعاقب الليل والنهار وتسخير الشمس والقمر.

11 -

ذمُّ الله تعالى آلهة المشركين العاجزة عن كل ما سبق من الآياتِ الكونية، وذمّ المشركين الذين يدعونها من دون الله العليم القوي السميع البصير.

12 -

إثبات الله تعالى فقر عباده إليه، وأنه لا تزر وازرة وزر أخرى، وأنه لا يستوي أهل الحق وأهل الباطل، وأنه لا يسمع الموتى، وأن الكافرين لهم عذاب اليم.

13 -

توجيه الله تعالى عباده إلى التفكر في عظيم خلقه، وإنما يخشاه تعالى من عباده العلماء.

14 -

وَعْدُ الله تعالى أهل القرآن والعمل بما فيه برضوانه وجناته يوم القيامة.

15 -

أصناف هذه الأمة ومنازلهم في تلقي الحق من الله وتعظيم هذا الوحي الكريم، والكافرون يصطرخون في النار يرجون العودة لاستئناف الإيمان والعمل الصالح ولكن دون جدوى فقد مضى أمر الله العظيم.

16 -

تحذير الله المشركين مغبة كفرهم وعنادهم، وتسفيهه تعالى آلهتهم العاجزة، وتنبيهه تعالى أنه هو الذي يمسك السماوات والأرض أن تزولا وليس ما يدعون من دونه.

ص: 280

17 -

إقسام المشركين بالله جهد أيمانهم أن لو جاءهم منذر من الله لسلكوا طريق الحق وكانوا أهدى من إحدى الأمم التي مضت، فلما جاءهم محمد صلى الله عليه وسلم استكبروا ونفروا وصدوا وكانوا من شر الأمم التي غوت.

18 -

ثبات سنة الله في الأولين والآخرين، ولن تجد لسنة الله تبديلًا أو تحويلًا.

19 -

التنبيه إلى النظر في مصير الأمم الماضية المكذبة، وشدة ما كانوا فيه من البأس والقوة، فدكهم عذاب الله ودمَّرهم تدميرًا.

20 -

امتنان الله على عباده تأخير انتقامه منهم عند استكبارهم لعلهم إليه يرجعون، وإلى طاعته يقبلون، فإن أصروا باغتهم عذابه من حيث لا يشعرون.

* * *

ص: 281

بسم الله الرحمن الرحيم

1 -

6. قوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (2) يَاأَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (3) وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (4) يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (5) إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ (6)}.

في هذه الآياتِ: كل الحمد لله والشكر كله له، فلا تصلح العبادة إلا له، فهو مبدع السماوات والأرض من العدم، ومنشئ الملائكة بأجنحة يطيرون بها، جعلهم رسلًا بينه وبين أنبيائه ليبلغوا عنه مراده من أمره أو نهيه، منهم من له جناحان ومنهم من له ثلاثة أو أربعة، فيزيد كما يشاء في الخلق، فهو القدير لا شبيه له في قدرته، ومفاتيح الخير ومغاليقه كلها بيده، فما يفتح لا مغلق له، وما يغلق لا فاتح له، فعنده خزائن السماوات والأرض يبسط الرزق بحكمته، فاذكروا أيها المشركون من قريش نعم الله عليكم، وتفكروا هل من خالق سواه يبسط ويغلق؟ ! فافردوه بالتوجه والعبادة، فقد كذب أمم قبلكم فهلكوا، فمردكم جميعًا إلى الله، ولا يغرنكم ما أنتم فيه من العيش والملك، فإنما ذلك زائل فلا يبقى ملك ولا سلطان، وإنما ذلكم الشيطان يريد أن يوقعكم في مصائده لتهلكوا وتكونوا من أصحاب السعير.

وقوله: {فَاطِرِ} بالجر، صفة لله سبحانه. وقيل يجوز فيها الرفع والنصب، حكاه القرطبي. فبالرفع تكون خبرًا لمبتدأ محذوف تقديره "هو"، وبالفتح تكون منصوبة على المدح.

ص: 282

والفَطْرُ لغة: الابتداء والاختراع، والفاطر: الخالق، والفَطْرُ أيضًا: الشق عن الشيء، وتفطّر الشيء إذا تشقق، والمراد بذكر السماوات والأرض العالم كله، والمراد والله تعالى أعلم أن من قدر على الابتداء قادر على الإعادة.

وقوله: {جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ} . قال قتادة: (بعضهم له جناحان، وبعضهم ثلاثة، وبعضهم أربعة). وقوله: {رُسُلًا} مفعول به ثان لجاعل. ومن هؤلاء الرسل جبريل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت عليهم السلام أجمعين.

وقرأ الحسن: "جاعلُ الملائكة" بالرفع. فجعلهم سبحانه رسلًا.

قال يحيى بن سلام: (إلى الأنبياء). وقال السدي: (إلى العباد برحمة أو نقمة).

وقد حكى ابن جرير اختلاف أهل العربية في علة ترك إجراء مثنى وثلاث ورباع. فقال بعض نحويي البصرة: (ترك إجراؤهن لأنهن مصروفات عن وجوههن، وذلك أن مثنى مصروف عن اثنين وثلاث عن ثلاثة ورُباع عن أربعة).

وقال آخر منهم: (لم يصرف ذلك لأنه يوهم به الثلاثة والأربعة. قال: وهذا لا يستعمل إلا في حالة العدد). وقال بعض نحوي الكوفة: (هن مصروفات عن المعارف لأن الألف واللام لا تدخلها والإضافة لا تدخلها). وهذا مثل قوله تعالى: {أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى} .

وقوله: {يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ} . قال السدي: (يزيد في الأجنحة وخلقهم ما يشاء).

فالمقصود أن هؤلاء الملائكة خلقهم سبحانه ذوي أجنحة متعددة متفاوتة في العدد حسب تفاوت ما لَهُم من المراتب ينزلون بها ويعرجون - أي يسرعون بها. ولذلك قال: {يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ} أي يزيد كيف يشاء في خلق الأجنحة وفي تركيب هؤلاء الملائكة ووظائفهم فهو على كل شيء قدير.

فمن الملائكة من اختصهم الله بالاستغفار للمؤمنين والصلاة عليهم، ومنهم من اختصهم سبحانه بحمل عرشه، ومنهم من اختصهم بالاصطفاف مع المؤمنين في صلاتهم، ومنهم من اختصهم بالحج في البيت المعمور في السماء السابعة، ومنهم مختصون بالقتال مع المؤمنين في ساحات المعارك، ومنهم ملائكة جوّالون يلتمسون من يذكر الله وحلق الذكر والعلم، ومنهم من يبيتون مع المؤمنين في فرشهم ويلامسون أجسامهم إذا ناموا متطهرين، ومنهم من اختصهم سبحانه بالسجود في طبقات السماوات المختلفة، ومنهم مرافقة مسلحة لبعض المؤمنين ممن تعاطوا أسباب هذه

ص: 283

المرافقة، إلى غير ذلك من الوظائف، وقد فصلتها مع أدلتها في كتابي: أصل الدين والإيمان، عند الصحابة والتابعين لهم بإحسان، في بحث الإيمان بالملائكة، فلله الحمد والمنة.

وقوله: {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا} .

قال قتادة: (أي من خير فلا ممسك لها فلا يستطيع أحد حبسها). وقال الضحاك: (هو الدعاء). وقال ابن عباس: (من توبة). وقيل: من توفيق وهداية.

وقوله: {فَلَا مُمْسِكَ لَهَا} فأنَّث {مَا} لذكر الرحمة، وقوله:{وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ} فذكّر لفظ {مَا} لأن لفظه لفظ مذكر. قال أبو جعفر: (ولو أنَّث في موضع التذكير للمعنى، وذكّر في موضع التأنيث للفظ لجاز، ولكن الأفصح من الكلام التأنيث إذا ظهر بعد ما يدل على تأنيثها، والتذكير إذا لم يظهر ذلك).

والآية تشبه قوله تعالى: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ} .

وقوله: {وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} . أي: هو العزيز فينتقم بحبس رحمته وخيراته عمن عانده وآثر معصيته وسخطه، وهو الحكيم في تدبير شؤون خلقه وفتحه لهم من رحمته أو إمساكه عنهم، كل ذلك يمضي ضمن حكمته فتبارك الله العزيز الحكيم.

وقوله: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} . الخطاب لمشركي قريش: أن اذكروا نعم الله عليكم فهل من خالق سواه يبسط ويغلق، فإنه لا مانع لما أعطى ولا معطي لما منع.

ففي الصحيحين والمسند من طريق ورَّاد كاتب المغيرة بن شعبة قال: [أملى علي المغيرة بن شعبة في كتاب إلى معاوية أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في دبر كل صلاة مكتوبة حين يسلم: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيى ويميت وهو حي لا يموت بيده الخير وهو على كل شيء قدير ثلاث مرات، اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت ولا ينفع ذا الجدِّ منك الجدّ](1).

فتفكروا أيها القوم هل من سبيل إلى الرزق من غير الله سبحانه، فهو المعطي وهو المانع، فأفردوه بالعبادة والألوهية والتعظيم، وهو قوله: {لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى

(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (6473)، ومسلم (593)، وأحمد (4/ 254 - 255).

ص: 284

تُؤْفَكُونَ}. قال قتادة: (يقول الرجل: إنه ليوفك عني كذا وكذا). وهو من الأَفْكِ وهو الصرف. وقيل من الإفك: وهو الكذب. قال القرطبي: (أي من أين يقع لكم التكذيب بتوحيد الله). وقال ابن جرير: (فأي وجه عن خالقكم ورازقكم الذي بيده نفعكم وضركم تصرفون).

وهذه الآية حجة على القدرية إذ يثبتون معه خالِقِين، والله نفى خالقًا غيره، فقال:{هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ} . وقرأ حمزة والكسائي بالجر: "هل من خالق غيرِ الله". وبقية القراء بالرفع، بمعنى ما خالقٌ إلا الله، أو في محل رفع صفة، والتقدير: هل خالق غير الله. ويجوز النصب على الاستثناء.

وقوله تعالى: {وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ} .

قال قتادة: (يعزي نبيّه كما تسمعون).

أي: فإن كذبوك يا محمد فلك بمن سلفك من الأنبياء أسوة، كذبهم أقوامهم فعاقبهم الله بتكذيبهم، فليس قومك بدعًا من الأقوام في التكذيب والكفر، ثم إلى الله تصير الأمور.

وقوله: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} . أي: فيا أيها المكذبون إنكم ستقدمون على لقاء حق، فالبعث والثواب والحساب والعقاب ونار جهنم حق. {فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا}. قال ابن جرير:(يقول: فلا يغرنكم ما أنتم فيه من العيش في هذه الدنيا ورياستكم التي تترأسون بها في ضعفائكم عن اتباع محمد والإيمان).

وقال سعيد بن جبير: (غرور الحياة الدنيا أن يشتغل الإنسان بنعيمها ولذاتها عن عمل الآخرة، حتى يقول: يا ليتني قدمت لحياتي).

وفي التنزيل: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} .

وفي صحيح مسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[إن الدنيا حلوة خضرة، وإن الله تعالى مستخلفكم فيها، فينظر كيف تعملون، فاتقوا الدنيا واتقوا النساء، فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء](1).

فشبه عليه الصلاة والسلام هذه الدنيا بالفاكهة الحلوة المذاق، والخضرة المنظر

(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم في الصحيح (8/ 89) - كتاب الفتن - باب: التحذير من فتنة النساء. وانظر مختصر صحيح مسلم (2068)، وكتابي: أصل الدين والإيمان لشرحه (1/ 231).

ص: 285

واللون، وحذر من أن يتعلق قلب المؤمن بها، فالمؤمن في خوف دائم من مصائدها التي يُسخط الوقوع بأحبلها ربه عز وجل.

وأخرج الإمام أحمد في المسند بسند صحيح، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[لما خلق الله الجَنَّة قال لجبريل: اذهب فانظر إليها، فذهب فنظر إليها ثم جاء فقال: أي ربِّ! وعزتك لا يسمع بها أحد إلا دخلها، ثم حفَّها بالمكاره، ثم قال: يا جبريل اذهب فانظر إليها، فذهب، ثم نظر إليها، ثم جاء فقال: أي رب! وعزتك لقد خشيت أن لا يدخلها أحد. فلما خلق الله النار، قال: يا جبريل! اذهب فانظر إليها، فذهب فنظر إليها، ثم جاء فقال: وعزتك لا يسمع بها أحد فيدخُلها، فحفها بالشهوات، ثم قال: يا جبريل اذهب فانظر إليها، فذهب، فنظر إليها فقال: أي رب وعزتك لقد خشيت أن لا يبقى أحد إلا دخلها](1).

وقوله: {وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} . قال ابن عباس: (الشيطان). وقال سعيد بن جبير: (الغرور بالله أن يكون الإنسان يعمل بالمعاصي ثم يتمنى على الله المغفرة).

وقد قرأها أبو حَيْوة وغيره: "الغُرور" بضم الغين، وهو الباطل. أي: لا يغرنكم الباطل. وقد نقل القرطبي عن ابن السكيت قوله: (الغرور ما اغترّ به من متاع الدنيا). في حين هي في قراءة جمهور القراء "الغَرور" بالفتح، وهو الشيطان. والغرور جمع غَرّ، وغررته متعد، نحو ضربته ضربًا.

وقوله: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} .

فعن قتادة: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا} : فإنه لحق على كل مسلم عداوته، وعداوته أن يعاديه بطاعة الله. {إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ} وحزبه أولياؤه {لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} أي ليسوقهم إلى النار فهذه عداوته).

وقال ابن زيد: ({إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ}: هؤلاء حزبه من الإنس يقول: أولئك حزب الشيطان، والحزب: ولاته الذين يتولاهم ويتولونه، وقرأ: {إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ (196)}).

فأخبر سبحانه عن أصالة عداوة إبليس منذ أن أخرج آدم من الجَنَّة وضمن إضلال ذريته بقوله: {وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ} ، وقوله: {لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16) ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ

(1) حديث صحيح. أخرجه أبو داود (4744)، والترمذي (2698). ورواه أحمد والحاكم. انظر تخريج الطحاوية (416)، وتخريج المشكاة (5696)، وصحيح أبي داود (3970).

ص: 286

مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ}، وقوله:{قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا} .

فكيف مع هذه العداوة البينة يتولاه كثير من الناس ويطيعونه! وقد فطن بعض أهل العلم لهذه المخادعة، فكان الفضيل بن عياض يقول:(يا كذاب يا مُفْتَرٍ، اتق الله ولا تَسُبَّ الشيطان في العلانية وأنت صديقه في السر).

وكان ابن السماك يقول: (يا عجبًا لمن عصى المحسن بعد معرفته بإحسانه، وأطاع اللعين بعد معرفته بعداوته) - نقله القرطبي رحمه الله.

7 -

10. قوله تعالى: {الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (7) أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (8) وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ (9) مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ (10)}.

في هذه الآياتِ: لما ذكر سبحانه الشيطان وحزبه ومصيرهم أتبع الكافرين الذين خضعوا للشيطان وحزبه ذلك المصير المؤلم، ونجّى المؤمنين خصوم الشيطان وحزبه الذين عاندوا الشيطان باعمالهم الصالحة وبتعظيمهم حرمات الله وحراسة الحق ونصرته، فلا تتحسر يا محمد على من يسيء إلى الحق ويعيش على النفاق والمخادعة، ويوهم من حوله ويوهم نفسه أنه يحسن صنعًا، وهو في حقيقة الأمر قد أضله الله، فهو العليم بما يبيتون وبما يصنعون، فلا تأسف عليهم فالله بعلمه التام وحكمته البالغة يضل من يشاء ويهدي من يشاء، كل ذلك قد عَلِمه وقدّره، فإن أنكروا البعث فذكرهم أن الله يرسل رياحًا فتثير سحابًا فيمطر أرضًا ميتة فيحييها بعد ما كانت هامدة لا حياة بها، وكذلك البعث بعد الموت، فمن أراد النجاة في الآخرة فلا طريق إلا بطاعة الله وامتثال أوامره واجتناب نواهيه وتعظيم شرعه، فهذا طريق العزة في الدنيا والآخرة، وكل مكر سيحيق بأهله وسيرتد عليهم نقمًا وعذابًا.

ص: 287

فقوله: {الَّذِينَ كَفَرُوا} . يكون - الذين - في محل جر: بدلًا من قوله: {مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} أو بدلًا من "حزبَه". فيكون في محل نصب، أو في محل رفع مبتدأ خبره قوله تعالى:({لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ}. ويكون قوله: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} في محل رفع على الابتداء أيضًا وخبره: {لَهُمْ مَغْفِرَةٌ}. وقوله: {وَأَجْرٌ كَبِيرٌ}. قال قتادة: (وهي الجَنَّة).

وقوله: {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} .

قال قتادة: (الشيطان زين لهم {فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ} أي لا يحزنك ذلك عليهم فإن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء).

وقال ابن زيد: (الحسرات: الحزن، وقرأ قول الله: {يَاحَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ}). قال ابن جرير: (وحذف من الكلام: ذهبت نفسك عليهم حسرات اكتفاء بدلالة قوله: {فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ} منه).

ووقع قوله: {فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} موضع الجواب. وقد قرأها الجمهور: "فلا تَذْهَب نفسك"، وقرأها أبو جعفر المدني وشيبة:"فلا تُذْهِب نفسك" والأول أصح وعليه إجماع القراء.

فالمراد هنا - والله تعالى أعلم - كفار قريش، كما قال في موضع آخر:{فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا} أي من شدة النصح كأنك قاتل نفسك، وقد قال له في موضع آخر يسليه:{وَلَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ} ، وقال في موضع ثالث: ({لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ} .

وقوله: {وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ} . قال قتادة: (يرسل الرياح فتسوق السحاب فأحيا الله به هذه الأرض الميتة بهذا الماء، فكذلك يبعثه يوم القيامة).

وقوله: {فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} . أي: فينشر الله سبحانه الموتى بعد بلائهم في قبورهم فيحييهم كما أحيا الأرض الميتة بالغيث والقطر فهو على كل شيء قدير، وهو قوله:{كَذَلِكَ النُّشُورُ} .

فيكون المقصود من المعنى: أي: فليتهيؤوا وليتعززوا بطاعة الله، فكل سبيل آخر مآله إلى المذلة والهوان كعبادة الأهواء والأصنام والأوثان.

وقوله: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ} . قال مجاهد: (يقول: من كان يريد العزّة بعبادته

ص: 288

الآلهة). {فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا} . قال قتادة: (يتول: فليتعزز بطاعة الله).

وقيل: من كان يريد علم العزة لمن هي فإنها لله كلها. وخلاصة المعنى: أنَّ الله سبحانه وبّخَ المشركين على عبادتهم الأوثان، ووبخهم على عبادتهم الطاغوت، ونعتهم بالكفر إذا تحاكموا لغير شرعه ومنهاجه، ودعاهم إلى العزة بمعناها الحقيقي وهي التعزز بالله وذكره وعبادته لا بالمال ولا بالسلطان ولا بالولد ولا بزينة الحياة الفانية، فإليه يرفع العمل الصالح، وهو الذي يعكسه عزًا وقوة في حياة صاحبه.

وقوله: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} - فيه تفاسير:

التفسير الأول: أن يكون قوله: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} قد تم. ثم تستأنف القراءة بقوله: {وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} . فيكون المعنى: إلى الله يصعد الكلم الطيب، والله هو يرفع العمل الصالح وصاحبه.

قال قتادة: (لا يقبل الله قولًا إلا بعمل، من قال وأحسن العمل قبل الله منه).

قلت: إن صح هذا عن قتادة فلا بد من تأويله، لأن العاصي التارك للفرائض إذا ذكر الله وقال كلامًا طيبًا فإنه مكتوب له متقبل بإذن الله، فيحمل قول قتادة على عدم حيازة درجة القبول الكلية لفقدانه العمل فيأخذ أجر القول والله أعلم.

التفسير الثاني: أن يكون الكلام متصلًا، فيكون المعنى أن العمل الصالح هو يرفع الكلم الطيب، أي أن العمل الذي صدّق القول قد حمّله الله قوة ومصداقية لما تطابق مع القول، فيحمل العملُ القولَ إلى الله فيصعد به فيستقبله الله جل ثناؤه.

قال ابن عباس: (الكلام الطيب: ذكر الله، والعمل الصالح: أداء فرائضه. فمن ذكر الله سبحانه في أداء فرائضه حُمِل عليه ذكر الله، فصعد به إلى الله، ومن ذكر الله ولم يؤد فرائضه رُدَّ كلامه على عمله فكان أولى به).

وقال ابن عباس ومجاهد: (المعنى والعمل الصالح يرفع الكلم الطيب).

قال القرطبي: (وإنما يستقيم قول من يقول: إن العمل هو الرافع للكلم، بأن يتأول أنه يزيده في رفعه وحسن موقعه إذا تعاضد معه).

وذكر قول ابن المقنع: (قول بلا عمل، كثريد بلا دسم، وسحاب بلا مطر، وقوس بلا وتر).

وأنشد بعضهم:

ص: 289

لا ترض من رجل حلاوةَ قوله

حتى يُزيّنَ ما يقول فعال

فإذا وزنت فعاله بمقاله

فتوازنا فإخاء ذاك جمال

التفسير الثالث: أن يكون الكلم الطيب هو التوحيد، فهو الرافع للعمل الصالح، إذ لا يقبل العمل الصالح إلا مع الإيمان والتوحيد، فقد روي ذلك عن شَهْر بن حَوْشب وقال:({الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} القرآن، {وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} القرآن).

قلت: وأميل إلى التفسير الثاني حيث العمل قد حمّله الله قوة ليرفع القول لما تطابق القول والعمل ولم يظهر الشقاق بينهما، فكم أخّر المسلمين اليوم كثرة الادّعاء واضمحلال العمل، وكم حَوَّلَ الإسلامَ كثيرٌ من الناس في حياتهم إلى فلسفة وكلام وجَدَل، لا رَصيد لذلك في واقع الأمة ولا في واقع التغيرٍ والبناء، فحصل الطلاق اليوم في الأمة بين القول والعمل، فصارت أمة ادعاء وغرور وعجز وكسل، وقد عاب الله ذلك في القرآن الكريم، فقال في سورة الصف:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ (3) إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ} .

قال بعضهم:

لا يكون المقال إلا بفعل

كل قول بلا فعال هباء

إن قولًا بلا فعال جميل

ونكاحًا بلا وليّ سواء

قلت: وقد جاءت السنة الصحيحة بآفاق هذا المعنى، فمن رضي الله عن منهاج عمله وقوله، وفقه لعمل صالح يختم له به. وفي ذلك أحاديث:

الحديث الأول: أخرج الطبراني بسند صحيح عن أبي أمامة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[إذا أراد الله بعبد خيرًا طهره قبل موته، قال: وما طَهورُ العبد؟ قال: عمل صالح يلهِمُه إياه حتى يقبضه عليه](1).

الحديث الثاني: أخرج الإمام أحمد فيِ المسند بسند صحِيح عن أبي عنبة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[إذا أراد الله بعبد خيرًا عَسَلهُ، قيل: وما عَسَلهُ؟ قال: يفتح له عملًا صالحًا قبل موته ثم يقبضه عليه](2).

(1) حديث صحيح. أخرجه الطبراني، وابن حبان (1822) نحوه. وانظر صحيح الجامع (303).

(2)

حديث صحيح. أخرجه أحمد في المسند (5/ 224)، والطحاوي في "مشكل الآثار"(3/ 261).

وانظر سلسلة الأحاديث الصحيحة (1114)، والمرجع السابق (304).

ص: 290

الحديث الثالث: أخرج الإمام أحمد من طريق عمرو بن الحمق، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[إذا أراد الله بعبد خيرًا استعمله، قيل: أو ما استعمله؟ قال: يفتح له عملًا صالحًا بين يدي موته حتى يرضى عليه من حوله](1).

وله شاهد من حديث أنس بلفظ: [قيل: كيف يستعمله؟ قال: يوفقه لعمل صالح قبل الموت ثم يقبضه عليه].

وقوله: {وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ} . قال قتادة: (هؤلاء أهل الشرك). وقال أبو العالية: (هم الذين مكروا بالنبي صلى الله عليه وسلم لما اجتمعوا في دار الندوة). وقال الكلبي: (الذين يعملون السيئات في الدنيا). وقال مقاتل: (يعني الشرك).

قلت: ويدخل في هؤلاء الملأ المتكبرون الذين يحبون إشاعة الفساد في الأرض من الاستهزاء في الدين، وحرف الأجيال إلى تعظيم الشهوات وسلوك سبيل الفواحش.

وقوله: {وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ} . قال شهر بن حوشب: (هم أصحاب الرياء). أي إن عملهم يذهب ويبطل لأنه لم يكن لله. وقال قتادة: (أي يفسد). وقال ابن زيد: (بَارَ فلم ينفعهم ولم ينتفعوا به وضرّهم).

والمكر في لغة العرب ما عمل على سبيل احتيال وخديعة. وبار يبور إذا هلك وبطل، ومنه قولهم: بارت السوق إذا كسدت.

وفي التنزيل: {وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا} أي هلكى.

وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[قال الله تعالى: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عَمِلَ عملًا أشرك فيه معي غَيْري تركته وشِركه](2).

وهو كقوله جل ذكره: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} .

وللحديث شاهد في طبقات ابن سعد بسند حسن عن أبي سعد بن أبي فَضَالة عن

(1) حديث صحيح. انظر مسند أحمد (4/ 200)، (4/ 135)، وتخريج "السنة" لابن أبي عاصم (400). وانظر صحيح الجامع الصغير (301)، (302).

(2)

حديث صحيح. أخرجه مسلم في صحيحه (2985)، كتاب الزهد. باب تحريم الرياء.

ص: 291

النبي صلى الله عليه وسلم قال: [إذا كان يوم القيامة نادى منادٍ: مَنْ عَمِلَ عملًا لغير الله فليطلب ثوابه ممن عمله له](1).

11 -

14. قوله تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (11) وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (13) إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ (14)}.

في هذه الآياتِ: يعرِّف الله جل ثناؤه بمزيد من آياته وقدرته لعلها تنفع المشركين المتكبرين أن ينزجروا ويرعووا ويفروا إلى ربهم مخبتين مستسلمين موحدين. فبعد أن ذكّرهم بحركة الرياح والأمطار التي تصدر عن أمره فيحصي بها أرضًا مواتًا وكذلك النشور والبعث يحيي الله به الناس بعد أن أماتهم، فليتعززوا بطاعته فهي النجاة لهم. ثم هنا يذكّرهم بخلقهم وضعفهم من تراب ثم من ماء مهين ثم كبّرهم وصيّرهم رجالًا وإناثًا، وزوَّجهم فعمَّروا في الأرض إلى حين، وكل ذلك بعلمه وتقديره فإلى أين المفر من لقائه. ثم أشار لهم إلى بعض آياته الكونية الكبيرة التي تدل عليه وعلى قدرته سبحانه إذ خلق الأنهار وخلق البحار، وخلق الآبار والبحيرات وخلق المحيطات، وجعل في البحار والمحيطات من كنوز الطعام والحلي شيئًا عجيبًا، وسخّر السفن تجري بكم فيه وتحملكم لتجارتكم ولترحالكم ولتقارب بين أسفاركم، وأودع في المياه العذبة من الخير الوفير لحياتكم، أفلا يستحق سبحانه وتعالى أن تشكروه على هذه الآلاء والنعم

(1) حديث حسن. انظر صحيح الجامع الصغير (794)، وتخريج المشكاة (5318).

ص: 292

التي لا تحصونها. ثم انظروا كيف ينقص الليل ويجعله في النهار وينقص النهار ويجعله في الليل، والشمس والقمر كل يجري بأمره، ولكم في كل هذا منافع كثيرة قد تدركون بعضها وما يخفى عليكم أكثر، فهو الملك سبحانه فلماذا تدعون حجرًا أو قبرًا أو صالحًا مضى لا يملك لنفسه حياة ولا نشورًا، ولماذا تنافقون لأمثالكم من البشر ولا تصرفون كل توجهاتكم إلى الله العظيم الذي خلق وقذر وهدى وقد أخبتت له الجبال والسماوات والأرض والبحار والشمس والقمر والنجوم والدواب كل قد علم صلاته وتسبيحه.

فعن قتادة: ({وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ} يعني آدم {ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ} يعني ذريته {ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا} فزوَّج بعضكم بعضًا).

وقوله: {وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ} . أي: فلا يكون حمل ولا وضع إلا والله عالم به فلا يخرج شيء عن تدبيره.

أخرج الإمام أحمد في المسند، بسند صحيح، عن أنس رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[لو أن الماء الذي يكون منه الولدُ أُهْرقْتَهُ على صخرة، لأخرج الله تعالى منها ولدًا، وليخلقَنَّ الله نفسًا هو خالقها](1).

بل الأمر أدق من ذلك، كما قال جل ثناؤه:{وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} .

ثم قال جل ذكره: {وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ} . قال الحافظ ابن كثير: (أي ما يعطي بعض النطف من العمر الطويل يعلمه وهو عنده في الكتاب الأول).

فزيادة العمر ونقصانه أمر قد فرغ الله من كتابته والعبدْ ممتحن في كل ذلك. قال ابن زيد: (ألا ترى الناس: الإنسان يعيش مئة سنة وآخر يموت حين يولد؟ فهذا هذا).

وروى ابن جرير عن الحسين قال: سمعت أبا معاذ يقول: (من قضيت له أن يعمر حتى يُدركه الكبر أو يعمر أنقص من ذلك، فكل بالغ أجله الذي قد قضى له، كل ذلك في كتاب).

(1) حديث حسن. أخرجه أحمد (3/ 140)، ورواه ابن حبان وابن أبي عاصم. انظر صحيح الجامع رقم (5121). وله شاهد عند ابن ماجة (89)، وأحمد (3/ 313). وانظر السلسلة الصحيحة (1333).

ص: 293

وقال القرطبي رحمه الله: {وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ} : سمَّاه معمّرًا بما هو صائر إليه).

ثم ذكر أثرًا عن ابن عباس: ({وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ} إلا كتب عمره، كم هو سنة، كم هو شهرًا، كم هو يومًا، كم هو ساعة، ثم يكتب في كتاب آخر: نقص من عمره يوم، نقص شهر، نقص سنة، حتى يستوفي أجله).

وعن قتادة: (المعمّر من بلغ ستين سنة، والمنقوص من عمره من يموت قبل ستين سنة).

قلت: ومن بلغ ستين سنة في هذه الأمة فقد أتم الله له العذر. فقد أخرج الحاكم بإسناد صحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[إذا بلغ الرجل من أمتي ستين سنة فقد أعذر الله إليه في العمر](1).

وله شاهد أخرجه عبد بن حميد، عن سهل بن سعد، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[إذا بَلَّغ الله العبدَ ستين سنة فقد أعذر إليه وأبلغ إليه في العُمُر](2).

ويبدو أن الضمير في قوله: {وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ} يدل على معمَّر آخر، فيكون المعنى:(وما يعمر من معمر فيطول عمره أو يهرم، ولا ينقص من عمر آخر عن عمر هذا الذي عمَّر طويلًا أو عن الهرم، إلا هو مكتوب قبل أن تحمل به أمه في كتاب).

وروى ابن جرير بسنده عن أبي مالك في هذه الآية: {وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ} قال: (ما يقضي من أيامه التي عددت له إلا في كتاب).

وقيل: إنما الزيادة في العمر بالذرية الصالحة يُرزقها العبد فيدعون له من بعده فيلحقه دعاؤهم في قبره فذلك زيادة العمر.

وفي الصحيحين عن أنس قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: [من سرّه أن يبسط له في رزقه، وينسأ له في أثره، فليصل رحمه](3).

وقوله: {إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} . أي: إن إحصاء أعمار خلقه عليه سهل يسير، وكتابة الأعمال والآجال قبل أن يخلق السماوات والأرض أمر هو عليه سبحانه قدير.

(1) حديث صحيح. رواه الحاكم (2/ 428) بألفاظ متقاربة، وله شاهد في مسند أحمد (2/ 417).

وانظر صحيح الجامع الصغير - حديث رقم - (407).

(2)

حديث صحيح. رواه عبد بن حميد، عن سهل بن سعد. وله شاهد في مسند أحمد (2/ 320).

وانظر سلسلة الأحاديث الصحيحة (1089). والمرجع السابق (408).

(3)

حديث صحيح. أخرجه البخاري في الصحيح (2067). وانظر مختصر صحيح مسلم (1762).

ص: 294

وقوله: {وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ} . أي: فما يعتدل البحران الفرات العذب والأجاج المالح المرّ، وهو أشد المياه ملوحة. فعن قتادة:({وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ} قال: والأجاج: المرّ). فالعذب الفرات يشير إلى الأنهار السارحة السائغة الشراب التي ماؤها عذب زلال، والملح الأجاج يشير إلى البحار الساكنة التي تسير بها السفن الكبار.

وقوله: {وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا} . قال قتادة: (أي منهما جميعًا. {وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا}. قال: هذا اللؤلؤ. {وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ} قال: فيه السفن مقبلة ومدبرة بريح واحدة).

فيكون المعنى: فتأكلون السمك من عذبهما الفرات وملحهما الأجاج، وتستخرجون الدر والياقوت والمرجان من الملح الأجاج، نحو قوله تعالى:{يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} . والسفن تمخر مَخْرًا: أي تشق الماء بصدورها. فقوله: {وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا} فاجتمعا في الأول وانفرد الملح بالثاني، فالحلية إنما تستخرج من الملح خاصة.

وقوله: {لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} . أي: على تسخيره سبحانه لكم، تتصرفون فيه كيف شئتم، وتعبرونه باسفاركم وتجارتكم إلى البلدان البعيدة في مدة قريبة، فلعلكم تشكرونه على ما هيأ لكم فيه من فضله ونجاكم من أهواله فسلمتم وغنمتم.

وقوله: {يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ} . قال قتادة: (زيادة هذا في نقصان هذا، ونقصان هذا في زيادة هذا). وقال ابن عباس: (هو انتقاص أحدهما من الآخر). أي فما نقص من الليل أدخله في النهار فزاده وبالعكس.

وقوله: {وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى} . قال قتادة: (أجل معلوم وحدّ لا يُقَصِّرُ دونه ولا يتعداه). فأجرى لكم سبحانه الشمس والقمر نعمة ورحمة منه لتعلموا عدد السنين والحساب، ولتعرفوا الليل من النهار، كل يجري لوقت معلوم، فالذي يفعل ذلك هو من لا تصلح العبادة إلا له، فتوجهوا إليه أيها الناس وأفردوه بالألوهية فها أنتم أولاء تقرون له بالربوبية.

وقوله: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ} . قال قتادة: (أي هو الذي يفعل هذا).

ص: 295

وقال القرطبي: (أي هذا الذي من صنعه ما تَقرر هو الخالق المدبر والقادر المقتدر فهو الذي يعبد).

وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ} .

أي ما تدعون من الأوثان والأصنام لا يقدرون عليه ولا على خلقه، فهو الخالق وحده سبحانه، وما أحد ممن تشركون به يملك في هذا الكون من قطمير. والقطمير، كما قال ابن عباس:(هو شق النواة). وفي رواية عنه: (جلد النواة). وفي رواية: (الجلد الذي يكون على ظهر النواة). وقال قتادة: (القشرة على رأس النواة). فأكد سبحانه بأن ما تدعون من دونه لا يملك هذه القشرة الرقيقة البيضاء التي بين التمرة والنواة أن يخلقها أو يصنعها، فكيف تصرفون له شيئًا من العبادة والتوجه والتعظيم.

وقوله تعالى: {إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} .

قال قتادة: (المعنى لو سمعوا لم ينفعوكم). وفي رواية عنه: (أي ما قبلوا ذلك عنكم ولا نفعوكم فيه). وقيل: (أي لو جعلنا لهم عقولًا وحياة فسمعوا دعاءكم لكانوا أطوع لله منكم ولما استجابوا لكم على الكفر).

فإن تستغيثوا بهم في النوائب والكرب لا يسمعوا دعاءكم؛ لأنَّها جمادات لا تبصر ولا تسمع، وبهذا المعنى قال ابن جرير:(ولو سمعوا دعاءكم إياهم وفهموا عنكم أنَّها قولكم بأن جُعِلَ لهم سمعٌ يسمعون به ما استجابوا لكم لأنَّها ليست ناطقة، وليس كل سامع قولًا متيسّرًا له الجواب عنه).

ثم يوم القيامة تتبرأ آلهتكم منكم، تتبرأ الآلهة التي كنتم تعبدونها في الدنيا من دون الله أن تكون كانت لله شريكًا في الدنيا.

وقوله: {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ} . قال قتادة: (ويوم القيامة يكفرون بشرككم إياهم ولا يرضون ولا يقرّون به).

أي يجحدون أنكم عبدتموهم، فتبرأ منهم الملائكة والأوثان والشياطين ويخزيهم الله.

وقوله: {وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} . قال قتادة: (والله هو الخبير أنه سيكون هذا منهم يوم القيامة). وقال ابن جرير: (ولا يخبركم يا محمد عن آلهة هؤلاء المشركين

ص: 296

وما يكون من أمرها وأمر عَبَدتها يوم القيامة، من تبرُّئها منهم وكفرها بهم مثل ذي خبرة بأمرها وأمرهم، وذلك الخبير هو الله الذي لا يخفى عليه شيء كان أو يكون سبحانه).

15 -

26. قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (15) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (16) وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (17) وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (18) وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ (19) وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ (20) وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ (21) وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ (22) إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ (23) إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ (24) وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ (25) ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (26)}.

في هذه الآياتِ: يخاطب الله سبحانه عباده: يا أيها الناس أنتم أولو الفقر والضعف والعجز والحاجة إلى ربكم سبحانه، فإياه فاعبدوا وإليه فاقصدوا يغنكم من فضله، فهو الغني لا يفتقر إلى شيء من خلقه، وهو الحميد في أقواله وأفعاله، ولو شاء لأذهبكم وجاء بغيركم فالأمر له لا شريك له، ويوم القيامة لا يحمل أحدٌ عن الآخر وزره، ولا يعين نفسًا مثقلة بأوزارها تسأل العون على حملها أحدٌ ولو كان أباها أو ابنها أو زوجها أو أخاها أو جارها، وإنما يتعظ من كان من أولي الأبصار والنهى، وخاف مقام ربه وأقام الدين في حياته والصلاة التي هي عماده، وزكّى نفسه وطهّرها من دنس الكفر والذنوب بالتوبة وحسن الإيمان والعمل. فكما لا تستوي الأشياء المتباينة المتضادة في صفاتها كالأعمى والبصير والظلمات والنور والظل والحرور، فكذلك لا يستوي الأحياء ولا الأموات، فشبه سبحانه المؤمنين بالأحياء والكافرين بالأموات، فكما لا ينتفع الموتى بعد موتهم وهم كفار بالهداية والإيمان، فكذلك المشركون المعاندون الذين علم الله ما في قلوبهم فكتب عليهم الشقاوة، فلا تذهب نفسك عليهم حسرات، إنما عليك البلاغ، فكل أمة مضى فيها نذير، ومن كذّب

ص: 297

منهم دكّهم الله دكًّا وجعلهم للأمم بعدهم أحاديث وقصصًا. وإليك تفصيل ما قاله المفسّرون:

قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} . قال ابن جرير: (يقول تعالى ذكره: يا أيها الناس أنتم أولو الحاجة والفقر إلى ربكم فإياه فاعبدوا وفي رضاه فسارعوا، يغنكم من فقركم وتنجح لديه حوائجكم).

وعرّف سبحانه لفظ {الْفُقَرَاءُ} ليريهم أنهم لشدة افتقارهم اليه هم جنس الفقراء، كما قال عز وجل:{وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا} فشهد سبحانه على الإنسان بالضعف، كما قال في موضع آخر:{اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ} فالفقر مما يتبع الضعف. فلما أثبت فقرهم إليه وغناه عنهم أتبع ذلك بذكر صفة كريمة من صفاته وهي صفة الحميد، إذ ليس كل غني جوادًا منعمًا كريمًا.

قال القرطبي: (ذكر الحميد ليدُلّ به على أنه الغني النافع بغناه خلقه الجواد المنعم عليهم، المستحق بإنعامه عليهم أن يحمدوه).

فهو المحمود على نعمه لو شاء أهلككم، فقد أنشأكم من غير ما حاجة إليكم. وبقوله:{وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} تكون {هُوَ} في محل رفع مبتدأ، وتفيد في صرف هذه الصفة لله وحده، فهو وحده الغني الحميد لا يشاركه بهذا أحد.

وقوله تعالى: {إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ} . قال قتادة: (أي ويأت بغيركم). أي: فهو القادر سبحانه أن يأت بخلق سواكم يطيعونه ويأتمرون بأمره، فإن ذلك عليه يسير فخافوه وعظّموه قبل أن يفعل ذلك، فلو شاء أفناكم وجاء بأطوع منكم.

وقوله: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} .

قال ابن عباس: (يكون عليه وزر لا يجد أحدًا يحمل عنه من وزره شيئًا). وقال ابن جرير: (وإن تسأل ذات ثِقْل من الذنوب مَنْ يحمل عنها ذنوبها وتطلب ذلك لم تجد من يحمل عنها شيئًا منها ولو كان الذي سألته ذا قرابة من أب أو أخ).

وتزر أصلها تَوْزَر، فحذفت الواو اتباعًا ليزر، وقوله:{وَازِرَةٌ} صفة لمحذوف، وتقديره: نفس وازرة. {ذَا قُرْبَى} في محل نصب خبر كان، وأنّثت {مُثْقَلَةٌ} لتدل على النفس، أي وإن تدع نفس مثقلة أن يحمل عنها ذنوبها ذا قربى لها. ثم إن النفس

ص: 298

تستعمل للذكر والأنثى، كقوله تعالى:{كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ} أي كل ذكر وأنثى.

وفي التفاسير عن الفضيل بن عياض: ({وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} قال: هي المرأة تلقي ولدها فتقول: يا ولدي، ألم يكن بطني لك وعاء، ألم يكن ثديي لك سقاء، ألم يكن حجري لك وطاء، فيقول: بلى يا أماه، فتقول: يا بنى، قد أثقلتني ذنوبي، فاحمل عني منها ذنبًا واحدًا، فيقول: إليك عني يا أماه، فإني بذنبي عنك مشغول).

ثم قال سبحانه: ({إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ}. قال قتادة: (أي يخشون النار). كما قال جل ثناؤه: {إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ} .

وقوله: {وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ} . أي: أدوها بحدودها وأركانها وفرائضها كما شرعها الله لهم.

وقوله: {وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ} . قال ابن جريرَ: (ومن يتطهر من دنس الكفر والذنوب بالتوبة إلى الله والإيمان به والعمل بطاعته فإنما يتطهر لنفسه، وذلك أنه يثيبها به رضا الله والفوز بجنانه والنجاة من عقابه الذي أعدّه لأهل الكفر به).

وعن قتادة: ({وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ}: أي من يعمل صالحًا فإنما يعمله لنفسه).

وقوله: {وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ} . أي: فمصير كل عامل منكم أيها الناس إليه، فمؤمنكم وكافركم وبركم وفاجوكم كل سيرجع إليه ويقف بين يديه.

وقوله: {وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ (19) وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ (20) وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ (21) وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ} .

المعنى: فلا يستوي الأعمى عن دين الله والذي أبصر رشده وسنة هذا النبي الكريم فاتبعها، وما تستوي ظلمات الكفر والفلسفة ونور الوحي والإيمان، ولا الظل وهو الجَنَّة، والحرور وهو النار - وهو السموم أي الرياح الحارة - وما يستوي أحياء القلوب التي أنعشها الله بالوحي مع أموات القلوب التي أشقتها الكبائر والكفر والمناهج المهزوزة المهترئة، كما قال جل ذكره:{أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} .

قال ابن عباس: ({وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ} : هو مَثَلٌ ضربه الله لأهل الطاعة وأهل المعصية. يقول: وما يستوي الأعمى والظلمات والحرور، ولا الأموات فهو مثلُ أهل

ص: 299

المعصية، ولا يستوي البصير ولا النور ولا الظل والأحياء فهو مثلُ أهل الطاعة).

وعن قتادة: (قوله: {وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ} خلقًا، فضّل بعضه على بعض، فأما المؤمن فعبد حيّ الأثر حيّ البصر، حيّ النية، حيّ العمل، وأما الكافر فعبد ميت، ميت البصر ميت القلب ميت العمل).

وفي قوله: {وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ} قيل: {لا} زائدة، فإن لم تدخل مع الواو فذلك اكتفاء بدخولها أول الكلام، فإن أدخلت فالمراد أن كل واحد منهما لا يساوي صاحبه، فلا يساوي الأعمى البصير ولا يساوي البصير الأعمى.

والحرور من الحرّ، على وزن فعول، وهو الحرّ المؤذي الكثيف.

ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:[قالت النار: ربّ أكل بعضي بعضًا، فأذَنْ لي أتنفَّس، فأذِن لها بِنَفَسَيْن: نفسٍ في الشتاء ونفس في الصيف، فما وجدتم من برد أو زمهرير فمن نفس جهنم، وما وجدتم من حر أو حرور فمن نفس جهنم](1).

وفي رواية عن أبي هريرة: (فما تجدون من الحر فمن سمومها، وشدّة ما تجدون من البرد فمن زمهريرها).

وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ (22) إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ} .

قال قتادة: (كذلك الكافر لا يسمع ولا ينتفع بما يسمع).

أي: فكما أنك يا محمد لا تستطيع أن تسمع من في القبور كتاب الله فيهديهم لسبيل الرشاد، فكذلك لا تقدر أن تنفع بمواعظ الله وحججه من كان ميت القلب من الأحياء، فإنما تنذر هؤلاء المشركين فتبشر بالجنة مَنْ صَدَّقَكَ وتنذر بالنار مَنْ كَذَّبَكَ، ولا يملك الهداية إلا الله.

وقوله: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} أي: لتبشر بالجنة وتنذر عقاب الجحيم.

وقوله: {وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ} .

قال قتادة: (كل أمة كان لها رسول).

(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم (617)، كتاب المساجد. (باب استحباب الإبراد بالظهر في شدة الحر لمن يمضي إلى جماعة ويناله الحر في طريقه).

ص: 300

وقوله تعالى: {وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ} .

قال قتادة: ({بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالزُّبُرِ}. أي الكتب. {وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ} قال: يضعف الشيء وهو واحد).

فيسلي سبحانه نبيّه بالصبر، فقد تعاقب الأمم على التكذيب بالبينات: وهي الحجج. وبالزبر: وهي الكتب المكتوبة. وبالكتاب المنير: أي الواضح.

قال القرطبي: (وكرّر الزبر والكتاب وهما واحد لاختلاف اللفظين).

وقيل: الكل واحد، وهو ما أنزل على الأنبياء من الكتب، فيسلي الله بذلك نبيه لما يلقاه من المشركين من التكذيب، فقد كذّب من مضىِ قبلهم من الأمم فدكهم الله، فليعتبر هؤلاء ألا ينزل بهم ذاك المصير الفاجع. {ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ}. أي: فانظر يا محمد كيف كان تغييري بمن جحد، وكيف كان حلول نقمتي وعقوبتي بهم.

27 -

30. قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ (27) وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (28) إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ (29) لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ (30)}.

في هذه الآياتِ: يَصْرِفُ الله فِكْرَ نَبِيِّه إلى التفكر في عظيم خلقه سبحانه: ألم تر يا محمد ما أنزل الله من السماء من الغيث فأخرج به ألوانًا مختلفة من الثمار والأشجار بطعوم مختلفة وروائح مختلفة، وكذلك ما خلق من الجبال خلقها بألوان متباينة متمايزة، وفي بعضها طرائق وهي الجدد وقطع جبلية سود، وكذلك خلق من الأناسي والدواب والأنعام بألوان مختلفة، فإنما يخشاه سبحانه حق خشيته العلماء العارفون به، ثم إن الذين يتلون كتابه ويتعاهدونه ويقيمون الصلاة وينفقون بالسر والعلانية،

ص: 301

أولئك سيستقبلون ثوابًا عظيمًا في الآخرة، ورضوان من الله أكبر، فمن عظّم شرع الله ودينه وأمره فإن الله يزيده رضًا يوم القيامة.

وعن قتادة: ({أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا} قال: أحمر وأخضر وأصفر، {وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ} أي طرائق بيض، {وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا} أي جبال حمر وبيض، {وَغَرَابِيبُ سُودٌ} هو الأسود يعني لونه، كما اختلف ألوان هذه اختلف ألوان الناس والدواب والأنعام كذلك).

والجدد: الطرائق تكون في الجبال، واحدتها جُدَّة - ذكره الضحاك. والغرابيب: الجبال الطوال السود - قاله عكرمة.

قال ابن جرير: ({وَغَرَابِيبُ سُودٌ}: وذلك من المقدّم الذي بمعنى التأخير. تقول العرب أسود غربيب إذا وصفوه بشدة السواد).

فخلق الله الجبال مختلفة الألوان كما خلق الثمار مختلفة الألوان والطعم. نحو قوله تعالى: {وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} .

وقوله: {وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ} .

الدواب كل ما دبّ على القوائم، وعطف عليها الأنعام من باب عطف الخاص على العام، فهي مختلفة الألوان كما اختلفت الوان الناس.

قال الحافظ ابن كثير: (فالناس منهم بربر وحوش وطماطم في غاية السواد، وصقالبة وروم في غاية البياض، والعرب بين ذلك، والهنود دون ذلك).

وفي التنزيل: {وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ} [الروم: 22].

وقوله: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} . أفاد الإمام القرطبي رحمه الله أن الرؤية في قوله: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً} هي رؤية القلب والعلم، أي: لم ينته علمك ورأيت بقلبك، فجاء اسم أنّ وخبرها في مسدّ مفعولي "ترَ". ثم ذكر {الْعُلَمَاءُ} عطفًا على العلم فقال:{إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} . أي إنما يخشاه سبحانه حق الخشية لعارفون به.

قال ابن كثير: (لأنه كلما كانت المعرفة بالعظيم القدير العليم الموصوف بصفات

ص: 302

الكمال المنعوت بالأسماء الحسنى أتم، والعلم به أكمل، كانت الخشية له أكبر وأعظم وأكثر).

وقال قتادة: (كان يقال كفى بالرهبة علمًا). وقال مجاهد: (إن العالم من خشي الله عز وجل. وقال الحسن البصري: (العالم من خشي الرحمان بالغيب، ورغب فيما رغّب الله فيه، وزهد فيما سخط الله فيه، ثم تلا الحسن: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ}).

وبمثل هذا الفهم الثاقب روي عن وهب بن مالك قال: (إن العلم ليس بكثرة الرواية، وإنما العلم نور يجعله الله في القلب).

وقد أخرج الإمام النسائي في كتاب العلم بإسناد جيد عن مسروق قال: (بحسب المرء من العلم أن يخشى الله، وبحسبه جهلًا أن يعجب بعلمه).

وعن ابن مسعود قال: (كفى بخشية الله تعالى علمًا وبالاغترار جهلًا).

وأخرج الطبراني في الأوسط، والبزار في المسند، بإسناد حسن، عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [فضل العلم خير من فضل العبادة، وخير دينكم الورع](1).

وكان الربيع بن أنس يقول: (من لم يخش الله تعالى فليس بعالم).

وعن ابن عباس: ({إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} قال: الذين يعلمون أن الله على كل شيء قدير).

فالمعنى: إنما يخشى الله فيتقي عقابه ويحذر غضبه وسخطه، بطاعته وامتثال أوامره وتعظيم شرعه، العلماء بقدرته وبصفاته، فيخافونه حق الخوف ويلتمسون رضاه وعفوه.

وفي الأثر عن علي رضي الله عنه: (إن الفقيه حق الفقيه من لم يُقنط الناس من رحمة الله، ولم يرخص لهم في معاصي الله تعالى، ولم يؤمنهم من عذاب الله، ولم يدع القرآن رغبة عنه إلى غيره، إنه لا خير في عبادة لا علم فيها، ولا علم لا فقه فيه ولا قراءة لا تدبر فيها) - ذكره القرطبي.

(1) حديث صحيح. رواه الطبراني في "الأوسط" والبزار بإسناد حسن. انظر صحيح الجامع (4090)، وانظر: صحيح الترغيب (1/ 66) كتاب العلم، باب الترغيب في العلم وطلبه.

ص: 303

فالعالم الورع هو الذي نصب الحق طريقًا له في حياته، وعكف على الإخلاص والإحسان منهجًا في سلوكه، ورأى في العلم أمانة فقام به لإنقاذ أمته، وعظّم الوحيين: كتاب ربه وسنة نبيّه، فهو الذي بشره الله بقوله:{يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة: 11]. وهو الذي بشره رسول الله صلى الله عليه وسلم ببشراه، كما يروي ذلك الإمام الترمذي بسند صحيح عن أبي أمامة الباهلي قال:[ذُكِرَ لرسول الله صلى الله عليه وسلم رجلان: أحدهما عابد والآخر عالم. فقال عليه أفضل الصلاة والسلام: فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم. ثم قال: إن الله وملائكته وأهل السماوات والأرض حتى النملة في جُحْرِها وحتى الحوت ليصلون على معلمي الناسَ الخير](1).

ورواه البزار من حديث عائشة مختصرًا ولفظه: [معلم الخير يستغفر له كل شيء حتى الحيتان في البحر].

وأما من أراد بالعلم الدنيا وحب الرياسة فالويل الويل، وعيد الله ورسوله له ولعمله بالبوار، والخسارة والهلاك والدمار.

فقد أخرج أبو داود وابن ماجة بسند صحيح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [من تعلم علمًا مما يُبْتَغى به وجهُ الله تعالى، لا يتعلمه إلا ليصيبَ به عرضًا من الدنيا، لم يجد عرف الجَنَّة يوم القيامة](2). يعني ريحها.

وروى الترمذي بسند صحيح عن كعب بن مالك قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: [من طلب العلمَ ليجاريَ به العلماء أو ليماريَ به السفهاء ويصرف به وجوه الناس إليه أدخله الله النار](3).

وروى عبد الرزاق في المصنف موقوفًا على ابن مسعود قال: [كيف بكم إذا لبِسَتكم فتنة، يربو فيها الصغيرُ، ويهرَمُ فيها الكبير، وتُتَّخَذُ سنة، فإن غُيِّرت يومًا قيل: هذا منكر! قيل: ومتى ذلك؟ قال: إذا قَلّتْ أمناؤكم، وكثرت أمراؤكم، وقلَّتْ فقهاؤكم،

(1) حديث صحيح. أخرجه الترمذي في السنن (2685). انظر صحيح الترمذي (2161). ورواه الطبراني وغيره. انظر صحيح الجامع الصغير - حديث رقم - (1834).

(2)

حديث صحيح. أخرجه أبو داود (3664)، وابن ماجة (232). انظر صحيح سنن أبي داود (3112). ورواه أحمد بلفظ "عوضًا" بدل "عرضًا" أيضًا، انظر صحيح الجامع (6035).

(3)

حديث حسن. أخرجه الترمذي في السنن (2654). انظر صحيح الترمذي (2138). وله شاهد عند ابن ماجة من حديث ابن عمر. انظر صحيح الجامع (6258)، (6259).

ص: 304

وكثُرَت قرّاؤكم، وَتُفُقِّهَ لغير الدين، والتمست الدنيا بعمل الآخرة] (1).

فنعوذ بالله من علم لا ينفع، أو من علم ابتغي به الظهور وحب الرياسة والشهرة وعرض هذه الحياة الدنيا.

وقد حُكي عن عمو بن عبد العزيز وأبي حنيفة القراءة بالرفع في قوله: "إنما يخشى اللهُ من عباده العلماء". فأجاب الزمخشري بأن الخشية في هذه القراءة استعارة، والمعنى: إنما يُجِلّهم ويعظمهم كما يُجِلّ المهيب المخشي من الرجال بين الناس من بين جميع عبَاده. ذكره القرطبي. قلت: والقراءة الأولى عليها إجماع القراء.

وقوله: {إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ} . أي: عزيز في انتقامه ممن كفر به أو أراد بالعلم غير وجهه، غفور لذنوب من أطاعه وآمن به وعظّم حرماته. والمعاقب والمثيب حقّه أن يخشى فانتبهوا يا معشر العلماء وتأملوا أيها الناس.

وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ} .

كان مطرف بن عبد الله يقول: (هذه آية القراء) ذكره قتادة.

وقوله: {لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ} . أي: ليوفيهم ثواب أعمالهم مع مضاعفة لا تخطر ببالهم، فإن الأعمال لها أوزان مختلفة يوم القيامة.

وقيل: الزيادة من فضله هي الشفاعة. وفي التنزيل: {رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ (37) لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} .

وقوله: {إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ} . أي: غفور لذنوبهم وما صدر منهم، شكور لحسناتهم وجميل أعمالهم.

31 -

38. قوله تعالى: {وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ (31) ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا

(1) أخرجه عبد الرزاق بسند منقطع، لكن وصله الدارمي والحاكم. انظر صحيح الترغيب (1/ 106). وكتابي: أصل الدين والإيمان (1/ 230 - 231) لتفصيل أكبر.

ص: 305

فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (32) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (33) وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (34) الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ (35) وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ (36) وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (37) إِنَّ اللَّهَ عَالِمُ غَيْبِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (38)}.

في هذه الآياتِ: يقول جل ذكره: وما أوحينا إليك يا محمد هو القرآن كلام الله الحق الذي عليك وعلى أمتك أن تعمل بما فيه، وهو يصدق ما مضى من الكتب المنزلة على عباده، فهو بهم خبير بما يعملون وبما يصلح لهم من شرع وتدبير، ثم ورّث الله هذا الحق من اصطفى من هذه الأمة فنزلوا ثلاثة منازل: منهم سابقون يدخلون الجَنَّة بغير حساب، ومنهم يحاسبون حسابًا يسيرًا، ومنهم خلطوا عملًا صالحًا وآخر سيئًا، لكن لم يشركوا بالله فعسى أن يعفو عنهم. لكنِ السابقون منهم أصحاب الفضل الكبير والثناء الجميل في جنات عدن وذهب ولؤلؤ وحرير، ويحمدون الله أن صرف عنهم الموت والمصائب فهو الغفور الشكور، على ما حباهم به من الخلود في دار النعيم لا ينالهم تعب ولا نصب ولا نفور. وأما الكافرون فهم في آلام مستمرة فلا يرون الموت ليخفف عنهم ولا مرد لقضاء الله جزاء على الكفر والفجور. وهم يصطرخون يرجون العودة إلى الدنيا ليستأنفوا العمل الصالح وحياة البر والطهور، ولكن الله قضى أن لا عودة فما قدّر لهم من العمر يكفي للمستبصر الذي يخشى في الآخرة عدم العبور، ويقول للظالمين ذوقوا ما كسبتم إن الله عليم بذات الصدور.

وعن قتادة: ({وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ}، قال: للكتب التي خلت قبله).

وقوله: {إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ} . قال ابن جرير: (يقول تعالى ذكره: إن الله

ص: 306

بعباده لذو علم وخبرة بما يعملون، بصير بما يصلحهم من التدبير).

وقوله تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ} - فيه تفاسير متقاربة:

التفسير الأول: قيل عني بالكتاب الكتب التي أنزلت قبل الفرقان، وعني بالمصطفين من عباده أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وعني بالظالم لنفسه أهل المعصية والإجرام منهم.

قال ابن عباس فيها: (هم أمة محمد صلى الله عليه وسلم ورثهم الله كل كتاب أنزله، فظالمهم يُغفر له ومقتصدهم يحاسب حسابًا يسيرًا، وسابقهم يدخل الجَنَّة بغير حساب).

وروي عن عبد الله بن مسعود أنه قال: (هذه الأمة ثلاثة أثلاث يوم القيامة: ثلثٌ يدخلون الجَنَّة بغير حساب، وثلث يحاسبون حسابًا يسيرًا، وثلث يجيئون بذنوب عظام، حتى يقول: ما هؤلاء، وهو أعلم تبارك وتعالى، فتقول الملائكة: هؤلاء جاؤوا بذنوب عظام إلا أنهم لم يشركوا بك. فيقول الرب: أدخلوا هؤلاء في سعة رحمتي، وتلا عبد الله هذه الآية: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا}).

وقوله: {اصْطَفَيْنَا} أي اخترنا، أي اصطفينا دينهم، كقوله:{إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ} مشتق من الصفو وهو الخلوص من شوائب الكدر، وأصله اصتفونا أبدلت التاء طاء والواو ياء. لذلك قيل: إن الضمير هنا في {يَدْخُلُونَهَا} يعود على الأصناف الثلاثة، وحملوا الظالم لنفسه في هذه الآية ألا يكون كافرًا ولا فاسقًا. وروي هذا المعنى عن عمر وعثمان وابن مسعود وعائشة.

والتقدير: {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ} أي بعمل الصغائر، وذلك دون الشرك والكبائر.

وقوله: {وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ} . قال محمد بن يزيد: (هو الذي يعطي الدنيا حقها والآخرة حقها). فيعود الضمير في {يَدْخُلُونَهَا} على الجميع يدخلون جنات عدن برحمة الله. وروي عن كعب الأحبار ما يؤكد ذلك قال: (استوت مناكبهم - ورب الكعبة - وتفاضلوا بأعمالهم) ذكره القرطبي.

واختار ابن جرير هذا التفسير - أي التفسير الأول -.

التفسير الثاني: قيل بل عُني بالكتاب الذي أورثه هؤلاء القوم: شهادة أن لا إله إلا

ص: 307

الله، وعني بالمصطفين أمة محمد صلى الله عليه وسلم، والظالم لنفسه المنافق منهم وهو في النار، والمقتصد والسابق في الجنة.

فعن ابن عباس: ({ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا} إلى آخر الآية. قال: جعل أهل الإيمان على ثلاثة منازل، كقوله: {وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ} {وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ} {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ} فهم على هذا المثال). وعن عكرمة عن عبد الله قال: (اثنان في الجنة وواحد في النار).

وقال قتادة: (كان الناس ثلاث منازل في الدنيا وثلاثَ منازل عند الموت وثلاث منازل في الآخرة، أما الدنيا فكانوا: مؤمن ومنافق ومشرك. وأما عند الموت فإن الله قال: {فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (88) فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ (89) وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (90) فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (91) وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ (92) فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ (93) وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ}. وأما في الآخرة فكانوا أزواجا ثلاثة: {فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (8) وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (9) وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ} ).

فَفُسِّر هنا {ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ} -على هذا القول- بأنه الكافر. وقد رُوي هذا المعنى عن ابن عُيَيْنة وعطاء عن ابن عباس. ويكون الضمير في {يَدْخُلُونَهَا} يعود على المقتصد والسابق لا على الظالم. وعن عكرمة وقتادة: (أن المقتصد: المؤمن العاصي، والسابق التقي على الإطلاق). وقال مجاهد: {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ} أصحاب المشئمة، {وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ} أصحاب الميمنة، {وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ} السابقون من الناس كلهم).

ورجح القرطبي هذا -أي التفسير الثاني- وقال: (لأن الكافر والمنافق لم يُصطفوا بحمد الله ولا اصطفى دينهم).

التفسير الثالث: الظالم صاحب الكبائر، والمقتصد الذي لم يستحق الجنة بزيادة حسناته على سيئاته، فالجنات للذين سبقوا بالخيرات لا غير. وفيه نظر.

والراجح -الذي أميل إليه- أن الكتاب هو القرآن الكريم وفيه الحق الذي جاء في الكتب قبله، كما قال في الآية قبلها:{وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ} أي القرآن {هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} من الكتب قبله. {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا} أي: ثم أعطينا هذا الميراث وهو القرآن المتضمن للحق الذي قامت عليه السماوات والأرض وبعثت به الرسل إلى المؤمنين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم الذين انتموا إليه وإلى منهاجه

ص: 308

واتبعوه، ولكنهم في الطريق تفرقوا إلى ثلاث طوائف: طائفة اجتالتهم الشياطين أثناء مسيرهم ووسوسوا لهم حتى ركبوا المعاصي وبعض الكبائر ولم يكونوا من أصحاب الهمم فسقطوا وظلموا أنفسهم لكنهم لم يشركوا بالله، فلربما أدخلهم سبحانه في سعة رحمته وتجاوز عن تقصيرهم ووقوعهم. وطائفة من أصحاب اليمين أعطوا الدنيا حقها والآخرة حقها، فكانوا وسطًا في هممهم وطموحاتهم، فتجاوز عنهم سبحانه وحاسبهم حسابًا يسيرًا.

وطائفة هم السابقون الذين شمّروا إلى المعالي ولم ينشغلوا بسفساف الأمور وحقيرها، وأهمتهم الآخرة ونعيمها، فعاشوا للجهاد في سبيل الله، وطلب العلم الذي يوصل إلى الفردوس في جنانها، فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصدّيقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقًا.

أخرج الترمذي بسند صحيح عن أبي سعيد الخدري: [عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في هذه الآية: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ} قال: هؤلاء كُلهم بمنزلة واحِدَة وكُلّهُم في الجنة](1).

وقوله: {ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ} . قال ابن جرير: (فسبوق هذا السابق من سبقه بالخيرات بإذن الله هو الفضل الكبير الذي فضل به من كان مقصّرًا عن منزلته في طاعة الله من المقتصد والظالم لنفسه). وقيل: (ذلك الاصطفاء مع علمنا بعيوبهم هو الفضل الكبير). وقيل: (وعد الجنة لهؤلاء الثلاثة هو الفضل الكبير). وقيل: (إتياننا الكتاب لهم). قال سهل بن عبد الله: (السابق العالم، والمقتصد المتعلم، والظالم الجاهل). وقال ابن عطاء: (الظالم الذي يحب الله من أجل الدنيا، والمقتصد الذي يحبه من أجل العقبى، والسابق الذي أسقط مراده بمراد الحق).

وقيل: قدم الظالم لئلا ييئس من رحمة الله، وأخر السابق لئلا يعجب بعمله. وقيل: قدم الظالم لكثرة الفاسقين منهم وغلبتهم، وأن المقتصدين قليل بالإضافة إليهم، والسابقين أقل من القليل.

ثم قال: {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا} أي بساتين إقامة يتنعمون بها -هؤلاء الذين أورثناهم الكتاب- {يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ} فيتقلبون في

(1) حديث صحيح. أخرجه الترمذي في كتاب التفسير -حديث رقم- (3225) عند هذه الآية. انظر صحيح سنن الترمذي (2577).

ص: 309

ألبسة النعيم والرفاه ويلبسون أسورة من ذهب وحرير.

ومنهم من قرأها: "جناتِ عدن" بتقدير فعل محذوف نحو "يدخلون". وقرأ أبو عمرو "يُدخلونها" تبعًا لقوله "يُحلّون"- والله تعالى أعلم.

وفي الصحيحين عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة](1).

وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [تبلغ الحِليةُ من المؤمن حيث يبلغُ الوضوء](2).

وقوله: {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ} - فيه أقوال متقاربة:

1 -

قال ابن عباس: (حزن النار). أي حزن دخولها، وقد انقطع بدخولهم الجنة.

2 -

قال عطية: (الموت). فالموت هادم اللذات، وقد انقطع هذا الهم والحزن في الآخرة.

3 -

قال شمر: (لما أدخل الله أهل الجنة الجنة قالوا: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ}. قال: حزن الخبز). وعنى بها همّ العيش في الدنيا والسعي، وقوام العيش هو الطعام والخبز، فكنّى عن ذلك بذلك. قال قتادة:(كانوا في الدنيا يعملون وينصبون وهم في خوف أو يحزنون).

4 -

وقيل: الحزن الذي ينال الظالم لنفسه في موقف القيامة.

قلت: ولا شك أن حزن النار هو أشد ما ذكر، وإن كان ما أشير إليه على درجات أخرى من الحزن. كما قال الحسن:(إن المؤمنين قوم ذلُلٌ، ذلّت والله الأسماع والأبصار والجوارح، حتى يحسبهم الجاهل مرضى وما بالقوم مرض، وإنهم لأصحة القلوب، ولكن دخلهم من الخوف ما لم يدخل غيرهم، ومنعهم من الدنيا علمهم بالآخرة، فقالوا: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ}. والحزن، والله ما حزنهم حزن الدنيا ولا تعاظم في أنفسهم ما طلبوا به الجنة، أبكاهم الخوف من النار، وإنه من لا يتعزّ بعزاء الله يقطع نفسه على الدنيا حسرات، ومن لم ير لله عليه نعمة إلا في مطعم أو مشرب فقد قل علمه وحضر عذابه).

(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (5832)، كتاب اللباس، وبنحوه (5834)، ورواه مسلم.

(2)

حديث صحيح. أخرجه مسلم (1/ 151)، والنسائي (1/ 35)، وأحمد (2/ 371).

ص: 310

قال ابن جرير: (والأولى أنهم لما دخلوا الجنة وقالوا الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن، أنهم عموا جميع أنواع الحزن بقولهم ذلك: كخوف دخول النار والجزع من الموت ومن الحاجة للطعام).

وقوله: {إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ} . قال ابن عباس: (غفر لهم الكثير من السيئات وشكر لهم الكثير من الحسنات). وقال شمر: (غفر لهم ما كان من ذنب وشكر لهم ما كان منهم).

وقوله: {الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ} . قال قتادة: (أقاموا فلا يتحولون). فحمدوه سبحانه أن سلّمهم إلى دار المقامة جنة الخلد والنعيم. والميم إذا ضُمت من المُقامة فهي من الإقامة، وإذا فتحت فهي من المكان والمجلس. فكانت السلامة بفضل من الله ورحمة.

وهذا المعنى كما في الصحيحين عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [لن يُدخِل أحدًا عملُه الجنة ولا أنا إلا أن يتغمدني الله بفضل رحمته، فسددوا وقاربوا ولا يتمنى أحدكم الموت، إما محسن فلعله يزداد خيرًا، وإما مسيء فلعله أن يستعتب](1).

وقوله: {لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ} .

النصب: التعب والوجع. قال قتادة: {لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ} ، أي: وجع).

واللغوب: العناء والإعياء. قال ابن عباس: (اللغوب: العناء).

وقوله: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا} .

قال قتادة: {لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ} بالموت فيموتوا، لأنهم لوماتوا لاستراحوا. {وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا} يقول: ولا يخفف عنهم من عذاب نار جهنم بإماتتهم فيخفف ذلك عنهم).

وفي التنزيل نحو ذلك:

1 -

قال تعالى: {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ} [النساء: 56].

(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (5673)، كتاب المرض، باب تمني المريض الموت. وأخرجه مسلم (2816) بنحوه، كتاب صفات المنافقين، ح (71) - (73).

ص: 311

2 -

وقال تعالى: {كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا} [الإسراء: 97].

3 -

وقال تعالى: {الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى (12) ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى} [الأعلى: 13 - 12].

فوصف سبحانه خلود الكافرين في النار، فلا طريقة ولا حيلة للتخلص من هذا المصير المؤلم، فلقد سلكوا الطرق والسبل والحيل يتلاعبون بها في الدنيا للاستهزاء بشرع الله وإبعاده.

أخرج الإمام أحمد في المسند، والإمام مسلم في الصحيح، عن أبي سعيد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [أمّا أهل النار الذين هم أهلها فإنهم لا يموتون فيها ولا يحيون، ولكن ناس أصابتهم النار بذنوبهم فاماتتهم إماتة، حتى إذا كانوا فحمًا أُذن بالشفاعة، فجيء بهم ضَبائرَ ضَبائرَ، فبثوا على أنهار الجنة، ثم قيل: يا أهل الجنة أفيضوا عليهم، فينبتون نبات الحبة تكون في حميل السيل](1).

وقرأ الحسن: "فيموتون" بالعطف على يقضى، أي لا يقضى عليهم ولا يموتون. والأولى أشهر.

وَقوله: {كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ} . قال ابن جرير: (هكذا يكافئ كل جحود لنعم ربه يوم القيامة بأن يدخلهم نار جهنم بسيئاتهم التي قدموها في الدنيا).

وقوله: {وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا} ، على وزن "يفتعلون" من الصراخ وهو الصوت العالي. وأصلها يصترخون، فحوّلت التاء طاء لقرب مخرجها من الصاد لما ثقلت.

فالكفار يستغيثون في جهنم بصوت عال فيه صراخ: {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا} . قال ابن عباس: (نقل: لا إله إلا الله). {غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ} . قال القرطبي: (أي من الشرك، أي نؤمن بدل الكفر ونطيع بدل المعصية ونمتثل أمر الرسل).

وقال ابن كثير: (وهم ينادون فيها يجأرون لله عز وجل بأصواتهم الرجعة للدنيا ليعملوا غير عملهم الأول، وقد علم الرب جل جلاله أنهم لو ردهم للدار الدنيا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون، ولهذا لا يجيبهم إلى سؤالهم).

ثم أجابهم سبحانه بقوله وبحجته البالغة: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ} .

(1) حديث صحيح. أخرجه أحمد ومسلم من حديث أبي سعيد. انظر صحيح مسلم (1/ 118)، وكتابي: أصل الدين والإيمان (2/ 755) لتفصيل البحث.

ص: 312

وهذه الآية مفسَّرة بالسنة الصحيحة. فقد أخرج الحاكم بسند صحيح عن أبي هريرة، رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[إذا بلغَ الرجل من أمتي ستين سنة فقد أعذر الله إليه في العمر](1).

وله شاهد في مسند عبد بن حميد، عن سهل بن سعد، رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[إذا بَلغَ الله العبد ستين سنة، فقد أعذر إليه وأبلغ إليه في العمر](2).

وأصله في صحيح الإمام البخاري من حديث أبي هريرة بلفظ: [أعذر الله عز وجل إلى امرئٍ أخَّر عُمُرَهُ حتى بلغ ستين سنة](3).

قال الخطابي: (أعذر إليه: أي بلغ به أقصى العذر).

فهذا العمر حجة الله على عباده، وهذه المدة بين الستين والسبعين كافية لمن أراد أن يتذكر أو أراد شكورًا، ولو زاد الله بعدها ألف سنة في العمر لكانت هذه الزيادة إضافية، فالستون أو السبعون سنة من العمر مؤشر مقبول عن بقية العمر، ولذلك جعل الله هذا العمر وسطًا بين الأمم.

فقد أخرج ابن ماجة والترمذي عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [أعمار أمتي ما بين الستين إلى السبعين، وأقلهم من يجوز ذلك](4).

وخلاصة المعنى: كأنه يقول لهم جل ثناؤه لما نادوه مستجيرين به -وما كانوا يفعلون ذلك في الدنيا بل انصرفوا لدعاء غيره وعبادة من دونه- فأجابهم: أوما عشتم في الدنيا أعمارًا لو كنتم ممن ينتفع بالحق لانتفعتم به في تلك المدة من أعماركم. قال القرطبي: (والمعنى أن من عمّره الله ستين سنة لم يبق له عذر لأن الستين قريب من معترك المنايا، وهو سن الإنابة والخشوع وترقّب المنية ولقاء الله تعالى).

(1) حديث صحيح. أخرجه الحاكم (2/ 428)، وانظر مسند أحمد (2/ 320)، وتفصيل الروايات في سلسلة الأحاديث الصحيحة (1089).

(2)

حديث صحيح. انظر مستدرك الحاكم (2/ 428)، وانظر صحيح الجامع الصغير (408).

(3)

حديث صحيح. أخرجه البخاري (11/ 200 - فتح)، والحاكم (2/ 427)، وأحمد (2/ 275).

وصنَّفَهُ البخاري في باب: "من بلغ ستين سنة فقد أعذر الله إليه في العمر لقوله عز وجل: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ}: يعني الشيب".

(4)

حديث حسن. أخرجه ابن ماجة (4236)، والترمذي (3550). انظر صحيح سنن ابن ماجة (3414) -كتاب الزهد- باب الأمل والأجل.

ص: 313

وروي عن ابن عباس: أنه أربعون سنة. ووجهه قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً} . ففي الأربعين تكامل العقل وما قبله وما بعده منتقص عنه. كما قال مالك رحمه الله: (أدركت أهل الدنيا ببلدنا وهم يطلبون الدنيا والعلم ويخالطون الناس، حتى يأتي لأحدهم أربعون سنة، فإذا أتت عليهم اعتزلوا الناس واشتغلوا بالقيامة حتى يأتيهم الموت) ذكره القرطبي رحمه الله.

وكان مسروق يقول: (إذا بلغ أحدكم أربعين سنة فليأخذ حِذْرَه من الله).

ثم قوله جل وعز: {وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ} فيه تفاسير متكاملة:

1 -

عن ابن زيد: ({وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ}. قال: النذير النبي، وقرأ: {هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولَى}).

2 -

وعن ابن عباس: ({وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ}. قال: يعني الشيب).

3 -

وقيل: (النذير: الحمى)، وقيل:(موت الأهل والأقارب). وقيل: (كمال العقل).

قال قتادة: (احتج عليهم بالعمر والرسل).

وهذا كما قال جل ثناؤه يصف نداءهم في موضع آخر: {وَنَادَوْا يَامَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ (77) لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ} . أي جاء الرسل بالحق فخالفتموهم، ومن ثم فلا مانع من دلالة النذير على الشيب وعلى النبي صلى الله عليه وسلم، فكلاهما نذير، وكذلك على كل ما يُذَكِّر باقتراب الأجل والوعد الحق، والله تعالى أعلم.

قال القرطبي رحمه الله: (فالشيب والحمى وموت الأهل كله إنذار بالموت. قال: والشيب نذير أيضًا لأنه يأتي في سن الاكتهال، وهو علامة لمفارقة سنّ الصِّبا الذي هو سِنُّ اللهو واللعب).

وقال بعضهم:

رأيت الشيب من نُذُرِ المنايا

لصاحبه وحَسْبُكَ من نذير

قلت: ولذلك رغّب النبي صلى الله عليه وسلم بالإكثار من ذكر الموت وسمّاه هادم اللذات.

فقد أخرج ابن حبان في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [أكثروا ذكرَ هادم اللذات: الموت، فإنه لم يذكره أحد في ضيق من العيش إلا

ص: 314

وسَّعَهُ عليه، ولا ذكره في سعة إلا ضيّقها عليه] (1).

فموت الأهل والأصحاب إنذار بالرحيل في كل وقت وحين. قال بعضهم:

وأراك تحملهم ولست تردّهم

فكأنني بك قد حُمِلْتَ فلم تُرَدَّا

وقال آخر:

يا نفس توبي فإن الموت قد حانا

واعص الهوى فالهوى ما زال فتانا

أما ترين المنايا كيف تلقطنا

لَقْطًا فتلحق أُخرانا بأولانا

في كل يوم لنا مَيْتٌ نشيعه

نرى بمصرعه آثار موتانا

يا نفس ما لي وللأموال أتركها

خلفي وأخرج من دنياي عُريانا

أبعد خمسين قد قضيتها لعبا

قد آن أن تقصري قد آن قد آنا

* * *

ما بالنا نتعامى عن مصائرنا

ننسى بغفلتنا من ليس ينسانا

نزداد حرصًا وهذا الدهر يزجرنا

كأنّ زاجرنا بالحرص أغرانا

أين الملوك وأبناء الملوك ومَنْ

كانت تخرُّ له الأذقان إذعانا

صاحت بهم حادثات الدهر فانقلبوا

مستبدلين من الأوطان أوطانا

خلّوا مدائن كان العِزُّ مَفْرَشَها

واستُفْرِشوا حُفَرًا غُبرًا وقيعانا

* * *

يا راكضًا في ميادين الهوى مرِحًا

ورافلًا في ثياب الغيّ نشوانا

مضى الزمان وولّى العمْرُ في لعب

يكفيكَ ماقد مضى قد كان ما كانا

ثم قال جل ثناؤه يخاطب الكفار بعد أن احتج عليهم بالعمر والنذير: {فَذُوقُوا} أي عذاب جهنم جزاء بما فرطتم من العمر وضيّعتم من النذر، فما اتعظتم بشيب ولا موت ولا كهولة ولا اكتمال عقل ولا مرض ولا نوائب ولا سنن كونية أو شرعية:{فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ} . أي. لا مانع يمنعكم من عذاب الله.

وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ عَالِمُ غَيْبِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} .

أي: فهو عالم سبحانه بما أخفته صدوركم أيها الناس وبما بيّته الكافرون من حب الاستكبار في الأرض والاستهزاء بالرسل وبالمؤمنين، كما قال جل ثناؤه: {وَلَوْ رُدُّوا

(1) حديث صحيح. أخرجه ابن حبان (2559) - (2562). وأخرج نحوه النسائي (1/ 258)، والترمذي (2/ 50)، وابن ماجة (2/ 4258)، والحاكم (4/ 321).

ص: 315

لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ}. كما هو عالم بما هو غائب عن أبصاركم في ملكوت السماوات والأرض، فلا تضمروا الشك بوحدانيته تعالى وبنبوة محمد عليه الصلاة والسلام، وتظهروا الإيمان رياء ومصلحة فهو العليم بذات الصدور.

39 -

45. قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتًا وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَسَارًا (39) قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا فَهُمْ عَلَى بَيِّنَتٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِلَّا غُرُورًا (40) إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (41) وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا (42) اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا (43) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا (44) وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا (45)}.

في هذه الآيات: يقول جل ذكره لنبيه صلى الله عليه وسلم:

قل يا محمد لمشركي قومك إنكم خَلَفٌ لِسَلَفٍ مضوا قبلكم من الأمم من بعد عاد وثمود وَمَنْ قبلهم وَمَنْ بعدهم كفروا بالله فدكهم الله دكًا وجعلهم للناس أحاديث وقصصًا، وما زادهم كفرهم بالله إلا بعدًا وخسارًا، وأنتم تخلفونهم في ديارهم ومساكنهم فاعتبروا، فهؤلاء الشركاء الذين تدعونهم من دون الله كالأوثان وكالطغاة هل شاركوا الله في خلقه، أو في جزء من ملكوته في السماوات أو في الأرض، أم هَل

ص: 316

أنزلنا لهم كتابًا فيه برهان على التماسهم شيئًا من الشركاء شرعه الله ورضيه لهم، أم إنهم ماضون في غواية الشياطين لهم، فهذه ذكرى مفيدة إذا أرادوا أن يلحقوا بالنجاة قبل فوات الأوان، فالله سبحانه هو الذي يمسك السماوات والأرض ولو شاء لتركهما فسقطت السماوات فدمرتهم، وتحركت الأرض بالزلازل فأهلكتهم، ولكنه حليم عمن أشرك وكفر يؤخره إلى أجل عله يتذكر ويعتبر، وهو غفور لمن أناب وانزجر واعتبر. ثم يذكرهم سبحانه بإقسامهم به أشد الإقسام أن لو جاءهم منذر من الله لسلكوا طريق الحق وخير السبل وكانوا أهدى من إحدى الأمم التى مضت لما جاءهم محمد صلى الله عليه وسلم استكبروا ونفروا وصدوا عن سبيله، فلا يحيق الخداع إلا بأهله، ومصير أهله الدمار، سنة الله ولن تجد لسنته تحويلًا. فهذه ديار من أهلك الله من الأمم قبلهم يمرون عليها في تجارتهم في طريق الشام، فيها آثار من كفر وأسرف ولم يؤمن بآيات ربه، فليتعظوا فإنما يمهلهم الله ويحتج عليهم بفرص، فإذا حان أوان الدرس الإلهي فلا طريقة للنجاة من عقابه سبحانه، إنه كان بعباده بصيرًا. فإلى تفصيل ذلك:

فعن قتادة: {هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ} قال: أمة بعد أمة وقرنًا بعد قرن).

وفي رواية: (خلفًا بعد خَلَف، قرنًا بعد قرن).

ولهذا سمي أبو بكر رضي الله عنه بخليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأن الخلف هو التالي للمتقدم.

وقوله: {فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ} . أي: سيناله جزاء كفره من عذاب الله وعقابه.

وقوله: {وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتًا} .أي: إلا بعدًا من رحمة الله وبُغْضًا وغضبًا. {وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَسَارًا} . أي: هلاكًا وضلالًا.

وقوله: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ} .

قال قتادة: (لا شيء والله خلقوا منها). وقوله: {أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ} . قال قتادة: (لا والله ما لهم فيها شرك). وقوله: {أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا فَهُمْ عَلَى بَيِّنَتٍ مِنْهُ} . قال: (أم آتيناهم كتابًا فهو يأمرهم أن يشركوا).

ونصب {شُرَكَاءَكُمُ} بـ {أَرَأَيْتُمْ} . أي: أخبروني عن شركائكم الذين تدعونهم هل عبدتموهم لأن لهم شركة مع الله في خلق السماوات أو في قطعة من الأرض، أم عندهم كتاب أنزلناه إليهم يشير إلى مثل هذه الشركة. {بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِلَّا

ص: 317

غُرُورًا}. قال ابن كثير: (ليس الأمر كذلك بل إنما اتبعوا في ذلك أهواءهم وما هي إلا غرور وباطل وزور).

فقوله: {بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِلَّا غُرُورًا} هو كقول بعضهم لبعض: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} . قال ابن جرير: (خداعًا من بعضهم لبعض وغرورًا وإنما تزلفهم آلهتهم إلى النار وتقصيهم من الله ورحمته).

وقال القرطبي: ({بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِلَّا غُرُورًا} أي أباطيل تغر، وهو قول السادة للسِّفْلة: إن هذه الآلهة تنفعكم وتقربكم. وقيل: إن الشيطان يعد المشركين ذلك. وقيل: وعدهم بأنهم ينصرون عليهم).

وقوله: {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا} . أي: لئلا تزولا أو تضطربا عن أماكنهما، فهذه بعض صفات الخالق سبحانه وتعالى، فأين شركاؤه الذين تدعون من دونه وهو الذي لو شاء أحدث زلزلة في الأرض أو أسقط شيئًا من السماء، فهل يستطيع أحد من الخلق أن يمنع أو يدفع.

و"أنْ" في محل نصب، والتقدير: لئلا تزولا. {وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ} . و {وَلَئِنْ} في معنى: لو، والتقدير: ولو زالتا ما أمسكهما من أحد، و"إنْ" في قوله:"إنْ أمسكهما" بمعنى: "ما". كما قال جل ثناؤه: {وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ} . وكقوله: {وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ} أي: ولو أرسلنا ريحًا، ولو أتيت الذين أوتوا الكتاب.

وعن قتادة: ({إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا}. قال: من مكانهما).

كما قال جل ثناؤه: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ} . فهو الذي يحكم أمر السماء والأرض، {إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا}: يرى عباده يكفرون به ويحلم فيؤخر ويؤجل ولا يعجل وينظر، ويستر آخرين ويتجاوز عن خطاياهم فيغفر، إنه كان حليمًا غفورًا.

وقيل: بل المعنى إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا من كفر الكافرين وقولهم اتخذ الله ولدًا، كما قال جل ثناؤه:{وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا (88) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا (89) تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا (90) أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا} .

وقوله: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا} .

ص: 318

والحديث عن قريش، فقد أقسم مُشركوهم قبل أن يبعث الله محمدًا صلى الله عليه وسلم حين علموا تكذيب أهل الكتاب رسلهم فلعنوا من كذّب نبيه منهم وبالغوا بالإقسام بأشد الأيمان فأقسموا بالله جل اسمه لئن جاءهم نذير -أي نبيّ- ليكونن أسلك لطريق الحق من إحدى الأمم التي خلت، فلما جاءهم نذير -وهو محمد صلى الله عليه وسلم استكبروا وكذبوا ونفروا.

فعن قتادة: (قوله: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ}، قال: وهو محمد صلى الله عليه وسلم).

وقوله: {اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ} . قال ابن جرير: (نفروا استكبارًا في الأرض وخُدْعة سيئة، وذلك أنهم صدّوا الضعفاء عن اتباعه مع كفرهم به. والمكر هاهنا: هو الشرك. قال: وأضيف المكر إلى السَّيئ، والسَّيئ من نعت المكر كما قيل: {إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ}).

وقال قتادة: ({وَمَكْرَ السَّيِّئِ} وهو الشرك. {وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ} قال: وهو الشرك).

فهؤلاء المشركون من قريش تعاملوا مع الحق تعامل المفاخرة والتكاثر والاستكبار، لا تعامل الإخبات والتواضع وإقامة العدل وتعظيم هذا الحق وهذا الوحي الكريم، فعندما ذُكر لهم أهل الكتاب وتكذيبهم رسلهم تفاخروا وأخذتهم حمية الجاهلية بأنهم إن جاءهم نبي لَيَنْصُرُنَّهُ وَلَيُوقِّرُنَّهُ، كما قال عز وجل:{وَإِنْ كَانُوا لَيَقُولُونَ (167) لَوْ أَنَّ عِنْدَنَا ذِكْرًا مِنَ الْأَوَّلِينَ (168) لَكُنَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (169) فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} . ولكن يوم شعروا أن الحق يمكن أن يلامس مناصبهم ويهز رياساتهم وزعاماتهم فضلوا البقاء على الباطل وما فيه من لذة الخيلاء والاستكبار الزائلة الفانية، فشأنهم في ذلك شأن أكثر الناس الذين يريدون حقًّا لا تكاليف فيه، وإنما سمعة ورياء وظهورٌ ورياسة، فكشفهم الله وعاب عليهم سوء خباياهم ومكرهم.

وقوله: {وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ} . قيل: هذا إشارة إلى قتلهم ببدر. ويحيق بمعنى يحيط، والحَوْق الإحاطة.

روي عن ابن عباس: (أن كعبًا قال له: إني أجد في التوراة. مَنْ حفر لأخيه حُفرة وقع فيها! فقال ابن عباس: فإني أوجِدُك في القرآن ذلك. قال: وأين؟ قال: فاقرأ: {وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ} .

وفي أمثال العرب: (من حَفَر لأخيه جُبًّا وقع فيه مُنكبًّا).

ص: 319

وأخرج الطبراني وابن حبان بسند صحيح عن ابن مسعود رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[من غشّنا فليس منا، والمكر والخِداع في النار](1). أي تدخل صاحبها النار، فهي من أخلاق الكفار.

وقوله: {فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ} . قال قتادة: (أي عقوبة الأولين، {فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا}. يقول: فلن تجد يا محمد لسنة الله تغييرًا).

والسنة: الطريقة، والجمع سُنَن، وتارة يضيفها سبحانه إليه، وتارة إلى القوم لتعلق الأمر بالجانبين. كما قال عز وجل:{سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا} . وكقوله: {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ} ، وكقوله:{فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ} .

فقد أخذ الله إجراء العذاب على الكفار، كقوله:{وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ} . ويجعل ذلك سنة فيهم، فكل من استحقه عذّبه لا يقدر أحد أن يحوّل العذاب عن نفسه إلى غيره.

وقوله: {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً} .

أي: فلينظر هؤلاء المشركون من قومك يا محمد بمصير من أسرف ولم يعظم آيات ربه ودينه وشرعه رغم ما آتاهم من قوة وأسباب. فقال: {وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً} . قال قتادة: (يخبركم أنه أعطى القوم ما لم يعطكم).

فلينظروا مصير عاد وثمود ومَدْين وغيرهم، وليروا ما بقي من مساكنهم ودورهم.

قال ابن كثير: (سيروا في الأرض فانظروا كيف دمّر الله مكذبي الرسل فخلت منهم منازلهم وسُلبوا نعيمهم رغم كثرة الأولاد والأموال والعدد والعُدَد).

فقل يا محمد لمشركي قومك وذكرهم بما سمعوا على التواتر بما حَلّ بالأمم قبلهم رغم أنهم كانوا أقوى منهم. {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ} القهار والجبار بيده الملك لا يعجزه شيء في ملكوته وله الكبرياء.

أخرج الحاكم بسند صحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

(1) حديث صحيح. أخرجه ابن حبان (1107)، والطبراني في "المعجم الصغير" ص (153)، وفي "المعجم الكبير"(3/ 69/ 1). وانظر السلسلة الصحيحة -حديث رقم- (1058).

ص: 320

[قال الله تعالى: الكبرياء رِدائي، فمن نازعني في ردائي قصمته](1).

وفي رواية في الصحيح: [الكبرياء ردائي، والعِزّ إزاري، فمن نازعني في شيء منهما عذبته](2).

وفي رواية في مسند الإمام أحمد: [الكبرياء ردائي، والعظمة إزاري، فمن نازعني واحدًا منهما قذفته في النار](3).

وأخرج ابن ماجة والحاكم بسند صحيح عن بسر بن جحاش القرشي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [يقول الله: يا ابن آدم أنى تعجزني وقد خلقتك من مثل هذا، حتى إذا سويتك وعدلتك مشيت بين بُردين وللأرض منك وئيد، فجمعت ومنعت، حتى إذا بلغت التراقي قلت أتصدق، وأنى أوان الصدقة](4).

وقوله: {إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا} . يعني: عليمًا بخلقه ومن المستحق تعجيل العقوبة ومن هو على ضلالته راجع إلى الهدى بعد غيّه، فهو سبحانه القدير على الانتقام ممن شاء، والقدير على توفيق من أراد منهم للإيمان.

وقوله: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ} .

قال قتادة: (إلا ما حمل نوح في السفينة). أو قال: (وقد فُعل ذلك زمن نوح عليه السلام. فلو يؤاخذهم سبحانه بذنوبهم ما ترك على ظهرها من دابة.

كما قال ابن مسعود: (يريد جميع الحيوان مما دبَّ ودرج).

وقال ابن جرير: (أراد بالدابة هنا الناس وحدهم دون غيرهم).

وقيل هذه الآية كالآية التي في سورة البقرة: {وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} .

قال مجاهد: (هم الحشرات والبهائم يصيبهم الجَدْب بذنوب علماء السوء الكاتمين فيلعنونهم).

ولكن يؤخر عقابهم لأجل يعلمه هو سبحانه، محدود لا يقصرون عنه

(1) حديث صحيح. أخرجه الحاكم (1/ 61). وانظر صحيح الجامع -حديث رقم- (4185).

(2)

حديث صحيح. أخرجه مسلم (8/ 35 - 36)، والبخاري في الأدب المفرد (552) نحوه.

(3)

حديث صحيح. انظر مسند أحمد (2/ 248)، وسلسلة الأحاديث الصحيحة (541).

(4)

حديث صحيح. أخرجه ابن ماجة (2/ 157) مختصرًا، والحاكم (2/ 502)، وأحمد (4/ 210).

وانظر المرجع السابق (الصحيحة- 1143).

ص: 321

ولا يجاوزونه إذا بلغوه. قال مقاتل: (الأجل المسمى هو ما وعدهم في اللوح المحفوظ). وقال يحيى: (هو يوم القيامة).

وقوله: أي: {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا} .أي: إذا جاء عقابهم فالله يعلم من يستحق العقاب منهم ومن يستوجب الكرامة والعفو والمغفرة.

تم تفسير سورة فاطر بعون الله وتوفيقه، وواسع منّه وكرمه

* * *

ص: 322