المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ منهاج السورة - التفسير المأمون على منهج التنزيل والصحيح المسنون - جـ ٦

[مأمون حموش]

الفصل: ‌ منهاج السورة

‌موضوع السورة

أصناف وزمر الكافرين في الدارين

ومنازل وزمر المؤمنين في الدارين

-‌

‌ منهاج السورة

-

1 -

إثبات التنزيل لهذا القرآن من الله العزيز الحكيم، على رسول الهدى صلى الله عليه وسلم ليعبد الله مخلصًا له الدين.

2 -

الدين الخالص لله تعالى، وهو إفراد الله تعالى بالعبادةِ والتعظيم، والمشركون في ضلال مبين.

3 -

تنزه الله تعالى عن الصاحبة والولد، وتفرّده سبحانه بالخلق والملك والتدبير والتسخير.

4 -

رجوع ثواب الشكر على الشاكرين، ومغبة الكفر والجحود على الجاحدين.

5 -

تجرّد الإنسان عند الضر وإخلاصه لله الدعاء والرجاء، ثم عودته إلى الكبر والغرور والشرك عند حدوث الرخاء.

6 -

لا يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون، فالمؤمنون في سجود وقيام وهم من الآخرة يحذرون.

7 -

أمرُ الله عباده المؤمنين إخلاص التقوى له في عبادتهم، والهجرة إلى حيث يأمنون على دينهم.

8 -

الخاسرون هم الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة، وهم في دركات العذاب خالدون.

9 -

المؤمنون هم الذين اجتنبوا عبادة الطاغوت وأنابوا إلى الله وكانوا على منهاج النبوة، وهم في الآخرةِ في روضات الجنات في الغرف المبنية.

10 -

إنزالُ الله الماء من السماء، وتخزينهُ في الأرض، وإخراج الزرع به والثمر، ثم يباسه بعد خضرته، آيات تدل على البعث بعد الموت.

ص: 574

11 -

انشراح صدر المؤمن للإسلام، وضيق صدر الكافر بالظلم والطغيان.

12 -

القرآن أعظم الحديث والذكر، فمن شأنه أن تخبت له القلوب وتقشعر.

13 -

الخزي والفضيحة والهوان عاقبة الكفر بالله وتكذيب الرسل.

14 -

ضَرْبُ الله الأمثال للمشركين، وإثبات الهداية والإضلال بامر الله.

15 -

اعتراف المشركين لله بالربوبية، وعدم إقرارهم له وحده بالألوهية.

16 -

إثبات أمر الشفاعة لله وحده، والمشركون محرومون منها، فهم يستبشرون بذكر آلهتهم وينفرون عند ذكر الله وحده، وسيلقون الخزي يوم القيامة.

17 -

سلوك الإنسان بينَ الشدة والرخاء، والله يبسط الرزق لمن يشاء.

18 -

تودّد الرحمان عز وجل إلى عباده ليتوبوا إليه، ويقبلوا عليه، ووعده لهم بالمغفرة والرحمة.

19 -

تحذير الله تعالى عباده مشهد الخزي والندامة، ومغبة الكذب عليه ومآل المستكبرين يوم القيامة.

20 -

النجاة يوم الحشر للمؤمنين، والتحذير من سبيل المشركين، والأرض جميعًا قبضته - تعالى يوم القيامة - والسماوات مطويات بيمينه، فسبحانه وتعالى عما يشركون.

21 -

النفخ في الصور: نفخة الفزع ونفخة الصعق ونفخة القيام لله رب العالمين.

22 -

وَضْعُ الكتاب، ومجيء النبيين والشهداء وبدء الحساب.

23 -

سَوْقُ الكافرين إلى جهنم في زمر، وتقريع خزنة النار لهم وهي تلفظ بالشرر.

24 -

سَوْقُ المؤمنين إلى الجنةِ في زُمر، وسلام الملائكة عليهم، وبث البشرى لهم بالخلود والأمان.

25 -

تسبيح الملائكة حول العرش، وقضي بينهم بالحق، وقيل الحمدُ لله رب العالمين.

* * *

ص: 575

بسم الله الرحمن الرحيم

1 -

10. قوله تعالى: {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (2) أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ (3) لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لَاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (4) خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلَا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (5) خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (6) إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (7) وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ (8) أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (9) قُلْ يَاعِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (10)}.

ص: 576

في هذه الآيات:

هو الحق نزل عليكَ يا محمد، كتاب الله العزيز في كبريائه وجبروته وانتقامه من أعدائه، الحكيم في تدبيره خلقه وشؤون عباده، وفي ما ارتضى لهم من هديه وشرعه وقدره، أنزلهُ إليكَ كتابًا عظيمًا خضعت له السماوات والأرض وأشفقت منه الجبال، يدعو إلى الحق والعدل الذي قام عليه هذا الكون وهو إفراد الله بالتعظيم والكبرياء فلا يستحق ذلكَ أحد سواه، فادع إلى ذلكَ يا محمد، فله سبحانه الدين الخالص وهو معنى الشهادةِ (لا إله إلا الله)، والذين آثروا الأوثان وتحكيم الشهوات والأهواء وتنحية الوحي والاستهزاء به سينالهم ما يعاقبون به، فلا الأوثان تقربهم إلى الله كما يزعمون، ولا الشهوات والشبهات تنجيهم من سوء المستقبل الذي ينتظرون، فإن الله يطبع على قلب كل متكبر جبار. فهو الله الأحد لم يلد ولم يولد، وكل شيء يعبده، لا شريكَ لهُ في ملكهِ وسلطانه، فلو أرادَ أن يتخذ ولدًا لاصطفى ما يشاء، ولكنهُ القَهَّار الواحد الصمد، لا يحتاج إلى غيرهِ وهو الغني وكل خلقه محتاجٌ إلى رحمتهِ، فقد خلق السماوات والأرض وحمل الليل على النهار يغشى هذا هذا ويغشى هذا هذا وسخر الشمس والقمر لعباده ليعلموا عدد السنين والحساب، وهما يجريان إلى يوم القيامة إلى حين تكوّر الشمسِ وتنكدر النجوم، ولكل منهما منازل في حركته ودورانه لا تعدوه ولا تقصر دونه، فمَنْ يفعل هذه الأفعال ويقسم هذه المقادير ويبسط هذه النعم إلا العزيز صاحب الجبروت والغفار الذي يغفر ويجيب الدعوات. الذي خلقكم من أبيكم آدم وخلق حواء من زوجها من ضلع من أضلاعه، وجعل لكم من الأنعامِ ثمانية أزواج من الإبل زوجين ومن البقر زوجين ومن الضأنِ زوجين ومن المعز زوجين، وهو الذي يقدركم في بطون أمهاتكم نطفة فعلقة فمضغة ثم يكون لحمًا وعظمًا وعصبًا وعروقًا ثم ينفخ فيه من روحه فيصير خلقًا آخر باذن الله أحسن الخالقين، وهذا كله يجري في ظلمة الرحم والمشيمة والبطن فهو المتصرف له الملك فأين تنصرف عقولكم عن تعظيمه وحده وكيف تنصرفون عن عبادته ولا مستحق للعبادة غيره. فإن تكفروا فلا تلوموا إلا أنفسكم فإن الإحسان لا يقابل بالإساءة، وإن تشكروا فهو يرضاه لكم كما ترضون أنتم مقابلة الإحسان بمثله، ثم تُرَدُّون إليه فلا ملجأ ولا منجى لكم مِنْه إلا اللجوء إليهِ فهو العليم بذات صدوركم وبما أسررتم وما أخفيتم. أوليس إذا مسّ أحدكم الضر وحاق به الخطر وأحدق به الخطب جأر إليه، فلماذا إذا شعر بالرخاء فكّرَ بالكبر والعجب وَتَرَكَ الشيطان يحرك لسانه بفاسد القول وما فيه شرك بالله وكفر، كلا فليتمتع بكفره أيامًا فإنها

ص: 577

لا تقاس ولا تقارن بعذاب النار وأحقاب الجحيم. لكن الخاشع في جوف الليل الساجد والقائم الخائف من أهوال يوم القيامةِ ومفاجآتها، الراجي رحمة ربه عند الاحتضار وفي لحظات الخروج من هذه الدنيا ومفاتنها، ليس كمن أشركَ وتكبر وتبختر، ثم خرج ولسانهُ عند الاحتضار يتعثر، فلا صدق ولا صلى ولكن كذب وتولى، وإلى مفاجآت الموقف ومآسي جهنم سيُولّى، ولا يتذكر هذا إلا أصحاب العلم والعقل لا مَنْ بالشهواتِ وسكرها وانحطاطها يتدلى. فهاجِروا عباد الله إلى أرض الإسلام واتركوا ديار الكفر واصبروا على الجهاد في سبيل الله حتى تظفروا بإحدى الحسنيين النصر والتمكين أو الشهادة والأجر العظيم، فإنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب.

وتفصيل ذلك:

قوله: {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ} . هو مرفوع على أنه خبر المبتدأ المؤخر {مِنَ اللَّهِ} . أو مرفوع على أنه خبر لمبتدأ محذوف تقديره هذا، (أي: هذا تنزيل). وجوّز الفراء النصب أي {تَنْزِيلُ} على أنه مفعول به أو على أنه منصوب على الإغراء كقوله: {كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ} ، أي الزموا كتاب الله. والرفع أشهر عن القراء. والكتاب هو القرآن. قال القرطبي:(سمي بذلكَ لأنهُ مكتوب).

وقوله: {مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} . قال ابن جرير: (الذي نزلناهُ عليك يا محمد من الله العزيز في انتقامهِ من أعدائه، الحكيم في تدبيره خلقه، لا من غيره، فلا تكونن في شك من ذلك). أي هذا القرآن من الله العزيز المنيع الجناب الحكيم في أقواله وأفعالهِ وشرعه وقدره، كما قال جل ثناؤهُ في سورة الشعراء:{وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} .

وقوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ} . أي أنزلناه بالحق وبالحق نزل، وبالصدق والجد فما فيهِ باطل ولا هزل، لتقيمَ به بين الناس العدل، وتحكم بهذا الوحي حياة البشر، فلا حياةَ ولا أمن ولا سعادة في الإعراض عنه، فأفْرِدِ الله بالعبادةِ والتوسل والطاعة، فلا أحد غيره يملك الضرّ والنفع فإليهِ التذلل والضراعة. فَعن قتادة:{إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ} قال: (يعني القرآن). وعن السدي: (قوله: {مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ} قال: فالتوحيد، والدين منصوب بوقوع مخلصًا عليه). فقوله: {مُخْلِصًا} حال، أي موحدًا لا تشرك بهِ سبحانه. قال القاسمي:(أي عن شوب الشرك والرياء، بإمحاض التوحيد وتصفيةِ السر).

قال ابن العربي رحمه الله: (هذه الآية دليل على وجوب النية في كل عمل).

ص: 578

وقوله: {أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} . قال قتادة: (شهادة أن لا إله إلا الله).

قلت: فالإخلاص شطر العمل الصالح المتقبل، والصواب وموافقته الحق والسنة شطره الثاني، ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [قال الله تعالى: أنا أغنى الشركاء عن الشِّرك، من عملَ عملًا أشركَ فيهِ معي غيري تركتُه وشِركَهُ](1).

وعند الترمذي بسند حسن عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [قال اللهُ تعالى: يا ابنَ آدمَ! إنكَ ما دَعْوتَني ورجوتني غفرتُ لكَ على ما كانَ منكَ ولا أبالي، يا ابن آدم! لو بلغت ذنوبكَ عَنانَ السماء ثم استغفرتني غفرتُ لكَ ولا أبالي، يا ابنَ آدمَ! لو أنكَ أتَيْتني بقُرابِ الأرضِ خطايا ثم لقيتني لا تُشْرك بي شيئًا لأتيتُكَ بقرابِها مغفرة](2).

ورواه الطبراني عن أبي الدرداء وسنده صحيح ولفظه: [قال الله تعالى: يا ابن آدم! مَهْما عَبَدْتَني ورَجَوْتَني ولمْ تُشرك بي شيئًا غفرتُ لكَ على ما كانَ مِنْكَ، وإن استقبلتني بملءِ السماءِ والأرضِ خطايا وذنوبًا استقبلتُكَ بملئهِنَّ منَ المغفرةِ، وأغفرُ لكَ ولا أُبالي](3).

وروى مسلم والنسائي عن أبي هريرة قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقِول: [إنَّ أولَ الناس يُقضى يومَ القيامةِ عليهِ رجلُ استُشهد، فأُتِيَ بهِ، فعرَّفه نِعَمَه، فَعَرَفها، قال: فما عمِلْتَ فيها؟ قال: قاتلتُ فيكَ حتى استُشْهِدتُ. قال: كَذَبْتَ، ولكنَّكَ قاتلت لأن يقال: فلانٌ جريءٌ، فقد قيل، ثم أُمِرَ بهِ فَسُحِبَ علىِ وِجهِهِ حتى أُلْقِيَ في النَّار. ورجلٌ تعلَّمَ العلمَ وعَلَّمَهُ، وقرأ القرآنَ، فَأُتِيَ بهِ، فَعَرَّفهُ نِعَمَهُ فعرفَها، قال: فما عَمِلْتَ فيها؟ قال: تعلمتُ العلم وعَلَّمْتُهُ، وقرأتُ فيكَ القرآن، قال: كَذَبْتَ، ولكنَّكَ تعلّمتَ ليقالَ: عالمٌ، وقرأت القرآنَ ليقالَ: هو قارئ، فقد قيل، ثم أُمِرَ بهِ فسُحبَ على وجهِهِ حتى أُلقيَ في النار. ورجلٌ وسّع الله عليه، وأعطاهُ من أصنافِ المال، فاُتِيَ بهِ، فعرّفهُ نِعَمَهُ فَعَرَفها، قال: فما عمِلْتَ فيها؟ قال: ما تركتُ من سبيلٍ تُحِبُّ أن يُنفَقَ فيها إلا أنْفَقْتُ فيها لكَ، قال: كذبتَ، ولكنَّكَ فعلتَ ليقالَ هو جواد، فقد قيلَ، ثم

(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم (2985) - كتاب الزهد - باب تحريم الرياء.

(2)

حديث حسن. أخرجه الترمذي (3540). انظر صحيح سنن الترمذي (2805).

(3)

حديث صحيح. أخرجه الطبراني من حديث أبي الدرداء. وله شاهد في مسند أحمد (5/ 154).

وانظر تخريج: "المشكاة"(3365)، وصحيح الجامع (4217).

ص: 579

أُمِرَ بهِ فسُحب على وجهِهِ حتى أُلقي في النار] (1).

ورواه الترمذي وابن حبان بسند صحيح عن الوليد ابن أبي الوليد أبي عثمان المديني أنّ عُقبةَ بنَ مسلم حدّثهُ، أن شُفَيًّا الأصبَحيَّ حدثه: أنه دخل المدينة فإذا هو برجلٍ قد اجتمعَ عليهِ الناسُ، فقال: من هذا؟ قالوا: أبو هريرة، قال: فَدَنَوْتُ منه، حتى قعدتُ بين يديهِ، وهو يحدث الناس، فلما سكتَ وخلا، قلتُ له: أسألكَ بحقِّ وبحقِّ، لمّا حدثتني حديثًا سمعتهُ من رسول الله صلى الله عليه وسلم وعَقِلْتَهُ وعَلِمْتَهُ، فقال: أبو هريرة: أفعلُ، لأحدثنّكَ حديثًا حَدَّثنيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وعَقِلْتُهُ وعَلِمْتَهُ، ثم نشغَ أبو هريرةَ نشغة (أي شهق حتى كاد يغشى عليهِ خوفًا وأسفًا)، فمكثنا قليلًا ثم أفاق، فقال: لأحدِّثنكَ حديثًا حدثنيهِ رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا وهو في هذا البيت، ما معنا أحدٌ غيري وغيره، ثم نَشَغَ أبو هريرة نشغةً أخرى، ثم أفاق ومسحَ عن وجههِ، فقال: أفعلُ، لأحدثنكَ حديثًا حدثنيه رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا وهو في هذا البيت، ما معنا أحدٌ غيري وغيره، ثم نشغ أبو هريرةَ نشغةً شديدة، ثم مالَ خارًّا على وجهِهِ، فأسندتُه طويلًا، ثم أفاق، فقال: حدثني رسول الله صلى الله عليه وسلم: [إن الله تبارك وتعالى إذا كان يوم القيامةِ، ينزلُ إلى العبادِ ليقضي بينهم، وكلُّ أمة جاثية، فأول من يُدعى به رجل جمع القرآن، ورجلٌ قُتلَ في سبيل الله، ورجل كثير المال، فيقولُ الله عز وجل للقارئ: ألم أُعَلِّمك ما أنزلتُ على رسولي؟ قال: بلى يا ربِّ، قال: فما عَمِلْتَ فيما عَلِمْتَ؟ قال: كنتُ أقومُ بهِ آناءَ الليل وآناء النهار، فيقول الله عز وجل له: كذَبْتَ، وتقول له الملائكة: كَذَبْتَ، ويقول الله تبارك وتعالى: بل أرَدْتَ أن يقال: فلانٌ قارئ، وقد قيل ذلك.

ويؤتى بصاحب المال، فيقول الله عز وجل: ألم أُوْسِعْ عليكَ حتى لم أَدَعْكَ تحتاج إلى أحدٍ؟ قال: بلى يا ربِّ، قال: فما عملتَ فيما آتيتُكَ؟ قال: كنتُ أصلُ الرَّحِمَ وأتصدقُ. فيقولُ الله له: كَذَبْتَ، وتقول الملائكةُ: كذبْتَ، ويقول الله تبارك وتعالى: بل أردتَ أن يقالَ: فلانٌ جَوادٌ، وقد قيل ذلك.

ويؤتى بالذي قُتِلَ في سبيل الله فيقول الله له: في ماذا قُتِلْتَ؟ فيقول: أي ربِّ! أمَرْتَ بالجهاد في سبيلك فقاتلتُ حتى قُتِلْتُ، فيقول الله له: كَذَبْتَ، وتقول الملائكةُ كَذَبْتَ، ويقول الله: بل أردتَ أن يقالَ: فلان جريء، فقد قيل ذلك. ثم ضرب

(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم في الصحيح (1905) - كتاب الإمارة. ورواه النسائي.

ص: 580

رسول الله صلى الله عليه وسلم على ركبتي فقال: يا أبا هريرة أولئكَ الثلاثةُ أولُ خلقِ الله تُسعر بهم النار يومَ القيامة] (1).

قال الوليدُ أبو عثمان المديني: (وأخبرني عُقبةُ أن شُفَيًّا هو الذي دخل على معاوية فأخبره بهذا، قال أبو عثمان: وحدثني العلاء بن أبي حكيم أنه كان سيّافًا لمعاوية قال: فدخل عليهِ رجل فأخبره بهذا عن أبي هريرة. فقال معاوية: قد فُعِلَ بهؤلاء هذا، فكيفَ بمن بَقِيَ مِن الناس؟ ثم بكى معاوية بكاءً شديدًا، حتى ظننا أنَّهُ هالكٌ، وقلنا: قد جاءنا هذا الرجل بشَرٍّ. ثم أفاق معاوية، ومسح عن وجههِ، وقال: صدق الله ورسوله: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ (15) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}).

وبهذا المعنى روى ابن جرير في التفسير عن حفص عن شمر قال: (يؤتى بالرجل يوم القيامةِ للحساب وفي صحيفتهِ أمثال الجبال من الحسنات فيقول ربّ العزةِ جل وعز: صَلّيْتَ يوم كذا وكذا ليقال: صَلَّى فلانٌ، أنا الله لا إله إلا أنا، لي الدين الخالص. صُمْتَ يوم كذا وكذا ليقال صام فلان، أنا الله لا إله إلا أنا لي الدين الخالص. تصدقتَ يومَ كذا وكذا ليقال: تصدّق فلانٌ، أنا الله لا إله إلا أنا لي الدين الخالصُ، فما يزالُ يمحو شيئًا بعد شيء حتى تبقى صحيفتهُ ما فيها شيء فيقول ملكاه: يا فلان، ألغير الله كنتَ تعمل؟ ).

فنسأل الله الإخلاص في القولِ والعمل، ومتابعة الحق في كل أمر بلا ابتداع أو زلل، ونسأله سبحانه دخولَ الفردوس دون حساب ولا انتظار يوم الحشر أو ملل، إنه رحيم قريب بَرٌّ كريم.

وقوله: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} .

قال مجاهد: (قريش تقوله للأوثان، ومن قَبْلهم يقوله للملائكة ولعيسى بن مريم ولعزَير).

وقال قتادة: (قالوا ما نعبدُ هؤلاء إلا ليقربونا، إلا ليشفعوا لنا عند الله). وقال السدي: (هي منزلة). فأخبر سبحانهُ عن عبّاد الأوثان أنهم إنما يحملهم على عبادتهم هو أن هذه الأصنام اتخذوها على صور الملائكة المقربين كما زعموا فهم يرجون بذلكَ شفاعتهم عند الله لنصرهم ورزقهم في الدنيا وحمايتهم مما ينوبها، وأما الآخرة والبعث

(1) حديث صحيح. رواه الترمذي (2382)، وابن حبان. انظر: صحيح الترغيب (1/ 22).

ص: 581

بعد الموت فقد كانوا منكرين جاحدين له. قال الحافظ ابن كثير: (وما كان الشفعاءُ والوسطاء في نظر المشركين إلا مخلوقين لله تعالى، مربوبين له، ولهذا كانوا يقولون في تلبيتهم إذا حجّوا في جاهليتهم: لبّيكَ لا شريكَ لك، إلا شريك هو لك، تملكه وما ملك). قلت: فهذه الشبهة قديمة اعتدّ بها المشركون أمام رسلهم، وهي واهية باطلة لأنهم قاسوا الله سبحانه وملائكته على ملوك الأرض وأمرائهم الذين يتوسطون ويشفعون لهم عند ملوكهم، فتعالى اللهُ عما يقولون علوًا كبيرًا، فقد قال سبحانه في سورة الشورى يصفُ نفسه:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} . وقال في سورة النحل: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} . وقال فيها أيضًا: {فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} . فأمر سبحانه بإفرادهِ في العبادةِ فهو العظيمُ لا واسطة لديه إلا الإنابة إليهِ والعملُ الصالح، وهو الذي يحبه من ملوك الأرض ومن عباده جميعًا، وبه ينبغي أن يقرّب الحكام والخلفاء الناس أو يبعدوهم، قال جل ثناؤه في سورة النحل:{وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} . قال ابن القيم رحمه الله: (الطاغوت: كل ما تجاوز به العبد حدّه: من معبود أو متبوع أو مطاع، فطاغوت كل قومٍ: من يتحاكمون إليهِ غير الله ورسوله، أو يعبدونه من دون الله، أو يتبعونه على غير بصيرة من الله، أو يطيعونه فيما لا يعلمون أنه طاعة لله، فهذه طواغيت العالم، إذا تَأَمَّلْتها وتأمّلت أحوال الناس معها رأيت أكثرهم أعرض عن عبادة الله تعالى إلى عبادة الطاغوت، وعن طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى طاعة الطاغوت ومتابعته).

وقد أخرج الإمام البخاري في تفسير سورة نوح عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: {وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا} قال: [هي أسماء رجال صالحين من قوم نوح. فلما هلكوا أوحى الشيطانُ إلى قومهم: أن انْصِبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها أنصابًا، وسمّوها بأسمائهم، ففعلوا، ولم تُعبْدَ. حتى إذا هلكَ أُولئكَ ونُسِيَ العلم عُبِدَتْ](1).

وقال ابن جرير بسنده عن محمد بن قيس: (أن يغوث ويعوق ونسرًا كانوا قومًا صالحين من بني آدم، وكان لهم أتباع يقتدون بهم، فلما ماتوا قال أصحابهم: لو صورناهم كان أشوق لنا إلى العبادة، فصوروهم، فلما ماتوا وجاء آخرون دبَّ إليهم

(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري في الصحيح (4920) - كتاب التفسير - سورة نوح.

ص: 582

إبليس، فقال: إنما كانوا يعبدونهم وبهم يُسقون المطر، فعبدوهم).

قلت: فهذا أصل الشرك بدأ بصور، ثم انتهى بصرف العبادة لغير الله، ثم صار دينًا في قلوب كثير من الناس، احتجوا به على الرسل والأنبياء وعاندوهم، وإنما استزلهم الشيطانُ ببعض ما كسبوا. ولهذا قال سبحانه عنهم {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى}. قال قتادة:(كانوا إذا قيل لهم من ربكم وخالقكم؟ ومن خلق السماوات والأرض وأنزل من السماء ماء؟ قالوا الله، فيقال لهم ما معنى عبادتكم الأصنام؟ قالوا: ليقربونا إلى الله زلفى، ويشفعوا لنا عنده). قال الكلبي: (جواب هذا الكلام في الأحقاف: {فَلَوْلَا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آلِهَةً} والزلفى القربة) ذكره القرطبي.

وقوله: {إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} . قال القاسمي: (أي عند حشر معبوداتهم معهم، فيقرن كلًّا منهم مع من يتولاه، من عابد ومعبود. ويدخل المبطل النار مع المبطلين، كما يدخل المحق الجنة مع المحقين، {إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} لا يوصله إلى النجاة ومقر الأبرار). أي فاللهُ يحكم بين أهل الأديان يوم القيامة فيجازي كلًّا بما يستحقُ، كما قال جل ثناؤه في سورة الأنعام:{وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَامَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} . وكما قال في سورة سبأ: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ (40) قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ} .

وقوله تعالى: {لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لَاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} . تنزيةٌ لهُ - جلّت عظمته - أن يكون له ولد، فهو الغني لا يحتاجُ إلى أحدٍ من خلقهِ، بل الكل مفتقر إلى هديهِ وتوفيقهِ ورحمته.

قال ابن جرير: (لو شاء الله اتخاذ ولدٍ، ولا ينبغي له ذلك، لاصطفى مما يخلق ما يشاء. يقول: لاختار من خلقهِ ما يشاء. {سُبْحَانَهُ} هو الذي يعبدهُ كل شيء ولو كانَ له ولد لم يكن له عبدًا فالأشياء كلها له ملك فَأَنَّى يكون لهُ ولدٌ وهو الواحد الذي لا شريكَ لهُ في ملكه وسلطانهِ والقهار لخلقهِ بقدرتهِ، فكل شيء لهُ متذلِّلٌ ومن سطوته خاشع). قلت: إن الاشتراك بين صانعين في إتقان صنعة، يوزعُ الثناء بينهما، فلو أنجزها أحدهما لأخذ الثناء كله، فكيف بالإنسان يحب ذلكَ لنفسهِ ويرضى شريكًا لخالقهِ، فيقسم الثناء والحمد، فتعالى الله عما تتصور عقول المشركين علوًا كبيرًا،

ص: 583

فله المدحُ كله، وله الثناءُ كله، وله الحمدُ كله، وله الكمال كله، ولا أحد يشاركهُ سبحانهُ في صفات الكمال والجلال والجمال {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} ، {فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ} .

وفي الصحيحين والمُسْنَدِ عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [لا أحدَ أغيرُ من الله، ولذلكَ حرّمَ الفواحشَ، ما ظهر منها وما بطن، ولا أحدَ أحبُّ إليهِ المدحُ من الله، ولذلكَ مَدَحَ نفسهُ، ولا أحدَ أحبُّ إليهِ العذرُ من الله، من أجلِ ذلك أنزل الكتاب، وأرسل الرسلَ](1).

وفي صحيح الحاكم عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[قال الله تعالى: الكِبرياءُ رِدائي، فمن نازعني في ردائي قَصَمْته](2). وأصله في صحيح الإمام مسلم ولفظهُ: [قال الله تعالى: الكبرياءُ ردائي والعِزُّ إزاري، فمن نازعني في شيء منهُما عَذّبتُهُ](3). ولهُ شاهد في مسند الإمام أحمد ولفظه: [قال اللهُ تعالى: الكبرياءُ ردائي، والعظمةُ إزاري، فمن نَازَعني واحدًا منهما قذفتهُ في النار].

وقوله تعالى: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلَا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ} . أي: فلهُ الخلق والأمرُ والتدبير سبحانهُ وهذا من صفات الربوبيةِ التي تقتضي وتستلزم من العباد إفرادهُ بالألوهيَّةِ كما قال جل ثناؤهُ: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (17) وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [النحل: 18]. ثم قال: {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (20) أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (21) إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ} .

وعن ابن عباس قوله: {يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ} قال: (يحمل الليل على النهار). وقال قتادة: (يغشى هذا هذا ويغشى هذا هذا). وقال مجاهد: (يدهوره). وقال السدي: (يجيء بالنهار ويذهب بالليل، ويجيء بالليل ويذهب بالنهار). وقال الضحاك: (أي يلقي هذا على هذا، وهذا على هذا). وبناء على ما سبق ففي الآية أكثر من تأويل:

(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (4634)، ومسلم (2760)، ورواه أحمد (1/ 381).

(2)

حديث صحيح. أخرجه الحاكم (1/ 61)، وبنحوه أحمد في المسند (2/ 248).

(3)

حديث صحيح. أخرجه مسلم في الصحيح (8/ 35 - 36)، والبخاري في "الأدب المفرد"(552).

وانظر مسند أحمد (2/ 414)، وسنن ابن ماجة (4174).

ص: 584

التأويل الأول: قيل التكوير الطرح والإلقاء. ففي لغة العرب: التكوير طرح الشيء بعضه على بعض. قال الرازي: (وتكويرُ المتاع جمعهُ وشده. وتكوير العِمَامة كَوْرها). ويقال: كوّر المتاع أي ألقى بعضهُ على بعض، ومنه قول الضحاك في الآية:(يلقي هذا على هذا، وهذا على هذا).

التأويل الثاني: التكوير نقصان أحدهما وزيادة الآخر. قال ابن عباس: (ما نقص من الليل دخل في النهار، وما نقص من النهار دخل في الليل). ويشبه ذلكَ قولهُ في سورة آل عمران: {تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ}

التأويل الثالث: التكوير: التغشية، أي يذهب أحدهما ضوء الآخر. قال قتادة:(يغشى هذا هذا، ويغشى هذا هذا). فتكوير الليل على النهار تغشيته إياه حتى يذهب ضوءه، ويغشى النهار على الليل فيذهبُ ظلمته. كما قال سبحانه:{يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا} .

التأويل الرابع: التكوير مجيء أحدهما وذهاب الآخر. كما قال السدي: (يجيء بالنهار ويذهب بالليل، ويجيء بالليل ويذهب بالنهار).

قلت: وكلها تأويلات متقاربة تدل على رحمة الله بعباده إذ يدخل الليل في النهار ثم يدخل النهار في الليل وينقصُ من طول أحدهما ويزيدُ في الآخر على مدار السنة ليختبر عباده في تقربهم ومختلف أحوالهم، وليسكنوا في الليل إذا جاء وقد ذهب النهار وما فيهِ من مشقةٍ وعملٍ، ثم ليمتحنهم مرة أخرى بذهاب الليل ومجيء النهار.

وقوله: {وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} . فيه معنيان:

المعنى الأول: الأجل المسمى المنازل الخاصة بكل منهما ووقت بلوغها.

قال الكلبي: (يسيران إلى أقصى منازلهما، ثم يرجعان إلى أدنى منازلهما لا يجاوزانه). أي لكل واحد منهما منازل، لا تعدوه ولا تقصر عنه، فيكونُ معنى الأجل المسمى: الوقت الذي ينتهي فيه سير الشمس والقمر إلى المنازل المرتبة لغروبها وطلوعها.

المعنى الثاني: الأجل المسمى يوم القيامة.

قال ابن جرير: (وسخر الشمس والقمر لعباده ليعلموا بذلكَ عدد السنين والحساب ويعرفوا الليل من النهار لمصلحة معاشهم. {كُلٌّ} ذلكَ يعني الشمس والقمر

ص: 585

{يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} يعني إلى قيام الساعة وذلكَ إلى أن تكوّر الشمس وتنكدر النجوم). وقال القرطبي: ({وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ} أي بالطلوع والغروب لمنافع العباد: {كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} أي في فلكه إلى أن تنصرم الدنيا وهو يوم القيامة حين تنفطر السماء وتنتثر الكواكب).

قلت: وكلا المعنيين تحمله الآية فالشمس والقمر يجريان في منازلهما إلى يوم يحدث الله تغييرًا في حركتهما ويأمرهما بخلافِ ما كان أذن لهما. ففي صحيح الإمام مسلم عن أبي ذر: قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [أتدرون أينَ تذهبُ هذه الشمس؟ إن هذه تجري حتى تنتهي إلى مستقرها تحت العرشِ، فتخرّ ساجدةً، فلا تزالُ كذلكَ حتى يقال لها: ارتفعي، ارجعي من حيث جئتِ، فترجعُ، فتصبحُ طالعةً من مطلعها، ثمَّ تجري، حتى تنتهيَ إلى مستقرِّها تحت العرش، فتخر ساجدة، فلا تزال كذلك حتى يقال لها: ارتفعي، ارجعي من حيث جئتِ، فترجعُ فتصبحُ، طالعةً من مطلعها، ثم تجري، لا يستنكر الناس منها شيئًا، حتى تنتهى إلى مستقرها ذاك تحتَ العرش، فيقال لها: ارتفعي، أصبحي طالعةً من مَغْربِكِ، فتصبح طالعةً من مغربها، أتدرون متى ذاكم؟ حين {لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا}](1).

وفي صحيح الإمام البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [الشمس والقمرُ يكوّرانِ يومَ القيامةِ]. وله شاهد عند البيهقي عنه ولفظه: [الشمس والقمر ثوران مكوَّرانِ في النار يوم القيامةِ. فقال الحسن: وما ذنبهما؟ فقال أحدثك (2) عن رسول الله صلى الله عليه وسلم! فسكت الحسن](3).

وقوله: {أَلَا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّار} . قال ابن جرير: (ألا إن الله الذي فعل هذه الأفعال وأنعم على خلقهِ هذه النعم هو العزيز في انتقامهِ ممن عاداه، الغفار لذنوب عبادهِ التائبين إليهِ منها بعفوهِ لهم عنها). أي فهو مع عزتهِ وكبريائهِ وجبروتهِ وقدرتهِ يتوب على من أنابَ إليهِ، وأقبل راجيًا مستغفرًا ما قدم بين يديه.

وقوله: {خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا} . يعني خلقكم من آدم ثم أخرجكم من صلبه، وخلق حواء زوجة أبيكم آدم من ضِلعٍ من أضلاعِهِ عليه السلام. كما قال جل

(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم (159) - كتاب الإيمان. والآية المذكورة [الأنعام: 158].

(2)

وهو أبو سلمة أحد الرواة.

(3)

حديث صحيح. انظر صحيح البخاري (2/ 304 - 305)، ومسند أبي يعلى (3/ 17/ 10). و "مشكل الآثار"- الطحاوي - (1/ 66 - 67). ورواه البيهقي وابن عدي.

ص: 586

ثناؤه في سورة النساء: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً} . وكقوله في سورة الأعراف: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا} .

وعن قتادة: (قوله: {خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} قال: يعني آدم، ثم خلق منها زوجها حواء، خلقها من ضِلع من أضلاعه). أي ليسكق إليها وليحصل التناسل فيخلق الله ما شاء من بني آدم.

وهنا فائدة لطيفة: فقد يقال كيف خلقكم من نفس واحدة ثم جعل منها زوجها وإنما خلق ولد آدم من آدم وزوجته، ولا شك أن الوالدين قبل الولد؟

والجواب على ذلكَ من وجوه:

الوجه الأول: أن العرب تخبر عن فعلين لرجل وتورد الأول منهما في المعنى بعد "ثُمَّ" في خبر المتكلم بنحو قولك: (بلغني ما كان منكَ اليوم. ثم ما كان منك أمس أعجب).

الوجه الثاني: أن يكون المعنى: خلقكم من نفس وحدها ثم جعل منها زوجها.

ذكره والذي قبله الإمام الطبري.

الوجه الثالث: أي خلقكم من آدم عليه السلام فأودعكم في ظهره وصلبه ثم حصل خروجكم بالتناسل بعد أن خلق من ضلع من أبيكم أمّكم حواء.

الوجه الرابع: أن يكون المراد بثّ الذرية أمام آدم يوم أخرجها الله أمامهُ من ظهره وكلمهم قبلًا ألمست بربكم وعهد عليهم ألا يشركوا به شيئًا. ثم خلق زوجته حواء. واختاره ابن جرير.

قلت: لقد ساق ابن جرير أثرًا عن النبي صلى الله عليه وسلم فيه زيادة: (وخلق بعد ذلكَ حواء من ضِلْعِ من أضلاعه) ما رأيتها في صحيح السنة، وأما الشق الأول فيؤيده من السنة الصحيحة أحاديث أخذ الميثاق. وبذلكَ يكون الوجه الثالث أقرب عندي إلى المعنى وهو من إلهامِ الله تعالى وتوفيقه، ويؤيده من الأدلةِ الصحيحة ما يلي:

الدليل الأول: يروي ابن أبي عاصم في كتاب السنة بإسناد صحيح عن ابن عباس قال: [لما نزلت آية الدَّيْن قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن أول من جحد آدم، إن الله تعالى لما

ص: 587

خلقه مسح ظهره، فأخرجه منه ما هو من ذراريَّ إلى يوم القيامة، فعرضهم عليه] (1).

ففيه إشارة لنثر ذريته من ظهره أمامه بعد خلقه قبل خلق حواء.

الدليل الثاني: يروي الإمام أحمد في المسند بإسناد حسن عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[أخذ الله الميثاق من ظهر آدم بنعمان يعني عرفة (وفي رواية: يوم عرفة) فأخرج من صُلْبِهِ كُلَّ ذرية ذرأها فنثرهم بين يديه كالذّرّ ثم كلمهم قِبَلًا قال: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ (172) أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ}](2).

الدليل الثالث: يروي ابن حبان في صحيحه والحاكم بإسناد حسن عن أبي هريرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[لما خلق الله آدم ونفخ فيه من روحه قال بيدهِ وهما مقبوضتان: خُذ أيهما شئتَ يا آدم. فقال: يمين ربي وكلتا يداهُ يمين مباركة، ثم بسطها، فإذا فيها آدم وذريته، وإذا كل إنسان منهم عنده عمر مكتوب](3).

وقوله: {وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ} . في قوله {وَأَنْزَلَ} أقوال عند المفسرين:

القول الأول: {أَنْزَلَ} بمعنى أنشأ وجعل، فقد روي ذلكَ عن الحسن.

القول الثاني: {أَنْزَلَ} بمعنى خلق، قاله سعيد بن جبير.

القول الثالث: أن يكون خلقها سبحانه في الجنة مع آدم عليه السلام ثم أنزلها معهُ إلى الأرض، كما قيل في قوله جل ثناؤه:{وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ} فإن آدم لما هبط إلى الأرض أنزل معه الحديد. ذكره القرطبي والنسفي.

القول الرابع: أن الأنعام لا تعيشُ إلا بالنبات، والنباتُ لا يقوم إلا بِالماء، وقد أنزل الماء فكأنه أنزلها. واختاره القرطبي رحمه الله حيث قال: (أخبر عن الأزواج

(1) حديث حسن. أخرجه ابن أبي عاصم في "السنة"(1/ 90)، ورواه أحمد في المسند (1/ 251)، وأبو يعلى (2710)، والطيالسي (2692).

(2)

حديث صحيح. أخرجه أحمد (1/ 272)، والنسائي في "الكبرى"(11191)، والحاكم عن ابن عباس، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (1623).

(3)

حديث حسن. انظر صحيح ابن حبان (6167)، ومستدرك الحاكم (1/ 64)، (4/ 263)، وكذا سنن الترمذي (3368)، وابن خزيمة في "التوحيد"(ص 67).

ص: 588

بالنزول، لأنها تكونت بالنبات والنبات بالماء المنزل. وهذا يسمى التدريج، ومثله قوله تعالى:{قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا} الآية).

القول الخامس: قيل: {وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ} أي أعطاكم.

القول السادس: قيل: جعل الخلق إنزالًا، لأن الخلق إنما يكون بأمر ينزل من السماء. فالمعنى: خلق لكم كذا بأمره النازل.

قلت: وكلها لطائف من التفسير يضمها البيان الإلهي الكريم وإعجاز القرآن العظيم فتبارك من تكلمَ به أحسن الخالقين.

وأما الأزواج فالمقصودُ بها الأنعام الثمانية: من الإبل زوجين ومن البقر زوجين ومن الضأن زوجين ومن المعز زوجين، كما قال جل ثناؤه في سورة الأنعام:{ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ} . قال مجاهد: (قوله: {وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ} الإبل والبقر والضأن والمعز).

وقال الضحاك: (يعني من المعز اثنين ومن الضأنِ اثنين، ومن البقرِ اثنين ومن الإبل اثنين).

وقال قتادة: (من الإبل اثنين ومن البقر اثنين ومن الضأن اثنين ومن المعز اثنين كل واحد زوج).

وقوله: {يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ} . أي: نطفة فعلقة فمضغة على مراحل ثلاث ثم يكونُ لحمًا وعظمًا وعصبًا وعروقًا، ثم ينفخ فيه الروح فيصير خلقًا متكاملًا بإذن الله أحسن الخالقين. كما قال سبحانهُ في سورة المؤمنون:{وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} .

وكما قال في سورة الحج: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا} .

فالقول الأول: هو ما سبق وقد روي عن عكرمة {يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ} قال: (نطفة ثم علقة ثم مضغة). وبنحوه قال قتادة: (نطفة ثم علقة ثم مضغة

ص: 589

ثم عظامًا ثم لحمًا ثم أنبت الشعر، أطوار الخلق).

والقول الثاني: أي هو الخلق في بطون الأمهات بعد أن كان الخلق الأول في ظهر آدم.

فعن ابن زيد قال: (خلقًا في البطون من بعد الخلق الأول الذي خلقهم في ظهر آدم).

والقول الثالث: قيل في ظهر الأب ثمَّ خلقًا في بطن الأم ثم خلقًا بعد الوضع. أورده القرطبي عن الماوردي.

قلت: والراجح عندي القول الأول وهو قول ابن جرير وابن كثير ويدل عليه سياق الآية حيث يقول سبحانه {يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ} فهو يعني المراحل في الخلق والبناء داخل الأرحام {خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ} ، ويؤيده من السنة الصحيحة إضافة لما سبق من الآيات الكريمة أحاديث:

الحديث الأول: أخرج الشيخان عن عبد اللَّه بن مسعود رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[إن أحدكم يُجْمعُ خلقُهُ في بطن أمهِ أربعينِ يومًا نطفة، ثمَّ يكون علقةً مثل ذلك، ثمَّ يكونُ مُضْغَةً مثلَ ذلك، ثمَّ يبعثُ اللَّهُ إليهِ مَلَكًا، ويؤمرُ بأربع كلماتٍ، ويقال لهُ: اكتب عملهُ، ورزقهُ، وأجلهُ، وشقي أو سعيد، ثم يَنْفُخُ فيه الروح، فإن الرجل منكم ليعملُ بعمل أهل الجنةِ، حتى لا يكونَ بينه وبينَها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل النار، فيدخلُ النار. وإن الرجل ليعمل بعملِ أهلِ النار، حتى ما يكون بينهُ وبينها إلا ذراع، فيسبق عليهِ الكتابُ، فيعملُ بعملِ أهلِ الجنةِ فيدخلُ الجنة](1).

الحديث الثاني: أخرج الإمام مسلم في صحيحه عن حذيفة بن أُسَيْد قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: [إذا مرَّ بالنطفةِ اثنتان وأربعون ليلةً، بعث اللَّه إليها مَلكًا فصوّرها، وخلق سمعها وبصرَها، وجِلدَها ولحمها وعظامَها، ثم قال: يا ربَّ أذكرٌ أَمْ أُنثى؟ فيقضي ربك ما شاءَ، ويكتُبُ الملك، ثم يقول: يا رب أَجلهُ، فيقول ربكَ ما شاءَ، ويكتبُ الملك، ثمَّ يقول: يا رب رزقُهُ، فيقضي ربُّكَ ما شاء، ويكتب الملك، ثم يخرجُ الملكُ بالصحيفةِ في يدهِ، فلا يزيد على أمر ولا ينقصُ](2).

(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري في الصحيح (3208)، ومسلم (2643)، وأحمد (1/ 382).

(2)

حديث صحيح. أخرجه مسلم في الصحيح -حديث رقم- (2645). كتاب القدر.

ص: 590

قلت: ولا تعارض بين هذا الحديث والذي قبله، فالذي قبله يفسره بأن اللَّه إنما يبعث الملك فيهيِّئ هذا الخلق إلى حين يأتي الأمر بنفخ الروح وكتابة الرزق والعمل والأجل وهو بعد أن تمر النطفة بالأطوار الثلاثة: أربعين يومًا نطفة، وأربعين يومًا علقة، وأربعين يومًا مضغة، أي بعد أربعة أشهر، واللَّه تعالى أعلم.

الحديث الثالث: يروي ابن أبي عاصم في كتاب السنة عن أبي الطفيل قال: كان عبد اللَّه بن مسعود يحدث في المسجد: أن الشقي من شقي في بطن أمه والسعيد من وعظ بغيره. قال: فأتيتُ حذيفة بن أُسَيْدٍ الغفاري فقلت: ألا تعجب من عبد اللَّه بن مسعود يحدث في المسجد: إن الشقي من شقي في بطن أمهِ والسعيد من وعظ بغيره! قال: فما بالُ هذا الطفيل الصغير. قال: لا تعجب. سمعتُ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم مرارًا ذات عدد يقول: [إن النطفةَ إذا وقعت في الرحم أربعين ليلةً، وقال أصحابي: خمسة وأربعين ليلة، نفخ فيه الروح، قال: فيجيء ملك الرحم فيدخل فيصور له عظمه ولحمه، ودمه وشعره، وبشره وسمعهُ وبصره ثم يقول: أي رب أذكر أم أنثى؟ فيقضي اللَّه إليه فيه، ويكتب الملك، فيقول: أي رب أشقي أم سعيد؟ فيقضي اللَّه إليه ما يشاء، ويكتب الملك، ثم يقول أي رب أثره؟ فيقضي اللَّه تعالى، ويكتب الملك، فيقول: أي رب أجله؟ فيقضي اللَّه ما يشاء، ويكتب الملك، ثم تُطوى تلك الصحيفة فلا تُمسُّ إلى يوم القيامةِ]. وإسنادهُ صحيح على شرط الشيخين (1).

وقوله: {فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ} فيه أكثر من تأويل:

التأويل الأول: يعني ظلمة الرحم والمشيمة والبطن. فعن عكرمة ({فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ} قال: البطن والمشيمة والرحم). أي ظلمة البطن وظلمة الرحم وظلمة المشيمة، كما قال السدي:(ظلمة المشيمة وظلمة الرحم وظلمة البطن). وقال الضحاك: (الرحم والمشيمة والبطن، والمشيمة التي تكون على الولد إذا خرج، وهي من الدواب السَّلى).

التأويل الثاني: يعني ظلمةُ المشيمة والرحم والليل. فعن سعيد بن جبير قال: (ظلمة المشيمة وظلمة الرحم وظلمة الليل).

التأويل الثالث: قيل: ظُلمة صُلبِ الرجل وظلمة بطن المرأة وظلمة الرحم. قال

(1) حديث صحيح. أخرجه ابن أبي عاصم في كتاب: "السنة"(179). وإسناده صحيح على شرط الشيخين. وانظر كذلك الحديث (178).

ص: 591

القرطبي: (وهذا مذهب أبي عبيدة. أي لا تمنعهُ الظلمةُ كما تمنع المخلوقين).

قلت: والتأويل الأول هو الأشهر بين المفسرين واختارهُ ابن جرير وابن كثير رحمهما اللَّه تعالى.

وقوله: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} . أي: هذا الذي فعل هذه الأفعال وخلق هذه المراحل من الخلق هو ربكم أيها الناس الذي يملكُ الخير والشر فمالكم تصرفون إلى من لا يجلب لنفسهِ ولا لكم نفعًا ولا يدفعُ عنها ضرًا.

قال ابن جرير: (فأما ملوك الدنيا فإنما يملكُ أحدهم شيئًا دونَ شيء، فإنما له خاص من الملك، وأما الملك التام الذي هو الملك بالإطلاق فلله الواحد القهار، فأنى تصرفون أيها الناس فتذهبون عن عبادة ربكم الذي هذه الصفة صفتهُ إلى عبادة من لا ضر عنده ولا نفع). وبهذا المعنى جاءت الآثار عن التابعين، فعَنْ قتادة:({فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} قال: كقوله: {تُؤْفَكُونَ}). وعن السدي: ({فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} قال للمشركين: أين تصرف عقولكم عن هذا؟ ).

وقوله: {إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ} .

أي: إن تكفروا باللَّه أيها الكفار به فاعلموا أن اللَّه غني عنكم وعن إيمانكم ولا تزيد عبادتكم في ملكهِ وجبروته، فقد خضعت له السماوات والأرض وما بينهما، وأشفقت من أمره الجبال والبحار والشجر والدواب وكثير من الناس، فمن طغى منهم فسيهينه وماله من مكرم، ولكنه سبحانهُ يحب الإيمان والمؤمنين، ويحب الطاعةَ والإخبات والمخبتين، ويحب الشكر والشاكرين، وهيأ لهم ما لا عينٌ رأت ولا أذنٌ سمعت ولا خطر على قلب بشر، والكل محتاجٌ إلى رحمته ورضوانهِ وجنتهِ.

والآية تشبه قوله تعالى في سورة إبراهيم: {وَقَالَ مُوسَى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ} . فعن السدّي: ({وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ} قال: إن تطيعوا يرضه لكم).

قال القرطبي: (وقيل لا يرضى الكفر وإن أرادهُ، فاللَّه تعالى يريدُ الكفر من الكافر وبإرادته كفر لا يرضاه ولا يحبه فهو يريد كون ما لا يرضاه، وقد أراد اللَّه عز وجل خلق إبليس وهو لا يرضاه، فالإرادةُ غير الرضا. وهذا مذهب أهل السنة).

قلت: وهذا تفسير صائب، فإن اللَّه يريد ويشاء ما لا يحب ويحب ما لا يشاء، فهو خلق إبليس وشاء ذلكَ مع أنه لا يحبهُ، وكذلكَ يحب الإيمان للطغاة والمستكبرين ولكنه

ص: 592

لم يجبرهم عليه، وهو ردّ على القدرية والجبرية فإن اللَّه علم ذلكَ وكتبه في اللوح المحفوظ كتابة علم لا جبر فيها ولا قهر، كما قال جل ثناؤه:{وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} ، وكقوله سبحانه:{فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} .

وفي سنن البيهقي بسند حسن عن عبد اللَّه بن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [إن اللَّه لو شاءَ أنْ لا يُعصى ما خلق إبليس](1).

وأصل هذا المعنى في الصحيحين واللفظ للإمام مسلم عن علي رضي الله عنه قال: [خرجنا مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في جنازةٍ فلما انتهينا إلى بقيعِ الغَرْقَدِ قعدَ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وقعدنا حوله فأخذ عودًا فنكت به في الأرض ثم رفع رأسهُ فقال: ما منكم من نفسٍ منفوسةٍ إلا قد علم اللَّهُ مكانها من الجنةِ والنار، شقيةً أم سعيدة. فقال رجل من القوم: يا رسول اللَّه أفلا ندع العمل، فنتكل على كتابنا، فمن كان من أهل السعادة صار إلى السعادة، ومن كان من أهل الشقاوةِ -يعني- صار إلى الشقاوة؟ فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: اعملوا فكل ميسر، من كان من أهل السعادة يُسر لعملها، ومن كان من أهل الشقاوةِ يُسر لعملها](2).

وله شاهد عند ابن أبي عاصم في "كتاب السنة" رجاله ثقات رجال الشيخين عن أبي هريرة: [أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: يا رسول اللَّه: أنعمل في أمر نَأْتَنِفُهُ: أم في أمر قد فرغ منه؟ قال: بل في أمرٍ قد فرغ منه. فقال: ففيم العمل؟ فقال: يا عمر. كلا، لا يدرك إلا بعمل. قال: فالآن نجتهد يا رسول اللَّه](3).

وفي رواية: عن سعيد بن المسيب عن عمر بن الخطاب أنه قال: [قلت يا رسول اللَّه: أرأيت عملنا هذا على أمر قد فرغ منه أم على أمر نستقبله؟ فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: بل على أمرٍ قد فرغ منه. قال عمر: ففيمَ العمل؟ فقال رسول اللَّه: كلا، لا يُنالُ إلا بعمل. فقال عمر: إذن نجتهد]- ورجاله ثقاتٌ.

وكذلكَ أخرجَ ابن أبي عاصم في "السنة"، والآجري، والبيهقي في "الأسماء

(1) حديث حسن. رواه البيهقي في "الأسماء"(157)، ورواه اللالكائي في "السنة"(1/ 141/ 1)، وانظر سلسلة الأحاديث الصحيحة (1642).

(2)

حديث صحيح. أخرجه البخاري (4948)، ومسلم (647)، وأبو داود (4694).

(3)

حديث صحيح. أخرجه ابن أبي عاصم في "السنة"(161)، ورجاله ثقات.

ص: 593

والصفات" عن هشام بن حكيم: [أن رجلًا أتى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول اللَّه: أنبتدئ الأعمال أم قد قضي القضاء؟ فقال: إن اللَّه تعالى أخذ ذرية آدم من ظهورهم، وأشهدهم على أنفسهم، ثم أفاض بهم في كفيهِ. فقال: هؤلاء في الجنة، وهؤلاء في النار، فأهلُ الجنةِ ميسرون لعملِ أهل الجنة، وأهلُ النار ميسرون لعملِ أهلِ النار](1).

وقوله: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} . قال السّدي: (لا يؤخذ أحد بذنب أحد). وقال القاسمي: (أي لا تحمل حاملة حمل أخرى، أي ما عليها من الذنوب، أو لا تؤخذ نفسٌ بذنبِ أخرى، بل كلٌّ مأخوذ بذنبه).

قلت: والآيةُ هذه كقوله سبحانهُ في سورة فاطر: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} . وفي صحيح الإمام مسلم وسنن النسائي عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قام حين أنزل عليهِ:{وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} فقال: [يا بني كعب بن لُؤيّ! أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني مُرَّةَ بن كعب! أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني عبد شمس أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني عبد مناف! أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني عبد المطلب! أنقذوا أنفسكم من النار، يا فاطمةُ! أنقذي نفسكِ من النار، فإني لا أملكُ لكم من اللَّه شيئًا، غير أنَّ لكم رحمًا سأبُلها ببلالها](2).

وقوله: {ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُور} .

قال ابن جرير: (ثم بعد اجتراحكم في الدنيا ما اجترحتم من صالح وسَيِّئٍ وإيمان وكفر أيها الناس، إلى ربكم مصيركم من بعد وفاتكم. . . قال: فاتقوا أن تلقوا ربكم وقد عملتم في الدنيا بما لا يرضاه منكم فتهلكوا، فإنه لا يخفى عليه عمل عامل منكم).

قلت وهذه الآية كقوله سبحانه في آخر آية نزلت من القرآن: {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} . وفي الصحيحين عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم صعد الصفا فقال: [يا بني فِهْر! يا بني عديّ! يا بني عبد مناف! يا بني عبد المطلب! أرأيتكم لو أخبرتُكمْ أن خيلًا بالوادي تريد أن تغير عليكم، أكنتم

(1) حديث صحيح. أخرجه ابن أبي عاصم في "السنة"(168)، وأخرجه الآجري ص (172)، وأخرجه البيهقي في "الأسماء والصفات"(ص 326)، وله شواهد.

(2)

حديث صحيح. رواه مسلم في الصحيح (204) - كتاب الإيمان. ح (348). ورواه النسائي.

ص: 594

مُصدقِيَّ؟ قالوا: ما جربنا عليكَ إلا صدقًا، قال: فإني نذيرٌ لكم بين يدي عذابٍ شديد] (1).

وفي صحيح مسلم عن قبيصة قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: [يا بني عبد مناف يا بني عبد مناف! إني نذير، إنما مثلي ومَثَلُكُم، كمثل رجل رأى العدوَّ، فانطلق يريد أهله، فخشي أن يسبقوه إلى أهلهِ، فجعل يهتفُ: يا صباحاه، يا صباحاه! أُتيتُمْ أُتيتمْ](2).

وقوله تعالى: {وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ} .

هذه الآية تشبه الآية التي في سورة الإسراء: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا} . والآية التي في سورة الروم: {وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (33) لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} . والآية التي بعدها في سورة الروم: {وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ} . وكذلكَ فهي مفسّرة في سورة لقمان بقوله: {وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ} ، وبقوله في سورة العلق:{كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} .

ويبدو أن هذه الصفة طبع جاذب في الإنسان ونقطة ضعف في تركيبه يستفيدُ منها الشيطان فيؤزّها وينفخُ فيها لتصير كبرًا وغرورًا حالة الاستغناء أو الشعور بالقوة. وإنما المؤمنون قومٌ مخبتون لا يُفسد المال عليهم قلوبهم ودينهم، كما لا تفسد الصحة والقوة والجمال عليهم صلتهم باللَّه، فهو سبحانهُ يختبرهم بالفقر والغنى، والضعف والقوة، والمرض والعافية، وهم في كل هذه الأحوال حامدون شاكرون، وفي كل هذه المتقلّبات تائبون عابدون. وإليكَ أقوال أهل العلم في تفسير هذه الآية:

فعن قتادة: (قوله: {وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ} قال: الوجع والبلاء والشدة {دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ} قال: مستغيثًا به). وعن السُّدي: ({ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ} إذا أصابتهُ عافية أو خير {نَسِيَ} يقول: ترك، هذا في الكافر خاصة، {وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا} قال: الأندادُ

(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري في صحيحه (3525)، (4770). ورواه مسلم (208).

(2)

حديث صحيح. أخرجه مسلم في الصحيح (207) - كتاب الإيمان - من حديث قبيصة.

ص: 595

من الرجال: يطيعونهم في معاصي اللَّه). وقيل بل المقصود الأوثان كما قال ابن جرير: (عنى بهِ أنه أطاع الشيطان في عبادة الأوثان فجعل له الأوثان أندادًا، لأن ذلكَ في سياق عتاب اللَّه إياهم له على عبادتها. {لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ} قال: يقول: ليزيل من أراد أن يوحد اللَّه ويؤمن به عن توحيده، والإقرار بهِ والدخول في الإسلام. قل يا محمد لفاعل ذلكَ: تمتع بكفركَ باللَّهِ قليلًا إلى أن تستوفي أجلك فتأتيك مَنِتَّتك {إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ} أي إنك من أهل النار الماكثين فيها).

قلت: فالأهواء وتحكيم الشهوات والخضوع لها، أو تقديم الرؤساء وتعظيمهم فوق أوامر اللَّه، أو اتّخاذ الأوثان على صور الملائكة والصالحين، كل ذلكَ أنداد من دون اللَّه تضل عن سبيل اللَّه. وإنما يتذكر المؤمن ربّهُ حالة الرخاء كما يتذكره حالة الشدة ويعظمهُ ويحمده حالة العافية والصحة كما يفعل ذلكَ حالة العجز والمرض، فهو من خير إلى خير إلى أن يفارق الدنيا.

ففي المسند في زوائد عبد اللَّه بن الإمام أحمد عن أنس رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[عَجِبْتُ للمؤمن إنّ اللَّه تعالى لم يقضِ لهُ قضاء إلا كان خيرًا له](1).

وكذلكَ أخرج الطيالسي والبيهقي بسند صحيح عن سعد، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[عجبتُ للمسلم إذا أصابتهُ مصيبةٌ احتسبَ وصبر، وإذا أصابهُ خيرٌ حمد اللَّهَ وشكر، إن المسلم يؤجر في كل شيء حتى في اللقمةِ يرفعها إلى فيهِ](2).

وأما قوله: {خَوَّلَهُ} أي أعطاه وملكهُ، وقوله:{مَا كَانَ} فإن لـ {مَا} وجهين في اللغة أو ثلاثة:

الوجه الأول: أن تكون {مَا} بمعنى الذي، أي ترك الذي كان يدعوهُ في حالة الضرّ والمصيبةِ وهو اللَّه سبحانه.

الوجه الثاني: أن تكون {مَا} بمعنى (مَنْ)، نحو قوله سبحانهُ:{وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} [الكافرون: 3]، والمعنى واحد. وكقوله:{فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 3].

الوجه الثالث: أن تكون {مَا} بمعنى المصدر. والتقدير: أي نسي الدعاء الذي

(1) حديث صحيح. رواه عبد اللَّه بن أحمد في مسند أبيه (3/ 24)، ورواه أبو يعلى (200/ 2) من حديث أنس. وانظر: السلسلة الصحيحة (148).

(2)

حديث صحيح. أخرجه الطيالسي (211) بإسناد صحيح. ورواه البيهقي.

ص: 596

كانَ يتضرع به إلى اللَّه وتركَ الدعاء. وعندئذ تكون الهاء في قوله: {إِلَيْهِ} لها وجهان: الأول: أن تكون من ذكر ما. والثاني: أن تكونَ من ذكر الربّ سبحانه.

وقوله: {لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ} . أي: ليقتدي به الجهال، وليكون أسوة في الكبر والعجب، فيأخذ بذلك إثم كل من اقتدى به. فقد أخرج الإمام مسلم في صحيحه وأحمد في مسندهِ عن أبي هريرةَ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[من دعا إلى هدى، كان له من الأجر مثل أجور من تبعَهُ، لا يَنقصُ ذلكَ من أجورهم شيئًا، ومن دعا إلى ضلالة، كان عليه من الإثم مثل آثام من تبِعه، لا ينقص ذلكَ من آثامهم شيئًا](1).

وقوله: {قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ} . أي: عش في سكرة العجب ونفخة الكبر من إبليس وأعوانه، فإنما هي أيام تقضيها في هذه الحياة الدنيا ثم تُردُ إلى أشدِّ العذاب ونكال العقاب.

وقوله تعالى: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} .

لقد قرأ القراء {أَمَّنْ} على وجهين:

الوجه الأول: هو قراءة بعض أهل المدينة والبصرة والكوفة بتشديد الميم {أَمَّنْ} بمعنى أم من هو، وجواب هذا الاستفهام متروك يفسره السياق والبيان، لأنَّ الخبر كان يجري عن فريق الكفر ثم أتبع الخبر عن فريق الإيمان فعُلِم المرادُ والفرق بين حال الفريقين. وهذه القراءة قراءة الحسن وأبي عمرو وعاصم والكسائي.

الوجه الثاني: هو قراءة قراء الكوفة، وبعض أهل المدينة ومكة بالتخفيف (أمَنْ) وعندئذ تكون الألف على احتمالين:

الاحتمال الأول: أنها ألف استفهام، والتقدير: أهذا كالذي قبله ممن جعل للَّه أندادًا.

الاحتمال الثاني: أنها ألف النداء، والتقدير: يا من هو قانت آناء الليل، فإن العرب تنادي بالألف أحيانًا كما تنادي بِيَا فتقول: أزيد أقْبِلْ ويا زيدُ أقبل. وعلى هذا المعنى قرأها نافع وابن كثير والأعمش وحمزة.

قلت: وكلاهما قراءتان مشهورتان دار تأويل المعنى عليهما.

(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم في الصحيح (2674) - كتاب العلم - ح (16). ورواه أحمد.

ص: 597

وأما القنوت ففيه معان متقاربة:

المعنى الأول: القنوت: الطاعة. فعن ابن مسعود قال: (القانت: المطيع). وعن ابن عباس قال: ({أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ} يعني القنوت الطاعة وذلكَ أنه قال: {ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ (25) وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ} [الروم: 25 - 26] قال: مطيعون).

المعنى الثاني: القنوت: الخشوع. فعن ابن شهاب قال: (القانتُ: الخاشع في صلاته).

المعنى الثالث: القنوت: القيام. قال يحيى بن سلّام: (القانتُ: القائم في صلاته).

المعنى الرابع: القنوت: الدعاء. والقانت هو الداعي لربه.

المعنى الخامس: القنوت: هو قراءة القرآن مع طول القيام. فعن نافع عن ابن عمر: (أنه كان إذا سئل عن القنوت قال: لا أعلم القنوت إلا قراءة القرآن وطول القيام وقرأ: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا}).

وعن مجاهد قال: (من القنوتِ طول الركوع وغض البصر). قال القرطبي: (وكان العلماءُ إذا وقفوا في الصلاةِ غضّوا أبصارهم، وخضعوا ولم يلتفتوا في صلاتهم، ولم يعبثوا ولم يذكروا شيئًا من أمر الدنيا إلا ناسين).

قلت: وكلها معان متقاربة يتَّسِعُ لها الإعجاز والبيان الإلهي والهدي النبوي، فالقنوتُ يشمل الخشوعَ والدعاء والتلاوةَ في الليلِ وطول القيامِ وكلها داخلة في مفهومِ الإخبات والطاعة.

فقد قال سبحانه: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة: 238]. وفي صحيح مسلم عن عاصم عن أنس قال: (سألتهُ عن القنوتِ قبلَ الركوع أو بعد الركوع فقال: قبل الركوع. قال: قلت: فإن ناسًا يزعمون أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قنت بعد الركوع! فقال: إنما قنت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم شهرًا يدعو على أناس قتلوا أناسًا من أصحابه يُقال لهم القُرّاء).

وصنف الإمام مسلم بعد ذلكَ بابًا سمّاهُ: "باب أفضل الصلاة طولُ القنوت" وساق بذلكَ حديث جابر قال: [سئل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: أي الصلاةِ أفضل؟ قال: طول القنوت].

وفي مسند الإمام أحمد بسند جيد عن جابر قال: [أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل فقال: يا رسول اللَّه أي الصلاةِ أفضل؟ قال: طول القنوت. قال يا رسول اللَّه! وأي الجهاد

ص: 598

أفضل؟ قال: من عُقِرَ جوادهُ وأريقَ دمهُ. قال: يا رسول اللَّه! أي الهجرة أفضل؟ قال: من هجر ما كَرِهَ اللَّه عز وجل. قال: يا رسول اللَّه! فأي المسلمين أفضل؟ قال: مَنْ سلم المسلمون من لسانهِ ويدهِ. قال يا رسول اللَّه! فما الموجبتان؟ قال: من ماتَ لا يشركُ باللَّهِ شيئًا دخل الجنةَ ومن ماتَ يُشرك باللَّهِ شيئًا دخل النار] (1).

وفي المسند أيضًا عن عبد اللَّه بن حُبْشِيٍّ الخَثْعَمِيّ: [أن النبي صلى الله عليه وسلم سُئل أي الأعمال أفضل؟ قال: إيمانٌ لا شك فيهِ وجهاد لا غلول فيهِ وحَجَّةٌ مبرورةٌ. قيل فأيُّ الصلاة أفضل؟ قال: طول القنوت. قيل: فأيُّ الصدقة أفضل؟ قال: جَهْدُ المُقِلّ. قيل: فأيُّ الهجرة أفضل؟ قال: مَنْ هجرَ ما حرّم اللَّهُ عليهِ. قيل: فأي الجهاد أفضل؟ قال: من جاهد المشركين بماله ونفسه. قيل: فأي القتل أشرف؟ قال: مَنْ أُهريقَ دَمُهُ وعُقِرَ جوادُهُ](2).

وقد يراد بالقنوت الدعاء نفسه الذي في المغرب والفجر كما ذكر الإمامُ البخاري في صحيحه عن أنس بن مالك قال: (كان القنوت في المغرب والفجر). ثم ذكر عن أبي هريرةَ رضي الله عنه قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو في القنوتِ: اللهم أَنْجِ سَلَمَةَ بن هشام، اللهم أَنْجِ الوليدَ بنَ الوليد، اللَّهُمَّ أنْجِ عيّاش بن أبي ربيعة، اللهم أنج المستَضعفين من المؤمنين، اللَّهُمَّ اشدُدْ وطأتَكَ على مُضرَ، اللهم سنين كَسِني يوسُف).

ثم ذكر حديثًا عن أنس رضي الله عنه قال: (بعث النبي صلى الله عليه وسلم سبعين رجلًا لحاجة يُقالُ لهم القراء، فعرضَ لهم حيَّان من بني سُلَيم رِعْلٌ وذَكْوان عِنْدَ بئرٍ يقالُ لها بئرُ معونة. فقال القومُ: واللَّهِ ما إياكم أردنا إنما نحن مجتازون في حاجة للنبي صلى الله عليه وسلم فقتلوهم فدعا النبي صلى الله عليه وسلم عليهم شهرًا في صلاة الغداةِ وذلكَ بَدءُ القنوتِ وما كنا نقنت).

وقد صنف الإمامُ مسلم بهذا المعنى بابًا سمّاه: "باب استحباب القنوت في جميعِ الصلاةِ إذا نزل بالمسلمينَ نازلة". وذكر الترمذي عن الإمام أحمد قوله: (لا يُقنت في الفجر إلا عند نازِلة تَنزلُ بالمسلمين، فإذا نزلت نازلة فللإمام أن يدعوَ لجيوش المسلمين).

(1) حديث صحيح. انظر مسند أحمد (3/ 391)، وصحيح مسلم (2/ 175).

(2)

حديث صحيح. رواه أحمد (3/ 411 - 412). وانظر سنن أبي داود (1325)، والنسائي (1/ 349)، والدارمي (1/ 331). وسنده صحيح على شرط مسلم.

ص: 599

وقوله: {آنَاءَ اللَّيْلِ} . قال السدي: (ساعات الليل). وقال قتادة: ({أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ} قال: أوَّلهُ وأوسطه وآخره).

وكذلكَ قال الحسن: (ساعاته، أوله وأوسطه وآخرهُ). وعن ابن عباس قال: ({آنَاءَ اللَّيْلِ} جوف الليل. قال: من أحبّ أن يهون اللَّه عليهِ الوقوف يوم القيامةِ، فليره اللَّه في ظلمة الليل ساجدًا وقائمًا يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه). وقيل: ما بين المغرب والعشاء. ويجمع هذه الأقوال قول قتادة والحسن فهو عام شامل لكل هذه الأوقات التي تندبُ فيها الصلاةُ والقيام.

وقوله: {سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ} . قال ابن جرير: (يقنتُ ساجدًا أحيانًا، وأحيانًا قائمًا، يعني يطيعُ والقنوت عندنا الطاعة، ولذلكَ نصب قوله {سَاجِدًا وَقَائِمًا} لأن معناه: أمَّن هو يقنت آناء الليل ساجدًا طورًا وقائمًا طورًا، فهما حال من قانت).

قلت: والآية تشير إلى قيامِ الليل وما فيهِ من طول السجود والصبر على القيام، وفيها استحبابُ ذلكَ وأنه من صفات المؤمنين، كما قال جل ثناؤه في سورة السجدة:{تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (16) فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة: 16 - 17].

قال مجاهد: ({تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ} يعني بذلكَ قيام الليل). وقال أنس: (هو انتظار صلاة العتمة). وقال قتادة: (هو الصلاةُ بين العشاءين).

وقال عبد اللَّه بن رواحة:

وفينا رسول اللَّه يتلو كتابه

إذا انشقَ معروف من الصبح ساطع

أرانا الهدى بعد العمى فقلوبنا

به موقناتٌ أن ما قال واقع

يبيت يجافي جنبهُ عن فراشهِ

إذا استثقلت بالمشركين المضاجعُ

فوصف سبحانهُ المؤمنين أنهم أهل قيامٍ بالليل ودعاء، أهل رقة وحزن ورجاء، يبثون إلى اللَّه العظيم ما أهمّهم وأغمّهم، وقد وعد هو سبحانه أن يرفع بذلكَ مُصابَهم ويكشف ضيقهم. فقال جل ثناؤه في سورة الفرقان:{وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا} [الفرقان: 64]. وقال في سورة الإسراء: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} [الإسراء: 79]. وقال في سورة الذاريات: {كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ (17) وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الذاريات: 17 - 18]. وقال في سورة غافر: {وَقَالَ

ص: 600

رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر: 60].

ولقد كانَ لقيام الليل أثرٌ عظيم في صقل قلوب صحابة النبي صلى الله عليه وسلم وتهذيب نفوسهم وتواضعهم بين بعضهم، لذلكَ كان من أولِ وصايا النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه في دار الهجرةِ. فقد أخرج الترمذي عن عبد اللَّه بن سلام قال:[أول ما قدم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم المدينة انجفل الناس إليهِ فكنت ممن جاءه، فلما تأمَّلتُ وجهه واسْتَبَنْتُه عرفت أن وجهه ليس بوجه كذاب. فكان أول ما سمعت من كلامه أن قال: أيها الناس: أفشو السلام، وأطعموا الطعام، وصلوا الأرحام، وصلوا بالليل والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام](1).

وكذلكَ أخرج الترمذي بإسناد صحيح عن بلال عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [عليكم بقيامِ الليل، فإنه دأب الصالحين قبلكم، وقربة إلى اللَّه تعالى، ومنهاة عن الإثم، وتكفير للسيئات](2).

وفي صحيح الحاكم عن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: [جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد! عِشْ ما شئتَ فإنك ميتٌ، واعمل ما شئتَ فإنك مجزي به، وأحبب من شئتَ فإنكَ مفارقهُ، واعلم أن شرف المؤمن قيامُ الليل، وعزَّهُ استغناؤهُ عن الناس](3).

وقوله: {يَحْذَرُ الْآخِرَةَ} . قال ابن عباس: (يحذر عقاب الآخرة {وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ} يقول: ويرجو أن يرحمه اللَّه فيدخله الجنة).

وقال سعيد بن جبير: ({يَحْذَرُ الْآخِرَةَ}: أي عذاب الآخرة). ورُوي عن الحسن: (أنه سئل عن رجل يتمادى في المعاصي ويرجو! فقال: هذا متمنّ).

قلت: وذلكَ التمادي هو الغرور المذكور في قوله سبحانه في سورة فاطر: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} [فاطر: 5]. قال سعيد ابن جبير: (غرور الحياة الدنيا أن يشتغل الإنسانُ بنعيمها ولذاتها عن عمل الآخرةِ حتى يقول: يا ليتني قدمتُ لحياتي. قال: {وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} الغرور باللَّه أن يكونَ

(1) حديث صحيح. رواه الترمذي وابن ماجة والحاكم. انظر: صحيح الترغيب (1/ 616).

(2)

حديث صحيح. انظر سنن الترمذي (3549). و"مشكاة المصابيح"(1227).

(3)

حديث حسن. أخرجه الحاكم (4/ 324 - 325)، والطبراني في "الأوسط"(1/ 61/ 21)، وأبو نعيم في "الحلية" (3/ 253). وانظر: السلسلة الصحيحة (831).

ص: 601

الإنسان يعمل بالمعاصي ثم يتمنى على اللَّه المغفرة). وكل ذلكَ من الشيطان فهو في التفسير الآخر عن ابن عباس: (الغرور: الشيطان).

لقد أفرز قيام الليل رجالًا حول النبي صلى الله عليه وسلم رقت قلوبهم للَّه وأخبتوا له، فأورثهم بذلكَ سبحانهُ قوة أُضيفَتْ إلى قوةِ سلاحهم، فحملوا بها على أكبر معاقل الكفرِ في الأرضِ فدكوها، دكوا معقلي فارس والروم، ثم تراهم بعد ذلك مشفقين متذللين يخافون عذاب الآخرةِ ويأملونَ عند الموت بمغفرة اللَّه وعفوهِ وكرمه.

فقد أخرج الترمذي بسند حسن عن أنس: [أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على شاب وهو بالموت فقال: كيف تجدكَ؟ قال: واللَّهِ يا رسول اللَّه إني أرجو اللَّه وإني أخاف ذنوبي. فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: لا يجتمعانِ في قلب عبد في مثل هذا الموطن إلا أعطاهُ اللَّه ما يرجو وأَمَّنَهُ مما يخاف](1).

قال النسفي في تفسيره: (ودلت الآيةُ على أن المؤمن يجب أن يكونَ بين الخوف والرجاء، يرجو رحمته لا عملهُ، ويحذرُ عقابهُ لتقصيرهِ في عمله، ثمَ الرجاء إذا جاوز حدّه يكونُ أمنًا، والخوفُ إذا جاوزَ حدّه يكونُ إياسًا، وقد قال اللَّهُ تعالى: {فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف: 99]، وقال: {إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} [يوسف: 87]، فيجب ألا يجاوز أحدهما حده).

وقوله: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} . فصرف العلم الحقيقي إلى العلمِ الذي يؤصل الحذر من الآخرةِ ويرسخ الرجاء لرحمته سبحانهُ، فأولئكَ الذين وصفهم بالعلم كما قال جل ثناؤهُ في سورة فاطر:{إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28]. وعن قتادة: (كان يقال كفى بالرَّهبةِ علمًا). وقال مجاهد: (إن العالم من خشي اللَّه عز وجل. وقال وهب بن مالك: (إن العلم ليس بكثرة الرواية وإنما العلم نور يجعله اللَّه في القلب).

وقد خرّج النسائي في كتاب العلم عن مسروق: (بحسب المرء من العلم أن يخشى اللَّه، وبحسبه جهلًا أن يعجب بعلمه).

قلت: وكم فُتِنَ الناس اليوم بكلمة العلم، وكم تخبطوا في إطلاقِ كلمة العالم وعلى من تُطلق، وصارَ عندهم العالم هو كل من حمل الشهادات العالية والتخصصات

(1) حديث حسن. أخرجه الترمذي وسنده حسن، وابن ماجة، وعبد اللَّه بن أحمد في "زوائد الزهد"(ص 24/ 25)، وابن أبي الدنيا كما في "الترغيب"(4/ 141).

ص: 602

الدقيقةِ سواء في الطب أو الهندسةِ أو الكيماء أو الفيزياء أو الرياضيات أو الجيولوجيا وغير ذلكَ ونسوا أن خشية اللَّه هي شرط لازم لإطلاق هذه الكلمة. فكم من عالمٍ في نظر الناس أسهم في حرق المدن وتدميرها وقتل الناس وتشريدهم، وكم من عالم في نظر كثير من الناس كان سببًا في فِتَنٍ كثيرة وآلام مستطيرةٍ وأمراضٍ انتقلت عبر الأجيال، وكم من طبيب مجرم في حق الناسِ يعيش لرغباتهِ وليرتفع على أكتاف الناسِ ولو بالغش والخداع، وقد رأيت أيام التخصص في أمريكا أساتذة جامعات ضبطُوا -في ولاية آركنساس- وهم يفتعلون الفاحشة فيما بينهم جانب إحدى البحيرات، وشوهد عالم الفيزياء الهندي في مكتبهِ -في جامعة ولاية أوكلاهوما- وقد ضرب رأسه بالرصاص وسقط صريعًا، كما شوهد أحد الدكاترة يُتاجر بالعلم ويخدعُ بعض طالباتهِ بوضع العلامات العالية مقابل أن يزني بهن، إلى غير ما هنالك من الحوادث التي تشير إلى أنّ استخدام كلمة (العالم) اليوم أصبحَ يحتاج إلى تحقيق وتمحيص. وإنما الإسلام وحده الذي عرّف العالم فقال سبحانه:{إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28]. وقال هنا في سورة الزمر: {يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} . فكان العالمُ في نظر الإسلام في أي مجال أو مهنة هو ذاكَ الذي ارتبط علمهُ بخشية اللَّه، فبين العلم وبين الخوف من اللَّه صلة من النسب لا تنفك ولا تنفصلُ عنه.

ولقد أعجبني ما ذكره القاسمي رحمه الله في تفسيره عن القاشانيّ حيث قال: (وإنما كان المطيع هو العالم، لأن العلم هو الذي رسخَ في القلبِ وتأصّل بعروقه في النفس، بحيث لا يمكن صاحبه مخالفته، بل سيط باللحم والدم، فظهر أثره في الأعضاء، لا ينفك شيء منها عن مقتضاهُ، وأما المرتسم في حيز التخيل، بحيث يمكن ذهول النفس عنهُ وعن مقتضاهُ فليس بعلم).

وما ذكره النسفي عند هذه الآية نظير ما قبله حيث قال: ({هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} أي يعلمون ويعملون به، كأنه جعل من لا يعمل غير عالم، وفيه ازدراء عظيم بالذين يَقْتَنُون العلوم ثم لا يَقنُتون، وَيَفْتَنّون فيها ثم يفتنون بالدنيا، فهم عند اللَّه جهلة حيث جعل القانتين هم العلماء. أو أريد به التشبيه أي كما لا يستوي العالم والجاهل كذلكَ لا يستوي المطيع والعاصي).

وقوله: {إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} . أي: إنما يعتبر ويعي حجج اللَّه وآفاق كلامهِ أهل العقول والحجا فيتعظون ويتدبرون ويعملون لا أهل الجهل والتخبط والعجب بالرأي أو الفلسفة والكلام. فأولو الألباب هم أصحابُ العقول من المؤمنين الذين

ص: 603

خلصت عقولهم عن قشر التخيل والوهم ورسخت بالعلمِ واليقينِ والخوف من اللَّه.

وقوله تعالى: {قُلْ يَاعِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} .

أي: قل يا محمد لمن تبعك من المؤمنين اثبتوا على الحق والتقوى وتعظيم اللَّه وحده، فمن أحسن بالطاعةِ أحسنَ اللَّه إليهِ في الدنيا وبالثواب والنعيم والجنةِ يوم القيامةِ. ثم إنهُ لا عذر لأحدٍ بالنفاق أو الكفر فأرضُ اللَّهِ واسعةٌ فهَاجروا فيها إلى حيثُ تأمنونَ فيه على دينكم وتنعمون فيه بطاعة ربكم، فإنما جزاء هذا الاغتراب في الدنيا من أجل الحق سبحانه وُفُور الأجر في الآخرةِ والنجاة من هول الحساب في عرصات القيامة.

فعن السُّدي: ({لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ} قال: العافية والصحة). وهذا على من حمل الحسنة على الدنيا. قال القرطبي: (يعني بالحسنة الأولى الطاعة وبالثانية الثواب في الجنة). وهذا على من حمل الحسنة الثانية على نعيم الآخرة.

قلت: والآية تشمل المعنيين معًا فقد وعد اللَّه المؤمنين حياة طيبة في الدنيا وأطيب منها في الآخرة، فقال جل ثناؤه في سورة النحل:{مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} . وقال في سورة الأنفال: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} . فتفضل اللَّه سبحانه على المؤمنين بحياة طيبة في الدنيا فيها الصحة والعافية والظفر والغنيمة والثناء الحسن، وبحياة أطيب في الآخرة فيها ما لذّ وطاب من الطعام والشراب والنساء والزينة والسرور وألوان الرضوان والنعيم، لتكون نورًا على نور وزيادة في البهجة والسرور، فإن أعطى اللَّه الكافر بعض الخير في الدنيا فإن المؤمن قد امتاز عليه في الدنيا والآخرة، وإن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون.

خرّج الإمام مسلم في صحيحه عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: [إن اللَّه لا يظلم مؤمنًا حسنته، يثاب عليها الرزق في الدنيا ويجزى بها في الآخرة، وأما الكافر فيطعم بحسنات ما عمل بها للَّه في الدنيا، حتى إذا أفضى إلى الآخرة لم يكن له حسنة يجزى بها](1).

وقوله: {وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ} يعني: أنه لا يرضى سبحانه من أحد أن يشرك به أو ينافق

(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم في الصحيح (2808) ح (56)(57)، كتاب صفات المنافقين.

ص: 604

فيفسد قلبه ودينه، وإنما جعل اللَّه مع الضيق فرجًا، ومع الظلم مخرجًا، ومع الإحاطة والقيد متسعًا، فليهاجر في الأرض المؤمنون إلى حيث تعلو كلمة الحق ويأمنون على دينهم ولا يشركون باللَّه ربهم. كما قال جل ثناؤه في سورة النساء:{إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (97) إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا (98) فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا (99) وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} . وكما قال جل ثناؤه في سورة العنكبوت: {يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ (56) كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} .

فاللَّه سبحانه يغار، ولا يحب أن يرى عباده في ذل وهوان، وذبذبة ونفاق للطغيان، بل يحبهم مترفعين بكبرياء الإيمان، ومتعززين بطاعة اللَّه والخشية له والإحسان، فإذا لم يأمنوا على دينهم في مكان فليتحولوا وليهاجروا من مكان إلى مكان.

فقد أخرج الإمام مسلم في صحيحه عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[إن اللَّه تعالى يرضى لكم ثلاثًا، ويكرهُ لكم ثلاثًا، فيرضى لكم أنْ تعبدوه ولا تشرِكوا به شيئًا، وأن تعتصموا بحبل اللَّه جميعًا ولا تفرقوا، وأن تناصحوا مَنْ ولاه اللَّه أمركم، ويكره لكم قيل وقال، وكثرةَ السؤال، وإضاعة المال](1).

وفي الصحيحين والمسند عن أبي هريرة قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: [إن اللَّه تعالى يغارُ، وإنّ المؤمن يغار، وغيرة اللَّه أن يأتيَ المؤمن ما حرّمَ اللَّه عليه](2).

وفي الصحيحين عن أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[إن اللَّه تعالى يقول لأهون أهلِ النار عذابًا: لو أنّ لك ما في الأرض من شيء كنتَ تفتدي به؟ قال: نعم، قال: فقد سألتك ما هُوَ أهونُ من هذا وأنت في صُلبِ آدم أن لا تشرك بي شيئًا فأبيتَ إلا الشرك](3).

فالمعنى الأول: المراد بالأرض سعة البلاد والأقطار والأمصار في الدنيا، وهو موافق للسياق، وبه قال ابن جرير وابن كثير والقرطبي وجمهور من المفسرين.

(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم (1715)، كتاب الأقضية. ح (10)، ح (11).

(2)

حديث صحيح. أخرجه البخاري (3223) - كتاب النكاح، ورواه أحمد ومسلم وغيرهم.

(3)

حديث صحيح. أخرجه البخاري (3334) - كتاب أحاديث الأنبياء، ورواه مسلم.

ص: 605

قال مجاهد: (فهاجروا فيها وجاهدوا واعتزلوا الأوثان والمعاصي واهربوا منها مهاجرين إلى أرض الإسلام والطاعة). وقال ابن جرير: (وأرض اللَّه فسيحة واسعة، فهاجروا من أرض الشرك إلى دار الإسلام).

وقال القرطبي: (فهاجروا فيها ولا تقيموا مع من يعمل بالمعاصي). وأفاد القاسمي فقال: ({وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ} أي بلاده كثيرة. فمن تعسر عليه التوفر على الإحسان في وطنه، فليهاجر إلى حيث يتمكن منه. ثم نقل عن الشهاب قوله: لأن الدنيا مزرعة الآخرة، فينبغي أن يلقى في حرثها بذر المثوبات. وعقب بهذه الجملة لئلا يعتذر عن التفريط بعدم مساعدة المكان، ويتعلل بعدم مفارقة الأوطان، فكانَ حثًّا على اغتنام فرصة الأعمار وترك ما يعودتى من حبّ الديار، والهجرة فيما اتسع من الأقطار). وذكر النسفي هذا المعنى فقال: (أي لا عذر للمفرطين في الإحسان البتة، وحتى إن اعتلوا بأنهم لا يتمكنون في أوطانهم من التوفر على الإحسان قيل لهم: فإن أرض اللَّه واسعة وبلاده كثيرة، فَتَحَوَّلُوا إلى بلاد أخر. واقتدوا بالأنبياء والصالحين في مهاجرتهم إلى غير بلادهم ليزدادوا إحسانًا إلى إحسانهم وطاعة إلى طاعتهم).

والمعنى الثاني: قيل المراد أرض الجنة رغبهم في سعتها وسعة نعيمها، واحتجوا بقوله:{وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ} [آل عمران: 133]، فإن الجنة قد تسمى أرضًا. وبقوله:{وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ} .

والمعنى الثالث: قيل المراد بسعة الأرض سعة الرزق. قال القرطبي: (فتكون الآية دليلًا على الانتقال من الأرض الغالية إلى الأرض الراخية، كما قال سفيان الثوري: كن في موضع تملأ فيه جرابك خبزًا بدرهم).

قلت: والمعنى الأول أظهر وأشهر، وهو مناسب لسياق الآية في الحث على الطاعة وعدم الخنوع والمهانة، والاعتزاز بدين اللَّه الحق سبحانه، واللَّه تعالى أعلم.

وقوله: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} . أي: إنما يستقبل اللَّه المؤمنين الصابرين على إقامة أمره في الأرض، والباذلين للمال والنفس في سبيله، والمجاهدين لأعدائه بالحديد وأسباب القوة من أجل نصرة دينه، والمسترخصين للدماء وإن غلت عليهم من أجل تحكيم منهاجه وشرعه، والمهاجرين المغتربين من أجل توحيده وعدم الشرك به، والمتصبِّرين على مصائب الدنيا وامتحانات اللَّه سبحانه،

ص: 606

فكل هؤلاء يستقبلهم سبحانه بالرضوان، ويبادلهم الصبر والإحسان بالإحسان، ويورثهم بغير حساب ولا مطالبة ولا معاتبة الجنان.

وعن مالك بن أنس: (قوله: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} قال: هو الصبر على فجائع الدنيا وأحزانها).

وقال قتادة فيها: (لا واللَّه ما هناكُم مِكيال ولا ميزان). وقال السدي: ({إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} قال: في الجنة). أي يُغرف لهم من النعيم وألوان الملذات بلا تقدير ولا مكيال، كما قال ابن كثير:(أي ليس يوزن لهم إنما يغرف لهم غرفًا). وهناك من صرف الصبر والصابرين إلى الصيام والصائمين، ذكره القرطبي واختاره بقوله:(و {الصَّابِرُونَ}: هنا الصائمون، دليله قوله عليه الصلاة والسلام مخبرًا عن اللَّه عز وجل: "الصوم لي وأنا أجزي به". قال أهل العلم: كل أجر يكال كيلًا ويوزن وزنًا إلا الصوم فإنه يُحْثَا حَثْوًا ويُغْرفُ غرفًا).

قلت: والآية أعمّ من ذلك فتشمل الصبر ابتغاء وجه اللَّه بكل ألوانه: كما جل ثناؤه في سورة هود: {إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} . وكما قال سبحانه في سورة آل عمران: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} . . . إلى أن قال: {أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} . وكما قال جل وعز في سورة فصلت: {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} . وكما قال عز وجل في سورة الشورى: {وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} . وكما قال سبحانه في سورة العصر: {وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} .

وقد خرّج الإمام البخاري في صحيحه والإمام أحمد في مسنده، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: [إن في الجنة مئةَ درجة أعدها اللَّه للمجاهدين في سبيل اللَّه، ما بينَ الدرجتين كما بين السماء والأرض، فإذا سألتم اللَّه فسلوه الفردوسَ، فإنه أوسط الجنة وأعلى الجنة، وفوقهُ عرش الرحمان، ومنه تفجَّرُ أنهارُ الجنة](1).

وكذلك أخرجا في الصحيحين عن سهل بن سعد، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [إن في الجنة

(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (2790)، وابن حبان (1748)، والبيهقي (9/ 15).

ص: 607

بابًا يقالُ له الريانُ، يدخُلُ منه الصائمون يومَ القيامة، لا يدخل منه أحدٌ غيرهمْ، يقالُ: أين الصائمون؟ فيقومون، فيدخلون منه، فإذا دخلوا، أُغْلِقَ، فلم يدخلْ منه أحد] (1).

وفي صححيح الحاكم -وعند البيهقي في شعب الإيمان- بسند صحيح عن عبد اللَّه بن عمرو- عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [أتعلم! أَوَّلَ زمرة تدخل الجنة من أمتي؟ فقراء المهاجرين، يأتون يومَ القيامة إلى بابِ الجنة ويستفتحون فيقول لهم الخزنة: أوقد حوسبتم؟ قالوا بأيّ شيء نحاسبُ، وإنما كانت أسيافنا على عواتقنا في سبيل اللَّه حتى متنا على ذلك؟ فيفتحُ لهم، فيقيلون فيها أربعين عامًا، قبل أن يدخلها الناس](2).

وفي جامع الترمذي ومعجم الطبراني بسند حسن واللفظ للترمذي عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [ليودَّنَ أهل العافية يوم القيامة، أنّ جلودهم قرضت بالمقاريض، مما يرون من ثواب أهل البلاء](3).

وفي مسند الإمام أحمد عن أم سلمة عن أبي سلمة رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [ما من مسلم تصيبُه مصيبة فيقول ما أمره اللَّهُ: {إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} اللهم آجرني في مصيبتي، واخلفْ لي خيرًا منها، إلا آجرهُ اللَّه في مصيبتهِ، وأخلف اللَّه له خيرًا منها](4).

قلت: ونحن اليوم في زمن غربة الحق، غربة المنهج وغربة الإيمان، وقد زحفت الفتن واشتدت على أمة الإسلام، فصار الصبر من أقوى العدة في مواجهة الباطل والطغيان، وكم رأينا في ترك الصبر والانحراف عن المنهج من هرج وسفك للدماء الحرام، وإضاعة للوقت والمال والأنفس وزعزعة للبنيان.

11 -

21. قوله تعالى: {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (11) وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ (12) قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (13) قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي (14) فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا

(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري في الصحيح (1896)، ومسلم (1152) عن سهل بن سعد.

(2)

حديث صحيح. أخرجه الحاكم (2/ 70)، وانظر سلسلة الأحاديث الصحيحة (833).

(3)

حديث حسن. رواه الترمذي في الجامع (2404)، والطبراني في "الكبير"(3/ 178/ 2).

(4)

حديث صحيح. رواه أحمد (6/ 309)، ومسلم (3/ 37)، والبيهقي (4/ 63)، وغيرهم.

ص: 608

ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (15) لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَاعِبَادِ فَاتَّقُونِ (16) وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ (17) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ (18) أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ (19) لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ (20) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (21)}

في هذه الآيات: يخاطب اللَّه سبحانه نبيّه عليه الصلاة والسلام أن قل لقومك يا محمد! إن اللَّه أمرني أن أفْردَ له العبادة والتعظيم دونَ كل ما تدعون من دونه من الآلهة والأوثان. وأمرني بذلك أن أكون بهذا الامتثال أول من أسلم وأخبت وسارع بالخيرات، وبادر إلى التوحيد والإيمان والطاعات، فإني أخاف إن قصرت أو انسحبت وركنت إلى الدنيا ومعاصيها أهوال يوم القيامة وما فيه من الندامة والحسرات، فهو الرحمان إليه أخلص في الأعمال الصالحات، فاختاروا أنتم لمستقبلكم ما شئتم من دونه تصرفون له القربات، فإن من خَسِرَ نفسه وأهله يوم القيامة فقد ازدحمت عليه الآلام والحسرات، فإن لهيب النار يعلوهم من فوقهم كما يستفزهم من تحتهم فتنبهوا وخافوا اللَّه قبل أن تعاينوا ذلك المصير وتلك المصائب والنازلات، فمن كفر بالطاغوت وآمن باللَّه واليوم الآخر والرسل والكتب والقدر والملائكة وصدّق بمحمد الذي ختم اللَّه به الرسالات، واتبع منهاجه ودعا إلى هديه وسيرته أحسن السير وأصدق الدعوات، فهنيئًا له فقد هداه اللَّه وحماه من سبل الشياطين وطرق الضلالات، لكن من علم اللَّه منه حبّ الكبر والعناد فقد كتب عليه مستقبل أهل الشقاء والغوايات، عدلًا منه سبحانه وحكمة وعلمًا، في حين اختار جل وعزَّ للمؤمنين المتقين أجمل الغرف في الجنات، فقد بناها لهم في أروع صورة تجري من تحتها الأنهار والينابيع والبحيرات، أوليس الذي أنزل من السماء الماء فخزّنه في باطن الأرض فجعله عيونًا وينابيع وأنهارًا، يخرج به زرعًا مختلفًا ألوانه وأُكُله، ثم ييبس من بعد خضرته ثم يتفتت متكسرًا، ثم يعود مرة أخرى في دورة ثانية من تلك الدورات، بقادرٍ على أن يبعث عباده من قبورهم بعدما أماتهم وصاروا في باطن الأرض كالذرات المبعثرات،

ص: 609

فيحاسبهم على ما اجترحوا من الموبقات والكبائر والمعاصي والسيئات، بلى فإن أهل البصائر والعقول يؤمنون ويوقنون بهذه المغيبات. فإلى تفصيل ذلك.

قوله تعالى: {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ} . أي فلا ألتفت إلى غيره، ولا أرجو فرجًا إلا من عنده، ولا أصرف طاعة إلا إليه. كما أخرج النسائي بإسناد جيد عن أبي أمامة قال:[جاء رجل إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فقال: أرأيت رجلًا غزا يلتمسُ الأجرَ والذكر مالَهُ؟ فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: (لا شيء له)، فأعادها ثلاث مِرار، ويقول رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: (لا شيء له). ثم قال: إن اللَّه عز وجل لا يَقبلُ من العمل إلا ما كان له خالصًا وابْتُغِيَ به وجهُه](1).

وفي معجم الطبراني بإسناد صحيح عن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [الدنيا ملعونة، ملعونٌ ما فيها إلا ما ابتغي به وجهُ اللَّه](2).

والآية أصل فر أن الإخلاص شق العمل الصالح، كما قال جل ثناؤه في سورة البينة:{وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} ، وكما قال في سورة الكهف:{فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} . فإن كون العمل صالحًا موافقًا للوحي هو الشق الثاني لحصول القبول.

وقوله: {وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ} . أي من هذه الأمة. قال القرطبي: (وكذلك كان، فإنه أول من خالف دين آبائه وخلع الأصنام وحطمها، وأسلم للَّه وآمن به، ودعا إليه صلى الله عليه وسلم). أي لأكون في مقدمة المخبتين المسلمين في الدنيا والآخرة، وكون قدوة المسارعين إلى الخيرات، وإمام المتقين الراجين للرحمات والمبرّات.

قلت: وهو كذلك في الدنيا والآخرة، فقد خرّج الإمام مسلم في صحيحه عن أنس قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: [أنا أكثر الأنبياء تبعًا يومَ القيامة، وأنا أول من يقرعُ بابَ الجنة](3).

(1) حديث حسن. رواه النسائي في "الجهاد"(2/ 59). وانظر: "الصحيحة"(52).

(2)

حديث صحيح في الشواهد. انظر معجم الطبراني "الأوسط"(4248)، و"شعب الإيمان" -للبيهقي- (7/ 342)، وسلسلة الأحاديث الصحيحة (2797)، وصحيح الترغيب (1/ 9).

(3)

حديث صحيح. أخرجه مسلم في الصحيح (196) ح (331) - كتاب الإيمان.

ص: 610

وكذلك خرّج الإمام مسلم عن أنس قوله عليه الصلاة والسلام: [أنا أول الناس يشفع في الجنة، وأنا أكثر الأنبياء تبعًا](1).

وفي لفظ آخر: [أنا أول شفيع في الجنة، لمْ يصدقْ نبيٌّ من الأنبياء ما صدقتُ، وإنّ منَ الأنبياء نبيًا ما يصدقه من أمته إلا رجل واحد].

وله شاهد فيِ مسند الإمام أحمد وجامع الترمذي بسند صحيح عن أنس ولفظه: [أنا أوَّلُ مَنْ يأخُذُ بِحَلقَةِ باب الجنة أقعقِعُها](2). أي أحركها.

فقد أمره اللَّه بهذا السبق لتظهر علائم نبوته وملامح قيادته ومعالم صدارته، وليتألق بإخلاصِه الذي لا يشبهه إخلاص في الأمة فهو أتم وأكمل في الشرف والرتبة. ثم إنه كان أول من أسلم للَّه في زمانه. فجمعت الآية معنيين: الأول: وهو السبق الزماني، والثاني: هو السبق النوعي. فصلوات اللَّه وسلامه عليه.

وأما اللام في قوله {لِأَنْ} فلها وجهان:

الوجه الأول: أنها زائدة كما قال الجرجاني وغيره. كقوله في سورة الأنعام: {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} .

والوجه الثاني: أنها لام أجل والتقدير (لأجل أن أكون أولَ المسلمين). وكأن محذوفًا في الآية تقديره: (قل إني أمرت بالعبادة والطاعة والمسارعة في الخيرات من أجل أن أكون أول المسلمين). واللَّه تعالى أعلم.

وقوله تعالى: {قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} . قيل: قالها لقومه حين دعوه للتمسك بدين الآباء والأجداد.

قال النسفي: (وذلك أن كفار قريش قالوا له عليه السلام: ألا تنظر إلى أبيك وجدك وسادات قومك يعبدون اللات والعزى فنزلت ردًّا عليهم).

قلت: والتوجيه في الآية هو للأمة من بعده، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لن يَعْصِيَ اللَّه ولن يشرك به فقد أعانه اللَّه على الحق وعصمه من الفتن، فيكون الخطاب للأمة من باب أولى كي تخاف عذاب اللَّه يوم القيامة وتجتنب ما يسخطه سبحانه. كما قال جل ثناؤه: {لَيْسَ

(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم في الصحيح (196) ح (330) - كتاب الإيمان.

(2)

حديث صحيح. أخرجه الترمذي في التفسير. سورة بني إسرائيل. انظر صحيح سنن الترمذي (2516)، ورواه أحمد، وابن ماجة (4308) بنحوه.

ص: 611

بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ}.

وفي صحيح مسلم عن عقبة بن عامر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[إني فرطكم على الحوض، وإنّ عرضَهُ كما بين أيلةَ إلى الجُحفة، إني لستُ أخشى عليكم أن تشركوا بعدي، ولكن أخشى عليكم الدنيا، أن تنافسوا فيها وتقتتلوا، فتهلكوا كما هلك مَنْ كان قبلكم](1). قال ابن كثير: {إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ} وأنا رسول اللَّه، وهذا شرط ومعناه التعريض بغيره بطريق الأولى والأحرى).

وقوله تعالى: {قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي (14) فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ} . فلفظ الجلالة في محل نصب والتقدير: (أعبد اللَّه مخلصًا) و {مُخْلِصًا} حال، أي أعبده سبحانه مُفردًا له الإخلاص في الطاعة والعبادة. وفيه ذمُّ الرياء مرة أخرى وتعليم للأمة دقائق التقوى، كما قال جل ثناؤه في سورة الحج:{لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ} .

وفي معجم الطبراني بإسناد جيد: [أن عمرَ رضي الله عنه قال لمعاذ بن جبل حين رآه يبكي: ما يبكيك؟ قال: حديث سمعته من صاحب هذا القبر يعني النبي صلى الله عليه وسلم: إن أدنى الرياء شرك].

وفي مسند الإمام أحمد وسنن البيهقي عن محمود بن لبيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [إن أخوفَ ما أخافُ عليكم الشركُ الأصغرُ. قالوا: وما الشرك الأصغر يا رسول اللَّه؟ قال: الرياء، يقول اللَّه عز وجل يوم القيامة إذا جازى العباد بأعمالهم: اذهبوا إلى الذين كنتم تراؤون في الدنيا، هل تجدون عندهم الجزاء](2). وفي رواية: (فانظروا هل تجدون عندهم جزاء).

وقوله: {فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ} . أي اختاروا لأنفسكم المستقبل الذي تشاؤون، فإن مستقبل اتباعي والإيمان بهذا القرآن هو سعادة الآخرة وحسن الختام، وإن مستقبل الإعراض والعناد والكبر شقاوة الآخرة، فهو أمر تهديد ووعيد كما قال جل ثناؤه {قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلًا} الإسراء.

وكقوله جل وعز في سورة الأنعام: {وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (66)

(1) حديث صحيح. رواه مسلم (2296) ح (31) - كتاب الفضائل - باب إثبات حوض نبينا صلى الله عليه وسلم وصفاته.

(2)

حديث صحيح. أخرجه أحمد (5/ 428)، (5/ 429)، والبغوي في "شرح السنة"(4/ 201/ 1) ورواه البيهقي، والطبراني في "المعجم الكبير" (1/ 217/ 1). وانظر: السلسلة الصحيحة (951).

ص: 612

لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ}. وكقوله في سورة الزمر: {قُلْ يَاقَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (39) مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ} . وكقوله في سورة فصلت: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} .

أخرج ابن جرير في "التفسير" بسند جيد، عن جابر رضي الله عنه قال: خرج علينا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يومًا فقال: [إني رأيت في المنام كان جبريلَ عند رأسي، وميكائيلَ عند رجليَّ، يقول أحدهما لصاحبه: اضرب لهُ مثلًا، فقال: اسمع سمعت أذنُكَ، واعقِل عقلَ قلبُكَ، إنما مثلكَ ومثلُ أمتك كمثل ملك اتخذ دارًا، ثم بنى فيها بيتًا، ثم جعل فيها مائدة، ثم بعث رسولًا يدعو الناس إلى طعامه، فمنهم من أجاب الرسولَ، ومنهم من تركه، فاللَّه هو الملكُ، والدار الإسلام، والبيت الجنة، وأنت يا محمد رسول، من أجابك دخل الإسلام، ومن دخل الإسلام دخل الجنة، ومن دخل الجنة أكل ما فيها](1).

وقوله: {قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} .

قال ابن عباس: (هم الكفار الذين خلقهم اللَّه للنار وخلق النار لهم، فزالت عنهم الدنيا وحرّمت عليهم الجنة، قال اللَّه: {خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ}).

وكذلك قال ابن زيد: (هؤلاء أهل النار خسروا أنفسهم في الدنيا، وخسروا الأهلين فلم يجدوا في النار أهلًا، وقد كان لهم في الدنيا أهل).

وعن مجاهد: (غبنوا أنفسهم وأهليهم قال: يخسرون أهليهم فلا يكون لهم أهل يرجعون إليهم ويخسرون أنفسهم فيهلكون في النار فيموتون وهم أحياء فيخسرونهما).

وفي الأثر عن ميمون بن مِهْران فيما يرويه عن ابن عباس قوله: (ليس من أحد إلا وخلق اللَّه له زوجة في الجنة، فإذا دخل النار خسر نفسه وأهله. وفي رواية: فمن عمل بطاعة اللَّه كان له ذلك المنزل والأهل إلا ما كان له قبل ذلك، وهو قوله تعالى: {أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ}).

قلت: والآية هذه هي مقابل الآية التي في سورة الطور: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} . قال سعيد بن جبير: (إن اللَّه ليرفع ذرية المؤمن في درجته وإن كانوا دونه في العمل لِتَقَرَّ بهم عينه ثم

(1) حديث حسن. أخرجه الطبري في "التفسير"(17624). وانظر: صحيح الجامع (2461).

ص: 613

قرأ: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} ). قال ابن عباس: (هم ذرية المؤمن يموتون على الإيمان، فإن كانت منازل آبائهم أرفع من منازلهم ألحقوا بآبائهم ولم ينقصوا من أعمالهم التي عملوها شيئًا).

وفي المسند وسنن البيهقي عن أبي هريرة قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: [إن الرجل لترفع درجته في الجنة، فيقول: أنّى لي هذا؟ فيقال: باستغفار ولدك لك](1).

وهي تشبه الآية الأخرى التي في سورة الشورى: {وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقَالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُقِيمٍ} . فسواء ذهب أهلوهم إلى الجنة وهم إلى النار، أو اشتركوا في عذاب النار فذهبوا إليها جميعًا فلا لقاء ولا سرور ولا اجتماع، بل هي معاناة وتمزق وشقاء، نعوذ باللَّه من حال أهل الظلم والقسوة والجفاء.

وقوله: {أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} . قال ابن جرير: (هو الهلاك الذي يبين لمن عاينه وعلمه أنه الخسران).

وقوله تعالى: {لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَاعِبَادِ فَاتَّقُونِ} . فكنى سبحانه عما تحتهم مما يحيط بهم فسماه ظللًا، لأنها كالظل تُظِلُّهم من أسفل منهم من شدة كثافتها ولهيبها، كما تظلهم من فوقهم، ثم إن هذه الظلل كالأطباق من النار. قال النسفي:({وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ} قال: أطباق من النار وهي ظلل لآخرين، أي النار محيطة بهم).

قلت: والنار دركات ودرجات، كما قال سبحانه في سورة النساء:{إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} . فمن هو في الدركات السفلى تعلوه النيران كالظلل، فهي لمن فوقه ظلل من تحته، كما قال جل ثناؤه في سورة الأعراف:{لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} ، وكما قال سبحانه في سورة العنكبوت:{يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ (54) يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} .

وأخرج الإمام أحمد في المسند والترمذي في الجامع بسند حسن عن عبد اللَّه بن عمرو، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [يُحْشَرُ المتكبرون يومَ القيامة أمثالَ الذرِّ في صُوَرِ الرجال،

(1) حديث حسن. أخرجه أحمد (2/ 509)، وابن ماجة (3660)، وابن أبي شيبة في "المصنف"(12/ 44/ 1). ورواه البيهقي بإسناد حسن.

ص: 614

يغشاهم الذل من كل مكان، يُساقون إلى سجنٍ في جهنم يسمى بولس، تعلوهم نار الأنيار، يُسْقون من عُصارة أهل النار طينةِ الخبال] (1).

وقوله: {ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ} فيه ثلاثة أقوال:

القول الأول: المراد بالعباد: الأولياء، كما قال ابن عباس:({ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ} قال: أولياءَه).

القول الثاني: المراد بالعباد مؤمنهم وكافرهم. وهو الراجح في الآية كما قال الزمخشري: (وهذه عظة من اللَّه تعالى، ونصيحة بالغة).

القول الثالث: قيل بل هو خاص بالكفار. ذكره القرطبي.

قلت: فالكل محتاج إلى تخويف اللَّه له، والكل مفتقر إلى تقواه وخشيته، لذلك قال:{يَاعِبَادِ فَاتَّقُونِ} . أي فاتقون بتعظيمي وإجلالي، واتقون بأداء فرائضي واجتناب معاصيّ، حتى تنجو من عذابي وسخطي، وتسعدوا في دار المأوى والنعيم جنتي.

وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ} . في قوله {الطَّاغُوتَ} معان متقاربة:

المعنى الأول: الطاغوت: هو الشيطان. فعن مجاهد (قوله {وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ} قال: الشيطان). وقال ابن زيد: (الشيطان هو هاهنا واحد وهي جماعة). فهو على قوله واحد مؤنث لذا قيل أن يعبدوها. قال ابن جرير: وقيل إنما أنثت لأنها في معنى الجماعة.

المعنى الثاني: الطاغوت هي الأوثان. قال الضحاك: (الطاغوت: هو الأوثان).

المعنى الثالث: الطاغوت هو الكاهن. قيل هو اسم أعجمي مثل طالوت وجالوت وهاروت وماروت ومعناه الكاهن، ذكره القرطبي.

المعنى الرابع: الطاغوت اسم عربي مشتق من الطغيان. قال النسفي: (فعلوت من الطغيان كالملكوت والرحموت، إلا أن فيها قلبًا بتقديم اللام على العين).

قلت: والراجح لديَّ أن الطاغوت مشتق من الطغيان وهو مجاوزة الحد. وقد أُثِر عن عمر بن الخطاب قوله: (الطاغوت: الشيطان). وعن جابر قوله: (الطواغيت كهان كانت تنزل عليهم الشياطين). والأعمّ من هذا: أن الطاغوت هو كل ما عبد من دون اللَّه أو صرفت له العبادة، وكل من دعا إلى عبادة نفسه وتعظيمها، وكل من حكم بغير شرع

(1) حديث حسن. انظر صحيح سنن الترمذي -حديث رقم- (2025). ورواه أحمد.

ص: 615

اللَّه أو بهواه، وكل من ذُبحَ له أو ابتاع دينًا لم يأذن به اللَّه أو زاد أو انتقص من شرع اللَّه. وقد جاء هذا المعنى عن أئمة كرام: قال الإمام مالك: (الطاغوت: كل ما عبد من دون اللَّه).

وقال العلامة ابن القيم: (الطاغوت: كل ما تجاوز به العبد حدّه: من معبود أو متبوع، أو مطاع. فَطاغوت كل قوم: من يتحاكمون إليه غير اللَّه ورسوله، أو يعبدونه من دون اللَّه، أو يتبعونه على غير بصيرة من اللَّه، أو يطيعونه فيما لا يعلمون أنه طاعة للَّه، فهذه طواغيت العالم، إذا تأملتها وتأملت أحوال الناس معها رأيت أكثرهم أعرض عن عبادة اللَّه تعالى إلى عبادة الطاغوت، وعن طاعة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إلى طاعة الطاغوت ومتابعته).

ويؤيد هذا قوله تعالى في سورة النحل: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} .

واختاره ابن جرير بقوله: (أي اجتنبوا عبادة كل ما عُبِد من دون اللَّه من شيء).

وقوله: {وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ} . قال قتادة: (وأقبلوا إلى اللَّه). وقال السدي: (أجابوا إليه). وقال ابن جرير: (وتابوا إلى اللَّه ورجعوا إلى الإقرار بتوحيده والعمل بطاعته والبراءة مما سواه من الآلهة والأنداد).

وقوله: {لَهُمُ الْبُشْرَى} . أي: في الدنيا بالفرج والمخرج والنصر والغنيمة وفي الآخرة بالجنة والرضوان ونعيم الفردوس. كما قال جل ثناؤه في سورة آل عمران: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} .

وفي المسند للإمام أحمد عن أبَيّ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[بَشِّرْ هذه الأمّةَ بالسَّناء، والدين، والرِّفعة، والنصر والتمكين في الأرض، فمن عملَ مِنْهمْ عملَ الآخِرة للدنيا، لم يكن له في الآخرة من نصيب] وسنده صحيح (1).

وفي جامع الترمذي وسنن أبي داود بإسناد صحيح عن بريدة، عن النبي صلى الله عليه وسلم:[بشِّرِ المشّائين في الظُّلَمِ إلى المساجد بالنور التام يومَ القيامة](2).

(1) حديث صحيح. أخرجه أحمد وابنه في زوائد "المسند"(5/ 134)، وأخرجه ابن حبان في "صحيحه"(موارد)، والحاكم (4/ 311) وقال:"صحيح الإسناد"، ووافقه الذهبي، وأقره الألباني في "أحكام الجنائز" (52). وإنظر: صحيح الجامع (2822).

(2)

حديث صحيح. أخرجه أبو داود في السنن (561). انظر صحيح أبي داود (525). ورواه الترمذي.

ص: 616

وفي سنن النسائي عن سهل بن حنيف، عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال:[بشِّر الناس أنه من قال لا إله إلا اللَّهُ وحده لا شريك له، وجبت له الجنة] وسنده صحيح (1).

قلت فإذا نطق بها عند الاحتضار كانت من أكبر البشائر وأتمها.

وفي معجم الطبراني عن أبي الدرداء قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: [بُشرى الدنيا الرؤيا الصالحة](2).

فهذه البشائر جميعًا من نبيّ الأمة محمد صلى الله عليه وسلم تدخل في تفسير قوله جل ثناؤه: {لَهُمُ الْبُشْرَى} ، فنسأل اللَّه أن يمتعنا ببشائر الدنيا وبنعيم الآخرة إنه سميع قريب.

وقوله تعالى: {فَبَشِّرْ عِبَادِ} -يا محمد- {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ} . وفي قوله: {فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} أكثر من تأويل:

التأويل الأول: أي يتخيرون الحسن من القبيح. قال ابن عباس: (هو الرجل يسمع الحسن والقبيح فيتحدث بالحسن وينكف عن القبيح فلا يتحدث به).

التأويل الثاني: قيل أحسنه طاعة اللَّه. فعن قتادة قال: ({فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} وأحسنه طاعة اللَّه).

التأويل الثالث: قيل يتبعون المعالي من الأوامر ويتصدرون للأمور العظام. فعن السّدي قال: (أحسن ما يؤمرون به فيعملون به). قال ابن جرير: (الذين يستمعون القول من القائلين فيتبعون أرشده وأهداه وأدله على توحيد اللَّه والعمل بطاعته، ويتركون ما سوى ذلك من القول الذي لا يدل على رشاد ولا يهدي إلى سداد).

التأويل الرابع: قيل يستمعون القرآن وغيره فيتبعون القرآن. ذكره القرطبي.

التأويل الخامس: قيل: يستمعون القرآن وأقوال الرسول فيتبعون أحسنه أي محكمه فيعملون به. قال الشوكاني في فتح القدير: {لَهُمُ الْبُشْرَى} قال: بالثواب الجزيل وهو الجنة، وهذه البشرى إما على ألسنة الرسل، أو عند حضور الموت أو عند البعث

(1) رواه النسائي في "الكبرى". وذكره في "المجمع"(1/ 18) من رواية الطبراني في "الكبير" عن زيد بن خالد. انظر سلسلة الأحاديث الصحيحة (712).

(2)

حديث حسن. أخرجه الطبري في تفسيره (11/ 95)، وأحمد في مسنده (6/ 445)، والطبراني في "الكبير"، والطحاوي في "مشكل الآثار"(3/ 47).

ص: 617

{فَبَشِّرْ عِبَادِ (17) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} قال: والمعنى: يستمعون القول الحق من كتاب اللَّه وسنة رسوله فيتبعون أحسنه أي محكمه ويعملون به).

التأويل السادس: قيل يستمعون الرخص والعزائم فيتبعون العزائم ويتركون الرخص. قال القرطبي: (وقيل يستمعون عزمًا وترخيصًا فيأخذون بالعزم دون الترخيص).

التأويل السابع: قيل يستمعون العقوبة الواجبة لهم والعفو فيأخذون بالعفو. قال القاسمي: (أي إيثارًا للأفضل واهتمامًا بأكمل. قال: ويدخل تحته أيضًا إيثار الأفضل من كل نوعين، اعترضا. كالواجب مع الندب. والعفو مع القصاص. والإخفاء مع الإبداء في الصدقة، وهكذا).

التأويل الثامن: قيل المراد النقد في الدين لتختر ما هو أصوب وأصح وأكمل. قال الزمخشري: (أراد أن يكونوا نقادًا في الدين، يميزون بين الحسن والأحسن والفاضل والأفضل. ويدخل تحته المذاهب واختيار أثبتها على السبك وأقواها عند السبر، وأبينها دليلًا وأمارة. وأن لا تكون في مذهبك كما قال القائل:

ولا تكن مِثْلَ عَيْرٍ قِيدَ فانقادا

يريد المقلد) انتهى. قلت: وإنما البيت بأكمله يدل على المعنى فأصله:

شَمِّرْ وكن في أمور الدِّين مجتهدًا

ولا تكن مِثْلَ عَيْرٍ قيدَ فانْقادا

التأويل التاسع: قيل: إن أحسن القول على من جعل الآية فيمن وَحَّدَ اللَّه قبل الإسلام (لا إله إلا اللَّه). قال عبد الرحمن بن زيد: ({وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا. . .} الآيتين. حدثني أبي أن هاتين الآيتين نزلتا في ثلاثة نفر كانوا في الجاهلية يقولون: لا إله إلا اللَّه: زيد بن عمر، وأبي ذر الغفاري، وسلمان الفارسي، نزل فيهم {وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا} في جاهليتهم {وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ (17) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} لا إله إلا اللَّه، أولئك الذين هداهم اللَّه بغير كتاب ولا نبي {وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ} ) ذكره ابن جرير في التفسير. أي اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها في جاهليتهم واتبعوا أحسن ما صار من القول إليهم، فآمنوا بمحمد صلوات اللَّه وسلامه عليه يوم بُعثَ فيهم.

قلت: وكلها تأويلات يحتملها البيان الإلهي والإعجاز، وفيها الآثار الطيبة العطرة من أهل التفسير والعمل والعلم والاجتهاد والإنجاز، وما هي إلا اختلافات تنوع

ص: 618

لا تضاد، بل تدور كلها حول قول الفصل والسداد من أن الذين بنوا إيمانهم وصروح يقينهم ودينهم على ركام الباطل والطاغوت، فسمت نفوسهم بكبرياء الإيمان والاعتزاز باللَّه، فندموا على ما فرطوا في جاهليتهم وفي لحظات ضعفهم، فشمخوا بالمعالي وحدثتهم نفوسهم بالجهاد، فإذا جاءهم الأمر من اللَّه سارعوا إلى امتثاله وتسجيل أعلى الأرقام في إتياف وبلوغه، وإذا خُيّروا بين الأمور العظام رأيتهم يتسابقون إلى أشدّها وما فيها إرضاء للَّه أعلى وأكبر، وإغاظة لعدوه وعدوهم أكثر وأوفر، ولو خيّروا بين الرخص والعزائم حدثتهم نفوسهم باختيار العزائم ولكن حبّ اللَّه لرخصه أنزلهم عند ما أحبّه ربهم واختاره، وإذا سمعوا لغوًا أعرضوا عنه، وإذا كان نصيحة سارعوا إليها، وإذا كان أمرًا في الدين تخيروا أثبته وأقواه وأدقهُ صوابًا وصحة وثبوتًا، وإذا خيرّوا بين العفو والقصاص رأيتهم رحماء كرماء يحبون العفو ليعفو اللَّه عنهم كما وصفهم ربهم بقوله في سورة آل عمران:{وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} . وبقوله في سورة الشورى: {وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} . وهذه الصفات العالية لأصحاب وأتباع هذا النبي الكريم مبسوطة في القرآن والتوراة والإنجيل: فقد أخرج البخاري عن عطاء بن يسار قال: [لقيت عبد اللَّه بن عمرو بن العاص. قلت: أخبرني عن صفة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في التوراة، قال: أجل، واللَّه إنه لموصوف ببعض صفته في القرآن: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا}، وحِرْزًا للأميين، أنت عبدي ورسولي، سَمَّيْتُكَ المتوكل، ليس بفظ ولا غليظ ولا سخّاب في الأسواق، ولا يدفع بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويغفر، ولنْ يقْبِضَهُ اللَّه حتى يقيمَ به الملةَ العوجاء بأن يقولوا لا إله إلا اللَّه، ويفتح بها أعينًا عمْيًا، وآذانًا صمًا، وقلوبًا غُلْفًا](1).

وله شاهد عند الدارمي -وفي المشكاة- وهذا لفظ المصابيح: عن كعب يحكي عن التوراة قال: [نجد مكتوبًا محمدٌ رسول اللَّه عبدي المختار، لا فظّ ولا غليظ، ولا سخّاب في الأسواق، ولا يجزي بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويغفر، مولده بمكة، وهجرته بطيبة، وملكه بالشام، وأمته الحمادون، يحمدون اللَّه في السراء والضراء، يحمدون اللَّه في كل منزلة، ويكَبرونه على كل شرف، رعاةٌ للشمس، يصلون الصلاة إذا جاء وقتها، يتأزّرون على أنصافهم، ويتوضؤون على أطرافهم،

(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (2125)، كتاب البيوع، باب كراهية السَّخَب في السوق. وانظر للشاهد:"مشكاة المصابيح"(5771)، كتاب الفضائل والشمائل.

ص: 619

مناديهم ينادي في جوّ السماء، صفُّهم في القتال وصفّهم في الصلاة سواء، لهم بالليل دويٌّ كدوي النحل].

فلقد سمعوا من نبيّهم صلوات اللَّه وسلامه عليه قوله: [إن اللَّه يحبّ معاليَ الأخلاق ويكره سَفْسَافها](1).

وقوله: [إن اللَّه تعالى يحبّ معاليَ الأمور وأشرافها، ويكره سَفْسَافها]، فتعلقت قلوبهم بالمعالي وأشراف وعظام الأمور.

وقوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ} . أي: فهم الذين علم اللَّه صدق قلوبهم فهداهم هداية التوفيق والإلهام بعد هداية الدلالة والإرشاد، وهم أصحاب العقول وأولو النهى.

وقوله تعالى: {أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ} . قال قتادة: ({أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ} بكفره). قلت: وهذه الآية كقوله في سورة البقرة: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} . قال ابن عباس: (كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يحرص أن يؤمن جميع الناس ويتابعوه على الهدى، فأخبره اللَّه تعالى أنه لا يؤمن إلا من سبق له من اللَّه السعادة في الذكر الأول، ولا يضل إلا من سبق له من اللَّه الشقاوة في الذكر الأول). وهي كقوله أيضًا في سورة يونس: {إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ (96) وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ} .

قال ابن جرير: (أفمن وجبت عليه عليه العذاب في سابق علم ربك يا محمد بكفره). والمراد من تخلف عن الإيمان من أقاربه عليه الصلاة والسلام كما قال ابن عباس: (يريد أبا لهب وولده ومن تخلف من عشيرة النبي صلى الله عليه وسلم عن الإيمان).

قلت: وهذه الآية من أصول الإيمان بالقدر، فإن أصوله ثلاثة:

أولًا: الإيمان بعلم اللَّه المطلق.

ثانيًا: الإيمان بالحكمة البالغة الكاملة للَّه جل ثناؤه.

ثالثًا: الإيمان واليقين بصفة العدل للَّه. وعلى هذا يفسر هذا التحدّي من اللَّه لأبي لهب بقوله: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1) مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ (2) سَيَصْلَى نَارًا

(1) رواه الحاكم (1/ 48) عن سهل بن سعد بسند صحيح. واللفظ الآخر رواه الطبراني في "الكبير"(1/ 140/ 1) من حديث الحسين بن علي. وانظر السلسلة الصحيحة (1378).

ص: 620

ذَاتَ لَهَبٍ (3) وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (4) فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ}. وقد نزلت هذه السورة في حياة أبي لهب يُعْلِمُ اللَّه فيها الأمة جميعًا بأن أبا لهب سيخرج من الدنيا كافرًا ولم يجبره أحد على هذا الاختيار وإنما هو علم اللَّه المطلق وحكمته وعدله. وبناء على هذا يُفَسَّرُ حديث الإمام أحمد والترمذي والنسائي عن عبد اللَّه بن عمرو قال: [خرج علينا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وفي يده كتابان فقال: أتدرون ما هذان الكتابان؟ قال: قلنا لا إلا أن تُخْبرنا يا رسول اللَّه. قال للذي في يده اليمنى هذا كتاب من رِبّ العالمين تبارك وتعالى بأسماء أهل الجنة وأسماء آبائهم وقبائلهم ثم أُجْمِلَ على آخرهم لا يُزاد فيهم ولا يُنْقصُ منهم أبدًا. ثم قال للذي في يساره هذا كتاب أهل النار بأسمائهم وأسماء آبائهم وقبائلهم ثم أُجْمِل على آخرِهم، لا يزادُ فيهم ولا يُنْقَص منهم أبدًا. فقال أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: فَلأيّ شيءٍ إذنْ نَعْمَلُ إن كان هذا أمرًا قد فُرخ منه؟ قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: سدِّدوا وقاربوا فإن صاحِبَ الجنة يُخْتَم له بعمل أهل الجنة وإن عمل أي عمل، وإنّ صاحبَ النار ليُخْتَمُ له بعمل أهل النار وإن عمل أيَّ عمل. ثم قال بيده فقبضها ثم قال: فرغ ربكم عز وجل من العباد ثم قال باليمنى فنبذ بها فقال: فريق في الجنة، ونبذ باليسرى فقال: فريق في السعير](1).

وأما تكرار الإستفهام في الآية بقوله {أَفَأَنْتَ} فهو يستخدم للتأكيد عند طول الكلام، كما قال جل ثناؤه في سورة المؤمنون:{أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ} ، فَردَّدَ أنكم مرتين للتأكيد وهو أسلوب تستعمله العرب عند التطويل كما ذكر سيبويه. ونحوه قوله في سورة آل عمران:{لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} . فالمراد بآية الزمر استفهام واحد فيسبق الاستفهام، ثم يرد الاستفهام إلى موضعه حيث الحاجة إليه كان التقدير:(أفانت تنقذ من حقت عليه كلمة العذاب في النار). ومنهم من جوَّز في الكلام محذوفًا والتقدير: (أفمن حق عليه كلمة العذاب ينجو منه) وما بعده مستأنف، واللَّه تعالى أعلم.

وقوله تعالى: {لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ} .

(1) حديث صحيح. أخرجه أحمد (2/ 167)، والترمذي (2141)، وأخرجه النسائي في "الكبرى"(11473)، وانظر سلسلة الأحاديث الصحيحة (46).

ص: 621

هو خبر من اللَّه سبحانه عن أهل السعادة وما أُعِدَّ لاستقبالهم وما هُيِّئَ لإتحافهم، بعد أن ذكر سبحانه وأخبر عن حال الأشقياء الذين ستسوء منازلهم وسيلقون ما يزعجهم. أما هؤلاء فهم سكان الغرف الخاصة وهي القصور في الجنة التي تتداخل فيها طباق مبنيّات محكمات مزخرفات بعضها فوق بعض تطل على أنهار جميلة تسلك عبر الأشجار والثمار والخضرة والأزهار، وما فيها من ألوان فتانة تُفرح القلوب وتزيد في الحال جمالًا وسحرًا. فعن ابن عباس (قوله {غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ} قال: من زبرجد وياقوت).

قال الشوكاني رحمه الله: (وذلك لأن الجنة درجات بعضها فوق بعض، ومعنى {مَبْنِيَّةٌ} أنها مبنية بناء المنازل في إحكام أساسها وقوة بنائها وإن كانت منازل الدنيا ليست بشيء بالنسبة إليها {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} أي من تحت تلك الغرف، وفي ذلك كمال لبهجتها وزيادة لرونقها).

وقال ابن القيم رحمه الله: (أخبر أنها غرف فوق غرف، وأنها مبنية بناء حقيقة، لئلا تتوهم النفوس أن ذلك تمثيل، وأنه ليس هناك بناء. بل تتصور النفوس غرفًا مبنية كالعلالي، بعضها فوق بعض، حتى كأنه ينظر إليها عيانًا. ومبنية صفة للغرف الأولى والثانية، أي لهم منازل مرتفعة وفوقها منازل أرفع منها). ثم قال في قوله تعالى في سورة الفرقان: {أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا} قال: (الغرفة جنس كالجنة. وتأمل كيف جعل جزاءهم على هذه الأقوال المتضمنة للخضوع والذل والاستكانة للَّه، الغرفة والتحية والسلام، في مقابلة صبرهم على سوء خطاب الجاهلين لهم، فبدَّلوا بذلك سلام اللَّه وملائكته عليهم).

قلت: وبنحو هذه الآية قوله تعالى في سورة سبأ: {وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ} .

وفي الصحيحين عن أبي سعيد مرفوعًا: [إن أهلَ الجنة يتراءَون أهل الغرف من فوقهم كما تتراءَون الكوكب الدُّريَّ الغابِرَ في الأفق من المشرق أو المغرب لتفاضل ما بينهم. قالوا: يا رسول اللَّه! تلك منازل الأنبياء لا يبلغها غيرهم. قال: بلى والذي نفسي بيده، رجال آمنوا باللَّه وصدقوا المرسلين](1). ولفظه من طريق سهل بن سعد: [إن أهل الجنة ليتراءَون أهلَ الغرف في الجنة كما تراءَوْن الكواكب في السماء].

(1) حديث صحيح. أخرجه الخاري (3256)، ومسلم (2831)، وابن حبان (7393).

ص: 622

وفي الصحيحين أيضًا عن أبي موسى قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: [إن للمؤمن في الجنة لخيمةً من لؤلؤة واحدة مجؤفة عرضها (وفي رواية: طولها) ستون ميلًا، في كل زاوية منها أهل ما يرون الآخرين، يطوف عليهم المؤمن، وجنتان من فضة آنيتهما وما فيهما، وجنتان من ذهب آنيتُهما وما فيهما، وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلا رداءُ الكبرياء على وجهه في جنة عدن](1).

وقد أخرج الطبراني من حديث أبي مالك الأشعري أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: [إنّ في الجنة غرفًا يرى ظاهرها من باطنها، وباطنها من ظاهرها، أعدها اللَّه لمن أطعم الطعام، وأدام الصيام، وصلى بالليل والناس نيام](2).

وأما تشكيلة البناء وترتيبها فقد جاء ذلك تفصيله في مسند الإمام أحمد عن أبي مجاهد (سَعْدٌ الطائي) قال حدثنا أبو المُدِلَّةِ مَوْلى أم المؤمنين سمع أبا هريرة يقول: قلنا يا رسول اللَّه: إنا إذا رأيناكَ رَقَّتْ قلوُبنا وكنا من أهل الآخرة وإذا فارقناك أعجبتْنا الدنيا وشمَمْنَا النساء والأولاد. قال: [لو تكونون أو قال: لو أنكم تكونون على كل حال على الحال التي أنتم عليها عندي لصافحتكم الملائكة بأكُفِّهِمْ ولزارتكم في بيوتكم، ولو لم تُذْنِبُوا لجاء اللَّه بقوم يذنبون كي يغفرَ لهم. قال: قلنا يا رسول اللَّه حدِّثنا عن الجنة ما بناؤها؟ قال: لبِنَةُ ذهب ولبنةُ فضة ومِلاطُها المِسْكُ الأذْفَرُ وحَصْبَاؤها اللؤلؤُ والياقوتُ وتُرابُها الزَّعفرانُ، مَنْ يَدْخُلُها يَنْعم ولا يَبْأسُ ويَخْلُد ولا يموتُ ولا تَبْلى ثيابُهُ ولا يفنى شَبابُهُ، ثلاثةٌ لا تُرَدُّ دعوتهم: الإمام العادل والصائم حتى يفطر ودعوة المظلوم تُحْمَلُ على الغمام وتُفْتَحُ لها أبواب السماء ويقول الرب عز وجل: وعزتي لأَنْصُرَنَّكَ ولو بعد حين](3).

فنسأل اللَّه العظيم أن يبلغنا الغرف المبنية، فإن الجنة تشتاق لأهلها ولأعلامها ولأوليائها، كما روى الليث بن سعد عن معاوية بن صالح عن عبد الملك بن بشير ورفع الحديث قال: [ما من يوم إلا والجنة والنار يسألان، تقول الجنة: يا رب قد طاب ثمري واطردت أنهاري واشتقت إلى أوليائي فعجّل إليّ بأهلي. وتقول النار: اشتد

(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (4878)، ومسلم (180)، وأحمد (4/ 411).

(2)

حديث حسن. أخرجه ابن حبان والطبراني من حديث أبي مالك الأشعري. انظر صحيح الجامع (2119). ورواه الترمذي (2527) من حديث علي، وسنده حسن.

(3)

حديث صحيح. أخرجه أحمد (8030)، والترمذي (2526)، والطيالسي (2583)، وابن حبان (7387). وصححه أحمد شاكر في تعليقه على المسند.

ص: 623

حرّي وبعد قعري وعظم جمري فعجل عليَّ بأهلي. وقال سبحانه {وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ (23) سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} ] (1). فال ابن القيم في حادي الأرواح: (ففي هذا الحديث طلب الجنة أهلها وكذلك النار).

وقوله: {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} . قال ابن جرير: (لكن الذين اتقوا ربهم بأداء فرائضه واجتناب محارمه لهم في الجنة غرف من فوقها غرف مبنية علاليّ بعضها فوق بعض تجري من تحت أشجار جناتها الأنهار).

وقال ابن كثير: (تسلك الأنهار بين خلال ذلك كما يشاؤون وأين أرادوا).

وقال القرطبي: ({تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} أي هي جامعة لأسباب النزهة).

وقوله: {وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ} في محل نصب، والتقدير: وعدهم اللَّه ذلك وعدًا. قال القرطبي: (ويجوز الرفع بمعنى ذلك وعد اللَّه). أي ما ذكره سبحانه وعد وعده عباده المؤمنين وهو سبحانه لا يخلف وعده، كما قال في سورة النساء {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا} ، وكما قال {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا} فهو وعد للفريقين سيعاينونه.

وبنحوه في مسند الإمام أحمد وسنن ابن ماجة وصحيح ابن حبان عن صهيب مرفوعًا [إذا دخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار، نادى مناد: يا أهل الجنة إنّ لكم عند اللَّه موعدًا يريدُ أن ينجزكمُوهُ، فيقولون: وما هو؟ ألم يثقِّلِ اللَّه موازيننا ويُبَيِّض وجوهنا، ويُدخلنا الجنة، وينجنا من النار؟ فَيُكْشَفُ الحجابُ، فينظرون إليه فواللَّه ما أعطاهم اللَّه شيئًا أحبَّ إليهم من النظر إليه ولا أقرَّ لأعينهم](2).

فهلمّ إخوة الدين والإيمان إلى جنة عرضها السماوات والأرض، فيها غرف مبنية بعضها فوق بعض، تجري من تحت ظلالها وأشجارها الأنهار، وعدها اللَّه الذين آمنوا وأخلصوا دينهم له، وجاهدوا في سبيله وتحاكموا إلى شرعه ومنهاجه، وأقاموا الدين في حياتهم وعظموا حرمات ربهم، وعد اللَّه لا يخلف اللَّه الميعاد.

وقوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ} .

(1) انظر كتاب: "صفة الجنة" -وانلي- ص (214)، وإسناده حسن.

(2)

حديث صحيح. أخرجه أحمد (4/ 333)، ومسلم (181)، والترمذي (2552)، وأخرجه الطبري (17641)، وابن حبان (7441).

ص: 624

أصل الينابيع في لغة العرب من نَبَعَ، يقال: نَبَعَ الماء إذا خرج، ونَبَعَ يَنْبِعُ نَبَعَانًا، واليَنْبُوع عينُ الماء، ومنه قوله تعالى في سورة الإسراء {حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا} . والجمع ينابيعَ، والينبوعُ هو ما جاش من الأرض ويجوز في مضارعه رفع ونصب وكسر الباء أي نبعَ يَنبَعُ وينبُعُ وينبعُ.

وعن الشعبي في قوله {فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ} قال: (كلّ ندى وماء في الأرض من السماء نزل).

فأصل الماء الذي في الأرض من السماء كما قال سبحانه في سورة الفرقان: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} .

قال سعيد بن جبير: (أصله من الثلج، يعني أن الثلج يتراكم على الجبال فيسكن في قوارها فتنبع العيون من أسافلها).

وعن ابن عباس قال: (ليس في الأرض ماء إلا نزل من السماء ولكن عروق في الأرض تُغيرُهُ). وأما توزيعه فبحكمة اللَّه، فقد أخرج الحاكم بسند صحيح عن ابن عباس قال:[ما من عام بأكثر مطرًا من عام ولكن اللَّهَ يُصرِّفه بين خلقه حيث يشاء، ثم قرأ {وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا}](1). فهو يقسمه سبحانه حسب رضاه عن عباده.

وله شاهد عن البغوي عن ابن مسعود يرفعه: [ليس من سنة بأمَرَّ من أخرى ولكن اللَّه قسم هذه الأرزاق، فجعلها في السماء الدنيا في هذا القطر، ينزل منه كل سنة بكيل معلوم ووزن معلوم، وإذا عمل قوم بالمعاصي حول اللَّه ذلك إلى غيرهم، فإذا عصوا جميعًا صرف اللَّه ذلك إلى الفيافي والبحار](2).

قال الضحاك: (كل ماء في الأرض فمن السماء نزل، إنما ينزل من السماء إلى الصخرة، ثم تقسم منها العيون والركايا). فإن اللَّه يقسم كيف شاء.

وأما قوله {فَسَلَكَهُ} أي فأدخله في الأرض وأسكنه فيها. {ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ} . قال الحسن بن مسلم: (ثم أنبت بذلك الماء الذي أنزله من السماء فجعله في الأرض عيونًا زرعًا {مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ} يعني: أنواعًا مختلفة من بين حنطة وشعير وسمسم

(1) أخرجه الحاكم (2/ 403)، وابن جرير في "التفسير"(19/ 15)، وهو صحيح على شرط الشيخين كما قال الحاكم، ووافقه الذهبي، وأقرَّه الألباني في "الصحيحة"(2461).

(2)

انظر: "معالم التنزيل"(6/ 184)، وسلسلة الأحاديث الصحيحة -حديث رقم- (2461).

ص: 625

وأرز ونحو ذلك من الأنواع المختلفة {ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا} يقول: ثم ييبسُ ذلك الزرع من بعد خُضرته، يقال للأرض إذا يبس ما فيها من الخضر وذوى: هاجت الأرض وهاج الزرع). وقال الأصمعي: (يقال هاجت الأرض تهيج إذا أدبر نبتها وولى). وأرض هائجة إذا يبِسَ نبتُها أو اصفر. قال الرازي: (هاجَ الشيء ثار) والهيجاء الحرب، وهاج هائجه أي ثار غضبه. {ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا}. أى: فتاتًا متكسرًا من قولك تحطم العود إذا تفتت وتكسر من اليبس {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ} . وفي هذا التمثيل ذهب أهل التفسير إلى ثلاثة أقوال:

القول الأول: المعنى أن من فعل هذا قدر على الإعادة والبعث يوم القيامة. ذكره القرطبي.

القول الثاني: هو مثل ضربه اللَّه للدنيا، فكما يصفر النبت الأخضر وييبس فكذلك الدنيا بعد بهجتها.

قال الحافظ ابن كثير: ({إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ} أي الذين يتذكرون فيتعظون بأن الدنيا هكذا، تكون خضراء حسناء، ثم تعود عجوزًا شوهاء، والشاب يعود شيخًا ضعيفًا ثم يموت، فالسعيد من كان حاله بعده إلى خير).

القول الثالث: هو مثل ضربه اللَّه للقرآن ينمو ويزهر في صدور المؤمنين.

قال الشوكاني في فتح القدير: (والمعنى: أنزل من السماء قرآنًا فسلكه في قلوب المؤمنين، ثم يخرج به دينًا بعضه أفضل من بعض، فأما المؤمن فيزداد إيمانًا ويقينًا، وأما الذي في قلبه مرض فإنه يهيج كما يهيج الزرع).

قلت: وكلها أقوال متقاربة يحتملها المجاز والإعجاز، فإن من قدر على إنزال الماء وتحريك البذور به لتخرج ثمارًا وأزهارًا ثم تصفر وتيبس ثم تتفتت، قادر على إحياء العظام وقد صارت رميمًا مبعثرة، فيجمعها وهو خالقها وقد علم كيفية تبعثرها فقال في سورة (ق):{قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ} ، ثم إنه كثيرًا ما يضرب اللَّه مثل الحياة الدنيا بالزرع الذي يكون ناضرًا ثم يتحول حطامًا كما جاء في سورة الكهف:{وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا} . وفي جامع الترمذي بسند صحيح عن سهل بن سعد، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [لو كانت الدنيا تَعْدِل عند اللَّه جناحَ بعوضة،

ص: 626

ما سقى كافرًا منها شَربة ماء] (1). وخرّج أيضًا عن عبد اللَّه مرفوعًا: [مالي وللدنيا؟ ما أنا والدنيا؟ ! إنما مثلي ومثل الدنيا كراكب ظلَّ تحت شجرة ثم راح وتركها](2). وسببه كما قال ابن مسعود: (اضطجع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم على حصير فأثر في جنبه، فلما استيقظ جعلت أمسح جنبه، فقلت: يا رسول اللَّه ألا آذنتنا حتى نبسط لك على الحصير شيئًا؟ فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: (فذكره)).

ولفظ ابن حبّان عن ابن عباس: أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم دخل عليه عمر وهو على حصير قد أثر في جنبه فقال: يا نبيَّ اللَّه لو اتخذت فراشًا أوثر من هذا؟ فقال: [مالي وللدنيا؟ ! ما مثلي ومثل الدنيا إلا كراكب سار في يوم صائف، فاستظل تحت شجرة ساعة من نهار، ثم راح وتركها]. ثم إن القرآن في ازدهاره في قلوب المؤمنين وإحياء قلوبهم كمثل الغيث ينزل في الأرض الميتة فيحييها كما قال جل ثناؤه: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} [الأنعام: 122] فإن الوحي حياة ونور. وفي الصحيحين والمسند عن أبي موسى، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن، كمثل الأترجَّة، ريحها طيب وطعمها طيب، ومثلُ المؤمن الذي لا يقرأ القرآن، كمثل التمرةِ، لا ريح لها وطعمها حلوٌ، ومثلُ المنافق الذي يقرأ القرآن، كمثل الريحانة، ريحُها طيب وطعمها مرّ، ومثل المنافق الذي لا يقرأ القرآن كمثل الحنظلة، ليس لها ريح وطعمها مرّ](3). وعند البخاري عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [مثل ما بعثني اللَّه به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير، أصاب أرضًا فكان منها نقيةٌ قبلتِ الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير وكانت منها أجادب أمسكت الماء فنفع اللَّه بها الناس فشربوا وسقوا وزرعوا، وأصاب منها طائفةً أخرى إنما هي قيعان، لا تمسكُ ماءً ولا تنبت كلأً، فذلك مثلُ مَنْ فَقُهَ في دين اللَّه ونفعه ما بعثني اللَّه به فعلم وعلّم، ومثل من لم يرفع بذلك رأسًا ولم يقبل هدى اللَّه الذي أرسلت به](4).

فسبحان من أحيا القلوب فآمنت به وجاهد أهلها في سبيله، وسبحان من جعل من بعد قوة ضعفًا وشيبة ثم موتًا ثم بعثًا ونشورًا وحسابًا ومعادًا، فريق في الجنة، وفريق في السعير {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ} .

(1) صحيح لغيره. أخرجه الترمذي في الجامع (2/ 52)، وأبو نعيم في "الحلية"(3/ 3/ 253).

(2)

حسن صحيح. أخرجه الترمذي (2/ 60)، والحاكم (4/ 310)، وأحمد (1/ 391).

(3)

حديث صحيح. أخرجه البخاري (5020)، ومسلم (797)، وأحمد (4/ 403 - 404)، وغيرهم.

(4)

حديث صحيح. أخرجه البخاري (79)، ومسلم (2282)، وأبو يعلى (7311).

ص: 627

22 -

40. قوله تعالى: {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (22) اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (23) أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (24) كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (25) فَأَذَاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (26) وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (27) قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (28) ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (29) إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (30) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ (31) فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ (32) وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (33) لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ (34) لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (35) أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (36) وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقَامٍ (37) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ (38) قُلْ يَاقَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (39) مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ (40)}.

في هذه الآيات: خطاب من اللَّه تعالى لنبيّه صلى الله عليه وسلم: أفمن فَسحَ اللَّه قلبه لمعرفته

ص: 628

يا محمد، والإقرار بألوهيته، وإفراده بالعبادة والتعظيم فهو يمضي على بصيرة من اللَّه في كل شأنه وأحواله كمن هو بعيد عن الحق يعيش قسوة القلب وغشاء السكر على عقله وفؤاده، فهذا القرآن أعظم الحديث والذكر فمن شأنه أن تخبت قلوب المؤمنين عند سماعه وتقشعر جلودهم خوفًا مما فيه من الوعد والوعيد، فهو مثاني تُثَنَّى فيه الأنباء والأخبار والقضاء والأحكام والبراهين والأدلة والحجج لينذر من كان حيًا فتناله منه خشية ورهبة تحمله على العمل ومباشرة الأمر، فيهديهم ربهم بهذا القرآن هداية توفيق وإلهام بعد أن أضاء لهم في قلوبهم طريق الإيمان والإحسان، فإن من يخذله اللَّه عن اتباع هذا القرآن فيضله فلا سبيل إلى توفيقه واهتدائه. أفمن ينجو يوم الحساب من العذاب كمن يُخَرُّ على وجهه في النار ويقال له ذق إنك أنت العزيز الكريم فهذا جزاء ما كنتم تكسبون، فقد مضى على منهاج التكذيب أمم قبلكم ودول دَكَّها اللَّه بغتة من حيث لا يشعرون، وأذاقهم خزي الدنيا ثم إنهم قادمون على فضيحة الآخرة وخزي الندامة لو كانوا يعلمون.

لقد ضرب اللَّه في هذا القرآن العربي الفصيح أمثلة في غاية الدقة لمن أراد أن يذكّر أو أراد نجاة وأمانًا، فهل مثل عبد مملوك يشترك في ملكه رجال يتنازعونه بينهم كمن هو خالص لسيده، يبادله خالص الأجر والكرامة والتقدير، فذلك مثل من أشرك باللَّه وقَطَّعَ نَفْسَه ومَزَّق مستقبله ومثل من أخلص العبادة والتعظيم لخالقه جل ثناؤه. قل لقومك يا محمد: إنكم ستنتقلون لا محالة من هذه الدار وستجتمعون عند اللَّه في الدار الآخرة وهناك تختصمون فيفصل بينكم فينجي المؤمنين ويعذب المشركين، فمن أظلم ممن كذب بالوحي والتنزيل ونسب للَّه صفات النقص ظلمًا وزورًا فإن جهنم تنتظره وأشباهه من المستكبرين، وأما من أخلص التقوى للَّه وصدق رسوله فلهم جزاء الضعف في الجنات وهم في الغرفات آمنون. أليس اللَّه يكفي من توكل عليه وأخلص العبادة له فلا تخف يا محمد من أصنامهم التي يخوفونك بها فإنما هي حجارة تبول عليها الطيور فإن اللَّه عزيز ذو انتقام. وليتهم يراجعون عقولهم إذ أقروا بالخلق للَّه ثم هم يدعون مخلوقات من دونه، وليتهم راجعوا أفئدتهم إذا مسّهم الضر فلمن يجأرون، الحجارة لا تسمع ولا تشاركهم نحيبهم ولا تواسيهم مصابهم أم إلى اللَّه الذي امتلأت النفوس من رهبته والتعلق برحمته ورجاء الفرج والمخرج من عنده فهو اللَّه العظيم عليه يتوكل المتوكلون. فاعملوا على طريقتكم فكل يعمل على شاكلته ثم مَرَدُّنا إلى اللَّه فسيرى كُلٌ مصير الآخر وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون. فإلى تفصيل ذلك:

ص: 629

قوله: {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ} . قال الرازي: الشّرْحُ: الكَشْف تقول (شرح) الغامِضَ أي فسَّره ومنه تشريح اللحم. وشرح اللَّه صدره للإسلام فانشرح أي فتحه ووسعه. قال القاسمي: (أي وسعه لتسليم الوجه إليه وحده، ولقبول دينه وشرعه بلطفه وعنايته وإمداده سبحانه). وقد ذهب بعض المفسرين للتفريق بين مرحلتين: قبل الإسلام وبعد الإسلام.

ففي المرحلة الأولى: يكون المعنى يحتمل الشرح قبل الإسلام. قال ابن عباس: (وسع صدره للإسلام حتى ثبت فيه). وقال مجاهد: (ليس المنشرح صدره مثل القاسي قلبه).

وفي المرحلة الثانية: أن يصرف الشرح إلى ما بعد الإسلام للثبات عليه. قال السدي: (وسع صدره بالإسلام للفرح به والطمأنينة إليه).

قلت: والبيان الإلهي يحتمل الوجهين فإن من رضي بالإسلام فقد شرح اللَّه صدره له، ثم إذا صدق النية والخشية وعاكس الهوى والشهوة وتعلق قلبه بالإيمان والجهاد يشرح اللَّه صدره لهذا الحق والفرح بنصره والطمانينة عند رؤية دولته وشوكته. قال سبحانه في سورة الأنعام:{فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ} .

وقد أخرج الإمام أحمد في المسند وأبو داود والنسائي وابن ماجة في السنن بسند صحيح عن بريدة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [من قال حين يصبح أو حين يمسي: اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني، وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوءُ لك بنعمتك عليَّ، وأبوء بذنبي، فاغفر لي، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، فمات من يومه، أو ليلته دخل الجنة](1).

وعند أبي داود عن أبي سعيد قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: [من قال رضيت باللَّه ربًا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد نبيًا، وجبت له الجنة](2).

وقوله: {فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ} هو كقوله جل ثناؤه في سورة الأنعام: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} .

(1) حديث صحيح. أخرجه أحمد (4/ 122)، والترمذي (4/ 229)، وأبو داود (5070)، ورواه ابن ماجة والنسائي. انظر صحيح أبي داود (4237).

(2)

حديث حسن أخرجه أبو داود (1529)، وأخرجه أحمد (3/ 14)، وله شواهد.

ص: 630

وعن قتادة: (قوله: {فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ} قال: يعني كتاب اللَّه هو المؤمن، به يأخذ، وإليه ينتهي).

وقال السدي: (النور الهدى). وقيل: علامة انشراح الصدر: الإنابة إلى دار الخلود والتجافي عن دار الغرور والاستعداد للموت، فإذا حصل ذلك للعبد فهو على نور من ربه.

وقد أخرج الإمام أحمد في المسند بسند صحيح عن عبد اللَّه بن عمرو، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[إن اللَّه تعالى خلق خلقه في ظلمة، ثم ألقى عليهم من نوره، فمن أصابه من ذلك النور اهتدى، ومن أخطاه ضل](1). ورواه ابن حبان في صحيحه.

قلت: والظلمة هي ظلمة الطباع والجهل والأهواء والخضوع للغرائز والشهوات، والنور هو نور الوحي ونور السنة نور النبوة والرسالات، نور الفطرة ونور الميثاق مع اللَّه الذي أخذه بنعمان وهو واد إلى جنب عرفات، كما أخرج الإمام أحمد بسند حسن عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[أخذ اللَّه تبارك وتعالى الميثاق من ظهر آدم بنعمان يعني (يوم) عرفة فأخرج في صُلْبهِ كل ذرية ذرأها فنثرهم بين يديه كالذر ثم كلمهم قُبُلًا قال: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ (172) أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ} [الأعراف: 172 - 173]] (2).

وقوله: {فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} . قال المبرد: يقال قسا القلب إذا صَلُبَ. وقلب قاس أي صُلْب لا يرق ولا يلين. وقيل المراد أبو لهب وولده، والراجح أن الآية عامة في كل من جفا قلبه ونأى عن ذكر اللَّه وأعرض عن القرآن. واختار ابن جرير أن (مِنْ) بمعنى (عن) والتقدير: فويل للقاسية قلوبهم عن قبول ذكر اللَّه وقال: (فويل للذين جفت قلوبهم ونأت عن ذكر اللَّه وأعرضت، يعني عن القرآن الذي أنزله تعالى ذكره. قال: هؤلاء القاسية قلوبهم من ذكر اللَّه في ضلال مبين، لمن تأمَّله وتدبّره يفهم أنه في ضلال عن الحق جائر). وقال القاسمي: ({فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ

(1) حديث صحيح. أخرجه أحمد (2/ 176)، (2/ 197)، وابن حبان (1812)، ورواه الحاكم (1/ 30). وانظر سلسلة الأحاديث الصحيحة (1076).

(2)

حديث حسن. أخرجه أحمد (1/ 272)، والنسائي في "الكبرى"(11191)، والحاكم عن ابن عباس. وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (1623).

ص: 631

مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ}: أي من قبول ذكره لشدة ميلها إلى اللذات البدنية، وإعراضها عن الكمالات القدسية. قال: فـ "مِنْ" للتعليل والسببية). قال الفراء: (أي عن ذكر اللَّه كما تقول أتخمت عن طعام أكلته ومن طعام أكلته).

قلت: وجملة القول أن الويل لمن لا تلين قلوبهم عند ذكر اللَّه ولا تتعلق بالحق ولا تخشع، ولا تعي معنى الأمن في الآخرة ولا تفهم ولا تريد أن تسمع، ومن هنا كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يستعيذ باللَّه من ثلاث -كما أخرج الإمام أحمد من حديث أنس- عنه ويقول:[اللهم إني أعوذ بك من علمٍ لا ينفع، وعملٍ لا يُرْفَع، ودعاءٍ لا يُسمع](1). وله شاهد عند الترمذي عن عبد اللَّه بن عمرو ولفظه: [اللهم إني أعوذ بك من قلب لا يخشع، ومن دعاء لا يُسمع، ومن نفس لا تَشْبع، ومن علمِ لا ينفع، أعوذ بك من هؤلاء الأربع](2). وأصله في صحيح الإمام مسلم من حديث زيد بن أرقم ولفظه: [اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل، والجُبنِ والبُخل، والهرم وعذاب القبر، وفتنة الدجال، اللهم آت نفسي تقواها، وزكِّها أنت خير من زكاها، أنتَ وليها ومولاها، اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع، ومن قلب لا يخشع، ومن نفس لا تشبع، ومن دعوة لا يستجاب لها](3).

وفي الأثر عن مالك بن دينار قال: (ما ضُرِبَ عبدٌ بعقوبة أعظم من قسوة القلب، وما غضب اللَّه على قوم إلا نزع الرحمة من قلوبهم).

وقد أخرج الدارمي بسند حسن عن قتادة قال: [قالت بنو إسرائيل: يا رب أنت في السماء ونحن في الأرض فكيف لنا أن نعرف رضاك من غضبك؟ قال: إذا رضيت عنكم استعملت عليكم خياركم، وإذا غضبت استعملت عليكم شراركم]. فنعوذ باللَّه من قسوة القلب، ومن أن يُسلط سبحانه على الأمة عتاة القلوب وأهل الجفاء والقسوة ومن لا يخاف اللَّه ولا يخشع.

وقوله: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا} . المراد القرآن الكريم، يشبه بعضه بعضًا ويصدق بعضه بعضًا فلا اختلاف فيه ولا تضاد، وما اشتبه في موضع رُدّ علمه إلى المحكم في موضع آخر، فهو كله حق لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وقد

(1) حديث صحيح. أخرجه أحمد وابن حبان. انظر تخريج "العلم" لابن أبي خيثمة (148/ 165).

(2)

حديث صحيح. أخرجه الترمذي في السنن (3482). وانظر صحيح سنن الترمذي (2769).

(3)

حديث صحيح. رواه مسلم في صحيحه (8/ 81). وانظر صحيح سنن الترمذي (2826).

ص: 632

علم تفسيره العلماء الراسخون، أتباع منهج الفهم عند الصحابة والأئمة والتابعين.

وقد أخرج ابن حبان في صحيحه والحاكم في مستدركه، بإسناد جيد عن سعد في قول اللَّه عز وجل {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ} الآية. قال:[أنزل اللَّه القرآن على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فتلاه عليهم زمانًا، فقالوا يا رسول اللَّه لو قصصت علينا، فأنزل اللَّه: {الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ} [يوسف: 1]-إلى قوله- {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ} الآية. فتلاها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم زمانًا، فقالوا: يا رسول اللَّه لوحدثتنا، فأنزل اللَّه تعالى:{اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا} ] (1).

قلت: وفي الحديث إشارة إن أن أصل العلوم والحِكَم والخير هو القرآن، وأنّ كل فكر لا يتأصل من هذا الكتاب العظيم فهو فكر قاصر، وأن أي فلسفة أو قصص أو حكاية تشذ عن قواعد الأصول والعلم مرفوضة، وأنّ أحدًا لا يملك التأثير بأعظم من القرآن، كما لا يستطيع أحد أن يأتي بِحكمة غابت عن كتاب اللَّه أو الوحي الثاني وهو هدي نبيّه صلوات اللَّه وسلامه عليه، فإن القرآن والسنة هما أحسن الحديث.

وفي قوله {مُتَشَابِهًا} معان متقاربة ذكرها المفسرون:

المعنى الأول: أي يتشابه في الآيات والحروف. فعن قتادة: قال: (يشبه بعضه بعضًا في الآي والحروف).

وفي رواية أخرى عنه قال: (الآية تشبه الآية، والحرف يشبه الحرف). وقال القاسمي: (أي يشبه بعضه بعضًا، في الصحة والإحكام والبناء على الحق والصدق ومنفعة الخلق ووجوه الإعجاز).

المعنى الثاني: أي يتشابه في البناء والهيئة. قال السدي: (المتشابه: يشبه بعضه بعضًا). وقال ابن جرير: (يشبه بعضه بعضًا، لا اختلاف فيه ولا تضاد).

المعنى الثالث: أي يتشابه في الحسن والحكمة ويصدق بعضه بعضًا. قال سعيد بن جبير: (يشبه بعضه بعضًا ويصدق بعضه بعضًا، ويدل بعضه على بعض). وقال القرطبي: (يشبه بعضه بعضًا في الحسن والحكمة ويصدق بعضه بعضًا، ليس فيه تناقض ولا اختلاف).

(1) حديث صحيح. أخرجه الحاكم (2/ 345)، والواحدي (544)، والطبري (12/ 150). ورواه ابن حبان في "صحيحه". وانظر:"الصحيح المسند من أسباب النزول" - الوادعي - سورة يوسف.

ص: 633

المعنى الرابع: قيل يشبه كتب اللَّه المنزلة على أنبيائه، لما يتضمنه من أمر ونهي وترغيب وترهيب وإن كان أعم وأعجز.

قلت: وهذ الآية حقًا تدل على إعجاز وسموّ هذا القرآن، فقد نزل على مدة طويلة نحو ربع قرن من الزمن، وجاء أوله يصدق آخره وأوسطه، فلا مفاجآت ولا تناقضات ولا خلل، فلو كان من عند غير اللَّه لوجدوا فيه اختلافًا كثيرًا، ولو كان مؤلفه بشرًا لظهرت فروق في الفهم والوعي والإدراك والمعالجة على طول ربع قرن، ولكنه الوحي كلام اللَّه خالق وبارئ الكون والبشر. وقد جمع كل ما يحتاجه الناس في حياتهم من أمرٍ ونهي وحلال وحرام ومحكم ومتشابه وأمثال وَعِبَر، وما يحتاجونه للتزود من أجل النجاة في معادهم من نار سقر. كما قال جل ثناؤه في سورة القمر:{وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} . إلى قوله: {وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ (53) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} . فهو متشابه في الأصل والحسن والحكمة.

لقد أخرج ابن حبان في صحيحه والحاكم في مستدركه بإسناد حسن عن ابن مسعود عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: [كان الكتاب الأول ينزل من باب واحد على حرف واحد، ونزل القرآن من سبعة أبواب على سبعة أحرف: زجر وأمر وحلال وحرام ومحكم ومتشابه وأمثال، فأحلوا حلاله وحرموا حرامه وافعلوا ما أمرتم به وانتهوا عما نهيتم عنه واعتبروا بأمثاله واعملوا بمحكمه وآمنوا بمتشابهه وقولوا آمنا به كل من عند ربنا](1).

وأما تسميته "حديثًا" قال الشوكاني: (لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحدث به قومه ويخبرهم بما ينزل عليه منه).

ونُصب قوله {كِتَابًا} على أنه بدل من {أَحْسَنَ الْحَدِيثِ} يكون قوله {مُتَشَابِهًا} صفة لـ {كِتَابًا} . ويجوز نصب {كِتَابًا} على أنه حال. وقد جاء معنى الحديث أنه القرآن في أكثر من موضع في كتاب اللَّه عز وجل: كقوله في سورة المرسلات: {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ} . وكقوله في سورة النجم: {أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ} . وكقوله في سورة النساء: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا} . وكقوله في سورة القلم: {فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ} .

وقوله {مَثَانِيَ} . أي: تثنى فيه الأخبار والمواعظ والحكم والأمثال، ومن روعته

(1) حديث صحيح. أخرجه الطبري (1/ 30)، ورواه الحاكم وابن حبان. وإسناده صحيح.

ص: 634

فهو لا يُمَلّ. وإليك تفصيل ما ذكر من أقوال:

القول الأول: أي تثنى فيه الفرائض والأحكام. فعن قتادة قال: (ثنى اللَّه فيه الفرائض والقضاء والحدود).

القول الثاني: أي تثنى فيه الأنباء والأخبار والقضاء. فعن الحسن قوله: (ثنى اللَّه فيه القضاء، تكون السورة فيها الآية في سورة أخرى آية تشبهها). قال ابن جرير: (تُثْنى فيه الأنباء والأخبار والقضاء والأحكام والحجج).

القول الثالث: أي يثنى فيه الأمر فيذكر مرارًا لأهميته. فعن ابن عباس قال: (كتاب اللَّه مثاني، تثنى فيه الأمر مرارًا). وقال ابن زيد: (مردّد، رُدِّد موسى في القرآن، وصالح وهود والأنبياء في أمكنة كثيرة).

القول الرابع: يثنى الأمر فيذكَرُ وَضِدُّه. فعن سفيان بن عيينة قال: (إن سياقات القرآن تارة تكون في معنى واحد، فهذان من المتشابه، وتارة تكون بذكر الشيء وضده كذكر المؤمنين ثم الكافرين وكصفة الجنة ثم صفة النار وما أشبه هذا. . . فهذا من المثاني كقوله تعالى {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (13) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} [الإنفطار: 13 - 14]. وأما إذا كان السياق كلّه في معنى واحد يشبه بعضه بعضًا فهو المتشابه، وليس هذا من المتشابه المذكور في قوله تعالى {مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} [آل عمران: 7] ذاك معنى آخر).

وذكر الشوكاني عن الرازي في تبيين مثاني: (أن أكثر الأشياء المذكورة في القرآن متكررة زوجين زوجين مثل الأمر والنهي والعام والخاص والمجمل والمفضل وأحوال السماوات والأرض والجنة والنار والنور والظلمة. . .).

القول الخامس: أي يثنى في التلاوة فلا يُمَلّ. ذكره النسفي وغيره. قال الشوكاني: (وقيل يثنى في التلاوة فلا يمل سامعه ولا يسام قارئه).

قلت: والقرآن موصوف بكل هذه الصفات العليا والنعوت الحسنى، فقد تكررت فيه الأنباء والأخبار والمواعظ والحكم والأمثال والمقارنة بين الضّدين والحالين ولكن ذلك كله يمضي في بيان رفيع، فما أجْمِلَ في موضع فُصِّل في موضع آخر، وما نبههَ إلى أهميته في موضع نُبِّهَ إلى جانب آخر في موضع آخر، ومن سموّ إعجازه وروعته أن سامعه لا يملُّه وأنه يثنى في التلاوة ولا تشبع منه القلوب، فهذه فاتحة الكتاب سميت بالسبع المثاني فهي تثنى وتكرر كل يوم في كل صلاة عشرات المرات ولا يملها القلب

ص: 635

بل هو محتاج إلى معانيها وإلى بركتها في كل وقت وحين، فإياك نعبد يا ربنا وإياك نستعين على غرائزنا وشهواتنا ألا تشغلنا عن ذكرك ومنهجك.

وقوله: {تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} . أصل القشعريرة في كلام العرب من الاضطراب والحركة. يقال: اقشعر جلده: إذا تقبض وتجمع من الخوف. فهي تضطرب وتتحرك خوفًا من الوعيد المذكور في القرآن، ومعايشة لهول الموقف وشدته على أهل الهزل والعصيان، ورجاء باللَّه العظيم أن يمنّ بالمغفرة ونيل الجنان.

وأما قوله: {ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} ففيه أقوال:

القول الأول: أي ثم تلين عند سماع آيات الرحمة. قال النسفي: (أي إذا ذكرت آيات الرحمة لانت جلودهم وقلوبهم وزال عنها ما كان بها من الخشية والقشعريرة).

القول الثاني: أي ثم تلين إلى العمل والمسارعة بالخيرات. قال القاسمي: (أي بالانقياد والطاعة والسكينة لأمره). وهو اختيار ابن جرير.

القول الثالث: أي تقشعر ثم تلين راجية رحمة اللَّه أن تغمرها في الدنيا والآخرة.

فعن قتادة قال: (هذا نعت أولياء اللَّه نعتهم بأنها تقشعر جلودهم وتطمئن قلوبهم إلى ذى اللَّه، ولم ينعتهم بذهاب عقولهم والغشيان عليهم إنما ذلك في أهل البدع وهو من الشيطان). ذكره الشوكاني.

وأفاد ذلك الحافظ ابن كثير بقوله: (فهم مخالفون لغيرهم من الفجّار من وجوه:

أحدها: أنّ سماع هؤلاء هو تلاوة الآيات وسماع أولئك نغمات الأبيات من أصوات القينات.

الثاني: أنهم إذا تليت عليهم آيات الرحمن خرّوا سجدًا وبُكيًا بأدب وخشية ورجاء ومحبة وفهم وعلم، كما قال تعالى:{وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا} [الفرقان: 73]. أي إنما يعملون بها ويسجدون عندها عن بصيرة لا عن جهل وتقليد أعمى ومتابعة لغيرهم.

الثالث: أنهم يلزمون الأدب عند سماعها كما كان الصحابة رضي الله عنهم يسمعونها وتقشعر جلودهم وتلين قلوبهم إلى ذكر اللَّه، ولم يكونوا يتصارخون ولا يتكلفون ما ليس فيهم بل عندهم من الأدب والسكون والخشية ما لا يلحقهم أحد

ص: 636

في ذلك، ولهذا فازوا بالرضا والمدح من اللَّه في الدارين بخلاف بعض الجماعات! ! الذين تذهب عقولهم ويغشى عليهم، إنما هذا في أهل البدع وهذا من الشيطان).

قلت: والبيان الإلهي يتسع لكل هذه الآفاق والمعاني التي يوصف بها المؤمنون المخبتون، الذين إذا سمعوا القرآن خشعت قلوبهم واقشعرت جلودهم واشتد خوفهم، فسارعوا إلى الخيرات وإلى ما ينجيهم من الأعمال الصالحات، فإذا ما مرّوا بآيات الرحمة لانت قلوبهم وفرحوا بما بشّرهم به ربهم، ولازَمَهم مع كل ذلك الورع، ولم يخرجوا من توازنهم واستقرارهم ووقارهم.

فقد أخرج النسائي في كتاب العلم عن الأعمش قال: (بلغني عن مطرف بن عبد اللَّه بن الشخير أنه قال: فضل العلم أحب إليّ من فضل العبادة، وخير دينكم الورع). وقد ثبت هذا مرفوعًا من حديث ابن عمر وحذيفة أخرجه الطبراني.

وقد ساق القرطبي أثرًا عن سعيد بن عبد الرحمن الجمحي قال: (مرّ ابن عمر برجل من أهل القرآن ساقطًا فقال: ما بال هذا؟ قالوا: إنه إذا قرئ عليه القرآن وسمع ذكر اللَّه سقط. فقال ابن عمر: إنا لنخشى اللَّه وما نسقط).

ثم ساق أثرًا آخر عن عمر بن عبد العزيز قال: (ذكر عند ابن سيرين الذين يصرعون إذا قرئ عليهم القرآن، فقال: بيننا وبينهم أن يقعد أحدهم على ظهر بيت باسطًا رجليه، ثم يقرأ عليه القرآن من أوله إلى آخره فإن رمى بنفسه فهو صادق).

وقوله: {ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} . وفي قوله {ذَلِكَ} قولان:

القول الأول: ذلك هدى اللَّه أي القرآن. قال النسفي: ({ذَلِكَ} إشارة إلى الكتاب).

القول الثاني: أي ذلك الذي وهبه اللَّه لأوليائه من الخشوع والرقة والقشعريرة ولين القلوب هو هدى اللَّه.

قال ابن جرير: (هذا الذي يصيب هؤلاء القوم الذين وصفت صفتهم عند سماعهم القرآن من اقشعرار جلودهم ثم لينها ولين قلوبهم إلى ذكر اللَّه من بعد ذلك {هُدَى اللَّهِ} يعني توفيق اللَّه إياهم وَفَّقَهم له {يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ} يقول: يهدي تبارك وتعالى بالقرآن من يشاء من عباده {وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} قال: ومن يخذله اللَّه عن

ص: 637

الإيمان بهذا القرآن والتصديق بما فيه فيضله عنه فماله من موفِّق له ومسدد يسدده في اتباعه).

وجملة القول: أن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم، وهو كتاب تخشع له جوارح المؤمنين به، ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى تعظيمه، وامتثال أمره، وهذا من فضل اللَّه على أوليائه وتوفيقه.

وفي معجم الطبراني عن جبير، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[أبشروا، فإن هذا القرآن طرفهُ بيد اللَّه، وطرفهُ بايديكم، فتمسكوا به، فإنكم لن تهلكوا ولن تضِلوا بعده أبدًا] وسنده صحيح (1).

وقوله تعالى: {أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ} فيه أكثر من تأويل:

التأويل الأول: هو أن يرمى به في جهنم مكبوبًا على وجهه فذلك اتقاؤه إياه. قال عطاء: (يرُمى به مكتوفًا في النار فأول شيء تمسّ منه النار وجهه). وقال الشوكاني في "فتح القدير": (والمعنى: أفمن يقي نفسه بوجهه الذي هو أشرف أعضائه سوء العذاب يوم القيامة لكون يده قد صارت مغلولة إلى عنقه كمن هو آمن لا يعتريه شيء من ذلك ولا يحتاج إلى الاتقاء). وقال القاسمي: (أي فمن يجعل وجهه وقاية لشدة العذاب ذلك اليوم، أي قائمًا مقامها في أنه أول ما يمسه المؤلم له. لأن ما يتقى به هو اليدان، وهما مغلولتان. ولو لم تغلّا كان يدفع بهما عن الوجه لأنه أعز أعضائه. وقيل الاتقاء بالوجه كناية عن عدم ما يتقى به، لأن الوجه لا يتقى به).

التأويل الثاني: هو أن يجرّ على وجهه في النار. فعن مجاهد قال: (يجرّ على وجهه في النار). وفي رواية عنه قال: (يخرُّ على وجهه في النار، يقول: هو مثل {أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [فصلت: 40]).

التأويل الثالث: هو أن تغل يداه إلى عنقه ويرمى به في النار. قال مقاتل: (هو أن الكافر يرمى به في النار مغلولة يداه إلى عنقه، وفي عنقه صخرة عظيمة كالجبل العظيم من الكبريت، فتشتعل النار في الحجر وهو معلق في عنقه، فحرها ووهجها على وجهه، لا يطيق دفعها عن وجهه من أجل الأغلال) ذكره القرطبي.

(1) حديث صحيح. أخرجه الطبراني في "المعجم الكبير"(1/ 77/ 1)، ورواه ابن أبي شيبة في "المصنف"(12/ 165). وسنده صحيح على شرط مسلم.

ص: 638

التأويل الرابع: أن يبقى المعنى على العموم: أي أفمن يعاين العذاب كمن هو آمن في الجنة.

قال الزجاج: (أفمن يتقي بوجهه سوء العذاب كمن يدخل الجنة). وقال الأخفش: (أفمن يتقي بوجهه سوء العذاب أفضل أم من سعد؟ مثل قوله: {أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ}).

وقال ابن كثير: أفمن يواجه يوم القيامة أعظم العذاب كمن يكون في ذلك اليوم آمنًا منه؟ .

وقال النسفي: ({أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} كمن أمن من العذاب فحذف الخبر كما حذف في نظائره. قال: وسوء العذاب شدته، ومعناه أن الإنسان إذا لقي مخوفًا من المخاوف استقبله بيده وطلب أن يقي بها وجهه لأنه أعز أعضائه عليه، والذي يلقى في النار يلقئ مغلولة يداه إلى عنقه فلا يتهيأ له أن يتقي النار إلا بوجهه الذي كان يتقي المخاوف بغيره وقاية له ومحاماة عليه).

قلت: وكلها تفاسير تدور حول المعنى الذي مفاده أن من كفر باللَّه ونعمه، واستكبر عن شكره سبحانه وحمده، وعن الخضوع والتذلل بين يديه معترفًا بعظمته، وجبروته وكبريائه الذي لا يليق إلا به، وضئع الوقت والعمر فيما يسخطه، وعاث في الأرض فسادًا يظلم ويسفك الدماء ويحارب اللَّه وأولياءه، فسوف يسحب في النار على وجهه إهانة له، إذ الوجه أكرم ما خلق اللَّه في الإنسان وفيه مركز الأوامر الخيرة والسيئة، ليذله اللَّه ويهينه يوم القيامة إذ آثر سَيِّئ القول والعمل، فهو يسحب في السلاسل يومئذ مكبلًا فيحاول الوجه صدّ العذاب واللهب وردّه دونما جدوى، فإن اليدين مكبلتان بما اجترحت في الدنيا من ظلم وآثام، كما قال جل ثناؤه في سورة الأحزاب:{يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَالَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا} . وكقوله في سورة الأنبياء: {لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لَا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلَا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (39) بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ} . وكقوله في سورة القمر: {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ (47) يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ} . وكقوله في سورة الدخان: {خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ (47) ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ (48) ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} .

وفي جامع الترمذي بسند حسن عن عبد اللَّه بن عمرو، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [يحشر

ص: 639

المتكبرون يوم القيامة أمثالَ الذر في صور الرجال، يغشاهم الذل من كل مكان، يُساقون إلى سجن في جهنم يسمى بولس، تعلوهم نار الأنيار، يُسْقون من عُصَارة أهل النار طينة الخبال] (1).

وقوله: {وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ} . أي: ذوقوا وبال ما اجترحتم من المعاصي والآثام ثم خرجتم من الحياة الدنيا دون توبة ولا رجعة، كقوله جل ثناؤه في سورة العنكبوت:{يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} . وكقوله في سورة يونس: {ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ} . وكقوله في سورة التوبة: {هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ} .

قال الشوكاني: {وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ} وهو معطوف على يتقي: أي ويقال لهم، وجاء بصيغة الماضي للدلالة على التحقيق). وقوله:{مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ} قال عطاء: (أي جزاء ما كنتم تعملون).

وقوله تعالى: {كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ} . أي فاجأهم اللَّه بالعذاب وقد سكروا في لهوهم وتكذيبهم فباغتهم به وهم لا يشعرون. قال النسفي: (من الجهة التي لايحتسبون ولايخطر ببالهم أن الشر يأتيهم منها بَيْنا هم امنون إذ فوجئوا من مأمنهم). والآية تشبه قوله في سورة الزمر نفسها: {وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ} . أي فيصيبكم ما أصاب الأمم المكذبة من قبلكم.

وقوله تعالى: {فَأَذَاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} . قال المبرد: (يقال لكل ما نال الجارحة من شيء قد ذاقته، أي وصل إليها كما تصل الحلاوة والمرارة إلى الذائق لهما. قال: والخزي من المكروه والخَزَاية من الاستحياء) ذكره القرطبي. والآية تشبه قوله سبحانه في سورة الرعد: {لَهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ وَمَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ} . وقوله في سورة فصلت: {لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ} . قال الشوكاني: {فَأَذَاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ} أي الذل والهوان {فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} بالمسخ والخسف والقتل والأسر وغير ذلك {وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ} لكونه في غاية الشدة مع دوامه). وقوله {لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} قال

(1) حديث حسن. أخرجه أحمد والترمذي. انظر صحيح سنن الترمذي (2025)، أبواب صفة القيامة.

ص: 640

النسفي: (لآمنوا). ولكنهم عموا عن مصائرهم فلم يتفكروا ولم يستعدوا ففاجأتهم مصيبة النار يوم القيامة لا زحزحة عنها.

وفي الصحيحين والمسند عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[نارُكم هذه التي توقِدُ بنو آدمَ، جزءٌ من سبعين جزءًا من نار جهنم، قيل: يا رسول اللَّه! إن كانت لكافية؟ قال: فإنها فَضَلَتْ عليها بتسعة وستين جزءًا، كُلّهُنَّ مثلُ حرِّها](1).

ورواه الترمذي من حديث أبى سعيد ولفظه: [ناركم هذه جزء من سبعين جزءًا من نار جهنم، لكل جزء منها حرّها](2).

وفي صحيح مسلم عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[النار عدوٌّ فاحذروها](3). وهذا في نار الدنيا فما بال نار الآخرة والعياذ باللَّه.

وقوله تعالى: {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (27) قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} .

أي لقد بسطنا في هذا القرآن كل ما يحتاجه الناس من مثل يُفَهِّمُهُمْ معناه ويقربه إلى أذهانهم، فمثّلنا لهؤلاء المشركين أمثالًا من القرون السالفة التي دَمَّرَ اللَّه فيها على المستكبرين بنيانهم وقلب نهارهم ليلًا، وأحال حاضرَ تلك الأمم الظالمة ماضيًا، وصَيَّرَهُم أحاديث للناس يضرب بهم المثل قاسيًا، لكل من أراد أن يمضي على منهاجهم وسنتهم {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 38]، لعلهم ينزجرون ويتعظون أو يحدث لهم القرآن ذكرًا. فإن اللَّه سبحانه قد أنزله قرآنًا عربيًا فيه كل ما يوصلهم إلى سعادة دنياهم وأخراهم، وقد تفضل عليهم بأن أنزله بلسانهم. ثم وصفه بأنه {غَيْرَ ذِي عِوَجٍ} - وفيه أكثر من تأويل:

التأويل الأول: أي غير ذي لَبْس، ويكون قوله {قُرْآنًا عَرَبِيًّا} منصوب على الحال. قال مجاهد:(قرآنًا عربيًا غيرَ ذي عوج: غير دي لَبْس). وقال ابن جرير: (جعلناه قرآنًا عربيًا إذ كانوا عربًا ليفهموا ما فيه من المواعظ حتى يتقوا ما حذّرهم اللَّه فيه من بأسه وسطوته). ويجوز أن يكون النَصب على التوكيد أو المدح، أو يكون قرآنًا توكيد و {عَرَبِيًّا} حال.

(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (3265)، ومسلم (2843)، وأحمد (2/ 467) وغيرهم.

(2)

حديث صحيح. أخرجه الترمذي في السنن (2590). انظر صحيح سنن الترمذي (2089).

(3)

حديث صحيح. أخرجه مسلم في الصحيح (2016)، كتاب الأشربة. ورواه أحمد (2/ 90).

ص: 641

التأويل الثاني: أي غير مختلف. قال النحاس: (أحسن ما قيل فيه قول الضحاك، قال: غير مختلف) ذكره القرطبي.

التأويل الثالث: أي غير مخلوق. ذكره ابن عباس، وَنُقِل عن السُّدي.

التأويل الرابع: أي غير متضاد. روي ذلك عن عثمان بن عفان. وقال القاسمي: (أي مستقيمًا بريئًا من التناقض والاختلاف {لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} أي العذاب والخزي يوم الجزاء، بالاتقاء من الأفعال القبيحة والأخلاق الرديئة، والاعتقادات الفاسدة). وقال النسفي: ({غَيْرَ ذِي عِوَجٍ}: مستقيمًا بريئًا من التناقض والاختلاف ولم يقل مستقيمًا للإشعار بأن لا يكون فيه عوج قط).

التأويل الخامس: قيل المراد بالعوج الشك، ذكره السُّدي والماوردي.

التأويل السادس: قيل المراد غير ذي لحن. ذكره القرطبي عن بكر بن عبد اللَّه المزني.

وكل ما سبق من تاويل يحتمله البيان الإلهي ويتسع له الإعجاز القرآني، فإن هذا القرآن عظيم لا لَبْسَ فيه ولا اختلاف ولا تعارض ولا تضاد ولا لحن فيه ولا شك، فهو كلام اللَّه ليس بمخلوق لا يأتيه ألباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد.

وأما قوله: {لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} -أي- الوقوع بما وقع به مَنْ قبلهم فيحق عليهم ما حقّ على غيرهم من عذاب الدنيا وخراب الآخرة. قال الشوكاني: (لعلهم يتقون: علة أخرى بعد العلة الأولى. وهي {لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} أي لكي يتقوا الكفر والكذب).

وقوله تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} .

فإن ضرب الأمثال تلك ما مُثّلت إلا لِيُتَّقَى أعظم المخوفات وهو الشرك باللَّه، وهذا مثل رائع الدقة ألقاه اللَّه سبحانه ليقرع به عقول المشركين ومحاكماتهم: أفمثل من تنازعه أكثر من رجل فهو عبد مملوك مشترك بينهم، كمثل عبد خالص لرجل لا يملكه غيره؟ لا يستويان. فإن الأول يعاني من تَقَلُّب الأهواء وتحكم الآراء، وتناقض الرغبات. فذلك مثل مَن أشرك باللَّه وصرف العبادة والمحبة لغيره معه.

وقد أجادَ العلّامة القاسمي رحمه الله عندما عبّر عن هذا المثل فقال: (ضرب اللَّه مثلًا: أي للمشرك والموحد، رجلين مملوكين {رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ} أي سيئو

ص: 642

الأخلاق، يتجاذبونه ويتعاورونه في مهماتهم المختلفة، لا يزال متحيرًا متوزع القلب، لا يدري أيهم يرضى بخدمته، وعلى أيهم يعتمد في حاجته {وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ} أي: خلص ملكه له، لا يتجه إلا إلى جهته. ولا يسير إلا لخدمته، فَهَمُّهُ واحد، وقلبه مجتمع {هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا} أي: صفة وحالًا. أي في حسن الحال وراحة البال؟ كلا. وهكذا حال من يثبت آلهة شتى. لا يزال متحيرًا خائفًا لا يدري أيهم يعبد، وعلى ربوبية أيهم يعتمد. وحال من لم يعبد إلا إلهًا واحدًا. فَهمُّهُ واحد. ومقصده واحد. ناعم البال. خافض العيش والحال. والقصد أن توحيد المعبود فيه توحيد الوجهة ودرء الفرقة. كما قال تعالى حكاية عن يوسف عليه السلام:{أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} [يوسف: 12]) انتهى.

وقد قرأ قراء مكة والبصرة: {ورجلًا سالمًا} أي خالصًا لرجل. فعن مجاهد عن ابن عباس: (أنه قرأها سالمًا لرجل، يعني بالألف وقال: ليس فيه لأحد شيء). وهي قراءة مشهورة رويت كما ذكرنا عن ابن عباس وغيره.

وأما قراء المدينة والكوفة فقرؤوها (سَلَمًا) أي صلحًا وهي بمعنى خلوصًا. وقرأها سعيد بن جبير وعكرمة (سِلْمًا) أي ذو سِلْم. والقراءة الأولى والثانية أشهر وإن كانت قراءة أهل المدينة أكثر شهرة، واختارها أبو حاتم وقال:(وهذا الذي لا تنازع فيه).

وعن مجاهد في قوله: {رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا} قال: (هذا مثل إله الباطل وإله الحق). وعن قتادة قال: (هذا المشرك تتنازعه الشياطين لا يقَرّبه بعضهم لبعض {وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ} قال: هو المؤمن أخلص الدعوة والعبادة).

وعن ابن عباس قال: (الشركاء المتشاكسون: الرجل الذي يعبد آلهة شتى، كلّ قوم يعبدون إلها يرضونه ويكفرون بما سواه من الآلهة، فضرب اللَّه هذا المثل وضرب لنفسه مثلًا يقول: رجل سَلِمَ لرجل. يقول: يعبدون إلهًا واحدًا لا يختلفون فيه).

وعن السُّدي قال: (مثل لأوثانهم التي كانوا يعبدون).

وقوله: {هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا} . قال ابن جرير: (هل يستوي مثلُ هذا الذي يخدم جماعة شركاء سيئة أخلاقهم مختلفة فيه لخدمته مع منازعته شركاءه فيه، والذي يخدم واحدًا لا ينازعه فيه منازع إذا أطاعه عرف له موضع طاعته وأكرمه، وإذا أخطأ صفح له عن خطئه. يقول: فأي هذين أحسن حالًا وأروح جسمًا وأقل تعبًا ونصبًا).

وبنحوه ذكر القرطبي فقال: (هذا الذي يخدم جماعة شركاء، أخلاقهم مختلفة،

ص: 643

ونياتهم متباينة، لا يلقاه رجل إلا جزه واستخدمه، فهو يلقى منهم العناء والنصب والتعب العظيم، وهو مع ذلك كله لا يُرضي واحدًا منهم بخدمته، لكثرة الحقوق في رقبته، والذي يخدم واحدًا لا ينازعه فيه أحد. إذا أطاعه وحده عرف ذلك له، وإن أخطأ صفح عن خطئه، فأيهما أقل تعبًا، أو على هدى مستقيم). وقوله {مَثَلًا} صفة على التمييز، والمعنى هل تستوي صفتاهما وحالاهما. واقتصر في التمييز على الواحد لبيان الجنس واللَّه تعالى أعلم.

وقد ورد نحو هذا المثل في السنة الصحيحة، فشبه عليه السلام من امتثل طاعة اللَّه وحده بالعامل أخذ الأجر كله آخر يومه وبمن تجاذبته الأهواء والوجهات فترك العمل بمنتصف النهار دون أن يكمل ويأخذ أجره.

فقد أخرج الإمام البخاري في صحيحه عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [مثل المسلمين واليهود والنصارى، كمثل رجلٍ استأجر قومًا يعملون له عملًا إلى الليل، فعملوا إلى نصف النهار، فقالوا: لا حاجة لنا إلى أجرك الذي شرطت لنا وما عمِلنا لك، فقال لهم: لا تفعلوا، أكملوا بقية عملكم، وخذوا أجركم كاملًا، فأبوا وتركوه، فاستأجرَ أجراء بعدّهم، فقال: اعملوا بقية يومكم ولكم الذي شرطتُ لهم من الأجر، فعملوا، حتى إذا كان حين صلاة العصرِ قالوا: لك ما عمِلنا، ولكَ الأجرُ الذي جعلت لنا فيه، فقال: أكملوا بقية عملكم، فإنما بقي من النهار شيءٌ يسيرٌ، فأبوا، فاستأجر قومًا أن يعملوا له بقيةَ يومِهم، فعملوا بقية يومهم حتى غابت الشمس واستكملوا أجر الفريقين كليهما، فذلكَ مثلُهم، ومثلُ ما قبلوا من هذا النور](1).

وأما قوله: {رَجُلًا} فهو بدل من {مَثَلًا} منصوب مثله، أو هو منصوب بنزع الخافض والتقدير: ضرب اللَّه مثلًا برجل. وقوله: {مُتَشَاكِسُونَ} قال الفراء: أي مختلفون. وقال الرازي: (شُكْسٌ) بوزن (قُفْل) أي صَعْب الخُلُق، وفي قوله تعالى:{شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ} قال: أي مختلفون عَسِرو الأخلاق. وهو من شَكسَ يَشكُسُ شُكسًا فهو شَكِسٌ مثل عَسُرَ يَعْسُرُ عُسْرًا فهو عَسِرْ. قال الزمخشري: (والتشاكس والتشاخس الاختلاف).

(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (558) - كتاب مواقيت الصلاة - باب من أدرك ركعة من العصر قبل الغروب. وانظر كذلك الحديث (2271) - كتاب الإجارة.

ص: 644

وقوله: {الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} . قال ابن عباس: (يقول: مَنْ اختُلِفَ فيهِ خير أم من لم يُخْتَلَف فيه؟ ).

وقال ابن جرير: (بل أكثر هؤلاء المشركين باللَّه لا يعلمون أنهما لا يستويان فهم بجهلهم بذلكَ يعبدون آلهة شتى من دون اللَّه). وقال ابن كثير: (أي فلجهلهم يشركون باللَّه).

وغاية القول: أَنَّ هؤلاء بشركهم قد أعماهم اللَّه عن الحق أن يتبعوه، وعن نور الوحي أن يمشوا به، ما دام قد ظهر عليهم حب الكبر والظهور والرياء والعناد، فعاقبهم اللَّه بما انتكسوا وبما خضعوا لشهوات عقولهم ودنياهم، بأن أبقاهم في ورطة الشرك والضلال.

وقوله تعالى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (30) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ} .

قال الفرّاء: (الميّت بالتشديد من لم يمت وسيموت، والمَيْتُ بالتخفيف من فارقته الروح، فلذلكَ لم تخفف هنا).

وأنشد أبو عمرو:

وتسألني تفسير ميت وميّت

فدونكَ قد فسرت إن كنتَ تعقلُ

فمن كان ذا روع فذلكَ ميّتٌ

وما الميتُ إلا من إلى القبرِ يحملُ

وعن قتادة قال: (نُعِيَتْ إلى النبي صلى الله عليه وسلم نفسُه، ونُعِيت إليكم أنفُسكم).

قال القرطبي: (فاحتمل خمسة أوجه:

أحدها: أن يكون ذلكَ تحذيرًا من الآخرة.

الثاني: أن يذكره حثًا على العمل.

الثالث: أن يذكره توطئة للموت.

الرابع: لئلا يختلفوا في موتهِ كما اختلفت الأمم في غيره، حتى أن عمر رضي الله عنه لما أنكر موته احتج أبو بكر رضي الله عنه بهذه الآية فأمسك.

الخامس: ليعلمه أن اللَّه تعالى قد سوّى فيه بين خلقه مع تفاضلهم في غيره، لتكثر فيه السلوة وتقل فيه الحسرة).

وقال الشوكاني: (ووجه هذا الإخبار الإعلام للصحابة بأنه يموت. فقد كانَ بعضهم

ص: 645

يعتقد أنه لا يموت مع كونه توطئة وتمهيدًا لما بعده حيث قال: {ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ} ).

وهناك من قرأها: "مائت ومائتون"، ولكن قراءة الجمهور أشهر {مَيِّتٌ} و {مَيِّتُونَ}. وأما الاختصام ففي معناه أقوال:

الأول: قال ابن عباس: {ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ} قال: يقول: يخاصم الصادق الكاذب، والمظلوم الظالم، والمهتدي الضال، والضعيف المستكبر). وقال أبو العالية:(نزلت في أهل القبلة وذلكَ في الدماء والمظالم التي بينهم).

الثاني: عن ابن زيد: (أهل الإسلام وأهل الكفر).

الثالث: قيل: بل هو اختصام أهل الإسلام. ففي الأثر عن ابن عمر قال: (لقد عشنا برهة من دهرنا ونحن نرى هذه الآية نزلت فينا وفي أهل الكتابين {ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ} فقلنا: وكيف نختصم ونبينا واحد وديننا واحد، حتى رأيتُ بعضنا يضرب وجوه بعض بالسيف، فعرفت أنها فينا نزلت).

وبنحوه أُثِرَ عن أبي سعيد الخدري قوله: (كنا نقول ربنا واحد، وديننا واحد، ونبينا واحد، فمَا هذه الخصومة؟ فلما كان يومُ صِفّين وشدّ بعضنا على بعض بالسيوف قلنا نعم هو هذا).

وعن إبراهيم النَّخعي: (لما نزلت هذه الآية جعل أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقولون: ما خصومتنا بيننا؟ فلما قتل عثمان رضي الله عنه قالوا: هذه خصومتنا بيننا).

الرابع: قيل المعنى تربص الكفار بموت النبي صلى الله عليه وسلم. قال النسفي: (كانوا يتربصون برسول اللَّه صلى الله عليه وسلم موته فأخبر أن الموت يعمهم فلا معنى للتربص وشماتة الفاني بالفاني، قال: فتَحْتَجّ أنت عليهم بأنك بلغت فكذبوا واجتهدت في الدعوة فلّجوا في العناد).

قلت: والراجح عندي أن الآية عامة فلا حاجة لكم أيها المشركون أن تنتظروا موت محمد لتشعروا كما يخيّل إليكم بالأمن فإن الأمن هو الحق ودولته وما سوى ذلكَ فهو الخطر والقلق والخوف، فإنكم ماضون جميعًا عن هذه الحياة خارجون منها وإنما يبقى الحق ويبقى الإسلام، ثم تردون إلى عالم الغيبِ والشهادةِ فَيُبَيِّنُ لكم الفصل في ما كنتم تختلفون، ويكشف أمام خلقه سوء النية والمكر الذي كنتم تُبَيِّتُون، وفي ذلكَ اليوم

ص: 646

يُقتصّ للمظلوم من ظالمهِ، وللمغدور من غادره، وللصادق من كاذبه، وللعالمِ من خائنه وواضع حقه.

كما قال جل ثناؤه: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} [الأنبياء: 47].

وقد أخرج الإمام البخاري في صحيحه عن أبي هريرة، أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال:[من كانت عنده مَظْلَمةٌ لأخيه من عرضه (1) أو ماله، فليؤدها إليه، قبل أن يأتي يوم القيامةِ لا يقبل فيهِ دينار ولا درهم، إن كان له عمل صالح أخذ منه وأعطي صاحبهُ، وإن لم يكن له عمل صالح، أخذ من سيئات صاحبه فحملت عليه](2).

وأخرج الإمام مسلم في صحيحه عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[أتدرون ما المفلس؟ قالوا: المفلس فينا من لا دراهم له ولا متاع، فقال: إن المفلس من أمتي يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي قد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيعطى هذا من حسناته وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناتهُ قبل أن يمضى ما عليهِ أُخذ من خطاياهم فطرحت عليهِ، ثم طرح في النار](3).

وفي صحيح الحاكم والسياق له -وكذا رواه أحمد وابن ماجة- عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [من مات وعليه دين، فليس ثئم دينار ولا درهم، ولكنها الحسنات والسيئات](4).

وأخرج الترمذي بسند حسن عن الزبير قال: [لما نزلت: {ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ} قال الزبير: يا رسول اللَّه، أتكرر علينا الخصومة بعد الذي كان بيننا في الدنيا؟ قال: نعم. فقال: إن الأمر إذن لشديد](5).

(1) العِرْضُ: موضع المدح والذم من الإنسان.

(2)

حديث صحيح. أخرجه البخاري في صحيحه (6534) - كتاب الرقاق. وانظر كذلك (2449).

(3)

حديث صحيح. أخرجه مسلم في صحيحه (2581) - كتاب البر والصلة. باب تحريم الظلم.

(4)

حديث صحيح. أخرجه الحاكم (2/ 27)، وابن ماجة، وأحمد (2/ 70 - 82)، وسنده صحيح.

(5)

حسن الإسناد. أخرجه الترمذي في التفسير. انظر صحيح سنن الترمذي -حديث رقم- (2583).

ص: 647

وقوله تعالى: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ} .

أي: فلا أحد أعظم جرمًا ممن كذَبَ على اللَّه وافترى عليهِ الكذب فنسب لهُ الولد ونسب لهُ البنات على أنهم الملائكةُ ونسبوا له شركاء الجن وخلقهم، فاللَّهُ جل ثناؤه تعالى أن يكونَ لهُ ولد أو صاحبة أو شريك فهو الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن لهُ كفوًا أحد.

وعن قتادة: ({وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ}: أي بالقرآن). وقال النسفي: ({إِذْ جَاءَهُ}: فاجأهُ بالتكذيب لما سمع به من غير وقفة لإعمال روية أو اهتمام بتمييز بين حق وباطل كما يفعل أهل النصفة فيما يسمعون).

وقوله: {أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ} هو استفهام إثبات وتقرير. {مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ} أي مقام للجاحدين والمعاندين. وهو مشتق من ثوى يثوي ثواءً وثُوِيًا. يقال: ثوى فلان بالمكان إذا أقام به. فإن جهنم دار إقامة للمكذبين المستكبرين.

وقوله: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ} فيه أقوال:

الأول: عن ابن عباس: (يقول: من جاء بلا إله إلا اللَّه {وَصَدَّقَ بِهِ} يعني: رسوله).

الثاني: قيل المقصود النبيّ وأبو بكر. فعن أسيد بن صفوان عن عليّ رضي الله عنه: (في قوله: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ} قال: محمد صلى الله عليه وسلم {وَصَدَّقَ بِهِ} قال: أبو بكر رضي الله عنه.

الثالث: قيل المقصود النبي وعليّ. قال مجاهد: (النبي عليه السلام وعلي رضي الله عنه.

الرابع: قيل المقصود جبريل ومحمد عليه السلام. فعن السُّدي قال: (الذي جاء بالصدق جبريل عليه السلام، والذي صدق به محمد صلى الله عليه وسلم).

الخامس: قيل بل المراد النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنون. قال قتادة: (هذا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم جاء بالقرآن وصدّق به المؤمنون).

السادس: المؤمنون يجيئون بالقرآن يوم القيامة. فعن النخعي ومجاهد قال: (المؤمنون الذين يجيئون بالقرآن يوم القيامة فيقولون: هذا الذي أعطيتمونا قد اتبعنا

ص: 648

ما فيه). وفي رواية عن مجاهد قال: (هم أهل القرآن يجيئون به يوم القيامة يقولون: هذا الذي أعطيتمونا، فاتبعنا ما فيه).

قلت: والآيةُ بإعجازها تشمل كل ما ذكر، فمن جاء بالصدق يتضمن جبريل عليه السلام وهذا النبي الكريم عليه أتم الصلاة والتسليم، وصحابته المؤمنين. ومن صدق به فهم كل من قام بهذا الأمر من لدن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى يوم القيامة، فهو يشمل كل من دعا إلى (لا إله إلا اللَّه) والقيام بلوازمها والحكم بمقتضاها وكل من حمل الأمانة بصدق وقام بالقرآن بأمانة وعلم إلى يوم يرث اللَّه الأرض ومن عليها.

وقوله: {أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} . قال ابن عباس: (يقول: اتقوا الشرك). والتقوى من أجَلِّ الرغائب وهي طريق النجاة يوم القيامة والفوز بالنعيم ورغد العيش كما قال سبحانهُ في الآية التي بعدها:

قوله تعالى: {لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ} . قيل: الثناء في الدنيا والنعيم في الآخرة. كما قال جل ثناؤه في سورة "ق": {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ (31) هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ (32) مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ (33) ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ (34) لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} [ق: 31 - 35].

وفي الصحيحين والمسند عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [قال اللَّهُ تعالى: أعددتُ لعبادي الصالحين ما لا عينٌ رأتْ، ولا أذنٌ سمعت، ولا خَطَرَ على قلب بشر](1).

وقوله تعالى: {لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ} . هو كقوله جلّ ثناؤه في سورة الأحقاف: {أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ} [الأحقاف: 16].

قال ابن جرير: (يقول تعالى ذكره: وجزى هؤلاء المحسنين ربهم بإحسانهم كيْ يكفر عنهم أسوأ الذي عملوا في الدنيا من الأعمال فيما بينهم وبين ربهم بما كان منهم فيها من توبة وإنابة مما اجترحوا من السيئات فيها {وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ} ويثيبهم ثوابهم {بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ} في الدنيا {يَعْمَلُونَ} مما يرضي اللَّه عنهم دون أسوئها).

(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (3244)، ومسلم (2824)، ورواه أحمد، وغيرهم.

ص: 649

وقال القرطبي: ({لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا}: أي يكرمهم ولا يؤاخذهم بما عملوا قبل الإسلام).

وجملة المعنى: أنَّ المؤمن حياته كلها خير، إن كان عنده سيئات فمدّ اللَّهُ له في العمر استغفر واستعتب منها وأكثر من الأعمال الصالحات، فبارك اللَّه له في حياته ورفع له في الجنة درجاته باحسن أعماله في الدنيا، فإن من الأعمال أعمالًا لا يعلم وزنها وقيمتها إلا اللَّه، فليكثر المؤمن من الأعمال العالية التي لا ينالها كثير من الناس عسى اللَّه أن يرفعه بها إلى حيث لا يحتسب ويتجاوز بها عن بعض الزلات والعيوب والسيئات. فقد خرّج الإمام مسلم في صحيحه عن عروة بن الزبير أن حكيم بن حزام أخبره:[أنه قال لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: أرأيتَ أمورًا كنت أتحنَّث (1) بها في الجاهلية من صدقة أو عتاقة أو صلةِ رحم، أفيها أجر؟ فقال له رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: أسلمت على ما أَسْلفْتَ من خير](2).

ولهذا كان من غير الجائز أن يتمنى المسلم الموت لمرض أو حزن أو أصابه فإنه لا يدري في أي حياتهِ وأيامهِ يكون له الخير. فقد روى الحاكم ووافقه الذهبي عن أم الفضل رضي الله عنها: [أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم دخل عليهم وعباس عم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يشتكي، فتمنى عباس الموت، فقال له رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: يا عم! لا تتمنَّ الموت، فإنكَ إن كنتَ مُحسنًا، فأن تؤخر تزداد إحسانًا إلى إحسانكَ خير لك، وإن كنتَ مسيئًا فأن تؤخر فتستعتب من إساءتك خير لك، فلا تتمن الموت](3).

وقوله تعالى: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} .

قال السدي: ({أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ} يقول: محمد صلى الله عليه وسلم). وقال ابن زيد: (بلى واللَّه ليكفينه اللَّه ويعزه وينصره كما وعده). وقال القاسمي: (أي نبيّه صلى الله عليه وسلم أن يعصمه من كل سوء ويدفع عنه كل بلاء في مواطن الخوف). وقال الجرجاني: (إن اللَّه كافٍ عبده المؤمن وعبده الكافر هذا بالثواب وهذا بالعقاب).

وفي قراءة قراء بعض أهل المدينة والكوفة: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ} أي محمدًا

(1) أي أتعبّد.

(2)

حديث صحيح. أخرجه مسلم في صحيحه (123)، كتاب الإيمان، ح (194)، (195).

(3)

حديث صحيح. أخرجه الحاكم (1/ 339)، وسنده على شرط الإمام البخاري.

ص: 650

وأنبياءه من قبله ما خوفتهم أممهم من أن تنالهم آلهتهم بسوء. في حين قرأها قراء البصرة وعامة قراء المدينة {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ} أي محمدًا. وكلاهما مشهور.

وعن قتادة: ({وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ}: قال: الآلهة. قال: بعث رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد إلى شعب بِسُقام (1) ليكسر العزى فقال سادنها وهو قَيِّمُها: يا خالد أنا أحذّركها، إن لها شدّة لا يقوم إليها شيء. فمَشى إليها خالد بالفأسِ فَهَشَّمَ أنفها).

وعن السُّدي: {وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ} : يقول بآلهتهم التي كانوا يعبدون.

وهذه الآية تسلية من اللَّه لنبيّه عليه الصلاة والسلام مما يلقاه من المكذبين كما لقي الأنبياء قبله من أقوامهم. فهود عليه السلام قال له قومه: {إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ} [هود: 54]. فجاءت هذه الآية تثبيتًا من اللَّه وحثًا لنبيهِ علي متابعة الطريق كما قال له في سورة المائدة: {يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} [المائدة: 67]. وهي لمن بعدهُ منهج وطريق، فإن من أخبت للَّه وحقّق لهُ كامل العبادةِ فليهنأ بحماية اللَّه وبكفايتهِ له كما قال سبحانه في سورة الحج:{إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ} [الحج: 38]. وكما قال فى سورة الطلاق: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} [الطلاق: 2 - 3].

وفي المسند للإمام أحمد بسند صحيح عن عقبة بن عامر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[إن اللَّه يقول: يا ابنَ آدم! اكفني أولَّ النهار أربعَ ركعاتِ أكفِكَ بهن آخرَ يومكَ](2).

وفيه أيضًا عن أبي هريرةَ قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: [إن اللَّه تعالى يقول: يا ابنَ آدم تفرَّغْ لعبادتي أملأ صدركَ غنى وأسُدَّ فقركَ، وإن لا تفعل ملأتُ يديكَ شغلًا ولم أسدَّ فقركَ](3). ورواهُ الترمذي وابن ماجة والحاكم.

وكذلكَ فقد أخرج الطبراني في "الكبير"، والحاكم بسند صحيح عن فضالة بن عبيد

(1) هو واد بالحجاز حمته قريش للعزى يضاهئون به حرم الكعبة.

(2)

حديث صحيح. أخرجه أحمد من حديث عقبة بن عامر. انظر صحيح الجامع (1909).

(3)

حديث صحيح. أخرجه أحمد (2/ 358)، والترمذي (3/ 308)، وابن ماجة (2/ 525)، ورواه ابن حبان في "صحيحه" -حديث رقم- (2477).

ص: 651

الأنصاري، أنه سمعَ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول:[أفلح من هُدِيَ إلى الإسلام، وكان عيشهُ كفافًا وقنع به](1).

وبنحوهِ في المسند وجامع الترمذي عن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[لو أنكم تتوكلون على اللَّه تعالى حقّ توكله لرزقكم كما يرزق الطيرَ، تغدو خِماصًا، وتروحُ بِطانًا](2).

فإذا كفى اللَّهُ عبده المؤمن فلا طاقة لأحد في إقلاقه، وإذا تولى اللَّهُ عبدًا فلا سبيل لأحدٍ إلى إيذائهِ.

وقوله تعالى: {وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (36) وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقَامٍ} .

أي: من أعمى اللَّه على قلبهِ وبصيرتهِ -عدلًا منه سبحانه نتيجةَ تماديه- فلا سبيل إلى هدايتهِ، وهذا شأن من لم يعرف تولي اللَّه وكفايته لهذا النبي الكريم فيخوفونه بمخلوقات وأحجار لاتضر ولا تنفعُ سائلها، وكذلكَ فإن من كتب اللَّه له الهداية -لعلمه سبحانهُ بحرصه عليها وخوفه من مغبةِ التفريط فيها- فإنه لا سبيل لأحد إلى غوايتهِ ما دام هو في حماية اللَّه جل ثناؤه {أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقَامٍ}. قال الحافظ ابن كثير:(أي منيع الجناب لا يضامُ من استند إلى جانبهِ، فإنه العزيز الذي لا أعزَّ منه، والمنتقمُ ولا أشد انتقامًا منه ممن كفر به وأشرك وعاند رسوله صلى الله عليه وسلم).

وقوله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ} .

هذا الاعتراف قد ذكر في أكثر من موضع، فقال جلّ ذكره في سورة العنكبوت:{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} [العنكبوت: 61]. وقال في سورة الزخرف: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} [الزخرف: 87]، فإذا كنتم تقرون بأنه الخالق فلم تخضعون لغيره، وإذا كنتم تقرون بأنه الرازق فلم تسألون حجرًا أو قبرًا أو صالحًا مضى لا يملكُ لنفسه ضرًّا

(1) حديث صحيح. أخرجه الحاكم (4/ 122)، والترمذي (2349)، وأحمد (6/ 19). وأخرجه الطبراني في "المعجم الكبير"، وله شواهد.

(2)

أخرجه الترمذي في السنن (2344). انظر صحيح سنن الترمذي (1911)، ورواه أحمد.

ص: 652

ولا نفعًا ولا حياةً ولا نشورًا. وإذا كنتم تقرون بأنه المحيي والمميت فلم تلتمسون الشفاعة من غيره، أفإن أصابني اللَّه بشدة وضنك في معيشتي هل هن قادرات على كشف الضر عني وتخليصي مما أصابني، ولئن أرادني الرحمان برحمة وسعة في العيش ورغد في العافية وبسط في المال والرزق، ورخاء وغبطة وسرور، هل هن ممسكات عني ما أراد أن يصيبني به من تلك العافية والرحمة وذلكَ الخير. قال مقاتل:(فسألهم النبي صلى الله عليه وسلم فسكتوا).

قال ابن جرير: (وترك الجواب لاستغناء السامع بمعرفة ذلك، والمعنى فإنهم سيقولون لا).

وهي في قراءة أهل البصرة والمدينة: {كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ} ، {مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ} . وأما قراءة نافع وابن كثير وأهل الكوفة فهي {كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ} ، {مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ} . وكلاهما مشهور بين القراء.

وقوله: {قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ} . هو كقوله في سورة الطلاق: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ} [الطلاق: 3].

وفي المسند للإمام أحمد وفي جامع الترمذي ومعجم الطبراني عن ابن عباس مرفوعًا: [يا غلام! إني أعلمك كلمات، احفظ اللَّه يحفظك، احفظِ اللَّه تجدهُ تجاهَكَ، إذا سألتَ فاسأل اللَّه، وإذا استعنتَ فاستعن باللَّه، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوكَ بشيء، لم ينفعوكَ إلا بشيء قد كتبه اللَّه لكَ، ولو اجتمعوا على أن يضروكَ بشيءٍ لم يضروكَ إلا بشيءٍ قد كتبهُ اللَّه عليكَ، جفّت الأقلامُ ورفعت الصحف](1).

وقوله تعالى: {قُلْ يَاقَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (39) مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ} .

قال مجاهد: (قوله: {عَلَى مَكَانَتِكُمْ} قال: على ناحيتكم). وقال ابن جرير: (قل يا محمد لمشركي قومك الذين اتخذوا الأوثان والأصنام آلهة يعبدونها من دون اللَّه، اعملوا أيها القومُ على تمكنكم من العمل الذي تعملون ومنازلكم، {إِنِّي عَامِلٌ} كذلك على تؤدة، على عمل من سلف من أنبياء اللَّه قبلي {فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} إذا جاءكم بأس اللَّه مَن المحق منا من المبطل والرشيد من الغويّ). وقال القاسمي:

(1) حديث صحيح. أخرجه أحمد، والترمذي (2516). انظر صحيح سنن الترمذي (2043).

ص: 653

({قُلْ يَاقَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ}: أي حالتكم التي أنتم عليها، من العداوة ومناصبة الحق). وقال الشوكاني: (أي على حالتكم التي أنتم عليها وتَمَكَّنْتُم منها {إِنِّي عَامِلٌ} على حالتي التي أنا عليها وتمكنت منها. {فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (39) مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ} قال: أي يهينه ويذله في الدنيا، فيظهر عند ذلكَ أنه المبطل وخصمه المحق، والمراد بهذا العذاب عذاب الدنيا وما حلَّ بهم من القتل والأسر والقهر والذلة. ثم ذكر عذاب الآخرة فقال:{وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ} أي دائم مستمر في الدار الآخرة وهو عذاب النار).

قلت: وغاية المعنى أَنَّ ذلكَ تهديدٌ من اللَّه لهم على تماديهم في الكذب والعناد واتباع ملة الآباء، والتعامي عن الوحي ونور القرآن، واتخاذ الأصنام والأوثان بدعوى الشفاعة ولا برهان، فاعملوا على طريقتكم -أيها القوم- التي ارتضيتم، ومنهجيتكم التي إليها تحاكمتم، فإني سامضي على طريقتي ومنهجي، وستعلمون وبال ذلكَ حين تعاينون عذاب الدنيا وجحيم الآخرة، وقد صدق اللَّه العظيم، فأذاقهم الذل يوم بدر ودُقّت أعناقهم ونكست رؤوسهم، وأهانهم بالجوع والسيف ثم هم في الآخرة من المقبوحين.

وقد خرّج الإمام البخاري في صحيحه عن عبد اللَّه قال: [بينا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ساجد (وفي رواية: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي عند البيت) وأبوِ جهل وأصحابٌ له جلوس إذ قال بعضهم لبعض: أيُّكم يجيءُ بِسَلَى جَزور بني فلان فيَضَعُهُ على ظهر محمد إذا سجد؟ فانبعث أشقى القوم فجاء به فنظر حتى سجد النبي صلى الله عليه وسلم وضعه على ظهره بين كتفيه، وأنا أنظر لا أُغني شيئًا لو كان لي مَنَعَةٌ، قال: فجعلوا يضحكون ويُحيلُ بعضُهم على بعض ورسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ساجد لا يرفع رأسه حتى جاءته فاطمة فطرحت عن ظهره، فرفع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم رأسهُ ثم قال: اللهم عليكَ بقريش ثلاث مرات، فشَقَّ عليهم إذ دعا عليهم. قال: وكانوا يَرَوْن أنَّ الدعوة في ذلك البلد مستجابة، ثم سمّى: اللهم عليكَ بأبي جهل وعليك بعُتْبةَ بنِ ربيعةَ وشيبةَ بن ربيعة والوليدِ بن عتبة، وأميةَ بن خلف وعقبة بن أبي مُعَيْط وعدَّ السابع فلم يَحفَظْ قال: فوالذي نفسي بيدهِ لقد رأيتُ الذين عدَّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم صرعى في القليب قليب بدر](1).

(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (240) - كتاب الوضوء. وانظر كذلك الأحاديث (520)، (2934)، (3185)، (3854)، (3960) - لتفصيل الروايات.

ص: 654

وقد فُصّل هذا الموقف في مسند الإمامِ أحمد يرويه عن عائشة قالت: [أمَرَ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بالقَتْلى أنْ يُطْرَحوا في القليب فطُرحوا فيه إلا ما كانَ من أميةَ بن خلف فإنه انتفخَ في درْعِه فملأها فذهبوا يُحَرِّكوه فتزايل فأقرّوه وألقوا عليه ما غيَّبَهُ منَ التُّراب والحجارة، فلما ألقاهم في القليب وقف عليهم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فقال يا أهل القليب! هل وجدتم ما وعدَ ربُّكم حقًا فإني قد وَجدْتُ ما وعدني ربي حقًا. فقال له أصحابهُ: يا رسول اللَّه أتكلم قومًا موتى! فقال لهم: لقد عَلِموا أن ما وَعدْتُهُمْ حق](1).

ثم يوم القيامة يخزيهم ويذيقهم أشد العذاب وهم يصطرخون في نار جهنم ربنا أخرجنا نعمل صالحًا غير الذي كنا نعمل، ولكن هيهات فلقد حقت كلمة العذاب على الكافرين.

41 -

52. قوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (41) اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (42) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ (43) قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (44) وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (45) قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (46) وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ (47) وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (48) فَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا

(1) حديث صحيح. انظر مسند أحمد (1/ 26)، (3/ 104 - 182)، وصحيح مسلم (2873).

ص: 655

يَعْلَمُونَ (49) قَدْ قَالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (50) فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هَؤُلَاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ (51) أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52)}.

في هذه الآيات: يوجه اللَّه سبحانهُ خطابه إلى نبيّه عليه السلام: هذا القرآن قد أنزلناهُ عليك لتنذر به جميع الخلق إنْسَهم وجنّهم ولتعرفهم سبيل النجاة ومعنى الأمن في الدنيا والآخرة، فمن رضي بطريق الوحي واهتدى لطريقِ السعادة فإنما يعود بالنفع على نفسهِ، ومن أصر على الضلال، وطريقِ الغي والشهوات فإنما عليهِ الوبال، وما أنت يا محمد بموكل عليهم حتى يهتدوا إنما أنتَ نذير، فاللَّه هو سبحانه يملك قلوبهم وأرواحهم، فإن الأنفس التي كتب عليها مُفارقة الحياة فتخرجُ منها أرواحها وتفارق أبدانها وتُبطل تصرفاتها بالكلية، وأما تلك التي لم يحن موتها فتقبض عند النوم ويبطل تصرفها بالحواس الظاهرة، ثم يعيدها إلى أن يأتي أجلها وينقضي عمر صاحبها فإذا خرجت عندئذ فلا تعود، إنَّ في ذلكَ لذكرى واعتبارًا، فكذلك الإيمان والضلال، يثبت الإيمان ويتزحزح أو يتغير أو يموت كلّ ذلكَ بعلم اللَّه كالآجال، ويا ويلهم إذ لم يعتبروا يوم اتخذوا الشفعاء على صورة الأصنام، يظنون الصلة عبر الحجارة إلى خالق الأنام، وهي جمادات ومخلوقات وأوثان، لا تملك كشف الضر عنهم ولا تحويلًا، فاللَّهُ هو المتصرف وحده، وإليهِ يرجعُ الأمر كله، ويا ويلهم تنقبض قلوبهم إذا ذكر اللَّه وحده، وتشمئز نفوسهم إذا أفرد بالتعظيم لا شريك له، وإذا ذكرت آلهتهم تهللت وجوههم، واستبشرت قلوبهم، بل اللَّه فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة سيحكم بينهم، ويوم القيامةِ يتمنى المشركون أن يفتدوا من العذاب بأموال الدنيا وزينتها، وبأضعاف ذلكَ من بهجتها وعرضها، حين يبصرون ما لا يتوقعون من أهوالها، ويعاينون سوء ما اجترحوا من آثامها، فهذا شأن الإنسان يلجأ إلى اللَّه عند المصيبة، ويجأر إليهِ عند الشدةِ، أما في الرخاء فيستسلم لغواية الشيطان فينسب العلم لنفسه من دون الرحمان، وبأنه هو صانعُ القرار والخير ومدبر الأمر بإتقان، فقد ضلت بذلكَ من قبلهم أمم على مر الزمان، ونالوا نكالَ الغرور الذي أصابهم على مر الأيام، وهذا مصير هؤلاء المشركين اليوم الخائضين في متاهات الكبر والعجب وحالك الظلام، فاللَّهُ

ص: 656

هو الذي يقسم الرزق والخير وهو مدبرُ الأمر لو كانوا يدركونَ ويوقنون شأن أهل الإيمان. فإلى تفصيل ذلك:

قوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ} . يشبه آية البقرة: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ} [البقرة: 176]. ويشبه آية فاطر: {وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ} [فاطر: 31]. فإن القرآن هو الحق نزل لينقذ الناس من ظلمات الهوى وتدلي الشهوات ليرفعهم اللَّه به في طريق الطاعات، وإشباع الغرائز بالسبل المشروعات المأجورات، لا في طرق الشياطين الساقطات، فمن اختار الهدى فقد نفع نفسه وعمل لسعادة مستقبله ومن اختار الضلال فقد ضر نفسه وأسهم في شقائها يوم القيامةِ. وما أنت عليهم يا محمد بوكيل فما كان لك أن تجبرهم على الهدى فإنما عليكَ البلاغ واللَّهُ يتولى القلوب.

فقد أخرج ابن ماجة في السنن عن النواس بن سمعان قال: سمعتُ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: [ما من قلب إلا بين إِصْبَعين من أصابع الرحمان إن شاء أقامهُ وإن شاء أزاغه. وكان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: يا مثبت القلوب ثبت قلوبنا على دينكَ. قال: والميزانُ بيد الرحمان يَرْفَعُ أقوامًا ويَخْفِضُ آخرين إلى يوم القيامة](1).

ورواه أحمد ولفظه: [ما من قلبٍ إلا وهو بين أُصْبُعَين من أصابع رب العالمين إن شاء أن يقيمه أقامهُ وإن شاء أن يُزيغهُ أزاغه. وكان يقول: يا مقلب القلوب ثبِّتْ قلوبنا على دينك، والميزانُ بيدِ الرحمان عز وجل يخفضُهُ ويَرْفَعُه].

ثم روى نحوه من طريق عائشة قالت: [دعواتٌ كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يُكثِرُ أن يَدْعُوَ بها: يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك. قالت: فقلت يا رسول اللَّه إنك تكثر تدعو بهذا الدعاء فقال: إن قلب الآدمي بين أصبُعين من أصابع اللَّه عز وجل فإذا شاء أزاغهُ وإذا شاء أقامهُ].

ثم ذكر رواية جامعة من طريق أم سلمة: أتُحدِّثُ أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، كان يكثر في دعائه أن يقول: اللهم مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك. قالت: قلت: يا رسول اللَّه!

(1) حديث صحيح. أخرجه ابن ماجة (199)، وأحمد (4/ 182)، بسند صحيح. وانظر للروايات الأخرى مسند أحمد (2/ 168)، (6/ 315)، وجامع الترمذي (2/ 267)، وصحيح ابن حبان (2419)، ومستدرك الحاكم (4/ 321).

ص: 657

أو إن القلوب لتتقلب؟ قال: نعم. ما خلق اللَّه من بني آدم من بشر إلا أن قلبه بين أُصبَعين من أصابع اللَّه، فإن شاء اللَّه عز وجل أقامه وإن شاء اللَّه أزاغه، فنسأل اللَّه ربنا ألا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا، ونسألهُ أن يهب لنا من لدنه رحمة إنه هو الوهاب. قالت: قلت يا رسول اللَّه! ألا تعلمني دعوة أدعو بها لنفسي؟ قال: بلى قولي: اللهم رب محمد النبي اغفر لي ذنبي وأذهب غيظ قلبي وأجرني من مُضِلاتِ الفتن ما أحييتنا].

وقوله: {وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ} . هو كقوله: {فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ} [الرعد: 40]. أي فما جعلنا أمر القلوب بيدك تدخل الإيمان إليها إذا شئت، بل ذلكَ من أمر اللَّه لا يشاركه فيه أحد.

وقوله تعالى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} .

أما قوله: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا} أي يقبضها عند فناءِ آجالها واستيفاءِ أعمارها. قال الشوكاني: (أي يقبضها عند حضور أجلها ويخرجها من الأبدان). وأما صفة القبض فهي كما قال سبحانهُ في سورة الواقعة: {فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83) وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (84) وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ (85) فَلَوْلَا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (86) تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الواقعة: 83 - 87].

وكما روى الإمام مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: [إذا خرجت روحُ العبد المؤمن تلقاها ملكان يصعدان بها -فذكر من ريح طيبها- ويقول أهل السماء: روح طيبة، جاءت من قبلِ الأرض، صلى اللَّه عليك، وعلى جسدٍ كنتِ تعمرينهُ، فينطلقُ به إلى ربه، ثم يقول: انطلقوا به إلى آخر الأجل، وإن الكافر إذا خرجت روحُه -فذكر من نتنها- ويقول أهل السماء: روحٌ خبيثة جاءت مِنْ قِبلِ الأرض، فيقالُ: انطلقوا بهِ إلى آخرِ الأجل](1).

وفي مسند أحمد بسند حسن عن شداد بن أوس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [إذا حضرتم مَوْتاكم فأغمضوا البَصَرَ، فإن البصر يتبع الروح، وقولوا خيرًا، فإن الملائكةَ تُؤَمِّنْ على ما يقول أهل البيت] ورواهُ ابن ماجه والحاكم (2).

وكذلكَ أخرج النسائي والحاكم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [إذا حُضِرَ

(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم (2872) - كتاب الجنة ونعيمها.

(2)

حديث حسن. أخرجه أحمد (4/ 125)، وابن ماجه (1/ 444)، والحاكم (1/ 352).

ص: 658

المؤمن، أتته ملائكةُ الرحمةِ بحريرة بيضاء، فيقولون: اخرجي راضيةً مرضيًّا عنكِ، إلى روح وريحانٍ، وربٍّ غير غضبانَ، فيخرج كأطيب ريح المسك، حتى إنه ليناولهُ بعضهم بعضًا، حتى يأتوا به باب السماء، فيقولون: ما أطيبَ هذا الريح التي جاءتكم من الأرض! فيأتونَ به أرواح المؤمنين، فلهم أشدُّ فرحًا به من أحدكم بغائبه يقدُم عليه، فيسألونه: ماذا فعل فلان؟ ماذا فعل فلان؟ فيقولون: دعوهُ فإنّه كان في غم الدنيا، فإذا قال: أما أتاكم؟ قالوا: ذُهِبَ بهِ إلى أمِّهِ الهاويةِ، وإن الكافرَ إذا حُضِرَ أتَته ملائكة العذابِ بِمِسحٍ، فيقولون: اخرُجي ساخطةً مسخوطًا عليكِ، إلى عذاب اللَّه، فيخرجُ كأنتنِ ريحٍ جيفة، حتى يأتُوا بِها باب الأرض، فيقولون ما أنتنَ هذهِ الريح؟ حتى يأتوا بها أرواحَ الكفَّار] (1).

وأما قوله: {وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} ففيه أكثر من تأويل:

التأويل الأول: قيل يقبضها عن التصرف والتمييز مع بقاء الأرواح في أجسادها.

قال الزجاج: (لكل إنسان نفسان: أحدهما نفس التمييز وهي التي تفارقهُ إذا نامَ فلا يعقل، والأخرى نفس الحياة إذا زالت زال معها النفس والنائم يتنفس). وقال الفراء: (المعنى ويقبض التي لم تمت عند انقضاء أجلها. قال: وقد يكون توفيها نومها، فيكون التقدير على هذا: والتي لم تمت وفاتها نومها). قال ابن زيد (فالنومُ وفاة).

وقال القاسمي رحمه الله: ({اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا} أي مفارقتها لأبدانها، بإبطال تصرفها فيها بالكلية، {وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا} أي ويتوفى التي لم يحن موتها في منامها، بإبطال تصرفها بالحواس الظاهرة {فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ} أي فلا يردها إلى بدنها إلى يوم القيامة {وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} أي: هو نوم آخر أو موت {إِنَّ فِي ذَلِكَ} أي فيما ذكر من التوفي على الوجهين {لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} أي في كيفيةِ تعلقها بالأبدان وتوفيها عنها).

التأويل الثاني: قيل المعنى: أرواح الأحياء والأموات تلتقي في المنام فتتعارف.

فعن سعيد بن جبير قال: (إن اللَّه يقبض أرواح الأموات إذا ماتوا، وأرواح الأحياء إذا ناموا، فتتعارف ما شاء اللَّه أن تتعارف. قال: يجمعُ بين أرواحِ الأحياء وأرواحِ

(1) حديث صحيح. انظر صحيح سنن النسائي (1729) ص (395). ورواه الحاكم.

ص: 659

الأموات فيتعارف منها ما شاء اللَّه أن يتعارف فيمسك التي قضى عليها الموت ويُرسل الأخرى إلى أجسادها).

وعن السدي قال: (تُقْبَضُ الأرواح عند نيام النائم فتقبضُ روحه في منامهِ، فتلقى الأرواح بعضها بعضًا أرواح الموتى وأرواح النيام، فتلتقي فتتساءل. قال: فيخلى عن أرواح الأحياء فترجع إلى أجسادها وتريد الأخرى أن ترجعَ فَيَحْبِس التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى، قال إلى بقية آجالها). قال ابن عباس: (يمسك أنفس الأموات ويرسل أنفس الأحياء).

وقد ذكر هذا المعنى الحافظ ابن كثير في التفسير حيث قال: (فيه دلالة على أنها تجتمع في الملأ الأعلى، كما في الصحيحين عن أبي هريرة قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: [إذا آوى أحدكم إلى فراشهِ فلينفضه بداخلة إزاره فإنه لا يدري ما خلفه عليه ثم ليقل: باسمك ربي وضعت جنبي وبك أرفعهُ، إن أمسكتَ نفسي فارحمها، وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادكَ الصالحين]).

التأويل الثالث: قيل المرادُ التمييز بينَ النفس والروح.

فقد رُوي عن ابن عباس قوله: (في ابن آدم نفس وروح بينهما شعاع مثل شعاع الشمس، فالنفس هي التي بها العقل والتمييز، والروح هي التي بها النفس والتحرك، فإذا نام العبد قبض اللَّه نفسه ولم يقبض روحه).

التأويل الرابع: قيل بل المراد التعريف بميكانيكية الرؤيا والأحلام.

فقد ذُكر عن علي رضي الله عنه قوله: (تخرج الروحُ عند النوم ويبقى شعاعها في الجسد فبذلك يرى الرؤيا فإذا انتبهَ من النوم عاد الروح إلى جسدهِ بأسرع من لحظة). كما ذكر عنه قوله: (ما رأت نفس النائم في السماء فهي الرؤيا الصادقة وما رأت بعد الإرسال فيلقنها الشيطان فهي كاذبة).

قلت: وهذا البحث من أدق الأبحاث في الإسلام وأكثرها غموضًا عند كثير من الناس فضلًا عن مشايخهم، وهو من الأمور الغيبية التي أطلعنا اللَّهُ على بعض دقائقه وتفصيلاته. والراجح لدي في معنى الآية هو التأويل الأول، فيتوفى اللَّه الأنفس التي انقضت آجالها، فتفارق أرواحها أبدانها، وتبطل التصرفات منها بالكلية، وأما التي ما زالت تنتظر بقية ما قُسِمَ وقُدِّرَ لها، فيحصلُ لها موت جزئي في منامها، فإن النومَ

ص: 660

يشبه الموت في بعض مظاهره، فاللَّه سبحانهُ قد أطلق لفظ الوفاة في القرآن على ثلاثة معان: الأول: الوفاة بمعنى انقضاء الأجل. كقوله في سورة النحل: {الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} [النحل: 28]. وكقوله في سورة محمد: {فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ} [محمد: 27]. وكقوله هنا في سورة الزمر: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا} .

الثاني: الوفاة بمعنى النوم. كقوله سبحانه في سورة الأنعام: {وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} . وكقوله هنا في سورة الزمر: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا} .

الثالث: الوفاة بمعنى الرفع والمغادرة. كقوله سبحانه في سورة آل عمران: {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَاعِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} [آل عمران: 55]. قال مطر الوراق: (إني متوفيكَ من الدنيا وليسَ بوفاة موت). وكذا قال ابن جرير: (توفيه هو رفعه). وكقوله في سورة المائدة: {فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ} [المائدة: 117].

وفي آية الزمر هنا فإن الوفاة أطلقت على النوم في حق من لم ينقض أجله بعد، كما روى البيهقي في شعب الإيمان بسند صحيح عن جابر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[النوم أخو الموت، ولا يموت أهل الجنة](1). وكذلكَ ما في الصحيحين عن أبي هريرةَ قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: [إذا أوى أحدُكم إلى فراشه فلينفضه بداخلة إزاره، فإنه لا يدري ما خلفه عليه، ثم ليضطجع على شِقّهِ الأيمن ثم ليقل: باسمك ربي وضعت جنبي وبكَ أرفعهُ، فإن أمسكتَ نفسي فارحمها وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادكَ الصالحين] ورواه أبو داود (2).

وفي لفظ: (فاغفر لها) بدل (فارحمها).

وقد روى الترمذي بسند حسن عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [إذا استيقظَ

(1) حديث صحيح. أخرجه البيهقي في "شعب الإيمان"(2/ 36/ 2)، وأخرجه البزار (ص 318).

(2)

حديث صحيح. أخرجه البخاري (6320)، ومسلم (2714)، وأبو داود (5050)، وغيرهم.

ص: 661

أحدكم فليقل: الحمدُ للَّه الذي ردَّ عليَّ روحي، وعافاني في جسدي، وأذِنَ لي بذكره] (1).

وأخرج البخاري عن حذيفةَ قال: [كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إذا أخذ مضجعهُ من الليل وضعَ يده تحتَ خده، ثم يقول: "اللهم باسمكَ أموت وأحيا". وإذا استيقظَ قال: "الحمدُ للَّه الذي أحيانًا بعد ما أماتنا وإليه النشور"](2).

وأما النفس والروح فقد اختلف الناسُ كثيرًا في أمرهما، هل هما شيء واحد أو شيئان مختلفان؟ ويبدو أنهما يتفقان أحيانًا في المعنى ويختلفان أحيانًا أخرى، فإذا اتفقا انصرف المعنى إلى الروح كما قال جل ثناؤه في سورة آل عمران:{وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} [آل عمران: 145]، وكقوله في سورة الفجر:{يَاأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي} [الفجر: 27 - 30]. وكقوله في سورة الزمر: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا} .

وقد أخرج الإمام مسلم في صحيحه وأحمد في مسندهِ عن أم سلمة قالت: [دخل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم على أبي سلمة وقد شق بصرهُ، فأغمضهُ ثم قال: إن الروح إذا قبض تبعه البصر، فضج ناس من أهله فقال: لا تدعوا على أنفسكم إلا بخير، فإن الملائكةَ يؤمنون على ما تقولون] الحديث (3).

ثم عبّر عن الروح بالنفس كما خرّج مسلم عن أبي هريرةَ عنه صلى الله عليه وسلم قال: [ألم تروا إلى الإنسانِ إذا مات شخصَ بصرُهُ، فذاكَ حينَ يتبعُ بصرهُ نفسَهُ](4).

وكذلكَ خرّج ابن ماجة بسند صحيح عن أبي هريرةَ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [إن الميت تحضرهُ الملائكةُ، فإذا كان الرجلُ صالحًا قال: اخرجي أيتها النفسُ الطيبة كانت في الجسد الطيب، اخرُجي حميدةً، وأبشري بروحٍ وريحانٍ، وربٍّ غير غضبان، فلا يزالُ يقال لها ذلكَ حتى تخرجَ، ثمَّ يُعرجُ بها إلى السماء، فيستفتحُ لها، فيقالُ: من هذا؟ فيقول: فلان، فيقال: مرحبًا بالنفسِ الطيبة، كانت في الجسد الطيب، ادخلي

(1) حديث حسن. انظر تخريج "الكلم الطيب"(34)، (45)، وصحيح الجامع (326).

(2)

حديث صحيح. أخرجه البخاري (6312)، (6314)، كتاب الدعوات. باب ما يقول إذا نام، ورواه أحمد وأصحاب السنن. وبنحوه روى مسلم عن البراء.

(3)

حديث صحيح. أخرجه مسلم (920)، وأحمد (6/ 297)، والبيهقي (3/ 334)، وغيرهم.

(4)

حديث صحيح. أخرجه مسلم (921)، كتاب الجنائز. "شَخَصَ": أي ارتفع ولم يرتد.

ص: 662

حميدةً، وأبشري برَوْحٍ وريحانٍ، وربّ غير غضبان، فلا يزال يُقالُ لها ذلكَ حتى يُنتهى بها إلى السماء التي فيها اللَّه تبارك وتعالى. فإذا كان الرجل السوء قال: اخرجي أيتها النفسُ الخبيثة، كانت في الجسد الخبيث، اخرجي ذميمةً وأبشري بحميم وغسَّاقٍ، وآخرَ من شكله أزواج، فلا يزالُ يقال لها ذلكَ حتى تخرجَ، ثم يعرجُ بها إلى السماء فيستفتح لها، فيقالُ: من هذا، فيقالُ: فلانٌ، فيقالُ: لا مرحبًا بالنفس الخبيثةِ، كانت في الجسدِ الخبيث، ارجعي ذميمةً، فإنَّها لا تفتّحُ لك أبواب السماء، فترسل من السماءِ، ثم تصير إلى القبر، فيجلس الرجل الصالحُ في قبره، غير فزعٍ ولا مَشعوف (1)، ثم يقال لهُ: فيمَ كنتَ؟ فيقول: كنتُ في الإسلام، قال: فيقالُ: ما هذا الرجل؟ فيقول: محمد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم جاءنا بالبيناتِ من عند اللَّه فصدقناه، فيقال لهُ: هل رأيتَ اللَّه؟ فيقول: ما ينبغي لأحدٍ أن يرى اللَّه، فيفرج له فرجةٌ من قبل النار، فينظر إليها يحطِمُ بعضها بعضًا، فيقالُ له: انظر إلى ما وَقاكَ اللَّه تعالى، ثم يفرجُ له فرجةٌ قبلَ الجنةِ، فينظرُ إلى زهرتِها، وما فيها، فيقال له: هذا مقعدكَ، ويقال له على اليقينِ كنتَ، وعليه مُتّ، وعليهِ تبعث إن شاء اللَّه. ويجلسُ الرجلُ السوءُ في قبره فزعًا مشعُوفًا، فيقال لهُ: فيم كنت؟ فيقول: لا أدري، فيقال له: ما هذا الرجل؟ فيقول: سمعتُ الناس يقولون قولًا فقُلْتُهُ! فيُفرجُ لهُ فرجةٌ قبل الجنةِ، فينظرُ إلى زهرتها وما فيها، فيقال له: انظر إلى ما صرف اللَّه عنك، ثم يفرج له فرجةٌ إلى النار، فينظرُ إليها يحطمُ بعضها بعضًا فيقال: هذا مقعدكَ، على الشك كنتَ، وعليه متّ، وعليه تُبْعَثُ إن شاء اللَّه] (2).

وأما إن اختلفا فيراد بالروح شيء وبالنفس شيءٌ ولكن بينهما صلة من النَسب، فالنفس مجموعة من الأحاسيس والمشاعر والرغبات والروح محرك لهذه الأحاسيس، فإذا خرجت الروح سكنت كل هذه الأحاسيس وصار الجسد كالخشب لا يتأثرُ بما حولهُ. فقوله تعالى:{وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ} [يوسف: 23] وقوله فيها: {قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي} [يوسف: 26] وقوله فيها: {إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ} [يوسف: 53]، وكقوله في سورة المائدة:{وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ. . .} [المائدة:

(1) الشعف: شدة الفزع الذي يذهب بالقلب.

(2)

حديث صحيح. أخرجه ابن ماجه (4262) - كتاب الزهد - باب ذكر الموت والاستعداد له. وانظر صحيح سنن ابن ماجه (3437).

ص: 663

45]. فالنفسُ هنا تشمل هذه الأحاسيس والمشاعر والرغبات وما تتمناه الغرائز فهي تشملُ من الجسد والروح معًا.

وفي صحيح مسلم عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [ما من نفس تموت لها عند اللَّه خير يسُرُّها أن ترجعَ إلى الدنيا، وأنَّ لها الدنيا وما فيها إلا الشهيد، فإنه يتمنى أن يرجعَ إلى الدنيا فيُقتل مرةً أخرى، لما يرى من فضل الشهادة](1).

وبين النفس وبين الروح والقلب صلة من النسب، ففي مسند الإمام أحمد وسنن النسائي وابن ماجه وصحيح ابن حبان بسند حسن عن معاذ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[ما من نفسٍ تموتُ وهي تشهد أن لا إله إلا اللَّه، وأني رسول اللَّه، يرجع ذلكَ إلى قلب موقن، إلا غفر اللَّه له](2).

وكذلكَ في الصحيحين عن علي قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: [ما من نفس منفوسة، إلا وقد كتب اللَّه مكانها من الجنةِ والنار، وإلا قد كُتِبَت شقية أو سعيدة، قيل: أفلا نتكل؟ قال: لا، اعملوا، ولا تتكلوا، فكلٌّ ميسرٌ لما خُلق له، أما أهل السعادة فييسّرون لعمل أهل السعادة، وأما أهل الشقاوة فييسّرون لعمل أهل الشقاوة](3).

وفي صحيح مسلم عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [ما من نفس منفوسةٍ اليوم، يأتي عليها مئة سنة وهي يومئذ حية](4). ومعلوم أن السعادة في الدنيا والآخرة على الروح والجسد معًا، وأن الحياةَ تطلق على الجسمِ وأما الروح فلا تموت، وإنما تلازم الإنسان في الدنيا ثم تقبض من جسده الذي يفقد حركته بخروجها ثم يعرجُ بها إلى السماء، فتستقبلُ إن كانت مؤمنة روح مؤمن، وترفضُ إن كانت خبيثة روح خبيث، ثم تعاد إلى قبرهِ فيعيش فيها حياة البرزخ ينعم في قبره بروحه وجسده أو يشقى في قبره بروحهِ وجسده. كما في حديث البراء وفيه: [ثمّ يقال: أعيدوه إلى الأرض، فإني وعدتهم أني منها خلقتهم، وفيها أعيدهم ومنها أخرجهم تارة أخرى. قال: فيردُ إلى الأرض، وتعاد روحهُ في جسدهِ، فإنّه يسمع خفقَ نعال أصحابهِ إذا ولوا عنه مدبرين،

(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم في صحيحه (1877) - كتاب الإمارة - ح (108)، ح (109)، باب فضل الشهادة في سبيل اللَّه تعالى.

(2)

حديث حسن. أخرجه ابن ماجة (2/ 419)، وابن حبان (5)، وأحمد (5/ 229)، ورواه النسائي في "اليوم والليلة"(1136 - 1139). وانظر السلسلة الصحيحة (2278).

(3)

حديث صحيح. أخرجه البخاري في الصحيح (1362)، وأخرجه مسلم (8/ 46 - 47).

(4)

حديث صحيح. أخرجه مسلم في الصحيح (2538)، كتاب فضائل الصحابة، ح (218).

ص: 664

فيأتيهِ ملكان شديدًا الانتهارِ فينتهرانهِ. . . .] الحديث. ثم قال في الكافر أو الفاجرِ حيث لم تستقبل روحه: [أعيدوا عبدي إلى الأرض فإني وعدتهم أني منها خلقتهم وفيها أعيدهم ومنها أخرجهم تارة أخرى، فتطرحُ روحه من السماء طرحًا حتى تقع في جسده ثم قرأ: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ}، فتعادُ روحه في جسدهِ، فإنه ليسمعُ خفق نعال أصحابهِ إذا ولوا عنه. .] الحديث. رواه أبو داود والحاكم.

فائدة: قلت: وبين الفؤاد والعقل والقلب والنفس والروح صلة من النسب، فالفؤادُ يشمل العقلَ والقلب وهو موضع تكليف وسؤال يوم القيامة كما قال سبحانهُ في سورة الإسراء:{وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء: 36]. وكما في سورة الأحقاف: {وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} [الأحقاف: 26]. وكقوله في سورة الأنعام: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الأنعام: 110].

والقلبُ هو مركز التفكير والفقه والفهم وليس العقل الذي في الدماغ، بل إن الدماغ متأثر بالقلب الذي هو من جهة مركز حياة الأبدان وموجه حركتها وبتعطله تتعطل الحياة، ومن جهة ثانية فهو مركز الفكر والعقل والفهم والفقه، كما قال جل ثناؤه في سورة الحج:{أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج: 46]. وكما قال سبحانه في سورة الأعراف: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [الأعراف: 179].

ولكن القلب متصل بذلكَ بالنفس وما تتميز به من تفاعل مع الغرائز وإحساس ومشاعر، ومتصل بالروح بل الروح متصلة بكل هذه الأجزاء محركة لها. فإن قال قائل: لو استبدلنا قلب إنسان بآخر فماذا يجري لعواطفهِ ومشاعره وروحهِ ما دمتم تقولون إن القلب هو مركز التكليف والنية، وإنه يُسمعُ اليوم مثل هذا الاستبدال في الطب ونقل الأعضاء لظروف مرضية؟ قلنا واللَّهُ المستعان: إن القلب ليس وحده الذي يتحرك بل هو جزء من شبكة معقدة جدًا تسري فيها الروح وتنبثق منها عملية الفهم

ص: 665

والإدراك مع مشاركة من الدماغ والعقل، كما تتأثر بها النفس والأحاسيس والمشاعر، والدليل عندي حديث البراء السابق وفيه:[وإن العبد الكافر (وفي رواية الفاجر) إذا كان في انقطاع من الدنيا، وإقبال من الآخرة، نزل إليه من السماء ملائكةٌ، غلاظٌ شدادٌ، سودُ الوجوه، معهم المسوح من النار فيجلسون منه مدّ البصر، ثم يجيءُ ملك الموت حتى يجلسَ عند رأسهِ، فيقولُ: أيتها النفسُ الخبيثة اخرجي إلى سخط من اللَّه وغضب، قال: فتفرّق في جسدهِ، فينتزعها كما يُنْتَزَعُ السَّفُّودُ الكثير الشعب من الصوف المبلول، فتقطع معها العروق والعصب]. فإن الروح سُحبت من بين هذه الشبكة المتكاملة التي تقطعت. وهذا ما وُفِّقْتُ له من الربط بعون اللَّه، وما رأيتهُ في تفسير قبل ذلكَ وربما فتح وإلهام لم أسبق إليه واللَّه تعالى أعلم إذ يقول:{وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء: 85].

وقوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} . قال ابن جرير: (إن في قبض اللَّه نفس النائم والميت وإرسالهُ بعدُ نفسَ هذا ترجع إلى جسمها وحبسه لغيرها عن جسمها لعبرة وعظة لمن تفكر وتدبَّر وبيانًا لهُ أن اللَّه يحيى من يشاء من خلقه إذا شاء ويميتُ من شاء إذا شاء). أي إن مغادرة الأرواح أجسادها مغادرة كلية عند الموت أو جزئية عند النوم وآلية هذه الصلات مع النفس والقلب والروح، وهذا العالم الغامض المليء بالألغاز، وبعلم الغيب، وميكانيكية الأحلام، كل ذلك من أرفع الدلالات على عظمةِ اللَّه خالق هذه الأنفس والأرواح ومقلب القلوب والأفئدة والعقول، الذي يحيى ويميت، ويبعثُ وينشرُ ويَحْشُرُ، ويحاسب ويجازي، فهل من مدكر ومعتبر في هذه الآيات الدقيقة التي يجريها سبحانه وتعالى وهو أحسن الخالقين.

وقوله تعالى: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ} .

قال مجاهد: (لا يشفع عندهُ أحد إلا بإذنه). وعن قتادة: ({أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ} قال: الآلهة {قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا} قال: الشفاعة). وقوله: {وَلَا يَعْقِلُونَ} لأنها جمادات وأصنامٌ من أحجار أو طعام.

قلت: وهذه الآية تفسّر بقوله سبحانه في سورة البقرة: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة: 255]، وبقوله في سورة النجم:{وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} [النجم: 26].

ص: 666

وهي متصلة بما قبلها {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} أي عطلوا الفكر وما أعملوا العقل بل تجاوزوا صحيح المحاكمات وانحطوا في التصرف فرأوا في أصنامهم وأوثانهم شفعاء، نسبوها للَّه أو نسبوا لها قوةً وتأثيرًا عند اللَّه ظلمًا وزورًا. فكذبهم اللَّه وعابهم، ودحضَ وجهَتَهُمْ وظنَّهم وفاسدَ ما اعتقدوه، فقال سبحانه:{قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} : أي هو الذي يأذنُ بالشفاعة لمن شاء وأحب، كما قال سبحانهُ في سورة الأنبياء:{أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ} [الأنبياء: 24]، إلى أن قال جلت أسماؤه:{يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} [الأنبياء: 28]. فلا أحد يملكَ الشفاعةَ ابتداءً بل من أكرمهُ اللَّه بها، فله الملك والكبرياءُ وحده يومَ لا تكلم نفسٌ إلا بإذنه، كما أخرج البخاري ومسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[يقبض اللَّه الأرض يوم القيامةِ، ويطوي السماوات بيمينهِ، ثم يقول: أنا الملِكُ، أين ملوك الأرض؟ ](1).

وقوله تعالى: {وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} .

قال قتادة: (أي نفرت قلوبهم واستكبرت). وقال مجاهد: (انقبضت. قال: وذلكَ يوم قرأ عليهم النجم عند باب الكعبة). وعن السدي: (قوله: {اشْمَأَزَّتْ} قال: نفرت {وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ} أوثانهم).

وقوله: {إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} . قال القرطبي: (أي يظهر في وجوههم البشر والسرور). وقال القاسمي: (أي يفرحون بذلك. لفرط افتنانهم بها، ونسيانهم حق اللَّه تعالى. ولقد بولغ في الأمرين حيث بين الغاية فيهما. فإن الاستبشار أن يمتلئ قلبه سرورًا حتى تنبسطَ له بشرة وجهه. والاشمئزاز أن يمتلئ غمًا حتى ينقبض أديم وجهه).

قلت: وأصل الاشمئزاز النفور والازورار وإبداء الكراهية، وهذا شأن كثير من الناس الذين فَتَنوا أنفسهم بالشهوات ومسالك الحرام وتعلقت قلوبهم بالكبائر والفواحش فإذا ما ذكرتهم باللَّه نقموا واشمأزوا بحيث لا يريدون أن يسمعوا صوت الحق الذي يهديهم ويعكر عليهم فاسد أمزجتهم، وكذلكَ إذا ذُكِّروا بالموتِ أبدوا انزعاجهم وغيروا الحديث إلى ما يرفِّه أحلامهم، كما قال جل ثناؤه في سورة الروم

(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (4812)، ومسلم (2787)، من حديث أبي هريرة.

ص: 667

{يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [الروم: 7].

وقد أخرج ابن حبان في صحيحه والبيهقي في شعب الإيمان بسند صحيح عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[إن اللَّه يبغض كل جعظري جَوَّاظ، سخّاب في الأسواق، جيفةٍ بالليل، حمارٍ بالنهار، عالمٍ بالدنيا، جاهلٍ بالآخرة](1).

وعند الحاكم في تاريخه عن أبي هريرةَ، عن النبي صلى الله عليه وسلم:[إن اللَّه تعالى يبغضُ كلَّ عالمٍ بالدنيا، جاهلٍ بالآخرة](2).

وفي مسند الإمام أحمد عن أُسامة بن زيد، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[إن اللَّه تعالى يبغضُ الفاحِش المتفحِشّ](3).

وقوله تعالى: {قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} .

فعن السدي: ({فَاطِرَ}: قال: خالق، وفي قوله: {عَالِمَ الْغَيْبِ} قال: ما غاب عن العباد فهو يعلمه {وَالشَّهَادَةِ} قال: ما عرف العباد وشهدوا فهو يعلمه).

قلت: وفيهِ أمر من اللَّه لنبيّه وتسلية لهُ إذ كذبه المشركون أن يلجأ إلى اللَّه سبحانهُ بالدعاء والابتهال والتضرع ليرد عنه كيد عدوّه في نحره ويكسر شوكتهُ ويذل كبرياءه وعناده. ولذلكَ كان يفتتح عليه الصلاة والسلام قيام الليل بهذا الدعاء العظيم.

فقد أخرج الإمام مسلم في صحيحه عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف قال: سألت عائشة أمّ المؤمنين بأي شيء كان نبيٌّ اللَّه صلى الله عليه وسلم يفتتح صلاتهُ إذا قام من الليل؟ قالت: كان إذا قام من الليل افتتح صلاته: اللهم ربَّ جَبْرائيل وميكائيل وإسرافيل فاطرَ السماوات والأرض عالمَ الغيب والشهادةِ أنتَ تحكم بين عبادكَ فيما كانوا فيه يختلفون. اهدِني لما اختلف فيهِ من الحق بإذنكَ إنك تهدي من تشاء إلى صراطٍ مستقيم] (4).

(1) حديث صحيح. رواه ابن حبان (1957)، وأخرجه البيهقي (10/ 194). وانظر سلسلة الأحاديث الصحيحة (195). والجعظري: الفظ الغليظ المتكبر. والجواظ: الجموع المنوع. والسّخاب: الصّخاب، كثير الضجيج والخصام.

(2)

حديث صحيح. أخرجه الحاكم في "التاريخ"، والديلمي. انظر صحيح الجامع (1875).

(3)

حديث حسن. أخرجه أحمد (5/ 202)، وصححه ابن حبان (1974). وله شواهد.

(4)

حديث صحيح. أخرجه مسلم في الصحيح -حديث رقم- (770)، كتاب صلاة المسافرين.

ص: 668

وفي ذلك تعليم العباد أن يلجؤوا إلى اللَّه تعالى بالصلاة والدعاء في الليل عند الاختلاف وأن يستعينوا بأسمائه الحسنى على إدراك الحق والفصل عند الخلاف.

وفي الأثر عن سعيد بن جبير قال: (إني لأعرف آية ما قرأها أحدٌ قط فسألَ اللَّهَ شيئًا إلا أعطاهُ إياه، قوله تعالى: {قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ}).

وقوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} .

وهذه الآية مفسّرة بالآية التي في سورة يونس: {وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الْأَرْضِ لَافْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} [يونس: 54]، وبالآية التي في سورة فاطر:{وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ (36) وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ} [فاطر: 36 - 37].

وفي الصحيحين عن أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[إن اللَّه تعالى يقول لأهون أهل النارِ عذابًا: لو أن لك ما في الأرضِ من شيء كنتَ تفتدي بهِ؟ قال: نعم، قال: فقد سألتكَ ما هوَ أهونُ من هذا وأنتَ في صلب آدم أن لا تشركَ بي شيئًا فأبيت إلا الشرك](1).

ولذلكَ كان يحث النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه على العمل الصالح والصدقة وما ينفعُ يوم الحساب حتى الكلمة الطيبة حتى لا يقعَ في الندامة حيث لا تنفعُ ولا تجدي وقد مضى زمن العمل.

فقد أخرج الترمذي بسند حسن عن عدي بن حاتم قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: [يقي أحدُكم وجهَهُ حرَّ جَهنم ولو بتمرة، ولو بشِق تمرة، فإن أحدكم لاقِي اللَّه، وقائل له ما أقول لأحدكم: ألم أجعل لك سمعًا وبصرًا؟ فيقول: بلى، فيقول: ألم أجعل لك مالًا وولدًا؟ فيقول: بلى، فيقول: أين ما قدمتَ لنفسك؟ فينظر قدامه وبعده، وعن يمينهِ وعن شماله، ثم لا يجد شيئًا يقي به وجهَه حرّ جهنم، لِيَقِ أحدُكم وَجْهَه النار ولو بشق تمرة، فإن لم يجد فبكلمة طيبة، فإني لا أخاف عليكم الفاقة، فإن اللَّه

(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (2/ 333)، ومسلم (8/ 134)، من حديث أنس بن مالك.

ص: 669

ناصركم، ومعطيكم حتى تسير الظعينة فيما بين يثرب والحيرة، وأكثر ما يخاف على مطيتها السَّرق] (1).

وجملة القول: أن الذين كذبوا وأشركوا سيتمنون يوم القيامة لو استطاعوا أن يفتدوا بكل ما يملكون وما كانوا يتنعمون به في الدنيا وما لا يملكون من دنيا غيرهم وأضعاف ذلكَ سوء المصير والفاجعة التي ستنزلُ بهم، كما قال في سورة الرعد:{لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ} [الرعد: 18]. وكما جاء عن مجاهد: (عملوا أعمالًا توهموا أنها حسنات فإذا هي سيئات). وقال غيره: (عملوا أعمالًا توهموا أنهم يتوبون منها قبل الموت فأدركهم الموت قبل أن يتوبوا وقد كانوا ظنوا أنهم ينجون بالتوبة. قال القرطبي: (ويجوز أن يكونوا توهموا أنه يغفر لهم من غير توبة فـ {وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} من دخول النار. ثم ساق أثرًا عن سفيان الثوري في هذه الآية حيث قال: (ويل لأهل الرياء ويل لأهل الرياء هذه آيتهم وقصتهم). وأثرًا عن عكرمة بن عمار حيث قال: (جزع محمد بن المنكدر عند موتهِ جزعًا شديدًا، فقيل له: ما هذا الجزع؟ قال: أخاف آية من كتاب اللَّه {وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} فأنا أخشى أن يبدو لي ما لم أكن أحتسب)).

وقال ابن جرير: (ظهر لهم يومئذ من أمر اللَّه وعذابه، الذي كان أعدّه لهم ما لم يكونوا قبل ذلكَ يحتسبون أنه أعدّه لهم). وقال ابن كثير: (وأحاط بهم من العذاب ما كانوا يستهزئون به عند ذكره لهم في الدار الدنيا). وهو معنى الآية: {وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} . قال الشوكاني: (أي مساوئ أعمالهم من الشرك وظلم أولياء اللَّه، و {مَا} يحتمل أن تكون مصدرية: أي سيئات كسبهم، وأن تكون موصولة: أي سيئات الذي كسبوه {حَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} أي أحاط بهم ونزل بهم ما كانوا يستهزئون به من الإنذار الذي كان ينذرهم به رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، قال: وقد أخرج ابن مردويه عن ابن عباس في قوله: {وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ} الآية: قال: قست ونفرت {قُلُوبُ} هؤلاء الأربعة {الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ} أبو جهل بن هشام والوليد بن عقبة وصفوان وأبيّ بن خلف {وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ} اللات والعزى {إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ}).

(1) حديث حسن. أخرجه الترمذي في التفسير - سورة فاتحة الكتاب -. انظر صحيح سنن الترمذي (2353)، في أثناء حديث طويل. وانظر صحيح الجامع (8003).

ص: 670

وقوله تعالى: {فَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} .

أما قوله: {عَلَى عِلْمٍ} ففيه أقوال:

الأول: ({عَلَى عِلْمٍ} عندي بوجوه المكاسب). قاله قتادة وفي رواية: ({عَلَى عِلْمٍ} أي: على خير عندي). وقال القاسمي: (أي مني بوجوه الكسب والتحصيل).

الثاني: (أي بعلم علمني اللَّه إياه) قاله الحسن.

الثالث: أي على شرف أعطانيه، قال ابن جرير:(يعني على علم من اللَّه بأني له أهل لشرفي ورضاه بعملي).

وقال ابن كثير: (أي لما علم اللَّه تعالى من استحقاقي له ولولا أني مستحق لما خوّلني هذا). وذكره القرطبي فقال: (أي على علم مِن اللَّه بفضلي).

الرابع: أي هذا دلالة على منزلتي في الآخرة. قال الشوكاني: (وقيل: قد علمت أني إذا أوتيتُ هذا في الدنيا أنّ لي عند اللَّه منزلة وجاء بالضمير في أوتيته مذكرًا مع كونه راجعًا إلى النعمةِ لأنها بمعنى الإنعام).

قلت: والآية تصف الغرور الذي يعتري العبد إذا شعر بالغنى والخير والعافية وذهب عنه الألم والعناء والفقر كما قال جل ثناؤه في سورة العلق: {كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} [العلق: 6 - 7]. وهو مدخل إبليس الأهم إلى النفس البشرية، فالإنسان عند الضعف يتذكر بفطرته ربّه سبحانه فيجأرُ إليه ليكشف عنه المصيبةَ ولكنه سرعان ما يستجيب لغوايات ووساوس شيطانهِ إذا شعر بالعافية والغنى فهو يدخل عليه من التأويل الأول، أي إنما حصل لك ذلك لفضل سعة علمك وإحاطتك بوجوه الكسب والتحصيل، فإن لم يستجب دخل عليه من التأويل الثاني أي إنما حصل لك ذلك الخير بعلم اختصه اللَّه بك، فإن لم يستجب دخل عليه من التأويل الثالث أي إنما ذلكَ علامة رضائه عنك واستحقاقك، وإلا دخلَ عليهِ من التأويل الرابع أي إن ورود هذه النعم عليك في الدنيا علامةُ ورودها عليك في الآخرة ودليل منزلتك يوم القيامة، ولا يهم الترتيب، بل كلها مداخل للشيطان إلى الإنسان ليصرفه عن التواضع للَّه إلى الكبر الذي دمّر إبليس وأخزاه، فتعوذ باللَّهِ من حال المستكبرين. ولذلكَ كانَ من هديه عليه الصلاة والسلام، الدعاء في الرخاء قبل الشدائد، كما روى الترمذي والحاكم بسند حسن عن

ص: 671

أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[من سرّه أن يستجيبَ اللَّه له عند الشدائد والكُرَب فليكثر الدعاءَ في الرخَاء](1).

كما كان من هديه التحذير من مواضع الكبر والغرور، والالتجاء إلى رحمة اللَّه وفضله.

ففي صحيح الإمام مسلم عن جابر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[لا يُدخِل أحدًا منكم عملُهُ الجنة، ولا يجيرُ من النار، ولا أنا إلا برحمة اللَّه](2).

وفيه عن ابن مسعود قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: [لا يدخلُ الجنة من كان في قلبه مثقالُ ذرةٍ من كبرٍ، قيلَ: إن الرجل يحبُّ أن يكون ثوبُه حسنًا، ونعله حسنة، قال: إن اللَّه جميل يحب الجمال، الكبر بَطَرُ الحقِّ، وغمْطُ الناس](3).

وقوله: {بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ} . قال قتادة: (أي بلاء). وقال القرطبي: (أي بل النعم التي أوتيتها فتنة تختبر بها): وقال النحاس: التقدير: بل أعطيته فتنة. وقال ابن كثير: (أي ليسَ الأمر كما يزعمُ إنما نعمتنا كانت اختبارًا لهُ أيطيعُ أم يعصي ونحن أعلمُ بما سيكون منه).

قلت: وهذه الآية كقولهِ في سورة الروم: {وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ (36) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [الروم: 36 - 37].

وكقوله في سورة الإسراء: {وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوسًا (83) قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلًا} [الإسراء: 83 - 84].

وقد أخرج ابن أبي الدنيا في "قضاء الحوائج" والطبراني في "الكبير" وابن حبان في صحيحه بسند حسن عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[إن للَّه تعالى أقوامًا يختصّهم بالنعم لمنافِعِ العبادِ، ويقرّها فيهم ما بذلوها، فإذا منعوها نزعها منهم، فحوّلها إلى غيرهم](4).

(1) حديث حسن. أخرجه الترمذي (3382)، والحاكم. انظر صحيح سنن الترمذي (2693).

(2)

حديث صحيح. أخرجه مسلم (2817)، كتاب صفات المنافقين، من حديث جابر.

(3)

حديث صحيح. أخرجه مسلم (91) - كتاب الإيمان - باب تحريم الكبر وبيانه.

(4)

حديث حسن. أخرجه ابن أبي الدنيا في "قضاء الحوائج"(رقم - 5)، والطبراني في "الأوسط"(5295)، وأبو نعيم في "الحلية"(6/ 115). وانظر السلسلة الصحيحة (1692).

ص: 672

وقوله: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} . أي إن ما قسم اللَّه في الحياة الدنيا اختبار وامتحان فابتلى هؤلاء بالغنى وابتلى هؤلاء بالفقر، وابتلى هؤلاء بالعافية كما ابتلى هؤلاء بالمرض، ثم لا يدري كثير من الناس أجر الصابرين عند اللَّه يوم القيامة وأجر الراضين المحتسبين. قال ابن جرير:{وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ} : بجهلهم وسوء رأيهم {لَا يَعْلَمُونَ} لأي سبب أعطوا ذلك).

فقد أخرج الترمذي في "الجامع" والطبراني في "الكبير" عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [ليودّنَّ أهل العافيةِ يوم القيامةِ أن جلودهم قرضتْ بالمقاريض، مما يرون من ثواب أهل البلاء](1).

وكذلكَ في المسند عن محمود بن لبيد، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[اثنتان يكرههما ابنُ آدم: يكرهُ الموت، والموتُ خيرٌ له من الفتنة، ويكره قلة المال، وقلةُ المال أقلُ للحساب](2).

وقوله تعالى: {قَدْ قَالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} .

قال السدي: (الأمم الماضية). وقيل: يعني الكفار قبلهم كقارون وغيره كما حكى اللَّه عن قارون في سورة القصص حيث قال: {قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ} [القصص: 78]. وفي {مَا} قولان:

الأول: إنها للجحد. والمعنى: لم تغن عنهم أموالهم ولا أولادهم من عذاب اللَّه شيئًا.

الثاني: قيل بل هي للاستفهام. والمراد: أي فما الذي أغنى عنهم أموالهم.

وكلاهما يحتمله المجاز والبيان القرآني، والآية تشبه قوله تعالى:{وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} [سبأ: 35].

وقوله تعالى: {فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هَؤُلَاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ} . أي: لقد حق القول على الأمم الماضية لما كذبت فأهلكها اللَّه ودمّرها، وليس هؤلاء القوم المكذبين من قريش بأحسن حال ممن قبلهم، فالكل

(1) حديث حسن. أخرجه الترمذي "في الجامع"(2404)، والطبراني في "الكبير"(3/ 178/ 2).

(2)

حديث حسن. أخرجه أحمد في المسند (5/ 427 - 428)، وانظر السلسلة الصحيحة (813).

ص: 673

ماض تحت سنته سبحانه، وسيعلم هؤلاء المعاندون أي منقلب ينقلبون فما أحد يعجز اللَّه سبحانه بل الكل مقهور بجبروته وكبريائه وعظمته. كما قال جل ثناؤه:{وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} [الشعراء: 227]. وكما قال: {ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (52) وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} [يونس: 52 - 53].

وفي صحيح الإمام مسلم عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[قال اللَّه تعالى: الكبرياء ردائي، والعزّ إزاري، فمن نازعني في شيء منهما عذبته] ورواه أحمد والحاكم (1).

ولفظ الحاكم: [قال اللَّه تعالى: الكبرياء ردائي، فمن نازعني في ردائي قصمته](2).

ولفظ أحمد: [قال اللَّه تعالى: الكبرياء ردائي، والعظمةُ إزاري، فمن نازعني واحدًا منهما قذفته في النار].

وقوله تعالى: {أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} .

هو كقوله في سورة الروم: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [الروم: 37]. وكقوله في سورة الزخرف: {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ} [الزخرف: 32]. وفي الآية اختصاص للمؤمن بالذكر فهو وحده دون غيره ينتفع بالذكر ويعلمُ حقيقة الأمر، دونما غرور من الشيطان أو وسوسة أو كبر. قال القرطبي:(لأنه هو الذي يتدبر الآيات وينتفع بها، ويعلم أن سعة الرزق قد يكون مكرًا واستدراجًا، وتقتيره رفعة وإعظامًا).

وفي جامع الترمذي عن أبي هريرة قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: [من يأخذ عني هؤلاء الكلمات فيعمل بهن أو يُعَلِّمُ من يعمل بهن؟ فقال أبو هريرة: فقلت أنا يا رسول اللَّه. قال: فأخذ بيدي فعدّ خمسًا قال: اتق المحارم تكن أعبد الناس، وارض بما قسم اللَّهُ لك تكن أغنى الناس، وأحسن إلى جاركَ تكن مؤمنًا، وأحبَّ للنَّاس ما تحب لنفسك

(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم (8/ 35 - 36)، والبخاري في "الأدب المفرد"(552) نحوه.

(2)

حديث صحيح. أخرجه أحمد في المسند (2/ 248)، (2/ 414)، (2/ 442)، وأخرجه الحاكم (1/ 61)، وانظر: السلسلة الصحيحة (541).

ص: 674

تكن مسلمًا، ولا تكثر الضحك فإن كثرة الضحك تميت القلب] (1).

وقد نقل القاسمي عن المهايميّ في تفسير الآية قوله: (ومن آياته في ذلكَ أنه تعالى قوي بذاته، له تقوية من يشاء وتضعيف من يشاء. ومنها أنه فيّاض بذاته لا يتوقف فيضه على الشفعاء. ومنها أنه فاعل بذاته لا توقف فعله على سبب وواسطة).

53 -

67. قوله تعالى: {قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53) وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ (54) وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (55) أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَاحَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (56) أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (57) أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (58) بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ (59) وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ (60) وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (61) اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (62) لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (63) قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ (64) وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (65) بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (66) وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (67)}.

في هذه الآيات: يتودّد الرحمان إلى عباده جل ثناؤه ويقدم لهم عرضًا مغريًا،

(1) حديث حسن. أخرجه أحمد في المسند (2/ 310)، والترمذي في الجامع (2305) بسند حسن.

ص: 675

ودعوة مفتوحة لهم، وخاصة لعصاتهم، ليبادروا إلى التوبة والاستغفار بعد الإقلاع عن الذنوب والآثام، وهي فرصة ذهبية لتدارك العمر والنجاة من خطر لحظات الغرغرة ودقائق بلوغ الروح الحلقوم، فهو الغفور سبحانهُ مهما تراكمت الذنوب، ذو قدرة على تجاوزها وعلى التجاوز والعفو عن صاحبها، فارجعوا أيها الناس إلى اللَّه العظيم واستسلموا لأمرهِ وإلا باغتكم سبحانه بعذاب أليم، واستمسكوا بالقرآن فهو الحق وهو أحسن ما جاءكم، وإلا فاجأكم اللَّه بالعذاب من حديث لا تشعرون، فيتمنى عندها أهل الكبر والظلم العودة إلى الدنيا ويندمون على ما كانوا يفرطون ويستهزئون، كلا لا سبيل فقد قامت حجة اللَّه عليكم في الدنيا وآثرتم الكذب وسبيل المستكبرين والكافرين، ثم يوم القيامة يقفون في وجوه مسودة قد علاها أثر الظلم لتصلى نار جهنم مأوى المتكبرين، في حين ينجي اللَّه المتقين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، فهو اللَّه الخالق رب كل شيء ومليكه، والكل مقهور بأمره وكبريائه، وعندهُ خزائن السماوات والأرض، فمن آثر عناد اللَّه والكبر الذي لا يليقُ إلا بجلاله أخزاه وكبهُ على وجهه في النار مع الخاسرين، فكيف تعبدون غيره وتدعون نبيّه إلى عبادة من دونه وقد أوحى اللَّه إليهِ كما أوحى إلى الأنبياء من قبله بأن الشرك يحبط العمل، ويورث سخطَ اللَّه وجحيم النار كالظلل، بل أخلص العبادة للَّه يا محمد أنتَ ومن معكَ وكن من الشاكرين، فإن هؤلاء ما قدروا اللَّه حق قدره إذ عرضوا عليك الشرك والكفر باللَّه وهو الذي يقبض الأرض ويطوي السماوات بيمينهِ يوم القيامة سبحانه هو الكبير المتعال، فتعالى عما يشركون وعما يفترون فهو العظيم ذو الجلال. وتفصيلُ ذلك.

قوله تعالى: {قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} .

قال الحافظ ابن كثير: (دعوة لجميع العصاة من الكفرة وغيرهم إلى التوبة والإنابة، وإخبار من اللَّه تعالى بأنه يغفر الذنوب جميعًا لمن تاب منها وإن كانت كزبد البحر، ولا يصح حمل هذه على غير توبة لأن الشرك لا يغفر لمن لم يتب منه). وأما أسباب نزول هذه الآيات ففيها أحاديث صحيحة.

ففي الصحيحين وجامع الترمذي عن ابن عباس رضي الله عنهما: [أن أناسًا من أهل الشرك كانوا قد قتلوا وأكثروا وزنوا وأكثروا فأتوا محمدًا صلى الله عليه وسلم فقالوا: إن الذي تقول وتدعو إليه لحسن لو تخبرنا أن لما عملنا كفارة فنزل: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ} [الفرقان: 68]، ونزل {قُلْ

ص: 676

يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ}] (1).

وكذلكَ فقد أخرج الحاكم والبزار ورجاله ثقات، عن عبد اللَّه بن عمر عن عمر قال:[كنا نقول ما لمفتَتِنٍ توبة وما اللَّهُ بقابل منه شيئًا، فلما قدم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم المدينة أنزل فيهم: {يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} والآيات بعدها. قال عمر: فكتبتها بيدي في صحيفة وبعثت بها إلى هشام بن العاص. قال هشام بن العاص: فلما أتتني جعلت أقرؤها بذي طوى أُصَعِّدُ بها فيه وَأصَوِّبُ ولا أفهمها حتى قلت: اللهم فَهِّمْنِيها. قال: فألقيَ في قلبي أنها إنما أنزلت فينا وفيما كنا نقول في أنفسنا ويقال فينا. قال: فرجعتُ إلى بعيري فجلست عليه فلحقتُ برسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وهو بالمدينة](2).

وجملة أقوال المفسرين في أسباب النزول تنحصر في ثلاثة أقوال:

القول الأول: إنها نزلت في قوم من أهل الشرك زنوا وقتلوا وظنوا أنه لا توبة.

فعن ابن عباس: ({قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ}: وذلكَ أن أهل مكة قالوا: يزعم محمد أنه من عبد الأوثان ودعا مع اللَّه إلهًا آخر، وقتل النفس التي حرم اللَّه لم يغفر له، فكيف نهاجرُ ونسلم وقد عبدنا الآلهة وقتلنا النفس التي حرم اللَّه ونحن أهل الشرك فأنزل اللَّه: {يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ}).

وعن مجاهد في قول اللَّه: {الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ} قال: (قتل النفس في الجاهلية).

وقال قتادة: (ذكر لنا أن ناسًا أصابوا ذنوبًا عظامًا في الجاهلية فلما جاء الإسلام أشفقوا أن لا يُتابَ عليهم فدعاهم اللَّه بهذه الآية: {يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ}).

وقال عطاء بن يسار: (نزلت هذه الآيات الثلاث بالمدينة في وحشي وأصحابه

(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (4810)، ومسلم (122/ 193)، وأبو داود (4274)، والترمذي في السنن، والنسائي في "التفسير"(469).

(2)

حديث صحيح. أخرجه محمد بن إسحاق، والحاكم، وقال: صحيح على شرط مسلم. وأقره الذهبي. وانظر: "الصحيح المسند من أسباب النزول" - الوادعي - سورة الزمر، الآيات (53 - 59).

ص: 677

{يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ} -إلى قوله- {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ} ).

وقال السدي: (هؤلاء المشركون من أهل مكة، قالوا: كيفَ نجيبك وأنت تزعم أنه من زنى أو قتل أو أشرك بالرحمان كان هالكًا من أهل النار، فكل هذه الأعمال قد عملناها فأنزلت فيهم هذه الآية {يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ}).

قال الشوكاني في فتح القدير: (وأعلم أن هذه الآية أرجا آية في كتاب اللَّه سبحانه لاشتمالها على أعظم بشارة، فإنه أولًا أضاف العباد إلى نفسه لقصد تشريفهم ومزيد تبشيرهم، ثم وصفهم بالإسراف في المعاصي والاستكثار من الذنوب، ثم عقب ذلكَ بالنهي عن القنوط من الرحمةِ لهؤلاء المستكثرين من الذنوب، فالنهي عن القنوط للمذنبين غير المسرفين من باب الأولى وبفحوى الخطاب، ثم جاء بما لا يبقى بعدهُ شك ولا يتخالج القلب عند سماعه ظنّ، فقال: {إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ} فالألف واللام قد صيرت الجمع الذي دخلت عليهِ للجنس الذي يستلزم استغراق أفراده. . ثم قال: ثم لم يكتف بما أخبر عباده به من مغفرة كل ذنب بل أكد ذلكَ بقوله: {جَمِيعًا} فيالها من بشارةٍ ترتاح لها قلوب المؤمنين المحسنين ظنهم بربهم الصادقين في رجائه. الخالعين لثياب القنوط الرافضين لسوء الظن بمن لا يتعاظمه ذنب).

وقد ذكر ابن كثير كلامًا جميلًا في ذلكَ حيث قال: (إن اللَّه تعالى بفضله وكرمه ومنّه دعا الكفار جميعًا بلا استثناء إلى التوبة حتى الذي قال أنا ربكم الأعلى ولكنه لم يؤمن إلا في حين لا تنفعهُ توبة عند الاحتضار إذ قال له تعالى: {آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} [يونس: 91]).

القول الثاني: قيل بل المراد أهل الإسلام، فنزلت في قوم صدهم المشركون عن الهجرة وفتنوهم فظنوا أنه لا توبة.

يروي ابن جرير عن نافع عن ابن عمر قال: (أنزلت هذه الآيات في عياش بن أبي ربيعة والوليد بن الوليد، ونفر من المسلمين كانوا أسلموا ثم فُتِنُوا وعذّبوا فافتتنوا، كنَّا نقول: لا يقبل اللَّه من هؤلاء صرفًا ولا عدلًا أبدًا، قوم أسلموا ثم تركوا دينهم بعذاب عُذِّبوه، فنزلت هذه الآيات وكان عمر بن الخطاب كاتبًا قال: فكتبها بيده ثم بعث بها إلى عياش بن أبي ربيعة، والوليد بن الوليد، إلى أولئكَ النفر فأسلموا وهاجروا).

ثم ساق أثرًا عن ابن سيرين عن علي رضي الله عنه وقد قال لأصحابه: (أي آية في

ص: 678

القرآن أوسع؟ فجعلوا يذكرون آيات من القرآن {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء: 110] ونحوها، فقال علي: ما في القرآن أوسع من {يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ. . .} إلى آخر الآية).

القول الثالث: قيل بل نزلت في قوم يرون أهل الكبائر في النار فأعلمهم اللَّه أنه يغفر لمن يشاء.

فقد روي عن نافع عن ابن عمر قال: (كنا معشر أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم نرى أو نقول: أنه ليسَ شيء من حسناتنا إلا وهي مقبولة حتى نزلت هذه الآية: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 33]. فلما نزلت هذه الآية قلنا: ما هذا الذي يبطل أعمالنا؟ فقلنا: الكبائر والفواحش. قال: فكنا إذا رأينا من أصاب منها قلنا: قد هلك، حتى نزلت هذه الآية: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 116]. فلما نزلت هذه الآية كففنا عن القول في ذلك، فكنا إذا رأينا أحدًا أصاب منها شيئًا خفنا عليهِ وإن لم يصب منها شيئًا رجونا له) ذكره ابن جرير.

قال ابن عباس: (من آيس عباد اللَّه من التوبةِ بعد هذا فقد جحد كتاب اللَّه عز وجل.

وروى ابن أبي حاتم عن عبد اللَّه بن مسعود أنه قال لقاصٍّ يُذَكِّرُ الناس وَيُقَنِّطُهُم: (يا مُذَكِّر لم تُقَنِّط الناس من رحمة اللَّه؟ ثم قرأ: {قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ}).

قلت: والراجح أن الآية عامة وإن كانت أسباب النزول قد جاءت فيمن كانوا قتلوا وزنوا وأكثروا من المشركين وظنوا أنه لا توبة، أو في قوم ما استطاعوا أن يهاجروا وفُتنوا وفَتنوا أنفسهم، كما قدمت في بداية ورود الآيات بحديث الصحيحين وحديث الحاكم، ولكن الآيات تبقى في حق كل من أسرف على نفسه بشرك وكفر ثم تاب واستغفر، أو بكبائر وفواحش ثم أقلع وأناب واستعتب، كما قال جل ثناؤه في حق المشركين من أهل الكتاب في سورة المائدة:{لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73) أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة: 73 - 74].

وكما قال جل وعز في حق المنافقين في سورة النساء: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا (145) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (146) مَا يَفْعَلُ اللَّهُ

ص: 679

بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا} [النساء: 145 - 147].

وكما قالَ في حق أهل الكبائر في سورة النساء: {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء: 110]، وكما قال في سورة البروج:{إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ} [البروج: 10]. ففسح لهم طريقًا إلى التوبة كما قال الحسن البصري رحمه الله: (انظروا إلى هذا الكرم والجود، قتلوا أولياءه وهو يدعوهم إلى التوبة والمغفرة).

وفي الصحيحين عن عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، قال:[قدمَ رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم بِسَبْي، فإذا امرأةٌ من السبي تَسْعَى، إذ وجدَتْ صبيًا في السَّبْي أخذتهُ، فألزقَتْهُ ببطنِها، فأرضَعَتْهُ، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: أترونَ هذه المرأةُ طَارِحَةً ولدَها في النار؟ قلنا: لا، واللَّهِ، فقال: للَّهُ أرحَمُ بعبادهِ من هذه بولدها](1).

وفي الصحيحين أيضًا عن أبي هريرةَ رضي الله عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: [لما خلق اللَّه الخلقَ، كتبَ في كتابٍ، فهو عِنْده فوق العرش: إن رحمتي تغلبُ غضبي](2). وفي روايةٍ: (سبقت غضبي). وفي رواية: (غلبت غضبي).

وفي صحيح مسلم عن أبي هريرةَ عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يحكي عن ربَّه، تبارك وتعالى، قال:[أذنب عبدٌ ذنبًا، فقال: اللهم اغفر لي ذنبي، فقال اللَّه تبارك وتعالى: أذنب عبدي ذنبًا، فعلم أن لهُ ربًا يغفر الذنب ويأخذ بالذنب. ثم عاد فأذنب، فقال: أي رب اغفر لي ذنبي، فقال تبارك وتعالى: عبدي أذنب ذنبًا، فعلم أنه لهُ ربًّا يغفِرُ الذنبَ ويأخذُ بالذنب، ثم عاد فأذنب، فقال: أي رب اغفر لي ذنبي، فقال تبارك وتعالى: أذنب عبدي ذنبًا، فعلم أن لهُ ربًا يغفر الذنب، ويأخذ بالذنب، قد غفرتُ لعبدي فليفعل ما شاء](3). أي: ما دام يذنب ويتوب ولا يُصِر، بل يتكرر الذنب من ضَعف وزلل فإن اللَّه يغفر لمن تاب وأقلع واستغفرَ، وردّ الحقوق إلى أهلها.

وفي صحيح الإمام مسلم ما يشهد لهذا المعنى، ففي حديث أبي أيوب رضي اللَّهُ

(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (5999)، ومسلم (2754)، وأخرجه البيهقي في "الأسماء والصفات"(1039)، والبغوي في "التفسير"(864).

(2)

حديث صحيح. أخرجه البخاري (3194)، ومسلم (2751)، وأحمد (2/ 313).

(3)

حديث صحيح. أخرجه مسلم في الصحيح (2758) - كتاب التوبة - من حديث أبي هريرة.

ص: 680

عَنْهُ قال: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: [لولا أنكم تُذنبون، لخلق اللَّه خلقًا يذنبون، فيستغفرون فيغفِرُ لهم](1).

ورواه أحمد عنه، وفيه أنه قال حين حضرته الوفاة:[قد كنت كتمتُ شيئًا سمعتهُ من رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: لولا أنكم تذنبون لخلق اللَّه عز وجل قومًا يذنبون فيغفر لهم].

وروى البيهقي في "شعب الإيمان" بسند حسن عن أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[لو لم تكونوا تُذنبون، لخِفْتُ عليكم ما هو أكبرُ من ذلكَ، العُجْبَ، العُجْب](2).

وروى الطبراني في "الكبير" بسند حسن عن أبي سعيد الأنصاري، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[الندم توبة، والتائب من الذنب كمن لا ذنب له](3).

وقوله: {لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ} . قال ابن عباس: (لا تيأسوا من رحمة اللَّه).

وقوله: {إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} . أي: حتى الشرك باللَّه إن تاب صاحبه قبل أن يغرغر، وأما إن لم يتب فقد توعده اللَّه بعدم المغفرة بقوله:{إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 116]. ففيما عدا الشرك الذي لم يتب صاحبه وماتَ فأمره إلى اللَّه، إن شاء عذبه وإن شاء غفر له، فإن عاقبه كان عدلًا منه سبحانه وإن غفر له وستر عليهِ كان ذلكَ رحمة منه فهو أرحم الراحمين.

قال ابن جرير: (إن اللَّه يستر على الذنوب كلها بعفوه من أهلها وتركه عقوبتهم عليها إذا تابوا منها {إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} بهم، أن يعاقبهم عليها بعد توبتهم منها).

وقوله: {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ} . قال قتادة: (أي أقبلوا إلى ربكم). وقال السدي: (أجيبوا). وقال ابن زيد: (الإنابة الرجوع إلى الطاعة والنزوع عما كانوا عليه، ألا تراه يقول: {مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ} [الرعد: 31]). وقال القرطبي: (والإنابة الرجوع إلى اللَّه بالإخلاص).

وقوله: {وَأَسْلِمُوا لَهُ} . أي استسلموا لأمره ولجبروته فاخضعوا له معظمين مخبتين، وأقروا له بالطاعة والتواضع.

وقوله: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ} . أي عذاب الدنيا وخزي الذل فيها {ثُمَّ لَا

(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم (2748) - كتاب التوبة - باب سقوط الذنوب بالاستغفار والتوبة.

(2)

حديث حسن. أخرجه البيهقي، وابن عدي (1/ 164). وانظر:"الصحيحة"(658).

(3)

حديث حسن. أخرجه الطبراني بسند حسن. انظر: صحيح الجامع الصغير -حديث رقم- (6679).

ص: 681

تُنْصَرُونَ} فلا ينصركم ناصر، ولا يمنعكم من بطشه مانع، ولا ينقذكم من بين يديهِ سبحانه منقذ.

وقوله: {وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} فيه أكثر من تأويل:

التأويل الأول: المراد بأحسن ما أنزل هو القرآن.

والقرآن كله حسن، ولكن المعنى كما قال الحسن:(التزموا طاعته واجتنبوا معصيته). وقال السدي: (الأحسن ما أمر اللَّه به في كتابه). واختاره ابن جرير حيث قال: (واتبعوا أيها الناس ما أمركم به ربكم في تنزيله، واجتنبوا ما نهاكم فيه عنه، ذلكَ هو أحسن ما أنزل إلينا من ربنا. قال: فإن قيل: ومن القرآن شيء أحسن من شيء؟ قيل له: القرآن كله حسن وليس المعنى كما توهمت. وإنما معناه: واتبعوا مما أنزل إليكم ربكم من الأمر والنهي والخَبر، والمثل والقصص والجدل والوعد والوعيد أحسنه، وأحسنه أن تأتمروا لأمره، وتنتهوا عما نهى عنه، لأن النهي مما أنزل في الكتاب، فلو عملوا بما نهوا عنه كانوا عاملين بأقبحه، فذلكَ وجهه).

التأويل الثاني: المراد بأحسن ما أنزل هو المحكمات. قال ابن زيد: (يعني المحكمات، وَكِلُوا علم المتشابه إلى عالمه).

التأويل الثالث: المراد القرآن من بين الكتب السابقة. قال ابن زيد: (أنزل اللَّه كتبًا التوراة والإنجيل والزبور ثم أنزل القرآن وأمر باتباعه فهو الأحسن وهو المعجز). قال القرطبي: (وقيل: هذا أحسن لأنه ناسخ قاض على جميع الكتب، وجميع الكتب منسوخة).

التأويل الرابع: قيل المراد العفو إذا خُيِّرْتم بين العفو والقصاص. قال الشوكاني: (وقيل العفو دون الانتقام، بما يحق فيه الانتقام).

التأويل الخامس: قيل المراد بالأحسن أخبار الأمم الماضية فما أنزلها اللَّه إلا لتعتبروا بها فهي أحسن دليل على فهم سنن اللَّه في عباده، فإن في التاريخِ عبرة لمن أراد أن يعتبر.

التأويل السادس: قيل بل المراد الوحي دون غيره. قال القرطبي: (وقيل ما عنهم اللَّه النبي عليه السلام وليس بقرآن فهو حسن، وما أوحى إليهِ من القرآن فهو الأحسن).

قلت: وكلها معان متقاربة ويحتملها الإعجاز ويبانُ القرآن، والآية كقوله سبحانه:{الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} فإن القرآن خير كتاب على وجه الأرض وقد

ص: 682

نسخ ما أنزل قبلهُ من الكتب من التوراة والإنجيل والزبور، فهو الكتاب والمنهج إلى يوم القيامةِ، وفيه خير الأمر وخير الأخلاق وأرفعها، ففيه مقام الإحسان والعفو وَعِبَرُ الأمم الماضية، وفيه المحكمات من الآيات التي يُرجَع إليها عند الاختلاف في فهم المتشابهات فتبارك اللَّه منزل القرآن العظيم.

وقوله: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ} . المراد عذاب الدنيا يفجؤكم اللَّه به فيهددكم بالقتل والأسر والقهر والخوف والجدب والقحط ونقص المياه وموت الثمر، والفقر والأمراض، وعندئذ لا يغني حذر من قدر.

وقوله تعالى: {أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَاحَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ} .

قال السدي: (يا حسرتا: قال الندامة). والألف كناية المتكلم والمراد يا حسرتي. قال ابن جرير: (ولكن العرب تحول الياء في كناية اسم المتكلم في الاستغاثة ألفًا فتقول: يا ويلتا ويا ندما فيخرجون ذلك على لفظ الدعاء. قال: {أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ}: بمعنى لئلا تقول نفس يا حسرتا، وهو نظير قوله: {وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ} [النحل: 15]، بمعنى أن لا تميد بكم، فأن بهذا المعنى في موضع نصب). وقيل المراد: (من قبل).

قال الزمخشري: (فإن قلت لم نكّرت؟ قلت: لأن المراد بها بعض الأنفس وهي نفس الكافر).

قال القرطبي: (ويجوز أن يريد نفسًا متميزة من الأنفس، إما بلجاج في الكفر شديد، أو بعقاب عظيم، ويجوز أن يراد التكثير).

وقوله: {عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ} فيه أقوال متقاربة:

الأول: المراد في أمر اللَّه. فعن مجاهد: ({يَاحَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ} قال: يقول في أمر اللَّه). وقال السدي فيها: (تركت من أمر اللَّه).

الثاني: قيل بل المراد طاعة اللَّه. قال الحسن: (على ما فرطت: في طاعة اللَّه).

الثالث: قيل بل المراد ذكر اللَّه. قال الضحاك: (أي في ذكر اللَّه عز وجل. قال: يعني القرآن والعمل به).

الرابع: قيل بل المعنى ثواب اللَّه. قال أبو عبيدة: (في جنب اللَّه: أي في ثواب اللَّه).

ص: 683

الخامس: قيل بل المراد بالجنب الجوار والقرب. قال الفراء: (الجنب القرب والجوار، يقال: فلان يعيش في جنب فلان أي في جواره، ومنه {وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ}. أي على ما فرطت في طلب جواره وقربه وهو الجنة).

السادس: أي طريق اللَّه. قال الزجاج: (أي على ما فرطت في الطريق الذي هو طريق اللَّه الذي دعاني إليه).

قال القرطبي: (والعرب تسمي السبب والطريق إلى الشيء جنبًا، تقول تجرعت في جنبك غصصًا، أي لأجلك وسببك ولأجل مرضاتك).

السابع: قيل بل المعنى رضا اللَّه. قال الشوكاني: (وقال الزجاج: أي فرطت في الطريق الذي هو طريق اللَّه من توحيده والإقرار بنبوة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وآله وسلم، وعلى هذا فالجنب بمعنى الجانب: أي قصرت في الجانب الذي يؤدي إلى رضا اللَّه).

قلت: وغاية المعنى أنّ الندم سيأكل من قلوب المسرفين الذين ضَيَّعوا حياتهم الدنيا بالكبر والاستهزاء بأمر اللَّه ونهيه واستسهال أمر الفواحش والكبائر والمضي في غير طريق اللَّه وطريق رضوانه وطاعته وثوابه، والاستئناس بجوار غيره، وقرب من أبعده اللَّه وكان من الخاسرين، كما قال جل ثناؤه في سورة الرعد:{وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} .

وفي صحيح الإمام مسلم عن أنس بن مالك، رضي الله عنه، عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، قال:[إنّ الكافر إذا عَمَل حسنةً، أُطْعِمَ بها طُعْمةً من الدنيا، وأما المؤمنُ، فإن اللَّه تعالى يَدَّخِرُ له حسناتِه في الآخرة، ويُعْقِبُهُ رِزْقًا في الدنيا على طاعته].

وفي رواية: [إن اللَّه لا يظلم مؤمنًا حسنةً يُعطى بها في الدنيا، ويُجْزى بها في الآخرة، وأما الكافِرُ، فيطعَمُ بحسناتِ ما عمل بها للَّه تعالى في الدنيا، حتى إذا أفضى إلى الآخرة، لم يكن له حسنةٌ يُجْزَى بها](1).

وأخرج الحاكم بسند صحيح عن أبي هريرة قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: [كُلُّ أهل النار يرى مَقْعَدَه من الجنة، فيقول: لو أنَّ اللَّه هداني، فيكون عليهم حَسْرةً، وكُلُّ أهل الجنة يرى مَقْعَدَهُ من النار، فيقول: لولا أنَّ اللَّه هداني، فيكون له شُكْرًا، ثم تلا

(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم في الصحيح (2808) ح (56)(57)، كتاب صفات المنافقين.

ص: 684

رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: {أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَاحَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ} ] (1).

وقوله: {وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ} . قال قتادة: (فلم يكفه أن ضيَّع طاعة اللَّه، حتى جعل يسخر بأهل طاعة اللَّه. قال: هذا قول صنف منهم).

وقال السدي: (يقول: من المستهزئين بالنبي صلى الله عليه وسلم وبالكتاب وبما جاء به).

وقال ابن جرير (وإن كنت لمن المستهزئين بأمر اللَّه وكتابه ورسوله والمؤمنين به). وقال الشوكاني: (أي وما كنت إلا من المستهزئين بدين اللَّه في الدنيا، ومحل الجملة النصب على الحال).

قلت: والآية تشبه قوله في سورة التوبة: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (65) لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ} . فإن الاستهزاء باللَّه أو كتابه أو دينه أو رسوله كفر يورد صاحبه المهانة والذل يوم القيامة. كما جاء في صحيح الأدب المفرد للإمام البخاري رحمه الله عن طيْسَلَةَ بن ميّاس قال: [كنت في النَّجَدَات فأصبتُ ذنوبًا لا أراها إلا من الكبائر فذكرت ذلك لابن عمر قال: ما هي؟ قلت كذا وكذا. قال: ليست هذه من الكبائر: هُنَّ تِسْعٌ: [الإشراك باللَّه، وقتل نسمة، والفرار من الزحف، وقذف المحصنة، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، وإلحاد في المسجد، والذي يستسخر (2)، وبكاء الوالدين من العقوق](3).

وقوله تعالى: {أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} . فيه محاولة الظالم الهروب من التكليف، ونسب الجبر والظلم للَّه، ولكنها محاولة واهية لن تجديهم في الآخرة، وهي طريقة كثير من الناس اليوم لِرفع الأمر والمسؤولية عن عاتقهم، وهم يضحكون على أنفسهم من حيث يشعرون أو لا يشعرون.

قال قتادة: ({يَاحَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ} الآية قال: هذا قول صنف منهم. {أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي} الآية، قال: هذا قول صنف آخر. {أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى

(1) حديث صحيح. أخرجه الحاكم (2/ 435 - 436)، وأحمد (2/ 512)، والخطيب (5/ 24). وانظر: سلسلة الأحاديث الصحيحة -حديث رقم- (2034).

(2)

أي من الاستهزاء باللَّه ودينه ورسله والسخرية بالمؤمنين.

(3)

حديث صحيح. أخرجه البخاري في "الأدب المفرد"(8) - باب لين الكلام لوالديه.

ص: 685

الْعَذَابَ} الآية. يعني بقوله: {لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً} رجعة إلى الدنيا، قال: هذا صنف آخر).

وعن ابن عباس (قوله: {أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَاحَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ} قال: أخبر اللَّه ما العباد قائلوه قبل أن يقولوه، وعملهم قبل أن يعملوه، قال: {وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} [فاطر: 14]، {أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَاحَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ}، {أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي} -إلى قوله- {فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} يقول: من المهتدين، فأخبر اللَّه سبحانه أنهم لو ردوا لم يقدروا على الهدى وقال {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [الأنعام: 28]، وقال: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الأنعام: 110]. قال: ولو ردوا إلى الدنيا لحيل بينهم وبين الهدى كما حلنا بينهم وبينه أول مرة وهم في الدنيا).

قال الشوكاني: ({أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} أي لو أن اللَّه أرشدني إلى دينه لكنت ممن يتقي الشرك والمعاصي، وهذا من جملة ما يحتج به المشركون من الحجج الزائفة، ويتعللون به من العلل الباطلة، كما في قوله - {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا} - فهي كلمة حق يريدون بها باطلًا).

وقوله تعالى: {أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} .

أي: لو كانت لي فرصة العودة إلى الدنيا، وإمكانية الرجعة إليها، لكنت من عباد اللَّه المخلصين الموحدين المؤمنين، فأخبر تعالى أن لو رُدُّوا لما قدروا على الهدى.

وأما نَصب {فَأَكُونَ} فعلى وجهين عند أهل اللغة.

الأول: أن يكون النصب على جواب التمني، أي جواب (لو).

الثاني: أن يكون معطوفًا على (كرّةً) والتقدير: "لو أن لي أن أكرَّ فأكون من المحسنين".

وقد أخرج الإمام أحمد في المسند والحاكم في المستدرك بسند حسن عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [كُلُّ أهل الجنة يرى مقعدَهُ من النار، فيقول: لولا أن اللَّهَ هداني، فيكونُ لهُ شُكرٌ، وكُلُّ أهلِ النار يرى مقعدَه من الجنة، فيقولُ: لو أن اللَّه هداني، فيكون عليه حسرة](1).

(1) حديث صحيح. أخرجه أحمد (2/ 512)، والحاكم (2/ 435 - 436)، وقد مضى.

ص: 686

فجاء الجواب من اللَّه ردًّا على تلك النفس المُتَمنِّيَة: {بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ} .

قال قتادة: (يقول اللَّه ردًّا لقولهم وتكذيبًا لهم، يعني لقول القائلين: {لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي} والصنف الآخر: {بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي. . .} الآية). قال النسفي: (ولكن تركت ذلك وضيعته واستكبرت عن قبوله، وآثرت الضلالة على الهدى، واشتغلت بضد ما أمرت به، فإنما جاء التضييع من قبلك فلا عذر لك).

وقال ابن جرير: (يقول: قد جاءتك حججي من بين رسول أرسلته إليك، وكتاب أنزلته يتلى عليك، ما فيه من الوعد والوعيد والتذكير، فكذبت بآياتي واستكبرت عن قبولها واتباعها وكنت ممن يعمل عمل الكافرين).

والمراد بالآيات في هذه الآية ما نزل من القرآن، وذلك كما قال الشوكاني:(المراد بالآيات هي الآيات التنزيلية وهو القرآن، ومعنى التكذيب بها قوله: إنها ليس من عند اللَّه وتكبر عن الإيمان بها، وكان مع ذلك التكذيب والاستكبار من الكافرين باللَّه).

قلت: وإن كان الخطاب للمذكر إلا أن النفس في كلام العرب تطلق على المذكر والمؤنث. والآية كقوله في سورة هود: {أُولَئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ} والآية التي قبلها: {أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} .

وفي الصحيحين عن أنس قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: [إن اللَّه تعالى يقول لأهون أهل النار عذابًا: لو أنّ لكَ ما في الأرض من شيء كنتَ تفتدي به؟ قال: نعم، قال: فقد سألتك ما هو أهونُ من هذا وأنت في صُلبِ آدم أن لا تشركَ بي شيئًا فأبيت إلا الشرك](1).

وعن الترمذي بسند صحيح عن أبي هريرة قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: [يؤتى بالعبدِ يوم القيامة، فيقالُ له: ألم أجعل لك سمعًا وبصرًا ومالًا وولدًا، وسَخَّرت لك الأنعام والحرثَ وتركتك ترأسُ وتربعُ، فكنت تظنَّ أنك مُلاقِيَّ يومَكَ هذا؟ فيقول: لا، فيقول له: اليوم أنساك كما نسيتني](2).

(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري في الصحيح (3334) - كتاب أحاديث الأنبياء - ورواه مسلم.

(2)

حديث صحيح. أخرجه الترمذي في السنن -حديث رقم- (2428). وأصله في صحيح مسلم.

ص: 687