الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث السَّادِس: نماذج تطبيقية على علم الْمُنَاسبَة
أَولا: التناسب فِي الْآيَات
…
المبْحثُ السَّادس: نماذج تطبيقية على علم الْمُنَاسبَة
كَانَت هَذِه المباحث الْمُتَقَدّمَة أقرب إِلَى أَن تكون مدخلًا نظرياً لدراسة علم الْمُنَاسبَة، والآن جَاءَ أَوَان النّظر فِي التطبيقات العملية لمبادئ هَذَا الْعلم الشريف وأغراضه السامية، من خلال عرضٍ لبَعض نماذج مَا تعرض لَهُ الكاتبون فِيهِ، والمهتمون بِهِ.
وسوف نَخْتَار نماذج ثَلَاثَة فَقَط، حَتَّى لَا يخرج الْكَلَام بِنَا عَن حُدُود هَذِه الدراسة، آملين أَن تكون دَالَّة على أهمية هَذَا الْعلم، وضرورة مُتَابعَة النّظر فِيهِ (نظريا وتطبيقاً) ، حَتَّى يَسْتَوِي كلٌّ منا على سُوقه، ويتحقق المُرَاد الْأَعْظَم مِنْهُ، وَهُوَ الاهتداء بهداية الْقُرْآن الْعَظِيم، وَالنَّظَر إِلَيْهِ كوحدة وَاحِدَة، من شَأْن الاعتناء بهَا (علما وَعَملا) أَن يخرج الْأمة من أزمتها، وَيُعِيد إِلَيْهَا سالف مجدها وعزتها.
وَقد اخترتُ النماذج بِحَسب النّظر إِلَى أَنْوَاع علم الْمُنَاسبَة الرئيسة؛ وَلذَا جَاءَت تمثيلاً للتناسب بَين الْآيَات، ثمَّ فِي السُّورَة الْوَاحِدَة، ثمَّ فِيمَا بَين السُّور.
وَبِاللَّهِ الْهِدَايَة، وَمِنْه التَّوْفِيق، وَلَا حول وَلَا قُوَّة إِلَّا بِهِ.
أَولا: التناسب فِي الْآيَات:
لعلَّ من أَكثر آيَات الْقُرْآن الْمجِيد إشْكَالًا من جِهَة بَيَان مناسبتها لسياق السُّورَة الَّتِي وَردت فِيهَا، هِيَ هَذِه الْآيَات الْأَرْبَع من سُورَة الْقِيَامَة:{لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} (16:19) ، ولعلَّ أهمية حلِّ إِشْكَال تناسب هَذِه الْآيَات يرجع إِلَى أَنَّهَا كَانَت من قديمٍ محلَّ جدل وتشكك من قبل الطاعنين فِي هَذَا الْكتاب الْمجِيد، وَفِي هَذَا
يَقُول الإِمَام فَخر الدّين الرَّازِيّ: ((زعم قوم من قدماء الروافض أَن هَذَا الْقُرْآن قد غُيِّر وبُدِّل، وَزيد فِيهِ وَنقص عَنهُ، وَاحْتَجُّوا عَلَيْهِ بِأَنَّهُ لَا مُنَاسبَة بَين هَذِه الْآيَات (من سُورَة الْقِيَامَة) وَبَين مَا قبلهَا، وَلَو كَانَ هَذَا التَّرْتِيب من عِنْد الله تَعَالَى لما كَانَ الْأَمر كَذَلِك
…
)) (1) .
وَلِهَذَا السَّبَب اخترنا هَذِه الْآيَات الْكَرِيمَة لتَكون مِثَالا للنَّظَر فِيمَا تكلم بِهِ عُلَمَاء الْقُرْآن المهتمون بِأَمْر التناسب فِي الْقُرْآن الْكَرِيم.
وَحَتَّى لَا نقع فِي مَحْذُور تكْرَار الْأَقْوَال، وتزاحم النقول، بِمَا قد لَا يُفِيد كثيرا، فقد اخترتُ عشرَة من أهمِّ من تكلمُوا فِي هَذَا الْموضع، وعرضتُ لأقوالهم بِحَسب تَرْتِيب وَفِياتهم، حَيْثُ إِن كَلَام بَعضهم أصبح عُمْدَة من بعدهمْ،
(1) مَفَاتِيح الْغَيْب، 30/222. وَانْظُر فِي ذَلِك كتاب شَيخنَا الدكتور مُحَمَّد أَحْمد يُوسُف الْقَاسِم - بَارك الله فِيهِ وأمتع بِهِ -: الإعجاز الْبَيَانِي فِي تَرْتِيب آيَات الْقُرْآن الْكَرِيم وسوره، ص 470: 502، وَكَذَلِكَ: ص 522: 526، وَانْظُر كَذَلِك فِي الرَّد على هَذِه المطاعن الْبَاطِلَة مُقَدّمَة كتاب (المباني فِي نظم الْمعَانِي) لمؤلف مغربي - فِيمَا يظْهر - مَجْهُول (كتبهَا فِي حُدُود سنة 425?) ، وَالَّتِي نشرها المستشرق الإنجليزي آرثر جفري ضمن كِتَابه (مقدمتان فِي عُلُوم الْقُرْآن) نشر مكتبة الخانجي، ط2 /1972م، وَلَا سِيمَا فِي الْفَصْل الرَّابِع مِنْهَا (ص 78: 117) . وعنوانه (فصل فِي بَيَان مَا ادعوا على الْمُصحف من الزِّيَادَة وَالْخَطَأ وَالنُّقْصَان، والكشف عَنْهَا بأوجز بَيَان) . وَلَعَلَّ من أقوى وأمتع مَا كتب فِي دحض هَذِه المفتريات الْوَاهِيَة، هُوَ مَا دبَّجه قلم الإِمَام الثبت الْحجَّة أبي بكر مُحَمَّد بن الطّيب الباقلاني (ت403?) - طيب الله ثراه -، وَذَلِكَ فِي كِتَابه بَالغ الأهمية فِي هَذَا السِّيَاق (الِانْتِصَار لِلْقُرْآنِ) - وَقد سبقت الْإِشَارَة إِلَيْهِ من قبل -.. فَفِيهِ دفاع متين، وحجج ناهضة، وردود قَوِيَّة عَن كَافَّة الأسئلة والشكوك الَّتِي تعرضت لِلْقُرْآنِ الْمجِيد من شَتَّى الْجِهَات: التاريخية، والعقدية، واللغوية، والأسلوبية.. كل ذَلِك بطريقة الباقلاني الكلامية المحكمة، وعقليته المنهجية الراسخة.
فهم ينقلونه نقلا حرفياً، وَلَا يكادون يزِيدُونَ عَلَيْهِ، وَأَحْيَانا لَا يشيرون إِلَى مصدره الَّذِي أَخَذُوهُ مِنْهُ.
(1)
جَار الله الزَّمَخْشَرِيّ (ت538هـ) : قَالَ رحمه الله: ((فَإِن قلت: كَيفَ اتَّصل قَوْله {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ..} بِذكر الْقِيَامَة؟ قلتُ: اتصالُه من جِهَة هَذَا التَّخَلُّص مِنْهُ إِلَى التوبيخ بحب العاجلة وَترك الاهتمام بِالآخِرَة)) (1) .
وَهَذَا حسن لَوْلَا أَنه اقْتصر على بَيَان الْمُنَاسبَة للآيات اللاحقة، وَلم يتَعَرَّض لمناسبتها للآيات السَّابِقَة.
(2)
فَخر الدّين الرَّازِيّ (ت 606هـ) : ذكر رحمه الله: فِي وَجه الْمُنَاسبَة سِتَّة وُجُوه، هاك ملخَّصها:
فأولها: أَنه مُرْتَبِط بِسَبَب النّزول (2) ، حَيْثُ اتّفق الاستعجال الْمنْهِي عَنهُ للرسول (عِنْد إِنْزَال السُّورَة عَلَيْهِ، فتخلَّل النَّهْي عَن ذَلِك الاستعجال آياتها الَّتِي تَتَحَدَّث عَن الْقِيَامَة.. وَهَذَا كَمَا أَن الْمدرس قد يُخَاطب تِلْمِيذه إِذْ يتشاغل عَنهُ بقوله فِي أثْنَاء الدَّرْس: لَا تلْتَفت عني.. ثمَّ يعود إِلَى درسه، فَمن لم يعرف السَّبَب يَقُول: إِن وُقُوع هَذِه الْكَلِمَة فِي أثْنَاء الدَّرْس غير مُنَاسِب، لَكِن من عرف الْوَاقِعَة علم أَنَّهَا مُنَاسبَة.
وَثَانِيها: أَنه مُرْتَبِط بِذكر حُبِّ الْكفَّار السَّعَادَة والعاجلة فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا فِي قَوْله تَعَالَى: {بَلْ يُرِيدُ الْأِنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ} ، فَبين بِهَذِهِ الْآيَات الْأَرْبَع أَن
(1) الْكَشَّاف، 4/192.
(2)
مَا أخرجه البُخَارِيّ وَمُسلم (وَاللَّفْظ للْبُخَارِيّ) عَن ابْن عَبَّاس رضي الله عنهما قَالَ: كَانَ النَّبِي (إِذا نزل عَلَيْهِ الوحيُ حرَّك لِسَانه
…
يُرِيد أَن يحفظه فَأنْزل الله: {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ..} . صَحِيح البخارى. صَحِيح مُسلم (1/330) .
التعجل مَذْمُوم مُطلقًا، حَتَّى وَلَو كَانَ فِي أُمُور الدّين، فَكيف إِذا كَانَ فِي أُمُور الدُّنْيَا؟!
وَثَالِثهَا: أَن الرَّسُول صلى الله عليه وسلم كَانَ يُظهر التعجُّل فِي الْقِرَاءَة مَعَ جِبْرِيل، وَأَنه كَانَ يَجْعَل الْعذر فِيهِ خوف النسْيَان، فَقدم لَهُ الله تَعَالَى بقوله:{بَلِ الْأِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ} ، حَيْثُ أَفَادَ أَن الْإِنْسَان وَإِن اعتذر عَن نَفسه، وجادل عَنْهَا، وأتى بِكُل عذرٍ وَحجَّة، فَإِنَّهُ لَا يَنْفَعهُ ذَلِك؛ لِأَنَّهُ شَاهد على نَفسه، وَهَاهُنَا قيل للنَّبِي صلى الله عليه وسلم: إِنَّك إِذا أتيت بِهَذَا الْعذر، فَإنَّك تعلم أَن الْحِفْظ لَا يحصل إِلَّا بِتَوْفِيق الله وإعانته، فاترك هَذَا التعجل، وَاعْتمد على هِدَايَة الله تَعَالَى.
وَرَابِعهَا: مُرْتَبِط أَيْضا بقوله: {بَلِ الْأِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ} كَأَنَّهُ قَالَ: يَا مُحَمَّد: إِن غرضك من هَذَا التعجل أَن تحفظ الْوَحْي وتبلغه إِلَيْهِم، لَكِن لَا حَاجَة إِلَى هَذَا، فَإِن الْإِنْسَان على نَفسه بَصِيرَة، وهم بقلوبهم يعلمُونَ أَن الَّذِي هم عَلَيْهِ من الْكفْر وإنكار الْبَعْث بَاطِل، فَإِذا كَانَ غرضك من التعجل أَن تعرفهم قبح مَا هم عَلَيْهِ _ وَهَذِه معرفَة حَاصِلَة عِنْدهم فِي قرارة نُفُوسهم _ فَإِن فِعْلَك هَذَا من التعجُّل لَا فَائِدَة مِنْهُ.
وخامسها: أَنه - تَعَالَى - حكى عَن الْكَافِر أَنه يَقُول: {أَيْنَ الْمَفَرُّ} ثمَّ قَالَ تَعَالَى: {كَلَّا لَا وَزَرَ إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ} .. فالكافر كَأَنَّهُ يفرُّ من الله إِلَى غَيره، فَقيل للنَّبِي صلى الله عليه وسلم: يَا مُحَمَّد، إِنَّك فِي طلب حفظ الْقُرْآن تستعين بالتكرار، وَهَذَا استعانةٌ مِنْك بِغَيْر الله، فاترك هَذِه الطَّرِيقَة، واستعِنْ فِي هَذَا الْأَمر بِاللَّه، وفرَّ إِلَيْهِ؛ لتَكون مضاداً لذَلِك الْكَافِر الفار مِنْهُ سبحانه وتعالى.
وسادسها: نَقله الرَّازِيّ عَن القفّال وَلم يُعقِّب عَلَيْهِ.. وَهُوَ أَن الْخطاب فِي: {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ} لَيْسَ للرسول صلى الله عليه وسلم، بل هُوَ خطاب للْإنْسَان الْمَذْكُور فِي قَوْله
تَعَالَى: {يُنَبَّأُ الْأِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ} ، حَيْثُ إِنَّه إِذا عُرض عَلَيْهِ كتابُه يَوْم الْقِيَامَة، ودُعي إِلَى قِرَاءَته، وَرَأى مَا فِيهِ من قبائح أَفعاله يتلجلج لِسَانه من شدَّة الْخَوْف وَسُرْعَة الْقِرَاءَة، فَيُقَال لَهُ حينئذٍ: لَا تُحرِّك بِالْقِرَاءَةِ لسَانك، فَإِن علينا - بِحكم الْوَعْد أَو الْحِكْمَة - أَن نجمع أعمالك، وَأَن نقرأها عَلَيْك.. فَإِذا قرأناه فَاتبع قِرَاءَته بِالْإِقْرَارِ بأنك فعلت تِلْكَ الْأَفْعَال.. ثمَّ إنَّ علينا بَيَان الْإِنْسَان وَمَا يتَعَلَّق بعقوبته..
ثمَّ قَالَ القفَّال: ((فَهَذَا وَجه حسن، لَيْسَ فِي الْعقل مَا يَدْفَعهُ، وَإِن كَانَت الْآثَار غير وَارِدَة بِهِ)) (1) .
والحقُّ أَن الْوَجْه الأول - من هَذِه السِّتَّة - لَا تعلق لَهُ بِبَيَان الْمُنَاسبَة، بل هُوَ - باعتماده على سَبَب النّزول وَحده - مِمَّا يؤكِّد إِشْكَال التناسب؛ فَهُوَ يصلح لعرض أساس المشكلة، وَلَا يصلح لِأَن يكون وَجها من وُجُوه الْمُنَاسبَة، وَقد قَالَ فِيهِ الألوسي:((هَذَا عِنْدِي بعيد، لم يتَّفق مثله فِي النّظم الْجَلِيل، وَلَا دَلِيل لمن يرَاهُ على وُقُوع الْجُمْلَة فِي أثْنَاء هَذِه الْآيَات سوى خَفَاء الْمُنَاسبَة)) (2) .
وَكَذَلِكَ الْوَجْه الْأَخير - الَّذِي نَقله الرَّازِيّ عَن الْقفال وَسكت عَنهُ - ففوق أَن الأسلوب الْعَرَبِيّ، ومعاني الْأَلْفَاظ تنبو عَنهُ - كَمَا قَالَ الطَّاهِر بن عاشور - فَإِنَّهُ يُهمل سَبَب النّزول إهمالاً كَامِلا، ويتكلف فِي الْآيَات مَا لَا سَبِيل إِلَى قبُوله، هَذَا على الرغم من قبُول بعض الدراسين لَهُ وتفضيلهم إِيَّاه، وَمن هَؤُلَاءِ الدكتور أَحْمد أَحْمد البدوي الذى نَقله وعقَّب عَلَيْهِ - بعد أَن ذكرأنه
(1) انْظُر هَذِه الْوُجُوه السِّتَّة فِي: مَفَاتِيح الْغَيْب، 30/222: 224
(2)
روح الْمعَانِي فِي تَفْسِير الْقُرْآن الْعَظِيم والسبع المثاني، الآلوسي الْبَغْدَادِيّ، طبعة المنيرية، 29/143.
أفضل تَوْجِيه رَآهُ - بقوله:
((.. وَإِذا كنت أوافقه فِي أصل الفكرة، فَإِنِّي أخالفه فِي تفصيلاتها، فَالْمَعْنى - على مَا أرى -: ينبأ الْإِنْسَان يَوْمئِذٍ بِمَا قدم وَأخر، وَذَلِكَ - كَمَا أخبر الْقُرْآن - فِي كتابٍ مسطور، وَفِي تِلْكَ الْآيَات يصف الْقُرْآن موقف الْمَرْء من هَذَا الْكتاب، فَهُوَ يتلوه فِي عجلٍ كي يعرف نتيجته، فَيُقَال لَهُ: لَا تُحرِّك بِالْقِرَاءَةِ لسَانك لتتعجل النتيجة، إِن علينا أَن نجمع مَا فِيهِ من أَعمال فِي قَلْبك، وَأَن نجعلك تقرؤه فِي تدبُّرٍ وإمعان، فَإِذا قرأته، فاتجه الاتجاه الَّذِي يهديك، وَإِن علينا بَيَان هَذَا الاتجاه وإرشادك إِلَيْهِ.. إِمَّا إِلَى الْجنَّة، وَإِمَّا إِلَى السعير، وَبِذَلِك يَتَّضِح ألَاّ خُرُوج فِي الْآيَات على نظم السُّورَة وهدفها)) (1) .
والحقُّ أَن هَذَا أوغلُ فِي التكلُّف من كَلَام القفَّال.
وعَلى كلٍّ، فكلاهما لَا ينسجم وسياقَ السُّورَة، وَلَا يتَّفق ومعانيَ الْآيَات الظَّاهِرَة ذَاتهَا.. فَوق أَنه مخالفٌ للصحيح الْمَأْثُور الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُور، من أَن ذَلِك الْخطاب إِنَّمَا هُوَ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم.
(3)
أَبُو حَيَّان الأندلسي (ت 754هـ) : قَالَ رحمه الله: ((.. وَيظْهر أَن الْمُنَاسبَة بَين هَذِه الْآيَة وَمَا قبلهَا أَنه تَعَالَى لما ذكر مُنكر الْقِيَامَة والبعث، معرضًا عَن آيَات الله تَعَالَى ومعجزاته، وَأَنه قاصرٌ شهواته على الْفُجُور، غير مكترثٍ بِمَا يصدر مِنْهُ ذكر حَال من يثابر على تعلم آيَات الله وحفظها وتلقفها وَالنَّظَر فِيهَا، وعرضها على من ينكرها رَجَاء قبُوله إِيَّاهَا، فَظهر بذلك تبَاين من يرغب فِي تَحْصِيل آيَات الله وَمن يرغب عَنْهَا، وبضدها تتَمَيَّز الْأَشْيَاء)) (2) .
(1) من بلاغة الْقُرْآن، د. أَحْمد أَحْمد البدوي، مكتبة نهضة مصر، ط 3/1950م، ص 237.
(2)
الْبَحْر الْمُحِيط، أَبُو حَيَّان الأندلسي، تَصْوِير دَار الْفِكر - بيروت، 8/388.
وَهَذَا قريبٌ من الْوَجْه الْخَامِس من وُجُوه الْفَخر الرَّازِيّ، وَهُوَ مقبولٌ إِلَى حدٍّ مَا، غير أَن فِيهِ أَنه يحسن بعد تَمام مَا يتَعَلَّق بذلك الْمُنكر، وَالظَّاهِر أَن {لَا تُحرِّك} وَقع فِي الْأَثْنَاء - كَمَا قَالَ الألوسي - فَلَا تزَال الْمُنَاسبَة غير ظَاهِرَة.
(4)
برهَان الدّين البقاعي (ت885هـ) : وسوف نتجاوزه قَلِيلا حَتَّى ننتهي من عرض بَقِيَّة الْأَقْوَال، حَيْثُ إِنَّه من أحسن مَنْ تكلم عَن وَجه مناسبةٍ مَقْبُول، وسنرجع إِلَيْهِ ثَانِيَة بِإِذن الله.
(5)
إِسْمَاعِيل حَقي البروسوي (ت 137هـ) : قَالَ رحمه الله: ((.. لَاحَ لي فِي سرِّ الْمُنَاسبَة وجهٌ لطيف، وَهُوَ أَن الله تَعَالَى بيَّن قبل قَوْله: {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ} جمع الْعِظَام ومتفرقات العناصر، الَّتِي هِيَ أَرْكَان ظَاهر الْوُجُود، ثمَّ انْتقل إِلَى جمع الْقُرْآن وأجزائه، الَّتِي هِيَ أساس خلق الْوُجُود، فَقَالَ بعد قَوْله: {أَيَحْسَبُ الْأِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ} : {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} فَاجْتمع الْجمع بِالْجمعِ، وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين)) (1) .
وَهُوَ وَجه لطيف حَقًا.. بَيْدَ أَنه يُشم وَلَا يُفْرك!
(6)
شهَاب الدّين الألوسي (ت 1270هـ) : نقل الألوسي أَكثر من وجهٍ للمناسبة، غير أنني أقتصر على اثْنَيْنِ مِنْهَا، حَتَّى لَا أكرر مَا سبق.
أما الأول فَهُوَ أَن قَوْله عز وجل: {لَا تُحَرِّكْ} متوسطٌ بَين حبِّ العاجلة: حبِّها الَّذِي تضمنه: {بَلْ يُرِيدُ..} تَلْوِيحًا، وحبّها الَّذِي آذن بِهِ:{بَلْ تُحِبُّونَ..} تَصْرِيحًا، لحسن التَّخَلُّص مِنْهُ إِلَى المفاجأة وَالتَّصْرِيح، فَفِي ذَلِك تدرجٌ ومبالغةٌ فِي التقريع. والتدرج وَإِن كَانَ يحصل لَو لم يُؤْت بقوله - سُبْحَانَهُ
(1) روح الْبَيَان، إِسْمَاعِيل حَقي البروسوى، تَصْوِير دَار إحيار التراث الْعَرَبِيّ - بيروت 10/249.
-: {لَا تُحَرِّكْ} فِي الْبَين (أَي الْوسط) أَيْضا، إِلَّا أَنه يلْزم حينئذٍ فَوَات الْمُبَالغَة فِي التقريع.. وَأَنه إِذا لم تُجزِ العجلةُ فِي الْقُرْآن - وَهُوَ شفاءٌ وَرَحْمَة - فَكيف فِيمَا هُوَ فجورٌ وثبورٌ؟ ! .. وَيَزُول مَا أُشير إِلَيْهِ من الْفَوَائِد، فَهُوَ استطرادٌ يُؤَدِّي مؤدى الِاعْتِرَاض.
ثمَّ قَالَ الشَّيْخ: ((هَذَا خُلَاصَة مَا رمز إِلَيْهِ جَار الله)) (1) .. ثمَّ قَالَ فِي آخر عرضه لما ذكر من وجوهٍ: ((.. واللائق بجزالة التَّنْزِيل ولطيف إشاراته مَا أَشَارَ إِلَيْهِ ذُو الْيَد الطُولى جارُ الله..)) (2) .
وَلذَلِك، فَإِنَّهُ يرد عَلَيْهِ مَا يرد على كَلَام الزَّمَخْشَرِيّ، وَالَّذِي ذكرتُه آنِفا، وَإِن كَانَ هَذَا أقرب إِلَى ملاءمة السباق واللحاق.
وَأما الْوَجْه الثَّانِي الَّذِي يهمنا من الألوسي، فحاصله أَن الْخطاب فِي {لَا تُحرِّك} لسَيِّد المخاطَبين صلى الله عليه وسلم حَقِيقَة، أَو من بَاب (إياكِ أَعنِي، واسمعي يَا جَارة) ، أولكل من يصلُح لَهُ الْخطاب.. وَأَن الضَّمِير فِي {بِهِ} إِنَّمَا هُوَ ليَوْم الْقِيَامَة، وَأَن الْجُمْلَة اعتراضٌ جِيءَ بِهِ لتأكيد تهويله وتفظيعه، مَعَ تقاضي السباق لَهُ.. وَالْمعْنَى على ذَلِك: لَا تسْأَل عَن تَوْقِيت ذَلِك الْيَوْم الْعَظِيم، مستعجلاً معرفَة ذَلِك، فَإِنَّهُ الْوَاجِب علينا حِكْمَة حشر الْجَمِيع فِيهِ، وإنزال قُرْآن يتَضَمَّن بَيَان أَحْوَاله، ليُستعَدَّ لَهُ، وإظهاره بالوقوع الَّذِي هُوَ الداهية الْعُظْمَى، وَأما مَا عدا ذَلِك من تعْيين وقته، فَلَا يجب علينا حِكْمَة، بل هُوَ منافٍ للحكمة، فَإِذا سَأَلت، فقد سَأَلت مَا ينافيها، فَلَا تجاب.
هَذَا مَعْطُوف على قَوْله: ((وَيلْزم حِينَئِذٍ فواتُ الْمُبَالغَة..))
(1)
روح الْمعَانِي، 29 / 142، 143
(2)
السَّابِق، 29/144
وَقد كفانا الألوسيُّ نَفسه مؤونة نقض هَذَا الْوَجْه - لبعده الشَّديد عَن الظَّاهِر، وَعَن سَبَب النّزول الَّذِي هُوَ مَحل اتِّفَاق الْجُمْهُور كَمَا سبق - بقوله:((.. وَفِيه مَا فِيهِ، وَمَا كنت أذكرهُ لَوْلَا هَذَا التَّنْبِيه)) (1) .
(7)
الشَّيْخ عبد الحميد الفراهي (ت 1349هـ) : لَيْسَ بَين أَيْدِينَا - مَعَ الأسف الشَّديد - تَفْسِير الفراهي الَّذِي سَمَّاهُ (نظام الْقُرْآن وَتَأْويل الْفرْقَان بالفرقان) ، وَالَّذِي ذُكر أَنه طبق فِيهِ تنظيره فِي مجَال التناسب، وَالَّذِي أطلق عَلَيْهِ (النظام) - كَمَا أشرتُ من قبل -.. وَلذَا، فإنني أنقل عَن رِسَالَة الدكتوراه المُعدَّة عَنهُ مَا يتَعَلَّق بِهَذَا الْمقَام، فقد ذكر الباحث سيد سعيد أحسن العابدي أَن الفراهي تكلم عَن أَن الْمُفَسّرين لمَّا خَفِي عَلَيْهِم رِبَاط الْكَلَام فِي هَذِه السُّورَة، جعلُوا هَذِه الْآيَات الْأَرْبَع كلَاما مستأنفاً، غير مربوط بمضمون السُّورَة، وظنوا أَن النَّبِي اعتراه الْعجل، فَكَلمهُ جِبْرِيل ناهياً عَنهُ.. ثمَّ قَالَ الفراهي:((نعم.. إِن نزُول الْقُرْآن كنُزول الْغَيْث، ينْتَظر انبعاثاً لكَي يُطَابق بِالْحَال، وَقد وَقع عِنْد إِلْقَاء الْكَلَام أَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم كَانَ عَاجلا لتلقي الْوَحْي، حرصاً عَلَيْهِ لشدَّة حرصه على إنذار قومه، فَاعْلَم أَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم بعد مَا أوحى إِلَيْهِ، كَانَ يحْسب أَن حملا باهظاً قد أُلقي عَلَيْهِ، فَإِن نسي مِنْهُ شَيْئا كَانَ مسؤولاً عَنهُ، وَمَعَ ذَلِك كَانَ يشتاق إِلَى زِيَادَة الْوَحْي، لَعَلَّ قومه يَنْتَفِعُونَ بِهِ، فَجَاءَت التسلية حسب هذَيْن الْأَمريْنِ، مَعَ رِعَايَة وَجه الْكَلَام فِي هَذِه السُّورَة، فَكَأَنَّهُ قيل لَهُ: لِم تجتهد هَكَذَا فِي تلقي الْوَحْي؟ ! أما حفظه أَو جمعه فعلينا، وَأما هِدَايَة قَوْمك، فهم منهمكون فِي محبَّة العاجلة، فكثير القَوْل وقليله سواءٌ عَلَيْهِم)) (2) .
(1) السَّابِق، 29 / 144
(2)
ذكر الدكتور العابدي فِي رسَالَته تِلْكَ (ص 148، 149) أَن هَذَا الْكَلَام من تَفْسِير الفراهي، ص 11: 14 بِتَصَرُّف.
والحقُّ أَن وَجه الْمُنَاسبَة لم يَتَّضِح - كَمَا يَنْبَغِي - من خلال هَذَا الْكَلَام؛ إِذْ يرِدُ عَلَيْهِ مَا أوردناه من قبل على تَوْجِيه الزَّمَخْشَرِيّ، من كَونه يحلُّ الْمُنَاسبَة بِالنّظرِ إِلَى الْآيَات اللاحقة فَقَط، دون النّظر إِلَى الْآيَات السَّابِقَة، ولعلنا إِن رَجعْنَا إِلَى أصل كَلَام الفراهي تكون الصُّورَة أَكثر وضوحاً.. وَالله أعلم.
(8)
الْأُسْتَاذ سيد قطب (ت 1386هـ) : وسوف أتجاوزه أَيْضا قَلِيلا.. حَيْثُ إِنَّنِي سأختار تَوْجِيهه فِي بَيَان التناسب.
(9)
الشَّيْخ مُحَمَّد الطَّاهِر بن عاشور (ت 1397هـ) : فالشيخ - رَحْمَة الله عَلَيْهِ - على دقة فهمه، وَبعد غوره، فِي التَّنْبِيه إِلَى لطائف الْكتاب الْعَزِيز، والاستدراك على هَنَات السَّابِقين، والإسهام الرائع فِي الإضافات المبتكرة، لم يُنبه أَو يُعلق على بَيَان وَجه مناسبةٍ يحلُّ من إِشْكَال هَذِه الْآيَات، وَاكْتفى بِأَن قرَّر أَنَّهَا مدمجةٌ فِي السُّورَة؛ لِأَنَّهَا نزلت فِي أثْنَاء نُزُولهَا (1) .. ثمَّ قَالَ:
((هَذِه الْآيَة وَقعت هُنَا معترضةٌ، وَسبب نُزُولهَا مَا رَوَاهُ البُخَارِيّ وَمُسلم عَن ابْن عَبَّاس أَنه قَالَ: كَانَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم إِذا نزل عَلَيْهِ الْقُرْآن يحرِّك بِهِ لِسَانه، يُرِيد أَن يحفظه، مخافةَ أَن يتفلَّت مِنْهُ، أَو من شدَّة رغبته فِي حفظه، فَكَانَ يلاقي من ذَلِك شدَّة، فَأنْزل الله تَعَالَى: {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ} ، قَالَ: جمعَه فِي صدرك، ثمَّ تَقْرَأهُ {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} ، قَالَ: فاستمع لَهُ وأنصت {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} أَن نبينه بلسانك، أَي: أَن تَقْرَأهُ. أ? (2) . فَلَمَّا نزل هَذَا الْوَحْي فِي أثْنَاء نزُول السُّورَة للغرض الَّذِي نزل فِيهِ، وَلم تكن سُورَة مُسْتَقلَّة، كَانَ مُلْحقًا بالسورة، وواقعاً بَين
(1) التَّحْرِير والتنوير، 29/337
(2)
صَحِيح البخارى (6/76) ، صَحِيح مُسلم (1/330) .
الْآي الَّتِي نزل بَينهَا)) (1) .
ثمَّ قَالَ الشَّيْخ رحمه الله: ((.. فَيكون وُقُوع هَذِه الْآيَة فِي هَذِه السُّورَة مثل وُقُوع {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ} فِي سُورَة مَرْيَم، وَوُقُوع: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى} فِي أثْنَاء أَحْكَام الزَّوْجَات فِي سُورَة الْبَقَرَة)) (2) .
وَبعد أَن نقل وَجه القفَّال - الَّذِي نَقله الرَّازِيّ - وعقَّب عَلَيْهِ بِأَن الأسلوب الْعَرَبِيّ ومعاني الْأَلْفَاظ تنبو عَنهُ.. قَالَ: ((.. وَالَّذِي يلوح لي فِي موقع هَذِه الْآيَة هُنَا، دون أَن تقع فِيمَا سبق نُزُوله من السُّور قبل هَذِه السُّورَة، أَن سور الْقُرْآن حِين كَانَت قَليلَة كَانَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم لَا يخْشَى تفلُّتَ بعض الْآيَات مِنْهُ، فَلَمَّا كثرت السُّور، فبلغت زهاء ثَلَاثِينَ - حسب مَا عدّه سعيد ابْن جُبَير فِي تَرْتِيب نزُول السُّور -؛ صَار النَّبِي صلى الله عليه وسلم يخْشَى أَن ينسى بعض آياتها، فَلَعَلَّهُ صلى الله عليه وسلم أَخذ يُحَرك لِسَانه بِأَلْفَاظ الْقُرْآن عِنْد نُزُوله احْتِيَاطًا لحفظه، وَذَلِكَ من حرصه على تَبْلِيغ مَا أُنزَلَ إِلَيْهِ بنصِّه، فَلَمَّا تكفل الله بحفظه، أمره ألَاّ يُكَلف نَفسه تَحْرِيك لِسَانه، فالنهيُ عَن تَحْرِيك لِسَانه نهي رحمةٍ وشفقة، لما كَانَ يلاقيه فِي ذَلِك من الشدَّة)) (3) .
ثمَّ عَاد الشَّيْخ وأكد كَون هَذِه الْآيَات مُعْتَرضَة فِي السِّيَاق، إِذْ قَالَ عِنْد كَلَامه على قَوْله تَعَالَى:{كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ} : ((رُجُوع إِلَى مِهْيَع الْكَلَام الَّذِي
(1) التَّحْرِير والتنوير، 29/349.
(2)
السَّابِق، 29/350
(3)
التَّحْرِير والتنوير، 29/350.
أَي سِيَاق الْكَلَام ونسقه، قَالَ صَاحب اللِّسَان: مهيع، وَاضح وَاسع بيِّن، وجَمعُه مهايع. انْظُر مَادَّة (هيع) .
بنيت عَلَيْهِ السُّورَة، كَمَا يرجع الْمُتَكَلّم لوصل كَلَامه بعد أَن قطعه عَارض أَو سَائل)) (1) .
(10)
الْأُسْتَاذ مُحَمَّد عِزَّةْ دَرْوَزة (ت 1404هـ) : لم يشفِ - الْأُسْتَاذ دروزة النفسَ بِمَا كَانَ ينْتَظر من مثله - وَهُوَ من ذكر فِي مُقَدّمَة تَفْسِيره - كَمَا نقلتُ عَنهُ من قبل - أَن من صلب منهجه ((الاهتمام لبَيَان مَا بَين آيَات وفصول السُّور من ترابط، وَعطف الْجمل القرآنية على بَعْضهَا (سياقاً أَو مَوْضُوعا) ، كلما كَانَ ذَلِك مَفْهُوم الدّلَالَة، لتجلية النّظم القرآني والترابط الموضوعي فِيهِ)) .. إِذْ أَنه اكْتفى بقوله - بعد أَن ذكر رِوَايَة البُخَارِيّ وَمُسلم فِي سَبَب النّزول -:((.. وَالرِّوَايَة متسقةٌ مَعَ الْآيَات، وورودها فِي الْموضع الَّذِي وَردت فِيهِ - وَالَّذِي يَبْدُو عجيباً لَا يَسْتَقِيم _ وَالله أعلم _ إِلَّا بغرض أَن تكون هَذِه الْحَادِثَة وَقعت أثْنَاء نزُول الْآيَات السَّابِقَة لَهَا، فَأوحى الله عز وجل بِهَذِهِ الْآيَات فَوْرًا لبَيَان مَا فِي الْعَمَل من عجلة لَا ضَرُورَة لَهَا، فأملى النبيُّ صلى الله عليه وسلم على كَاتبه الْآيَات مَعَ الْآيَات الْأُخْرَى، وَلَو لم تكن مُتَّصِلَة بهَا مَوْضُوعا)) (2) .
وَهَكَذَا.. ترك الْأُسْتَاذ المشكلة من غير حلٍّ!
وَهنا تَأتي أهمية الرُّجُوع إِلَى البقاعي وَسيد قطب - اللَّذين تجاوزنا ترتيبهما.
أما برهَان الدّين البقاعي.. فقد حاول فِي كِتَابه الْعَظِيم (نظم الدُّرَر) حلَّ الْإِشْكَال بمراعاة مَا ذكره فِي أَوله من النّظر إِلَى سِيَاق السُّور، وربط أَجْزَائِهَا بِبَعْض، فَبعد كلامٍ جيد حول قَوْله تَعَالَى: {بَلِ الْأِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ وَلَوْ أَلْقَى
(1) التَّحْرِير والتنوير، 29/351.
(2)
التَّفْسِير الحَدِيث، مُحَمَّد عزة دروزة 2/10.
مَعَاذِيرَهُ} حَاصله أَن الْإِنْسَان المقصر، المجادل عَن نَفسه، حجةٌ على نَفسه، وَلَو احْتج عَنْهَا واجتهد فِي ستر عيوبها، فَلَا تقبل مِنْهُ الْأَعْذَار؛ لِأَنَّهُ أُعطي البصيرة - وَهِي نور الْمعرفَة المركوزة فِي الْفطْرَة الأولى - فأعماها بهوى النَّفس وشهواتها.. بعد ذَلِك قَالَ رحمه الله:
((.. وَمعنى هَذَا كُله أَن الْإِنْسَان محجوبٌ فِي هَذِه الدَّار عَن إِدْرَاك الْحَقَائِق، بِمَا فِيهِ من الحظوظ والكسل والفتور، وَلما فِيهِ من النقائص، بَيْنَمَا كَانَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم مبرَّءاً من ذَلِك؛ لخلق الله إِيَّاه كَامِلا، وترقيته بعد ميلاده كلَّ يومٍ فِي مراقي الْكَمَال (
…
) . وَلكنه صلى الله عليه وسلم لتعظيمه لهَذَا الْقُرْآن، لما لَهُ فِي نَفسه من الْجَلالَة، وَلما فِيهِ من خَزَائِن السَّعَادَة، والعلوم الَّتِي لَا حدَّ لَهَا (
…
) كَانَ يُحرِّك بِهِ لِسَانه استعجالاً لتعهُّده؛ ليحفظه وَلَا يشذَّ عَنهُ مِنْهُ شَيْء، وَلما كَانَ قد ختم - سُبْحَانَهُ - مَا قبلهَا - أَي مَا قبل هَذِه الْآيَات الْأَرْبَع - بالمعاذير، وَكَانَت العجلة مِمَّا يُعتذر عَنهُ، وَكَانَ الْحَامِل على جَمِيع مَا يُوجب الْمَلَامَة والاعتذار مَا طبع عَلَيْهِ الْإِنْسَان من حب العاجلة، قَالَ تَعَالَى:{لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ} لِئَلَّا يمِيل إِلَى العاجلة، وَلَا يَقع فِي مخالفةٍ، إعلاماً بِأَنَّهُ سبحانه وتعالى قد دفع عَن نبيه صلى الله عليه وسلم تِلْكَ الْحجب، وأوصله من رُتْبَة (لوكشف الغطاءُ مَا ازددتُ يَقِينا) إِلَى أنهاها، وَبِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ قادرٌ على مَا يُرِيد من كشفِ مَا يُرِيد لمن يُرِيد، كَمَا يكْشف لكل إنسانٍ عَن أَعماله فِي الْقِيَامَة، حَتَّى يعرف مَا قدَّم مِنْهَا وَمَا أخَّر، وتنبيهاً على أَنه صلى الله عليه وسلم لَا كسب لَهُ فِي هَذَا الْقُرْآن غير حسن التلقي، إبعاداً لَهُ عَن قَول الْبشر، (
…
) وَلما لم يكن لهَذَا التحريك فَائِدَة - مَعَ حفظ الله لَهُ على كل حَال - إِلَّا قصد الطَّاعَة بالعجلة، وَكَانَت العجلة هِيَ الْإِتْيَان بالشَّيْء قبل أَوَانه الْأَلْيَق بِهِ، وَلِأَن هَذِه العجلة وَإِن كَانَت من الكمالات بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ صلى الله عليه وسلم، وَإِلَى إخوانه
الْأَنْبِيَاء - فَإِنَّهُ هَذَا التحريك من النَّفس اللوّامة، الَّتِي تلوم على ترك الْمُبَادرَة إِلَى أَفعَال الْخَيْر، وَغَيرهَا من أَفعَال النَّفس المطمئنة أكملُ مِنْهَا - فَنقل صلى الله عليه وسلم من مقامٍ كَامِل إِلَى أكملَ مِنْهُ، وَكَانَ هَذَا الْكَلَام الْمُتَعَلّق بِالْقُرْآنِ وَالَّذِي بعده فرقاناً بَين صِفَتي اللوّامة فِي الْخَيْر واللوّامة فِي الشَّرّ..)) (1) .
وَهَكَذَا.. لَا يَكْتَفِي البقاعي بربط الْآيَات بِمَا سبقها مُبَاشرَة، بل يصل بهَا فِي بَيَان الْمُنَاسبَة إِلَى مطلع السُّورَة الْكَرِيمَة، لَا سِيمَا الْآيَة الثَّانِيَة مِنْهَا:{وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ} .
ثمَّ يُصَرح رحمه الله بمناسبة الْآيَات لسورة المدثر الَّتِي قبلهَا بقوله: ((.. وَالْآيَة ناظرةٌ إِلَى قَوْله تَعَالَى فِي المدثر حِكَايَة: {إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ} ، وَمَا بَينهمَا اعْتِرَاض فِي وصف حَال الْقِيَامَة، جرَّ إِلَيْهِ قَوْله تَعَالَى: {سَأُصْلِيهِ سَقَرَ} )) .
وَهَذَا ملمح ذكيٌّ مِنْهُ، حَيْثُ ربط بَين السورتين وكأنهما فِي سِيَاق واحدٍ، وَجعل مَا اعْتَبرهُ (اعتراضاً) مقسمًا على السورتين، وَهَذَا مِنْهُ وفاءٌ لمنهجه الَّذِي ذكر فِيهِ أَنه ينظر إِلَى الْغَرَض الَّذِي سيقت لَهُ السُّورَة، ثمَّ ينظر مَا يحْتَاج إِلَيْهِ ذَلِك الْغَرَض من الْمُقدمَات، ومراتبها فِي الْقرب والبعد من الْمَطْلُوب، ثمَّ ينظر عِنْد انجرار الْكَلَام فِي الْمُقدمَات إِلَى مَا يستتبعه من استشراف نفس السَّامع إِلَى الْأَحْكَام واللوازم التابعة لَهُ، وَالَّتِي تَقْتَضِي البلاغة شِفَاء الغليل بِدفع عناء
هَذَا جَوَاب قَوْله: ((وَلما لم يكن لهَذَا التحريك..)) .
(1)
انْظُر: نظم الدُّرَر، 21/97: 100، وَكَلَام البقاعي فِيهِ نَفِيس جدا، لَوْلَا مَا يشوبه من كَثْرَة الاستطراد، وَطول الْجمل المعترضة، فَهُوَ بحاجة إِلَى شَيْء من التصفية والتهذيب، وَلَعَلَّ مَا قمتُ بِهِ هُنَا يَفِي بغرض توضيح مُرَاده.. وَالله أعلم.
الاستشراف إِلَى الْوُقُوف عَلَيْهَا (1) . . وَهَكَذَا.. حَتَّى يظْهر بِالْفِعْلِ مصداق كلمة الشَّيْخ ولي الله الملوي فِي آيَات الذّكر الْحَكِيم: ((إِنَّهَا على حسب الوقائع تنْزيلاً، وعَلى حسب الْحِكْمَة ترتيباً)) (2) .
وعَلى الرغم من هَذِه الإجادة من البقاعي رحمه الله وَأحسن إِلَيْهِ - فِي هَذَا الْوَجْه من التناسب؛ إِلَّا أنني أرى أَن الْأُسْتَاذ الأديب الذواقة سيد قطب رحمه الله هُوَ أقرب من تعرضوا لهَذِهِ الْآيَات إِلَى إِصَابَة المحزِّ فِي بَيَان تساوق آيَات السُّورَة كلهَا فِي الْإِشَارَة إِلَى مقصدٍ كليٍّ.. وَذَلِكَ حِين يشدًّ آيَات السُّورَة كلهَا إِلَى معنى أساسي وَاحِد تَجْتَمِع عَلَيْهِ، وترتدُّ إِلَيْهِ، وَهُوَ معنى ((الجِدِّ الْخَالِص)) الَّذِي يَنْبَغِي أَن يُنظر إِلَى هَذَا الدّين كُله - بتعاليمه، وعقائده، وَأَحْكَامه - على أساسٍ مِنْهُ.. يَقُول رحمه الله فِي مُقَدّمَة السُّورَة:
((.. وَفِي ثنايا السُّورَة وحقائقها ومشاهدها تعترض أَربع آياتٍ تحتوي توجيهاً خَالِصا للرسول صلى الله عليه وسلم، وتعليماً لَهُ فِي شَأْن تلقي هَذَا الْقُرْآن، ويبدو أَن هَذَا التَّعْلِيم جَاءَ بمناسبةٍ حَاضِرَة فِي السُّورَة ذَاتهَا؛ إِذْ كَانَ الرَّسُول صلى الله عليه وسلم يخَاف أَن ينسى شَيْئا مِمَّا يُوحى إِلَيْهِ، فَكَانَ حرصه على التحرُّز من النسْيَان يَدْفَعهُ إِلَى استذكار الْوَحْي فقرةً فقرةً فِي أثْنَاء تلقيه، وتحريك لِسَانه بِهِ ليستوثق من حفظه، فَجَاءَهُ هَذَا
(1) انْظُر نَص الْقَاعِدَة فِي نظم الدُّرَر: 1/18، وَقد سبقت مَعنا فِي المبحث الْخَامِس، وَقد نصَّ البقاعي فِي مصاعد النّظر (1/37) على أَنَّهَا مِمَّا تفرد بِسَمَاعِهِ عَن شَيْخه أبي الْفضل المغربي؛ إِذْ لم يسْمعهَا مِنْهُ غَيره - كَمَا قَالَ -، وَقَالَ عقب ذَلِك:((لَو كنت مِمَّن يتشبع بِمَا لم يُعطَ، لم أنسبها إِلَيْهِ، فَإِنَّهَا أحسنُ من كل مَا فِي كتابي، وَهِي الأَصْل الَّذِي ابتني ذَلِك كُله عَلَيْهِ)) رحمهمَا الله جَمِيعًا.
(2)
نظم الدُّرَر، 1/8، وَكَذَلِكَ: الْبُرْهَان، 1/37
التَّعْلِيم: {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ} ليطمئنه إِلَى أَن هَذَا الْوَحْي، وَحفظ هَذَا الدّين، وَجمعه، وَبَيَان مقاصده، كل أُولَئِكَ موكولٌ إِلَى صَاحبه، ودورُه هُوَ التلقي والبلاغ، فليطمأنَّ بَالا، وليتلقَّ الْوَحْي كَامِلا، فيجده فِي صَدره مَنْقُوشًا ثَابتا، وَهَكَذَا كَانَ)) (1) .
ثمَّ يَقُول رحمه الله: ((.. وبالإضافة إِلَى مَا قُلْنَاهُ فِي مُقَدّمَة السُّورَة عَن هَذِه الْآيَات، فَإِن الإيحاء الَّذِي تتركه فِي النَّفس هُوَ تكفُّل الله الْمُطلق بشأن هَذَا الْقُرْآن: وَحيا، وحفظاً، وجمعاً، وبياناً، وإسنادُه إِلَيْهِ سبحانه وتعالى بِالْكُلِّيَّةِ، لَيْسَ للرسول صلى الله عليه وسلم من أمره إِلَّا حملُه وتبليغُه، ثمَّ لهفةُ الرَّسُول صلى الله عليه وسلم وَشدَّة حرصه على اسْتِيعَاب مَا يُوحى إِلَيْهِ، وَأَخذه مَأْخَذ الْجد الْخَالِص، وخشيتُه أَن ينسى مِنْهُ عبارَة أَو كلمة، مِمَّا كَانَ يَدعُوهُ إِلَى مُتَابعَة جِبْرِيل عليه السلام فِي التِّلَاوَة آيَة آيَة، وَكلمَة كلمة، يستوثق مِنْهَا أَن شَيْئا لم يفُتْه، ويتثبت من حفظه لَهُ فِيمَا بعد، وتسجيل هَذَا الْحَادِث فِي الْقُرْآن المتلوِّ لَهُ قِيمَته فِي تعميق هَذِه الإيحاءات الَّتِي ذكرنَا هُنَا وَفِي مُقَدّمَة السُّورَة بِهَذَا الْخُصُوص)) (2) .
ولننظر فِي أَمر هَذَا (الجدِّ الْخَالِص) الَّذِي ردَّ إِلَيْهِ سيد قطب آيَات السُّورَة، وَجعله المحور الَّذِي تَدور عَلَيْهِ.
أَلَيْسَ هُوَ الْمشَار إِلَيْهِ بِالنَّفسِ اللوَّامة فِي مطْلعهَا؟! . .
ثمَّ بِالْإِشَارَةِ إِلَى أُولَئِكَ الَّذين يحسبون أَن الْمَوْت هُوَ نِهَايَة الرحلة؛ وَلذَلِك يُرِيدُونَ ليفجروا فِي حياتهم من غير أَن يشعروا بأية مسؤولية تحدُّ من عُتوِّهم،
(1) فِي ظلال الْقُرْآن، 6/3767
هَذَا مَعْطُوف على قَوْله: ((.. هُوَ تكفُّلُ الله الْمُطلق
…
)) .
(2)
فِي ظلال الْقُرْآن، 6/3770
أَو آخرةٍ سيُحاسبون فِيهَا على أَعْمَالهم.
ثمَّ بتقرير أَن الْإِنْسَان ذَاته بصيرةٌ على نَفسه، وَأَن معاذيره الكاذبة لن تَنْفَعهُ.. يَوْم تُبلى السرائر.
ثمَّ بعد ذَلِك - بعد الْآيَات (المعترضة) مُبَاشرَة - يَأْتِي ذكر أُولَئِكَ المتعجِّلين من قصار النّظر، الَّذين لَا يرَوْنَ أبعد من أنوفهم، فيحبون العاجلة ويذرون الْآخِرَة.
ثمَّ يَأْتِي تَصْوِير حَال الْوَاحِد من هَؤُلَاءِ، إِذْ يعاين سَكَرَات الْمَوْت، ويتبدَّى ضعفه التَّام، وضآلته الْبَالِغَة أَمَام الْحَقِيقَة الرهيبة الَّتِي طالما تصامم عَنْهَا، وتشاغل عَن الِالْتِفَات إِلَيْهَا، حقيقةِ الْمَوْت، مصيرِه ومصيرِ جَمِيع الْخلق، وحينها - حِين تبلغ روحه التراقي، ويُهرع أَهله وَمن حوله إِلَى من يرقيه.. بَيْنَمَا يُوقن هُوَ وَهُوَ على أَبْوَاب الْآخِرَة أَنَّهَا النِّهَايَة - حينها فَقَط يعلم أَن الله هُوَ الْحق الْمُبين، بَيْنَمَا كَانَ - فِي فرصه الْإِمْكَان - يعِيش حَيَاته لاهياً عابثاً، وَلَا يَأْخُذ هَذِه الْحَقَائِق مَأْخَذ (الْجد الْخَالِص) الَّذِي يَنْبَغِي لَهَا.
ثمَّ تُقرِّر السُّورَة فِي آياتها الْأَخِيرَة هَذِه الْحَقِيقَة، عَن طَرِيق الِاسْتِفْهَام الإنكاريِّ التوبيخي:{أَيَحْسَبُ الْأِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً} لِترد عجزها إِلَى صدرها، لتلتقي الْمُقدمَة والمؤخرة على بَيَان وجوب (الْجد الْخَالِص) ، الَّذِي لن ينجو إِنْسَان بِغَيْرِهِ.
يَقُول سيد قطب رحمه الله: ((.. وَهَكَذَا تعالج السُّورَة عناء هَذَا الْقلب، وإعراضه، وإصراره، ولهوه، وتُشعره بالجدِّ الصارم الحازم فِي هَذَا الشَّأْن، شَأْن الْقِيَامَة، وشأن النَّفس، وشأن الْحَيَاة المقدّرة بحسابٍ دَقِيق، ثمَّ شَأْن هَذَا الْقُرْآن الَّذِي لَا يُخرم مِنْهُ حرف؛ لِأَنَّهُ من كَلَام الْعَظِيم الْجَلِيل، الَّذِي تتجاوب جنباتُ
الْوُجُود بكلماته، وَتثبت فِي سجل الْكَوْن الثَّابِت، وَفِي صلب هَذَا الْكتاب الْكَرِيم)) .
ثمَّ يَقُول - قبيل تَفْصِيله القَوْل فِي الْآيَات بمفردها -:
((.. وَقد عرضنَا نَحن لحقائق السُّورَة ومشاهدها فُرَادَى لمُجَرّد الْبَيَان، وَهِي فِي نسق السُّورَة شيءٌ آخرٌ؛ إِذْ إِن تتابعها فِي السِّيَاق، والمزاوجة بَينهَا هُنَا وَهُنَاكَ، ولمسة الْقلب بِجَانِب من الْحَقِيقَة مرّة، ثمَّ العودة إِلَيْهِ بالجانب الآخر بعد فَتْرَة، كل ذَلِك من خَصَائِص الأسلوب القرآني فِي مُخَاطبَة الْقلب البشري، مِمَّا لَا يبلغ إِلَيْهِ أسلوب آخر، وَلَا طَريقَة أُخْرَى)) (1) .
وَهَكَذَا.. بعد هَذَا التطواف - الَّذِي طَال قَلِيلا - مَعَ هَذِه الْآيَات الْكَرِيمَة من سُورَة الْقِيَامَة، نتبين أَن ثمَّة رابطةً قَوِيَّة تشدُّها إِلَى محور السُّورَة، وَأَن التناسب وَاضح - عِنْد إمعان النّظر، وتعميق التَّأَمُّل - بَين آياتها كلهَا، وَبَينهَا وَبَين سابقتها ولاحقتها.
ويهمُّني فِي نِهَايَة هَذَا الْعرض لأقوال الْمُفَسّرين المتعددة - وَبعد أَن رجحتُ تَوْجِيه البقاعي، ثمَّ فضلتُ عَلَيْهِ تَوْجِيه سيد قطب - أَن أُشير إِلَى مسألةٍ مهمة فِي هَذَا السِّيَاق.. وَهِي أَنه مهما اخْتلفت الآراء أَو تنوعت، حول توضيح نوع الارتباط بَين هَذِه الْآيَات المشكلة - أَو مَا يشابهها من حَيْثُ عدم ظُهُور الْمُنَاسبَة فِي بادىء النّظر -.. إِلَّا أنني ألحظ - عِنْد بذل شيءٍ من الوسع وتدقيق النّظر - توافقاً على وجهٍ مَا، وترابطاً على نحوٍ أَو آخر، وَقد يظنُّ صَاحب النظرة العجلى أَن هُنَاكَ تباعداً بَين مَوْضُوعَات الْآيَات والأحداث الَّتِي تُشِير إِلَيْهَا أَو تتناولها، إِلَّا أَن تدبُّر الْآيَات مرّة بعد مرّة، ومحاولة دراسة ظروف النَّص، وسَبْرِ أغوار
(1) فِي ظلال الْقُرْآن، 6/3767