المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ثالثا: التناسب فيما بين السور: - مصابيح الدرر في تناسب آيات القرآن الكريم والسور

[عادل بن محمد أبو العلاء]

فهرس الكتاب

- ‌مُقَدّمَة

- ‌المبحث الأول: مقدِّمات أساسية

- ‌أَولا: المبادئ العشَرة:

- ‌ثَانِيًا: تَعْرِيف السُّورَة وَالْآيَة:

- ‌ثَالِثا: مابين علم التناسب وَالتَّفْسِير الموضوعي

- ‌المبحث الثَّانِي: موقع علم الْمُنَاسبَة من عُلُوم الْقُرْآن

- ‌المبْحثُ الثَّالث: تَارِيخ علم الْمُنَاسبَة

- ‌المبحث الرَّابِع: من أبرز أَعْلَام علم الْمُنَاسبَة

- ‌مدْخل

- ‌الإِمَام فَخر الدّين الرَّازِيّ (543هـ - 606ه

- ‌الإِمَام برهَان الدّين البقاعي (809 هـ - 885ه

- ‌الشَّيْخ عبد الحميد الفراهي (1280 - 1349هـ / 1864 - 1930م)

- ‌الْأُسْتَاذ سيد قطب (1324 - 1386هـ / 1906 - 1966ه

- ‌المبحث الْخَامِس: أَنْوَاع المناسبات

- ‌أَولا: المناسبات فِي الْآيَات

- ‌ثَانِيًا: الْمُنَاسبَة فِي السُّورَة (السُّورَة كوحدة مُسْتَقلَّة) :

- ‌ثَالِثا: الْمُنَاسبَة بَين السُّور (الْقُرْآن كوحدة وَاحِدَة) :

- ‌المبحث السَّادِس: نماذج تطبيقية على علم الْمُنَاسبَة

- ‌أَولا: التناسب فِي الْآيَات

- ‌ثَانِيًا: التناسب فِي السُّورَة الْوَاحِدَة:

- ‌ثَالِثا: التناسب فِيمَا بَين السُّور:

- ‌الخاتمة

- ‌مصَادر ومراجع

الفصل: ‌ثالثا: التناسب فيما بين السور:

تَهْتَدُونَ} (الْآيَة 158)، وَقد قَالَ قبلهَا مُبَاشرَة:{.. فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (الْآيَة 157) .. فهم أَصْحَاب الرسَالَة الْأَخِيرَة، الشاملة، الَّتِي لَا تخْتَص بِزَمَان وَلَا بمَكَان..

وَمن أجل أَن تكون شَهَادَة حَملَة هَذِه الرسَالَة حَقِيقَة بِالِاعْتِبَارِ؛ قصَّ الْحق سبحانه وتعالى عَلَيْهِم فِي هَذِه السُّورَة الْعَظِيمَة قصَّة (موكب الْإِيمَان) عبر تَارِيخ الإنسانية - من لدن آدم، وَحَتَّى بنى إِسْرَائِيل.. آخر من حُمِّلوا أَمَانَة الْإِيمَان قبلهم، وَلَا سِيمَا قصَّة أَصْحَاب السبت بَالِغَة الدّلَالَة فِي سِيَاق وَظِيفَة (الشَّهَادَة) ومقتضياتها -.. وَذَلِكَ حَتَّى تكون التجربة التاريخية الحقةُ حَاضِرَة أمامهم، ليستدلوا بهَا فِي هم الْأمة الخاتمة حركتهم، ويتأسَّوا بهَا فِي طريقهم، ولتكون حجَّة لَهُم فِي شَهَادَتهم على الْعَالمين.. أَلَيْسُوا الشاهدة؟ {.. أَلَيْسُوا هم (أهل الْأَعْرَاف) فِي الْآخِرَة؟}

ص: 131

‌ثَالِثا: التناسب فِيمَا بَين السُّور:

النظرُ فِي هَذَا اللَّوْن من التناسب يتَّجه أساساً إِلَى أَمريْن رئيسين: الْمُنَاسبَة اللفظية (وتلحق بهَا مُنَاسبَة الفواتح والخواتم) ، والمناسبة الموضوعية..

فلننظر فِي ثَلَاث سور من الْقُرْآن الْمجِيد - على سَبِيل التَّمْثِيل -، هِيَ: الْمَائِدَة، والأنعام، والأعراف.. وأولاها مَدَنِيَّة، والآخريان مكيتان - لنرى كَيفَ تنتظم فِي عقد النّظم القرآني المتلاحم، الْمُتَّصِل لاحقُه بسابقه.

ولنبدأ بمقصود كلٍّ مِنْهَا، وارتباطه بمقصود سواهَا..

فمقصود سُورَة الْمَائِدَة هُوَ الْوَفَاء بِمَا هدى إِلَيْهِ الْكتاب الْحَكِيم، وَمَا دلَّ عَلَيْهِ مِيثَاق الْعقل من تَوْحِيد الْخَالِق، وَرَحْمَة الْخَلَائق، شكرا للنعمة، واستدفاعاً للنقمة.. وقصة (الْمَائِدَة) أدلُّ مَا فِيهَا على ذَلِك؛ فَإِن مضمونها أَن من زاغ عَن

ص: 131

الطُّمَأْنِينَة، وراغ عَن الثَّبَات والسكينة - بعد الْكَشْف الشافي، والإنعام الوافي - نُوقِشَ الْحساب، فَأَخذه الْعَذَاب (1) ..

وتتخذ السُّورَة الْكَرِيمَة إِلَى ذَلِك طَرِيق بِنَاء التَّصَوُّر الاعتقادي الصَّحِيح، وَبَيَان الانحرافات الَّتِي تتلبَّس بِهِ عِنْد أهل الْكتاب وَأهل الْجَاهِلِيَّة جَمِيعًا، وَبَيَان معنى (الدّين) ، وَأَنه الِاعْتِقَاد الصَّحِيح مرتبطاً بالتلقي عَن الله وَحده فِي التَّحْرِيم والتحليل، وَالْحكم وَالْقَضَاء.. ثمَّ أخيراً: توضيح شَأْن هَذِه الْأمة الْمسلمَة، وَبَيَان دورها الْحَقِيقِيّ فِي هَذِه الأَرْض، وكشف أعدائها المتربصين بهَا (2) ..

وَهَذَا كلُّه يَقْتَضِي من أهل هَذِه الرسَالَة الخاتمة - الَّتِي رَضِي الله لَهُم الْإِسْلَام دينا، وأكمل لَهُم دينهم، وأتمَّ عَلَيْهِم نعْمَته - الْوَفَاء بِعَهْد الله وميثاقه الَّذِي واثقهم بِهِ: ليقومُنَّ بَين النَّاس بِالْعَدْلِ، وليشهدُنَّ عَلَيْهِم بِالْقِسْطِ، وليقيُمُنَّ فيهم حكم الله كَمَا أَرَادَ.. وَيُشِير إِلَى ذَلِك أوضح إِشَارَة تَسْمِيَتهَا بِسُورَة (الْعُقُود) .

ومقصود سُورَة الْأَنْعَام هُوَ الِاسْتِدْلَال على مَا دَعَا إِلَيْهِ الْكتاب الْكَرِيم فِيمَا سبق من سور؛ بِأَنَّهُ - سُبْحَانَهُ - الْمُسْتَحق لجَمِيع الكمالات، والمتصرف بِالْقُدْرَةِ الباهرة على الإيجاد والإعدام (3) .. فعمود السُّورَة هُوَ مَوْضُوع العقيدة.. بِكُل مكوِّناتها ومقوِّماتها (4) .. وأنسب الْأَشْيَاء الْمَذْكُورَة فِيهَا لهَذَا الْمَقْصد هُوَ الْأَنْعَام - وَهُوَ مايربطها بالمائدة أعظم ربط؛ إِذْ ذكر فِيهَا السوائبُ وَغَيرهَا مِمَّا كَانَ يدين بِهِ أهل الْجَاهِلِيَّة (5) -؛ لِأَن الْإِذْن فِيهَا مسبب عَمَّا ثَبت لَهُ - سُبْحَانَهُ -

(1) انْظُر: مصاعد النّظر، 2/106

(2)

انْظُر: فِي ظلال الْقُرْآن، 2/829

(3)

مصاعد النّظر، 2/118

(4)

رَاجع: فِي ظلال الْقُرْآن، تَقْدِيم سُورَة الْأَنْعَام كُله.

(5)

انْظُر: نظم الدُّرَر، 7/240، 241

ص: 132

من الفَلْق، والتفرد بالخلق، لِأَنَّهُ المتوحد بالألوهية، والمتصرِّف بِالنَّهْي وَالْأَمر.. سبحانه وتعالى (1) . وَهُوَ مَا يربطها، أَيْضا بالمائدة، الَّتِي ذكر فِيهَا أَمر حاكميته الله تَعَالَى وَحده، والتحذير من التغافل عَمَّا أنزل من الْأَحْكَام.

وَأما سُورَة الْأَعْرَاف، فقد سبق قَرِيبا أَنَّهَا تلتقي مَعَ (الْأَنْعَام) فِي الْغَرَض الرئيس الْعَام، وَهُوَ عرض العقيدة.. وَلَكِن تتَمَيَّز بشخصيتها المستقلة فِي الْأَدَاء وَالتَّعْبِير، والقضايا المتنوعة الَّتِي تصبُّ فِي ذَات الْغَرَض.

هَذِه هى الرُّؤْيَة الْعَامَّة الَّتِي توضح ارتباط السُّور الثَّلَاث، على رغم اخْتِلَاف هُويتها بَين المكية والمدنية، وَأَيْضًا على رغم تنوع مَوْضُوعَات كلٍّ مِنْهَا..

والآن.. لنَنْظُر فِي شَيْء من التفاصيل حول ذَلِك.. وَالَّتِي ذكرهَا الشَّيْخ الغُماري فِي كِتَابه (جَوَاهِر الْبَيَان) .. قَالَ رحمه الله:

((5 - سُورَة الْمَائِدَة: قَالَ الصاوي فِي حَاشِيَته على تَفْسِير الجلالين: وَجه الْمُنَاسبَة بَينهَا وَبَين مَا قبلهَا أَنه حَيْثُ وعدنا الله بِالْبَيَانِ كراهةَ وقوعنا فِي الضلال (آخر آيَة من النِّسَاء) ، تمَّم ذَلِك الْوَعْد بِذكر هَذِه السُّورَة، فَإِن فِيهَا أحكاماً لم تكن فِي غَيرهَا. قَالَ الْبَغَوِيّ: عَن ميسرَة قَالَ: إِن الله تَعَالَى أنزل فِي هَذِه السُّورَة ثَمَانِيَة عشر حكما لم تنزل فِي غَيرهَا من الْقُرْآن.. (

)

6 -

سُورَة الْأَنْعَام: ختمت السُّورَة السَّابِقَة بقوله تَعَالَى: {لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} ؛ فَنَاسَبَ أَن يُبيِّن سَبَب تِلْكَ الملكية ومنشأها، فَافْتتحَ هُنَا بجملة:{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورََ} . فسبب ملكية الله للسماوات وَالْأَرْض أَنه خالقهما وَمَا فيهمَا،

(1) انْظُر: مصاعد النّظر، 2/118

ص: 133

وَتلك ملكية حَقِيقِيَّة، لَا كملكية النَّاس لما يملكونه بشرَاء أَو هبة أَو تَوْرِيث، فَإِنَّهَا ملكية مجازية، والحقيقة فِيهَا لله تَعَالَى (

) وَفِي قَوْله - تَعَالَى - فِيهَا: {ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} إِشَارَة إِلَى أهل الْكتاب الَّذين ألَّهوا عِيسَى أَو عُزَيراً، وهم المذكورون فِي سُورَة الْمَائِدَة.

وَقَالَ بعض الْعلمَاء: افْتِتَاح الْأَنْعَام بِالْحَمْد مُنَاسِب لختم الْمَائِدَة بفصل الْقَضَاء، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (الزمر/75) . وَكَذَلِكَ؛ فَإِن الْمَائِدَة اشْتَمَلت على أَحْكَام لم تذكر فِي غَيرهَا، وَكَذَلِكَ الْأَنْعَام. (

)

7 -

سُورَة الْأَعْرَاف: نوَّه الله بِالْقُرْآنِ فِي أَوَاخِر السُّورَة السَّابِقَة بقوله تَعَالَى: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} :.. إِلَى أَن توعد المكذبين بِهِ والمعرضين عَنهُ: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا

} ?؛ فَافْتتحَ هَذِه السُّورَة بنهي نبيه أَن يكون فِي صَدره ضيقٌ مِنْهُ، بِسَبَب تَكْذِيب قومه بِهِ، وصُدوفهم عَنهُ:{كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ}

)) (1) .

.. وَبِهَذَا ظهر ارتباط السُّور الثَّلَاث، والتحام مَعَانِيهَا..

وَلَا ريب أَن إِعَادَة النّظر فِي الْقِرَاءَة المتأنية لَهَا - ولسائر سور الْقُرْآن الْمجِيد - تفتح على المتأمل أبواباً لَا حصر لَهَا وَلَا نِهَايَة من التناسب والترابط المُحكَم، الَّذِي يظْهر وَحْدة الْقُرْآن الْكَرِيم الْكُلية، بِاعْتِبَارِهِ الكلمةَ الإلهيةَ الأخيرةَ للثقلين، إِلَى قيام السَّاعَة، وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين.

(1) انْظُر: جَوَاهِر الْبَيَان..، ص 29: 3 (بِتَصَرُّف واختصار) .

ص: 134