الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فَبِهَذَا الْعلم يظْهر - كَمَا ذكرتُ من قبل - أَن أَجزَاء الْكَلَام بَعْضهَا آخذٌ بأعناق بعض، فيقوى بذلك الارتباط وَيصير حالُ التَّأْلِيف حالَ الْبناء الْمُحكم المتلائم الْأَجْزَاء (1) .
(1) انْظُر: الإتقان، 2/978.
ثَانِيًا: تَعْرِيف السُّورَة وَالْآيَة:
لما كَانَت مسَائِل علم الْمُنَاسبَة دَائِرَة على آيَات الْقُرْآن وسوره - من الْجِهَات الَّتِي أشرتُ إِلَيْهَا من قبل - كَانَ من المستحسن أَن أُلقيَ ضوءاً كاشفاً على تَعْرِيف كلٍّ من الْآيَة وَالسورَة، وَأَن أُشير - بإيجاز بَالغ - إِلَى بعض الْمُهِمَّات الْمُتَعَلّقَة بهما، وعمدتي فِي هَذَا الْمُقدمَة الثَّامِنَة من مقدِّمات تَفْسِير الْأُسْتَاذ الشَّيْخ الْجَلِيل مُحَمَّد الطَّاهِر بن عاشور (ت 1393? - 1973م) الَّتِي صدَّر بهَا تَفْسِيره الْعَظِيم:(التَّحْرِير والتنوير) ، فقد أحسن - رَحْمَة الله عَلَيْهِ - تَحْرِير مسائلها، وَضبط حُدُودهَا (2) . قَالَ:
(1)
تَعْرِيف الْآيَة: هِيَ مقدارٌ مركَّبٌ من الْقُرْآن، وَلَو تَقْديرا أَو إِلْحَاقًا.
فَقولِي: ((وَلَو تَقْديرا)) لإدخال قَوْله تَعَالَى: {مُدْهَامَّتَانِ} (الرَّحْمَن /64) ؛ إِذْ التَّقْدِير: هما مدهامتان. وَنَحْو: {وَالْفَجْرِ} (الْفجْر/1) ؛ إِذْ التَّقْدِير: أُقسم بِالْفَجْرِ.
وَقَوْلِي: ((أَو إِلْحَاقًا)) لإدخال بعض فواتح السُّور من الْحُرُوف الْمُقطعَة، فقد عُدَّ أَكْثَرهَا فِي الْمَصَاحِف آياتٍ، مَا عدا:(الر) ، و (المر) ، و (طس) ، و (ص) ، و (ق) ، و (ن) .
- وَتَسْمِيَة هَذِه الْأَجْزَاء من الْكَلَام آيَات من مبتكرات الْقُرْآن.
(2) انْظُر هَذِه الْمُقدمَة فِي: التَّحْرِير والتنوير، مُحَمَّد الطَّاهِر بن عاشور، الدَّار التونسية للنشر، تونس 1984م، 1/74: 120
- وَإِنَّمَا سُمِّيتْ بذلك؛ لِأَنَّهَا دليلٌ على أَنَّهَا موحًى بهَا من عِنْد الله إِلَى النَّبِي (؛ لاشتمالها على مَا هُوَ الحدُّ الْأَعْلَى فِي بلاغة نظم الْكَلَام، ولوقوعها - مَعَ غَيرهَا من الْآيَات - دَلِيلا على أَن الْقُرْآن الْكَرِيم لَيْسَ من تأليف الْبشر؛ إِذْ قد تحدى النَّبِي (بِهِ أهل الفصاحة والبلاغة من أهل اللِّسَان، فعجزوا عَن تأليف مثل سورةٍ من سوره؛ وَلذَا لَا يحقُّ لجمل التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل أَن تسمَّى آيَات، إِذْ لَيست فِيهَا هَذِه الخصوصية فِي اللُّغَة العبرانية والآرامية.
- تَرْتِيب الْآيَات: الْإِجْمَاع على أَن اتساق الْحُرُوف والآيات كلَّه بالتوقيف عَن
رَسُول الله (، وَالَّذِي تَلقاهُ عَن جِبْرِيل عليه السلام، عَن ربِّ الْعِزَّة سبحانه وتعالى وَلَيْسَ فِي ذَلِك خلاف بَين أحدٍ من أهل الْقبْلَة، وَلَكِن لما كَانَ تعيينُ الْآيَات الَّتِي أَمر النَّبِي (بوضعها فِي مَوضِع معِين غير مروى إِلَّا فِي الْبَعْض مِنْهَا، كَانَ حَقًا على المفسِّر أَن يتطلب مناسبات لمواقع الْآيَات، مَا وجد إِلَى ذَلِك سَبِيلا موصلاً، وَإِلَّا فليُعرضْ عَنهُ، وَلَا يكن من المتكلفين، فالإجماع على صِحَة التَّرْتِيب يكفينا عَن التَّكَلُّف فِي إِظْهَار أَسبَابه.
(2)
تَعْرِيف السُّورَة: هِيَ قِطْعَة من الْقُرْآن مُعينَة بمبدأ وَنِهَايَة لَا يتغيران، مسماةٌ باسمٍ مَخْصُوص، تشْتَمل على ثَلَاث آيَات فَأكْثر، فِي غرضٍ تَامّ ترتكز عَلَيْهِ مَعَاني آياتها، ناشيءٍ عَن أَسبَاب النّزول أَو مقتضيات مَا تشْتَمل عَلَيْهِ من الْمعَانِي المتناسبة.
ومناسبة هَذِه التَّسْمِيَة للقطعة من الْقُرْآن أَنَّهَا مَأْخُوذَة من السُّور، وَهُوَ الْجِدَار الْمُحِيط بِالْمَدِينَةِ أَو بمحلَّة قومٍ، وزادوه هَاء تَأْنِيث فِي آخِره مُرَاعَاة لِمَعْنى الْقطعَة من الْكَلَام. وَقيل: مَأْخُوذ من السُّؤر، وَهُوَ الْبَقِيَّة مِمَّا يشرب الشَّارِب،
بمناسبة أَن السؤر جُزْء مِمَّا يشرب، ثمَّ خففوا الْهمزَة الساكنة بعد الضمة فَصَارَت واواً، وَهَذِه التَّسْمِيَة من مبتكرات الْقُرْآن أَيْضا.
وَفَائِدَة التسوير، كَمَا يَقُول صَاحب الْكَشَّاف، أَن الْجِنْس إِذا انطوت تَحْتَهُ أَنْوَاع، كَانَ أحسن وأنبل من أَن يكون شَيْئا وَاحِدًا، وَأَن الْقَارئ إِذا ختم سُورَة ثمَّ أَخذ فِي أُخرى كَانَ أنشط لَهُ وأهزَّ لعِطْفه، كالمسافر إِذا علم أَنه قطع ميلًا أَو طوى فرسخاً (1) .
- وتسوير الْقُرْآن من السّنة فِي زمن النَّبِي (، فقد كَانَ الْقُرْآن يومئذٍ مقسمًا إِلَى مئة وَأَرْبع عشرَة سُورَة بأسمائها، وَلم يُحفَظْ عَن جُمْهُور الصَّحَابَة حِين جمعُوا الْقُرْآن أَنهم ترددوا وَلَا اخْتلفُوا فِي عَددهَا، إِلَّا مَا رُوِيَ من آثَار لَا تصح عَن عبد الله بن مَسْعُود رضي الله عنه من إِنْكَاره المعوذتين، وإثباته دُعَاء الْقُنُوت فِي مصحفه.. وَقد نَهَضَ عُلَمَاؤُنَا من قديم لدحض هَذِه المرويات السقيمة - سنداً ومتناً -، وبقى الْأَمر على الْإِجْمَاع على سور الْقُرْآن الْعَظِيم الَّتِي بَين دفتي الْمُصحف (2) .
(1) انْظُر: الْكَشَّاف عَن حقائق التَّنْزِيل وعيون الْأَقَاوِيل فِي وُجُوه التَّأْوِيل، الزَّمَخْشَرِيّ، تَصْوِير دَار الْفِكر - بيروت، 1/ 240، 241
(2)
انْظُر فِي بَرَاءَة هَذَا الصَّحَابِيّ الْجَلِيل مِمَّا نسب إِلَيْهِ من إِنْكَار السورتين، وَأَنه لَا خلاف فِي شَيْء من كتاب الله تَعَالَى: الِانْتِصَار لِلْقُرْآنِ، أبوبكر الباقلاني، منشورات معهد تَارِيخ الْعُلُوم الْعَرَبيَّة والإسلامية بألمانيا، 1986م، (وَهِي نُسْخَة مصورة عَن مخطوطة الْكتاب الوحيدة فِي استانبول، بعناية الْأُسْتَاذ فؤاد سزكين) .
و: إعجاز الْقُرْآن، للباقلاني أَيْضا، تَحْقِيق: السَّيِّد أَحْمد صقر، دَار المعارف - الْقَاهِرَة، ص 441، 445 ومقدمتان فِي عُلُوم الْقُرْآن، نشرهما: آرثر جفري، الخانجي، ط2، 1972م، ولاسيما الْفَصْل الرَّابِع من الْمُقدمَة الأولى ص 78:117.
وَانْظُر كَذَلِك: مصاعد النّظر، للبقاعي، 3/311:316.. وَسوى ذَلِك كثير جدا، لَا سَبِيل إِلَى اسْتِقْصَائِهِ فِي هَذَا الْمقَام.