الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثَّانِي: موقع علم الْمُنَاسبَة من عُلُوم الْقُرْآن
سبق مَعنا أَن نِسْبَة علم الْمُنَاسبَة إِلَى بَقِيَّة عُلُوم الْقُرْآن كنسبة النتيجة إِلَى الْمُقدمَات، وَالثَّمَرَة إِلَى أَجزَاء الشَّجَرَة، أَو كنسبة علم الْبَيَان والمعاني من عُلُوم اللُّغَة.. وَذَلِكَ أَن عُلُوم الْقُرْآن المساعدة أشبه بالمقدِّمات الَّتِي تمهد لَهُ، فَهِيَ تتعرض لما يتَعَلَّق بِالْقُرْآنِ الْمجِيد من أمورٍ مُتَّصِلَة بِذَات النَّص كالوجوه والنظائر، والناسخ والمنسوخ، والفواصل، والقراءات، والمتشابه والغريب.. إِلَى آخر هَذِه المباحث الَّتِي تتَعَلَّق ببنية النَّص ذَاتهَا، وَكَذَلِكَ تتعرض لما يتَعَلَّق بِالْقُرْآنِ من أمورٍ خَارِجَة عَنهُ، كأسباب النّزول، والمكى وَالْمَدَنِي، وَمَعْرِفَة جمعه وَحفظه.. وَمَا إِلَى ذَلِك.
أما النّظر فِي التناسب، فَهُوَ بَاب من إعجاز الْقُرْآن، الذى هُوَ لُبابُ هَذِه الْعُلُوم كلهَا، ومنتهاها جَمِيعهَا، إِذْ إنَّ جَمِيعهَا يُفْضِي فِي النِّهَايَة إِلَى إِثْبَات حقية كَونه من عِنْد الله أَولا، ثمَّ عجز الخليقة كلِّها عَن الْإِتْيَان بشي من مثله، وَمن ثمَّ تقوم الْحجَّة النَّبَوِيَّة الَّتِي أخبر النَّبِي - صلوَات الله عَلَيْهِ - أنَّ كل نبيٍّ أُوتي مَا مثله آمن عَلَيْهِ الْبشر، وَأَن الَّذِي أوتيه (إِنَّمَا هُوَ هَذَا الْكتاب الْعَزِيز؛ لذا فقد رجا - صلوَات الله عَلَيْهِ - أَن يكون أَكثر الْأَنْبِيَاء تَابعا يَوْم الْقِيَامَة، لما لهَذَا الْكتاب من مزية اسْتِمْرَار حجَّته على الْعَالمين حَتَّى قيام السَّاعَة.
وَفِي ذَلِك يَقُول الإِمَام البقاعي رحمه الله فِي كِتَابه الْجَامِع (نظم الدُّرَر) :
((.. وَبِهَذَا الْعلم يرسخ الْإِيمَان فِي الْقلب، ويتمكن من اللب. وَذَلِكَ أَنه يكْشف أَن للإعجاز طَرِيقين: أَحدهمَا: نَظْمُ كل جملَة على حيالها بِحَسب
التَّرْكِيب. وَالثَّانِي: نظمها مَعَ أُخْتهَا بِالنّظرِ إِلَى التَّرْتِيب. وَالْأول أقرب تناولاً، وأسهل ذوقاً، فَإِن كل من سمع الْقُرْآن - من ذكيٍّ أَو غبيٍّ - يَهْتَز لمعانيه، وَتحصل لَهُ عِنْد سَمَاعه رَوْعةٌ بنشاط، ورهبةٌ مَعَ انبساط، لَا تحصل عِنْد سَماع غَيره، وَكلما دقق النّظر فِي الْمَعْنى عظُم عِنْده موقع الإعجاز، ثمَّ إِذا عَبَر الِفطنُ من ذَلِك إِلَى تأمُّل ربط كل جملَة بِمَا تلته وَمَا تَلَاهَا، خفيَ عَلَيْهِ وجهُ ذَلِك، وَرَأى أَن الْجمل متباعدة الْأَغْرَاض، متنائية الْمَقَاصِد، فَظن أَنَّهَا متنافرة، فَحصل لَهُ من الْقَبْض وَالْكرب بأضعاف مَا كَانَ حصل لَهُ من الهز والبسط، وَرُبمَا شككه ذَلِك، وزلزل إيمَانه، وزحزح يقينه. وَرُبمَا وقف كيِّسٌ (1) من أذكياء الْمُخَالفين عَن الدُّخُول فِي هَذَا الدّين - بعد مَا وضحت لَدَيْهِ دلائله، وبرزت لَهُ من حِجالها دقائقه وجلائلُه - لحكمةٍ أرادها منزِّله، وأحكمها مجمله ومفصَّله، فَإِذا اسْتَعَانَ بِاللَّه (2) ، وأدام الطّرق لباب الْفرج، بإنعام التَّأَمُّل، وَإِظْهَار الْعَجز، والوثوق بِأَنَّهُ فِي الذرْوَة من إحكام الرَّبْط، كَمَا كَانَ فِي الأوج من حسن الْمَعْنى وَاللَّفْظ، لكَونه كَلَام من جلَّ عَن شوائب النَّقْص، وَحَازَ صِفَات الْكَمَال (
…
) انْفَتح (3) لَهُ ذَلِك الْبَاب، ولاحت لَهُ من وَرَائه بوارق أنوار تِلْكَ الْأَسْرَار
…
)) (4) .
وعَلى الرغم مِمَّا يظْهر من هَذِه الأهمية الْبَالِغَة لهَذَا الْعلم فِي بَاب إِثْبَات
(1) فِي الْقَامُوس مَادَّة (مكس) : تماسكا فِي البيع، تشاحّا، وماكسه: ساحّة فَالْمُرَاد: اخْتلفَا وتشاكسا فِي الرَّأْي.
(2)
أَي هَذَا المكيس الْمَذْكُور سَابِقًا.
(3)
هَذَا جَوَاب قَوْله: ((فَإِذا اسْتَعَانَ بِاللَّه)) .
(4)
نظم الدُّرَر فِي تناسب الْآيَات والسور، برهَان الدّين البقاعي، مطبوعات دَائِرَة المعارف العثمانية بِالْهِنْدِ، ط 1/1969، 1/11، 12.
إعجاز الْقُرْآن، وجدنَا بعض أجلة الْعلمَاء يقلِّلون من شَأْنه، وينتقدون المهتمين بِهِ، لحجةٍ واهيةٍ جدا، وَلَعَلَّ أبرز هَؤُلَاءِ - وهم قلَّة على أَيَّة حَال - شيخُ الْإِسْلَام وسلطان الْعلمَاء الإِمَام الْجَلِيل عزُّ الدّين ابنُ عبد السَّلَام (ت 660?) ، وَهَذَا نصُّ كَلَامه فِي هَذَا الْموضع، حَيْثُ قَالَ رحمه الله:
((وَاعْلَم أَن من الْفَوَائِد أَن من محَاسِن الْكَلَام أَن يرتبط بعضه بِبَعْض؛ ويتشبث بعضه بِبَعْض، لِئَلَّا يكون مقطَّعاً متبَّراً، وَهَذَا بِشَرْط أَن يَقع الْكَلَام فِي أمرٍ مُتحد، فيرتبط أَوله بِآخِرهِ. فَإِن وَقع على أَسبَاب مُخْتَلفَة، لم يشْتَرط فِيهِ ارتباط أحد الْكَلَامَيْنِ بِالْآخرِ. وَمن ربط ذَلِك، فَهُوَ متكلف لما لم يقدر عَلَيْهِ إِلَّا بربطٍ رَكِيك، يُصان عَن مثله حَسَنُ الحَدِيث، فضلا عَن أحْسنه، فَإِن الْقُرْآن نزل على الرَّسُول عليه السلام فِي نيفٍ وَعشْرين سنة، فِي أَحْكَام مُخْتَلفَة، شرعت لأسباب مُخْتَلفَة غير مؤتلفة، وَمَا كَانَ كَذَلِك لَا يَتَأَتَّى ربطُ بعضه بِبَعْض؛ إِذْ لَيْسَ يحسن أَن يرتبط تصُّرف الْإِلَه فِي خلقه وَأَحْكَامه بعضه بِبَعْض مَعَ اخْتِلَاف الْعِلَل والأسباب.
وَلذَلِك أَمْثِلَة:
أَحدهَا: أَن الْمُلُوك يتصرفون فِي مُدَّة ملكهم بتصرفات مُخْتَلفَة، وَأَحْكَام متضادة، وَلَيْسَ لأحدٍ أَن يرْبط بعض ذَلِك بِبَعْض.
الْمِثَال الثَّانِي: الْحَاكِم يحكم فِي يَوْمه بوقائع مُخْتَلفَة متضادة، وَلَيْسَ لأحدٍ أَن يلْتَمس ربط بعض أَحْكَامه بِبَعْض.
الْمِثَال الثَّالِث: أَن الْمُفْتِي يُفتي مُدَّة عمره، أَو فِي يومٍ من أَيَّامه، أَو فِي مجلسٍ من مجالسه - بِأَحْكَام مُخْتَلفَة - وَلَيْسَ لأحدٍ أَن يلْتَمس ربط بعض فَتَاوِيهِ بِبَعْض.
الْمِثَال الرَّابِع: أَن الْإِنْسَان يتَصَرَّف فِي خاصته بِطَلَب أُمُور مُوَافقَة ومختلفة
ومتضادة، وَلَيْسَ لأحدٍ أَن يطْلب ربط تِلْكَ التَّصَرُّفَات بِبَعْض.
وَالله أعلم، وَالْحَمْد لله وَحده)) (1) .
وواضح من هَذَا النَّقْل الْحرفِي لكَلَام سُلْطَان الْعلمَاء أَن حجَّته الوحيدة هِيَ أَن الْقُرْآن نزل منجَّماً، بِحَسب الوقائع والمناسبات، على امتداد نَيف وَعشْرين سنة.. فَكيف تُطلب مُنَاسبَة بعض أَجْزَائِهِ لبَعض مَعَ هَذَا التَّفَاوُت الزمني والمناسبي المصاحب لنُزوله؟ {
وَهِي ذاتُ الْحجَّة الَّتِي اعْتمد عَلَيْهَا غير الْعِزّ، ولعلَّ أبرزهم هُوَ الشَّيْخ مُحَمَّد بن عَليّ الشَّوْكَانِيّ (ت 1250?) ، الَّذِي لم يكتف عِنْد تعرضه لهَذِهِ الْمَسْأَلَة فِي تَفْسِيره بِهَذِهِ الْحجَّة، بل إِنَّه ذكر أَن هَذَا الْعلم متكلَّف، وَأَن من تكلمُوا فِيهِ خَاضُوا فِي بَحر لم يكلَّفوا سباحته، واستغرقوا أوقاتهم فِي فن لَا يعود عَلَيْهِم بفائدة، بل أوقعوا أنفسهم فِي التَّكَلُّم بمحض الرَّأْي المنهيِّ عَنهُ فِي الْأُمُور الْمُتَعَلّقَة بِكِتَاب الله سُبْحَانَهُ، وَأَنَّهُمْ تعسَّفوا فِي هَذَا الْبَاب، وتكلفوا بِمَا يتبرَّأ مِنْهُ الْإِنْصَاف، ويتنَزَّه عَنهُ كَلَام البلغاء، فضلا عَن كَلَام الله سُبْحَانَهُ، ثمَّ قَالَ بعد كَلَام طويلِ وقاسٍ، وَلَا يخرج فِي محتواه عَمَّا ذكره سُلْطَان الْعلمَاء:
((.. وَمَا أقلَّ نفعَ مثل هَذَا، وأنزرَ ثمرتهَ، وأحقرَ فائدتَه} )) .
غير أَنه أضَاف وَجها آخر ظنّ أَنه قد يعضد رَأْيه، وَهُوَ مقارنته بَين من يطْلب الْمُنَاسبَة فِي آيَات الْقُرْآن وسوره، وَبَين من يعمد إِلَى طلب ذَلِك فِيمَا قَالَه رجل من البلغاء فِي خطبه ورسائله وإنشاءاته، وَمَا قَالَه شَاعِر من الشُّعَرَاء فِي أغراض القَوْل المتخالفة غَالِبا، فَلَو تصدَّى أحد لذَلِك ((فَعمد إِلَى ذَلِك الْمَجْمُوع
(1)
الْإِشَارَة إِلَى الإيجاز فِي بعض أَنْوَاع الْمجَاز، الْعِزّ بن عبد السَّلَام، المكتبة العلمية بِالْمَدِينَةِ المنورة، ص 278.
، فَنَاسَبَ بَين فِقَره ومقاطعه، ثمَّ تكلّف تكلفاً آخر فَنَاسَبَ بَين الْخطْبَة الَّتِي خطبهَا فِي الْحَج، وَالْخطْبَة الَّتِي خطبهَا فِي النِّكَاح.. وَنَحْو ذَلِك، وناسب بَين الْإِنْشَاء الْكَائِن فِي العزاء، والإنشاء الْكَائِن فِي الهناء.. وَمَا يشابه ذَلِك - لعُدَّ هَذَا المتصدي لمثل هَذَا مصاباً فِي عقله، متلاعباً بأوقاته، عابثاً بعمره الَّذِي هُوَ رَأس مَاله)) .. ثمَّ يَقُول:((وَإِذا كَانَ مثل هَذَا بِهَذِهِ المنْزلة - وَهُوَ ركُوب الأحموقة فِي كَلَام الْبشر -، فَكيف ترَاهُ فِي كَلَام الله سُبْحَانَهُ، الَّذِي أعجزت بلاغتُه بلغاء الْعَرَب، وأبكمت فصاحتُه فصحاء عدنان وقحطان؟)) (1) .
والحقُّ.. أَن كلا من هَاتين الحجتين واهٍ، لَا يصلح لمثل هَذَا الِاسْتِدْلَال!
أما عَن الْحجَّة الأولى - وَهِي نزُول الْقُرْآن منجماً، بِمَا يُخَالف فِي بادئ الرَّأْي حِكْمَة التناسب - فدحضُها من أيسر مَا يكون، وحسبنا فِي هَذَا الْمقَام أَن ننقل مَا قَالَه الزَّرْكَشِيّ بعد تلخيصه لكَلَام الْعِزّ السالف ذكره حَيْثُ قَالَ: ((قَالَ بعض مَشَايِخنَا الْمُحَقِّقين: قد وهم من قَالَ: لَا يُطلب للآي الْكَرِيمَة مناسبةٌ؛ لِأَنَّهَا على حسب الوقائع مُتَفَرِّقَة، وفصلُ الْخطاب أَنَّهَا على حسب الوقائع تنْزيلاً، وعَلى حسب الْحِكْمَة ترتيباً، فالمصحف الَّذِي بَين أَيْدِينَا كالصحف الْكَرِيمَة، على وَِفْق مَا فِي الْكتاب الْمكنون، مرتبَة سورُه كلهَا وآياته بالتوقيف، وحافظ الْقُرْآن الْعَظِيم لَو استفتي فِي أحكامٍ مُتعَدِّدَة، أَو نَاظر فِيهَا، أَو أملاها، لذكر آيَة كلِّ
(1) انْظُر: فتح الْقَدِير الْجَامِع بَين فنَّي الرِّوَايَة والدراية من علم التَّفْسِير، مُحَمَّد بن عَليّ الشَّوْكَانِيّ، تَصْوِير دَار الْمعرفَة - بيروت، 1/72، 73
قَالَ البقاعي فِي نظم الدُّرَر (1/ 8، 9) : وَالشَّيْخ الْمشَار إِلَيْهِ هُوَ الْعَارِف وليُّ الله مُحَمَّد بن أَحْمد الملوي المنفلوطي الشَّافِعِي، ذكر ذَلِك فِي كلامٍ مفردٍ على قَوْله - تَعَالَى:{وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ} و: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ} .
حكم على مَا سُئل، وَإِذا رَجَعَ إِلَى التِّلَاوَة، لم يتلُ كَمَا أفتى، وَلَا كَمَا نزل مفرقاً.. بل كَمَا أُنزل جملَة إِلَى بَيت الْعِزَّة..)) .. ثمَّ قَالَ الزَّرْكَشِيّ معقباً:((وَهُوَ مبنيٌّ على أَن تَرْتِيب السُّور توقيفي، وَهَذَا الراجحُ كَمَا سَيَأْتِي)) (1) .
وَهَذَا أَمر وَاضح جدا، وَلَا أَدْرِي كَيفَ خفَي على مثل الإِمَام الْعَظِيم - وَهُوَ مَنْ هُوَ: علما وتحقيقاً، وعقلاً وذكاءً -؟ {كَيفَ غَابَ عَنهُ أَن الْقُرْآن الْمجِيد كلامُ الله، وَأَنه قديمٌ قدمَه - سُبْحَانَهُ -، لِأَنَّهُ صفة من صِفَاته.. فَكيف يَصح ألَاّ يكون على غَايَة التنسيق، وإحكام الِاتِّصَال؟}
إِن الْقُرْآن الْكَرِيم هُوَ الْجُمْلَة الْوَاحِدَة الَّتِي سبق بهَا علم الله سُبْحَانَهُ، وأنزلها جملَة وَاحِدَة من اللَّوْح الْمَحْفُوظ إِلَى بَيت الْعِزَّة فِي السَّمَاء الدُّنْيَا، ثمَّ ابْتَدَأَ نُزُوله منجماً بِحَسب الوقائع والأسباب، والحوادث والدواعي، على النَّبِي الْخَاتم، فِي لَيْلَة الْقدر، أولَ مبعثه - صلوَات الله عَلَيْهِ وَسَلَامه -..
وَلَعَلَّ من أدقِّ مَا قيل فِي هَذَا - بِالْإِضَافَة إِلَى كلمة الشَّيْخ ولي الله الملوى: ((إِنَّهَا على حسب الوقائع تنْزيلاً، وعَلى حسب الْحِكْمَة ترتيباً)) - كلمةَ الْأُسْتَاذ الْجَلِيل الدكتور مُحَمَّد عبد الله دراز - رَحْمَة الله عَلَيْهِ - حَيْثُ قَالَ فِي إيجاز مكثَّف: ((.. إِن كَانَت بعد تنْزيلها (أَي الْآيَات والسور) قد جُمعت عَن تَفْرِيق؛ فَلَقَد كَانَت فِي تنْزيلها مفرَّقة عَن جمع)) (2) . وَكَذَلِكَ كلمة الزَّرْكَشِيّ الجامعة الْمَانِعَة فِي هَذَا الْبَاب: ((.. بل عِنْد التَّأَمُّل يظْهر أَن الْقُرْآن كلَّه كالكلمة الْوَاحِدَة)) (3) .
(1) الْبُرْهَان، 1/37، 38.
(2)
النبأ الْعَظِيم: نظرات جَدِيدَة فِي الْقُرْآن، د. مُحَمَّد عبد الله دراز، دَار الْفِكر - الكويت، ط3/1988م، ص 154، 155
(3)
الْبُرْهَان، 1/39
أما عَن ثَانِيَة الحجتين، وهى مَا تتَعَلَّق بالمقارنة الَّتِي عقدهَا الشَّيْخ الشَّوْكَانِيّ بَين من يطْلب الْمُنَاسبَة فِي الْآيَات والسور، وَبَين من يطْلبهَا فِي كَلَام أحدِ من الشُّعَرَاء أَو البلغاء - وَهِي أَيْضا مَأْخُوذَة من كَلَام الْعِزّ فِي أمثلته الْأَرْبَعَة الَّتِي ذكرهَا فِي سِيَاق حَدِيثَة -؛ فَهِيَ أَضْعَف من الأولى {
فَهَذَا، أَولا، قِيَاس مَعَ الْفَارِق - كَمَا يَقُول الأصوليون -.. بل مَعَ عَظِيم الْفَارِق} فَإِن ثمَّة حدا فاصلاً لَا يحدُّ - وَلَا يَكْفِي أَن نقُول فِيهِ إِنَّه كَمَا بَين السَّمَاء وَالْأَرْض {- مَا بَين كَلَام الله وَكَلَام خلقه. فَكَلَامه عز وجل صفة من صِفَاته الْقَدِيمَة؛ فَهُوَ كَامِل كمالَه - سُبْحَانَهُ -. وَأما كَلَام خلقه؛ فَعَلَيهِ سمةُ عجزهم وضعفهم وضآلتهم إِذا مَا قيس بِكَلَام أنبيائه - عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام -.. فَكيف إِذا مَا قيس بِكَلَامِهِ هُوَ سبحانه وتعالى؟}
وَأما ثَانِيًا؛ فلأننا لَا نسلِّم بِمَا قَالَه الشَّوْكَانِيّ من أَن تطلُّب الْمُنَاسبَة فِي كَلَام شَاعِر أَو بليغ عَبث من الْعَبَث، أَو محَال من الْمحَال.. فثمة دراسات مستفيضة فِي علم النَّقْد الأدبي تقدِّر أهمية التمَاس مثل هَذِه الْمُنَاسبَة - على نَحْو مَا -، فِيمَا سَمَّاهُ أهل النَّقْد (الوَحْدة العضوية) . وثمة دراسات تطبيقية متكاثرة على عُيُون من أدبنا الْعَرَبِيّ - والآداب العالمية عُمُوما - تثبت، بِمَا لَا يدع مجالاً للشَّكّ، أَن هُنَاكَ روحاً خَاصَّة تسرى فى كَلَام كل واحدٍ من فحول الشُّعَرَاء الموهوبين، وفطاحل البلغاء المطبوعين.. وَأَن هُنَاكَ مسحةً خَاصَّة لكل وَاحِد مِنْهُم، تظهر فِي تضاعيف كَلَامه، وَبَين سطور إبداعه، وتتيح لذوى الحساسية الْعَالِيَة فِي التذوق تَمْيِيز كَلَام أحدهم عَن الآخر.. وَلَكِن لايدرك هَذَا إِلَّا غوَّاصٌ خَبِير، وَلَيْسَ كل من قَرَأَ بَيْتا أَو بَيْتَيْنِ، وَلَا ديواناً أَو ديوانين!
وَلَعَلَّ التعمق فِي دراسة مثل (دَلَائِل الإعجاز) و (أسرار البلاغة) للشَّيْخ
الإِمَام عبد القاهر الْجِرْجَانِيّ - وَكَذَلِكَ الْوُقُوف على مثل مَنْهَج الْأُسْتَاذ الْجَلِيل مَحْمُود مُحَمَّد شَاكر فِي تذوق الْبَيَان عُمُوما - توقف طَالب الْحق على هَذِه الْحَقِيقَة الْعَالِيَة، الَّتِي تقصُر دونهَا همم المتعجلين {وَلَوْلَا أَن الْمقَام لَا يسمح بمزيد من القَوْل فِي هَذَا؛ لألقيتُ عَلَيْهِ ضوءاً كاشفاً (1) .
(1) وَلَعَلَّ من تَتِمَّة الْكَلَام فِي هَذِه الْمَسْأَلَة أَن نذْكر أَن الصَّوَاب قد جَانب الْأُسْتَاذ الْجَلِيل الشَّيْخ عبد الحميد الفراهي رحمه الله فِي جَوَابه عَن هَذَا الْإِشْكَال الْأَخير.. فقد رده بِأَن قلَّل من قيمَة الشّعْر نَفسه} حَيْثُ قَالَ: ((زعم بعض الْعلمَاء أَن الْكَلَام المنظم الَّذِي يجْرِي إِلَى عمودٍ خَاص لَيْسَ من عَادَة الْعَرَب؛ فَإنَّك ترى فِي شعرهم اقتضاباً بَينا، فَلَو جَاءَ الْقُرْآن على غير أسلوبهم ثقل عَلَيْهِم. وَهَذَا زعم بَاطِل. فَإِن الْعَرَب كَانُوا يتلهَّون بالشعر، وَلَا يعدونه من المعالى، وَإِنَّمَا كَانُوا يعظّمون الْحُكَمَاء، وَيُحِبُّونَ الْخطب الحكيمة. وَلذَلِك كَانَ الْأَشْرَاف يأنفون عَن قَول الشّعْر وَأَن يعرفوا بِهِ، وَإِنَّمَا يستعملونه نزراً على وَجه الْحِكْمَة وَضرب الْمثل. ومحضُ الْوَزْن وَالنّظم لَا يعد شعرًا. إِن للشعر مَوَاضِع من فنون الْهزْل والإطراب، فَهُوَ على كل حالٍ من لَهو الحَدِيث..))
ثمَّ قَالَ رحمه الله: ((.. فَإِذا تبين لَك هَذَا الْفرق بَين الشّعْر وَالْبَيَان، وَأَن الْعَرَب لم يكن أَكثر كَلَامهم الجزل شعرًا.. فَهَل لَك بعد ذَلِك أَن تجْعَل الْقُرْآن على أسلوب الشّعْر وَأَنه مقتضب الْبَيَان كمثلة؟ {أَلا ترى كَيفَ جعل الله ذَلِك من ذمائم الشُّعَرَاء؟ وقدَّمه على الْكَذِب - مَعَ ظُهُور شناعة الْكَذِب} ؛ فنبَّه على أَن القَوْل من غير غَايَة وعمود ونظام أدلُّ على سخافة الْقَائِل، فَقَالَ - تَعَالَى - فِي ذمّ هَؤُلَاءِ الشُّعَرَاء: {أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ} (الشُّعَرَاء /225، 226) .. هَل الهيمان فِي كل وادٍ إِلَّا الجريان فِي القَوْل من غير مقصد ونظام؟ {)) (دَلَائِل النظام، عبد الحميد الفراهي، ط. الدائرة الحميدية ومكتبتها، الْهِنْد، 1388?، ص 20، 21) .
قلتُ: وَهَذَا كلامٌ خطير - فَوق أَنه غير صَحِيح} -، يشبه مَا قَامَ بِهِ الإِمَام الْجَلِيل الباقلاني فِي كِتَابه الْعَظِيم (إعجاز الْقُرْآن) من نسفٍ لمعلقة امْرِئ الْقَيْس ((قفا نبكِ..)) حَتَّى يثبت إعجاز الْقُرْآن، وَكَأن إعجاز الْقُرْآن لَا يثبت إِلَّا بهلهلة منقبة الْعَرَب الْعَقْلِيَّة الأولى {.. وَهُوَ الْأَمر الَّذِي نَقده نَقْدا صَارِمًا، ودلَّ على خطورته الْبَالِغَة شيخ الْعَرَبيَّة الراحل الْأُسْتَاذ الْجَلِيل مَحْمُود مُحَمَّد شَاكر - عَلَيْهِ رَحْمَة الله - فِي مقدمته النفيسة لكتاب الْأُسْتَاذ مَالك بن نبى (الظَّاهِرَة القرآنية) ..
وَلَوْلَا أَن يَتَّسِع بِنَا الْكَلَام حَتَّى يخرج عَن مجاله لشفيتُ القَوْل فِي هَذَا.. وَلَكِن أكتفي بِأَن أَقُول إِن الشّعْر هُوَ أَعلَى وأغلى مَا تعلق بِهِ الْعَرَب، وأنفس مَا أثر عَنْهُم وَأَنَّهُمْ كَانُوا يعظمونه لدرجة أَن عَلقُوا نفائسه على جدران الْكَعْبَة - وَهِي أقدس مَا كَانُوا يعظمون} -.. وَذَلِكَ أَمر متواتر عَنْهُم، لَا مجَال لإنكاره، وَطلب الدَّلِيل عَلَيْهِ يشبه طلب الدَّلِيل على النَّهَار {وَهل كَانَت تستقيم معْجزَة الْقُرْآن الباهرة على أُولَئِكَ الْعَرَب الأقحاح لَو كَانَ شعرهم ومبلغُ علمهمْ على مثل هَذِه الركاكة والمكانة المهينة؟} .. إِن هَذَا لشَيْء عَجِيب حَقًا {
وَيُمكن أَن أضيف هُنَا أَن من الْمُقَرّر لَدَى عُلَمَاء الْأمة الْأَثْبَات أَنه لَا يستقلُّ أحد بفهم الْقُرْآن حَتَّى يسْتَقلّ بفهم هَذَا الشّعْر الجاهلي، وَإِلَى ذَلِك يُشِير قَول الشَّافِعِي - وَكَانَ، رضي الله عنه، من أبْصر النَّاس بِهَذَا الْأَمر -: ((لَا يحل لأحد أَن يُفْتِي فِي دين الله إِلَّا رجلٌ عَارِف بِكِتَاب الله.. بناسخه ومنسوخه، ومحكمه ومتشابهه، وتأويله وتنْزيله، ومكيه ومدنيه، وَمَا أُرِيد بِهِ. وَيكون بعد ذَلِك بَصيرًا بِحَدِيث رَسُول الله ((
…
) ، وَيعرف من الحَدِيث مثل مَا عرف عَن الْقُرْآن. وَيكون بَصيرًا بالشعر، وَمَا يحْتَاج إِلَيْهِ للسّنة وَالْقُرْآن)) .. فَلَيْسَ يَكْفِي أَن يكون عَارِفًا بالشعر، بل - وكما يَقُول الشَّيْخ مَحْمُود شَاكر - أَن يكون بَصيرًا بِهِ أشدَّ الْبَصَر} . انْظُر: فصلٌ فِي إعجاز الْقُرْآن، مُقَدّمَة مَحْمُود شَاكر لكتاب (الظَّاهِرَة القرآنية) لمَالِك بن نَبِي، دَار الْفِكر - دمشق، 1981 م - 1402?، ص 41.
وَلَكِن الْإِنْصَاف يقتضينا أَن نذْكر أَن لمثل هَذَا الرَّأْي الَّذِي اعتنقه الإِمَام الْجَلِيل عز الدّين ابْن عبد السَّلَام رضي الله عنه، ثمَّ قَلّدهُ فِيهِ من بعدُ من قَلّدهُ - أسباباً دافعة.. بَعْضهَا صَحِيح، وَإِن كَانَ لَا يُؤدى إِلَى النتيجة الَّتِي انْتَهوا إِلَيْهَا.. وَقد أحسن جدا الْأُسْتَاذ الْجَلِيل الشَّيْخ عبد الحميد الفراهى فِي رصد
هَذِه الْأَسْبَاب، ثمَّ الْإِجَابَة عَنْهَا بِمَا يَكْفِي ويشفى..
فَقَالَ رحمه الله فِي كِتَابه الْعَظِيم (دَلَائِل النظام) :
((.. لَا شكّ أَن الَّذين ذَهَبُوا إِلَى نفي النظام لم يذهبوا إِلَيْهِ إِلَّا لأسباب اضطرتهم إِلَيْهِ. فلنذكر بعض تِلْكَ الْأَسْبَاب، لتعرف عذرهمْ، وَتبقى على حسن ظَنك بهم، ولتخرج من مَحْض التَّقْلِيد إِلَى مطمئن الْحق، فَإِن الأذكياء والحكماء لايذهبون إِلَى رَأْي نُكْرٍ، إِلَّا فِرَارًا مِمَّا هُوَ أَشد نَكَارَة. فَمن لم يعرف ذَلِك، إِمَّا أَسَاءَ بهم الظَّن، وسدَّ على نَفسه الِانْتِفَاع بهم. أَو قلدهم فِي أمرٍ ظَاهر الْفساد؛ فَعمى وتصامم عَن الِاسْتِمَاع لكل دَلِيل وَاضح؛ فَإِن إساءة الظَّن إِلَى دلائلك، أَهْون عَلَيْهِ (أَي مثل هَذَا المقلِّد) من إساءة الظَّن بأولئك الأكابر! وَإِن نقلت عَن بعض الأكابر مَا يُوَافق الْحق؛ اشْتبهَ عَلَيْهِ الْأَمر، وَرُبمَا اتبع مَا عَلَيْهِ الْأَكْثَرُونَ.
فَلذَلِك؛ احتجنا إِلَى ذكر بعض الْأَسْبَاب الْمَانِعَة عَن الإيقان بالنظام، مَعَ وضوح دلائله.. فَنَقُول، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق:
الأول، وَهُوَ أقوى الْأَسْبَاب،: تبرئة كَلَام الله عَن كل عيب وشين. وَلَا شكّ أَنه ظَاهر النظام وَالتَّرْتِيب فِي كثير من الْمَوَاضِع، وَلَكنهُمْ (أَي منكري النظام) لَو ادَّعوا أَنه كلَّه منظم، وَالنّظم مرعيُّ فِيهِ؛ لاضطروا فِي مَوَاضِع إِلَى
للفراهي نظرية خَاصَّة فِي إِدْرَاك التناسب والترابط بَين آيَات الْكتاب الْعَزِيز وسوره سَّماها (النظام) ، وَقد عُني فِيهَا بِإِثْبَات النّسَب والروابط بَين آيَات الْقُرْآن وسوره، عَن طَرِيق تَحْدِيد مَا سَمَّاهُ (عَمُود) كل سُورَة، وَهُوَ يقرِّر أَنه شَيْء فَوق مُجَرّد إِدْرَاك التناسب كَمَا كتب فِيهِ الكاتبون من قبل.. وعَلى كلٍّ؛ فَكَلَامه فِي ذَلِك نَفِيس لم يسْبق إِلَيْهِ، وسوف نعرض لَهُ بالتفصيل لاحقاً بِمَشِيئَة الله تَعَالَى.
القَوْل بِعَدَمِهِ، وَذَلِكَ لغموضه ودقته.. فتركوا هَذَا المسلك وَلم يحولوه إِلَى قُصُور أفهامهم. (
…
)
وَالثَّانِي - وَلَيْسَ بأدونَ من الأول، وَلَكِن الأول يتَعَلَّق بالمصنفين، وَالثَّانِي يتَعَلَّق بالناظرين فِي كَلَامهم -: هُوَ أَن أَكثر من ذهب إِلَى وجود النّظم - كَالْإِمَامِ الرَّازِيّ، رحمه الله قنع فِي هَذَا الْأَمر الصعب بِمَا هُوَ أَهْون من نسج العنكبوت، مَعَ سبقه الظَّاهِر فِي الْعُلُوم النظرية والذكاء؛ فَمن نظر فِي كَلَامه تَيَقّن بِأَن النّظم لَو كَانَ كَمَا يَدعِيهِ هَذَا الإِمَام المتبحِّر وَأَمْثَاله لما خَفِي عَلَيْهِ مَعَ خوضه فِيهِ. وَإِذ لَا يَأْتِي فِيهِ، هُوَ وَلَا غَيره، إِلَّا بِكُل ضَعِيف؛ فَلَا مطمع فِيهِ لأحد بعد هَؤُلَاءِ. فإمَّا بَقِي على قَوْله بِوُجُود النّظم، وَلَكِن يئس من علمه وأغلق بَابه، فَإِن سمع أحدا يَدعُوهُ إِلَيْهِ لم يسمعهُ. وَإِمَّا صَار إِلَى الرَّأْي الَّذِي ظَنّه أسلم، وَهُوَ أَن الْقُرْآن إِنَّمَا نزل منجَّماً مفرقاً، فَلَا يطْلب فِيهِ نظام.
جَاءَ هُنَا فِي حَاشِيَة الْكتاب:
((اعْلَم - هداك الله - أَن من أَسَاءَ الظَّن بهم، أولى بالْخَطَأ مِمَّن قصّر فِيهِ، فَإِن سوء الظَّن مِنْهُم مبنيٌّ على قلَّة مسامحتهم لهَؤُلَاء الأذكياء، وَقلة قدرهم لهَذَا الْعلم الشريف، فَإِنَّهُم لَو أنصفوا؛ لشكروا سَعْيهمْ. فَإِن من يَخُوض على الدرِّ فِي بَحر عميق لَا تَثْرِيب عَلَيْهِ إِن لم يفز بالفرائد، بل يسْتَحق الْمَدْح، وَلما فتح بَابا لمن يتبعهُم.. فكم ترك الأول للْآخر {وَلَا شكَّ أَن من بَين طرفا من النّظم لَهُ منَّةٌ على الْخلف، فَإِن هَذَا الْعلم لَا مطمع فِي بُلُوغ نهايته. وأيُّ علم استقصوه؟ } فَمَا بالك بِمَا هُوَ بَحر لَا تَنْقَضِي عجائبه؟ ! ومحاسن نظم الْكَلَام لَا تُعرف كلهَا إِلَّا بعد استقصاء مَعَانِيه، وَذَلِكَ يُبقي أَكْثَرهَا مكنوناً.
فَالَّذِينَ أَنْكَرُوا وجود النظام فِي كتاب الله، بِمَا وجدوا من الضعْف فِي كَلَام الْقَائِلين بالنظم البليغ فِيهِ، وَإِن كَانُوا أقرب إِلَى الْخَطَأ مِمَّن أَسَاءَ بهم ظَنّه - فَإِنَّهُم أَيْضا معذورون فِي إنكارهم، لِأَن غرضهم لَيْسَ إِلَّا نفي ضعف النظام. فَإِن عدم الْقَصْد لشَيْء رُبمَا يكون صَحِيحا، وَلَكِن سوء التَّدْبِير لذَلِك الْغَرَض منقصة ظَاهِرَة. وَلَا شكّ أَن الْكَلَام الَّذِي لَيْسَ على نمط متسق، بل يحتوي على عدَّة مطَالب مقتضبة بَعْضهَا عَن بعض، مَبْنِيَّة على أَسبَاب جَامِعَة خَارِجَة عَن معنى الْكَلَام، كَمَا ذهب إِلَيْهِ كثير من أكَابِر الْعلمَاء - لأبعدُ عَن النَّقْص من كَلَام قُصد فِيهِ الوحْدة من جِهَة النظام، ثمَّ كَانَ مختلَّ النّظم، أَو ضَعِيف الرِّبَاط. فَلَا شكّ أَن هَؤُلَاءِ الْمَذْكُورين لم يقصدوا إِلَّا تبرئة الْقُرْآن عَن كل منقصة)) .
وَالثَّالِث: إكثار الْوُجُود فِي التَّأْوِيل، وإكثار الجدل وَقَالَ وَقيل. وَذَلِكَ بِأَن النّظم إِنَّمَا يجْرِي على وَحْدةٍ، فبحسب مَا تكثّرت الْوُجُوه تعذَّر استنباط النظام. فَمن نظر فِي هَذِه الْوُجُوه المتناقضة والأقاويل المتشاكسة؛ تحيَّر.. لَا يدْرِي مَاذَا يخْتَار مِنْهَا، وَأصْبح فِي حُجُبٍ عَن النّظم الَّذِي يجْرِي من كل جملةٍ فِي وَجه وَاحِد، كمن سلك طَرِيقا.. يُصَادف فِي كل غَلوةٍ مِنْهُ طرقاً شَتَّى {
وَلما كَانَ ذَلِك - ولأسبابٍ أُخر - شرطنا أَن نقنع بِوَجْه واحدٍ صَحِيح ظَاهر، يَنْتَظِم بِهِ الْكَلَام، وَلم نجده إِلَّا أحسنَها تَأْوِيلا، وأبلغها بَيَانا.. وَهَذَا مَبْسُوط فِي مَوْضِعه. وَإِنَّمَا ذَكرْنَاهُ هَاهُنَا من جِهَة أَن إكثار الْوُجُوه من أكبر الحُجُب على فهم النظام، بل عدم التمسُّك بالنظام هُوَ أكبر سَبَب للولوع بِكَثْرَة التَّأْوِيل، فَإِن النّظم هُوَ الَّذِي يوجهك إِلَى الْوَجْه الصَّحِيح. وَالسَّلَف رحمهم الله لم يجمعوا وُجُوهًا، بل كلٌّ مِنْهُم ذهب إِلَى أمرٍ وَاحِد، وَإِنَّمَا شاع إكثارُ الْوُجُوه فِي الْخلف. وَكَذَا يكون الْأَمر فِي كل علم إِذا كثرت الْكتب، ودوِّن الْعلم، وَسَهل الطَّرِيق، فيحرصون على التبحُّر، وَيَرْفُضُونَ الرسوخ وَالتَّحْقِيق فِي
فِي كتاب الفراهي النفيس هَذَا كثير من الإشارات المهمة فِي هَذَا الصدد، وَهُوَ يَدْعُو إِلَى أَن يتخفف طَالب الْهِدَايَة من الْقُرْآن الْمجِيد من ثقَل هَذِه المرويات مَا اسْتَطَاعَ، حَتَّى يخلُصَ إِلَى الْحِكْمَة المستكنَّة فِي آيَات الله الْبَينَات، الَّتِي هِيَ - وَحدهَا، لَا تأويلات النَّاس واحتمالاتهم} - الهدايةُ والنور.
فنٍّ وَاحِد. فيحسبون تَكْثِير الْأَقَاوِيل والمذاهب علما، وهم خِلْوٌ عَنهُ، كَمَا قيل:((طلبُ الْكل؛ فوتُ الْكل)) . فَمن اشْتغل بالتفسير وجده بحراً متلاطماً من الْأَقْوَال، وَحفظه هَذِه الْأَقَاوِيل يمنعهُ عَن مَسْلَك النظام من جِهَة نفاد فرصته ومُنَّته، وَمن جِهَة أَن النظام قد خَفِي وضلّ عَنهُ فِي شتات الْوُجُوه الْكَثِيرَة. بل لَو رفض هَذِه الْكتب كلَّها، وَأخذ طَرِيق السّلف رحمهم الله؛ فتدبَّر الْقُرْآن، وَالْتمس الْمُطَابقَة بَينه وَبَين السّنة الثَّابِتَة - لَكَانَ أقرب إِلَى معرفَة النظام وصحيح التَّأْوِيل.
وَالرَّابِع - وَهُوَ قريب من الثَّالِث -: تحزُّب الْأمة فِي فرقٍ وشيعٍ قد ألجأهم إِلَى التمسُّك بِمَا يؤيدهم من الْكتاب. فِرَاق لَهُم تَأْوِيله الْخَاص، سَوَاء كَانَ بِظَاهِر القَوْل، أَو بِإِحْدَى طرق حمل الْكَلَام على بعض المحتملات، وَلَا يخفى أَن غَلَبَة رأيٍ وتوهُّم يَجْعَل الْبعيد قَرِيبا، والضعيف قَوِيا، وَكَذَلِكَ يفعل كل فريق.. فَلِكُل حزبٍ تَأْوِيل حسب مذْهبه ! وحينئذٍ لَا يُمكن مُرَاعَاة النظام؛ فَإِن الْكَلَام لَا بُد لَهُ من سِيَاق، وَلَا بُد لأجزائه من موقع يَخُصُّهُ. فَلَو راعوا النظام، ظهر ضعف مَا يمليه ويجذبه إِلَى غير مساقه. كَمَا أَن الْكَلِمَة الْوَاحِدَة رُبمَا تكون مُشْتَركَة بَين الْمعَانِي المتعددة، وَلَكِن إِذا وضعت فِي كلامٍ منع موقعها وقرائنها من كَثْرَة الِاحْتِمَالَات، وَتعين مِنْهَا مَا وَافق معنى الْجُمْلَة والتأم بِهِ. وَمَعَ ذَلِك؛ فَلَيْسَ كل نظامٍ جَدِيرًا بِالْأَخْذِ، بل مَا هُوَ أحسن تَأْوِيلا، فَرُبمَا يلتئم الْكَلَام ويتسق النظام بِتَأْوِيل رَكِيك سَاقِط؛ فَهَذَا مِمَّا يفتح بَابا لدُخُول الأباطيل والهوى، وَيُخَالف النظام الصَّحِيح العالي، الَّذِي يظْهر بِهِ رفيع مَكَان التنْزيل، كَمَا وصف الله بِهِ كِتَابه فِي مَوَاضِع لَا تُحصى كَقَوْلِه تَعَالَى
…
)) (1)
(1)
هُنَا انْتهى، مَعَ الأسف الْبَالِغ، مَا بالمطبوعة (ص22: 26) ؛ إِذْ كُتب بعد هَذِه النقاط: ((بَيَاض بِالْأَصْلِ)) . وَذَلِكَ أَن هَذَا الْكتاب إِنَّمَا جمع من أوراق الشَّيْخ الفراهي بعد وَفَاته، وَقَامَ على طباعته تِلْمِيذه المخلص بدرالدين الإصلاحي (مدير الدائرة الحميدية) ، وَكَانَ أَمينا على الأَصْل، فَلم يُغير فِيهِ شَيْئا، وَلم يكمل مَا بِهِ من نقص - كَمَا ذكر مقدمته -.. وأحسب أَن الشَّيْخ كَانَ سَيذكرُ فِي هَذَا الْموضع قَوْله تَعَالَى:{كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} (هود / 1) ، أَو مَا شابهها من الْآيَات الْكَرِيمَة، الَّتِي وصفت دقة إحكام الْقُرْآن الْمجِيد، ومتانة نظمه، وعلوَّ أسلوبه.
وَفِي مَوضِع آخر من كِتَابه هَذَا يَقُول الشَّيْخ الفراهي:
((الْمُنكر للنظم لَا محيص لَهُ من أحد ثَلَاثَة أَقْوَال:
فإمَّا أَن يَقُول بِأَن السُّورَة لَيست إِلَّا آيَات جُمعتْ بعد النَّبِي (من غير رِعَايَة ترتيبٍ كَمَا وُجِدتْ فِي أَيدي النَّاس.
وَإِمَّا أَن يَقُول بِأَنَّهَا اختلَّ نظمها، لما أَن الْآيَات الَّتِي أدخلت بَين الْكَلَام المربوط قطعت النّظم.
فكلا الْقَوْلَيْنِ ظَاهر الْبطلَان، ومبنيٌّ على الْجَهْل الْفَاحِش بِجمع الْقُرْآن وترتيبه، ومواقع الْآيَات المبيِّنة والمفصَّلة بعد النّزول الأول.
أما الأول؛ فَلِأَن السُّور كَانَت متلوَّةً فِي عهد النَّبِي (، وَأمر الله النَّبِي بالتلاوة حسب تِلَاوَة جِبْرِيل - كَمَا صرَّح بِهِ الْقُرْآن -، وَقد كَانَ النَّبِي (يعلِّم النَّاس السُّورَة بالتمام، وَيسمع مِنْهُم، فَهَذَا الْقُرْآن الْمَجْمُوع فِي الْمَصَاحِف لَيْسَ إِلَّا على نسقٍ، جَاءَ بِهِ جِبْرِيل عليه السلام، وقرأه على النَّبِي (فِي تِلَاوَته الْأَخِيرَة. وَلَو صحَّ مَا زُعم، فَلم أَمر الله نبيه بِاتِّبَاع قِرَاءَة جِبْرِيل؟ {وَلم كَانَ يَأْمر بِوَضْع الْآيَات بمواقعها الْخَاصَّة؟} .
وَأما الثَّانِي؛ فَلِأَن الْآيَة المدخولة لَا تقطع النّظم إِذا أدخلت فِي مَوضِع يَلِيق
بهَا، والآيات المدخولة كلهَا مَعْلُومَة الرَّبْط بِمَا قبلهَا أَو بعْدهَا، وَقد قَالَ تَعَالَى:{كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} .
وَإِمَّا أَن يَقُول بِأَن الله تَعَالَى لم يُرِدْ أَن ينزِّل كَلَامه منظماً، كَمَا لم يُرِدْ أَن يَجعله شعرًا أَو سجعاً، أَو غير ذَلِك مِمَّا يُرَاعِي فِيهِ الْمُتَكَلّم من الْبَدَائِع والتكلف، إِنَّمَا هُوَ كلامٌ أُريد بِهِ الْهِدَايَة وَالْحكمَة، فَأنْزل حسب مَا اقْتَضَت الْأَحْوَال من الدَّلَائِل والشرائع، وَرُبمَا اجْتمعت المقتضيات من وجوهٍ مُخْتَلفَة، فَأنْزل مراعياً لتِلْك الْوُجُوه المتباينة سُورَة جَامِعَة لمطالب مُخْتَلفَة، احْتِيجَ إِلَيْهَا فِي زمَان نُزُولهَا، وَالْأَحْوَال والحوادث واقتضاءاتها تُجمع من عللٍ متباعدةٍ فِي زمانٍ وَاحِد، فالسورة تجمع جملا، كلهَا تكون على حِدتَها فِي غَايَة الْحسن والنظام، وَأما مَجْمُوع هَذِه الْجمل فَلَا معنى لالتماس النظام فِيهِ، وَقد بَين ذَلِك بعض أكَابِر الْعلمَاء.
.. فَأَقُول: لَوْلَا رِعَايَة النّظم فِيهِ لما وجدنَا الْكَلَام الطَّوِيل مَبْنِيا على أسلوب جَامع، أَو كلمة ناظرة إِلَى كلمة سَابِقَة بعيدَة عَنْهَا. مثلا:{هُدىً لِلْمُتَّقِينَ} (الْآيَة 2) سيق فِي أول الْبَقَرَة، ثمَّ جرى الْكَلَام إِلَى ذكر أهل التَّقْوَى، فجَاء قَوْله تَعَالَى:{أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} (الْآيَة 177) نَاظرا إِلَى مَا سبق. والتأمل فِي نظم مَا بَينهمَا، وَفِيمَا بعد ذَلِك، يبين أَن ذَلِك لَيْسَ بمحض الِاتِّفَاق. وَلذَلِك أَمْثِلَة كَثِيرَة أوضح مِمَّا ذكرنَا)) (1) .
انْتهى كَلَام الشَّيْخ الفراهي - رَحْمَة الله عَلَيْهِ -.. وَقد رأيتُ أَن أنقله كَامِلا - على طوله - لنفاسته من جِهَة، ولاستيعابه من جِهَة ثَانِيَة، وَلما فِيهِ من
بالمطبوعة: عليم. وَهُوَ خطأ طباعي.
هَذَا هُوَ القَوْل الثَّالِث الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ الفراهى فِي بداية كَلَامه.
(1)
دَلَائِل النظام، ص 40.
حُسن الْأَدَب وَنور البصيرة من جِهَة ثَالِثَة.. لَا سِيمَا وَأَن من بَين المعترضين على التركيز على مثل هَذَا اللَّوْن من التناسب فِي الْآيَات والسور من تَنْعَقِد لذكرهم الخناصر {لَا سِيمَا الإِمَام الْجَلِيل سُلْطَان الْعلمَاء وَشَيخ الْإِسْلَام الْعِزّ بن عبد السَّلَام رضي الله عنه.. وَلَكِن الْإِنْصَاف يَقْتَضِي أَن نَعْرِف الرِّجَال بِالْحَقِّ، وألَاّ نتهيب مقَام أحدٍ - خلا رسولَ الله، صلوَات الله عَلَيْهِ - فِي أَن نمحِّص أَقْوَاله، ونزنها بميزان التَّحْقِيق الْقَائِم على الْكتاب وَالسّنة.. فَذَلِك دأبُ الْعلم، وَتلك سُنتُه}
وَبعد..
فثمة مَا يجدر التنويه بِهِ من هَذَا الْبَيَان المستفيض من كَلَام الشَّيْخ الفراهي - رَحْمَة الله عَلَيْهِ -.. وَهُوَ ربطُه الغفلةَ عَن قَضِيَّة النظام والترابط فِي كتاب الله بِحَال الْمُسلمين الَّذِي صَارُوا إِلَيْهِ، من التشيُّع والتحزُّب وتعصب كل فريق لما يعْتَقد أَنه الْحق..
فالشيخ الفراهي يرى أَن الْمُسلمين لَو فَهموا (النظام) لفهموا روح الْقُرْآن. وَمن ثَمَّ؛ لحاولوا إِزَالَة مَا بَينهم من خلافات، ورأب مَا بَينهم من صدوع. وَذَلِكَ أَن جُلَّ اخْتِلَاف الآراء فِي التَّأْوِيل رَاجع - كَمَا يَقُول - إِلَى عدم الْتِزَام رِبَاط الْآيَات. فَإِنَّهُ لَو ظهر النظام، واستبان لنا عمودُ الْكَلَام، لجُمعنا تَحت راية وَاحِدَة، وكلمةٍ سَوَاء. فبالنظام وَإِدْرَاك الترابط الوثيق بَين كَلَام الله الْعَزِيز.. تُنفى عَن آيَات الله أهواءُ المبتدعين، وانتحالاتُ المبطلين، وزيعُ المنحرفين (1) .
وَلَعَلَّ الْأُسْتَاذ الشَّيْخ مُحَمَّد الْغَزالِيّ - رَحْمَة الله عَلَيْهِ - (ت 1996م) كَانَ من أبْصر النَّاس بِهَذَا الملمح - الَّذِي لَا ينتبه إِلَيْهِ إِلَّا من أُوتِيَ قدرا من
(1) سَوف يَأْتِي بسط الْكَلَام فِي هَذَا الْجَانِب عِنْد الفراهي عِنْد الحَدِيث الْخَاص عَنهُ بِإِذن الله.
الْحِكْمَة -، وَمن أصدق من تكلم فِيهِ..
فقد كَانَ يرى رحمه الله أَن مشكلة الْعَجز عَن النظرة الشاملة للرؤية القرآنية أدَّت إِلَى لون من تقطيع الصُّورَة وتمزيقها، أَو إِلَى التَّبْعِيض المورِث للخزي الْوَاقِع فِي حياتنا الْيَوْم، وَكَأَنَّهُ صدى لقَوْله تَعَالَى ناعياً على بنى إِسْرَائِيل:{أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} (الْبَقَرَة /85) ..
وَكَانَ رحمه الله يَقُول: ((نخشى أَن تكون علل الْأُمَم السَّابِقَة قد انْتَقَلت إِلَيْنَا.. على الْأَقَل من النَّاحِيَة النظرية، وَأخذ بعض مَقَاصِد الْآيَة أَو السُّورَة وَترك مَا وَرَاءَهَا للتبرك والتلاوة {نخشى أَن نَكُون قد وقعنا فِي هَذَا فعلا.. نَحن نَعِيش الْآن مرحلة التَّبْعِيض والتفاريق} )) (1) ..
وَمن ثَمَّ؛ كَانَ الشَّيْخ الْغَزالِيّ يركز على أَن الْقُرْآن يتَقَدَّم إِلَيْنَا برسالة حَيَاة شَامِلَة، لَا تدع جُزْءا مِنْهَا إِلَّا وتمتد إِلَيْهِ، وَأَن الْوَحْي الإلهي يجْرِي خلال هَذَا النسق القرآني كَمَا تجْرِي الدِّمَاء فِي الْعُرُوق.. وَمن أَقْوَاله الحكيمة فِي ذَلِك:((إِن الرُّؤْيَة القرآنية لَا يُمكن إِلَّا أَن تكون حضارة كَامِلَة.. تعاليم الْقُرْآن كلُّها متماسكة فِي عُصارة وَاحِدَة تجمعها من أَولهَا إِلَى آخرهَا)) .
وَلذَلِك كَانَ رحمه الله يرى أَن إنْشَاء تَفْسِير موضوعي - بِنَاء على هَذِه الرُّؤْيَة المتكاملة، الَّتِي تلحظ النظام والتناسب والترابط فِي آيَات الْقُرْآن وسوره - رُبمَا تشكِّل مُنْطَلقًا ثقافياً جاداً لرؤية قرآنية شَامِلَة (2) .
وَلَعَلَّه، لذَلِك أَيْضا، كَانَ يرى أَن الْمُسْتَقْبل لمثل هَذَا اللَّوْن من التَّفْسِير،
(1) انْظُر: كَيفَ نتعامل مَعَ الْقُرْآن، مُحَمَّد الْغَزالِيّ (مدارسةٌ أجراها مَعَه عمر عبيد حَسَنَة) ، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، ط 3 / 1992، ص. 7:73.
(2)
كَيفَ نتعامل مَعَ الْقُرْآن، ص 73.
على حِسَاب التفاسير الْجُزْئِيَّة الَّتِي تَنْطَلِق من الرُّؤْيَة الموضعية (الَّتِي يتَعَلَّق بهَا التَّفْسِير التجزيئي - بِحَسب السَّيِّد مُحَمَّد باقر الصَّدْر) ، وَيذْهل عَن الرُّؤْيَة الموضوعية المتكاملة (التوحيدية، بِحَسب السَّيِّد الصَّدْر أَيْضا)(1) .
أَرَأَيْت، إِذن، أهمية هَذَا الْعلم الْجَلِيل من عُلُوم الْقُرْآن، وَأدْركت موقعه من بَينهَا
(1) انْظُر مُقَدّمَة الْغَزالِيّ لتفسيره: نَحْو تَفْسِير موضوعي لسور الْقُرْآن الْكَرِيم، دَار الشروق، ط 4/2000، ص 6. وَانْظُر كَذَلِك فِي أهمية هَذِه النظرة الموضوعية (التوحيدية) لِلْقُرْآنِ الْكَرِيم: الْمدرسَة القرآنية، السَّيِّد مُحَمَّد باقر الصَّدْر، دَار التعارف للمطبوعات - بيروت، ط 2، 1401? - 1981 م.. ففية كَلَام نَفِيس فِي هَذَا السِّيَاق.