المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ثانيا: التناسب في السورة الواحدة: - مصابيح الدرر في تناسب آيات القرآن الكريم والسور

[عادل بن محمد أبو العلاء]

فهرس الكتاب

- ‌مُقَدّمَة

- ‌المبحث الأول: مقدِّمات أساسية

- ‌أَولا: المبادئ العشَرة:

- ‌ثَانِيًا: تَعْرِيف السُّورَة وَالْآيَة:

- ‌ثَالِثا: مابين علم التناسب وَالتَّفْسِير الموضوعي

- ‌المبحث الثَّانِي: موقع علم الْمُنَاسبَة من عُلُوم الْقُرْآن

- ‌المبْحثُ الثَّالث: تَارِيخ علم الْمُنَاسبَة

- ‌المبحث الرَّابِع: من أبرز أَعْلَام علم الْمُنَاسبَة

- ‌مدْخل

- ‌الإِمَام فَخر الدّين الرَّازِيّ (543هـ - 606ه

- ‌الإِمَام برهَان الدّين البقاعي (809 هـ - 885ه

- ‌الشَّيْخ عبد الحميد الفراهي (1280 - 1349هـ / 1864 - 1930م)

- ‌الْأُسْتَاذ سيد قطب (1324 - 1386هـ / 1906 - 1966ه

- ‌المبحث الْخَامِس: أَنْوَاع المناسبات

- ‌أَولا: المناسبات فِي الْآيَات

- ‌ثَانِيًا: الْمُنَاسبَة فِي السُّورَة (السُّورَة كوحدة مُسْتَقلَّة) :

- ‌ثَالِثا: الْمُنَاسبَة بَين السُّور (الْقُرْآن كوحدة وَاحِدَة) :

- ‌المبحث السَّادِس: نماذج تطبيقية على علم الْمُنَاسبَة

- ‌أَولا: التناسب فِي الْآيَات

- ‌ثَانِيًا: التناسب فِي السُّورَة الْوَاحِدَة:

- ‌ثَالِثا: التناسب فِيمَا بَين السُّور:

- ‌الخاتمة

- ‌مصَادر ومراجع

الفصل: ‌ثانيا: التناسب في السورة الواحدة:

الْمَعْنى، يَنْفِي أيَّ تنافرٍ أَو تباعدٍ بَين الْآيَات، وسرعان مَا يطمئنُّ الْمَرْء إِلَى وجود صلَة، وَحُصُول علاقَة، وتوفر مُنَاسبَة، وَهَذَا مَا يوحي بِهِ قَول الباقلاني:((.. هَذَا خروجٌ لَو كَانَ فِي غير هَذَا الْكَلَام لتُصوِّر فِي صُورَة الْمُنْقَطع.. وَقد تمثل فِي هَذَا النّظم لبراعته وَعَجِيب أمره، وموقع لَا ينفكُّ مِنْهُ القَوْل)) (1) مُشِيرا بذلك إِلَى الترابط والتلاحم الَّذِي يقوم عَلَيْهِ النّظم القرآني (2) .

وثمَّةَ أمرٌ آخرٌ تجدر الْإِشَارَة إِلَيْهِ أَيْضا، وَهُوَ أَن ترجيحي مَا رجحت لَا يَنْفِي مَا قد يكون من صِحَة غَيره مِمَّا ذكرتُ - أَو مِمَّا لم أقع عَلَيْهِ - وَذَلِكَ أَن السُّورَة أَو الْجُمْلَة من الْقُرْآن الْمجِيد قد تحْتَمل أَكثر من وجهٍ فِي بَيَان نظامها وارتباطها، وَلَا بَأْس بِتَعَدُّد هَذِه الْوُجُوه - مَا لم تؤدِّ إِلَى تعارضٍ أَو تناكُرٍ - لِأَن الْقُرْآن مبنيٌّ على تعدُّد الدّلَالَة (3) .. وَكَيف لَا، وَهُوَ كَلَام الله الآخر إِلَى البشرية حَتَّى قيام السَّاعَة؟ ! فَلَا تزَال دَائِرَة دلالاته تتسع وتتنوع، وَلَا يزَال مجَال الْأَخْذ مِنْهُ يتراحب، {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً} (الْكَهْف / 110) .

(1) إعجاز الْقُرْآن، ص 209

(2)

انْظُر فِي ذَلِك: فِي الدراسات القرآنية

، د. السَّيِّد أَحْمد عبد الْغفار، ص 93

(3)

انْظُر فِي ذَلِك: دَلَائِل النظام، ص 79

ص: 122

‌ثَانِيًا: التناسب فِي السُّورَة الْوَاحِدَة:

ثمَّة أُمُور عدَّة يُنظر إِلَيْهَا عِنْد بَيَان تناسب السُّورَة الْوَاحِدَة، وَمِنْهَا: تَحْدِيد (شخصية السُّورَة) ، وتحديد (عمودها) الَّذِي تقوم عَلَيْهِ، وإبراز مقاصدها الْكُلية، ومناسبة فَاتِحَة السُّورَة لخاتمتها، ومناسبة اسْمهَا لموضوعها الرئيس.

وسوف أحاول أَن أنظر فِي هَذِه الْمسَائِل على ضوء مثالٍ تطبيقي.. وَليكن

ص: 122

الْمِثَال هُوَ سُورَة الْأَعْرَاف.. وهى من الطوَال (206 آيَة) ، وَقد تشابكت فِيهَا الموضوعات والقصص، بِمَا يصلح لكَونهَا أنموذجاً لتطبيق مَا أرَاهُ من التناسب فِي سور الْقُرْآن الْكَرِيم..

(1)

سُورَة الْأَعْرَاف: لَيْسَ أفضل من سيد قطب.. ليحدد ملامح سور الْقُرْآن، وليرسم - بقلمه الصَّنَاع، وحسِّه المرهف - ملامحها الْخَاصَّة! وَهُوَ يحدد ملامح سُورَة الْأَعْرَاف فِي كَونهَا تقصُّ تَارِيخ رحْلَة موكب الْإِيمَان يحمل العقيدة.. فَهِيَ تعالج مَوْضُوع العقيدة فِي المجال التاريخي الحركي، بَيْنَمَا عَالَجت سُورَة الْأَنْعَام - السَّابِقَة لَهَا مُبَاشرَة - ذَات الْمَوْضُوع، وَلَكِن فِي المجال التنظيري التقريري.. يَقُول سيد قطب رحمه الله عَن سُورَة الْأَعْرَاف:((.. إِنَّهَا تعرضه (مَوْضُوع العقيدة) فِي مجَال التَّارِيخ البشري.. فِي مجَال رحْلَة البشرية كلهَا، مبتدئة بِالْجنَّةِ وَالْمَلَأ الْأَعْلَى، وعائدة إِلَى النقطة الَّتِي انْطَلَقت مِنْهَا. وَفِي هَذَا المدى المتطاول تعرض (موكب الْإِيمَان) من لدن آدم عليه السلام إِلَى مُحَمَّد عليه الصلاة والسلام.. تعرض هَذَا الموكب الْكَرِيم، يحمل هَذِه العقيدة، ويمضي بهَا على مدَار التَّارِيخ، يواجه بهَا البشرية جيلاً بعد جيل، وقبيلاً بعد قبيل، ويرسم سِيَاق السُّورَة فِي تتابعه كَيفَ اسْتقْبلت البشرية هَذَا الموكب وَمَا مَعَه من الْهدى؛ كَيفَ خاطبها هَذَا الموكب؟ وَكَيف جاوبته؟ وَكَيف وقف الْمَلأ مِنْهَا لهَذَا الموكب بالمرصاد؟ وَكَيف تخطى هَذَا الموكب أرصادها وَمضى فِي طَرِيقه إِلَى الله؟ وَكَيف كَانَت عَاقِبَة المكذبين وعاقبة الْمُؤمنِينَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة؟..

إِنَّهَا رحْلَة طَوِيلَة.. طَوِيلَة. وَلَكِن السُّورَة تقطعها مرحلةً مرحلةً، وتقف مِنْهَا عِنْد مُعظم المعالم البارزة، فِي الطَّرِيق المرسوم.. ملامحه وَاضِحَة، ومعالمه قَائِمَة، ومبدؤه مَعْلُوم، ونهايته مرسومة.. والبشرية تخطو فِيهِ بمجموعها الحاشدة، ثمَّ

ص: 123

تقطعه رَاجِعَة إِلَى حَيْثُ بدأت رحلتها فِي الْمَلأ الْأَعْلَى)) (1) .

ثمَّ يَقُول رحمه الله بعد تَفْصِيل ماتع، سرده بأسلوبه الأدبى الرفيع -:((إِنَّهَا قصَّة البشرية بجملتها، فِي رحلتها.. ذَهَابًا وإياباً {تتمثل فِيهَا حَرَكَة هَذِه العقيدة فِي تَارِيخ البشرية ونتائج هَذِه الْحَرَكَة فِي مداها المتطاول.. حَتَّى تَنْتَهِي إِلَى غايتها الْأَخِيرَة فِي نقطة المنطلق الأولى..)) .

وتلتقي سورتا الْأَنْعَام والأعراف - كَمَا سبقت الْإِشَارَة - على غَرَض (عرض العقيدة) .. وَلَكِن تبقى لكلٍّ مِنْهُمَا شخصيتها فِي تنَاوله.. وَكَذَلِكَ تبقى لكلٍّ مِنْهُمَا شخصيتها الفنية، من حَيْثُ الْأَدَاء التعبيري والأسلوب

((فالتعبير فِي كل سُورَة يُنَاسب منهجها فِي عرض الْمَوْضُوع. فَبَيْنَمَا يمْضِي السِّيَاق فِي الْأَنْعَام فِي موجات متدافعة، وبينما تبلغ الْمشَاهد دَائِما دَرَجَة اللألاء والتوهُّج والالتماع، وتبلغ الإيقاعات دَرَجَة الرنين والسرعة القاصفة والاندفاع.. إِذا السِّيَاق فِي الْأَعْرَاف يمْضِي هادئ الخطو، سهلَ الْإِيقَاع، تقريريَّ الأسلوب، وكأنما هُوَ الْوَصْف المصاحب للقافلة فِي سَيرهَا المديد.. خطْوَة خطْوَة، ومرحلة مرحلة.. حَتَّى تؤوب} وَقد يشْتَد الْإِيقَاع أَحْيَانًا فِي مَوَاقِف التعقيب، وَلكنه سرعَان مَا يعود إِلَى الخطوة الوئيد الرتيب {

وهما، بعدُ، سورتان مكيتان من الْقُرْآن} )) (2) .

(2)

عَمُود السُّورَة: وَهَذَا، كَمَا تقدم، من مصطلحات الشَّيْخ الفراهي رحمه الله.. وَهُوَ يقْصد بِهِ العنوان الرئيس للسورة، الَّذِي تُؤدِّي مَعْرفَته إِلَى ردِّ جَمِيع مَقَاصِد السُّورَة وموضوعاتها إِلَيْهِ - كَمَا سبق تَفْصِيله فِي المبحث الثَّالِث -

(1) فِي ظلال الْقُرْآن، 3/1244

(2)

السَّابِق، 3/1245

ص: 124

. وَقد ذكر الشَّيْخ الفراهي أَن عَمُود سُورَة الْأَعْرَاف هُوَ إنذار أهل الْقرى، وتوعُّدهم بالهزيمة، وَتَقْرِير غَلَبَة الْحق.. (1) .

وَهَذَا حقٌّ، وَيدل عَلَيْهِ مَا سبق من كلامٍ فِي (ملامح السُّورَة) الَّتِي هِيَ ((قصُّ رحْلَة موكب الْإِيمَان حَامِلا العقيدة)) ، وَالَّتِي تُستنبط من نتائج هَذِه الْقَصَص الْمَذْكُورَة فِيهَا، من نصر الله أنبياءه وَرُسُله،، ودوران الدائرة على أعدائهم.. بداية من لعن الشَّيْطَان الرَّجِيم وتحقير شَأْنه، وَحَتَّى تَمْكِين الْمُسْتَضْعَفِينَ من بني إِسْرَائِيل فِي الأَرْض بعد دمار فِرْعَوْن وَجُنُوده.. فَهَذِهِ النهايات كلهَا تذكير لـ (أهل الْقرى) من مُشْركي مَكَّة، وَمن كل الطغاة من بعدهمْ بِأَن نور الله غَالب، وَأَن كَلمته هِيَ الْبَاقِيَة، وَأَن جنده هم المنصورون.

(3)

مَقَاصِد السُّورَة: بِالْإِضَافَة إِلَى الْمَقْصد الرئيس السَّابِق، والمعبَّر عَنهُ بـ (عَمُود السُّورَة)، وَالَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ أَيْضا البقاعي بقوله:((.. ومقصودها إنذار من أعرض عَمَّا دَعَا إِلَيْهِ الكتابُ فِي السُّور الْمَاضِيَة، من التَّوْحِيد والاجتماع على الْخَيْر، وَالْوَفَاء لما قَامَ على وُجُوبه من الدَّلِيل فِي الْأَنْعَام، وتحذيره بقوارع الدَّاريْنِ)) (2) .. بِالْإِضَافَة إِلَى هَذَا؛ ثمَّة مَقَاصِد أُخْرَى تنطوي فِي هَذَا الْمَقْصد الْأَعَمّ.. وَقد أحسن عرض هَذِه الْمَقَاصِد الشَّيْخ الطَّاهِر بن عاشور رحمه الله.. وَعنهُ نذكرها - ملخَّصةً ومنسقةً - (3) ..

1 -

تَقْرِير التَّوْحِيد، وَالنَّهْي عَن اتِّخَاذ الشُّرَكَاء من دون الله، وإنذار الْمُشْركين.

(1) دَلَائِل النظام، ص 94

(2)

مصاعد النّظر، 2/130

(3)

انظرها مفصلة فِي: التَّحْرِير والتنوير، 8/8، 9

ص: 125

2 -

التَّذْكِير بِمَا أودع الله فِي فطْرَة الْإِنْسَان من وَقت تكوين أَصله من الْقبُول بِالْإِيمَان، وتحذير النَّاس من التلبُّس ببقايا مكر الشَّيْطَان الَّذِي أغوى بِهِ أبويهما الْأَوَّلين، وَالدّلَالَة على طَرِيق النجَاة من تلبيسه ووسوسته.

3 -

التَّذْكِير بِالْبَعْثِ وتقريب دَلِيله، وَوصف أهوال يَوْم الْجَزَاء، وأحوال أَهله من الْمُجْرمين والمتقين..

4 -

تذكير النَّاس بِنِعْمَة خلق الأَرْض، وتمكين النَّوْع الإنساني من خيراتها، وَالنَّهْي عَن الْفساد فِيهَا، والدعوة إِلَى إصلاحها وإعمارها لصالح الإنسانية.

5 -

الْإِفَاضَة فِي قصِّ أَخْبَار الرُّسُل مَعَ أقوامهم، وَمَا لاقوه من عنادهم وأذاهم، ثمَّ مَا آل إِلَيْهِ أُولَئِكَ المكذِّبون من سوء الْمصير فِي الدُّنْيَا قبل الْآخِرَة.. وَحسن التَّخَلُّص من هَذَا إِلَى ذكر الْبشَارَة بِنَبِي الرَّحْمَة صلى الله عليه وسلم، وَصفَة أمته، وَفضل دينه الْخَاتم.

هَذِه رُؤُوس الْمَقَاصِد الفرعية، المنطوية فِي (عَمُود السُّورَة) الرئيس.. وغنىٌّ عَن الذّكر أَن نشِير إِلَى أَن الحَدِيث عَن هَذِه الْمَقَاصِد جَاءَ موزعاً على آيَات السُّور، من أَولهَا إِلَى آخرهَا، بِحَيْثُ ترتبط بدايتها بنهايتها فِي وشيجة وَاحِدَة، وقالب خَاص.. وبإعجاز باهر.. بِحَيْثُ لَو تكلّف متكلف أَن يعبر عَن هَذِه الموضوعات المتواشجة المترابطة بأضعاف كلماتها الَّتِي سيقت بهَا فِي هَذِه السُّورَة الْعَظِيمَة - لم يسْتَوْف عُشْرَ معشار مَا استوفته.. ثمَّ إِنَّك تَجِد فِيمَا قد يتكلفه معَارض الْقُرْآن الْمجِيد ((ثِقَل النّظم، ونفور الطَّبْع، وشِرَاد الْكَلَام، وتهافت القَوْل، وتمنُّع جَانِبه، والقصور عَن الْإِيضَاح عَن واجبه. ثمَّ إِنَّك لَا تقدر على أَن تنْتَقل من قصَّة إِلَى قصَّة، وَفصل إِلَى فصل، حَتَّى تتبين لَك مَوَاضِع الْوَصْل، وتستصعب عَلَيْك أَمَاكِن الْفَصْل. ثمَّ لَا يمكنك أَن تصل بالقصص مواعظَ زاجرة، وأمثالاً

ص: 126

سائرة، وَحكما جليلة، وأدلةً على التَّوْحِيد بيِّنة، وكلمات فِي التنْزيه والتحميد شريفة. (

) وَلَو لم يكن إِلَّا حديثٌ وَاحِد على هَذَا النمط الباهر لكفى، وأقنع وشفى {وَلَو لم تكن إِلَّا سورةٌ وَاحِدَة لكفت فِي الإعجاز.. فَكيف بِالْقُرْآنِ الْعَظِيم؟} )) (1) ..

(4)

مُنَاسبَة فَاتِحَة السُّورَة لخاتمتها: وَرَغمَ أَن هَذَا يظْهر من خلال عرض مَقَاصِد السُّورَة، الَّتِي تردُّ الآخر إِلَى الأول، وتمهد بِالْفَاتِحَةِ للخاتمة.. إِلَّا أنَّا نخصه بِالذكر لزِيَادَة الْبَيَان على هَذَا الاتساق والترابط فِي بُنيان السُّورَة الْوَاحِدَة.

فقد قصَّت السُّورَة الْكَرِيمَة فِي أوائلها كَيفَ نجح الشَّيْطَان فِي إِخْرَاج آدم من الْجنَّة، وبينت أَن محاولاته لتضليل بنيه لن تَنْتَهِي.. وَفِي أثْنَاء السُّورَة تناولت - عبر قصَص أَنْبيَاء الله نوح وَهود وَصَالح وَلُوط وَشُعَيْب ومُوسَى، مَعَ أقوامهم - كَيفَ نجح اللعين مرّة أُخْرَى فِي إغواء من أغوى عبر تَارِيخ الإنسانية، وَلكنهَا عَادَتْ فِي الْأَخير لتذكر بِأَن الشَّيْطَان، مهما بلغ، لَا يملك أَكثر من الوسوسة.. فكيده، مهما عظم، ضَعِيف.. ومكره، مهما استخفى، لَا يَحِيق إِلَّا بِهِ وبأوليائه.. وَمَا دَامَ الْإِنْسَان معتصماً بِاللَّه السَّمِيع الْعَلِيم، فستنهزم عَنهُ وساوس اللعين وترتد مدحورةً:{إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} (الْآيَة 201) .. وَخير مَا يعْصم الْمَرْء تشبثُه بِذكر الله تَعَالَى؛ فَإِن هَذَا الذّكر هُوَ الَّذِي يعصمه من الزلل، ويستبقيه فِي مستوى الْإِيمَان الرفيع. وَخير الذّكر هُوَ الْقُرْآن الْمجِيد، الَّذِي افتتحت السُّورَة بتقرير حقيته:{كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} (الْآيَة 2)، واختتمت بتعظيم شَأْنه:{وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (الْآيَة 204) .. وَبِهَذَا الذّكر يَنْتَظِم

(1) مُسْتَفَاد من: إعجاز الْقُرْآن، الباقلاني، ص 296، 297 (بِتَصَرُّف) .

ص: 127

الْمُؤمن العابد مَعَ الْكَوْن كُله فِي أنشودة حمد الله وتعظيمه: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ} (الْآيَة 206)(1) ..

أَرَأَيْت، إِذن، إِلَى هَذِه الْمُنَاسبَة التَّامَّة، والرابطة الْوَثِيقَة، والوشيجة المتينة، بَين فَاتِحَة السُّورَة وخاتمتها - وَمَا بَينهمَا؟ {

أَلا تبدو لَك السُّورَة - على طولهَا - وَكَأَنَّهَا - بِالْفِعْلِ - وحدة وَاحِدَة؟}

فعزَّ من هَذَا كَلَامه، وَسُبْحَان مَنْ هَذَا بيانُه {

(5)

مُنَاسبَة اسْم السُّورَة لمقاصدها وعمودها: وَهَذَا أَمر دَقِيق جدا؛ إِذْ إِنَّه يجمع (عَصَب) السُّورَة كلَّه فِي اسْمهَا، فَكَأَن هَذَا الِاسْم (شفرة) لبنيانها كلِّه} .. فلنحاول.. وَالله الْمُوفق!

لم يخْتَلف المفسِّرون فِي تَسْمِيَة هَذِه السُّورَة بـ (الْأَعْرَاف) ، وَلم يذكرُوا لَهَا اسْما آخر - كَمَا هُوَ حَال كثير من السُّور الْأُخْرَى -..

وَقد جَاءَ ذكر (الْأَعْرَاف) فِي قَوْله - تَعَالَى - فِي سِيَاق الحَدِيث عَن أهل الْجنَّة وَأهل النَّار، بعد اسْتِقْرَار كلٍّ فِي محلِّه:{وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلّاً بِسِيمَاهُمْ} (الْآيَة 46)، ثمَّ:{وَنَادَى أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ رِجَالاً يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ} (الْآيَة 48)

وثمة أَقْوَال كَثِيرَة متضاربة فِي تَحْدِيد المُرَاد من الْأَعْرَاف، ثمَّ تَحْدِيد أَهله (2) .

(1) أصل هَذَا الْوَجْه من الرَّبْط بَين الخاتمة والبداية مُسْتَفَاد من الشَّيْخ مُحَمَّد الْغَزالِيّ رحمه الله فِي: نَحْو تَفْسِير موضوعي

، ص 125.

(2)

الْعرف: مَا ارْتَفع من الشَّيْء، أَي أَنه أَعلَى مَوضِع فِيهِ؛ لِأَنَّهُ أشرف وَأعرف مِمَّا انخفض مِنْهُ. وَهُوَ مستعار من عرف الديك وَالدَّابَّة. وَانْظُر فِي تَفْصِيل الْأَقْوَال فِيهِ: روح الْمعَانِي، 8/123، 124. وَقد سبق أَن تعرضنا لتفصيل القَوْل فِي ذَلِك فِي كتابتي (الصراع بَين الْحق وَالْبَاطِل كَمَا جَاءَ فِي سُورَة الْأَعْرَاف) ، مطبوعات مكتبة الْملك عبد الْعَزِيز الْعَامَّة بالرياض، ط1/ 1416هـ، ص 28: 30

ص: 128

وجرياً على طَريقَة الشَّيْخ الفراهي، وَالَّتِي دَعَا فِيهَا إِلَى عدم الِاسْتِغْرَاق فِي خضم هَذِه الْأَقْوَال المتعارضة - لَا سِيمَا وَأَنه لَا حَدِيث مَرْفُوعا صَحِيحا يحدِّد الدّلَالَة النهائية المتعينة مِنْهَا -، وَذَلِكَ حَتَّى لَا تفلت منا الحكمةُ المستكنَّة فِي آيَات الله، وَالَّتِي هِيَ - وَحدهَا، لَا تأويلات النَّاس واحتمالاتهم! - الْهدى والنور.

نقُول: جَريا على هَذِه الطَّرِيقَة الحميدة المرضية، نَخْتَار من هَذِه الْأَقْوَال المتكاثرة قولا وَاحِدًا، ونُجرى عَلَيْهِ الْمُنَاسبَة الْمَطْلُوبَة هُنَا..

فَنحْن نرى - مَعَ الْأُسْتَاذ الشَّيْخ مُحَمَّد الْغَزالِيّ، رحمه الله أَن أَصْحَاب الْأَعْرَاف هم الدعاة وَالشُّهَدَاء الَّذين بلَّغوا رسالات الْأَنْبِيَاء وقادوا الْأُمَم إِلَى الْخَيْر (1) .. وَإِلَيْك نصَّ كَلَامه فِي هَذَا.. قَالَ رحمه الله:

((.. واختصت هَذِه السُّورَة بِذكر أَصْحَاب الْأَعْرَاف، وَمِنْهُم أَخذ اسْمهَا.

والشائع بَين المفسِّرين أَن هَؤُلَاءِ قوم اسْتَوَت حسناتهم وسيئاتهم، فانتظروا حَتَّى يُبتَّ فِي أَمرهم.

وَأرى أَن أَصْحَاب الْأَعْرَاف هم الدعاة وَالشُّهَدَاء الَّذين بلَّغوا رسالات الْأَنْبِيَاء وقادوا الْأُمَم إِلَى الْخَيْر، فَإِن الْأَعْرَاف هِيَ القمم الرفيعة، وَمِنْهَا سُمي

(1) ذكر هَذَا القَوْل - ضمن أقوالٍ أُخْرَى - الألوسي، وَقَالَ (8/124) :((.. وَمن النَّاس من استظهر القَوْل بِأَن أَصْحَاب الْأَعْرَاف قومٌ علت درجاتهم؛ لِأَن المقالات الْآتِيَة (الْوَارِدَة فِي سِيَاق السُّورَة) وَمَا تتفرع عَلَيْهَا لَا تلِيق بغيرهم)) .. وَهُوَ مَا رجَّحه الرَّازِيّ بقوله (14/90) : ((وَتَحْقِيق الْكَلَام أَن أَصْحَاب الْأَعْرَاف هم أَشْرَاف أهل الْقِيَامَة)) .

ص: 129

عُرفُ الديك عُرفاً..

وهم فِي الْآخِرَة يرقبون الجماهير والرؤساء فِي ساحة الْحساب، ويلقون بالتحية أهل الْجنَّة، وبالشماتة أهل النَّار.

وَحَدِيث الْقُرْآن عَنْهُم يرجح هَذَا الْفَهم. فهم يَتَكَلَّمُونَ بِثِقَة، ويوبِّخون المذنبين على مَا اقترفوا، ويستعينون بِاللَّه من مصيرهم. وَمن المستبعد أَن يكون ذَلِك موقف قومٍ اسْتَوَت حسناتهم وسيئاتهم.. لَا يَدْرُونَ أَيْن يُذهب بهم!)) (1) .

وَهُوَ رأيٌ سديد.. وَقد أَشَارَ البقاعي إِلَى نحوٍ مِنْهُ فِي قَوْله:

((.. ومقصودها: إنذار من أعرض عَمَّا دَعَا إِلَيْهِ الكتابُ فِي السُّورَة الْمَاضِيَة (

) ، وأدلُّ مَا فِيهَا على هَذَا الْمَقْصد أمرُ الْأَعْرَاف، فَإِن اعْتِقَاده يتَضَمَّن الإشراف على الْجنَّة وَالنَّار، وَالْوُقُوف على حَقِيقَة مَا فِيهَا، وَمَا أعد لأَهْلهَا، الداعى - أَي هَذَا الإشراف والاطلاع - إِلَى امْتِثَال كل خير وَاجْتنَاب كل شَرّ، والاتعاظ بِكُل مرقِّق)) (2) .

وعَلى هَذَا تتضح الْمُنَاسبَة التَّامَّة بَين السُّورَة وشخصيتها وعمودها، ومقاصدها الْكُلية. فَتكون الْإِشَارَة إِلَى (أهل الْأَعْرَاف) ومكانتهم فِي الْآخِرَة، إلماحاً إِلَى (أهل الشَّهَادَة) ووظيفتهم فِي الدُّنْيَا.. وهم الْأمة الخاتمة:{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ..} (الْبَقَرَة/143) .. وَتَأْتِي الْإِشَارَة إِلَى هَذِه الشَّهَادَة - الملحوظة فِي (أهل الْأَعْرَاف) - فِي قَوْله - تَعَالَى - فِي هَذِه السُّورَة: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ

(1) نَحْو تَفْسِير موضوعى..، ص 111، 112

(2)

مصاعد النّظر، 2/130، 131، وَكَذَلِكَ: نظم الدُّرَر، 7/347

ص: 130