الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ففاجأها وقد جمعت جموعًا
…
على أبواب حصنٍ مصلتينا1
فقدمت الأديم لراهشيه
…
وألفى قولها كذبًا ومينا
وهذه هي الرواية الأولى، ولكن في قوله "مينًا" سنادًا، ولذلك أراد المفضل الضبي أن يفر من هذا السناد فغيرها وجعلها "كذبًا مبينًا".
وقال لبيد2:
أو مذهب جدد على ألواحه
…
ألناطق المبروز والمختوم
والكلمة الأولى من عجز البيت ألفها ألف وصل، ولكنها في هذه الرواية قطعت "فعدل عن ذلك بعض الرواة استيحاشًا من قطع ألف الوصل"، فغيروه، وجعلوه:
".... على ألواحه
…
ن الناطق...."
وقال ابن مقبل3: "إني لأرسل البيوت عوجًا فتأتي الرواة بها قد أقامتها".
1 يذكر خبر الزباء وغدرها بجذيمة الأبرش. الأديم: النطع. راهشيه: عرق جذيمة الأبرش.
2 لسان العرب "ذهب".
3 مجالس ثعلب: 481.
5-
رواة وضاعون:
ومجال الحديث عن الوضع والنحل ذو سعة، سنفرده في بحث خاص ونفصل القول فيه في الباب التالي. غير أننا سنشير هنا إلى بعض الموضوعات التي كان
يكثر فيها وضع الشعر الجاهلي ونحله، ثم نورد عليها أمثلة من الرواة الوضاعين ومن الشعر الموضوع.
وربما كان أوسع موضوع وجد فيه الرواة الوضاعون مجالًا فسيحًا للوضع والنحل هو القصص وأحاديث السمر. وقد كان خلفاء بني أمية وبني مروان، وخاصةً معاوية وعبد الملك، يعقدون مجالس خاصة للسمر والقصص. وقد مر بنا أن معاوية كان يستمر إلى ثلث الليل في أخبار العرب وأيامها
…
وأنه كان له غلمان مرتبون يقرءون عليه الأخبار والسير والآثار من دفاتر، وكلوا بحفظها وقراءتها1. وكان أيضًا من محدثي معاوية وقصاصيه: النخار بن أوس، ولم يكتف معاوية به بل أمره ذات ليلة أن يبغيه محدثًا غيره. فلما قال له النخار: ومعي يا أمير المؤمنين تريد محدثًًًا؟ أجابه معاوية: نعم، أستريح منك إليه ومنه إليك2. ولما رأى عمرو بن العاص شغف معاوية بالمسامرة وأحاديث مَنْ مضى أشار عليه باستدعاء عبيد بن شرية الجرهمي من الرقة، وقال له إن عبيدًا من بقايا من مضى، وإنه أدرك ملوك الجاهلية، وهو أعلم من بقي آنذاك في أحاديث العرب وأنسابها، وأوصفهم لما مر عليه من تصاريف الدهر. فاستدعاه معاوية، فصار عبيد في وقت السمر سمير معاوية في خاصته من أهل بيته. ثم أمر معاوية أهل ديوانه وكتابه أن يوقعوا هذه المجالس وأحاديثها ويدونوها في الكتب3.
ولم يكن القصص والسمر وقفًا على بلاط الخلفاء الأمويين، بل شاعت عند جمهور العامة، وانتشر القصاص في المساجد يخلطون الوعظ بالقصص والأحاديث وأخبار من مضى من العرب وغيرها من الأمم، يسوقونها للعظة والعبرة وللتسلية والسمر معًا. وأخبار هؤلاء القصاص في مساجد الأمصار كثيرة مبثوثة في مظانها4. إنما يعنينا أن نشير إلى أمرين، الأول: أن المتصدرين في المساجد والتبيين في مواطن متفرقة كثيرة في الجزء الأول، منها من ص367 إلى 369؛ وابن قتيبة، المعارف: 202 وغيرها.
1 المسعودي، مروج الذهب 2:52.
2 البيان والتبيين 1: 333.
3 أخبار عبيد بن شرية: 312-313.
4 انظر مثلًا: ابن سعد 6: 180، 200، 7/ 1: 121، 7/ 2:39. والبيان =
لتفسير القرآن الكريم كانوا آنذاك يستطردون في تفسيرهم إلى ذكر أخبار العرب في الجاهلية. وأخبار سائر الأمم في قصص وأحاديث. فقد كان أبو علي الأسواري مثلًا يقص في البصرة في مسجد موسى بن سيار الأسواري ستًّا وثلاثين سنة "فابتدأ لهم في تفسير سورة البقرة فما ختم القرآن حتى مات؛ لأنه كان حافظًا للسير، ولوجوه التأويلات، فكان ربما فسر آية واحدة في عدة أسابيع كأن الآية ذُكِرَ فيها يوم بدر، وكان هو يحفظ مما يجوز أن يلحق في ذلك من الأحاديث كثيرًا. وكان يقص في فنون من القصص ويجعل للقرآن نصيبًا من ذلك1". والأمر الثاني أن هؤلاء القصاص لم يكونوا يكتفون بذكر الأخبار مجردة، وإنما كانوا يتمثلون في وعظهم، ويستشهدون على قصصهم، بشعر جاهلي2.
ويبدو أن هؤلاء القصاص قد بدءوا قصصهم من عهد مبكر إذ يُذكر أن أول من قص كان الأسود بن سريع التميمي، وكان من الصحابة، وكان يقول في قصصه في الميت3:
فإن تنج منها تنج من ذي عظيمة
…
وإلا فإني لا إخالك ناجيَا
فسرقه الفرزدق!
ولو وقفنا قليلًا عند أخبار عبيد بن شرية التي ذكرنا أنه ألقاها في مجالس معاوية وسمره، لوجدنا فيها كثيرًا من الشعر الجاهلي. بعضه صحيح منسوب إلى
1 البيان والتبيين 1: 368-369.
2 انظر مثلًا البيان والتبيين 1: 119، ففيه أن صالحًا المري تمثل في قصصه بالبيت:
فبات يروي أصول الفسيل
…
فعاش الفسيل ومات الرجل
وتمثل الحسن في قصصه بشعر لعدي بن الرعلاء الغساني، وتمثل عبد الصمد بن الفضل الرقاشي بأبيات للأسود بن يعفر.
3 المعارف "أوربا": 276، والبيان والتبيين:367.
شعراء معروفين، وهو محفوظ في دواوينهم1. ولكن بعضه الآخر موضوع منحول لا شك في وضعه ونحله، من مثل الشعر الذي نسبه إلى يعرب بن قطحان2، وإلى عاد بن عوص3، وإلى ثمود وأخيه جديس4، وإلى عمليق وأخيه طسم5، وإلى حفدة عمليق وجديس6. ومن مثل الشعر الذي قيل في وفد عاد إلى مكة حينما ذهبوا يستسقون7، وما قاله لقمان في نسوره السبعة8. والأمثلة على ذلك كثيرة، وهو كله شعر غث بارد وضع وضعًا لتزيين هذه القصص والخرافات. ويبدو أن هذا الشعر كان يكسب تلك القصص شيئًا من القيمة في نفوس السامعين فيصبح موضع ثقتهم وتصديقهم، بل لقد كان معاوية -فيما يورد كتاب أخبار عبيد- يسأل عبيدًا: هل قيل في بعض تلك الأخبار والقصص شعر؟ 9.
وإذا كان وضع الشعر ونحله في مثل هذه القصص والخرافات أمرًا لا غرابة فيه، فإن العجب أن تصبح هذه القصص وما قيل فيها من شعر منحول مادةً تاريخية تضمنها كتب السير والمغازي والتاريخ. ومن أجل ذلك تصدى الرواة العلماء لهذه الأشعار في الكتب التاريخية ونبهوا على زيفها ونحلها. فنحن نجد في كتاب السيرة لابن إسحاق كثيرًا من هذا الشعر المنحول الموضوع -على كثرة ما فيه أيضًا من الشعر الصحيح الثابت عند العلماء والرواة- فاستدركه عليه ابن
1 مثل العباس بن مرداس، وأعشى بني وائل، وحسان بن ثابت، وأمية بن أبي الصلت، وامرئ القيس، وعبيد بن الأبرص، والنابغة الذبياني، انظر لذلك: حسين نصار. نشأة التدوين التاريخي ص19.
2 أخبار عبيد ص316.
3 ص317.
4 ص318.
5 ص318-319.
6 ص320.
7 ص341-353.
8 ص356-366.
9 انظر مثلًا ص327، ص335.
هشام، وأسقط كثيرًا منه وبيَّن زيفه، وذكر نقد العلماء له. وقد نبه ابن إسحاق نفسه على ذلك، فاعتذر عن إيراد مثل هذا الشعر المنحول بقوله1:"لا علم لي بالشعر، أُوتَى به فأحمله". وقد عقب ابن سلام على ذلك بقوله2: "ولم يكن له ذلك عذرًا، فكتب في السير أشعار الرجال الذين لم يقولوا شعرًا قط، وأشعار النساء فضلًا عن الرجال، ثم جاوز ذلك إلى عاد وثمود، فكتب لهم أشعارًا كثيرة، وليس بشعر، إنما هو كلام مؤلف معقود بقوافٍ. أفلا يرجع إلى نفسه فيقول: من حمل هذا الشعر؟ ومن أداه منذ آلاف من السنين، والله تبارك وتعالى يقول:{فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا} أي لا بقية لهم. وقال أيضًا: {وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الأُولَى، وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى} وقال في عاد: {فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَة} وقال: {وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا} وقال: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلَاّ اللَّهُ} .
ونقد ابن النديم ابن إسحاق أيضًا فقال3 "ويقال: كان يُعمل له الأشعار ويؤتَى بها ويُسأل أن يدخلها في كتاب السيرة، فيفعل، فضمن كتابه من الأشعار ما صار به فضيحة عند رواة الشعر".
وكذلك فعل الواقدي في مغازيه، فقد أدخل فيها بعض الشعر الموضوع، وإن كان نبه على وضعه في مواطن من كتابه، فقد ذكر أن عباد بن بشر قال في مقتل كعب بن الأشرف قصيدة عدتها ثلاثة عشر بيتًا أولها4:
صرخت به فلم يحفل لصوتي
…
وأوفى طالعًا من فوق قصر
فعدت، فقال: من هذا المنادي
…
فقلت: أخوك عباد بن بشر
فقال محمد أسرع إلينا
…
فقد جئنا لتشكرنا وتقري
1 طبقات فحول الشعراء: 9.
2 المصدر السابق.
3 الفهرست: 136.
4 المغازي: 149.
وهي -في رأينا- أبيات غثة مرذولة لا شعر فيها؛ وهذا الأسلوب القصصي أشبه بأسلوب شاعر الربابة الذي يعدد الحوادث تعدادًا منغمًا على أسلوب خاص.
وقد ذكر الواقدي بعد أن أوردها أن ابن أبي حبيبة قال: أنا رأيت قائل هذا الشعر. فقال ابن أبي الزناد: لولا قول ابن أبي حبيبة لظننت أنها ثبت!!
ونحن لا نقصد إلى أن نستقصي جميع الموضوعات التي كانت مجالًا للوضع والنحل، ولكننا نشير إلى موضوع آخر غير القصص وأحاديث السمر، وهو: الأنساب. وللنسب عند العربي قيمة وخطر، ولذلك كان حريصًا على كل ما يثبت أنه عربي صريح أو أنه من القبيلة التي ينتسب إليها حقًّا. وكان بعض الرواة يتقربون إلى ذوي السلطان أو ذوي المال بوضع شعر منحول فيه إشارات إلى نسبهم. فمن ذلك أن قضاعة من معد، ولكنها انتسبت إلى حمير، وزوروا في ذلك شعرًا فقالوا1:
يا أيها الداعي ادعنا وأبشر
…
وكن قضاعيًّا ولا تنزر
قضاعة بن مالك بن حمير
…
النسب المعروف غير المنكر.
ومن ذلك أيضًا أنهم صنعوا أبياتًا يذكرون فيها نسب جذام ولخم وعاملة، ونحلوها أبا سمال الأسدي، وهي2:
أبلغ جذامًا ولخمًا إن عرضت بهم
…
والقوم ينفعهم علمًا إذا علموا
والقوم عاملة الأثرين قل لهم
…
قولًا ستبلغه الوساجة الرسم
لأنتم في صميم الحق إخوتنا
…
إذ يُخلق الماء في الأرحام والنسم
لم أر مثل الذي يأتون جاء به
…
قوم يذر على مختومهم خمم
1 أبو عبد الله المصعب الزبيري، نسب قريش:5.
2 المصدر السابق: 9.
وقد عقب أبو عبد الله المصعب الزبيري بعد أن أورد هذه الأبيات بقوله: "وقال بعض من يعلم: لما قدم خالد بن عبد الله القسري أميرًا على العراق، ومعه قوم من جند الشأم، فيهم من لخم وجذام، فأهدت لهم بنو أسد بن خزيمة، فقالوا: أنتم قومنا! وأحدثوا هذا الشعر، إلا بيتًا منه: لم أر مثل الذي يأتون جاء به فإنه قديم لا يُدرى لمن هو؟ ولا من عُني به".
وموضوع ثالث -غير القصص والأسمار وغير الأنساب- كان مجالًا واسعًا أيضًا للوضع والنحل هو أخبار أيام العرب في الجاهلية. وهو موضوع يتصل بسابقيه اتصالًا وثيقًا، وتكاد ثلاثتها تكون موضوعًا واحدًا متصلًا ذا فروع مختلفة. فمن أمثلة وضع الشعر في الأخبار ونحله للشعراء الجاهليين ليكون ذلك سندًا للخبر الذي يساق ما أورد أبو عبيدة في حديث البراجم قال1:
قال عوف بن عطية التيمي يعير لقيط بن زرارة أسر بني عامر معبد بن زرارة وفرار لقيط عنه:
هلا فوارس رحرحان هجوتم
…
عشرًا تناوح في سرارة واد
لا تأكل الإبل الغراث نباته
…
ما إن يقوم عماده بعماد
هلا كررت على ابن أمك معبد
…
والعامري يقوده بصفاد
وذكرت من لبن المحلق شربة
…
والخيل تعدو في الصعيد بداد2
قال أبو عبيدة: وبقية هذه القصيدة مصنوعة.
وقال أبو عبيدة أيضًا في يوم النسار3: وأنشدوني في تصداق ذلك "أن الأسود كان رئيس الرباب يوم النسار" قول عوف بن عطية بن الخرع التيمي:
1 النقائض: 228.
2 العشر: شجر كبير له شوك. تتناوح: تتقابل. الغراث: الجياع. المحلق: إبل سمتها على هيئة الحلقة على أفخاذها. بداد. متفرقة.
3 النقائض: 240.