الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الخاتمة
خلاصة البحث
…
خاتمة:
لهذا البحث -على تشعب طرقه وتباعد أطرافه- وحدة عامة تنتظمه كله تقرب منه ما تباعد، وتجمع ما تفرق. ولهذه الوحدة العامة دعائم ترتكز عليها وتقوم بها:
1
أولها: أن هذا الموضوع، كغيره من الموضوعات، يدور في نطاق إطار معين من الزمان والمكان والسكان. فكان لابد لنا من أن نمهد بين يدي بحثنا بتحديد معالم هذا الإطار. وخلصنا من كل ذلك إلى أن موطن العرب، في جاهليتهم، كان متفاوتًا في طبيعة أرضه، وفي طبيعة مناخه، وفي طبيعة سكانه. أما السكان أنفسهم فكانوا طوائف ثلاثًا: أعرابًا موغلين في الصحراء، يرتادون الكلأ. وينتجعون موافع القطر، ويحيون حياة لا تكاد تعرف من أسباب الحضارة والمدنية شيئًا. ثم سكان الحواضر من أهل المدر الذين كانوا يحيون حياة مسقرة ثابتة، في المدن والقرى. في داخل الجزيرة العربية وعلى أطرافها: في مكة والمدينة والطائف والحيرة والأنبار وقرى اليمامة. ثم طائفة ثالثة هم سكان البادية الذين ابتعدوا عن جوف الصحراء واستوطنوا مشارف المدن والقرى في ظواهرها وضواحيها، يحيون حياة فيها شيء من الاستقرار، وشيء ما الأخذ بأسباب الحضارة والمدنية.
والقبيلة العربية نفسها لم تكن شيئًا غير هذا، بل إن هؤلاء العرب بطوائفهم الثلاث لم يكونوا إلا قبائل عربية؛ فليست القبيلة كلها إذن أعرابًا.
موغلين في الصحراء، بعيدين عن كل أسباب الحضارة والمدنية، وإنما كانت القبيلة الواحدة في الجاهلية -كما كانت في صدر الإسلام، بل كما هي لعهدنا هذا- ثلاثة أقسام: قسم ما زال ضاربًا في جوف الصحراء، وقسم تحضر واستقر وسكن المدن والقرى، وقسم بين هذين القسمين: يبتعد عن جوف الصحراء ولكنه لا ينزل قلب المدن والقرى، وإنما يستوطن باديتها وظاهرها. وعلى ذلك كانت: قريش والأوس والخزرج وهذيل وعبد القيس وبكر وتغلب وأكثر قبائل العرب؛ يتحضر بعضها ويسكن المدر في: مكة ويثرب والطائف وقرى اليمامة والجزيرة، ويبدوا بعضها فينزل في ظواهر هذه المدن والقرى وضواحيها، ثم يبقى بعضها على ما كان عليه أصلًا في جوف الصحراء.
وكما انقسمت القبيلة العربية الواحدة ثلاثة أقسام في موطنها وحياتها الاجتماعية، كانت كذلك في دينها: فقد كانت أكثر القبائل في الصحراء وثنية مشركة، وكان كذلك بعض هذه القبائل في البادية والحواضر، ولكن من هذه القبائل نفسها من كان يعبد الله، إما لأنه دخل في النصرانية أو اليهودية، وإما لأنه ما زال مقيمًا على بعض دين إبراهيم. فاليهود والنصارى في بلاد العرب كانوا في أكثرهم قبائل عربية تهودت أو تنصرت.
وكانت هذه المدنية التي عرفها سكان الحواضر وقطان البوادي المطيفة بها -على تفاوت نصيبهم منها في الجاهلية الأخيرة القريبة من الإسلام- نتاج عاملين كبيرين: عامل تليد موروث يحسون به ولا يكادون يستبينونه في وضوح، ويدركون أطرافًا منه، ولكنهم لا يقوون على بعث الحياة فيه، وكانت آثار هذه المدنية الموروثة وشواهدها ماثلة أمام أعينهم، يرونها في حلهم وترحالهم، حتى إذا نزل القرآن ذكَّرهم بها واستمد منها العظة والعبرة. وعامل طريف مقبوس يستمدونه من اتصالهم الوثيق بالحضارات القائمة من حولهم في بلاد فارس والروم ومصر.
ومن أجل ذلك كله كان لابد للباحث من أن يتنبه لهذه الفروق الكبيرة في
حياة العرب ومجتمعاتهم في الجاهلية، فلا يُقلِي القول إلقاء عامًّا يشمل عرب الجاهلية كلهم. فإن من الخطإ أن نعمم على سكان الحواضر والبوادي أحكامًا يتصف بها قطان الصحاري وحدهم، أو أن نصم أهل المدر بالجهل والبدائية اللذين كانا من صفات بعض أهل الوبر.
وإذ كان ذلك كذلك، كان لابد لسكان الحواضر المستقرين في مدنهم وقراهم، ولقطان البادية القريبة من الحواضر، المطيفة بها من أن يأخذوا بنصيب متفاوت من مظاهر الحضارة التي كانت تعرفها الأمم المجاورة لهم.
2
ومن هنا كان حديثنا في الباب الأول من بحثنا عن أهم مظهر من مظاهر هذه الحضارة، وهو الكتابة والتدوين. فاستقرينا في الفصل الأول النقوش الجاهلية الشمالية، وانتهينا إلى أن هذا الخط العربي -الذي عرف في الإسلام بالخط الكوفي- قد كان معروفًا في الجاهلية منذ مطلع القرن الرابع الميلادي على أقل تقدير، وأن عرب الجاهلية قد كتبوا بهذا الخط الذي كان المسلمون يستطيعون قراءته في يسر، ونستطيع نحن الآن أن نقرأه بعد شيء من المرانة والدربة ثلاثة قرون قبل الإسلام أو تزيد. ثم جمعنا قدرًا صالحًا من النصوص والروايات -بعضها يكاد يكون قاطع الدلالة- وخلصنا منها إلى ترجيح معرفة عرب الجاهلية بالنقط والإعجام. ثم عرضنا آرء بعض القدماء الذين عمموا الحكم على عرب الجاهلية فوصموهم بالجهل والأمية، ورددنا هذه الأحكام ردًّا اطمئننا إلى صوابه، وزاد اطمئناننا حين جمعنا بعض أسماء المعلمين في الجاهلية، وبعض النصوص والأخبار التي تشير إلى قيام مدارس لتعليم الكتابة في الحواضر العربية في الجاهلية نفسها، وزدنا على ذلك أن بعض عرب الجاهلية لم يكونوا يكتفون بتعليم الكتابة العربية وحدها، وإنما كانوا يتعملون أيضًا لغات الأمم التي تربطهم بهم روابط كثيرة،
فكان من العرب من يكتب العربية والسريانية والعبرية والفارسية، وكان في بلاد فارس وفي بلاط النجاشي مترجمون من العرب يكتبون بالعربية حين يحتاج الأمر إلى أن يترجموا إليها ويكتبوا بها.
واستوفينا في الفصل الثاني بحث هذا الموضوع حين تحدثنا عن الموضوعات التي كان يكتبها عرب الجاهلية، والمواد والأدوات التي كانوا يستخدمونها في كتابتهم؛ فجمعنا من النصوص والروايات ما يشير إلى أن عرب الجاهلية كانوا لا يكادون يتركون شأنًا من شئون حياتهم الخاصة والعامة إلا سجلوه وقيدوه، ولم يتركوا مادة ولا أداة عرفها العالم من حولهم آنذاك إلا استخدموها في كتابتهم. فكانوا يدونون كتبهم الدينية بالعربية وبالعبرية والسريانية، وكانوا يكتبون عهودهم ومواثيقهم وأحلافهم، ويسجلون في الصكوك حساب تجارتهم وحقوقهم ويكتبون رسائلهم في جليل أمورهم وصغيرها، بل كانوا يكتبون مكاتبات رقيقهم وينقشون خواتمهم وشواهد قبورهم.
واستخدموا في كتابتهم الجلد: من رق وأديم وقضيم؛ والقماش المصنوع من القطن الأبيض يصقلونه ويُعدونه للكتابة ويسمونه المهارق؛ وأنواع النبات وخاصة العسب، والخشب؛ واستخدوا العظام بأنواعها المختلفة. ثم تحدثنا عن الورق حديثًا مفصلًا انتهينا منه إلى ترجيح استخدام عرب الجاهلية لورق البردي في الكتابة.
وكان ختام هذا الباب حديثًا موجزًا عن وصف الخط والكتابة في الجاهلية. وبذلك نكون قد رجحنا ثلاثة أمور لها قيمتها وخطرها؛ أولها: قدم معرفة عرب الجاهلية بالخط العربي معرفة لا تقل عن ثلاثة قرون قبل الإسلام؛ وثانيها: نقط الحروف وإعجامها في الكتابة منذ الجاهلية نفسها، وثالثها: قيام المدارس ووجود المعلمين لتعليم الخط وانتشار الكتابة بين عرب الجاهلية انتشارًا أتاح لهم أن يسجلوا بها كثيرًا من شئونهم وأن يستخدموا لذلك كثيرًا من الأدوات.
3
وكان من الطبيعي بعد ذلك أن نخصص الحديث، في الباب الثاني، بكتابة الشعر الجاهلي وحده. ورأينا أن هذه الكتابة ذات صورتين مختلفتين: صورة ضيقة محدودة لا تعدو مجرد التسجيل على صحيفة واحدة قد تزيد أو تنقص، وسميناها التقييد؛ وصورة واسعة تضم فيها هذه الصحف إلى بعضها حتى يكون منها كتاب أو ديوان، وسميناها: التدوين.
ثم رأينا أن بين أيدينا ضربين من الأدلة على تقييد الشعر الجاهلي منذ الجاهلية نفسها؛ وهما: أدلة عقلية استنباطية، وأدلة صريحة نصية.
أما الأدلة العقلية الاستنباطية فأربعة: أولها استنتجناه من كل ما قدمناه في الباب الأول عن معرفة عرب الجاهلية بالكتابة، ورأينا أن الشعر كان للقبيلة وللفرد العربي في الذروة العليا من القيمة والخطر: إذ هو ديوان أمجادهم وأحسابهم، وسجل مفاخرهم ومآثرهم. وكانت القبيلة تحرص أشد الحرص على فخر الشاعر إذا كان منها، وعلى مدحه إذا كان من غيرها، وتخشى أشد الخشية هجاءه، تبذل من ذات نفسها ومالها ما تطيق وفوق ما تطيق لتدفعه عن نفسها؛ وكذلك كان الرجل العربي في حرصه على المدح وخوفه من الهجاء. فإذا كان العرب آنذاك يقيدون عهودهم ومواثيقهم ورسائلهم وصكوك حسابهم وسواها من الموضوعات التي تتصل بشئون حياتهم، ألا يرجح ذلك أنهم كانوا كذلك يقيدون هذا الشعر الذي يخلد أمجادهم وأحسابهم ويسجل مفاخرهم ومآثرهم؟ وإذا كان أمر الشعر بهذا الخطر للممدوحين، فهل كان ملوك الحيرة وملوك غسان وإشراف مكة والمدينة والطائف وساداتها وأثرياؤها، وسادات نجران واليمن، هل كان كل أولئك لا يقيدون ما يُمدحون به من الشعر -أو بعضه- مع أنهم كانوا يقيدون سائر أمورهم؟
وثانيها: أن الشعر كان له من القيمة والخطر للشعراء أنفسهم ما كان للقبيلة وللممدوحين. فقد كان هذا الشعر عند غير المتكسبين بالمدح واجبًا قبليًّا تفرضه على الشاعر طبيعة ارتباطه بقبيلته، أو واجبًا خلقيًّا تمليه عليه مآثر سلفت من صاحبها لقبيلة الشاعر أو للشاعر نفسه، وأما المتكسبون بالمدح فقد كان الشعر موردًا من موارد ارتزاقهم، أو لعله المورد الوحيد. أليس عجيبًا بعد ذلك ألا يُعنَى الشاعر، وهذه قيمة الشعر عنده، بأن تحفظ الكتابة شعره أو بعضه؟ ولا سيما الشعراء الذين كانوا يعرفون الكتابة ويستخدمونها، وقد عددنا منهم في هذا الفصل طائفة ليست قليلة.
وثالث هذه الأدلة العقلية يتناول ضربًا خاصًّا من الشعر الذي وصفه في شعره: امرؤ القيس بن بكر، وكعب بن زهير، ثم وصفه الجاحظ وابن جني -والذي هو نتاج عمل عقلي مركب.
فإذا كنا لا ننكر أن بعض الشعراء كانوا يرتجلون الشعر ارتجالًا، وأن بعضهم كان يندلث منهم الشعر اندلاثًا هينًا سمحًا، وأن هاتين الطائفتين أو بعض رجالهما لا تضطرهم طبيعة هذا الضرب من الشعر إلى تقييده وإثباته بالكتابة إذا كنا لا ننكر ذلك، فإنه لابد لنا من أن نتريث قليلًا عند الفئة الأخرى من الشعراء وشعرهم، وأن نتوقف عن أن نسحب عليهم حكم الضرب الأول. ويبدو لنا أنه لابد من أن نرجح أن الشاعر الذي كانت تمكث عنده القصيدة حولًا كاملًا أو زمنًا طويلًا، يردد فيها نظره، ويجيل فيها عقله، ويقلب فيها رأيه؛ والشاعر الذي كان يعرض له في الشعر من الصبر عليه، والملاطفة له، والتلوم على رياضته، وإحكام صنعته نحو مما يعرض لكثير من المولدين؛ والشاعر الذي كانت تكثر عليه القوافي فيذودها عنه ذيادًا، ثم ينتقي منها الجيد انتقاء، وينظر إلى قوافيه وألفاظه نظرة الجوهري إلى لآلئه، يعزل مرجانها جانبًا، ويأخذ المستجاد من درها؛ والشاعر الذي يتنخل كلامه تنخلًا، ويثقف ألفاظه وقوافيه حتى تلين متونها نرجح أن هؤلاء الشعراء لم
يكونوا ليستطيعوا أن يقوموا بهذا العمل العقلي الذي يستغرق هذا الوقت الطويل دون أن يكون الشعر مقيدًا أمامهم على صحيفة يرجعون إليها بين وقت وآخر: يزيدون عليه أو ينقصون منه، ويستبدلون لفظة بلفظة، وقافية بقافية.
وآخر هذه الأدلة العقلية هو ما وجدناه من شعر جاهلي يحفل بذكر الكتابة وصورها، والإشارة غلى أدواتها، وتشبيه الأطلال والرسوم ببقايا الخطوط على الرق والمهارق وسائر أنواع الصحف. ولم نذكر من هذا الشعر إلا ما فيه صور شعرية مركبة تنبئ عن أن قائلها لابد أن يكون عالمًا بهذه الصور، وأن الجاهل بها لا يتأتى له ذكرها ووصفها على هذا الوجه المفصل.
وبعد أن استوفينا هذه الأدلة العقلية التي استنتجنا منها أن بعض شعراء الجاهلية ربما استخدموا الكتابة في تقييد بعض شعرهم، انتقلنا إلى ذكر الأدلة الصريحة المباشرة، فأوردنا ما يزيد على عشرين نصًّا ورواية، لممنا نثارها، وجمعنا متفرقها، ونظمناها في سلك واحد لنرى أنها واضحة صريحة في أن بعض الشعر الجاهلي كان يقيد، سواء أكان الشعراء الجاهليون أنفسهم هم الذين يقيدونه بخط أيديهم، أم كانوا يستكتبون غيرهم لتقييد شعرهم.
أما تدوين الشعر الجاهلي فقد وجدنا أننا لا تستقيم لنا طرائق بحثه إلا إذا عبدنا من حوله سبل الحديث عن نشأة التدوين العام وأوائل المؤلفات المدونة، وذلك لأنه لا تخصيص إلا بعد تعميم، فإذا كان الأصل الكلي -وهو التدوين عامة- ما زال غامض النشأة، مشكوكًا في بداياته، منكورًا قدمه وسبقه، فإن الفرع الجزئي -وهو تدوين الشعر الجاهلي بخاصة- لا يصح أن يقوم وحده معلقًا في الفضاء وحوله سحب الشك والإنكار. ومن أجل ذلك مهدنا بحديث موجز انتهى بنا لى ثلاثة أمور:
الأول: أن صحف الكتابة كانت -منذ ظهور الإسلام وفي القرن الأول الهجري- من الكثرة والشيوع بمنزلة يتيسر معها، لمن أراد، أن يشتري منها ما يفي بحاجته، فيستطيع أن يضم بعضها إلى بعض، ويؤلف أجزاءها، ويجعل من
مجموعة هذه الصحف كتابًا أو ديوانًا مؤلفًا.
والثاني: استيفاء للأول، وهو بيان المظهر اللغوي، أو الصورة اللغوية للتدوين في ذلك العصر المبكر، فجمعنا من الألفاظ التي وردت في نصوصهم وأخبارهم والتي كانوا يطلقونها ليدلوا بها على مجموعة الصحف المدونة، والتي كانت تختلف عن ألفاظهم الدالة على الصحيفة المفردة جمعنا من كل ذلك ما يدعم معرفتهم بالتدوين.
والثالث: أننا عرضنا من الروايات والنصوص عن تدوين الحديث والفقه، والتفسير، والمغازي والسيرة، ما لا يبقى معه شك في أن بعضها كان يدون منذ عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعهد صحابته.
أما الشعر الجاهلي نفسه فقد دون منذ هذا العهد المبكر تدوينًا عامًّا ضمن هذه الموضوعات التي ذكرناها للاستشهاد به، أو الاحتجاج، أو التمثل، أو تفسير الألفاظ وشرح غريبها. وكان مدونو الحديث والتفسير والمغازي والسيرة هم من رواة الشعر وحفاظه. ودون فضلًا عن ذلك تدوينًا خاصًّا مستقلًا. فجمعنا من الأخبار والروايات ما تقطع بأن الشعر الجاهلي كان مدونًا في القرن الأول الهجري، وأن العلماء الرواة في القرن الثاني قد وصلهم بعض هذه المدونات الشعرية واعتمدوها أصلًا من الأصول التي استقوا منها ما جمعوا لمن هذه الشعر.
ثم أصفنا إلى هذه الأخبار والروايات الصريحة دليلًا ثانيًا على أن العلماء الرواة في القرن الثاني قد أخذوا من المدونات، وهو ما وقعوا فيه من تصحيف، ثم جمعنا أمثلة على التصحيف الذي لا يمكن أن يكون من خطإ في السماع، وإنما ينشأ من خطإ في القراءة.
وإذا كان ذلك كله ينتهي بنا إلى أن هذا الشعر الجاهلي قد كان مدونًا في القرن الأول الهجري، فقد قطعنا شوطًا آخر قبله، وجمعنا من النصوص والأخبار ما يرجح أن بعض هذا الشعر قد كان مدونًا منذ الجاهلية نفسها، وحين استوى بين أيدينا كل ذلك زدنا عليه حديثًا موجزًا عن كتب القبائل والنسب، وعن كتب العلم التي كانت تشتمل على بعض الحكم والأمثال وجوامع الكلم، وأن
بعضها كان كذلك يدون في الجاهلية.
ثم تساءلنا عن السبب الذي جعل علماء القرن الثاني يغفلون ذكر مصادرهم المدونة إذا كانوا قد أخذوا عن الصحف حقًّا. وقد وجدنا جواب ذلك في هذه النصوص والأخبار الكثيرة التي أوردناها، والتي تدل على أن القوم آنذاك كانوا يضعفون كل من يأخذ عن صحيفة أو ينقل من كتاب، وكانوا يلمزونه ويدعونه صحفيًّا، فكان لابد إذن لهذا العالم من أن يأخذ علمه من مجلس العلماء الشيوخ. وحين وصفنا هذه المجالس وضحنا معنى الرواية الأدبية، وقلنا إن الرواية كانت طريقة علمية متكاملة تقوم على دعامتين: الكتاب والسماع. فقد كان العالم الحق الجدير بالثقة هو الذي يتصل بالعلماء من ذوي السن، فيحضر مجالسهم ويلازمهم ويستمع إليهم ويأخذ عنهم، والكتاب في كل ذلك، أو في أكثره، هو الوسيلة أو الأداة: يقرؤه على شيخه، أو يستمع إلى بعض من يقرؤه، وقد تكون في يده نسخة أخرى من الكتاب يتابع قراءة القارئ، والشيخ يستمع: يصحح الخطأ، ويشرح الغريب، ويذكر من وجوه الخلاف في الألفاظ ما بلغ إليه علمه، ويتحدث عما حول النص من جو تاريخي، وقد يقوده اللفظ أو الخبر إلى لفظ في بيت آخر. أو إلى خبر في حادثة أخرى، فيستطرد، ثم يعود إلى حيث كان. ثم إذا بلغ هذا المتعلم من العلم مبلغًا يتيح له أن يجلس منه المتعلمون مجلسه من أولئك العلماء، لم يذكر الصحيفة التي أخذ منها أو الكتاب، لئلا يتوهم فيه أنه صحفي اكتفى بالأخذ عن الصحف وإنما أسند ما يلقيه من العلم إلى شيوخه، فيقول: حدثنا فلان، وأخبرنا فلان، وسمعت فلانًا يقول. وهذه الصيغ المختلفة للتحديث موهمة أنها كانت رواية شفهية، وأن مجلس العلم كان كله حديثًا لا كتاب فيه، ولكن الأمر على غير ذلك، فإن هذه الصيغ كلها إنما تدل على ما ذكرناه من حديث العالم الشيخ في مجلسه، والمتعلمون والعلماء من حوله يقرءون أو يستمعون إلى ما يقرأ، والشيخ العالم يشرح، ثم أوردنا أخبارًا وروايات كثيرة تدل على أن مجالس العلم كانت
تقوم على قراءة الكتاب وحديث الشيخ معًا، بل لقد جمعنا أخبارًا أخرى تدل على أن الإسناد وصيغ التحديث قد توهم السماع على حين لا سماع، وإنما هو أخذ من الصحيفة وحدها من غير قراءة على الشيخ وسماع منه.
4
وبعد أن استوفينا -في كل ما تقدم- الحديث عن الدعامة الأولى للرواية الأدبية: وهي الصحيفة المدونة، كان لابد لنا من أن نتحدث عن الدعامة الثانية وهي الرواية الشفهية أو السماع. فانتهينا إلى ثلاثة أمور فصلناها في ثلاثة فصول:
أولها: بحث لغوي في دلالة لفظتي: رواية وراوية، وأطوارهما اللغوية التاريخية، دخلنا منه إلى تفصيل الحديث عن التدوين والرواية في حفظ الشعر، وذكرنا أن هذا التدوين الذي ذكرناه -على ما كان من وجوده بل من انتشاره- لم يكن له من سعة هذا الانتشار ما يتيح وجود نسخ كثيرة من الديوان الواحد تفي بحاجة القارئين آنذاك. لقد كان هذا الشعر -أو بعضه- مدونًا، ولكن تدوينه كان مقصورًا على نسخ معدودة هي الأمهات أو المراجع، ينسخها أفراد قلائل من الرواة أو الشعراء أو أبناء قبيلة الشاعر أو الممدوحين من السادة والأشراف، ثم يحفظ هؤلاء جميعًا، أو بعضهم، هذا الشعر، ويتناقلونه إنشادًا -لا قراءة- في مجالسهم ومشاهدهم وأسواقهم، ويرددونه شفاهًا في سمرهم ومحافلهم ومنافراتهم ومواقف فخرهم؛ فيشيع بين العرب، ويتناقله الركبان، عن هذا الطريق من الرواية الشفهية، من فرد إلى فرد، ومن جيل إلى جيل؛ لا عن طريق القراءة والمدارسة من الكتاب أو الديوان.
ثم انتهينا إلى الحديث عن أمر له قيمته وخطره، وذلك هو اتصال رواية الشعر الجاهلي من الجاهلية نفسها إلى عصر التدوين العلمي في القرن الثاني
ومهدنا لحديثنا بقول عمر بن الخطاب: "كان الشعر علم قوم لم يكن لهم علم أصح منه"، وتعقيب محمد بن سلام عليه بقوله:"فجاء الإسلام، فتشاغلت عنه العرب، وتشاغلوا بالجهاد وغزو فارس والروم، ولهت عن الشعر وروايته. فلما كثر الإسلام، وجاءت الفتوح، واطمأنت العرب بالأمصار؛ راجعوا رواية الشعر، فلم يئولوا إلى ديوان مدون ولا كتاب مكتوب، وألفوا ذلك وقد هلك من العرب من هلك بالموت والقتل، فحفظوا أقل ذلك وذهب عليهم منه كثير".
وقلنا إن كلام ابن سلام هذا ثلاثة أشطر: آخرها حق، وموسطها باطل، وأولها يحتاج إلى فضل بيان يوضحه. أما الحق الذي لا مرية فيه فقوله:"فحفظوا أقل ذلك، وذهب عليهم منه كثير". وقد فصلنا وجه الحق فيه. وأما الباطل الذي لم نعد نشك في بطلانه وفساده فهو هذا التعميم الواسع في قوله: "فلم يئولوا إلى ديوان مدون، ولا كتاب مكتوب". ولم نكتف بالتدليل على بطلان ذلك بما أوردناه في البابين الأولين من حديث مفصل، وإنما جمعنا من كتاب ابن سلام نفسه نصوصًا تنقض قوله هذا، أو -على الأقل- تضيق ما فيه من تعميم واسع. وأما الشطر الثالث الذي يحتاج إلى فضل بيان يوضحه فهو قوله: "فجاء الإسلام، فتشاغلت عنه العرب، وتشاغلوا بالجهاد وغزو فارس والروم، ولهت عن الشعر وروايته، فلما كثر الإسلام، وجاءت الفتوح، واطمأنت العرب بالأمصار راجعوا رواية الشعر
…
وألفوا ذلك وقد هلك من العرب من هلك بالموت والقتل". وفصلنا الرد على ذلك باستقراء تاريخي تتبعنا فيه حياة الرواية عند القوم، مبتدئين بالمعالم الواضحة في منتصف القرن الثاني الهجري، ومتدرجين فيها إلى الوراء حتى وصلنا إلى أقصى ما استطعنا الوصول إليه من معالم حياة الرواية الأدبية.
فجمعنا من الروايات والأخبار ما يدل عل أن القوم في القرن الأول الهجري لم يكونوا يكتفون برواية الشعر الجاهلي وإنشاده في المجالس والمحافل، وإنما كانوا
كذلك يعلمونه الصبيان تعليمًا: يروونهم إياه ويؤدبونهم به. ثم وقفنا وقفة فيها شيء من التفصيل عند شعراء العصر الأموي -وخاصة جرير والفرزدق وسراقة البارقي- وبينَّا، من شعرهم، أنهم كانوا حلقة من حلقات الرواية الأدبية للشعر الجاهلي ولأخبار الجاهلية وأنسابها عامة. وانتقلنا إلى الحديث عن صدر الإسلام عصر الرسول الكريم وصحابته، وفصلنا القول في اتصال رواية الشعر الجاهلي في زمنهم تفصيلًا وافيًا، وحين انتقلنا إلى الجاهلية ذكرنا من الروايات والأخبار ما انتهى بنا إلى أن إنشاد الشعر وروايته كانا دأب العرب في جاهليتهم القريبة المتصلة بالإسلام، حتى حين كانوا -وهم مشركون- يحاربون رسول الله. وبذلك قدمنا من الشواهد والأمثلة ما بين في وضوح أن رواية الجاهلية: أشعارها وأخبارها، لم تنقطع منذ الجاهلية، بل لقد اتصلت في زمن رسول الله وصحابته وخلفائه الراشدين، واستمرت طوال القرن الأول حتى تسلمها العلماء الرواة من رجال القرن الثاني، ولم تكن ثمة فجوة تفصل هؤلاء الرواة العلماء عن العصر الجاهلي، وإنما تلقفوه عمن تقدمهم، وورثوه عمن سبقهم، رواية متصلة وسلسلة محكمة، يأخذها الخلف عن السلف، ويرويها الجيل بعد الجيل، حريصين عليها، معنيين بها
وعقدنا الفصل الثاني من هذا الباب على طبقات الرواة، فرأيناهم ست طبقات: الشعراء الرواة، ورواة القبيلة، ورواة الشاعر، ورواة مصلحين للشعر، ورواة وضاعين، ورواة علماء. وفصلنا القول في كل طبقة تفصيلًا، ووقفنا عند الطبقة الأخيرة، وهم: الرواة العلماء، وقلنا إنها طبقة متميزة من الطبقات السابقة، ومدار تميزها وتفردها على أنها اتخذت من الشعر موضوعًا علميًّا، تدرسه دارسة، بعد أن تأخذه عن شيخ أو أستاذ في مدرسة من مدارس علم الشعر وروايته آنذاك، ونعني بها تلك المجالس والحلقات التي كانت تعقد في المساجد أو في منازل الشيوخ، ويجتمع فيها التلاميذ من العلماء والمتعلمين، يتحلقون حول شيخ شُهِد له بالحفظ والرواية ومعرفة كلام العرب والإحاطة
الواسعة بشعرهم، وذلك بالاطلاع الواسع على ما سبق عصره من جهود الرواة في حفظ الشعر وتدوينه، وتكون طريقة الدرس هي الرواية الأدبية بدعامتيها: الكتاب، والسماع. وقلنا إن هذه الطبقة من الرواية العلماء كانت تجمع ما استطاعت جمعه من الشعر الجاهلي من الشيوخ المختلفين، ومن أفواه الرواة من الأعراب، ومن بعض الصحف المدونة ثم تدرسه، وتمحصه، وتفحصه، وتميز صحيحه من فاسده، والثابت النسبة من المشكوك فيه، وتنتهي من ذلك إلى تسجيل ما ترجح لديها صحته في نسخة خاصة تصبح هي رواية ذلك الشيخ الراوية العالم، ينقلها عنه تلاميذه وينسبونها إليه. وذكرنا أن هذه الطبقة من الراوة العلماء -بهذا التعريف الذي قدمناه والتحديد الذي قيدناها به- لم تكن موجودة فيما يبدو قبل مطلع القرن الثاني الهجري، وربما كان أول شيوخها الذين مهدوا الطريق لمن تبعهم فكانوا هم الرواد السابقين: أبو عمرو بن العلاء "المتوفى سنة 154" وحماد الرواية "المتوفى سنة 156". ومن هنا كان قول ابن سلام "وكان أول من جمع أشعار العرب وساق أحاديثها: حماد الراوية"، ومن هنا أيضًا قالوا:"كان خلف الأحمر أول من أحدث السماع بالبصرة، وذلك أنه جاء إلى حماد الراوية فسمع منه".
وخصصنا آخر فصول هذا الباب بالحديث عن الإسناد في الرواية الأدبية، وقابلنا بينه بين الإسناد في الحديث، وشرحنا سبب التزام السند في رواية الحديث والتحلل منه أحيانًا في رواية الشعر والأخبار. ثم عرضنا أمثلة من الأخبار المسندة التي يرتفع إسنادها إلى العصر الجاهلي بل إلى الشعراء الجاهليين أنفسهم؛ ونماذج أخرى يسند فيه العلماء الرواة من الطبقة الأولى إلى من سبقهم وكان فهيم من أدرك الجاهلية. ثم قلنا إن الإسناد في الرواية الأدبية قد أصبح في الغالب قاعدة عامة بعد القرن الثاني الهجري، وأنه كان ينتهي إلى شيخ من شيوخ الطبقة الأولى من العلماء الرواة، وأما هؤلاء العلماء الرواة من الطبقة الأولى فلم يكونوا في الغالب يُسندون إلى من قبلهم، مع وجود الإسناد نفسه مما مثلنا له بالشواهد والأمثلة.
5
ثم كان لابد لنا أن نعرض آراء القدماء والمحدثين في صحة الشعر الجاهلي، فمهدنا لهذا الباب بحديث موجز عن "المشكلة الهومرية"، وعرضنا للوجوه الكثيرة من التشابه القريب بين الشعرين: العربي الجاهلي والهومري، وانتهينا إلى بيان جهود الدارسين الأوربيين في ثلاثة أمور؛ أولها: من نظم الإلياذة والأوديسة، وصحة نسبتهما إلى هرمز. وثانيها: وسيلة حفظ الشعر الهومري: أكانت الرواية الشفهية أم الكتابة. وثالثها: المدارس اللغوية القديمة التي درست شعر هومر ونقدته بعد أن جمعته ودونته.
ثم تحدثنا في الفصل الثاني عن آراء القدماء، من علماء العرب، في الوضع والنحل، وألممنا بما جاء في كتبهم من إشارات متفرقة إلى ذلك ورتبناها، ثم فصلنا القول في كتاب السيرة لابن إسحاق واستدراكات ابن هشام عليه؛ وفي كتاب طبقات فحول الشعراء لمحمد بن سلام.
وعقدنا الفصل الثالث لبيان آراء المستشرقين في صحة الشعر الجاهلي، فعرضنا عرضًا مفصلًا لآراء مرجوليوث، وليال، ودلا فيدا، وبذلنا أقصى الجهد في نقل أدلتهم وبراهينهم وردودهم مفصلة واضحة.
ثم انتقلنا في الفصل الرابع إلى الحديث عن آراء المحدثين: فعرضنا رأي المرحوم الأستاذ مصطفى صادق الرافعي وهو أول من طرق هذا الموضوع من المحدثين. ثم أسهبنا في بيان رأي الدكتور طه حسين، وردود الذين ألفوا كتبًا في الرد عليه. واستغنينا بردودهم عن التفصيل في الرد لسببين:
أولهما: أننا التزمنا -كما نبهنا على ذلك في مواطن متفرقة- منهجًا واضحًا في كتابة هذا البحث، يقوم على الدراسة الخارجية لمصادر الشعر الجاهلي من غير أن نخوض في تفصيلات الدراسة الداخلية وأجزائها، والكثرة الغالبة من
شواهد الدكتور طه حسين إنما تعتمد على الدراسة الداخلية.
وثانيهما: أننا رتبنا آراء الذين ردوا على الدكتور ترتيبًا مفصلًا واضحًا بحيث يقابل كل رأي من آرائه رده المفصل، فجاء هذا الترتيب -في جملته ومجموعه- معبرًا عن رأينا، فاستغنينا به عن الإعادة والتكرار.
ثم ختمنا هذا الباب بحديث مفصل عن توثيق الرواة وتضعيفهم وعن مدرستي البصرة والكوفة. وجمعنا بعض الروايات والأخبار التي يتهم فيها القدماء بعضهم بعضًا بالكذب والنحل والوضع، وخاصة الأخبار الكثيرة عن حماد الكوفي وخلف الأحمر البصري، ودرسناها دراسة مفصلة انتهينا منها إلى إظهار الوضع والتلفيق في كثير من هذه الأخبار، ثم بينَّا أسباب تحامل تلاميذ كل مدرسة على تلاميذ المدرسة الأخرى، بل تضعيف تلاميذ المدرسة الواحدة أحيانًا لبعض زملائهم. وأرجعنا كل ذلك إلى عصبيات قبلية حينًا، وسياسية حينًا آخر، وخلافات منهجية بين مدرستين مختلفتين حينًا ثالثًا، وخصومات شخصية حينًا رابعًا.
وكان لابد لنا من أن نفصل القول في منهجي هاتين المدرستين والمصادر التي استقى منها علماء كل مدرسة الحديث واللغة والشعر الجاهلي، فوجدنا أن المذهب البصري قائم في جملته على التشدد والتضييق والميل إلى التقعيد والقياس، وأن الكوفيين كانوا أكثر حرية، وأكثر جرأة، وأنهم قد توسعوا حين ضيق البصريون وتوقفوا، وأخذوا عن مصادر لم يرتضها البصريون، ومن هنا كثرت رواية الكوفيين فاتهمهم البصريون بالتزيد والوضع. وقلنا إن رواية اللغة والشعر عند الكوفيين كان فيها كثرة لا تكثر وزيادة لا تزيد؛ وانتهينا إلى نفي تهمة الوضع المتعمد والكذب عن هؤلاء العلماء من المدرستين معًا، ومع ذلك فإننا لم ننفِ أن في الشعر الذي رووه ما هو موضوع منحول، غير أنهم لم يكونوا هم الذين وضعوه ونحلوه، وإنما رواه بعضهم كما وجده، ثم قاسه على ما بين يديه من مقاييس نقدية تتفق مع منهجه، فأسقط بعضه وصحح بعضه؛ واختلف
علماء المدرستين فيما أسقطوا وفيما صححوا لما بيناه من اختلاف مناهجهم واختلاف مصادرهم.
ثم وقفنا عند كلمة "منحول"، وفرقنا بينها وبين كلمة "موضوع"، وقلنا إن هؤلاء العلماء كانوا يقولون أحيانًا إن هذا الشعر منحول لامرئ القيس، ويقصدون أنه شعر قديم جاهلي لا يشكون في قدمه وجاهليته، ولكنهم يشكون في نسبته إلى امرئ القيس بعينه مثلًا. وذكرنا أيضًا أن هؤلاء العلماء كانوا أحيانًا يسمعون قصيدة جاهلية يرويها أحد الرواة ولكنه لا ينسبها؛ لأنه نسي نسبتها أو لأنه رواها من غير نسبة، فيستمع إليها العالم الراوية ويرجح نسبتها إلى شاعر جاهلي بعينه؛ لأنه رآها أقرب إلى روح ذلك الشاعر وطابعه الفني لكثرة دراسته لشعره ومعرفته بخصائصه. وأوردنا لكل ذلك من الشواهد والأمثلة ما يوضحه.
6
وبعد أن اطمأننا إلى المحاولة التي أفرغنا فيها جهدنا لملء هذه الفجوة بين الشاعر الجاهلي نفسه، والطبقة الأولى من العلماء الرواة، وأظهرنا أن الرواية الشفهية والتدوين كانا يسيران معًا جنبًا إلى جنب في حلقة متصلة من الجاهلية -أو على الأقل من صدر الإسلام- إلى القرن الثاني، كان لابد لنا أن نتحدث عن هذه الدواوين التي رواها هؤلاء العلماء الرواة، ونقلها عنهم تلاميذهم، حتى وصلت إلينا.
وكان ذلك موضوع حديثنا في الباب الخامس من هذا البحث؛ فقسمناه إلى أربعة فصول: تحدثنا في الفصل الأول عن الدواوين المفردة بعامة، وديواني امرئ القيس وزهير بخاصة، وتحدثنا في الفصل الثاني عن دواوين القبائل، وأفردنا ديوان هذيل بحديث مفصل. وتحدثنا في الفصل الثالث عن مجموعات المختارات كالمفضليات والأصمعيات وحماسة أبي تمام وجمهرة أشعار العرب. ثم
تحدثنا في الفصل الرابع عن الشعر الجاهلي في غير الدواوين، فاسقرأناه في بعض كتب التفسير والحديث، واللغة والنحو، والتاريخ والمغازي، وكتب الأدب العامة.
وانتهينا من هذا الباب إلى أمرين:
الأول: أن هذه الكتب التي ذكرناها في الفصل الأخير -على كثرة ما فيها من الشعر الجاهلي الصحيح- ليست مصدرًا من مصادر هذا الشعر، وذلك لأن مؤلفيها لم يقصدوا إلى أن يجعلوها مصدرًا يستقي منه الباحثون شعر الشاعر، ولم يتخذوا من الشعر الجالهي هدفًا لهم: يجمعونه ويدرسونه ويصححونه، وإنما اتخذوا من الشعر وسيلة يتوسلون بها إلى الاستشهاد به أو التمثل أو الاحتجاج أو تزيين ما يوردون من قصص وأخبار. وقد درسنا هذه الكتب دراسة مفصلة واستخرجنا منها مناهج مؤلفيها في إيراد الشعر الجاهلي بحيث انتهينا إلى هذه النتيجة.
والثاني: أن مصادر الشعر الجاهلي هو الدواوين نفسها، وكتب المختارات الموثوق بروايتها، ولا يعنينا من الدواوين إلا المروية ذات الإسناد إلى عالم رواية. وقد وجدناها على ضربين:
ضرب تستقل فيه رواية مفردة قائمة بذاتها: كرواية الأصمعي وحده أو المفضل وحده.
وضرب تجتمع فيه روايات مختلفة لعلماء من مدرسة واحدة أو من المدرستين معًا، كتلك الدواوين التي جمعها علماء الطبقة الثانية وعلماء الطبقة الثالثة، فأوردوا فيها روايات متعددة، ولكنهم كانوا ينصون على أن هذه القصيدة من رواية الأصمعي وأن تلك من رواية المفضل، وأن فلانًا انفرد برواية هذا الشعر أو ذلك، أو أنه قد دفع هذه القصيدة أو أنكر تلك. بل لقد نصوا على الاختلاف في رواية الأبيات والألفاظ. والدارس المتتبع يستطيع ببعض الجهد والعناء أن يجرد من هذه الروايات المجتمعة روايات منفردة قائمة بذاتها ترجع، كالضرب الأول، إلى عالم من الطبقة الأولى من الرواة، وخاصة الأصمعي والمفضل.
وبذلك نكون قد وضعنا أصول مقياس واضح المعالم لدراسة الشعر الجاهلي ومعرفة صحيحه، وذلك بأن نأخذ من شعر الشاعر القدر الذي اتفقت عليه المدرستان البصرية والكوفية معًا، فنطمئن إلى أن هذا القدر المشترك هو أقرب ما يكون إلى الضحة، ثم ندرسه دراسة فنية داخلية بحيث نستشف روح الشاعر، وطابعه وخصائصه الفنية واللغوية، حتى إذا أقمنا هذا المقياس الداخلي، احتكمنا إليه في صحة الشعر الباقي الذي انفرد بروايته أحد الرواة الأثبات، ثم الذي انفرد بروايته راوٍ آخر، ثم ما رواه غيرهما، فما استقام على هذا المقياس الداخلي رجحنا صحته وضممناه إلى القدر المشترك الأول، وما لم يستقم نفيناه وطرحناه.
أما ما حققه هذا البحث من جديد فأرجو أن يكون واضح المعالم بارز القسمات في ما قدمت من فصول وأبواب، بحيث يغنيني عن إعادة الحديث فيه، ويجنبني مزالق الإدلال به والاستكثار بذكره.