الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وهذا فتح من الله على البعض من الأخيار الصالحين البررة، ربما جلس معهم العامي، فلا يجد عندهم أسلوب الدعوة، بمجرد ما يخطئ يقيمون الدنيا ويقعدونها عليه، لماذا؟؛ لأن الله لم يفتح عليهم في الدعوة، فهذا فضل من الله، والله يعطي فضله من يشاء، ولبعض الناس جهاده في خلوته أكثر من جهاده في علانيته، ومنهم العكس، ومنهم من جمع الله له بين الحسنيين، وآتاه كلا الفضيلتين، ويدل لذلك قوله صلى الله عليه وسلم لأبي ذرّ رضي الله عنه:(إذا رأيت البناء بلغ سلعاً، فاخرج من المدينة)(1)[121] ) ؛ لأنه رضي الله عنه كان شديداً في طاعة الله، ويأخذ بالعزائم، ويرى أنه لا يجوز لك - وتعتبر من الذين يكنزون الذهب والفضة في الآية - أن تنام وعندك دينار واحد زائد عن حاجتك، من زهده وقوة خوفه من الله عز وجل رضي الله عنه وأرضاه، وهذا من حكمته صلى الله عليه وسلم: أن فاضل بين أصحابه، فكان يعطي البعض أحاديث الزهد، كأبي ذرّ، لو تتبعت أحاديثه في مسند الإمام أحمد لوجدت أكثرها في الزهد، والبعض من الصحابة أحاديثه في الجهاد أكثر، والبعض أحاديثه في العبادة، والبعض أحاديثه في العلم، والخلاصة أن الناس يختلفون، وبناءً عليه يُحكم لكلٍ حسب حاله. والله تعالى أعلم.
السؤال السابع
أنا خطيب مسجد، تكلم فيَّ بعض الناس، فبِمَ تنصحوني؟ وما هي وصيتكم لمن يتكلم في الدعاة والعلماء، وينفر منهم الناس؟. وهل تجدي المناقشة معهم (2)[122] ) ؟
الجواب:
هذه -والله- المصيبة التي تحزن إذا انتقص أهل العلم والفضل، فإنا لله وإنا إليه راجعون، والله إن باطن الأرض أولى من ظاهرها في العيش مع أقوام لا يعرفون لأهل العلم حقهم، ولا يقدرون لهم قدرهم.
(1) 121] ) راجع العواصم من القواصم، للقاضي أبي بكر بن العربي رحمه الله، هامش (ص: 76) بتحقيق الشيخ محب الدين الخطيب رحمه الله.
(2)
122] ) (بتصرف) من محاضرة وصايا لطالب العلم وأسئلة درس التفسير، الشريط رقم (9) .
يا هذا.. قد نظرت إلى الدعاة والهداة، فوجدت فيهم من الفضل والصلاة والاستقامة والدعوة إلى الله ما سوف يحاسبك الله عنه، لم يبقَ إلا أن ينتقص العلماء وينفر منهم، وتُحذر الناس من مجالسهم، إنها مصيبة ورزية، إنها ثلمة -والله- في الإسلام إذا انتقص العلماء والدعاة، وتُتبعت عوراتهم وأخطاؤهم، ونُفِّر من مجالسهم، هذا مفتون، شأن أهل البدع -والعياذ بالله-.
إنهم ينفرون من العلماء، ولذلك من أهم وأظهر سمات أهل الضلال أنهم يحتقرون أهل العلم؛ لأنهم يعلمون أنه لا يكشف عوارهم بعد الله إلا العلماء، فلذلك إخواني في الله ينبغي أن نتق الله في حقوق العلماء، في حقوق طلاب العلم والدعاة والهداة إلى الله عز وجل، ينبغي أن تُلجم هذه الألسن بلجام الورع، والله، ما من كلمة تتلفظ فيها -حتى لو نقلت عن عالم أو داعية كلمة فيها انتقاص له- تحمل وزرها بين يدي الله عز وجل، ونزّل نفسك منزلة هذا العالم، أترضى أن تظهر للناس فضيحتك وأخطاؤك.
سلمنا جدلاً أنه أخطأ، فما الذي جعلك أن تذكر السيئات ولا تذكر الحسنات؟
قال سعيد بن المسيب رحمه الله: من هذا الذي كمل، إنما يرجى الإنسان بالغلبة، ذلك أن الله تعالى يقول:((فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)) [الأعراف:8]، ما قال: فمن خلصت موازينه (1)
(1) 123] ) قال ابن القيم رحمه الله في إعلام الموقعين (3/283) :
(ومن له علم بالشرع والواقع يعلم قطعاً أن الرجل الجليل الذي له في الإسلام قدم صالح وآثار حسنة، وهو من الإسلام وأهله بمكان، قد تكون منه الهفوة والزلة، هو فيها معذور، بل مأجور؛ لاجتهاده، فلايجوز أن يتبع فيها، ولا يجوز أن تهدر مكانته وإمامته في قلوب المسلمين اهـ.
وقال أيضاً في المدارج (2/39) :
(
…
فلو كان كل من أخطأ أو غلِط ترك جُمْلةً أو أهدرت محاسنه، لفسدت العلوم والصناعات والحكم، وتعطلت معالمها) اهـ.
ويقول الإمام ابن رجب رحمه الله في القواعد الفقهية (ص:3) :
(والمنصف: من اغتفر قليل خطأ المرء في كثير صوابه) .
ويقول الإمام الحافظ شمس الدين الذهبي رحمه الله في السير (14/40) في ترجمة محمد ابن نصر:
(ولو أنا كلما أخطأ إمام في اجتهاده في آحاد المسائل خطأً مغفوراً له، قمنا عليه وبدعناه، وهجرناه، لما تسلّم معنا لا ابن نصر ولا ابن منده، ولا من هو أكبر منهما، والله هو هادي الخلق إلى الحق، وهو أرحم الراحمين، فنعوذ بالله من الهوى والفظاظة) اهـ.
وقال رحمه الله أيضاً في السير (20/46) :
(ونحب السنة وأهلها، ونحب العالم على ما فيه من الاتباع والصفات الحميدة، ولا نحب ما ابتدع فيه بتأويل سائغ، وإنما العبرة بكثرة المحاسن) اهـ. من قواعد في التعامل مع العلماء، للشيخ عبد الرحمن بن معلاّ اللويحق - ط دار الورّاق الأولى 1415هـ.
[123]
) .
ولذلك العالم قد يزل، ولا ينبغي أن تُعجل في التشنيع عليه، بل يلتمس له العذر ما أمكن؛ لأن التشنيع عليه ثلمة في الدين.
والمنهج: أن تنقد الخطأ للخطأ، ولا تجرّح، شأن أهل الصلاح والفضل يبينون الخطأ دون تتبع عورات المسلمين وأعراضهم:((وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا)) [يوسف:81] ، لا ينبغي للمسلم أن يقتحم عوار أخيه فيتهمه في منهجه وعقيدته، الذي يعنيك ما قرأت وما سمعت، وأما أن يلمز بعضنا بعضاً، وأن يحاول كل منا أن يفسر أقوال العلماء ويحملها على غير محاملها، فإنه سيسأل بين يدي الله عن ذلك:((سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ)) [الزخرف:19] .
أحبتي في الله! إن الله قسم بين الخلق فضله، فجعل أقواماً مفاتيح للخير، ويتكلمون بالخير، ولا يعرفون الفحش، برأهم الله من السوء في أنفسهم وأقوالهم، أعفة في اللسان، أعفة في الجنان، لا يُدخلون في قلوبهم غِلاً على مسلم، وهي من صفات أهل الجنة:((وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ)) [الأعراف:43] .
ولذلك لا يزال الإنسان يحسد العالم على علمه، على صلاحه، حتى تفنى حسناته -والعياذ بالله-.
ومن العجب أن ترى طالب علم مجتهداً في العلم، قائماً الليل وصائماً النهار، حتى إذا جاء الكلام عن العلماء والدعاة، خرجت منه تلك الكلمات، فأتت على جميع حسناته -والعياذ بالله-، قالوا: يا رسول الله.. هي تصوم وتصلي، ولكنها تؤذي جارتها، قال:(لا خير فيها، هي من أهل النار)(1)[124] ) ، قالوا: ولا يؤمَن على من نال من أعراض الدعاة والعلماء من سوء الخاتمة، كما في قصة سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه مع الرجل، وسعيد بن زيد رضي الله عنه مع المرأة، لما اتهماهما (2)[125] ) ، فدعيا عليهما فساءت خاتمتهما -والعياذ بالله-، يا هذا.. وما يدريك أن لهؤلاء دعوات في السحر لا تردّ، وما يدريك لعلهم من أولياء الله، فتكون بمعاداتهم محارباً لله:(من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب)(3)[126] ) .
يا أخي، المسلم الحق (من سلم المسلمون من لسانه ويده)(4)[127] ) ، ليس الإسلام الحقيقي: أن يأتي المسلم ظاهره على خير وباطنه منطوي على الحقد والغلّ وخبث النية والطوية على عباد الله، هذا ليس من الإسلام، الإسلام فيه براءة الظاهر والباطن.
المسلم الحق يستهويك حديثُه، سديدٌ في منطقه وفي رأيه، بعيدٌ عن سفاسف الأمور، سبحان الله! ما وجدنا ننقل إلا عورات، وعورات مَنْ؟! عورات أهل العلم والفضل.
إخواني في الله ينبغي علينا:
أولاً: ألّا نتصف بهذه الصفة والخصلة التي يبغضها الله، إنها الفحش في القول:((لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ)) [النساء:148] .
(1) 124] ) تقدم تخريجه (ص:77) .
(2)
125] ) قصة الرجل مع سعد رضي الله عنه، والمرأة مع سعيد بن زيد رضي الله عنه، ذكرها الحافظ الذهبي رحمه الله في السير. انظر نزهة الفضلاء (23/2، 27/3) .
(3)
126] ) رواه الإمام البخاري رحمه الله من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(4)
127] ) متفق عليه من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما.
ومن تخلق بذلك ليس بحبيب لله عز وجل، بل جاء في الحديث:(بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم)(1)[128] ) ، فكيف بالعالم؟
ثانياً: ألا نسكت على من ينتقص علماءنا، ينبغي أن نغار على علمائنا، إذا لم نغر عليهم فعلى من نغار؟ وإذا لم تأخذك حميةُ الدين للعالم، فلمن تكون؟
ثالثاً: نفرق بين من ينقد بأدب، وحسن خلق، وعلى علم وبيّنة، وبين من ينتقد ويطعن في العلماء وطلاب العلم، العرض أمره ليس بالهين، فلو أن ثلاثةً من الصحابة رضي الله عنهم طَعنوا في عرضٍ دون بيّنة -وحاشاهم من ذلك- لما قبل منهم، ولردّت شهادتهم، لقوله تعالى:((وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ)) [النور:4] ، فإذا كان هذا في العِرض (2)[129] ) ، فكيف بمن يقذف العالم والداعية في عقيدته ومنهجه؟. فالذي ينبغي التبيّن والتثبت.
الناس كثُر فيها القيل والقال والنقل والشائعات.
رابعاً: الاشتغال بعيوب النفس عن عيوب الناس، لاسيما أهل العلم والفضل، فالماء إذا بلغ القلتين لم يحمل الخبث، وعليك بنفسك وعيوبك.
فللناس ربٌ محاسبهم، ويجزيهم على الخير إحساناً، وعلى غيره صفحاً وغفرانا.
وقال قال النبي صلى الله عليه وسلم لعمر في حاطب رضي الله عنه حين كتب الكتاب للكفار، يكشف سراً من أسرار المسلمين، ومع ذلك يقول صلى الله عليه وسلم:(وما يدريك لعل الله اطّلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم، فقد غفرتُ لكم)(3)[130] ) .
هذا يدل على أن العبد الصالح قد يكون بينه وبين الله حسنات تحرق خطاياه وزلَلَه.
(1) 128] ) رواه الإمام مسلم رحمه الله من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(2)
129] ) قال بعض الفضلاء:
ألم يكن قيل لمن أساءوا
ظَنّهُم في الإفكِ لولا جَاءوا
ثلاثةٌ عادلةٌ لا يُقبلون
في عرضِ مسلمِ فكيف بالظنونْ؟
(3)
130] ) تقدم تخريجه.
تريد لهذا العالم الذي أفنى ليله ونهاره في الجهاد والدعوة إلى الله عز وجل أن تفني حسناتك أمامه؟. تريد أن الله لا يغفر إساءته، وله من الحسنات ونشر العلم والخير ما لا يُحصى، فالرجاء في الله عظيم (1)[131] ) .
والله أسال: أن يرزقنا عفة الظاهر والباطن، وهذه –والله- وصية لكم أجمعين، لا أقصد بها شخصاً معيناً، ولا طائفة معينة، ولكن أريد أن يترسمها كل مؤمن فضلاً عن طالب العلم.
وأما الأخ الذي تُكُلّمَ فيه فأوصيه بما يأتي:
(1) 131] ) من درس شرح عمدة الأحكام، للشيخ محمد -السنن الراتبة- شريط رقم (31) .
أولاً: أن تتعزى وتتسلى بمن مضوا قبل من السلف والأخيار، فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم سيد الأنبياء والعلماء الأبرار، اتهم في عرضه، واتهم في فكره ومنهجه، فقيل فيه: أفّاك؛ حاشاه، وقيل: ساحر، وقيل: كذّاب، ومات وهو سيد الأولين والآخرين؛ لأن الله تعالى جعل الأمور بعواقبها، وهي سنة ماضية في كل من تمسك بهذا الدين: أن يُبتلى على قدر تمسكه، كما اشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى ذلك بقوله:(أشد الناس بلاءً الأنبياء، ثم الأمثل، ثم الأمثل)(1)[132] ) ، فإن كنت أمثل صُبَ عليك من البلاء ما لا يعلمه إلا الله، ولْتعلم أن الله سيضعك -بالصبر على هذا البلاء- في مرتبة أحبابه وأوليائه ((وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ)) [السجدة:24] ، أن تصبر وتحتسب عند الله عز وجل مما قيل فيك، فإن الله تبارك وتعالى قد تكفل بعباده وبيده أزمّة الأمور، فاصبر والله معك، قال صلى الله عليه وسلم:(من يتصبر يصبره الله، وما أعطي أحد عطاءً خيراً ولا أوسع من الصبر)(2)[133] ) ، والله تعالى يقول:((إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ)) [البقرة:153] ، فإذا أراد الله رفعك وكره ذلك الخلق كلهم، فله الأمر من قبل ومن بعد (3)[134] ) .
ولا تعبأ بحسدهم وبغضهم لك، ولمّا ابتلي الحافظ عبد الغني رحمه الله في محنته (4)[135] ) ، قال فيه القائل:
إِنْ يَحسِدوكَ فلا تعبأ بقائلهم
…
هم الغُثاءُ وأنت السيد البطلُ
(1) 132] ) رواه الإمام الترمذي، والإمام ابن ماجة، والإمام الدارمي رحمهم الله وصححه الشيخ ناصر الدين الألباني رحمه الله في المشكاة رقم (1562) .
(2)
133] ) متفق عليه من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
(3)
134] ) من محاضرة وصايا لطلاب العلم، للشيخ محمد.
(4)
135] ) راجع قصة محنته رحمه الله في اعتقاده في أول المجلد الثاني من ذيل طبقات الحنابلة لابن رجب رحمه الله.
والناس لا نجاة منها، فلو صاحبت أفضل الناس لابد من كلام الناس فيك.
تالله لو صحب المرء جبريلا
…
لا بدّ من قيلٍ وقيلا
قد قيلَ في اللهِ أقوالٌ مسمّاة
…
تتلى إذا رتّل القرآن ترتيلا
قد قيل إن له صاحبة
…
تعالى الله عما قيلا
فالله لم يسلم من كلام خلقه: من أن له صاحبة وولداً، تعالى الله عما يقوله الظالمون علواً كبيراً.
وهذه الفتنة لو وجدت عقولاً وقلوباً تتقي الله، لما راجت واستحكمت، وقد وقعت فتن في زمن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في أعظم من ذلك، في الدماء، لكنها وجدت عقولاً راجحة ضيقت نطاقها، وعرفت أهل الشر والغوى فيها، ونحن لا نبرّئ ساحات أهل العلم من وجود أناس لا خير فيهم، دخلاء على الصالحين، أو يتمسحون بالصلاح وهم منهم براء، وأشهد الله أني بريء ممن برئ من عقيدة السلف، وأبرأ إلى الله ممن يتكلم ويطعن في الصالحين والأخيار.
ثانياً: لا تناقش الجهال حتى لا تهلكهم، ربما أثناء نقاشه يرد آية أو حديثاً بمحض هواه وفهمه فيهلِك، وتضيّع وقتك.
قال الإمام الشافعي: جادلني عالم فجدلته -أي غَلَبْتُه-، وجادلني جاهلٌ فغلبني، لأن الجاهل لا تدري من أين تأتيه، إذا جئته من يمين، يأتيك من شمال، وهكذا، ليست عنده ضوابط ولا قواعد ولا اصول يحتكم إليها، فلا تضيّع وقتك معه، قل له: ارجع إلى العلماء، حتى لا تَفْسُد القلوب بسبب هذه المناقشات التي لا تجدي؛ لأن هذا النوع من النقاش يفسدها ويوقع بينها الخلاف، والله قرن الفشل بالخلاف ((وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ)) [الأنفال:46] .
ثالثاً: إذا كان الذي أمامك طالب علم، قد حصَّل علم آلة الخلاف والنقاش والاجتهاد، وتستفيد من مناقشته ومناظرته، فخذ بآداب البحث والمناظرة، وهي معروفة ومشهورة، ومنها:
أ- أن يكون (1)[136] ) الخلاف بحجة وبرهان، والاستدلال بهذه الحجة مبني على أصل مقرر عند العلماء لا بمحض الهوى، فيستنبط (استنباطاً) ما سبقه إليه أحد، والعلم الحق موروث، والنبي صلى الله عليه وسلم قال:(.. وإن الأنبياء لم يورِّثوا درهماً ولا ديناراً، وإنما ورَّثوا العلم..)(2)[137] ) .
فالذي يتكلم في الخلافيات والمسائل، ويناظر إخوانه وهو يعتمد أصول العلماء ويتكلم بكلامهم، فقد تكلم بإثارة من علم السلف.
وإذا جاءك إنسان بقول عليه دليل وليس لك علم به، فاسكت -رحمك الله- حتى لا تزلّ قدم بعد ثبوتها، فقد يمقت الله طالب العلم بردّه لسنة. وكان أبو بكر رضي الله عنه يقول:(أخاف إن تركت سنته أن أضل، إن الله يقول: ((فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)) [النور:63] ، ينبغي أن يزن طالب العلم نفسه بميزان الشرع، ولا يتكلم في دين الله إلا بحجة من الله وبينة، لا بالهوى والظن، ((وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا)) [يونس:36] .
عوّد نفسك من اليوم: أنك لا تدخل في نقاش أو خلاف دون تصور وحجة وبرهان، واترك طلاب العلم حولك يختلفون ويصيحون ويُقيمون الدنيا ويقعدونها، واستمع لخلافهم وانصت، وخذا ما صفا، ودع ما كدر، واجْنِ الثمار وألْقِ الحطب في النار.
وأما عاقبة من فُتن وكان جريئاً على الخلافات والمناظرات والمناقشات، دون علم، فإنه إذا تخرّج لا يرتاح حتى يجد من يناقشه ويناظره، ويصبح ديدنه ذلك، وأصحب ما عنده مسألة إجماعية لا خلاف فيها، ويصير علمه وبضاعته -والعياذ بالله- القيل والقال.
(1) 136] ) من أسئلة دروس البلوغ عند شرح حديث ابن عمر (نهي عن بيع العربون) .
(2)
137] ) الحديث أخرجه الإمام أحمد في المسند (5/196) ، والترمذي (2682)، والخطيب في الرحلة (ص:81) ، وهو حسن عند كثير من الحفاظ.
كان الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ -رحمة الله عليه- متصفاً بأنه لا يمكن أن يناقش أحداً أبداً، ويؤثر عنه أنه يجلس في المجلس، فما أن يقوم المشايخ بالمناظرة مع بعضهم حتى يقوم من المجلس، وبهذا أصبح عزيزاً بعلمه، عزيزاً بشخصه (1)[138] ) ، بخلاف ما إذا أصبح الإنسان منفلت اللسان، يجادل كل من هب ودب، فتضيع هيبة علمه.
ومجالس الجدل والمماراة أمَرَ الله بعدم الجلوس فيها: ((وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ)) [النساء:140] .
ب- تحديد المسألة وتحرير موضع النزاع، حتى لا تضيعوا الوقت في مناقشة مسائل، متفق عليها بينكم أو لا التقاء بينكم فيها.
ج- تحديد الأصل حتى يعرف من المطالب بالدليل ومن المدعي ومن المدعى عليه، فالذي يخرج عن الأصل هو المطالب بالدليل مثلاً الأصل فيها الجواز، الذي يقول بعدم الجواز هو المطالب بالدليل، لكن الذي يحصل من بعض طلاب العلم يجلسون مع بعض، الأول يقول: ائتني بالدليل على عدم الجواز، والثاني كذلك يقول: لا.. بل أنت تعطني دليل على الجواز.. وهكذا، مع أنه إذا كان أصل المسألة أمر تعبدي، فالذي يقول غير مشروع لا يطالب بالدليل؛ لأن الأصل معه، والآخر يقول بأنه مشروع هو الذي يطالب بدليل نسبة شيء إلى الشرع.. وهكذا.
(1) 138] ) قال الإمام الشافعي رحمه الله: (من إذلال العلم، أن تناظر كلّ من ناظرك، وتقاول كل من قاولك) مناقب الشافعي، للبيهقي (2/151) .