الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الباب الثاني: التعريف بالمكتبة الإسلامية
الفصل الأول: دراسة تاريخية وميدانية للمكتبة الإسلامية
تمهيد:
إذا كان البحث العلمي، أو طلب العلم من أشرف المقاصد -كما بينا في الباب السابق- فإن المكتبة تعدّ من أقوم الطرق، وأهداها في تحصيل المعرفة.
وقد عرف الإنسان المكتبة منذ عرف الكتابة، فكان يكتب ما يحصله من معارف، وما تهديه إليه تجربته من الحياة فيما تيسر له من أسباب الكتابة، ووسائلها.
وعندما ظهرت الحضارات الإنسانية على ضفاف الأنهار في العالم الشرقي، وجدنا المكتبات لازمة من لوازم الحضارة، فعرفت المكتبات في حضارات الفراعنة في وادي النيل، والبابليين والآشوريين بين النهرين في العراق، وكذلك حضارات الهند وفارس والروم، وكان لها كلها موروثات ثقافية ذات شأن.
وكانت مكتبة الإسكندرية من أشهر المكتبات في العالم القديم.
وقد عرف العرب الكتابة قبل الإسلام، وكانت لهم كتابات على الأحجار اكتشفت في شمالي الجزيرة وجنوبيها؛ إذ كانت في هذه الأماكن حينذاك حركة تثقيف وكتابة.
يذكر صاحب الأغاني: أن عدي بن زيد العبادي لما نما وأيفع طرحه أبوه في الكتاب حتى حذق العربية، ثم دخل ديوان كسرى، وهو أول من كتب بالعربية في هذا الديوان1.
ويبدو أنه كانت في الجاهلية كتاتيب يتعلم فيها الصبيان الكتابة والشعر وأيام العرب، ويشرف عليها معلمون ذوو مكانة في قومهم مثل أبي سفيان، وصخر بن حرب، وأبي قيس بن عبد مناف، وعمرو بن زرارة الكاتب2.
1 انظر: الأغاني جـ2 من ص101 إلى 102، وعدي بن زيد توفي سنة 35 ق. هـ.
2 انظر: كتاب المحبر لمحمد بن حبيب ص475 تحت عنوان: أشرف المعلمين طـ الهند سنة 1361 هـ-1942م.
وكان العرب يطلقون على كل رجل يكتب ويجيد الرمي والسباحة لقب "الكامل"1.
وجاء الإسلام فأشرق بنوره على جزيرة العرب، فمحا الأمية ونشر الكتابة وظهر الكتاب، وكان هذا الأمر مقصدًا من المقاصد الرئيسية للشريعة الهادية، والدستور الحكيم.
وحسبنا من هذا أن الكتاب العزيز نزلت آياته الأولى هادفة إلى هذه الغاية الكريمة، مما يؤكد أن الدعامة الأولى للإسلام هي العلم. يقول تعالى:{اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ، خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ، اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ، الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ، عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق: آية 1-5] .
وأعلن النبي صلى الله عليه وسلم أول حرب على الأمية في التاريخ؛ إذ كان يطلب إلى غير القادر من أسرى بدر أن يعلم عشرة من أبناء المسلمين القراءة والكتابة.
وكان للنبي صلى الله عليه وسلم كتاب كثيرون، فبلغ كتاب الوحي نحو أربعين كاتبًا، في مقدمتهم الخلفاء الأربعة، وأبي بن كعب، وزيد بن ثابت، وشرحبيل بن حسنة، وعبد الله بن رواحة، ومعاوية بن أبي سفيان، وخالد وأبان ابنا سعيد بن العاص، كما كان له كتاب للمداينات، والصدقات، والمعاملات، وكتاب للرسائل يكتبون باللغات المختلفة2.
1 انظر: عيون الأخبار لابن قتيبة جـ2 ص168.
2 انظر: مناهل العرفان في علوم القرآن للزرقاني جـ1 ص260 وما بعدها، وانظر المصباح المضيء في كتاب النبي الأمي ورسله إلى ملوك الأرض من عرب وعجم لمحمد بن علي الأنصاري "مخطوط بمكتبة الأوقاف بحلب" تحت رقم 270 ص16 وما بعدها، وانظر لمحات في المكتبة لمحمد عجاج الخطيب ص31.
نشأة المكتبة الإسلامية:
أول كتاب دون في الإسلام هو كتاب الله تعالى؛ إذ كانت الآيات تنزل فيسارع النبي صلى الله عليه وسلم إلى كتابه ليكتبوها على الأحجار، أو العظام، أو سعف النخل، ونهى النبي صلى الله عليه وسلم في هذه المرحلة عن كتابة شيء غير القرآن، إذ جاء في الحديث الصحيح قوله: "
…
ومن كتب عني شيئًا غير القرآن فليمحه، وحدثوا عني ولا حرج".
وقد أذن فيما بعد لبعض أصحابه بكتابة بعض أحاديثه، فقد كان عند سعد بن عبادة الأنصاري "15هـ" كتاب أو كتب فيها طائفة من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد اشتهرت صحيفة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب "40هـ" التي كان يعلقها في سيفه فيها أسنان الإبل، وأشياء في الجراحات، وحرم المدينة، ولا يقتل مسلم بكافر1.
وتم جمع القرآن الكريم في مصحف واحد لأول مرة في عهد أبي بكر رضي الله عنه حتى لا يضيع شيء من القرآن بسبب استشهاد كثير من القراء في حروب الردة، ومانعي الزكاة.
وجمع للمرة الثانية والأخيرة في عهد الخليفة عثمان رضي الله عنه الذي نسخ من المصحف الشريف عدة نسخ ووزعها على الأمصار الإسلامية لتكون مرجعًا مكتوبًا، ومع كل مصحف قارئ مجيد ليكون مرجعًا منطوقًا2.
ومن هنا نستطيع أن نقول: إن الكتاب الأول في المكتبة الإسلامية هو القرآن الكريم، المهيمن على كل كتاب، والحكم على كل مكتوب، والحق الذي لا ريب فيه.
وكان هذا الكتاب العزيز مكتبة كاملة في كتاب.
ففي رحابه نبتت علوم، ودونت معارف، وقامت بحوث ودراسات.
1 انظر: جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر جـ1 ص72، وانظر السنة قبل التدوين د. محمد عجاج الخطيب ص345.
2 انظر: في علوم القراءات، مدخل ودراسة وتحقيق د. السيد رزق الطويل ص19، 20.
في مقدمتها: علوم السنة التي هي في حقيقتها بيان للكتاب وتطبيق رشيد لتوجيهاته.
ثم أخذ العلماء يستنبطون بفقههم الأحكام الشرعية من الكتاب والسنة، فظهر علم الفقه بميادينه الواسعة، ودراساته المتشعبة.
كما تدبر العلماء كتاب الله، فاستنبطوا أصول العقيدة ودونوها مقارنة بأفكار البشر حول الحياة والمصير، وظهر علم العقيدة أو علم الكلام.
واجتهد العلماء في تفسير الكتاب العزيز، وبيان مقاصده فظهر علم التفسير.
ووجد العلماء أن من اللازم أن يتعرفوا أحوال الرسول الخاتم الذي تلقى الكتاب وعمل به ونفذ الشريعة، وكذلك العلماء الراشدون الذين ساروا سيرته، فظهرت علوم السير والتاريخ.
بل إنه في رحاب القرآن الكريم ظهرت ودونت علوم اللسان من نحو وصرف، وفقه لغة وبلاغة، ونتاج أدبي من الشعر والنثر.
وتوالى العلماء وكثرت المؤلفات، حتى إننا نعد التراث الإسلامي في هذه العلوم التي ذكرناها، وغيرها من العلوم التجريبية والإنسانية كالطب والفلك والجبر والفيزياء، أعظم تراث عرفه البشر.
وأما عن المكتبة الأولى في الإسلام، فكانت في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كان يضم صفحات المصحف التي هي مرجع المسلمين في كل أمورهم.
وسار بعض الصحابة على هذا الطريق، فاقتنوا صفحات من المصحف، أو كانت لهم مصاحف مثل مصحف عائشة ومصحف ابن مسعود وغيرهما. غير أن هذه المصاحف انتهى أمرها في عهد عثمان رضي الله عنه ليجنب المسلمين أمر الاختلاف في قراءة الكتاب العزيز، وجمعهم على المصحف الإمام1.
ونستطيع أن نقول: إن المساجد كانت النواة الأولى للمكتبة الإسلامية؛ إذ كان
1 انظر: كتابنا في علوم القراءات، مدخل ودراسة وتحقيق.
المسجد متعدد الوظائف في مجتمع المسلمين، وبخاصة في مجال العلم والمعرفة، ولم يكن مقصورًا على الجمع والجماعات وأداء العبادات.
وأصبح في كل مسجد مكتبة يودع فيها العلماء ما صنفوه من مؤلفات في الفروع المختلفة، فقلما يخلو مسجد جامع من خزانة كتب يرتادها طلاب المعرفة.
وكانت المكتبات الخاصة لازمة من لوازم بيوت كبار القوم؛ إذ كانت غالية باهظة التكاليف، وكان الواحد منهم يفخر باقتناء كتاب معين في فرع من فروع العلم، كما يفخر باقتناء درة ثمينة، أو جوهرة فريدة.
يذكر المؤرخون: أن الفتح بن خاقان "247هـ" -وكان وزيرًا للمتوكل- تحت يده مكتبة جامعة، والمبشر بن فاتك "480هـ" أحد أعيان أمراء مصر وعلمائها كانت له مكتبة قيمة حوت الكثير من العلوم الرياضية والفلسفية ونحوها، وأما الخليفة الناصر لدين الله "622هـ" فكانت له مكتبة كبيرة جدا، كما أن الخليفة المستعصم بالله "656هـ" كان في داره مكتبة ضخمة ضمت نفائس الكتب في شتى العلوم1.
والمدارس الكثيرة التي حفلت بها المدن الإسلامية في الشرق والغرب لم تخل من مكتبات حافلة بالكتب في فروع العلم المختلفة.
ولقد أجرى إحصاء في أحياء قرطبة التي تبلغ واحدًا وعشرين حيا أيام ازدهار الخلافة، فوجد أن مائة وسبعين امرأة يجدن الخط الكوفي، يكتبن به المصاحف، وقد كان لعائشة القرطبية "400هـ" خزانة كتب كبيرة، وهي إحدى المشهورات بكتابة المصاحف2.
ويذكر المترجمون لأبي عمرو بن العلاء "154هـ" وهو من أئمة القراءات واللغة والغريب، أن مؤلفاته كانت ملء بيت إلى السقف3.
1 انظر: كتب التاريخ والحضارة، وتواريخ المدن الإسلامية، وحضارة العرب للدكتور جوستاف لوبون.
2 انظر: خزائن الكتب العربية في الخاففين، لفيليب دي طرازي جـ3 ص1014-1030.
3 انظر: ترجمته في غاية النهاية لابن الجزري، ومعرفة القراء الكبار للذهبي، وكتابنا في علوم القراءات ص83 وما بعدها.
هذا التراث الزاخر من نتاج عقول المسلمين على امتداد قرون النهضة لم تحل ندرته وارتفاع ثمنه من أن يكون في متناول طلاب العلم؛ لأن أهل الفضل من أعيان القوم لم يضنوا بها على مكتبات المساجد والمدارس ليستفيد منها جمهرة الناس.
فالإمام الحافظ أبو حاتم البستي "354هـ" وضع مؤلفاته الكثيرة في دار خاصة في بلدة "بست" وجعلها وقفًا لأهل العلم1.
ولا أدل على انتشار المكتبات في العالم الإسلامي على أحسن صورة من قول العلامة ابن خلدون "وطما بحر العمران والحضارة في الدول الإسلامية وفي كل قطر، وعظم الملك ونفقت أسواق العلوم، وانتسخت الكتب، وأجيد كتبها وتجليدها، وملئت بها القصور والخزائن الملوكية بما لا كفاء له"2.
والمكتبة الإسلامية وسعت الفكر الإنساني كله، وقد ترجم التراث الإنساني في عصر الدولة العباسية، وبخاصة في عصر المأمون الذي أولع بمنطق اليونان وفلسفتهم، فكان يعطي ابن بختيشوع وزن ما يترجم ذهبًا.
ولم تكن المكتبات الإسلامية مجرد حشد من الكتب، وإنما كانت على أبهى نظام وأحسن تنسيق، كما هيئت فيها كل الوسائل لمن يريد الاطلاع من طلبة العلم.
يقول المقريزي: إن دار الحكمة بالقاهرة لم تفتح أبوابها للجماهير إلا بعد أن فرشت وزخرفت، وعلقت على جميع أبوابها وممراتها الستور، وأقيم قوام وخدام وفراشون وغيرهم رسموا بخدمتها3.
وكان للمكتبة جهاز كامل من العاملين ابتداء من خازن المكتبة، أو المحافظ -وهو رأس المكتبة- إلى المساعدين والموظفين.
1 انظر: ترجمته في تذكرة الحفاظ جـ3 ص125، وفي طبقات السبكي جـ2 ص141.
2 المقدمة لابن خلدون ص420.
3 الخطط: للمقريزي جـ1 ص408.