الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الأجر العظيم المشتمل على المطالب العالية، والمحاب الغالية، وأن يؤثروا الآخرة على الدنيا الفانية المنقضية، ولما كان النهي عن طاعة الأزواج والأولاد، فيما هو ضرر على العبد، والتحذير من ذلك، قد يوهم الغلظة عليهم وعقابهم، أمر تعالى بالحذر منهم، والصفح عنهم والعفو، فإن في ذلك، من المصالح ما لا يمكن حصره، فقال:{وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} ؛ لأن الجزاء من جنس العمل، فمن عفا عفا اللَّه عنه، ومن صفح صفح اللَّه عنه، ومن غفر غفر اللَّه له، ومن عامل اللَّه فيما يحب، وعامل عباده كما يحبون وينفعهم، نال محبة اللَّه ومحبة عباده، واستوثق له أمره» (1).
الحادي عشر: التجارة بالأعمال الصالحة تنجي من عذاب الله وتغفر وتكفر بها الذنوب:
1 -
«هذه وصية ودلالة وإرشاد من أرحم الراحمين لعباده
(1) تيسير الكريم الرحمن، ص 1023.
(2)
سورة الصف، الآيات: 10 - 13.
المؤمنين، لأعظم تجارة، وأجلِّ مطلوب، وأعلى مرغوب، يحصل بها النجاة من العذاب الأليم، والفوز بالنعيم المقيم.
وأتى بأداة العرض الدالة على أن هذا أمر يرغب فيه كل متبصّر، ويسمو إليه كل لبيب، فكأنه قيل: ما هذه التجارة التي هذا قدرها؟ فقال: {تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} .
ومن المعلوم أن الإيمان التامّ هو التصديق الجازم بما أمر اللَّه بالتصديق به، المستلزم لأعمال الجوارح، ومن أجل أعمال الجوارح الجهاد في سبيل اللَّه؛ فلهذا قال:{وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ} بأن تبذلوا نفوسكم ومهجكم، لمصادمة أعداء الإسلام، والقصد نصر دين اللَّه، وإعلاء كلمته، وتنفقون ما تيسّر من أموالكم في ذلك المطلوب؛ فإن ذلك، ولو كان كريهاً للنفوس، شاقاً عليها، فإنه {خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} ؛ فإن فيه الخير الدنيوي، من النصر على الأعداء، والعزّ المنافي للذل والرزق الواسع، وسعة الصدر وانشراحه.
وفي الآخرة الفوز بثواب اللَّه، والنجاة من عقابه؛ ولهذا ذكر الجزاء في الآخرة، فقال:{يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} ، وهذا شامل للصغائر والكبائر؛ فإن الإيمان باللَّه والجهاد في سبيله، مكفر للذنوب، ولو كانت كبائر.
{وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ} أي: من تحت مساكنها [وقصورها] وغرفها وأشجارها، أنهار من ماء غير آسن،
وأنهار من لبن لم يتغيّر طعمه، وأنهار من خمر لذة للشاربين، وأنهار من عسل مصفّى، ولهم فيها من كل الثمرات، {وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ} أي: جمعت كل طيب، من علوٍّ وارتفاعٍ، وحسن بناء وزخرفة، حتى إن أهل الغرف من أهل علِّيين، يتراءاهم أهل الجنة كما يتراءى الكوكب الدري في الأفق الشرقي أو الغربي، وحتى إن بناء الجنة بعضه من لَبِنِ ذَهَبٍ، [وبعضه من] لَبِنِ فضة، وخيامها من اللؤلؤ والمرجان، وبعض المنازل من الزمرّد (1) والجواهر الملونة بأحسن الألوان، حتى إنها من صفائها يرى ظاهرها من باطنها، وباطنها من ظاهرها، وفيها من الطيب والحسن ما لا يأتي عليه وصف الواصفين، ولا خطر على قلب أحد من العالمين، لا يمكن أن يدركوه حتى يروه، ويتمتعوا بحسنه، وتقرّ أعينهم به، ففي تلك الحالة، لولا أن اللَّه خلق أهل الجنة، وأنشأهم نشأة كاملة لا تقبل العدم، لأوشك أن يموتوا من الفرح، فسبحان من لا يحصي أحد من خلقه ثناء عليه، بل هو كما أثنى على نفسه، وفوق ما يثني عليه عباده، وتبارك الجليل الجميل، الذي أنشأ دار النعيم، وجعل فيها من الجلال والجمال ما يبهر عقول الخلق ويأخذ بأفئدتهم.
وتعالى من له الحكمة التامة، التي من جملتها، أنه اللَّهُ لو أَرَى
(1) حجر كريم أخضر اللون شديد الخضرة شفاف، وأشده خضرة أجوده وأصفاه جوهراً، واحدته زمردة. [المعجم الوسيط، 1/ 400].
الخلائقَ الجنةَ حين خلقها، ونظروا إلى ما فيها من النعيم لما تخلف عنها أحد، ولما هنّاهم العيش في هذه الدار المنغصة، المشوب نعيمها بألمها، وسرورها بترحها.
وسميت الجنة جنة عدن، لأن أهلها مقيمون فيها، لا يخرجون منها أبداً، ولا يبغون عنها حولاً، ذلك الثواب الجزيل، والأجر الجميل، الفوز العظيم، الذي لا فوز مثله، فهذا الثواب الأخروي.
وأما الثواب الدنيوي لهذه التجارة، فذكره بقوله:{وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا} أي: ويحصل لكم خصلة أخرى تحبونها، وهي:{نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ} [لكم] على الأعداء، يحصل به العزّ والفرح، {وَفَتْحٌ قَرِيبٌ} تتسع به دائرة الإسلام، ويحصل به الرزق الواسع، فهذا جزاء المؤمنين المجاهدين، وأما المؤمنون من غير أهل الجهاد، [إذا قام غيرهم بالجهاد]، فلم يُؤيِّسهم اللَّه تعالى من فضله وإحسانه، بل قال:{وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} أي: بالثواب العاجل والآجل، كل على حسب إيمانه، وإن كانوا لا يبلغون مبلغ المجاهدين في سبيل اللَّه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:«إن في الجنة مائة درجة ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض، أعدها الله للمجاهدين في سبيله» (1).
2 -
قال اللَّه عز وجل: {فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي
(1) تيسير الكريم الرحمن، ص 1014 - 1015، والحديث أخرجه مسلم، برقم 1884، ويأتي تخريجه ص 112.