الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
منهم فلم يؤمن به أي لم يصدقه ويتابعه على دينه فيما بلغه من الدين الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل النار، والله أعلم.
في رجلين تحاورا فب مقصد الإمام والمشايخ بمنع "الإخوان" من الدعوة
…
المسألة التاسعة: قول السائل: إن رجلين سأل أحدهما الآخر قال: ما مرام الإمام (1) والمشايخ باستدعاء الإخوان تهدّدهم ومنعهم من دعوة البادية والأخذ عليهم من دخول بلاد النازلين منهم حتى حصل بسبب ذلك تجسر على مشايخ المسلمين بالسبّ والثّلب وإساءة الظن وقلة الانتفاع بفوائدهم ونصائحهم، وربما توصلوا إلى ولي الأمر بأقوال (2) لا تروج على عاقل، ولكن يغتر بها كل مغرور جاهل، ويأنس بها كل منافق بلاؤه في قلبه داخل.
كقول بعضهم: ما فعل المشايخ ذلك إلا حسدا منهم للإخوان في دعوتهم.
وكقولهم: إن المشايخ داهنوا في دين الله، والإخوان أمروا وأنكروا.
وكقولهم: الإخوان علمونا ملة إبراهيم وبينوها، والمشايخ كتموها ودفنوها.
وكقولهم: ما أطاع الإمام المشايخ فيها إلا لسكوتهم عند المآكل والأغراض.
(1) الإمام هو الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود.
(2)
في الأصل" أقوالا" ولعل الصواب ما أثبت هنا. أي أنهم ينسبون للإمام أقوالا مفتراة عليه.
وكقولهم: المشايخ يرخصون ويبيحون السفر إلى بلاد المشركين، ويسلمون على المسافرين (1) .
ويقولون (2) : ساكن البادية والنازل منها إلى الحاضرة سواء.
ويقولون: لابس العمامة ولابس العقال سواء.
ويقولون: بروا في آبائكم وأقاربكم الذين ماتوا واسكتوا وكفوا عنهم إلى غير ذلك.
ومما يتقاولونه بينهم: ما فعل المشايخ بهم ذلك إلا أنهم مكفرون لهم (3) .
فأجابه الآخر بجواب مجمل، لا يفي بالمقصود، ولكنه أجاب بما هو الحق والصواب في نفس الأمر.
ونحن نجيب على ما قاله هؤلاء المعترضون، ونبين ما في كلامهم من الكذب والزور والبهتان، وما فيه من الحق الذي قاله المشايخ والإخوان بالتفصيل _إن شاء الله تعالى_.
فنقول: قد كان من المعلوم عند الخاصة والعامة أن الذي منع هؤلاء من الذهاب إلى هذه الأماكن المذكورة في السؤال هو الإمام _أعزه الله بطاعته وأحاطه بحياطته_ لأمرين:
(1) أي القادمين من بلاد المشركين!!
(2)
يعنون العلماء والمشايخ.
(3)
هذه جملة ما طعن به"الإخوان" في مشايخ الدعوة في عهد الملك عبد العزيز رحمه الله.
أحدها: أنهم افتاتوا على منصب الإمامة، فذهبوا إلى البادية من رعيته ومن تحت يده وفي ولايته من غير إذن منه ولا أمر لهم بذلك.
وقد كان من المعلوم أن الإمام هو الذي يبعث العمال والدعاة إلى دين الله.
الثاني: ما بلغه عنهم من الغلو والمجازفة والتجاوز للحد في المأمورات والمنهيات، وإحداثهم في دين الله ما لم يشرعه الله ولا رسوله، فمن ذلك:
أنهم كفروا البادية بالعموم، وزعموا أنهم على الحالة التي كانوا عليها قبل دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب _رحمه الله تعالى_ وأنهم لم يسلموا ولم يدخلوا في هذا الدين، ويستدلون على ذلك بما ذكره الشيخ _رحمه الله_ في الموضع السادس الذي نقله من"السيرة" وبما ذكره في رسالته إلى الشريف من تكفيره البادية الذين كانوا في وقته، وأنه ليس معهم من الإسلام شيء.
ومنها أنّ من ديّن ودخل في الدين من الأعراب لا يصح لهم إسلام حتى يهاجروا.
ومنها أنهم يلزمون من دخل في هذا الدين أن يلبس عصابة على رأسه، ويسمونها العمامة، وأنها هي السنة، فمن لبسها كان من الإخوان الداخلين في الدين، ومن لم يلبسها فليس من الإخوان، وأنها شعار وزيّ يتميز به المسلم عن الكافر. وقد أجبنا عن هذا كله فيما تقدم.
ومنها أنهم لا يسلّمون إلا على من يعرفون وتميز بالعمامة، وهم مع
ذلك يزعمون أنهم هم الذين على السنة، وأن المشايخ يميتون السنن، وهم يخالفون ما سنه رسول الله صلى الله عليه وسلم في السلام بالأمر بالسلام على من عرف ومن لم يعرف.
قال البخاري _رحمه الله_ في"الأدب المفرد"(1) : باب التسليم بالمعرفة وغيرها. حدثنا قتيبة، قال حدثنا الليث، عن يزيد بن حبيب، عن أبي الخير، عن عبد الله بن عمرو؛ أن رجلا قال: يا رسول الله أيّ الإسلام خير؟ قال:" تطعم الطعام، وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف " وفيه (2) أن الطفيل بن أبيّ بن كعب أخبره أنه كان يأتي عبد الله بن عمر فيغدوا معه إلى السوق، قال: فإذا غدونا إلى السوق لم يمر عبد الله ابن عمر على سقاط ولا صاحب بيعة ولا مسكين ولا أحد إلا يسلم عليه.
قال الطفيل: فجئت عبد الله بن عمر يوما فاستتبعني إلى السوق. قلت: ما تصنع بالسوق، وأنت لا تقف على البيع، ولا تسأل عن السلع، ولا تسوم بها، ولا تجلس في مجالس السوق؟ فاجلس بنا ههنا نتحدث.
فقال لي عبد الله: يا أبا بطن _وكان الطفيل ذا بطن_ إنما نغدوا لأجل سلام من لقينا.
فرسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:" اقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف "، وابن عمر _رضي الله عنه_ يقول:"إنما نغدوا من أجل السلام على من لقينا".
(1)(2/469) من شرحه. والحديث في"الصحيحين".
(2)
(2/465) .
ومنها أنهم لا يدعون أحدا صلى معهم صلاة الصبح أن يخرج من المسجد إلا بعد طلوع الشمس، وهذا لم يكن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا فعله أصحابه بعده.
ومنها أنهم أدخلوا في الدين ما ليس منه، فزعموا أن تدوينه (1) البدو للإبل عند ورودها وصدودها بدعة.
ومن المعلوم أن البدع لا تكون إلا في القربات الشرعية، وتدويه الأعراب لإبلهم من العادات الطبعية، فزعموا أن هذه العادات من العبادات.
وقد بلغني أن رجلا من هؤلاء المتعمقين، يقال له: عبد الله بن دامغ؛ أنه يقول: من لبس العمامة ثم تركها ارتد عن الإسلام.
وبلغني _أيضا_ عن رجل من أعيانهم؛ أنه كتب إلى بعض الأعراب ينهاهم عن مباشرة النساء في فروشهن في الحيض، لأن ذلك ذريعة إلى جماعهن في الحيض _ويل أمّه_ أما علم أن ذلك قد ثبت في الأحاديث الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم من فعله وأمره.
ومن هؤلاء من تجاوز الحد في التأديب عند فوات بعض الصلاة، فضربوا رجلا منهم حتى مات.
(1) التّدويية: أن تدعو الإبل فتقول: دأه دأه-بالكسر والتسكين. أو ده ده-بالضمّ- لتجيء إلى ولدها. قاله في"القاموس".
وثبت عندنا عن بعضهم أنه فسر قوله صلى الله عليه وسلم:" اللهم إني أعوذ بك من الحور بعد الكور "(1) فزعم أن الكور هي العمامة، وأن الرسول استعاذ بالله من تركها بعد لبسها.
وثبت عن رجل آخر منهم أنه (2) يقول لما انقطعت ناقته، وأعيت من الهزال، فنحرها أهلها،. فقال: إنها حرام، لا تأكلوها. واستدل بقول الله تعالى:{وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ} (المائدة: من الآية3) فحمل القرآن على لغته الفاسدة. إلى غير ذلك من الأمور التي أحدثوها مما لا يمكن عدّه ولا اسقصاؤه.
فلما اشتهر هذا عنهم، وهذا الغلو والتجاوز للحد؛ خاف الإمام أن يسيروا بسيرة الخوارج، فيمرقون في الدين بعد أن دخلوا فيه، كما مرق منه من غلا في الدين وتجاوز الحد ممن كانوا من أعبد الناس وأزهدهم وأكثر تهليلا، حتى أن الصحابة يحقرون أنفسهم عندهم، وهم تعلموا العلم من الصحابة.
(1) أخرجه مسلم في كتاب الحج من "صحيحه": (2/979) عن عبد الله بن سرجس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سافر يعوّذ من وعثاء السفر، وكآبة المنقلب، والحور بعد الكون، ودعوة المظلوم، وسوء المنظر في الأهل والمال. هذا لفظ مسلم.
وهو في "المسند": (5/82/83) بلفظ"الكور". قال الترمذي بعد ذكر الروايتين: ومعنى قوله: الحور بعد الكور أو الكون _وكلاهما له وجه- إنما هو الرجوع من الإيمان إلى الكفر، أو من الطاعة إلى المعصية، إنما يعني الرجوع من شيء إلى شيء من الشر. اهـ"سنن الترمذي":(5/498) .
(2)
في الأصل:"أن".
فهذا هو المرام الذي أوجب للإمام منع (1) هؤلاء الجهلة عن دخول بلاد النازلين.
وأما المشايخ فلم يمنعوا أحدا من هؤلاء من الدعوة إلى الله، بل هذا من الكذب والعدوان، والزور والبهتان، وإن كانوا قد استحسنوا ما فعله الإمام واستصوبوه ورأوا أنه الحق والصواب الذي لا شك فيه ولا ارتياب.
ثم إن الإمام _أعزه الله بطاعته_ اقتضى رأيه بعد مشاورة الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف أن يبعث دعاة إلى كل بلد من هذه البلدان، فبعث إليهم دعاة معلمين من أهل المعرفة يعلمونهم أصل دينهم وأحكام صلاتهم، ويخبرونهم بما وجب عليهم من حق الله تعالى في الإسلام، وبعث _أيضا_ إلى كل قبيلة من الأعراب الذين هم في ولايته دعاة معلمين يصلون بهم، ويعلمونهم أصل دينهم.
وهذا من كمال نصحه وشفقته برعيته فجزاه الله عن الإسلام والمسلمين أحسن الجزاء.
وأما سبّهم المشايخ وثلبهم إياهم وإساءة الظن بهم، وكذلك ما نسبوه إلى ولي الأمر من الأقوال التي تروج على عاقل، ويغتر بها كل مغرور جاهل.
فهذا كله مما (2) يرفع الله به درجة الإمام والمشايخ، وحسابهم على الله، وسيجازيهم بما جازى (3) به المفترين، لأن الإمام والمشايخ لم
(1) في الأصل:"يمنع".
(2)
في الأصل:"ما".
(3)
في الأصل:"جاز".
يمنعوهم إلا خوفا على من دخل في هذا الدين أن يسلكوا مسلك الخوارج، الذين مرقوا من دين الإسلام، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا.
وأما قول بعضهم: ما فعل المشايخ ذلك إلا حسدا منهم للإخوان في دعوتهم:
فنقول: وهذا أيضا من نمط ما قبله من الكذب والزور والبهتان. وقد أعاذ الله المشايخ من هذه الظنون الكاذبة الخاسرة، والأماني الخاطئة الفاجرة، التي لا يظنها إلا رجل مغموص بالنفاق، أو مدخول في قلبه مشغوف بالشقاق، متخلق بمساوئ الأخلاق.
وهل يدور في عقل عاقل أن المشايخ يحسدونهم على ما أحدثوه من البدع والغلو والمجازفة والتجاوز للحد، وكونهم شرعوا في دين الله ما لم يأذن به الله؟ كما هو معلوم مشهور عنهم، لا يجحده إلا مكابر في الحسيات، مباهت في الضروريات، كما قيل:
نجازي بني سعد بسوء فعلنا
جزاء سنمّار وما كان ذا ذنب
وأما قولهم: إن المشايخ داهنوا في دين الله، والإخوان أمروا وأنكروا. فنقول:
ما أشبه الليلة بالبارحة، فلا جرم قد قالها الذين من قبلهم، لما نهاهم أهل الحق عن الغلو في الدين، قالوا لمن نهاهم (1) : يا أعداء الله
(1) القائل هم الخوارج لعلي _رضي الله عنه- وأصحابه، كما تقدم.
قد داهنتم في الدين. وهم يزعمون أنهم ما فعلوا ذلك إلا من أجل أنهم يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، تشابهت قلوبهم.
وأما قولهم: الإخوان علمونا ملة إبراهيم وبينوها، والمشايخ كتموها ودفنوها.
فنقول: أما قولهم: إن الإخوان علمونا ملة إبراهيم، فإن كان حقا فسيجازيهم الله على ذلك، والله عند لسان كل قائل وقلبه، وهو المطلع على نيته وكسبه، لكنهم مع ذلك قد سلكوا بهم مسالك أهل البدع، وتجاوزوا بهم الحد في الأقوال والأفعال، وشرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله، كما قد ذكرنا منه نزرا قليلا مما هو معلوم مشهور عنهم، فإن كان هذا هو ملة إبراهيم فقد أعظموا الفرية على الله، وعلى ملة إبراهيم، وكان الحق والواجب الذي أوجبه الله على المشايخ وعلى غيرهم أن يدفنوا هذه المفتريات والأحداث الكاذبة الخاطئة.
وإن كانوا أرادوا أن المشايخ لا يأمرون بعبادة الله وحده لا شريك له، ولا ينهون عن الشرك، ولا يكفرون من كفر الله ورسوله، أو لا يكفرون من شك في كفرهم، ولا يحبون في الله، ولا يعادون في الله، ولا يبغضون في الله، ولا يوالون فيه، ولا يأمرون بالمعروف، ولا ينهون عن المنكر، وأنهم دفنوا هذا كله، فمن زعم أن هذه طريقة المشايخ وسيرتهم، فقد بهتهم وافترى عليهم، ومن افترى عليهم هذا الكذب، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا، وفضحه على رؤوس الأشهاد {يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} (غافر:52) .
لأن المشايخ _ولله الحمد والمنة_ قد بذلوا الجد والاجتهاد في نشر ملة إبراهيم وتعليمها، والقراءة في أصول الدين: كمثل كتاب "التوحيد"، و"كشف الشبهات"، و"ثلاثة الأصول" وجميع ما اشتملت عليه "مجموعة التوحيد" من رسائل الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وكتب الحديث والفقه، ويقرّرونها ويعلّمون طلبة العلم معانيها، ويفقّهونهم في الدين وفي ملة إبراهيم، وعندهم من طلبة العلم في هذا الزمان أكثر من مائة رجل كلهم يقرؤون في هذه الكتب المذكورة، كما هو معلوم مشهور، ولا ينكره إلا مكابر، فكيف يمكنهم مع هذا أنهم دفنوا ملة إبراهيم، وكيف يتصور وقوع هذا عاقل أو عارف أو مجنون؟ ولا يصغي إلى قول هؤلاء الأغبياء إلا رجل مريض القلب، قد داخله نوع من الحقد والحسد، وأما سليم القلب فيقول عند سماع هذه المفتريات:{مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} (النور: من الآية16) .
ومع هذا كله رتب الإمام والمشايخ أناسا من أهل الحسبة يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ورتبوا في كل بلد من بلدان المسلمين _ولله الحمد والمنة_ من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر. فمتى دفنوا ملة إبراهيم؟ لو أنهم يعلمون، كما قيل:
سلي إن جهلت الناس عنا وعنهموا
فليس سواء عالم وجهول
ثم إني _ولله الحمد والمنة_ كتبت في ذلك ما شاء الله أن أكتب نثرا ونظما، وسأذكر من ذلك شيئا قليلا، ليعلم الجاهل بحالنا وما كنا
عليه نحن ومشايخنا، وأنا لم ندفن ملة إبراهيم، ولم نداهن في نشرها وإظهارها أحدا _ولله المنة في ذلك_ فمن ذلك ما قلته من النظم في أبيات:
فيا أيها الأخ الأكيد إخاؤه
تمسك بأصل الدين سامي الشعائر
وكن باذلا للجد في طلب الهدى
من العلم إن العلم خير الذخائر
وبالعلم ينجو المرء من شرك الردى
ويسمق بالتقوى لشأو المفاخر
ويرسب في قعر الحضيض مجانب
لأسبابه اللاتي سمت بالأطاهر
وما العلم إلا الاتباع وضده
فذاك ابتداع من عضال الكبائر
وتقديمه شرط وقد قيل إنه
لثالث أركان لتوحيد قاهر
وتقديم آراء الرجال وخرصها
عليه ضلال موبق في النهابر
وملة إبراهيم فاسلك سبيلها
فمهيعها المنجي لأهل البصائر
هي العروة الوثقى فكن متمسكا
بجذر عراها عن جهول مقامر
ما الدين إلا الحب والبغض والولا
كذاك البرا من كل طاغ وكافر
ومن ذلك_أيضا_ ما قلته ونحن إذ ذاك في ولاية آل رشيد، لمّا منعونا من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وألا نتكلم في شيء من أمور الدين:
على الدين فليبك ذوو العلم والهدى
فقد طمست أعلامه في العوالم
وقد صار إقبال الورى واحتيالهم
على هذه الدنيا وجمع الدراهم
وإصلاح دنياهم بإفساد دينهم
وتحصيل ملذوذاتهم والمطاعم
يعادون فيها بل يوالون أهلها
سواء لديهم ذو التّقى والجرائم
إذا انتقص الإنسان منها بما عسى
يكون له ذخرا أتى بالعظائم
وأبدى أعاجيبا من الحزن والأسى
على قلة الأنصار من كل حازم
وناح عليها آسفا متظلما
وباح بما في صدره غير كاتم
فأما على الدين الحنيفي والهدى
وملة إبراهيم ذات الدعائم
فليس عليها بعد أن ثلّ عرشها
من الناس من باك وآس ونادم
وقد درست منها المعالم بل عفت
ولم يبق إلا الاسم بين العوالم
فلا آمر بالعرف يعرف بيننا
ولا زاجر عن معضلات الجرائم
وملة إبراهيم غودر نهجها
عفاء فأضحت طامسات المعالم
وقد عدمت فينا وكيف قد سفت
عليها السوافي في جميع الأقالم
وما الدين إلا الحب والبغض والولا
كذاك البرا من كل غاو وآثم
وليس لها من سالك متمسك
بدين النبي الأبطحي ابن هاشم
فلسنا نرى ما حل بالدين وانمحت
به الملة السمحاء إحدى القواصم
فنأسى على التقصير منا ونلتجي
إلى الله في محو الذنوب العظائم
فنشكو إلى الله القلوب التي قست
وران عليها كسب تلك المآثم
ألسنا إذا ما جاءنا متضمّخ
بأوضار أهل الشرك من كل ظالم
نهشّ إليهم بالتحيّة والثّنا
ونهرع في إكرامهم بالولائم
وقد برئ المعصوم من كل مسلم
يقيم بدار الكفر غير مصارم
ولا مظهر للدين بين ذوي الردى
فهل كان منا هجر أهل الجرائم
ولكنّما العقل المعيشيّ عندنا
مسالمة العاصين من كل آثم
فيا محنة الإسلام من كل جاهل
ويا قلة الأنصار من كل عالم
وهذا أوان الصبر إن كنت حازما
على الدين فاصبر صبر أهل العزائم
فمن يتمسّك بالحنيفيّة التي
أتتنا عن المعصوم صفوة آدم
له أجر خمسين امرىء من ذوي الهدى
من الصحب أصحاب النبي الأكارم
فنح وابك واستنصر بربك راغبا
إليه فإن الله أرحم راحم
لينصر هذا الدين بعد ما عفت
معالمه في الأرض بين العوالم
وصلّ على المعصوم والآل كلهم
وأصحابه أهل التقى والمكارم
بعدّ وميض البرق والرّمل والحصا
وما انهلّ ودق من خلال الغمائم
وأما قولهم: ما أطاع الإمام المشائخ إلا لسكوتهم عنه للمآكل والأغراض.
فنقول: وهذا أيضا من جنس ما قبله من الطعن على الإمام وعلى المشايخ بالزور والبهتان، والظلم والعدوان، وظن السوء، وقد ذم الله هذا في كتابه وعلى لسان رسوله، قال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ} (الحجرات: من الآية12) الآية. وقال تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً} (الأحزاب:58)، وعن ابن عمر _رضي الله عنهما_ مرفوعا:" من قال في أخيه ما ليس فيه أسكنه الله ردغة الخبال، حتى يخرج مما قال " قيل: يا رسول الله
وما ردغة الخبال؟ قال:" عصارة أهل النار " رواه أبو داود بسنده (1) .
ولمسلم عن أبي هريرة _رضي الله تعالى عنه_ مرفوعا: " أتدرون ما الغيبة؟ " قالوا: الله ورسوله أعلم، قال:" ذكرك أخاك بما يكره " قيل: أفرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال:" إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته "(2) .
فإذا تحققت هذا فيما قاله هؤلاء في الإمام وفي المشايخ إن كان حقا وصدقا فقد اغتابوهم، وإن لم يكن حقا ولا صدقا فقد بهتوهم، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
وأما قولهم: والمشايخ يرخصون ويبيحون السفر إلى بلاد المشركين.
فالجواب: أن نقول: قد كان من المعلوم عند الخاصة والعامة أن هذا من أعظم الكذب والفرية على مشايخ المسلمين، أنهم يبيحون السفر إلى بلاد المشركين، ومن نقل هذا (3) عنهم فقد أعظم الفرية عليهم.
فإن كان مراد هؤلاء الذين شبهوا على عوام المسلمين بهذه الشبهات أن السفر إلى بلد الأحساء بعد أن أخرج الإمام الدولة الكفار منها مباح، فهذا لا شك فيه، لأنها صارت دار إسلام، بعد أن كانت دار كفر، لجريان أحكام أهل الإسلام على أهلها، والغلبة والظهور فيها لأهل
(1) في"سننه" _كتاب الأقضية: (4/23) وهو حديث صحيح.
(2)
مسلم: (4/2201) _كتاب البر والصلة والآداب من"اصحيحه".
(3)
في الأصل:"ومن هذا نقل عنهم".
الإسلام على من كان فيها ممن ظاهر أهل الكفر من الروافض وغيرهم، كما نص على ذلك العلماء قديما وحديثا.
وإن كان مرادهم أن السفر إلى بلد الأحساء وإلى بلد الكويت (1) مثلا مباح حال ولاية الكفار عليها، وأن المشايخ إذ ذاك يبيحون السفر إليها، فقد كان من المعلوم أن المشايخ من أعظم الناس تحريما لهذا السفر، وأن ذلك عندهم من أكبر الكبائر، ولا يبيحون السفر إليها، إلا (2) لمن كان قادرا على إظهار دينه مع عدم الانبساط إليهم والتلطف لهم. وإظهار الدين عندهم هو التصريح لأعداء الله بالكفر ومبادأتهم بالعداوة والبغضاء، كما قال الله تعالى:{قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} (الممتحنة: من الآية4) .
ثم إنه قد كان من المعلوم عند جميع المسلمين ما جرى بيننا وبين أعدائنا ممن خالفنا، وأباح السفر إلى بلاد المشركين من أهل القصيم: كمثل عبد الله بن عمرو وابن (3) جاسر وأتباعهم في حال ولاية آل رشيد من المخاصمات والمحاورات، ورد الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف عليهم لما كبروا في ذلك برسالة مشهورة بيّن فيها ضلالهم، وأدحض حججهم،
(1) الكويت كانت مستعمرة بريطانية. أما الآن _بحمد الله تعالى- فهي بلد المسلمين. والمؤلف إنما عنى الزّمن القديم. فتنبّه. كما أنه ينصّ _هو وغيره من علماء الدعوة- على أن بلاد نجد قبل زمن الدعوة الإصلاحية بلاد كفر، أما بعد الدعوة فهي بلد المسلمين.
(2)
في الأصل:"لا".
(3)
في الأصل:"بن جاسر".
فأجابه ابن عمرو عليها بجواب لا يقوله من يؤمن بالله واليوم الآخر، ويعلم أنه موقوف بين يديه مسئول عنه، فأجبته على ذلك بنحو من خمسة عشر كراسا، وجواب آخر قدر تسعة كراريس، وأجابهم الشيخ إسحق ابن الشيخ عبد الرحمن بن حسن على مسائل أوردها عليه في هذا المعنى بنحو من ثلاثة كراريس.
فمتى أباح المشايخ السفر إلى بلاد المشركين والحالة هذه وقد كان تحريمه عنهم أشهر من نار على علم؟
وهؤلاء الذين طعنوا على المشايخ بهذه الأكاذيب يعلمون ذلك ولا ينكرونه، ولكن "لهوى النفوس سريرة لا تعلم" ولولا عمى عين الهوى عن الهدى ولبس الحق بالباطل وإرادة الجاه والشرف والترأس على الناس لما لبّسوا على عوام الناس وخفافيش البصائر الذين لا معرفة لهم بمدارك الأحكام، وليس لهم نور يمشون به في غياهب الظلام.
وأما المشايخ _ولله الحمد والمنة_ فقد ساروا على منهاج سلفهم الصالح من علماء المسلمين، وسلكوا على طريقتهم في هذه المباحث.
فمن ذلك ما أفتى به الشيخ سليمان بن عبد الله بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب لما سئل عن السفر إلى بلاد المشركين.
قال السائل: هل يجوز للمسلم أن يسافر إلى بلد الكفار الحربية لأجل التجارة أم لا؟
فأجاب: الحمد لله، إن كان يقدر على إظهار دينه ولا يوالي المشركين جاز له ذلك، فقد سافر بعض الصحابة _رضي الله عنهم_ كأبي
بكر _رضي الله عنه_ وغيره من الصحابة إلى بلدان المشركين، لأجل التجارة، ولم ينكر ذلك النبي صلى الله عليه وسلم كما رواه أحمد في"مسنده" وغيره.
وإن كان لا يقدر على إظهار دينه ولا على عدم موالاتهم لم يجز له السفر إلى ديارهم، كما نص على ذلك العلماء، وعليه تحمل الأحاديث التي تدل على النهي عن ذلك.
ولأن الله تعالى أوجب على الإنسان العمل بالتوحيد، وفرض عليه عداوة المشركين، فما كان ذريعة وسببا إلى إسقاط ذلك لم يجز.
وأيضا قد يجره إلى موافقتهم وإرضائهم، كما هو الواقع كثيرا ممن يسافر إلى بلدان المشركين من فساق المسلمين، نعوذ بالله من ذلك.
المسألة الثانية: هل يجوز للإنسان أن يجلس في بلد الكفار، وشعائر الكفر ظاهرة لأجل التجارة؟
الجواب عن هذه المسألة: هو الجواب عن التي قبلها سواء، ولا فرق في ذلك بين دار الحرب أو دار الصلح، فكل بلد لا يقدر المسلم على إظهار دينه فيها لا يجوز له السفر إليها. انتهى.
ثم لما كان في هذا الزمان إقبال من البادية على الدخول في هذا الدين وسكن كثير منهم في بلدان المسلمين ووفدوا على الإمام في بلد الرياض، سأل كثير منهم المشايخ عن السفر إلى بلد الكويت فأجابوهم بما أفتى به سلفهم الصالح، مما تقدم بيانه قريبا، فمتى أباحوا السفر إلى بلاد المشركين، ومن نقل ذلك عنهم ممن يوثق بنقله؟ والله المستعان.
وأما قولهم: ويسلمون على المسافرين: فنقول: اعلم يا أخي أنّا قد بينا فيما تقدم براءة المشايخ مما نسبه عنهم هؤلاء المفترون من إباحة السفر إلى بلاد المشركين.
وأما السلام على المسافرين فقد بينا في مسألة الهجر، أن ذلك من باب التأديب والتعزير لأهل الذنوب والمعاصي، وأن ذلك مشروع إذا كان فيه مصلحة راجحة على مفسدته، وأما إذا كانت مفسدته أرجح من مصلحته فليس بمشروع. كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية _قدس الله روحه_:
"وهذا الهجر يختلف باختلاف المهاجرين في قوتهم وضعفهم وقلتهم وكثرتهم، فإن المقصود زجر المهجور وتأديبه ورجوع العامة عن مثل حاله، فإن كانت المصلحة في ذلك راجحة بحيث يفضي هجره إلى ضعف الشر وخفيته (1)(كان مشروعا)(2) ، وإن كان لا المهجور ولا غيره يرتدع بذلك بل يزيد الشر، والهاجر ضعيف بحيث تكون مفسدة ذلك راجحة على مصلحته لم يشرع الهجر، بل يكون التأليف لبعض الناس أنفع (من الهجر) ، والهجر لبعض الناس انفع من التأليف، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يتألف أقواما ويهجر آخرين. وقد يكون المؤلفة قلوبهم أشر حالا في الدين من المهجورين، كما أن الثلاثة الذين خلفوا كانوا خيرا من أكثر المؤلفة قلوبهم، لكن أولئك كانوا سادة مطاعين في عشائرهم،
(1) في الأصل:"وخفته".
(2)
ما بين قوسين من"مجموع الفتاوي": (28/206) .
فكانت المصلحة الدينية في تأليف قلوبهم، وهؤلاء كانوا مؤمنين، والمؤمنون سواهم كثيرون. فكان في هجرهم عز الدين وتطهيرهم من ذنوبهم
…
إلى آخر كلامه.
فإذا تحققت هذا فقد هجر المشايخ المسافرين إلى بلاد المشركين مدة طويلة، فلما لم ينجع فيهم الهجر، ولم ينزجروا عن السفر، رأوا أن درأ المفسدة التي تفضي إلى المقاطعة والمدابرة والتباغض والتحاسد والشحناء أرجح من مصلحة الهجر، كما في الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:" لا تقاطعوا، ولا تدابروا، ولا تباغضوا، ولا تحاسدوا، وكونوا عباد الله إخوانا "(1) .
وقال صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي في "السنن": " ألا أنبئكم بأفضل من درجة الصلاة والصيام والصدقة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟ " قالوا: بلى يا رسول الله. قال:" إصلاح ذات البين، فإن فساد ذات البين هي الحالقة، لا أقول: تحلق الشعر، ولكن تحلق الدين "(2) .
(1) البخاري: (10/481)، ومسلم:(4/1985-1986) عن أبي هريرة.
(2)
أخرجه أبو داود في كتاب الأدب من "سننه": (5/218)، والترمذي في كتاب صفة القيامة من"سننه":(4/663) عن أبي الدرداء _رضي الله عنه-، وليس في الحديث:" لا أقول تحلق الشعر
…
" وإنما قال الترمذي بعد حديث أبي الدرداء: هذا حديث صحيح ويروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:" هي الحالقة لا أقول تحلق الشعر ولكن تحلق الدين " ثم أسند هذه الجملة من حديث الزبير بن العوام مرفوعا:" دبّ إليكم داء المم الحسد والبغضاء، هي الحالقة، لا أقول تحلق الشعر
…
" الحديث.
وقال في الحديث الصحيح:"مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر"(1) . انتهى.
فإذا فهمت هذا فاعلم أن للمسلم على المسلم حقوقا في الإسلام، يجب مراعاتها، وله من الذنوب والمعاصي ما يوجب بغضه ومعاداته عليها، فيحب ويوالي ويكرم من وجه، ويبغض ويعادي ويهان من وجه آخر. فإذا اجتمع في الرجل الواحد خير وشر، وبر وفجور، وطاعة ومعصية، وسنة وبدعة، استحق من الموالاة والثواب بقدر ما فيه من الخير، واستحق من المعاداة والعقاب بحسب ما فيه من الشر، فيجتمع في الرجل الواحد موجبا الإكرام والإهانة، فيجتمع له من هذا وهذا، كاللص الفقير تقطع يده لسرقته، ويعطي ما يكفيه من بيت المال لحاجته.
هذا هو الأصل الذي اتفق عليه أهل السنة والجماعة، وخالفهم الخوارج والمعتزلة ومن وافقهم عليه فلم يجعلوا الناس إلا مستحقا للثواب فقط، أو مستحقا للعقاب فقط. وأهل السنة يقولون: "إن الله يعذب بالنار من أهل الكبائر من يعذبه، ثم يخرجهم منها بشفاعة من يأذن له في الشفاعة بفضله ورحمته، كما استفاضت بذلك السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم كما قرر ذلك شيخ الإسلام في مسألة الهجر.
(1) أخرجه مسلم: (4/1999) عن النعمان بن بشير.
فلما عاملنا المسافرين بهذه المعاملة، أخذنا بقول أئمة الإسلام، أنكر هؤلاء الجهال علينا ذلك وطعنوا به، ورأوا أن ذلك من أعظم المنكرات.
ومراد هؤلاء ومرامهم منا أن نسير في المسلمين بسيرة الخوارج والمعتزلة ومن وافقهم، فنأخذ بالشدة والتضييق والحرج على الأمة، وأن لا نرى للمسلم على المسلم حقوقا في الإسلام، وأن نترك ما اتفق عليه أهل السنة والجماعة، فلا نجعل الناس إلا مستحقا للثواب فقط أو مستحقا للعقاب فقط.
ونحن نبرأ إلى الله من هذا المذهب، ونعوذ بالله من الحور بعد الكور، ومن الضلالة بعد الهدى.
والدليل من السنة على أن درأ المفاسد مقدم على جلب المصالح: حديث أبي هريرة المتفق عليه عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: " لقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام، ثم آمر رجلا يصلي بالناس، ثم أنطلق إلى قوم لا يشهدون الصلاة فأحرق عليهم بيوتهم بالنار " فهمّ بتحريق من لم يشهد الصلاة.
في "المسند" وغيره:" لولا ما في البيوت من النساء والذرية لأمرت أن تقام الصلاة " الحديث (1) .
فبين صلى الله عليه وسلم أنه همّ بتحريق البيوت على من لم يشهد الصلاة، وبين أنه إنما منعه من ذلك من فيها من النساء والذرية، فإنهم لا يجب عليهم
(1) البخاري: (2/125)، ومسلم:(1/401) عن أبي هريرة، و"المسند":(2/367) عن أبي هريرة أيضا.
شهود الصلاة، وفي تحريق البيوت قتل ما لا يجوز قتله، كما ذكر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية _قدس الله روحه_.
وكذلك لما استأذنه بعض الصحابة في قتل المنافقين، قال:" لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه "(1) وكذلك لما استؤذن في قتل رجل آخر منهم قال: " إذا ترعد له أنوف كثيرة بيثرب " إلى غير ذلك من الأحاديث التي قدم فيها درء المفاسد على جلب المصالح، كما قرر ذلك علماء أهل السنة والجماعة، والله أعلم.
وأما قول السائل: ويقولون ساكن البادية والنازل منها إلى الحاضرة سواء، فنقول:
وهذا أيضا من الكذب على المشايخ، فإنه لم يقل أحد منهم أن من أسلم من البادية ودخل في هذا الدين ولم يهاجر، كمن هاجر منهم وترك جميع ما كان عليه من أمور الجاهلية وسكن مع الحاضرة: أنهم سواء، بل هذا من أعظم الكذب والافتراء. وقد بينا فضل من هاجر على من لم يهاجر فيما تقدم بما أغنى عن إعادته هنا.
وإنما قال المشايخ لمن سألهم منهم عن حكم من أسلم وتبين له الدين وكان متمكنا من إقامة دينه وإظهاره بين من لم يسلم من الأعراب الساكنين في البادية: أن الهجرة لا تجب عليه، بل هي مستحبة في حقه،
(1) أخرجه البخاري في"صحيحه": (8/648)، ومسلم:(4/1999) من حديث جابر بن عبد الله. وهو جواب النبي صلى الله عليه وسلم لعمر لما قال عن عبد الله بن أبيّ: دعني أضرب عنق هذا المنافق. فقال النبي صلى الله عليه وسلم:" دعه لا يتحدث عن الناس أن محمدا يقتل أصحابه ".
لأنه لا واجب إلا من أوجبه الله ورسوله، ولا حرام إلا ما حرما الله ورسوله، ولا حلال إلا ما أحله الله ورسوله. وقد أوضحنا هذا مفصلا فيما تقدم. والله أعلم.
وأما قول السائل: ويقولون: بروا في آبائكم وأقاربكم الذين ماتوا، واسكتوا وكفوا عنهم.
فالجواب: أن نقول: إن كان مراد هؤلاء الذين يطعنون على المشايخ المسلمين تارة بالظّلم، وتارة بالعدوان والزور والبهتان، وتارة بالجهل وعدم العلم بما كان عليه سلف الأمة وأئمتها وعلماء المسلمين، الذين ساروا على منهاج أهل السنة والجماعة: أن المشايخ يقولون: بروا في آبائكم وأقاربكم الذين ماتوا على الكفر بالله والإشراك به. فهذا كذب على المشايخ، ولم يقل ذلك أحد منهم.
وإن كان مرادهم بآبائهم وأقاربهم الذين ماتوا وظاهرهم الإسلام ولم نذر ما ماتوا؟ فهذا القول من هؤلاء الجهلة قد قاله قبلهم من بهت شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب _قدس الله روحه_ بأنه ينهى أتباعه عن الاستغفار والتضحية لمن ماتوا من آبائهم وأقاربهم ولم يدركوا دعوته، كما ذكر ذلك عثمان بن منصور في المطاعن التي طعن بها على الشيخ محمد بن عبد الوهاب حيث قال:"والويل كل الويل لمن استغفر من أتباعه لوالديه، أو ضحى لهم" فأجابه شيخنا الشيخ عبد اللطيف _رحمه الله_ بقوله:"فهذه القولة الضالة كأخواتها السابقة، فيها من نقض عهده الذي
جعله على نفسه، وفيها من البهت والكذب وطلب العنت للبراء ما يقضي بفسوق القائل. فنعوذ بالله من استحكام الهوى، والضلال بعد الهدى، فمن قال في مؤمن ما ليس فيه حبس في ردغة الخبال حتى يخرج مما قال.
ولا نعلم أن أحدا من أهل العلم والدين نهى عن الاستغفار والتضحية إلا إذا استبان أن الشخص الذي يستغفر له من أصحاب الجحيم، بأن مات يدعو لله ندّا، وهذا نص القرآن، قال تعالى:{مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} (التوبة:113) .
هذا مذهب الشيخ وأهل العلم من أتباعه. وأما التخليط والحكم بالظّنّ (1) والهذيان، فذاك من طوائف الشيطان، يصدهم به عن سبيل العلم والإيمان.
وفي قول المعترض: الذين لم يدركوا دعوته؛ أن من تقادم عهده، وتطاول عصره، داخل في عموم كلامه، وأن الشيخ ينهى عن الاستغفار له. وإطلاق هذا يتناول القرون المفضلة ومن بعدهم، وليس هذا ببدع من كذبه وبهته، وحسابه على الله وأمره إليه، قال تعالى:{إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ} (النحل:105) .
(1) في الأصل:"الظن" والمثبت من"مصباح الظلام" للشيخ عبد اللطيف: ص41، ط دار الهداية.
لي حيلة فيمن ينمّ
وليس في الكذاب حيلة
من كان يخلق ما يقول
فحيلتي فيه قليلة
أين ميثاقه وعهده؟ قال تعالى: {وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ} (لأعراف:102) .
حلفت لنا أن لا تخون عهودنا
فكأنها حلفت (لنا) أن (1) لا تفي
انتهى.
والعهد الذي ذكره شيخنا الشيخ عبد الله عن ابن منصور أنه أخذ على نفسه أن لا ينقل عن الشيخ محمد بن عبد الوهاب إلا ما صح عنده بنقل العدول الأثبات.
إذا عرفت هذا: فالبهت الذي بهتوا به الشيخ _رحمه الله_ إنما هو بمجرد الاستغفار والتضحية لوالديهم الذين لم يدركوا دعوته. وأما هؤلاء فأطلقوا لفظ البرّ وهو أعلم من الاستغفار والتضحية، فيدخل فيه جميع أنواع البرّ.
وأما قولهم: واسكتوا وكفوا عنهم. فالجواب عن ذلك أن نقول: قد تقدم في جواب أولاد الشيخ محمد بن عبد الوهاب عن هذه المسائل ما فيه الكفاية، وفيه: وإن كان لم تقم عليه الحجة فأمره إلى الله تعالى، وأما
(1) في الأصل:"حلفت بأن لا تفي" والتصحيح من "مصباح الظلام": ص41.
سبه ولعنه فلا يجوز، بل لا يجوز سب الأموات مطلقا كما في "صحيح البخاري" عن عائشة _رضي الله عنها_ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" لا تسبوا الأموات، فإنهم قد أفضوا إلى ما قدموا " إلا أن يكون أحد من أئمة الكفر وقد اغتر الناس به فلا بأس بسبه، إذا كان فيه مصلحة دينية. انتهى، والله أعلم.
وأما قول السائل: ويقولون: لبس العمامة، ولابس العقال سواء فالجواب: أن نقول:
نعم قد قال ذلك المشايخ، لأن لبس العمامة من المباحات التي أباحها الله ورسوله، وهي من العادات الطبعية التي اعتاد العرب لبسها في الجاهلية والإسلام، لا من العبادات الشرعية التي شرعها رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنها لأمته، قال الله تعالى:{يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً} (لأعراف: من الآية26)، وقال تعالى:{قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} (لأعراف: من الآية32) .
وأما لبس العقال فهو أيضا من المباحات، ولم يرد في الأمر به والنهي عنه عن العلماء ما يجب تحريمه ولا كراهته، لأن لبسه من العادات الطبعية كغيره من الملابس التي اعتاد الناس لبسها، كالعمامة والرداء والإزار والقميص وغير ذلك من الملابس العادية.
فبهذا الاعتبار يكون لبس العمامة التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه يلبسونها عادة، ولبس العقال الذي يلبسه الناس اليوم من المباحات والعادات، فهما سواء بهذا الاعتبار.
وأما هذه العصائب المحدثة التي يزعم من أحدثها أنها من السنة فهي مكروهة، لأنها غير محنكة، ولا ساترة لجميع الرأس عند جميع العلماء، كما سننبه على ذلك، وقد نبهنا على عدم مشروعيتها عن إعادته ههنا. ونذكر ههنا مالم نذكره فيها من كلام العلماء.
قال السفاريني في "غذاء الألباب" في شرحه لمنظومة الآداب لابن عبد القوي، قال:
وعمّة مخلي (1) حلقه من تحنّك
لدى أحمد مكروهة بتأكّد
لنص _أحمد رضي الله عنه_ على كراهة ذلك، وكذلك الأصحاب، وحكى في "الآداب الكبرى" الخلاف في أن الكراهة هل هي للتحريم أو التنزيه. وقال في"الفروع": وكره أحمد لبس غير المحنكة. ونقل الحسن بن ثواب كراهية شديدة.
وقال شيخ الإسلام: المحكي عن الإمام أحمد الكراهة، والأقرب أنها كراهة لا ترتقي إلى التحريم.
وذكر كلاما طويلا عن كثير من العلماء من أهل المذاهب إلى أن قال: وقد أطنب ابن الحاج في "المدخل" لاستحباب التحنك، ثم قال: وإذا كانت العمامة من باب المباح فلا بد فيها من فعل سنن تتعلق بها،
(1) في الأصل:"مخل" والتصويب من "غذاء الألباب": (2/241) .
من تناولها باليمين والتسمية والذكر الوارد _إن كان ممن يلبس جديدا_ وامتثال السنة في صفة التعميم من فعل التحنيك والعذبة وتصغير العمامة بقدر سبعة أذرع أو نحوها، يخرجون منها التحنك والعذبة، فإن زاد في العمامة قليلا لأجل حر أو برد فيتسامح فيه. إلى آخر ما ذكر _رحمه الله_.
فانظر إلى قوله: وإذا كانت العمامة من باب المباح فلا بد فيها من فعل سنن تتعلق بها، يستبين لك خطأ من زعم أن العمامة سنة سنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن العمامة عند جميع العلماء من باب المباح، لا من باب السنن. والمباح هو الذي لا يثاب فاعله، ولا يعاقب تاركه، وأما السنة فيثاب فاعلها، ولا يعاقب تاركها.
ثم ذكر _رحمه الله_ أنه لا بد فيها من فعل سنن تتعلق بها إلى آخر كلامه، ثم ذكر كلاما طويلا إلى أن قال: العاشر: الاقتعاط _هو بهمزة مكسورة فقاف ساكنة فمثناة فوق مكسورة فعين مهملة فألف فطاء مهملة_ أن يتعمم بغير تحنيك، كما تقدم.
قال ابن الأثير في "نهايته": فيه أي الحديث أنه ينهى عن الاقتعاط، وهو أن يعتم بالعمامة، ولا يجعل منها شيئا تحت ذقنه.
ويقال للعمامة: المِقْعَطَة (1) . وفي "القاموس": اقتعط: تعمّم. ولم يدر تحت الحنك، وكمكنسة العمامة. انتهى.
(1) في الأصل:"المقتعطة" والتصويب من "اللسان": (7/384) .
وقال علماؤنا: العمامة المحنكة: هي التي يدار منها تحت الحنك كور أو كوران _بفتح الكاف_ سواء كان لها ذؤابة أو لا، وهذه عمامة المسلمين على عهده صلى الله عليه وسلم وهي أكثر سترا، ويشق نزعها، فلذلك جاز المسح عليها، والله تعالى أعلم. انتهى.
فهذا ما ورد من الأحاديث وكلام العلماء في هذه العمائم المقتعطة، وهي التي ليس تحت الحنك والذقن منها شيء.
مع انه ليس المقصود بلبس هذه العصائب التي يسمونها العمائم الاقتداء به صلى الله عليه وسلم وأصحابه _رضي الله عنهم_ في هديه في لباسه، وما كان يعتاده هو وأصحابه_رضي الله عنهم_ فإنهم لم يقتدوا به في ذلك، ولو كان هذا هو مقصودهم لاقتدوا به في لبس الرداء والإزار وغير ذلك من لباسه، وجعلوا العمامة محنكة مع الذؤابة.
وإنما مقصودهم الأكبر في إحداث هذه العصائب أن تكون زيّا وشعارا يميز به من دخل منهم في هذا الدين ممن لم يدخل فيه، فمن لبسها كان من الإخوان الداخلين في هذا الدين، ومن لم يلبسها فليس منهم، ويقولون: فلان لبس السنة، وفلان لم يلبسها، فلا تسلموا عليه، كما صرحوا بذلك.
وهذا الزي والشعار الذي أحدثوه في الإسلام، قد أنكره العلماء، فقال شيخ الإسلام ابن تيمية _قدس الله روحه_ في كتابه "الفرقان بين أولياء الرحمن من أولياء الشيطان":
فصل: وليس لأولياء الله شيء يتميزون به عن الناس من الظاهر في
الأمور المباحات، فلا يتميزون بلباس دون لباس إذا كان كلاهما مباحا، ولا بحلق شعر ولا تقصيره أو تضفيره إذا كان مباحا كما قيل: كم صديق في قباء، وكم زنديق في عباء. إلى آخر كلاممه _رحمه الله_. انتهى.
وقال ابن القيم _رحمه الله_ في "مدارج السالكين" لما ذكر حال أولياء الله المتقين قال:"وهم مستترون عن أعين الناس بأسبابهم وصفاتهم ولباسهم، لم يجعلوا لطلبهم وإرادتهم إشارة تشير إليهم: اعرفوني.
فهؤلاء الصادقون، فهؤلاء يكونون مع الناس. والمحجوبون لا يعرفونهم ولا يرفعون بهم رأسهم. ومن سادات أولياء الله صانهم الله عن معرفة الناس لهم لكرامته لهم، لئلا يفتنون بهم. انتهى المقصود منه."
وهؤلاء الجهلة أحدثوا للناس شعارا وزيا يتميزون به عن المسلمين، بخلاف أولياء الله الصالحين، الذين وصف حالهم شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم _رحمهما الله_.
وأما لبس العقال: فهو من اللباس المباح، ولم يتكلم فيه العلماء لا في قديم الزمان ولا حديثه؛ لأنه قد كان من المعلوم أن لباس الصوف من الملابس التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبسها هو وأصحابه. والعقال من الصوف المباح لبسه.
وقد امتن الله بذلك على عباده، وجعله من النعم التي تفضل بها وأنعم بها عليهم، فقال تعالى:{وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثاً وَمَتَاعاً إِلَى حِينٍ} (النحل:80) فقوله:
{وَمِنْ
أَصْوَافِهَا} ، فهي للظأن، {وَأَوْبَارِهَا} هي للإبل، {وَأَشْعَارِهَا} للمعز، {أَثَاثاً} من الفرش والأكسية وغيرها، {وَمَتَاعاً} يتمتعون إلى حين.
فيقال لهؤلاء: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} (الأعراف: من الآية32) فإن قالوا: إنما حرمنا العقال أو كرهنا لبسه، لأنه لم يكن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا عهد أصحابه، ولا لبسه أحد منهم، بل هو من زي الجند وشعارهم. قيل لهم: إذا كان لا يجوز لبس شيء من اللباس إلا ما كان يلبسه صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فهذه الملابس التي يلبسونها من المشالح على اختلاف ألوانها والغتر (الشمغ) وغيرها من شالات الصوف لم يكن الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه يلبسونها، فلأي شيء كانت هذه الملابس المباحة حراما {هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} (البقرة: من الآية111) {هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ} (الأنعام: من الآية148){إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} (يونس: من الآية68) .
ثم إن هذه الملابس من المشالح على اختلاف أنواعها والغتر من الشمغ والصوف من أفخر لباس الجند، الذين كرهتم لبس العقال من أجل مشابهتهم فيه، فهلا تركتم لبس هذه المشالح وهذه الشمغ لأنها من لباسهم وزيهم وشعارهم إن كنتم صادقين.
وكذلك ما كان يعتاده المسلمون مما لم يكن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه من المحاربة بهذه الآلات والصنائع التي حدثت بعده صلى الله عليه وسلم من المدافع والموازر والصمع وغيرها من آلات الحرب، لأنه قد كان من
المعلوم بالضرورة من دين الإسلام أن الملابس والمآكل والمشارب والمراكب وآلات الحرب من العادات الطبيعية لا من العادات الدينية الشرعية. والله أعلم.
وأما قول السائل: ومما يتقاولونه بينهم: ما فعل المشايخ بهم ذلك إلا أنهم مكفرون لهم.
فالجواب أن نقول: وهذا أيضا من أعظم كذبهم وافترائهم على المشايخ، لأنه قد كان من المعلوم أن المبادرة بالتكفير والجراءة على ذلك بغير بينة من الله ولا برهان من طرائق أهل البدع ومذاهبهم. كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية _رحمه الله_: "ومن مثالب أهل البدع تكفير بعضهم لبعض، ومن ممادح أهل العلم أنهم يخطئون ولا يكفرون.
فإذا فهمت هذا وتحققت أن المشايخ لا يكفرون بما دون الكفر من الذنوب والمعاصي؛ تبين لك أن هذه الأمور التي زعموا أن المشايخ منعوهم من فعلها إلا أنهم مكفرون لهم بها، كان من المعلوم أنهم هم الذين يكفرون بها لاعتقادهم أنها كفر، والمشايخ يبرءون إلى الله من هذا المعتقد، لان هذا هو حقيقة مذهب الخوارج الذين يكفرون بما دون الكفر من الذنوب، وإذا كان هذا هو معتقدهم وكان هذا القول الذي بهتوا به المشايخ ثابتا عنهم فلا تسأل عنهم وعن معتقدهم، وهذا عين ما نطقوا به وأظهروه علانية إن كان هذا ثابتا عنهم.
وهذا هو الذي خاف الإمام والمشايخ بمنعهم أن يتجارى بهم هذا الأمر، ويبثوه في عوام البدو الذين ليس عندهم من المعرفة والعلم إلا ما