الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فقال: بارك الله فيك، لقلت: وفيك.
قال في "الآداب الكبرى" فقد ظهر من ذلك الاكتفاء بنحو أصبحت؟ وكيف أمسيت، بدلا من السلام، وأنه يرد على المبتدي بذلك، وإن (1) كان السلام وجوابه أفضل وأكمل. انتهى.
قلت ما ذكره في "الآداب الكبرى" من الاكتفاء: بكيف أصبحت وكيف أمسيت، خطأ لمعارضته لما ثبت في الأحاديث الصحيحة من لفظ السلام، وكل يؤخذ من قوله ويترك، إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد قال الله تعالى:{فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً} (النور: من الآية61) والله أعلم (2) .
(1) في الأصل:"فإن" والتصويب من "غذاء الألباب": (1/289) .
(2)
بل ما قاله في "الآداب الكبرى" هو الصحيح لأن الابتداء بالسلام سنة ليس بواجب، فإن بدأ بالسلام فهو أفضل وأكمل، وإن لم يبدأ به، بل قال: كيف أصبحت
…
ونحو ذلك فلا حرج. والله اعلم.
المسألة الحادية عشر: قول السائل:
ما الرخص المذمومة
المذموم الترخص بها التي قيل فيها من تتبع الرخص تزندق أو كاد. فإن أكثر من لدينا إذا سمع ما لم يدره ولا هو على باله عد ذلك رخصة.
فالجواب أن نقول: الرخص المذمومة التي من ترخص بها تزندق هي ما جاء عن العلماء في بعض المسائل في المعاملات: كالربا وكالأنكحة وغيرها، مما اختلف العلماء فيه: كمن ترخص بقول مالك _رضي الله عنه_ بجواز أكل الكلاب والحشرات وغيرها مما حرم الشرع
أكله، مستدلا بقوله تعالى:{قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} (الأنعام: من الآية145) الآية. فمن ترخص بقول مالك في أكل ما عدا هذه المحرمات المذكورات في بعض الآية فقد أخطأ.
وقال بعض العلماء: إنه يجوز للرجل أن يتزوج من النساء تسعا لقوله: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} (النساء: من الآية3) .
وقول بعضهم: إذا وجبت الزكاة أن للرجل أن يهب ماشيته أو نقوده قبل أن يحل وقت الزكاة بشهر أو شهرين لزوجه أو بعض أقاربه لئلا تجب فيها الزكاة، فإذا ذهبت وقت إخراجها استرجع ماشيته أو نقوده، وهكذا أبدا يفعل عند وجوب الزكاة.
وكما ترخص بعض الحنفية بقول أبي حنيفة بعدم وجوب الطمأنينة في الصلاة مستدلا من قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} (الحج: من الآية77) .
ونظيره دعواهم أن الإيمان واحد والناس فيه سواء، وهو مجرد التصديق، وليست الأعمال داخلة في ماهيته، وإن مات ولم يصل قط في عمره مع قدرته وصحة جسمه وفراغه فهو مؤمن، إلى غير ذلك مما لا يحصى ولا يستقصى مما رخص فيه بعض العلماء بقول متبوعهم.
فإذا أردت مسألة في أمر أو نهي أو معاملة وقد اختلف العلماء فيها بين مانع من ذلك ومرخص في هذه المسألة ومستنده في ذلك حديث ضعيف أو قياس فاسد أو استحسان أو احتياط يخالف ما أصّله العلماء
من أهل المذاهب الأربعة وغيرهم، فمن ترخص بها ليس عليه دليل شرعي من أقوال من ذكرنا من العلماء في أي مسألة كانت من الفروع.
ومع من خالفه في النهي عنها الحق والصواب؛ فقد أخطأ لمخالفته ما جاء عن الرسول صلى الله عليه وسلم أو عن أصحابه أو التابعين لهم بإحسان أو من بعدهم من الأئمة المهتدين.
فمن أخذ بشيء من هذه المسائل التي رخّص فيها بعض العلماء من غير دليل شرعي، وقصده في ذلك اتباع ما يهواه، لا ما يحبه الله ويرضاه فقد تزندق، لما في ذلك من المسائل التي جاءت الرخصة فيها عن الشارع _عليه الصلاة والسلام_ فالأخذ برخصة الله في ذلك هو الأحب إلى الله تعالى، كما جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:" إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تجتنب مناهيه "(1) أو كما قال.
وإن كان المراد بالترخص ما ظنه بعض الجهال من العوام أو من أفتاهم به من هؤلاء المتعالمين الجهال، الذين لا معرفة لهم بمدارك الأحكام، وليس لهم اطلاع على كلام الأئمة الأعلام، وإنما يقولوون بأهوائهم أو يظنونه باستحسان عقولهم في العقائد في مسائل التكفير التي ذهب الخوارج وغيرهم من أهل البدع من التشديد فيها والتضييق والحرج وعدم التيسير والتسهيل، مما لم يرد فيه نص من الكتاب والسنة وإجماع الصحابة ومن بعدهم من الأئمة المهتدين من المكفرات التي تخرج من الملة.
(1) أخرجه أحمد في "المسند": (2/108) عن ابن عمر.
فأما ما لم يخرج من الملة كارتكاب ما حرمه الله من الذنوب والمعاصي كالظلم والفسق والكذب وقول الزور وغير ذلك مما كفّر به الخوارج وغيرهم من أهل البدع، كالمسائل التي أجبنا عنها أولا، فمن زعم أن ما أجمع عليه الصحابة والتابعون والأئمة المهتدون هو الترخص المذموم الذي من فعله فقد تزندق فقد أعظم الفرية على الله ورسوله وعلى ما أجمع عليه الصحابة والتابعون والأئمة المهتدون، وأن ما قاله هؤلاء المتعالمون الحيارى المفتونون، والناقصون المنقوصون، هو الحق والصواب لأن فيه تضييقا وحرجا على الأئمة فقد غلا وتجاوز الحد واتبع غير سبيل المؤمنين _فإن سبيل المؤمنين هو ما كان عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كما قال عبد الله بن مسعود _رضي الله عنه_: من كان منكم مستنا فليستن بمن قد مات، فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة، أولئك أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أبر هذه الأمة قلوبا وأعمقها علما وأقلها تكلفا، قوم اختارهم الله لصحبة نبيه، ولإظهار دينه، فخذوا بهديهم، واعرفوا لهم فضلهم، فإنهم كانوا على الصراط المستقيم، وكذلك ما كان عليه التابعون ومن بعدهم من الأئمة المهتدين.
ومن سلك سبيل المؤمنين الذي من سلكه كان على الصراط المستقيم ما ذكره الإمام أبو الفرج عبد الرحمن بن رجب _رحمه الله_ في كتابه "المحجة في سير الدلجة" حيث قال _رحمه الله تعالى_:"الثاني أن أحب الأعمال إلى الله ما كان على وجه السداد والاقتصاد والتيسير، دون ما كان على وجه التكلف والاجتهاد والتعسير، كما قال
تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} (الحج: من الآية78) كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول:" يسروا ولا تعسروا، إنما بعثتم ميسرين، ولم تبعثوا معسرين ".
وفي "المسند" عن ابن عباس _رضي الله عنهما_ قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أي الأعمال أحب إلى الله؟ قال:" الحنيفية السمحة "(1) .
وفيه _أيضا_ عن محجن بن الأدرع أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل المسجد فرأى رجلا قائما يصلي فقال:" أتراه صادقا؟ " فقيل: يا نبي الله هذا فلان من أحسن أهل المدينة أو من أكثر أهل المدينة صلاة. فقال:" لا تسمعه فتهلكه _مرتين أو ثلاثا_ إنكم أمة أريد بكم اليسر ". وفي رواية أخرى له قال:" إن خير دينكم أيسره ". وفي رواية أخرى له: " لن تنالوا هذا الأمر بالمغالبة "(2) . وخرج حميد بن زنجوية وزاد، فقال:" واكلفوا من العمل ما تطيقون، فإن الله لا يمل حتى تملوا، الغدوة والروحة وشيء من الدلجة ". وفي "المسند"(3) عن بريدة، قال: خرجت فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يمشي فلحقته فإذا نحن بين يدي رجل يصلي يكثر الركوع والسجود. قال:" أتراه يرائي؟ " قلت: الله ورسوله أعلم. قال: من ليده من يدي فجعل يصوبهما ويقول:" عليكم هديا قاصدا. عليكم هديا قاصدا. عليكم هديا قاصدا. فإنه من شاد هذا الدين يغلبه ". وقد روي من وجه آخر مرسل، وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" إن هذا آخذ بالعسر، ولم يأخذ
(1)"المسند": (1/236)
(2)
"المسند": (4/338) ، (5/32) .
(3)
(5/350-361) .
باليسر "، ثم دفع في صدره فخرج من المسجد ولم ير فيه بعد ذلك. إلى آخر كلامه.
فهذا ما اخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأحاديث التي تقدم ذكرها، وفيها أن أحب الأعمال إلى الله ما كان على وجه السداد والاقتصاد والتيسير، دون ما كان على وجه التكلف والاجتهاد والتعسير، كما قال تعالى:{وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} (الحج: من الآية78) ، وأخبر صلى الله عليه وسلم فيما أن أحب الأديان إلى الله _عز وجل_ الحنيفية السمحة، واخبر فيها أن من شاد هذا الدين يغلبه. إلى آخر ما ذكر فيها من المر بالتيسير وترك التعسير والتكلف والحرج.
فهذا هديه صلى الله عليه وسلم وهدي أصحابه وهدي من سلك سبيلهم من المؤمنين. فمن سلك سبيل المؤمنين سلم ونجا، ومن ترك سبيلهم زاغ وهلك. فإذا تبين لك هذا عرفت أنه هو الحق، وماذا بعد الحق إلا الضلال؟ قال الله تعالى:{وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً} (النساء:115) فمن بلغته هذه الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم زعم أن الأخذ بها من باب الترخص، ومن أخذ بالترخص فقد تزندق، فقد أعظم الفرية على الله، وسلك غير سبيل المؤمنين.
قال _رحمه الله تعالى_: وقوله صلى الله عليه وسلم:" القصد القصد تبلغوا " حثّ على الاقتصاد في العبادة والتوسط فيها بين الغلو والتقصير، وكذلك كرره مرة بعد مرة.
وفي مسند البزار من حديث حذيفة _رضي الله عنه_ مرفوعا:"ما أحسن القصد في الفقر، وما أحسن القصد في الغنى، وما أحسن القصد في العبادة"(1) .
وكان لمطرف بن عبد الله بن الشخير ابن قد اجتهد في العبادة فقال له أبوه: خير الأمور أوسطها: الحسنة بين السيئتين، وشر السير الحقحقة. قال أبو عبيد: يعني: أن الغلو في العبادة سيئة، والتقصير سيئة، والاقتصاد بينهما حسنة. قال: والحقحقة: أن يلح في السير، حتى تقوم عليه راحلته وتعطب، فيبقى منقطعا به سفره". انتهى.
ويشهد لهذا المعنى الحديث عن عبد الله بن عمر مرفوعا: " إن هذا الدين متين فأوغل فيه برفق، ولا تبغّض إلى نفسك عبادة الله، فإن المنبتّ لا سفرا قطع ولا ظهرا أبقى، فاعمل عمل امرئ يظن أنه لن يموت إلا هرما، واحذر حذر امرئ يحذر أن يموت غدا " أخرجه حميد بن زنجوية وغيره إلى آخر كلامه _رحمه الله تعالى_.
فمن تحقق هذا، وتأمله حق التأمل، ثم رأى بعد ذلك أن طريقة أهل البدع والأهواء من الخوارج والمعتزلة وغيرهم ممن تشدد في هذا الدين، وغلا فيه، وتكلف باجتهاده ورأيه، وسلك طريقة التعسير والتضييق والعنت والحرج، وظن أنها أهدى وأفضل من هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وأنها أحسن وأكمل، فقد قام به ناقض من نواقض الإسلام العشرة التي ذكرها الشيخ محمد بن عبد الوهاب _رحمه الله تعالى_ وليبك
(1)"مسند البزار": (7/349) .
على نفسه، ويجدد إسلامه، فإنه وقع في أمر عظيم، وخطب جسيم.
وهذا ما تيسر من الجواب على سبيل الإختصار والاقتصاد، والله يقول الحق، وهو يهدي السبيل، وحسبنا الله ونعم الوكيل، والحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا هدانا الله، وصلى الله وسلم على أشرف المرسلين وإمام المتقين، نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين (1) .
(1) كان الفراغ من تحقيق هذا الكتاب في 3/6/1416هـ.