الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وهكذا ينبغي لكل داعية إلى اللَّه أن يظهر من عمله ما يصدق قوله، رغبة فيما عند اللَّه والدار الآخرة، وبذلك يفتح اللَّه له قلوب العباد وأسماعهم، وتظهر دعوته إلى اللَّه، ويظهر أثرها، وأثر إخلاص صاحبها مع اللَّه عز وجل.
4 - مناظراته الحكيمة:
من مواقفه الحكيمة مناظراته التي غلب فيها خصومه وأعجزهم، وانقادوا له طوعاً أو كرهاً، فقد كان شيخ الإسلام على عقيدة السلف الصالح، ويعض على هذه العقيدة بالنواجذ، ويبذل جهده ووقته، وفكره في إرجاع جميع الطوائف المنحرفة إلى هذه العقيدة، ويرى رأي إمام دار الهجرة مالك بن أنس من أنه لا يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها، وهو رأي كل حكيم عليم بداء الأمة ودوائها قديماً وحديثاً.
وكان الشيخ رضي الله عنه شديد الانتصار لمذهب السلف والدفاع عنه بالحجج النقلية والعقلية، وقد عقدت له مناظرات في مصر والشام، وكان معظمها يحوم حول هذه القضية (1)، ومن هذه المناظرات على سبيل المثال لا الحصر، ما يأتي:
(أ) المناظرة الأولى: في العقيدة الواسطية
التي كتبها لرضى الدين الواسطي، من أصحاب الشافعي، حينما طلب منه بإلحاح أن يكتب
(1) انظر: حياة شيخ الإسلام ابن تيمية، لمحمد بهجة البيطار، ص27.
له عقيدة تكون عمدة له ولأهل بيته في مدينة واسط، فكتبها الشيخ، وانتشرت بين الناس، مما أدى إلى ثورة كثير من علماء الجهمية والاتحادية والرافضة، وغيرهم من ذوي الأحقاد، فسعى هؤلاء إلى السلطان في البلاد المصرية، فكتب السلطان إلى نائبه على بلاد الشام يأمره بجمع قُضاة المذاهب الأربعة، وغيرهم من نوابهم، والمفتين، والمشايخ، وعندما وصل الكتاب إلى أمير الشام جمع قضاة المذاهب الأربعة والعلماء، والشيخ تقي الدين في قصر الولاية بدمشق، وذلك يوم الاثنين الثامن من رجب سنة 705هـ، ثم بدأ المجلس وقراءة العقيدة الواسطية من أولها، ومناقشة الشيخ ومناظرته بحضور الأمير، فناظرهم الشيخ، ورد عليهم، وبيَّن لهم مذهب السلف الصالح، وأن هذه العقيدة هي عقيدة أهل السنة والجماعة، وهي التي يدل عليها الكتاب والسنة وإجماع السلف، وصار يُناظر أصحاب المذاهب، فكان أعلم بمذاهبهم منهم، وأعجزهم أمام الأمير، ثم انتهى المجلس الأول.
واجتمعوا للمجلس الثاني يوم الجمعة بعد الصلاة الثاني عشر من رجب سنة 705هـ، وقد أحضر قُضاة المذاهب الأربعة، معهم صفي الدين الهندي، وتكلم مع الشيخ تقي الدين كلاماً كثيراً، ولكن ساقيته لاطمت بحراً عميقاً، ثم استلم من ناظره عقبه، فكان كالبحر الزاخر، حتى إن هؤلاء القضاة والعلماء عجزوا عن مناظرته؛ لأنه كان يرد عليهم بالكتاب والسنة والآثار عن السلف الصالح، وكان
يلزمهم بالكتاب والسنة، ويدعوهم إلى التمسك بمذهب السلف الصالح، ويبين لهم أنه لم يضع هذه العقيدة من ذات نفسه، وليس لأحد أن يُشرِّع للناس ما لم يأذن به اللَّه، وإنما العقيدة تؤخذ من كتاب اللَّه، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وإجماع سلف هذه الأمة، فما أثبته اللَّه لنفسه أو أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم وجب على كل مسلم أن يُثبته للَّه من غير تحريف ولا تعطيل ولا تمثيل ولا تكييف، وما نفاه عن نفسه، أو نفاه عنه رسوله صلى الله عليه وسلم وجب نفيه عنه، لأنه تعالى أعلم بنفسه.
وانتهى هذا المجلس بعجز المجلس أمام الأمير عن ابن تيمية، فخرج الشيخ والناس يحملون له الشمع إلى منزله على عادتهم في ذلك.
ثم عُقد المجلس الثالث في اليوم السابع من شعبان سنة 705هـفي القصر، واجتمع الجماعة كلهم على الرضى بالعقيدة الواسطية، وأخذ بعضهم يمدح الشيخ ويُثني عليه، وكان هذا كله أمام رئيس المجلس نائب السلطان (1).
فأظهر اللَّه الحق، وأبطل الباطل، وظهرت حكمة ابن تيمية أمام الجميع، فجزاه اللَّه خير الجزاء.
(1) انظر المناظرة مطولة بالتفصيل في مجموع فتاوى شيخ الإسلام، 3/ 160 - 201، وحياة ابن تيمية، لمحمد بهجة البيطار، ص27، والبداية والنهاية - بألفاظ مختصر ومفيدة -، 14/ 36، 37.