الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الأول: مواقف الإمام منذر بن سعيد البلُّوطي:
منذر بن سعيد (1) البلُّوطي له مواقف حكيمة في دعوته إلى اللَّه - تعالى - تدلُّ على حكمته، وفضله، وأنه لا تأخذه في اللَّه لومة لائم، ومن هذه المواقف الحكيمة على سبيل المثال ما يأتي:
1 - موقفه الحكيم مع سلطان الأندلس:
دخل المنذر بن سعيد يوماً على الناصر لدين اللَّه (2) وقد فرغ من
(1) هو: منذر بن سعيد بن عبد الله بن عبد الرحمن النفزي القربطي، أبو الحاكم البلوطي، قاضي قضاة الأندلس في عصره، كان إماماً عالماً فصيحاً، خطيباً بليغاً مفوهاً، شاعراً أديباً، فقيهاً محققاً، كثير الفضل، جامعاً لصنوف من الخير والتقوى والزهد، ولم تحفظ عليه قضية جور مدة ولايته، وله كتب في القرآن والسنة على أهل الأهواء، وله اختيارات، ومن تصانيفه: كتاب (الإنباه عن الأحكام من كتاب الله)، وكتاب (الإبانة عن حقائق أصول الديانة)، واستسقى غير مرة، فأنزل الله المطر، وخطب يوماً فأعجبته نفسه، فقال: <حتى متى أعظ ولا أتعظ، وأزجر ولا أزدجر، أدل على الطريق المستدلين، وأبقى مقيماً مع الحائرين، كلا إن هذا لهو البلاء المبين. اللهم فرغبني لما خلقتني له، ولا تشغلني بما تكفلت لي به>، وذكر أنه ولد رضي الله عنه سنة 265 هـ، وقد توفي انسلاخ ذي الحجة، سنة 355هـ. انظر: سير أعلام النبلاء، 16/ 173 - 178، والبداية والنهاية، 11/ 288، وشذرات الذهب في أخبار من ذهب، لعبد الحي بن العماد الحنبلي، 3/ 17، والكامل في التاريخ لابن الأثير، 7/ 82، والأعلام لخير الدين الزركلي، 7/ 294، وتاريخ العلماء والرواة للعلم بالأندلس، لعبد الله بن محمد الأزدي ابن الفارض، 2/ 142.
(2)
سلطان الأندلس عبد الرحمن بن محمد المدعو: أمير المؤمنين الناصر لدين الله، قام بغزوات عديدة، وفتح سبعين حصناً، وتوفي، في رمضان 350هـ، انظر: سير أعلام النبلاء، 8/ 265، 15/ 562.
بناء المدينة الزهراء وقصورها، حيث ساق إليها أنهاراً، نقب لها الجبل، وأنشأها مدوَّرةً، وعدة أبراجها ثلاث مئة بُرج، شرفاتها من حجر واحد، وقسَّمها أثلاثاً: فالثلث المسند إلى الجبل قصورهُ، والثلث الثاني دور المماليك والخدم، والثلث الثالث بساتين تحت القصور. وعمل مجلساً مُشرفاً على البساتين، صَفّح عُمُدَه بالذهب، ورصَّعه بالياقوت، واللؤلؤ، وفرشه بمنقوش الرخام، وصنع قدَّامه بحرةً مستديرة ملأها زئبقاً، فكان النور ينعكس منه إلى المجلس، وقعد في هذه القبة المزخرفة بالذهب والبناء البديع الذي لم يُسبق إليه، وجلس عنده جماعة من الأعيان رؤوس دولته وأمراؤه، فقال لهم: هل بلغكم أن أحداً بنى مثل هذا البناء؟ فقال له الجماعة: لم نرَ ولم نسمع بمثله، وجعل جميع من حضر يثنون على ذلك البناء ويمدحونه وأثنوا وبالغوا، ومنذر بن سعيد القاضي ساكت مطرق لا يتكلم. فالتفت إليه الملك وقال: ما تقول أنت يا أبا الحكم؟ فبكى القاضي وانحدرت دموعه على لحيته، وقال: واللَّه ما كنت أظن يا أمير المؤمنين أن الشيطان أخزاه اللَّه يبلغ منك هذا المبلغ المهلك لصاحبه في الدنيا والآخرة، ولا أنك تمكنه من قيادك هذا التمكين مع ما آتاك اللَّه وفضلك به على كثير من الناس، حتى أنزلك منازل الكافرين والفاسقين. فقال له الخليفة: انظر ما تقول وكيف أنزلني منازل الكافرين؟ فقال: قال اللَّه - تعالى -: {وَلَوْلا أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِّن فَضَّةٍ
وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ * وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِؤُونَ * وَزُخْرُفًا وَإِن كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالآخِرَةُ عِندَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ} (1). فنكس الناصر رأسه طويلاً، وبكى، ثم قال: جزاك اللَّه عنا خيراً وعن المسلمين، وأكثر في المسلمين مثلك، الذي قلت هو الحق. ثم قام عن المجلس وأمر بنقض سقف القبة، ونزع الذهب والجواهر (2).
اللَّه أبكر، ما أحكمه من موقف! نُزِعَ بسببه الذهب والجواهر، وغُيّر به المنكر، وتأثر به الخليفة!
وقد خطب منذر بن سعيد خطبة عظيمة في يوم الجمعة عندما حضر الناصر في جامع الزهراء (3)، فأدخل في خطبته قوله – تعالى -:{أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ، وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ، وَإِذَا بَطَشْتُم بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ، فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ، وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُم بِمَا تَعْلَمُونَ، أَمَدَّكُم بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ، وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ، إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} (4). واسترسل يقول: ولا تقولوا: {سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُن مِّنَ الْوَاعِظِينَ، إِنْ هَذَا إِلاّ خُلُقُ الأَوَّلِينَ، وَمَا
(1) سورة الزخرف، الآيات: 33 – 35.
(2)
انظر: الكامل لابن الأثير، 7/ 82، والبداية والنهاية، 11/ 288، وسير أعلام النبلاء، 8/ 267 - 268 و16/ 177.
(3)
انظر: سير أعلام النبلاء، 16/ 177.
(4)
سورة الشعراء، الآيات: 128 – 135.