المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المطلب الثاني: مع التأويل في سورة الكهف - التفسير والتأويل في القرآن

[صلاح الخالدي]

فهرس الكتاب

- ‌المقدمة

- ‌تمهيدالتفسير الموضوعي ألوانه، وخطوات السّير فيه

- ‌التفسير الموضوعي

- ‌ألوان التفسير الموضوعي الثلاثة:

- ‌خطوات السير في التفسير الموضوعي:

- ‌البدء بالتفسير والتأويل في القرآن:

- ‌الفصل الأولالتفسير والتأويل في اللغة والاصطلاح

- ‌المبحث الأول:‌‌ التفسير في اللغةوالاصطلاح

- ‌ التفسير في اللغة

- ‌بين الفسر والسّفر:

- ‌تعريف «تفسير القرآن»

- ‌المبحث الثاني:‌‌ التأويل في اللغةوالاصطلاح

- ‌ التأويل في اللغة

- ‌بين الأول والوأل:

- ‌التأويل في الاصطلاح:

- ‌معنيان للتأويل عند السلف:

- ‌الفرق بين هذين المعنيين:

- ‌الفصل الثانيالتفسير والتأويل في الأسلوب القرآني

- ‌المبحث الأوّل: التفسير في الأسلوب القرآني

- ‌المبحث الثاني: التأويل في الأسلوب القرآني

- ‌المطلب الأول: مع التأويل في سورة يوسف

- ‌المطلب الثاني: مع التأويل في سورة الكهف

- ‌المطلب الثالث: مع التأويل في سورة الأعراف

- ‌المطلب الرابع: مع التأويل في سورة يونس

- ‌المطلب الخامس: مع التأويل في سورة الإسراء

- ‌المطلب السادس: مع التأويل في سورة النساء

- ‌المطلب السابع: مع التأويل في سورة آل عمران

- ‌الفصل الثالثالتأويل في كلام الرسول وأصحابه

- ‌المبحث الأوّل: التأويل في الحديث النبوي

- ‌المطلب الأول: تأويل الرؤيا وتعبيرها

- ‌المطلب الثاني: التأويل بمعنى الفهم والتفسير

- ‌المطلب الثالث: كيف كان رسول الله يتأول القرآن

- ‌المبحث الثاني: كيف كان الصّحابة يتأوّلون القرآن

- ‌الفصل الرابعالفرق بين التفسير والتأويل

- ‌الفرق بين التفسير والتأويل:

- ‌أشهر الأقوال في الفرق بين التفسير والتأويل:

- ‌الراجح في الفرق بين التفسير والتأويل:

- ‌المرحلة الأولي تفسير القرآن:

- ‌المرحلة الثانية تأويل القرآن:

- ‌وجوب تحقق التفسير والتأويل معا:

- ‌الدليل على هذه المرحلية:

- ‌مع فهم الطبري للتأويل:

- ‌التأويل بمعنى الصرف والتحويل:

- ‌الخاتمة

الفصل: ‌المطلب الثاني: مع التأويل في سورة الكهف

‌المطلب الثاني: مع التأويل في سورة الكهف

ورد التأويل مرتين في سورة الكهف، في قصة موسي مع الخضر عليهما السلام.

فلما قابل موسي الخضر عليهما السلام، طلب منه أن يصحبه ليتعلم منه، فأخبره الخضر أنه لن يصبر علي الرحلة معه، ولن يسكت علي ما سيشاهد من أعمال يعملها الخضر، لأن ظاهرها يدعو إلي رفضها وإنكارها، وموسي لا يعلم حقيقتها ولا خبرها، فوعد موسي أن يصبر ويطيع الخضر، فاشترط الخضر عليه أن لا يسأله عن شيء، وأن لا يعترض علي ما سيري، وأن ينتظر ما سيبينه الخضر له.

فاتفقا علي ذلك، وانطلقا في الرحلة! سارا علي شاطئ البحر، وأرادا ركوبه، فمرت بهما سفينة، فعرف أصحاب السفينة الخضر، فأكرموهما، وأركبوهما دون أجرة. فلما ركبا السفينة، أخذ الخضر لوحا خشبيا منها فقلعه، وخرق السفينة. فاعترض عليه موسي، وقال له: إنهم أكرمونا وأركبونا بغير أجرة، أهكذا تكافؤهم وتجازيهم؟! إنك بخرقها ستغرق أهلها، وإنّ ما فعلته شيء كبير فظيع! أمام اعتراض موسي علي فعل الخضر، ذكّره بشرطه عليه، وإخباره أنه لن يستطيع الصبر معه، ولا السكوت علي أعماله، فاعتذر موسي عن اعتراضه، واعتبره من باب النسيان! وسارا في الطريق، ولقيا غلمانا يلعبون، فتوجه الخضر إلي أحدهم، فاقتلع رأسه بيده وقتله! فاستغرب موسي، وتساءل: ما ذنب هذا الغلام الصغير؟ واعترض علي الخضر قائلا: أقتلت نفسا زكية بغير نفس؟ لقد

ص: 60

فعلت أمرا يدعو إلي الإنكار. فذكّره الخضر بعهده معه، عند ذلك أخبره موسي أنه إن اعترض علي فعله بعدها فلا يصاحبه.

وسارا معا، حتى أتيا قرية، أهلها بخلاء، فطلبا منهم الطعام، فأبوا أن يطعموهما أو يضيفوهما. ورأي الخضر في القرية جدارا علي وشك السقوط، فأصلحه وأقامه وثبّته.

فاعترض عليه موسي بأنّ القوم لا يستحقون التكريم والخدمة لبخلهم، والأولي أن يأخذ منهم أجرة مقابل إصلاحه الجدار.

وبعد هذه الاعتراضات من موسي علي أعماله الثلاثة، أنهي الخضر الرحلة، وقال له: هذا فراق بيني وبينك.

ولم يشأ الخضر أن يبقي موسي في حيرته ودهشته من الأعمال الثلاثة، التي لم يصبر موسي عليها، فاعترض علي الخضر في فعلها.

فأوّل الخضر لموسي أعماله الثلاثة، وأراه حقيقتها والحكمة منها، وردّ له صورتها الظاهرية التي اعترض عليها موسي إلي باطنها الحقيقي الخفي، الذي لا يدعو إلي الاعتراض والإنكار.

فخرق السفينة في ظاهره مرفوض يدعو للإنكار، لكنّ حقيقته تدعوني إلي فعله، فأنا ما خرقتها لأغرق أهلها، إنما خرقتها لأحميها من المصادرة والغصب، إنّ أصحابها مساكين محتاجون لا يملكون غيرها، وكان أمامهم ملك ظالم مغتصب، يصادر ويستولي علي كل سفينة سالمة، فأردت بهذا الخرق نجاة السفينة من المصادرة، لأنه سيراها معيبة مخروقة! هذه حقيقة فعلي، وهذا هو تأويله!!.

وقتل الغلام في ظاهره مرفوض يدعو للإنكار، لكن حقيقته تدعوني إلي فعله، إنه صغير نعم، ولكنه عند ما يكبر سيكون كافرا، وسيتعب ويرهق أبويه المؤمنين، فقتلته لأريح أبويه، وإنّ الله سوف يعوضهما عنه، ويرزقهما بغلام أفضل وأبر منه! هذه حقيقة فعلي! وهذا هو تأويله!!.

ص: 61

وبناء الجدار مجانا للقوم البخلاء، في ظاهره مرفوض، يدعو للإنكار، لكنّ حقيقته تدعوني إلي فعله. إن الجدار لغلامين يتيمين في المدينة، وكان أبوهما صالحا، وقد أخفي لهما كنزا تحت الجدار قبل موته، فلو تركت الجدار يسقط وينهار، لظهر كنز الغلامين، ولاستولي عليه أهل المدينة، فبنيته إلي أن يكبر الغلامان، ويبلغا أشدهما، ويستخرجا كنزهما. هذه حقيقة فعلي! هذا هو تأويله!! إنّ الله هو الذي أعلمني بحقيقة الأعمال الثلاثة، تلك الحقيقة التي خفيت عليك، فبقيت أنت عند ظاهر هذه الأعمال، أما أنا فلاحظت حقيقتها، وحملتها عليها.

وبهذا التأويل من الخضر لأعماله الثلاثة، وكشفه عن حقيقتها، عرف موسي- وعرفنا معه- أنّ الخضر كان علي صواب فيما فعل، وأنّ أفعاله الثلاثة لا تدعو إلي الاعتراض أو الإنكار!!

نصّ الآيات:

نتدبّر الآيات التي عرضت قصة موسي مع الخضر عليهما السلام، لنعرف موقع التأويل فيها:

قال تعالى: وإِذْ قالَ مُوسي لِفَتاهُ: لا أَبْرَحُ حَتَّي أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ، أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً. فَلَمَّا بَلَغا مَجْمَعَ بَيْنِهِما نَسِيا حُوتَهُما، فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً. فَلَمَّا جاوَزا قالَ لِفَتاهُ: آتِنا غَداءَنا، لَقَدْ لَقِينا مِنْ سَفَرِنا هذا نَصَباً. قالَ: أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنا إِلَي الصَّخْرَةِ، فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ، وما أَنْسانِيهُ إِلَّا الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ، واتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً. قالَ: ذلِكَ ما كُنَّا نَبْغِ، فَارْتَدَّا عَلي آثارِهِما قَصَصاً. فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا، آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا، وعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً.

ص: 62

قالَ لَهُ مُوسي: هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلي أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً؟ قالَ: إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً. وكَيْفَ تَصْبِرُ عَلي ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً؟ قالَ: سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ صابِراً، ولا أَعْصِي لَكَ أَمْراً. قالَ: فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْءٍ، حَتَّي أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً. فَانْطَلَقا. حَتَّي إِذا رَكِبا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَها! قالَ: أَخَرَقْتَها لِتُغْرِقَ أَهْلَها؟ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً! قالَ: أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً؟ قالَ: لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ، ولا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً. فَانْطَلَقا، حَتَّي إِذا لَقِيا غُلاماً فَقَتَلَهُ!! قالَ: أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ؟ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً. قالَ: أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً. قالَ: إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها فَلا تُصاحِبْنِي. قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً. فَانْطَلَقا. حَتَّي إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَما أَهْلَها، فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُما، فَوَجَدا فِيها جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ، فَأَقامَهُ. قالَ: لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً. قالَ: هذا فِراقُ بَيْنِي وبَيْنِكَ! سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً. أَمَّا السَّفِينَةُ: فَكانَتْ لِمَساكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ، فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها، وكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً! وأَمَّا الْغُلامُ: فَكانَ أَبَواهُ مُؤْمِنَيْنِ: فَخَشِينا أَنْ يُرْهِقَهُما طُغْياناً وكُفْراً. فَأَرَدْنا أَنْ يُبْدِلَهُما رَبُّهُما خَيْراً مِنْهُ زَكاةً وأَقْرَبَ رُحْماً! وأَمَّا الْجِدارُ: فَكانَ

ص: 63

لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وكانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما، وكانَ أَبُوهُما صالِحاً. فَأَرادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما، ويَسْتَخْرِجا كَنزَهُما، رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ! وما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذلِكَ تَأْوِيلُ ما لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً (1).

معنى تأويل أعمال الخضر:

لما عرض موسي علي الخضر عليهما السلام أن يصحبه ليتعلّم منه، قال له: إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً.

وعلل الخضر كلامه بقوله وكَيْفَ تَصْبِرُ عَلي ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً؟ أي: ستري أمامك أعمالا أقوم بها، ظاهرها يدعو للإنكار، وسوف تنكرها أنت عليّ، لأنك لا تعرف حقيقتها، ولا الحكمة منها، ولم تحط بها خبرا.

وفعلا لم يصبر موسي عليه السلام علي أعمال الخضر، فأنكرها عليه.

وقبل أن يفارقه الخضر أراد أن يكشف له عن حقيقة الأعمال الثلاثة، وقال له: سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً.

وبعد أن كشف له تلك الحقيقة، وأوقفه علي الحكمة منها، قال له:

ذلِكَ تَأْوِيلُ ما لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً.

إنّ أعمال الخضر الثلاثة: خرق السفينة، وقتل الغلام، وبناء الجدار، لها صورتان: صورة ظاهرية تبدو من الخارج، فتكون فيها غير مقبولة، فيقوم المشاهد بإنكارها، كما فعل موسي عليه الصلاة والسلام! وصورة باطنية حقيقية، تبدو فيها علي حقيقتها، والذي يقف علي هذه الصورة الباطنية يعرف الحكمة الخفية منها، ويعلم أنه علي حقّ في فعل ما يخالف الظاهر، لأنه يتفق مع هذا الباطن، وهذا ما أدركه الخضر، وفعله.

(1) سورة الكهف: 60 - 82.

ص: 64

والربط بين ظاهر هذه الأعمال وباطنها مطلوب، وحمل الظاهر علي الباطن مطلوب، وهذا ما قام به الخضر، وقدّمه لموسي.

واعتبر الخضر هذا العمل تأويلا سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً.

والتأويل هنا: هو ردّ الشيء إلي غايته العملية المرادة منه- كما قال الراغب في تعريف التأويل- فقد ردّ الخضر أعماله الثلاثة إلي غايتها المقصودة، وكشف حقيقة هذه الأعمال، والحكمة الخفية فيها، وأرجع صورتها الظاهرية إلي حقيقتها الباطنية الخفية، وأري موسي مآل ومصير أعماله، وانتهي بها إلي تلك المحطة الأخيرة، التي عرف منها موسي صواب الخضر فيما فعل.

لقد أوّل الخضر أعماله تأويلا عمليا، وأري موسي الحقيقة العملية منها، وبهذا عرف موسي وجه الحق والصواب فيها:

تأويل خرق الخضر للسفينة: أنه أري موسي الملك، يصادر السفن الصالحة، فالهدف من خرقه لها نجاتها من الملك.

فنجاة السفينة هي تأويل خرقها، الذي يحمل عليها، ويردّ إليها.

وتأويل قتل الغلام، أنّ الخضر أري موسي مستقبل الغلام الكفريّ عند ما يكبر، وإزعاجه لأبويه، فالهدف من قتله إراحة أبويه من كفره، والله يعوضهما عنه، إنّ إراحة أبويه منه هي تأويل قتله، الذي يحمل، ويردّ إليها.

وتأويل بناء الجدار، أنّ الخضر أري موسي كنز اليتيمين تحته، فالهدف من بنائه هو المحافظة علي الكنز إلي أن يكبر الغلامان اليتيمان. إنّ المحافظة علي الكنز هي تأويل بناء الجدار، الذي يجب أن يحمل عليها، ويردّ إليها.

ص: 65

ونلاحظ أنّ الخضر عليه السلام لا ينسب معرفة حقيقة أعماله الثلاثة إلي نفسه، فما كان الخضر بنفسه ليري الملك يصادر السفن، وما كان الخضر بنفسه ليري مستقبل الغلام، وما سيكون عليه بعد عشرين سنة. وما كان الخضر بنفسه ليري كنزا وضع تحت الجدار قبل سنين! إنما أراه الله ذلك، وعرّفه الله تلك الحقائق، وكشف له عن تلك البواطن الخفية، وأمره الله أن يفعل ما فعل، ليحقق تلك الحكم الخفية، أمره الله بخرق السفينة لتنجو من الملك، وأمره الله بقتل الغلام ليستريح أبواه من كفره، وأمره الله ببناء الجدار ليأخذ الغلامان الكنز عند ما يكبران.

ولهذا قال لموسي عليه السلام: وما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي. أي: لم أفعل هذه الأفعال الثلاثة باجتهاد مني، إنما فعلتها بأمر من الله.

شمول أعماله للماضي والحاضر والمستقبل:

وإذا نظرنا في أفعال الخضر الثلاثة، وتأويله لها، فإننا نراها قد استوعبت أطراف الزمان كلها! الزمان إمّا ماض، وإما واقع حاضر، وإمّا مستقبل.

ولقد أري الله الخضر الحقيقة في أطراف الزمان الثلاثة، فقام بتأويل الظاهر إليها، وحمله عليها!! وقوف الملك في موقع متقدم لمصادرة السفن الصالحة، يمثّل فترة الزمان الحاضر، فهو موجود واقف في نقطته وموقعه، وإن لم يشاهده أصحاب السفينة، لأنهم في طريقهم إليه، إنهم لم يروه بعد، ولكنّ الله أري الخضر إياه مع عصابته! وكون الغلام سيكون كافرا عند ما يكبر، يمثّل المستقبل، أو فترة الزمان القادمة، وهذا غيب لا يعلمه بشر، وعلمه خاصّ بالله، ولا يعرف الناس كيف سيكون مستقبل هذا الغلام، وقد أطلع الله الخضر علي هذا المستقبل!

ص: 66

ووضع الكنز تحت الجدار يمثّل فترة الزمان الماضية، فالرجل الصالح أخفي الكنز لابنيه الصغيرين تحت الجدار، قبل أن يموت، ولا يعلم أحد بوجود الكنز تحت الجدار، فأعلم الله الخضر بهذا الكنز الموضوع من قبل!! واختيار أمثلة ثلاثة لأفعال عجيبة مدهشة، تتمثّل فيها فترات الزمان الثلاثة: الماضية والحاضرة والقادمة- مقصود، لادراك معنى التأويل للأحداث، التي مرّت، أو تمر الآن، أو ستمر فيها بعد.

وإنه ليس شرطا أن تكون هذه الأحداث علي صورتها الظاهرية الخارجية التي وقعت من خلالها، فقد تكون لها صورة باطنية خفية، هي المرادة منها، وهي التي ستنتهي وتؤوّل إليها!! لكن من يؤول هذه الأحداث؟ ومن يردّ ظاهرها إلي باطنها؟ ومن يحمل وجودها الواقعي علي حقيقتها الخفية، وغايتها المرادة؟

ص: 67