الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب السابع: مع التأويل في سورة آل عمران
ورد التأويل مرتين في سورة آل عمران، والمرتان ذكرتا في آية واحدة، وهذه الآية في سياق آيات أخري، تتحدث عن المحكم والمتشابه في القرآن، وموقف فريقين من المتشابه، فريق الذين في قلوبهم زيغ، الراغبين في الفتنة، وفي تأويل المتشابه، وفريق الراسخين في العلم المعترفين بعجزهم عن تأويل المتشابه، حيث يسندون العلم بتأويل المتشابه إلي الله وحده.
قال تعالى: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ، مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ، وأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ، فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ، فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ، ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ، وما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ، والرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ، كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا، وما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ. رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا، وهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً، إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ. رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ. إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ (1).
المعنى الإجمالي للآيات:
ما من مفسّر للقرآن إلا وقد وقف أمام هذه الآيات وقفة مطوّلة، واستطرد في الكلام عن ما تشير له الآيات، وتوسّع في الكلام عن المحكم والمتشابه في القرآن، وعن تأويل المتشابه وكيفيته وإمكانيته وضوابطه.
واختلفت الأفهام كثيرا في هذه الموضوعات، وتعددت الآراء، وتباينت وجهات النظر، وكلّ رأي يدّعي صاحبه اعتماده فيه علي هذه الآيات.
ولا يعنينا استعراض هذه الآراء المتعارضة، وحجج أصحابها، إنما نريد
(1) سورة آل عمران: 7 - 9.
أن ننظر في معنى التأويل المذكور فيها، ونربطه مع معنى التأويل الوارد في السور الأخرى الذي عرضناه من قبل! يقرر الله حقيقة إنزال القرآن علي محمد صلى الله عليه وسلم: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ. وفي هذه الجملة إثبات أن القرآن كلام الله، وأن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم، تلقي القرآن من عند الله عن طريق الوحي.
وتقسم الآية آيات القرآن إلي قسمين: مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ- هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ- وأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ.
«منه» : من: حرف جر، تدلّ علي معنى التبعيض، وتفيد التقسيم.
والضمير «الهاء» فيها، يعود علي القرآن. أي من القرآن آيات محكمات، ومنه آيات متشابهات.
آياتٌ مُحْكَماتٌ: من «الإحكام» وهي اسم مفعول.
هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ: هذه جملة معترضة، جيء بها لوصف الآيات المحكمات من القرآن بأنهن أمّ الكتاب، ولتقرير حقيقة في فهم الآيات والمتشابهات.
وأساس معنى «الأمّ» هو: الأصل والمرجع، فأمّ الطفل هي أصله، ومرجعه الذي يرجع اليه، وأمّ الجيش رايته التي يرجع الجنود إليها، وأمّ الرأس الدماغ، الذي يسيطر علي الجسم ويحركه.
وأمّ القرآن هي الفاتحة، التي هي أساس وأصل القرآن، وكلّ معاني القرآن ترجع إليها، وتنبثق منها.
ووصفت الآية الآيات المحكمات بأنهن أم الكتاب: هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ بالمفرد، ولم تقل: هنّ أمهات الكتاب بالجمع. لأن الآيات المحكمات كلها أمّ الكتاب، فينظر إليهن بمجموعهن علي أنهن أمّ، ولا ينظر لكل آية علي حدة.
وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ: هذا هو القسم الثاني من آيات القرآن، وهو الآيات
المتشابهات، و «متشابهات» اسم فاعل من التشابه، وهو التماثل.
وبعد ما ذكرت الآية هذين القسمين من آيات القرآن، ذكرت اختلاف نظرة الناس إلي الآيات المتشابهات. فمنهم من يتبعها بهدف الفتنة والرغبة في تأويلها، وهؤلاء هم الذين في قلوبهم زيغ، ومنهم من لا يعلم تأويلها، ويكل علم تأويلها إلي الله، ويسلّم بعجزه هو، وهم الراسخون في العلم، الذين يؤمنون بأنّ المحكمات والمتشابهات آيات القرآن من عند الله.
فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ، فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ: هؤلاء متبعو المتشابه من القرآن، وهم المفتونون، الذين في قلوبهم زيغ وانحراف، وميل عن الحق، واتباع للباطل.
فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ: اسم الموصول «ما» في محل نصب مفعول به. والضمير في «منه» يعود إلي القرآن. أي: هؤلاء الزائغون يتبعون المتشابه من آيات القرآن.
ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ: تبين هذه الجملة هدف هؤلاء الزائغين من اتّباع المتشابه، وهو طلب الفتنة.
و «ابتغاء» في الجملة: مصدر منصوب لأنه مفعول لأجله. فهم يتبعون المتشابه لأجل الفتنة.
والفتنة هي التمويه والتلبيس والابتعاد عن الحق. فهم في أنفسهم مفتونون، لأنهم وقعوا في الشبهات، والتبست عليهم الأمور، وساروا مع الباطل والهوى والشيطان.
ثم هم يريدون أن يفتنوا الآخرين ليكونوا مثلهم ضالين، يريدون أن يوقعوهم في الشبهات، وأن يموّهوا عليهم الحقائق، وأن يعموهم عن رؤية الحق، وأن يلبّسوا عليهم الأمور.
وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ: هذا هو هدف الزائغين من اتباع المتشابه، وهو
أنهم يريدون تأويله، ويحرصون عليه.
والهاء في «تأويله» لا تعود علي القرآن كله، وإنما تعود علي المتشابه منه، هذا المتشابه المذكور في جملة «فيتبعون ما تشابه منه» وهو اسم الموصول وصلته في الجملة.
والمعنى يتّبعون المتشابه من القرآن بهدف تأويل ذلك المتشابه.
وبعد أن بينت الآية هدف الزائغين، وهو نشر الفتنة من خلال تأويلهم للمتشابه، بينت أن تأويل المتشابه مقصور علي الله، فقالت: وما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ.
والجملة حصرت تأويل المتشابه، وقصرته علي الله، بأداتي الحصر والقصر: ما وإِلَّا.
والهاء في تَأْوِيلِهِ تعود علي المتشابه، كما عادت عليه الهاء الأولي في وابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ.
ومعنى الحصر والقصر في الجملة، أنه لا يعلم أحد من البشر تأويل المتشابه، لأنه لا يعلم تأويله إلا الله.
وبعد ما ذكرت الآية الفريق الأول الراغب في تأويل المتشابه، طلبا للفتنة، وذمّتهم بسبب ذلك، بينت موقف الفريق الآخر، الذين لا يخوضون في تأويل المتشابه، والذين يكلون علم تأويله إلي الله، ومدحتهم، ووصفتهم بصفة الرسوخ في العلم، فقالت: والرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ، كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا.
الراجح في سياق الجملة أنّ الواو في والرَّاسِخُونَ حرف استئناف، والجملة ليست معطوفة. أي الرَّاسِخُونَ ليس معطوفا علي لفظ الجلالة اللَّهُ.
وليس وضع الجملة هكذا: وما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ والرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ.
الراجح أنّ الوقف لازم علي لفظ الجلالة. وما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ.
وما بعدها جملة استئنافية تقرّر معنى جديدا، وهو موقف الراسخين في العلم من تأويل المتشابه. وهي جملة خبرية. الرَّاسِخُونَ مبتدأ.
والجملة الفعلية يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ في محل رفع خبر. أي: الراسخون في العلم قائلون آمنا به كلّ من عند ربنا.
وبينما ذمّت الآية الزائغين لرغبتهم في تأويل المتشابه، فقد مدحت الراسخين في العلم لعدم خوضهم في تأويل المتشابه، واعترافهم بالعجز عن تأويله، وقصرهم تأويله علي الله، وإعلانهم الإيمان بالقرآن كله وأنّ قسميه من المحكم والمتشابه هما من عند الله: يَقُولُونَ: آمَنَّا بِهِ، كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا.
ووصفت الآية الراسخين في العلم وصفا آخر، مادحة لهم، فقالت:
وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ. فهم أولوا ألباب، وأصحاب عقول كبيرة، ولذلك عرفوا حدّهم في التعامل مع الآيات المتشابهات، فلم يجاوزوه، وعرفوا عجزهم عن تأويلها، فآمنوا بها أنها من عند الله.
ثم عرضت الآيتان التاليتان دعاء يدعو به الراسخون في العلم أولو الألباب، ويطلبون من الله فيه أن يثبتهم علي الحق، وأن لا يزيغ قلوبهم كما أزاغ قلوب متبعي المتشابه: رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً، إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ.
وأعلنوا إيمانهم بقدوم يوم القيامة: رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ، إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ.
مناسبة نزول الآيات:
قبل أن نتحدث عن معنى التأويل المذكور مرتين في هذه الآيات، واختلاف العلماء فيه، وقبل أن نقدم بعض اللطائف والدلالات من
الآيات، نحب أن نتعرف علي مناسبة وسبب نزول هذه الآيات، لأن معرفة مناسبة النزول تعين علي فهم صحيح للآية.
روي محمد بن إسحاق في السيرة أن مطلع سورة آل عمران نزل في قدوم وقد نصاري نجران علي رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة، وجدالهم معه بشأن عيسي بن مريم عليه الصلاة والسلام.
وقد كان الوفد مكونا من ستّين رجلا، وكان رؤساؤهم ثلاثة:
العاقب واسمه عبد المسيح، وهو أميرهم.
والسيد، واسمه الأيهم، وهو صاحب رحلهم ومجتمعهم.
وأبو حارثة بن علقمة، وهو أسقفهم وحبرهم وإمامهم.
وروي محمد بن إسحاق تفاصيل قصتهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، عن محمد بن جعفر بن الزبير بن العوام رضي الله عنهم.
قال محمد بن جعفر بن الزبير:
لما قدم وفد نصاري نجران علي رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة، دخلوا عليه مسجده بعد أن صلّى العصر، عليهم ثياب جبب وأردية وبرود، وكانوا ذوي هيئة وجمال.
فلما رآهم بعض الصحابة قالوا: ما رأينا بعدهم وفدا مثلهم.
ولما حانت صلاتهم، قاموا يصلون صلاتهم النصرانية في المسجد النبوي، فقال عليه الصلاة والسلام: دعوهم يصلون فصلوا نحو المشرق!! فكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم رؤساؤهم الثلاثة العاقب والسيد وأبو حارثة.
وقالوا له: إن عيسي هو الله، وهو ابن الله، والله ثالث ثلاثة.
واحتجوا علي أن عيسي هو الله، بأنه كان يحيي الموتي، ويبرئ الأسقام، ويخبر بالغيوب، ويخلق من الطين كهيئة الطير، فينفخ فيه فيكون طيرا.
واحتجوا علي أن عيسي ابن الله بأنه لم يكن له أب، وأنه قد تكلم في المهد.
واحتجّوا علي أنّ الله ثالث ثلاثة: بقوله: فعلنا، وأمرنا، وخلقنا، وقضينا، ولو كان الله واحدا لقال: فعلت، وقضيت، وأمرت، فالثلاثة هم: الله، وعيسي، ومريم!!! وقالوا للرسول عليه الصلاة والسلام: إن القرآن قد نزل بذلك، وقد قال بذلك، وقد دلت آياته علي أن عيسي هو الله، وهو ابن الله، وهو ثالث ثلاثة.
فردّ عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبطل مزاعمهم، وأزال شباهتهم.
ثم قال للحبرين: السيد وأبي الحارثة: أسلما.
قالا: قد أسلمنا قبلك! قال لهما: كذبتما يمنعكما من الاسلام أنكما جعلتما مع الله ولدا، وعبدتما الصليب، وأكلتما الخنزير! قال محمد بن جعفر بن الزبير بن العوام:
فأنزل الله في قولهم، واختلاف أمرهم صدر سورة آل عمران، إلي بضع وثمانين آية منها.
الم. اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ: افتتح الله السورة بتنزيهه عما قالوا، وبتوحيده سبحانه بالخلق والأمر، لا شريك له، وهذا ردّ عليهم، بسبب ما ابتدعوا من الكفر، وجعلوا معه الأنداد، وذلك ليبطل شبهاتهم، ويبين ضلالهم.
اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ: ليس معه شريك في أمره.
الْحَيُّ الْقَيُّومُ: هو الحيّ الذي لا يموت، وقد مات عيسي، وصلب كما يقول رهبان النصاري.
والله هو القيّوم: القائم علي خلقه، الذي لا يغيب ولا يزول، وقد غاب عيسي عن الناس، وزال عن مكانه الذي كان فيه، وتحول إلي غيره.
نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ: نزّل عليك القرآن بالصدق في المسائل التي اختلف النصاري فيها.
وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ والْإِنْجِيلَ: أنزل التوراة علي موسي، والإنجيل علي عيسي، كما أنزل الكتب علي من كان قبلهما.
وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ: أنزل الله القرآن فرقانا، فيه الفصل بين الحق والباطل، فيما اختلف فيه الأحزاب، بشأن عيسي وغيره.
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ، واللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ:
إن الله منتقم ممن كفر بآياته، بعد علمه بها، ومعرفته بما جاء فيها.
إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفي عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ ولا فِي السَّماءِ: فهو عالم بما يريد النصاري، وما يكيدون، وما يقولون عن عيسي: إذ جعلوه إلها وربا، كفرا منهم بالله.
هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ: وكان عيسي ممن صور في الأرحام، كما صور كلّ البشر من بني آدم، والنصاري لا ينكرون ذلك ولا يدفعونه، فكيف يكون عيسي إلها، وقد كان مصوّرا في رحم أمه؟
لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ: هذا تنزيه لله، وتوحيده له، والله عزيز في انتصاره ممن كفر به، تحكيم في حجته، وعذره إلي عباده.
هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ، مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ:
فيهنّ حجة الرب وعصمة العباد، ودفع الخصوم والباطل، ليس لهنّ تصريف ولا تحريف عما وضعن عليه.
وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ: لهنّ تصريف وتأويل، ابتلي الله فيهنّ العباد، كما ابتلاهم في الحلال والحرام، لا يصرفن إلي الباطل، ولا يحرفن عن الحق.
فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ: الذين في قلوبهم ميل وانحراف عن الهدي.
فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ: هؤلاء يتّبعون ما تصرّف منه، وذلك ليصدقوا به ما ابتدعوا وأحدثوا: لتكون لهم حجة، وعلي ما قالوا شبهة.
ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ: يتّبعون المتشابه طلبا للبس.
وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ: ويتّبعون المتشابه طلبا لتأويله، علي ما ركبوا من الضلالة، كاستدلالهم علي التثليث من قوله: خلقنا وقضينا.
وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ: الذي أرادوا به ما أرادوا.
إِلَّا اللَّهُ والرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا:
فكيف يختلف القرآن وهو قول واحد من ربّ واحد؟
والراسخون في العلم قد ردوا تأويل المتشابه علي ما عرفوا من تأويل الآيات المحكمة، التي لا تأويل لأحد فيها إلا تأويل واحد، وقد اتسق بقولهم القرآن، وصدّق بعضه بعضا، وبذلك نفذت به الحجة، وظهر به العذر، وزاح به الباطل، ودمغ به الكفر.
وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ: وما يتذكّر في مثل ردّ تأويل المتشابه إلي المحكم إلّا أولوا الألباب وأصحاب العقول الكبيرة (1).
إنّ التابعيّ الجليل محمد بن جعفر بن الزبير بن العوام- الذي أورد ابن اسحاق روايته عن قدوم نصاري نجران- قد فسّر الآيات الأولي من سورة آل عمران، وفق مناسبة نزولها في نصاري نجران، وبيّن لنا كيف تولت هذه الآيات نقض مزاعم نصاري نجران، وإظهار الحق بشأن عيسي بن مريم عليه الصلاة والسلام.
ورأي محمد بن جعفر في المحكم والمتشابه والتأويل وجيه سديد، وفهمه
(1) السيرة النبوية لابن هشام: 2/ 222 - 226 بتصرف يسير للتوضيح.
لكل واحد من هذه المصطلحات الثلاثة هو الصواب، وهذا الفهم والتفسير الذي قدّمه ابن جعفر هو الذي قال به علماء أهل السنة من بعده.
لقد كان الامام محمد بن جرير الطبري معجبا بكلام ابن جعفر الذي أورده ابن إسحاق، وقد تبناه ورجّحه في تفسيره، كما تبني هذا الرأي مفسّرون لاحقون كالامام ابن كثير!!
معنيان للتأويل في الآية:
تكلمت الآية عن قسمي آيات القرآن:
الآيات المحكمات: وهنّ أصل الآيات المتشابهات وأمّها ومرجعها، وهنّ أكثر عددا من المتشابهات.
الآيات المتشابهات: وهنّ قلائل بالنسبة إلي عدد المحكمات، بدليل قوله وأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ وهذا الجمع للتقليل.
وقد بينت الآية موقف فريقين من الناس من الآيات الأخر المتشابهات:
الفريق الأول: الذين في قلوبهم زيغ، حيث يتّبعون الآيات المتشابهات بهدف الفتنة واللبس: وبهدف تأويلها وفق ما عندهم من الضلال! الفريق الثاني: الراسخون في العلم، الذين آمنوا بالآيات المتشابهات، وأيقنوا بعجزهم عن تأويلها، وبيان عاقبتها وصورتها الفعلية، وجعلوا هذا وقفا علي الله: وما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ.
وقد اختلف العلماء في تأويل الآيات المتشابهات: هل تأويلها خاصّ بالله؟ وما المراد بالتأويل علي هذا التخصيص؟ أم أن الراسخين في العلم يعلمون تأويلها؟ وما الفرق بين تأويلهم المحمود وتأويل أهل الزيغ المذموم؟
سنوجز إن شاء الله حجة فريقين من العلماء: حجة من قال إن الراسخين لا يعلمون تأويل المتشابه، وحجة من قال: إنهم يعلمون تأويله!
المعنى الأول: هو ما تؤول إليه حقائق الآيات الغيبية
إذا كان التأويل هو بيان المرجع والعاقبة والمآل، وردّ النص إلي صورته المادية الخارجية الواقعية، وتحديد ما تأول إليه حقائق الآيات، من الكيفيات والزمان والتفاصيل العملية، فهذا خاصّ بالله تعالى، ولا يعلمه الراسخون في العلم، ولا يدركون حقيقته ومآله وعاقبته، ولا يقدرون علي ردّ وإرجاع النصوص إلي صورتها الفعلية.
ولذلك يجعلون تأويل النصوص العمليّ خاصا بالله، ويسلّمون بعجزهم عن ذلك، ويعلنون إيمانهم به، ويقولون آمَنَّا بِهِ، كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا.
أما الذين في قلوبهم زيغ فإنه يتّبعون هذا المتشابه بهدف تأويله، والفتنة في تأويله، ويريدون الوقوف علي الصورة المادية للنصوص، وتحديد النهاية الفعلية التي تستقرّ عليها الأخبار، وبما أنّ هذا غير ممكن، لأنّ هذا التأويل العمليّ خاصّ بالله، لذلك يقعون في ليس وضلال! وعند ما نحمل التأويل علي هذا المعني، فإننا نجده يتفق مع معنى التأويل المذكور في السور الأخري، فقد سبق أن استعرضنا الآيات التي ورد فيها التأويل، حيث ورد سبع عشرة مرة في سبع سور قرآنية:
يوسف والكهف والأعراف ويونس والإسراء والنساء وآل عمران.
إنّ التأويل الوارد في هذه السور السبع سبع عشرة مرة يراد به هذا المعني، وهو ردّ الأشياء إلي حقائقها المادية، وإرجاع الأمور إلي صورتها العملية، وتحديد العاقبة والنهاية الواقعية للأخبار والوعود، وبيان ما تؤول إليه فعلا، وتستقرّ عليه واقعا، وتعيين كيفيتها وزمانها ومكانها وملامحها.
هذا معنى التأويل في رؤيا يوسف والسجينين والملك في سورة يوسف، والتأويل في أعمال الخضر الثلاثة أمام موسي في سورة الكهف، والتأويل في وقوع وحدوث مضمون الآيات التي تتحدث عن مشاهد القيامة في
سورة الأعراف، والتأويل في وقوع آيات التهديد للكفار فعلا في سورة يونس، والتأويل في تحديد العاقبة والنهاية العملية للكيل والوزن بالقسط في سورة الإسراء، والتأويل في تحديد الصورة المادية الخيرة للأمة عند ما تردّ المتنازع فيه إلي الله والرسول في سورة النساء، والتأويل في تحديد كيفية وصورة الآيات المتشابهات، التي تتحدث عن الغيبيات، في سورة آل عمران.
إنّ التأويل في القرآن لا يخرج عن هذا المعنى في التحديد العملي لما تؤول إليه حقائق النصوص النظرية. ولهذا قال الإمام الراغب في تعريف التأويل: هو ردّ الشيء إلي الغاية المرادة منه، علما أو فعلا.
هذا التحديد العملي لا يعلمه أحد من البشر، لا الراسخون في العلم ولا غيرهم، لأنه خاصّ بالله.
إنّ تأويل النصوص الغيبية خاصّ بالله، تلك النصوص القرآنية التي تتحدث عن أحداث مستقبلية، تقع للناس علي وجه الأرض، أو تحدث قبيل قيام الساعة وأثناء قيامها وبعده، وتصف ما يجري يوم القيامة من مشاهد وتفاصيل، سواء علي أرض الموقف، أو في الجنة، أو في النار.
الله وحده هو الذي يعلم تأويل هذه الآيات المتشابهات، أي: هو الذي يعلم حقيقة حدوثها، وزمانه، ومكانه، وكيفيته، والصورة المادية الواقعية التي تكون عليها عند وقوعها وحدوثها، والعاقبة التي تؤول إليها هذه النصوص.
هل الراسخون في العلم يعلمون تأويل هذه النصوص علي هذا المعني؟
وهل يقدرون علي تحديد مآلها العملي، وردها إلي كيفية حدوثها الواقعي؟
وتصوّر حقيقتها الفعلية؟ إنهم لا يقدرون علي ذلك!
فهم الآية علي هذا المعنى للتأويل:
تتحدث الآية عن قسمين لآيات القرآن، وموقف فريقين من القسم الثاني، وتذمّ الفريق الأول، وتمدح الفريق الثاني.
الآيات المحكمات هنّ أم الكتاب، وهي معظم آيات القرآن، والآيات المتشابهات هي آيات أخر قليلة.
إنّ كلمة مُحْكَماتٌ في قوله: مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ اسم مفعول بصيغة جمع المؤنث السالم، وفعلها الماضي الرباعي «أحكم» ، وإذا كانت هذه الآيات محكمات، فمن الذي أحكمها؟ إنه الله ربّ العالمين! المحكم مشتق من «الحكم»: والحكم في اللغة هو: المنع (1).
وقال الإمام الراغب في معناه «حكم: أصله: منع منعا للإصلاح» (2).
أما المحكم، فقد عرفه الراغب بقوله:«المحكم: ما لا يعرض فيه شبهة، من حيث اللفظ، ولا من حيث المعني.» (3).
وكم كان محمد بن جعفر بن الزبير دقيقا فطنا عند ما عرّف الآيات المحكمات بقوله: «فيهنّ حجة الرب، وعصمة العباد، ودفع الخصوم، والباطل، ليس لهنّ تصريف ولا تحريف عما وضعن عليه.» (4).
الآيات المحكمات هي الآيات واضحات الدلالة والمعني، لا شبهة في ألفاظها أو معانيها، تمنع من تسرّب أفهام خاطئة لها، لا تحتمل إلا معنى واضحا مفهوما، لا تصريف لها، ولا تحريف لها عن وضعها اللغوي، وبسبب هذه الصفات لها، فقد تحققت بها حجة الله علي عباده،
(1) مقاييس اللغة: 2/ 91.
(2)
المفردات: 248.
(3)
المرجع السابق: 251.
(4)
سيرة ابن هشام: 2/ 226.
وعصمت العباد من سوء الفهم للقرآن، ودفعت شبهات الخصوم، وردّت التحريفات الباطلة.
ولأجل ذلك فقد وصف الله هذه الآيات المحكمات بأنهن أُمُّ الْكِتابِ.
قال الامام أحمد بن فارس في أصل معنى «أم» في اللغة: «أم:
أصل واحد، يتفرع منه أربعة أبواب، هي: الأصل، والمرجع، والجماعة، والدين. وهذه الأربعة متقاربة، وبعد ذلك أصول ثلاثة، وهي: القامة، والحين، والقصد» (1).
ونقل ابن فارس قول الخليل الجامع في معنى الأمة: قال الخليل: كلّ شيء يضمّ إليه ما سواه مما يليه، فإن العرب تسمي ذلك الشيء أمّا.
من ذلك أمّ الرأس: الدماغ (2).
وقال أبو البقاء في الكليات: «وأم كلّ شيء أصله، قال الخليل: كلّ شيء ضمّ إليه ما يليه يسمي أمّا.
قال ابن عرفة: ولهذا سميت أمّ القرآن وأم الكتاب.
وقال الأخفش: كلّ شيء انضمّ إليه أشياء فهو أمّ لها، ولذلك سمي رئيس القوم أمّا لهم» (3).
الآيات المحكمات التي أحكمها الله في معناها، فلا تصرف إلي غيره ولا تحرف عنه هي أم القرآن، وأصل معانيه، وهي مرجع الآيات المتشابهات، بحيث يجب حمل الآيات المتشابهات عليها، وإرجاعها إليها، لأنها أم تلك الآيات المتشابهات وأصلها.
(1) مقاييس اللغة: 1/ 21.
(2)
المرجع السابق: 1/ 22.
(3)
الكليات لأبي البقاء الكفوي: 176.
أما الآيات المتشابهات: فقد قال الله عنها وأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ وهذه الآيات المتشابهات قليلة من حيث الكمية والعدد إذا ما قيست بالآيات المحكمات، قليلة لدلالة الجمع أُخَرُ الذي يدلّ علي التقليل.
ومُتَشابِهاتٌ اسم فاعل، جمع مؤنث سالم. أي أنّ التشابه موجود في نفسها وتركيبها ومعانيها، موجود في داخلها.
الآيات المحكمات أحكمها الله. والآيات المتشابهات التشابه فيها نفسها، وفرق بعيد بين اسم المفعول مُحْكَماتٌ، واسم الفاعل مُتَشابِهاتٌ والفعل الماضي من مُتَشابِهاتٌ هو: تشابه. والتشابه هو التماثل والتشاكل.
قال الامام الراغب في التّشابه والآيات المتشابهات: «والمتشابه من القرآن: ما أشكل تفسيره، لمشابهته بغيره، إما من حيث اللفظ، أو من حيث المعني.
فالمتشابه في الجملة ثلاثة أضرب: متشابه من جهة اللفظ فقط، ومتشابه من جهة المعنى فقط، ومتشابه من جهتهما.
والمتشابه من جهة المعني: أوصاف الله تعالى، وأوصاف يوم القيامة، فإنّ تلك الصفات لا تتصور لنا، لأنه لا يحصل في نفوسنا صورة ما لم نحسّه وما لم نره من قبل، أو صورة ما لم يكن من جنس ما نحسّه ونراه.
ثم جميع المتشابه علي ثلاثة أضرب:
ضرب لا سبيل للوقوف عليه: كوقت الساعة، وخروج دابة الأرض، وكيفية الدابة، ونحو ذلك.
وضرب للإنسان سبيل إلي معرفته، كالألفاظ العربية، والأحكام الغلقة الخفيّة.
وضرب متردّد بين الأمرين، يجوز ان يختصّ بمعرفة حقيقته بعض الراسخين في العلم، ويخفي علي من دونهم» (1).
إذن: الآيات المتشابهات هي التي في فهمها إشكال، لما فيها من تشابه في لفظها أو معناها، أو فيهما معا. كالآيات التي تتحدث عن صفات الله أو يوم القيامة.
وحتي نفهم هذه الآيات المتشابهات، فلا بدّ من حملها علي أصلها وهي الآيات المحكمات، ولا بدّ من إرجاعها إلي أمّ الكتاب، لتفهم علي ضوئها. وهذا ما يوحي به تركيب الآية: مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ- هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ- وأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ.
وكان محمد بن جعفر بن الزبير دقيقا وفطنا عند ما قال عن الآيات المتشابهات: «لهن تصريف وتأويل، ابتلي الله فيهنّ العباد، كما ابتلاهم في الحلال والحرام، لا يصرفن إلي الباطل، ولا يحرفن عن الحق» (2).
ما هو موقف الناس من الآيات المتشابهات: التي في فهمهما إشكال، وتحتمل وجوها من التصريف والفهم؟
الناس فريقان: فريق الذين في قلوبهم زيغ، وفريق الراسخين في العلم، ولكلّ من الفريقين طريقة في فهم المتشابهات في القرآن.
الفريق الأول: الذين في قلوبهم زيغ: قال الله عنهم: فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ، ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ، وابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ، وما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ.
وعند ما ننظر في هذه الكلمات التي تتحدث عن موقف هؤلاء الزائغين من المتشابه، فإننا نري فيها ما يلي:
(1) مختارات منتقاة دالة من كلام الراغب عن المتشابه في المفردات: 443 - 445.
(2)
سيرة ابن هشام: 2/ 226.
1 -
هم في قلوبهم زيغ وانحراف وميل عن الحق، والانحراف عن الحق في القلب هو أساس الداء، لأن استقامة القلب أساس استقامة العقل وحسن الفهم، وانحراف القلب هو سبب انحراف العقل وسوء الفهم.
2 -
زيغ قلوبهم دفعهم إلي اتباع الآيات المتشابهات: فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ، فهم يبحثون عن الآيات المتشابهات ويتتبّعونها، ويجمعونها، ويريدون فهم معانيها بذاتها، مجردة عن غيرها.
هي في ذاتها متشابهة، وفي فهمها إشكال، وهم في قلوبهم زيغ، وفي عقولهم اعوجاج، وفي أذهانهم شبهات، فكيف يفهمونها وهم علي هذه الحالة؟ وكيف يزيلون ما فيها من إشكال؟
لماذا تتبعونها؟ لماذا لم يتتبّعوا الآيات المحكمات الواضحات؟ وهي كثيرة في القرآن، وليس فيها إشكال، ولا تحتمل التحريف والتصريف؟ لم يفعلوا ذلك لأن في قلوبهم زيغا، وتتبعوا المتشابهات لأن في قلوبهم زيغا.
3 -
يهدف زائغو القلوب من اتباع المتشابهات الفتنة: ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ.
والفتنة هي التلبيس وإثارة الشبهات، أي أنهم يريدون فتنة الآخرين، عند ما يتتبّعون المتشابهات أمامهم، وعند ما يثيرون الأسئلة عنها، وعند ما ينشرون الشبهات حولها، يريدون إيقاع الآخرين في اللبس والخلط، وهذه هي الفتنة، التي يفتنون بها الآخرين.
4 -
لزائغي القلوب هدف آخر من اتباع المتشابهات، وهو المتمثل في قوله تعالى: وابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ، إنهم يريدون تأويل هذه الآيات المتشابهات. تأويلها لماذا؟ لتحقيق هدفهم الأول، وهو فتنة أنفسهم، وفتنة الآخرين، والفتنة عندهم عن طريق تأويل هذه المتشابهات.
كيف يؤوّلون الآيات المتشابهات؟ إنهم يريدون الوقوف علي حقيقتها الفعلية، ومآلها العملي يريدون تحديد ما ستئول هذه المتشابهات إليه، وتعيين كيفياتها، وزمانها ومكانها وتفاصيل حدوثها.
وهذا غير ممكن لهم ولا لغيرهم. ولهذا هم مذمومون بذلك الهدف، ومذمومون لمحاولاتهم تأويل المتشابهات، وتحديد ما ستئول إليه من نهاية عملية، وعاقبة مادية.
5 -
ذمّ الله زائغي القلوب لمحاولاتهم اليائسة في تأويل الآيات المتشابهات، لأنّ تأويلها خاصّ به سبحانه، ولهذا ورد بعد ذمّهم قوله تعالى: وما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ.
والتأويل هنا هو بمعنى التأويل في السور الأخري، وهو تحديد العاقبة والمآل، وبيان ما تؤول إليه النصوص والأخبار القرآنية، وتعيين صورتها الواقعية العملية، وإرجاعها إليها، من حيث الزمان والمكان والكيفية.
وهذا التأويل العملي، بهذه الكيفية المادية، لا يعلمه أحد من البشر، لا الراسخون في العلم ولا الذين في قلوبهم زيغ، فهو خاصّ بالله سبحانه.
الفريق الثاني: الراسخون في العلم، قال الله عنهم: والرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ، كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا.
هؤلاء الراسخون في العلم وقفوا أمام متشابه القرآن، الذي يتحدث عن أمور غيبية، فعلموا أنّ تأويله خاصّ بالله، وفهموا معنى قوله تعالى:
وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ.
أي علموا أنّ تحديد عاقبة ومآل الآيات المتشابهات خاصّ بالله، فالله وحده هو الذي يعلم ما تؤول إليه تلك الآيات، ويعلم كيفية وزمان ومكان وصورة حدوثها ووقوعها، في إطارها العملي الواقعي.
لما علم الراسخون في العلم هذا، أيقنوا بعجزهم عن تأويل الآيات المتشابهات، فأعلنوا إيمانهم بالقرآن كله، وقالوا: آمَنَّا بِهِ، كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا.
والضمير في بِهِ يعود علي متشابه القرآن. أي آمنا بمتشابه القرآن،
وسلمنا بمدلوله، مع عجزنا عن تأويله وتحديد عاقبته العملية.
والتنوين في كُلٌّ عوض عن كلمة مقدرة، تقديرها: القرآن.
أي: كلّ القرآن من عند ربنا، سواء كانت آياته محكمات أم كانت متشابهات. فالله أنزل الآيات المحكمات، والله أنزل الآيات المتشابهات.
وقد أثني الله علي هذا الموقف للراسخين في العلم بقوله: وما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ.
وصفهم بأنهم أولوا الألباب، والألباب هي العقول الواعية، إنه لا يتذكر هذا المعنى للآيات المتشابهات إلا أولو الألباب، ولا يعلم عجزه عن تأويلها العمليّ إلا الراسخون في العلم، أصحاب العقول الواعية الكبيرة.
وبينما ذمّت الآية الذين في قلوبهم زيغ لرغبتهم في تأويل المتشابه، فإنها أثنت علي الراسخين في العلم لموقفهم العلميّ منه، ويبدو هذا الثناء في ما يلي:
1 -
وصفهم بالرسوخ في العلم. ومعنى الرسوخ: التمكن والتثبت والتوثق. فهم ليسوا مجرد علماء، ولكنهم راسخون في العلم، متمكنون منه، واثقون من مسائله ومباحثه.
وإنّ رسوخهم في العلم دلهم علي صلاحياتهم وقدراتهم وطاقاتهم ومجالاتهم، فخاضوا فيها وبحثوها، وأحسنوا استخدام عقولهم ومعرفة علومهم.
وإنّ رسوخهم في العلم أوقفهم علي ما ليس في وسعهم وطاقتهم، وعرّفهم علي ما لم يزوّدهم الله وسائل البحث فيه، من موضوعات الغيب، فوقفوا عند حدّهم لم يتجاوزوه، ووفروا طاقتهم العقلية فلم يضيعوها في تلك المجالات التي لم تجهّز للخوض فيها.
2 -
إعلان الراسخين في العلم إيمانهم بقسمي القرآن: محكمه ومشابهه،
وتسليمهم بعجزهم عن إمكانية تأويل المتشابه تأويلا عمليا، وقصر هذا التأويل علي الله. وبذلك أحسنوا فهم آيات القرآن وتدبرها، وأحسنوا التعامل مع القرآن، ولم يضربوا بعض آياته ببعض.
3 -
وصفهم بأنهم أولو الألباب، فصاحب العقل الكبير يعلم حدوده، يعلم ما يقدر عليه، فيشتغل فيه، ويعلم ما يعجز عنه، فيقف عنده، ولا يضيع قدراته ووقته فيه.
4 -
لاحظ الراسخون في العلم افتتان زائغي القلوب في متشابهات القرآن، وضياعهم في محاولات تأويلها، فطلبوا من الله أن لا يكونوا مثلهم، وأن لا يزيغ قلوبهم كما أزاغ قلوب أولئك، وأن يثبتهم علي الهداية، وأن ينشر عليهم الرحمة، ودعوا الله قائلين: رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا، وهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً، إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ.
5 -
ذكر الراسخون في العلم نوعا من أنواع متشابه القرآن الذي لا يعلمون تأويله، فلا يعلم تأويله إلا الله، ولا يأتي به إلا الله، علي الكيفية التي يريدها سبحانه. إنه يوم القيامة. ولهذا أعلنوا إيمانهم به، وبمجيئه حتما، بدون شك ولا ريب: رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ، إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ.
لقد تحدثت آيات القرآن عن أشراط الساعة، ومشاهد يوم القيامة، وأخبرت عن أحداث قادمة ستقع فيه.
والذين في قلوبهم زيغ حاولوا تأويل تلك الآيات، وتحديد حقيقة ما ستئول إليه عمليا، فافتتنوا وضلوا وأضلوا.
أما الراسخون في العلم فقد أيقنوا بعجزهم عن تأويل تلك الآيات، وتحديد ما ستئول إليه عمليا، فأعلنوا إيمانهم بها، وسلموا لله حقيقة تأويلها، وكيفية تحقيقها.
عدم التأويل لا يعنى عدم الفهم:
علي هذا المعنى للتأويل- وهو تحديد حقيقة الأخبار الغيبية عمليا- يكون الذين في قلوبهم زيغ مفتونين ضالين لخوضهم فيه، ويكون الراسخون في العلم مهتدين ممدوحين، وعلميين موضوعيين، لعجزهم عن تأويله، وتسليمهم بقصره علي الله وإيمانهم به.
لكن هل عجز الراسخين في العلم عن التأويل العلمي لهذه الآيات، يعنى عدم فهمهم لها؟ وعدم تفسيرهم لها؟ وعدم بيانهم لمعانيها؟ وهل في القرآن ما لا يفهم معناه؟ وهل خاطبنا الله بما لا نفهمه؟
بعض الناس لم يفرّقوا بين العجز عن التأويل وبين فهم معاني الآيات، وظنّوا أن عجز العلماء عن تأويل الآيات المتشابهات يلزم منه عدم فهمهم لمعانيها، وعدم قدرتهم علي تفسيرها.
وقالوا: ليس في القرآن ما لا يفهم معناه، ولم يخاطبنا الله في القرآن بما لا نعلمه، ويجب علينا أن نفهم كلّ الآيات، محكمات أو متشابهات، ويجب أن نؤوّل كلّ الآيات، محكمات أو متشابهات.
ومنشأ الخطأ عندهم عدم تفريقهم بين فهم معاني الآيات المتشابهات، وبين العجز عن تأويلها.
إنّ العجز عن تأويل الآيات التي تتحدث عن أمور غيبية، وعدم القدرة علي تحديد الصورة العملية النهائية التي تؤول لها تلك الآيات، لا يعنى عدم فهمها وعدم تفسيرها، وعدم معرفة معانيها.
لم يخاطبنا الله في القرآن بما لا نفهم معناه، فكلّ آية وكلمة في القرآن مفهومة المعني، ويجب علينا أن نتدبّرها ونفسرها ونبين معناها، لأنّ القرآن نزل بلسان عربي مبين، وكلماته عربية، والكلام العربي له معنى معلوم مفهوم.
إن الراسخين في العلم يفهمون معاني الآيات المتشابهات، ويعلمون تفسيرها، ويحسنون استخراج دلالاتها والوقوف علي لطائفها.
لكن هذا شيء، وتأويلها شيء آخر، فعلمهم بمعانيها لا يلزم منه القدرة علي تأويلها، وتحديد كيفية وصورة مآلها! عند ما يقف الراسخون في العلم أمام آية تتحدث عن مسألة غيبية، يفسّرونها ويبيّنون معانيها، ويقولون: هذا هو تفسيرها وبيانها، أما تأويلها وتحديد كيفيتها النهائية، وبيان متي وكيف ستقع فعلا، فهذا خاصّ بالله.
ونورد فيما يلي مثالين عن ذلك: مثالا عن كلام القرآن عن مشاهد القيامة، ومثالا عن إخبار القرآن عن صفات الله! عرضت آيات القرآن بعض مشاهد القيامة، وأخبرت عن بعض الأحداث التي ستقع عند قيام الساعة. منها قوله تعالى: إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ. وإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ. وإِذَا الْجِبالُ سُيِّرَتْ. وإِذَا الْعِشارُ عُطِّلَتْ. وإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ. وإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ. وإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ. وإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ. بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ. وإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ. وإِذَا السَّماءُ كُشِطَتْ. وإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ. وإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ. عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ
…
(1).
تخبر الآيات عن اثني عشر حدثنا يحدث عند قيام الساعة، وتقدم اثنتي عشرة لقطة من لقطات تلك الأحداث، وهذه الآيات لها فهم وتفسير، كما أن لها تأويلا وتحديدا.
الراسخون في العلم يفهمونها ويفسّرونها، إنهم يعلمون معنى تكوير الشمس، وانكدار النجوم، وتسيير الجبال، وتعطيل العشار، وحشر الوحوش، وتسجير البحار، وتزويج النفوس، وسؤال الموءودة، ونشر الصحف، وكشط السماء، وتسعير الجحيم، وإزلاف الجنة. يعلمون
(1) سورة التكوير: 1 - 14.
معاني الكلمات، ويفهمون ما تتضمنه من حقائق ودلالات، ويؤمنون بحدوث ما أخبرت عنه من هذه المشاهد واللقطات.
أما تأويل هذه الآيات التي تعرض هذه اللقطات فإنهم لا يعلمونه، لأنّ تأويلها خاصّ بالله.
تأويل هذه الآيات هو تحديد عاقبتها ومآلها، وتعيين الصورة العملية التي ستقع بها، وبيان متي وكيف ستحدث وتتحقق، من حيث الزمان والمكان والكيفية، هذا لا يعلمه الراسخون في العلم.
إنّ فهمهم لمعاني هذه الآيات قد تحقق، لكنه لا يلزم منه إمكانية تأويلها!!.
وبالنسبة إلي صفات الله، فقد أخبرت آيات القرآن عنها، وأشارت إلي بعض هذه الصفات، وتحدثت عن بعض أفعال الله، تكملت آيات القرآن عن يد الله، وعن وجه الله، وعن معية الله، وعن استواء الله علي العرش، وعن علو الله.
هذه الآيات لها تفسير وفهم، ولها تأويل وتحديد.
والراسخون في العلم يفهمونها ويفسّرونها، ويعرفون معنى اليد والوجه والاستواء والعلو، ويسندونها لله كما أخبر الله.
لكنهم عاجزون عن تأويلها وتحديدها، أي: عاجزون عن بيان حقيقة اتصاف الله بها، وتحديد كيفية وجودها عند الله سبحانه، ولهذا لا يخوضون في تحديد كيفية استواء الله علي عرشه، وكيفية علوه عن خلقه، وكيفية يده ووجهه ونفسه ومعيته سبحانه.
إنّ فهمهم لمعاني هذه الآيات، ومعرفة ما تخبر عنه من أفعال وصفات، قد تحقق، لكنه لا يلزم منه إمكانية تأويلها وتحديدها وتكييفها!!
سياق الآية علي هذا المعنى للتأويل:
هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ: جملة خبرية.
مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ: جملة خبرية أخري، مفصّلة للجملة الخبرية السابقة.
هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ: مبتدأ وخبر، وهي جملة معترضة، جيء بها بهدف وصف الآيات المحكمات من القرآن بأنهنّ أمّ القرآن وأصله ومرجعه، وذلك لحمل الآيات المتشابهات عليها، أي أنّ الآيات المحكمات أمّ وأصل للآيات المتشابهات.
وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ: معطوفة علي مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ، وفيها الخبر عن القسم الثاني من آيات القرآن، ووصفها بأنها متشابهات.
ووصفها بوصف أُخَرُ دليل علي أنها قليلة، لأنّ كلمة أُخَرُ جمع قلّة.
بعد حديث الآية عن قسمي آيات القرآن: المحكمات الكثيرة أم القرآن وأصله، والآيات المتشابهات القليلة، تحدثت عن موقف فريقين من الناس من الآيات المتشابهات.
فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ:
أما: حرف شرط بمعنى التفصيل، حيث ورد ذكر الفريقين بعدها: الزائغون والراسخون في العلم.
الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ: فعل الشرط.
فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ: جواب الشرط.
ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ: مفعول لأجله.
وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ معطوف علي المفعول لأجله، يدلّ علي معناه، أي: لزائغي القلوب هدفان من اتباع الآيات المتشابهات: الهدف الأول:
إحداث الفتنة بالقرآن، والثاني: الرغبة في تأويل تلك الآيات المتشابهات، والوقوف علي كيفيتها العملية، وتحديد عاقبتها المادية.
وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ: علم تأويل متشابه القرآن خاصّ بالله، لا يعلمه أحد غيره. فالجملة معترضة، لتقرير هذه الحقيقة، ولذمّ زائغي القلوب في محاولاتهم تأويل المتشابه، لأنه لا يعلم تأويله إلا الله، ولا يعلم حقيقته المادية إلا الله، ولا يعلم كيفية ووقت ومكان وقوعه إلا الله.
لهذا يكون الوقف علي لفظ الجلالة اللَّهُ واجبا. هكذا: وما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ.
وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا: جملة استئنافية جديدة، تخبر عن موقف الراسخين في العلم من تأويل المتشابه، وهم الفريق الثاني من الناس.
فالواو: حرف استئناف.
والرَّاسِخُونَ مبتدأ.
يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ: جملة فعلية في محلّ رفع خبر.
أي: الراسخون في العلم قائلون آمنا بالمتشابه دون أن نعلم تأويله، وآمنا بأن كلّ القرآن- محكمه ومتشابهه- من عند ربنا.
وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ: جملة استئنافية جديدة، للثناء علي الراسخين في العلم، في عدم محاولاتهم تأويل المتشابه، ووصفهم بأنهم أولو الألباب.
الذاهبون إلي هذا المعنى للتأويل:
كثير من أئمة التفسير من الصحابة والتابعين ومن بعدهم ذهب إلي هذا المعنى للتأويل في آية سورة آل عمران التي أمامنا، حيث اعتبروها متوافقة مع ورود كلمة التأويل في القرآن في المواضع الأخري- التي استعرضناها فيما سبق-.
لا سيما أنّ أمامهم حديث صحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يذم زائغي القلوب، الراغبين في تأويل المتشابه، ويحذر المسلمين منهم.
فقد روي البخاري ومسلم وغيرهما عن ابن أبي مليكة عن عائشة رضي الله عنها قالت: تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ. ثم قال: «فإذا رأيتم الذين يتّبعون ما تشابه منه، فأولئك الذين سمّاهم الله، فاحذروهم» .
وفي رواية أخرى عن عائشة رضي الله عنها قالت: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قول الله: فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ، فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ فقال:«إذا رأيتم الذين يتّبعون ما تشابه منه، فأولئك الذين سمّي الله، فاحذروهم» .
وممن ذهب إلي هذا الرأي الإمامان: ابن جرير الطبري وابن كثير الدمشقي.
قال الطبري في تفسير قوله تعالى: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ: الله الذي لا يخفي عليه شيء في الأرض ولا في السماء، هو الذي أنزل عليك القرآن.
من هذا القرآن آيات محكمات. وهنّ اللواتي قد أحكمن بالبيان والتفصيل، وأثبتت حججهنّ وأدلتهن علي ما جعلن أدلة عليه من حلال وحرام، ووعد ووعيد، وثواب وعقاب، وأمر وزجر، وخبر ومثل، وعظة وعبر، وما أشبه ذلك.
ثم وصف الله هؤلاء الآيات المحكمات بأنهن أم الكتاب، أي أنهن أصل الكتاب، الذي فيه عماد الدين والفرائض والحدود، وسائر ما يحتاج إليه الخلق، من أمر دينهم، وما كلّفوا به من الفرائض في عاجلهم وآجلهم.
وإنما سماهنّ أم الكتاب، لأنهنّ معظم الكتاب، وموضع مفزع أهله عند الحاجة إليه (1).
وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ: ومن القرآن آيات أخر، هنّ متشابهات في التلاوة، مختلفات في المعنى (2).
فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ: فأما الذين في قلوبهم ميل عن الحق وحيف عنه، فيتّبعون من آيات القرآن ما تشابهت ألفاظه، واحتمل صرفه في وجوه التأويلات، باحتماله المعاني المختلفة، وذلك إرادة اللبس علي نفسه وعلي غيره، واحتجاجا بذلك علي باطله الذي مال إليه قلبه، دون الحقّ الذي أبانه الله، وأوضحه بالمحكمات من آيات القرآن! وهذه الآية- وإن كانت نزلت في نصاري نجران- فإنه معنى بها كلّ من ابتدع بدعة في دين الله، فمال إليها قلبه، تأويلا منه لبعض متشابه القرآن، ثم حاج به وجادل أهل الحق، وعدل عن الواضح من أدلة الآيات المحكمات، وذلك ليلبس علي أهل الحق من المؤمنين دينهم، وطلبا منه لعلم تأويل ما تشابه من القرآن.
تشمل كلّ من كان كذلك، كائنا من كان، سواء كان من أهل اليهودية أو النصرانية أو المجوسية، أو كان سبئيا، أو حروريا، أو قدريا، أو جهميا.
فهو من الذين
قال عنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فإذا رأيتم الذين يتبعون ما
(1) جامع البيان للطبري: 3/ 170، طبعة دار الفكر.
(2)
المرجع السابق: 3/ 172.
تشابه منه فأولئك الذين سمي الله، فاحذروهم) (1).
وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ: اتّبعوا المتشابه ابتغاء تأويله، بمعرفة انقضاء مدة أمة محمد صلى الله عليه وسلم، ووقت قيام الساعة.
وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ: ما يعلم وقت قيام الساعة، وانقضاء مدة أجل محمد صلى الله عليه وسلم وأمته، وما هو كائن، إلا الله، دون من سواه من الذين ابتغوا إدراك علم ذلك عن طريق الحساب والتنجيم والكهانة.
وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ: وأما الراسخون في العلم، فيقولون: آمنا به، كلّ من عند ربنا. لا يعلمون تأويل ذلك، وفضل علمهم في ذلك علي غيرهم، هو علمهم بأن الله وحده هو العالم بتأويل ذلك، دون من سواه من خلقه. (2)
وبعد ذكر الطبريّ لقولين في موقع جملة والرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ، وهل هي معطوفة علي إِلَّا اللَّهُ فيعلمون تأويل المتشابه، أو استئنافية فلا يعلمون تأويله، رجّح القول الثاني، فقال:«والصواب عندنا في ذلك: أنهم- الراسخون في العلم- مرفوعون بجملة خبرهم بعدهم، وهي يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ. لما قد بيّنا أنهم لا يعلمون تأويل المتشابه الذي ذكره الله في هذه الآية» (3).
ثم قال الطبري: وأما تأويل قوله: يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا: فإنه يعني: أنّ الراسخين في العلم يقولون: صدقنا بما تشابه من آيات الكتاب، وأنه حق، وإن لم نعلم تأويله (4).
وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ: وما يتذكّر ويتعظ وينزجر عن أن
(1) المرجع السابق: 3/ 180 - 181 بتصرف وتلخيص.
(2)
المرجع السابق: 3/ 182.
(3)
المرجع السابق: 3/ 185.
(4)
المرجع السابق: 3/ 185.
يقول في متشابه آيات كتاب الله ما لا علم له به إلا أولوا العقل والنهي. (1).
ولا يخرج كلام الإمام ابن كثير عن كلام ابن جرير، فقال في تفسير الآية: «يخبر الله أن في القرآن آيات محكمات، هنّ أمّ الكتاب. أي:
بينات واضحات الدلالة علي كثير من الناس أو بعضهم، فمن ردّ ما اشتبه إلي الواضح منه، وحكّم محكمه علي متشابه، فقد اهتدي، ومن عكس انعكس.
ولهذا قال تعالى: هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ أي: أصله الذي يرجع إليه عند الاشتباه.
وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ: أي تحتمل دلالتها موافقة المحكم، وقد تحتمل شيئا آخر من حيث اللفظ والتركيب، لا من حيث المراد» (2).
ثم قال ابن كثير: فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ: أي ضلال، وخروج عن الحقّ إلي الباطل فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ: إنما يأخذون منه بالمتشابه، الذي يمكن أن يحرّفوه إلي مقاصدهم الفاسدة، وينزلوه عليها، لاحتمال لفظه لما يصرفونه، فأما المحكم فلا نصيب له فيه، لأنه دافع لهم، وحجة عليهم.
ولهذا قال عنهم ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ: أي: الإضلال لأتباعهم، إيهاما لهم أنهم يحتجّون علي بدعتهم بالقرآن، وهو حجة عليهم وليس لهم.
وقوله تعالى: وابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ: أي: تحريفه علي ما يريدون. وقال مقاتل والسدي: وابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ: يبتغون أن يعلموا ما يكون، وما عواقب الأشياء، من القرآن (3).
(1) المرجع السابق: 3/ 185.
(2)
تفسير ابن كثير: 1/ 369 - 370.
(3)
المرجع السابق: 1/ 370.
المعنى الثاني للتأويل: التفسير والبيان:
عرضنا فيما سبق المعنى الأول للتأويل المذكور في آية آل عمران، وهو بيان الحقيقة التي تؤول إليها النصوص الغيبية، وبيّنّا أن التأويل علي هذا المعنى خاصّ بالله، ولا يعلمه الراسخون في العلم، ولا غيرهم، وفسّرنا الآية علي هذا المعني.
ونقدم الآن المعنى الثاني للتأويل المذكور في هذه الآية، وهو التفسير والبيان.
قال ابن منظور في لسان العرب عن ورود التأويل بمعنى التفسير:
يقال: أوّل الكلام، وتأوّله: إذا فسّره.
والمراد بالتأويل: نقل ظاهر اللفظ عن وضعه الأصلي إلي ما يحتاج إلي دليل، لولاه لما ترك ظاهر اللفظ.
وسئل أبو العباس أحمد بن يحيي عن التأويل فقال: التأويل والتفسير بمعنى واحد.
وقال أبو منصور: يقال: ألت الشيء أؤوله: إذا جمعته وأصلحته.
فكأنّ التأويل جمع معاني ألفاظ أشكلت بلفظ واضح لا إشكال فيه (1).
وقال أبو البقاء الكفوي في الكليات: «والتفسير والتأويل واحد: وهو كشف المراد عن اللفظ المشكل» (2).
ومع أنّ التأويل في القرآن لم يرد بمعنى التفسير، لكن استعمله بعض الصحابة والتابعين بمعنى التفسير، وشاع استعماله بعد عصر التابعين بهذا المعني، واشتهر بعد ذلك به، واصطلح عليه المفسّرون، وقديما قال العلماء: لا مشاحة في الاصطلاح.
(1) لسان العرب لابن منظور: 11/ 32 - 33.
(2)
الكليات لأبي البقاء: 261.
وذهب إمام المفسرين محمد بن جرير الطبري إلي هذا الرأي، واستخدم التأويل بمعنى التفسير، ولذلك سمّي تفسيره «جامع البيان عن تأويل أي القرآن» .
وكان ابن جرير يكثر من استعمال التأويل بمعنى التفسير، ولذلك أدار تفسيره علي هذا المعني.
فهم الآية علي هذا المعنى للتأويل:
الراسخون في العلم يعلمون تأويل الآيات المتشابهات، بينما لا يعلم تأويلها الذين في قلوبهم زيغ.
ويكون فهم الآية علي هذا المعنى هكذا:
هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ: الآيات المحكمات أمّ وأصل للآيات المتشابهات، فمن أراد فهم وتأويل وتفسير الآيات المتشابهات فلا بدّ من ردّها إلي أصلها وهو الآيات المحكمات.
فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ، ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ زائغو القلوب لا يحسنون فهم الآيات المتشابهات ولا تأويلها، ولذلك يفتنون فيها وتصاب قلوبهم بالزيغ والانحراف والميل عن الحق، إنهم ينظرون إليها وحدها، ويتعاملون معها بمعزل عن أصلها، وهو الآيات المحكمات، ولذلك يخطئون في تفسيرها وتأويلها.
وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ والرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ: تأويل الآيات المتشابهات، ومعناها الصحيح يعلمه الله، لأنه منزل تلك الآيات.
كما يعلم تأويل هذه الآيات المتشابهات الراسخون في العلم، فرسوخهم في العلم، وتمكنهم منه، أوجد عندهم ملكة في تفسير القرآن وتأويله، ففهموا آياته المحكمات الكثيرة، ولما وقفوا أمام آياته المتشابهات القليلة،
أحسنوا تأويلها وحملها. وإرجاعها إلي أمها من الآيات المحكمات، وبذلك أحسنوا استخراج دلالاتها ومعرفة معانيها وحقائقها.
يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا: لما أحسن الراسخون في العلم فهم وتفسير وتأويل الآيات المتشابهات، صرّحوا قائلين: آمنا بمتشابه القرآن الذي علمنا تأويله، كما آمنّا بمحكمة، فالقرآن بمحكمة ومتشابهه، كلّ من عند ربنا.
علي هذا المعنى للتأويل تكون الواو في قوله: والرَّاسِخُونَ حرف عطف، عطفت الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ علي لفظ الجلالة اللَّهُ.
ويكون الأولي وصل المعطوف بالمعطوف عليه، والوقف علي الْعِلْمِ، فتكون الجملة هكذا: وما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ والرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ، وتكون يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا جملة حالية. أي:
الراسخون في العلم عالمون بتأويل المتشابه، قائلين: آمنّا به كلّ من عند ربنا.
وممن ذهب إلي هذا المعنى للتأويل، واعتبر نفسه ممن يعلم تأويل المتشابه:
عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، فقد روي عنه ابن جرير الطبري قوله: أنا ممن يعلم تأويله.
وقال مجاهد: والرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ: يعلمون تأويله، ويقولون آمنا به.
وقال محمد بن جعفر بن الزبير بن العوام: والراسخون في العلم قد ردّوا تأويل المتشابه علي ما عرفوا من تأويل الآيات المحكمة، التي لا تأويل لأحد فيها إلا تأويل واحد، وقد اتسق بقولهم القرآن، وصدّق بعضه بعضا، وبذلك نفذت به الحجة، وظهر به العذر، وزاح به الباطل، ودفع به الكفر (1).
(1) انظر تفسير الطبري: 3/ 182 - 183
وإذا قلنا: إنّ التأويل بمعنى التفسير والبيان، وأنّ العلماء يعلمون تأويل متشابه القرآن، فإن هذا القول لا يتعارض مع المعنى اللغوي للتأويل، بل يتفق معه، ويتحقق المعنى اللغوي فيه.
فالتأويل- كما مرّ معنا- هو ردّ الشيء إلي غايته، وحمله علي أصله، وإرجاعه إلي حقيقته، وتحديد عاقبته ومآله.
وتأويل متشابه القرآن- وهو الآيات التي فيها اشتباه في المعني، وإشكال في الدلالة- لا يعلمه الناس العاديون، ولا الذين في قلوبهم زيغ.
إنّ الآية ذمت محاولة الذين في قلوبهم زيغ تأويل متشابه القرآن، لأنهم لا يحسنون تأويله وردّه إلي محكم القرآن، وبذلك يقعون في الفتنة.
بينما مدحت الآية الراسخين في العلم، لحسن تأويلهم لمتشابه القرآن.
فكيف أوّله الراسخون في العلم؟ وكيف تحقّق في تأويلهم له المعنى اللغوي الاشتقاقي للتأويل؟
لقد قام الراسخون في العلم بردّ المتشابه إلي المحكم، وحمل المتشابه علي الأصل المحكم، قاموا بإعادة الأخر المتشابهات إلي أصلها وهو أم الكتاب المحكمات، وفهموا الآيات المتشابهات علي ضوء أصلها من الآيات المحكمات، وبذلك التأويل والردّ أزالوا الاشتباه فيها، وحلوا ما فيها من إشكال، وبذلك أحسنوا فهم الآيات المتشابهات.
وهذا الفعل منهم ردّ الشيء إلي غايته، وإعادة الكلام إلي أصله، وحمله علي مرجعه وأساسه، وهذا هو المعنى اللغوي الاشتقاقي للتأويل.
وبهذا نعرف دقة عبارة الامام الراغب الأصفهاني، وشمولها للمعنيين المذكورين للتأويل، حيث يقول:«هو ردّ الشيء إلي الغاية المرادة منه، علما كان أو فعلا» (1).
(1) المفردات: 99.