الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ترجمة القرآن
(1)
لكل كلام عربي بليغ معانٍ أصلية تحصل من مجرد نسبة الفعل إلى الفاعل، أو الخبر إلى المبتدأ، وهي ما يقع عليه فهم كل سامع عرف ما وضعت له ألفاظ الجملة، وكان خبيراً بما تدل عليه وجوه إعرابها؛ من نحو: الفاعلية، والمفعولية، والحالية، والإضافة، وللكلام بعد هذه المعاني الأصلية معانٍ ثانوية، وهي ما يبحث عنها في علوم البلاغة، ويسميها علماء البلاغة: مستتبعات التراكيب.
وبهذه المعاني يرتفع شأن الكلام، وفي مجالها يتسابق فرسان البراعة من الخطباء والكتاب والشعراء، فقد يتفق المتكلمان بمنظوم أو منثور في إفادة المعنى الأصلي، ويمتاز أحدهما عن الآخر بما يلابسه من معان زائدة على المعنى الذي اشتركا في إفادته.
وللقرآن المجيد معان أصلية، هي ما تفيد الآيات المفصلة من الأوامر والنواهي، والحِكَم والأحكام والقصص، وما ترسمه من أوضاع العبادات، وتقيمه من حجج على عقيدة التوحيد، وما تحثُّ عليه من أخلاق وآداب، وتبشر به من ثواب، وتنذر به من عقاب، إلى ما يشاكل هذا من المعاني الزائدة
(1) مجلة "لواء الإسلام" - العدد الثامن من السنة الرابعة الصادر في ربيع الثاني 1370 هـ - يناير كانون الثاني 1951 م.
إلى تهذيب النفس وإصلاح الاجتماع.
نزل القرآن لإفادة هذه المعاني التي تقرر بها حقائق الدين القويم، وأوردها في آيات يلابسها من لطائف المعاني وروعة النظم ما يساعد على وقوعها في النفوس المستعدة لإدراك الحقائق موقعَ الإجلال والإعجاب. ولهذه اللطائف من المعاني والروعة الخاصة بنظمه العربي أثر عظيم في تكوين حقيقة قرآنيته، وبها تمَّ شطر من المهمة التي نزل لتحقيقها، وهو الإعجاز، فهو الكتاب الوحيد الذي ينطق بالدعوة، والحجةِ على صدقها في كلام واحد.
فالباحث في صحة ترجمة القرآن ينظر إلى ناحيتين: المعاني الثانوية التي تمَّ بها الإعجاز، والمعاني الأصلية التي تحصل من مجرد إسناد فعل إلى فاعل، أو خبر إلى مبتدأ.
* المعاني الثانوية:
ليس بالمستطاع أن تُنقل إلى لغة أجنبية المعاني الأصلية، وهي محفوفة بالمعاني التي هي مظهر بلاغة القرآن، والناهضة بقسط عظيم من بينات إعجازه.
وممن نبَّه على هذا في القديم: أبو القاسم الزمخشري في "كشافه" إذ قال: "إن في كلام العرب -خصوصاً القرآن- من لطائف المعاني ما لا يستقل بأدائه لسان".
ولا يسهل على أحد ادعاءُ أن في اللغات المعروفة اليوم، ما يسع نقل معاني القرآن الأصلية، مع ما يلابسها من أسرار المعاني التي يسميها البلغاء: خواص التراكيب.
* المعاني الأصلية:
يمكن نقل المعاني الأصلية إلى لغة أجنبية؛ حيث لا تقصر اللغة الأجنبية عن تأديتها.
قال أبو إسحاق الشاطبي في "موافقاته": "إن ترجمة القرآن على الوجه الأول -يعني: النظر إلى معانيه الأصلية- ممكنٌ، ومن جهته صح تفسير القرآن وبيانُ معانيه لمن ليس له فهم على تحصيل معانيه، وكان ذلك جائزاً باتفاق أهل الإسلام، فصار هذا الاتفاق حجَّة في صحة الترجمة على المعنى الأصلي".
وإذا كان نقل المعاني الأصلية قد يقع صحيحاً، وكان في مستطاع من يجيد لغة أجنبية أن ينقل هذه المعاني من اللغة العربية إلى اللغة التي أجاد معرفتها، لم يبق سوى النظر في تفصيل حكم هذا النقل، وبيان حال المنع منه، أو الإذن فيه.
في القرآن آيات واضحة المعنى، لو نقل معناها الأصلي إلى لغة أجنبية، لتساوى كلام المفسر المحقق العربي، والناقلِ له إلى اللغة الأجنبية في أداء ذلك المعنى الأصلي؛ كآية:{قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 64]، وهي الآية التي صدَّر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم خطابه إلى قيصر وكسرى في الدعوة إلى الإسلام، وهما لا يعرفان العربية، وإنما يتلقيان معناها من طريق الترجمة كبقية ما اشتمل عليه خطاب الدعوة.
فنقلُ المعنى الأصلي لآية أوآيات من هذا القبيل جائز، وهذا ما يريده
أبو إسحاق الشاطبي فيما حكينا عنه آنفاً، ويصح أن يتفق أهل الإسلام على جوازه.
أما ترجمة المعاني الأصلية للقرآن كله، أو لجزء كبير منه متتالي الآيات، فيلحقها من الخلل ما يوجب الحذر منه.
يقع في الذهن أن لترجمة القرآن المجيد فائدة هي نشر دعوة الإسلام بين الشعوب التي لا تفهم الكلام العربي، ويضاف إلى هذا: أن كثيراً من الأوربيين قد صنفوا ما سمَّوه: ترجمة القرآن، واشتملت هذه التراجم على أخطاء فاحشة صدرت منهم على جهالة، أو على عمد، ولا يكفي شرَّ هذا الفساد إلا أن ننقل معاني القرآن إلى تلك اللغات على وجه صحيح.
ويتراءى إزاء هذا وجوهٌ من الفساد تعترض في سبيل ترجمته، حرفية كانت أو معنوية.
ومن هذه الوجوه: أن يكون اللفظ ذا معنيين، أو معانيَ تحتملها الآية، فيضطر المترجم إلى أن يضع بدله من اللغة الأجنبية اللفظ الموضوع لما يختاره من المعنيين أو المعاني؛ حيث لا يجد لفظاً يشاكل اللفظ العربي في احتمال تلك المعاني المتعددة.
واشتمالُ القرآن على آيات كثيرة تحتمل وجوهاً من التأويل -ولاسيما الآيات المتشابهة؛ كآيات الصفات- يجعل من يحاول ترجمته مضطراً إلى أن يأخذ في الترجمة بالوجه الذي يراه راجحاً، فتخرج التراجم -إذا تعددت- مختلفةً اختلافاً متباعداً، وذلك الاختلاف يفتح باباً لتوهم المطلعين عليها -من غير العارفين بالعربية- أنه قد وقع في نُسَخ القرآن اختلاف كما وقع في غيره من الكتب السماوية.
ئم إننا لا نأمن من إخراج شيء يقال له: ترجمة القرآن أن تحل هذه التراجم في أذهان العامَّة من غير العرب محل القرآن نفسِه، ويكتفون بها عن قراءة القرآن في الصلاة، وتلاوتِه على وجه التعبد، ولا يدرون أنهم يتعبدون بغير ما أنزل الله.
ونستخلص من هذا البحث: أن القرآن يراعي في حقيقته المعاني الأصلية مضموماً إليها المعاني الثانوية التي هي وجوه بلاغته.
وترجمة المعاني الأصلية وحدها، وتسميتها: ترجمة للقرآن، يوهم أن المترجم أخذ معاني القرآن من أطرافها، ونقلها إلى اللغة الأجنبية، كما يقال في ترجمة غيره: ترجمة طبق الأصل، وهذا هو الفرق بين التفسير والترجمة، فالمفسر يتكلم بلهجة المبيِّن لمعنى الكلام على حسب فهمه، فكأنه يقول للناس: هذا ما أفهمه من الآية، والمترجم يتكلم بلهجة من أحاط بمعنى الكلام، وصبَّه في ألفاظ لغة أخرى.
فكأنه يقول: معنى هذا الكلام هو عين معنى الآية، وشأن المفسر أن يقول: يعني كذا، وشأن المترجم أن يقول: قال كذا. ولهذا الفرق منع كثير من أهل العلم رواية الحديث بالمعنى؛ لأنها في الحقيقة من قبيل الترجمة، ولم يختلفوا في جواز شرح الحديث؛ لأنه من قبيل التفسير.
والعمل الذي يصان به القرآن الكريم من تحريف، أو وهمٍ يتسرب إليه من طريق الترجمة، ويقضي هو دعوته العامة الخالدة، ويمكّن من لا يعرف العربية من الاطلاع على جانب عظيم من المعاني المودَعة في ألفاظه المنزلة من عند الله: أن يتولى طائفة من الراسخين في الإيمان وفهمِ القرآن تأليفَ تفسير باللسان العربي، لا يزيدون فيه على ما يفهم على وجه التحقيق من
الآية، مع ملاحظة ما اقتضى الإيجاز حذفه، ثم يتولى طائفةٌ ترجمةَ هذا التفسير بأمانة وبراعة، وتظهر هذه الترجمة بعنوان:"ترجمة تفسير القرآن"، وينبه على أن التفسير ألَّفته لجنة، وترجمته تحت إشراف رئاسة دينية حازمة، ومن المعهود أن التفسير لا يخلو من كلمة تنبئ أنه تفسير لا ترجمة.