المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

قصة أيوب عليه السلام   ‌ ‌الرد الثالث (1) كان صاحب المقال الذي حكم - موسوعة الأعمال الكاملة للإمام محمد الخضر حسين - ٢/ ١

[محمد الخضر حسين]

الفصل: قصة أيوب عليه السلام   ‌ ‌الرد الثالث (1) كان صاحب المقال الذي حكم

قصة أيوب عليه السلام

‌الرد الثالث

(1)

كان صاحب المقال الذي حكم بتخطئة جميع المفسرين في تفسير قصة أيوب عليه السلام قد أورد وجوهاً على زعم أنها تُبطل ما قاله المفسرون، فعلقنا على تلك الوجوه ما يدفعها وجهاً بعد وجه، فقام يعيد ذكرها في مجلة تصدر بالقاهرة، ويحكي ما دفعناها به، ثم يحاول الدفاع عنها.

وقد تعرض للدفاع عن الوجه الأول مثها في آخر مقاله الثاني، فناقشنا دفاعه في مقالنا المنشور في الجزء الثاني عشر من المجلد السابع من "مجلة الهداية"، واستبان أنه وجه ليس له في توهين ما يقوله المفسرون من أثر، ثم كتب مقالاً ثالثاً يدافع به عن بقية الوجوه، ويبدي آراء لم يكن أبداها من قبل، فرأينا أن ننقد هذا المقال الثالث، ونكشف عما اشتمل عليه من دفاع لا يجدي، وآراء لا ترتبط بأصول.

حاول صاحب المقال أن يرد ما قاله المفسرون من أن أيوب عليه السلام ابتلي بمرض شديد، فصبر عليه، فقال في مقاله الأول: "وفات المفسرين ثانياً: أن هذا يتنافى مع حكمة الله السامية، وإلا، فكيف يصطنعه لرسالته، ثم ينزل به ما يحول بينه وبين النهوض بأعباء تلك المهمة، وتلك

(1) مجلة "الهداية الإسلامية" - الجزء الثاني من المجلد الثامن الصادر في شهر شعبان 1354 هـ.

ص: 223

المهمة - كما علمت - تتطلب صحة وعافية وقوة وسلامة؟!.

فرددنا هذا في مقالنا الأول، وقلنا:"إن الله يبتلي بعض رسله بمرض غير منفر، ثم يعافيه من ذلك المرض الشديد؛ ليظهر فضل صبره للناس، ويتبينوا أن الأمراض الشديدة قد تعرض للرسل عليهم السلام، ولا يخدش ذلك في نبوتهم، بل يزدادون من الله قرباً".

وقلنا: "وقد جعل الله لكل رسول مقداراً من الوقت يصرفه في الدعوة، وليس بواجب على الله لا عقلاً ولا شرعاً أن يكون رسوله في صحة وتمكن من الدعوة من يوم بعثه إلى يوم وفاته، فإذا بعث الله أيوب، فدعا قومه، وبلغ الجهد في دعوتهم، ثم أصابه بمرض، ثم عافاه فعاد إلى الدعوة، لم يكن هذا منافياً لاصطفائه للرسالة، ولا هو بالأمر الذي يتنافى مع الحكمة".

حكى صاحب المقال ذلك الوجه، وما دفعناه به، وحاول رد ما دفعناه به، فقال:"ليس مثل هذا من المواطن التي يتبين بها فضل الصبر الذي يبلغ من العِظَم أن ينوه به الله، وهو ذو الجلال في كتابه، وهو القرآن المجيد عن أيوب، وهو رسول كريم، فإن مثل ذلك إن لم يكن من الشؤون الهينة في جانب رسول كريم، فهو من الهين في جانب الكتاب العزيز، وإن لم يكن هيناً بالقياس إلى الكتاب، فهو جِدُّ هين بالقياس إلى ذي العظمة والجلال".

قصة المرض الشديد، وملاقاته بالصبر الجميل ليست من الشؤون الهينة في جانب رسول كريم، ولا في جانب الكتاب العزيز، بل هي من الشؤون التي يعظ الله فيها المصطَفَين من عباده، ويذكرهم بها في كتابه، فمن الجلي أن الصبر فضيلة، وأنه يتفاوت في الفضل، بحسب شدة المصيبة، وطول مدة نزولها، وبحسب الغاية التي يحتمل من أجلها المكروه، فلِمن صبر على فقد

ص: 224

ولد يعزُّ عليه مزيةٌ فوق مزية من صبر على فقد مال، ولمن صبر على مرض يطيش معه المنام ليالي كثيرة، فضلٌ على من صبر على مرض يأرق له ليلة أو ليلتين، ولمن صبر على نصب يناله في سبيل الدعوة إلى الإصلاح فضلٌ على من صبر على نصب يلقاه في ابتغاء متاع هذه الحياة.

فالمرض المُمِضُّ من أشد المصائب، والصبر عليه من أسنى الفضائل، فمن حكمة القرآن أن لا يهمل التذكير بالصبر على هذا النوع من المصائب، وما قصة أيوب عليه السلام إلا تذكير بالصبر على مصيبة قد تتزلزل عندها القلوب جزعاً، وقد تشكو منها الألسنة، فلا ترعى في شكواها أدباً.

ثم قال صاحب المقال في رده: "فالمفهوم ألا يحدِّث ذو الجلال والكبرياء في كتاب له مجيد إلى أفضل رسله العظام إلا إذا كان الحديث عن شأن خطير".

يذكّر ذو الجلال والكبرياء في كتابه المجيد أفضلَ رسله العظام بحال أيوب عليه السلام، وقد وقع في بلاء من أشد ما يصيب الناسَ في هذه الحياة، وهو المرض البالغ، والانقطاع عن الأهل، فلاقاه بصبر وسكينة.

فالمرض الشديد يبعث في الجسم ألماً، وفي العين أرقاً، وفي المضجع قلقاً، وفي النفس غماً، وناهيك ببلاء قد يتمنى صاحبه الموت العاجل ليخلص من أوجاعه، فما ينبغي لأحد أن يستخف ببلاء المرض، ويعدَّ التذكيرَ بحال من لاقاه بسكينة ورباطة جأش لا يليق بمقام الرسول، أو القرآن، أو مقام ذي العظمة والجلال.

قال صاحب المقال في رده: "أما المرض، فهو يسير يحتمله عاديُّ الناس، فضلاً عن الرسل الذين هم رجال من البشر ممتازون".

ص: 225

ليست الأمراض من الأمور التي يحتملها عادي الناس، بل الأمراض الممِضَّة لا يحتملها إلا أقوى الناس عزماً، وأثبتُهم في التذكير بالعواقب قَدَماً، ثم إن احتمالها على معنى سكون القلب لها، وامتلائه بالرضا عن قضاء الله بها، وإن طال أمدها، درجةٌ لا يبلغها إلا الأنبياء والصالحون الذين استضاؤوا بحكمتهم، واقتدوا بسيرتهم.

قال صاحب المقال في رده: "فالأمر بين إحدى اثنتين، إما أن يكون مرضاً عادياً، فلا يكون الصبر عليه صبراً يظهر به فضل، ولا يصح أن يتحدث عنه القرآن، وإما أن يكون مرضاً غير عادي بلغ إلى حد أن فرق عليه أهله وقومه كما تزعمون، وذلك ما يتنافى مع الحكمة، فمن يدعو إذا تفرق عنه أهله وقومه؟ ".

ما أصاب أيوبَ عليه السلام مرض شديد غيرُ منفر، ومثله مثل المرض الذي أصاب النبي صلى الله عليه وسلم، وقال:"إني أُوعَك كما يُوعَك رجلانِ منكم"(1).

القرآن ذكر أن الله وهب له أهله؛ أي: جمعهم عليه، ولم يذكر سبب انقطاعهم عنه، فندع الخوض فيه إلى أن يثبت بنقل صحيح.

قال صاحب المقال في رده: "ثم إن مثل هذا المرض يتخذ منه قومه عليه حجَّةً، ويحيطه بالشبه، فلهم أن يقولوا إذ ذاك: إنه مجنون يهذي من شدة المرض، فارجموه، أو أهملوه، ولقد رمى الأنبياءَ أقوامُهم بالجنون، مع أنهم كانوا في صحة وقوة، فكيف إذا كان أيوب على ما تزعمه الإسرائيليات؟ ".

لم نقل: إن أيوب عليه السلام بُعث وهو مبتلىً بهذا المرض، أو

(1)"صحيح الإمام البخاري".

ص: 226

إنه ابتلي به يوم بُعث، وبأي دليل ينفي صاحب المقال أن يكون هذا النبي الكريم بُعث إلى قومه، ودعاهم بالحكمة والموعظة الحسنة، وهو يتمتع بالصحة زماناً كافياً، ثم ابتلاه الله بهذا المرض لحكمة بالغة، ثم كساه ثوب العافية، فعاد إلى الدعوة العامة بقوة؟.

وماذا يكون لو قال قائل: إن أيوب كان يدعو كل من يتصل به، ثم إن المدعوين إلى الحق متى كانوا على شيء من العقل والاستعداد للرشد، يفرقون بين المرض الذي يحتمل أن يكون كلامُ صاحبه من قَبيل الهذيان، والمرض الذي لا يرتابون في أن صاحبه يتكلم في يقظة ذهن، وحضور فكر، فليس من البعيد أن ينتفع أناس بدعوة النبي لهم، ولو في حال مرضه، دون أن تعترضهم شبهة.

أما المعاندون، فقد كفانا صاحب المقال أمرهم؛ حيث ذكر أنهم يرمون بالجنون مَن كان في صحة وقوة.

قال صاحب المقال في رده: "أما أن يتبين الناس أن الأمراض قد تعرض للرسل والأنبياء، فذلك لا يتوقف على أن يكون المرض بالغاً حَدَّ أن يتحدث عنه القرآن لأعظم الرسل والأنبياء".

في تبين الناسِ أن الأمراض الشديدة تعرض للرسل عليهم السلام إزاحةٌ لشبهة كثيراً ما تسبق إلى الظنون، هي: أن شدة بلاء الإنسان علامة هوانه عند الله، وهذه الحكمة مضمومة إلى غيرها؛ من نحو: ظهور فضل أيوب عليه السلام في صبره العظيم، تجعل القصة من نوع القصص التي ينزل بها القرآن على أعظم الرسل والأنبياء.

قال صاحب المقال في رده: "أما أن الله قد جعل لكل رسول مقداراً

ص: 227

من الوقت يصرفه في الدعوة، وأنه ليس بواجب على الله أن يكون الرسول من بعثه إلى وفاته داعياً، فإني أقول لهذا الكاتب: إن ذلك غير صحيح؛ فإن القرآن لم يحدثنا بمثل ذلك عن رسول من الرسل، ولو كانت الدعوة على ما يتصورها الكاتب كمعركة تنتهي بالغلبة أو الصلح، أو سفر ينتهي بالإياب، لما لبث نوح في قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً يدعو فيها إلى الله ".

لم أقل، ولم يقل المفسرون: إن أيوب عليه السلام قام بالدعوة حيناً، ثم تركها وقعد في بيته، أو أقبل على شأن آخر، حتى يكون مثلُ الدعوة مثلَ معركة تنتهي بالغلبة أو الصلح، أو مثل سفر ينتهي بالإياب. وعبارتي تمنع صاحب المقال من أن يتخيل أني أتصور الدعوة كمعركة أو سفر، ولست - بحمد الله - ممن يريد ضرب الأمثال، فلا يوفَّق في ضربها، والصورةُ الصحيحة لقصة أيوب عليه السلام: أن قوماً في جهالة وفوضى، أرسل الله إليهم رسولاً يدعوهم إلى العقائد السليمة، والأعمال الصالحة، فدعاهم ما شاء أن يدعوهم، ولا مانع عقلاً ولا شرعاً بعد هذا أن يبتليه الله بمرض، ثم يعود إلى الدعوة العامة مرة أخرى.

وإذا وسعت الحكمة وجود فترات بين الرسل عليهم السلام، فلم لا تسع وجود فترة قصيرة في أيام دعوة الرسول الواحد، ولا سيما فترة ظهرت لها حكمة سامية، وكانت موطن عبرة رائعة؟

ثم قال صاحب المقال: "وإني أتحدى الكاتب بأن يذكر لي رسولاً واحداً حدد الله له مقداراً من الوقت يصرفه في الدعوة، ثم يستريح بعد ذلك".

أما أن الله تعالى قد جعل لكل رسول مقداراً من الوقت يصرفه في الدعوة، فذلك أمر ثابت لا يحتمل الجدل بحال؛ فإن أيام بعثات الرسل

ص: 228

تختلف مقاديرها كما تختلف مقادير أعمارهم، فنوح عليه السلام بقي في الدعوة ألف سنة إلا خمسين عاماً، ومحمد صلى الله عليه وسلم بقي في الدعوة نحواً من ثلاث وعشرين سنة.

وأما قوله: "ثم يستريح بعد ذلك"، فكلام لم أقله، وقوانين المنطق تأبى زيادة أمثال هذه الكلمات التي لا تفهم من منطوق الكلام، ولا فحواه، ولا هي من مقتضياته، بل في كلامي ما يصرح بصحة أن ينقطع عن الدعوة العامة لمرض، ثم يعود إليها، فأين معنى الاستراحة بعد ذلك؟

حكى صاحب المقال في رده ما قلته من صحة أن يكون أيوب قد مرض، ثم عاد إلى الدعوة، وقال:"إن طبيعة الدعوة والإرشاد تقتضي الاستمرار والاطراد، وإن العقل يقضي بفساد هذه الصورة - يعني: الانقطاع عن الدعوة بمرض -"، وقال في الاستدلال على هذا الفساد المزعوم:"إن انتكاس المرض أشد من بدايته، وكذلك انتكاس الشعوب في المبادئ والتقاليد، ومن التفت إلى ميقات موسى، وأنه لم يغب عن قومه إلا لتلقي التوراة، ومع هذا، ومع استخلافه فيهم أخاه هارون، فقد انتقضوا عليه، وتركوا عبادة الله إلى عبادة العجل، ومن التفت إلى ما كان بعد موت رسول الله، مع أنه لم يمت إلا بعد أن أكمل الدين، وتمت السنَّة، ومع هذا، فقد ارتد كثير من القبائل إثر موته، وكثير منهم حاول منع الزكاة، من التفت إلى هذا، علم أن الدعوة ليس لها مدى تنتهي إليه، بل لا بد لها من تعهد مستمر، وتذكير مطرد".

قلنا: إن أيوب عليه السلام قام بالدعوة، ثم ابتلي بالمرض، ولم نقف على نصوص نعرف منها أن من قومه من اهتدى بدعوته قبل مرضه، فإذا فرضنا أنه لم يهتد به فريق منهم، فلا يقال: إن مرضه يفضي إلى انتكاسهم في

ص: 229

المبادئ والتقاليد، وإذا فرضنا أن من قومه من قبلوا دعوته، ونبذوا مبادئهم وتقاليدهم القديمة قبل مرضه، فإن مرض الرسول كغيبته وموته لا يقتضي بطبيعته انتكاس القوم ورجوعهم إلى الغي بعد الرشد.

وإذا انتكس طوائف من أقوام الرسل عند غيبة الرسول، أو بعد موته، فلأن الإيمان الصحيح لم ينفذ في قلوبهم، ولم يبلغ مبلغ اليقين من نفوسهم، والإيمان الراسخ يحفظ على الإنسان رشده، بل يوجِد منه هادياً يقوم مقام الرسول في مرضه، أو غيبته، أو بعد موته، وهل يستطيع صاحب المقال أن يثبت أن الفريق الذين اهتدوا بدعوة أيوب عليه السلام قبل مرضه من صنف القوم الذين ينتكسون؟ أليس من الجائز أن يكونوا من طبقة المؤمنين الذين لا يغير مرض الرسول أو موته شيئاً من رشدهم؟

كان صاحب المقال أورد على المعنى الذي ذهب إليه المفسرون وجهاً ثالثاً، فقال:"إنهم خرجوا بشأن أيوب عن شؤون جميع الأنبياء، وجعلوه بِدْعاً من الرسل؛ إذ المعلوم ضرورة: أن مصاب الأنبياء والرسل الذي يألمون له، ويضرعون فيه إلى ربهم، إنما هو إعراض قومهم عن دعوتهم، وصد الشيطان للناس عن سبيل الله"، وقال: "من المعلوم: أن كل نبي لا بد أن يصاب بتلك المصيبة؛ بشهادة قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ} [الحج: 52]

إلخ الآية".

فدفعنا هذا: بأن المفسرين حملوا الآية على ما تدل عليه ألفاظها العربية، وحملوها على معنى فيه حكمة وعبرة، وأن اعتراض الشيطان لدعوة كل نبي لا يستدعي حمل كل آية وردت في قصة رسول على معنى هذا الاعتراض.

حكى صاحب المقال في رده هذا الذي قلناه، وحاول دفعه، فقال:

ص: 230

"إن الآية إن لم تكن ظاهرة فيما أقول - لأنه لا يرد عليه من الإشكال ما يرد على المعنى الذي ارتضاه المفسرون من نسبة إنزال المرض بأيوب إلى الشيطان بنصب وعذاب، ولقد حاولوا دفع الإشكال بما لا ينفعهم ولا يجدي-، فالآية ليست صريحة، ولا ظاهرة في تلك الإسرائيليات المشكلة والخادشة لقدس الأنبياء، فلتكن الآية على الأقل محتملة لما تزعمه الإسرائيليات، ولما فسرت به الآية".

المفسرون يقولون: إن الضر في قوله تعالى في سورة الأنبياء: {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ} [الأنبياء: 83] مرادٌ منه: المرض، وهو موافق لما جاء في "لسان العرب" من استعمال الضر في المرض والهزال بوجه خاص، وقالوا: رجل ضرير؛ أي: مريض مهزول.

ثم إن المس في قوله: {مَسَّنِيَ الضُّرُّ} متعلقٌ بذات أيوب، كما أن الباء في قوله:{فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ} [الأنبياء: 84] متصلةٌ بذات أيوب أيضاً، وأيوبُ جسم وروح، وإذا كان للضر معنى شائع عند العرب يتألم منه الجسم والروح، وهو المرض، حملت عليه الآية حتى يقوم الدليل على إرادة غيره. ويوافق ظاهرَ القرآن في المعنى الحديثُ المتفق على صحته، فقد جاء في إحدى رواياته:"لما عافى الله أيوب، أمطر عليه جراداً من ذهب"(1). والمعافاة ظاهرة في الشفاء من المرض.

وأعاد صاحب المقال ما قاله مراراً من أن حمل الآية على المرض يجعلها خالية من العبرة والحكمة، ويجعل أيوب بدعاً من الرسل، وقال: "إذ يكون القرآن قد حدَّث عن أيوب حديثاً لم يحدثه عن أحد من الأنبياء،

(1) كتاب "المستدرك" للحاكم.

ص: 231

وهو حديث المرض، أما سائر الأنبياء، فقد حدَّث عن دعوتهم إلى الله".

لو كان في هذا الذي يقوله شيء من الحق، لجاء آخرُ وأنكر أن يكون يوسف عليه السلام أُلقي في الجب، ودخل السجن؛ لأنه حديث لم يحدثه الله عن أحد من الأنبياء، وهكذا يقال في قصة إبراهيم بذبح ابنه، ثم فدائه، بل في كل نبأ يقصه الله عن رسول، ولم يقصه عن غيره من الرسل.

كان صاحب المقال ذكر في الوجوه التي زعم أنها تبطل قول المفسرين: أن المفسرين قد خرجوا عن سنن القصص في القرآن، وقال:"فإنه لم يقص علينا عن الرسل إلا ما يتصل بأمر الرسالة، ويرتبط بسير الدعوة للعظة والعبرة، وماذا في قصه علينا مرض أيوب من عبرة؟ ".

فقلنا في رده: سنن القصص في القرآن: أن يحدثنا عن الرسل عليهم السلام بما فيه حكمة وموعظة، ولا فرق بين أن تكون هذه الحكمة أو الموعظة مرتبطة بسير الدعوة، أو راجعة إلى ناحية أخرى من نواحي الهداية، أو السعادة أو الكرامة، وذكرنا حديثه عن يوسف عليه السلام حين ألقي في الجب، وعن إبراهيم عليه السلام حين أُمر بذبح ابنه، وعن يعقوب عليه السلام حين ابتلي بفقد يوسف.

فقام صاحب المقال يحاول في رده دفع هذا الذي قلنا، فقال: "قد ذكر هذا الكاتب ثلاثة من الرسل كدليل على أن القرآن قد يقص علينا من شؤون الرسل ما لا يتصل بالدعوة، ويريد أنه بذلك لا تكون الآيات خارجة عن سنن القصص في القرآن، ولكن الكاتب في هذا إما مغالط، وإما أنه ألهاه الغرض عن الفرق بين أيوب، وبين من ذكره من الأنبياء، ولو ألقى عن نفسه الهوى،

ص: 232

لعلم أن القصص الذي جاء به القرآن عن يوسف قصص مفصل طويل قد استغرق من طفولته إلى كهولته، وقد انتظم حوادث خطيرة، وشؤوناً مختلفة، وأموراً ذات خطر، ما بين دليل على فضل، أو أمارة على مجد، مما يصح أن يمتاز به الأنبياء عن غيرهم من النّاس، وأين هذا من مرض أيوب الذي هو - على ما يزعمون - قد شكاه لربه تصريحاً أو تلويحاً، وهو عرض عادي يحتمله كثير من عاديي الناس؟ ".

يتذكر القراء أن صاحب المقال قال في الوجه الأول: "إن المقصود من أن يقص الله تعالى حال الرسل على خاتم أنبيائه صلى الله عليه وسلم إنما هو الاعتبار بما أصابهم في سبيل الله، وما احتملوه من أذى وبلاء في طريق الدعوة إلى الله {وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ} [هود: 120] "، فرددنا عليه: بأن الله تعالى قد قص من حال الرسل ما لا يرجع إلى ما أصابهم في سبيل الله، وما احتملوه من أذى وبلاء في طريق الدعوة، بل قد يذكرهم؛ ليدل على ما كان لهم من خلق عظيم، أو عمل خطير، أو حكمة بالغة

إلخ.

ثم ذكر صاحب المقال في الوجه الرابع: "أن الله لم يقص علينا من الرسل إلا ما يتصل بأمر الرسالة، ويتصل بسير الدعوة"، فقلنا له: قد قص علينا القرآن أن يوسف ألقي في الجب، وبيع بثمن بخس، واستعصم حيث تهيج عاصفة الشهوة، وأن إبراهيم عليه السلام أمر في المنام بذبح ابنه؛ فلما تله للجبين، فداه الله بذبح عظيم، وأن يعقوب عليه السلام ابتلي بفقد يوسف، وحزن عليه حزناً طويلاً. فأخذ صاحب المقال يدفع ما أوردناه من قصة يوسف عليه السلام بهذا الحديث الذي سقناه لكم.

وما حديثه هذا إلا رجوعٌ ثانٍ عن رأيه، فإنه كان يرى أن المقصود من

ص: 233

قصص الرسل هو الاعتبار بما أصابهم في سبيل الله؛ ليبني عليه أن المرض لم يكن مما يصيب في سبيل الله، فلا يقصه الله تعالى عن أيوب عليه السلام، ثمَّ رجع إلى أن قصص الرسل تأتي بما يتصل بأمر الرسالة، ويرتبط بسير الدعوة، ولما ذكرنا له شؤوناً قصها القرآن عن يوسف عليه السلام، وهي لا تتصل بأمر الرسالة، رجع فقال: إن ما جاء عن يوسف مفصل طويل استغرق من طفولته إلى كهولته. ومعنى هذا: أن القرآن قد يقص عن حال الرسل ما لا يتصل بأمر الرسالة، ولا يقصد به الاعتبار بما أصاب في سبيل الله، متى كانت القصة مفصلة طويلة.

وهذا مردود بأن ما ذكر في القرآن، وهو لا يتصل بالرسالة، ولا بأمر الدعوة، إن كان خالياً من العبرة، فالقرآن لا يأتي من القصص إلا بما فيه عبرة، وإن كان مشتملاً على عبرة، فالعبرة التي تستدعي ذكر الشيء المفصل الطويل، تصلح أن تكون داعية لذكر أمثاله في القصة الموجزة.

ثمَّ نقول لصاحب المقال: لا يفيدك أن تكون الحوادث التي اشتملت عليها قصة يوسف عظيمة، ولا أن شؤونها مختلفة، وأن أمورها ذات خطر، وإنما يفيدك أن تبيّن كيف كانت تتصل بأمر الرسالة، وتربط بسير الدعوة، أما أنها تدل على فضل، فصبر أيوب عليه السلام بالمعنى الذي يقوله المفسرون يدلّ على فضل.

وأما قوله: "مما يصح أن يمتاز به الأنبياء عن غيرهم"، فالمعروف أن الأنبياء عليهم السلام يمتازون بالوحي والمعجزات، وبأن أخلاقهم أكمل، وأعمالهم في الإخلاص أبلغ، ومقاماتهم عند الله أرفع، ولم يقل أحد: إن الأنبياء يمتازون بنحو: الإلقاء في الجب، والبيع بالثمن البخس، والامتناع

ص: 234

من فعل الفاحشة، والاجتماع بالأبوين والإخوة بعد غيبة طويلة.

والواقع أن هذه الأشياء من القصة قد ذكرت لتؤخذ منها حكمة وعبرة، ولا اتصال لها بالرسالة إلا من جهة أنها وقعت لرسول عظيم.

ثمَّ قال صاحب المقال في رده: "على أن القرآن لم يقتصر في الحديث عن يوسف على تلك الحوادث ذات البال، بل حدثنا - إلى ذلك - عن دعوته لقومه، وذكر آيات: {وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ} [غافر: 34]، وقوله: {يَاصَاحِبَيِ السِّجْنِ} [يوسف: 39] ".

وهذا تعديل آخر لرأيه، ومعناه: أن القرآن قد يقص من أحوال الأنبياء ما لا يتصل بأمر الرسالة إذا تحدث عن دعوتهم، ولو في موضع آخر.

ونناقش هذا أيضًا بأن ما يقصه القرآن - مما لا يتصل بأمر الرسالة - إنما يقصه لعبرة، ومتى وجدت العبرة في حال من أحوال رسول كريم، جاز أن يقصها القرآن، ولو لم يقص عن ذلك الرسول شيئًا يتصل بأمر رسالته أو دعوته.

وكذلك عمد صاحب المقال إلى ما أوردناه من ذكر الله تعالى لابتلاء يعقوب عليه السلام بفقد ابنه يوسف وحزنه عليه حزنًا طويلًا، وحاول التخلص من هذا بأن: (القرآن لم يفرد يعقوب بالحديث عنه بأنه ابتلي بفقد ابنه، فحزن عليه، وإنما جاء ذلك في طريق الحديث عن يوسف عليه السلام".

وهذا رجوع آخر عن رأيه، ومعناه: أن الله تعالى قد قص من أحوال الأنبياء ما لا يتصل بأمر دعوتهم أو رسالتهم إذا تحدث عنهم عن طريق الحديث عن رسول آخر.

ص: 235

وبمثل هذا حاول دفع ما أوردناه من ابتلاء إبراهيم عليه السلام بذبح ابنه، فقال:"ذلك شأن ذكر على سبيل الاستطراد، ولم يكن هو كل ما حدثنا بها القرآن عن إبراهيم، ولم يذكر القرآن قصة الذبح مستقلة، بل جاءت كتتميم عقب حديث عن أمر دعوته إلى قومه".

والحق أن مدار قصص القرآن على العبرة والحكمة، ولا فرق بين ما يورده مستقلًا، وما يورده عقب حديث عن أمر الدعوة، أو في طريق الحديث عن رسول آخر؛ كما أنَّه لا فرق بين ما يتصل بالدعوة، وما يتصل بغيرها من أسباب المجد أو السعادة.

ثم ذهب صاحب المقال في قصة الذبيح مذهباً آخر، وهو عدم التسوية بين من أمر بذبح ابنه، فسارع في امتثال الأمر مسلماً بقلبه، وبين من مرض، فراح يدعو ربه؛ كما قال - تصريحاً أو تلويحاً -، وقال:"إن ذبح الابن لمما لا يتحمله إلا الأنبياء".

موضوع البحث: هل القرآن يقص من أحوال الأنبياء ما لا يتصل بالرسالة والدعوة؟ أما أن هذا الحال أشد، وأن هذا الحال أخف، فخارج عن موضع البحث.

ثم إن قتل الولد إن نظرنا إليه في نفسه، لم نجده مختصاً بالأنبياء،

فإنا نجد كثيراً من الآباء قد تلابسهم شهوات، فتتغلب على عواطفهم، فيقتلون أولادهم، وإن نظرنا إليه من جهة فعله عن أمر الله، لم نستطع أن نقول: هذا لا يحتمله إلا نبي، فإنه يرجع إلى قوة الإيمان، وإسلامِ القلب إلى الله، ولا نشك في أن عمر بن الخطّاب، أو أبا بكر الصديق، أو غيرهما من صادقي الإيمان لو أتاه أمر من الله بذبح ابنه، لفعل ما أمر به على وجه يُعد به عند الله

ص: 236

ممتثلاً مخلصاً، ولا يصح أن يكون الإيمان الصحيح وتقوى القلوب أضعفَ أثراً من تلك الشهوات التي تدفع إلى قتل بعض الأبناء بغير حق.

وليعتبر صاحب المقال بقوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ} [النساء: 66]؛ فقد أثبت في هذه الآية أن من المسلمين من لو أمر بقتل نفسه، لفعل، والذي يقتل نفسه امتثالاً لأمر الله يحتمل أن يقتل ابنه امتثالاً لمثل هذا الأمر.

ولكن الفرق بين الرسول وغير الرسول - في قتل الابن امتثالاً لأمر الله - يرجع إلى حال القلب، وهو أن يكون رضا الرسول بالابتلاء أقوى، وغلبة إجلاله له على عاطفة الأبوة أظهر.

ص: 237