الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قصة أيوب عليه السلام
الرد الرابع
(1)
كان صاحب المقال قد أورد على المفسرين: أن حديث حلف أيوب، والرخصة له بالخلوص منه على ذلك الوجه أشبهُ شيء بالعبث الذي لا يليق بالمخلوق، فضلًا عن الخالق، وقال:"إذ المعقول: أن العبد إنما يحتال للخلوص من الربّ، فكيف يحتال الربُّ للخلوص من نفسه، فهو تعالى المحلوفُ به، وهو تعالى الدالُّ على الحيلة - فيما يزعمون -".
وقلنا في الرد عليه: إن المفسرين لا يفهمون الآية على معنى الدلالة على الحيلة، وإنما يفهمونها على أنها شرعُ حكمٍ من الله، روعي فيه جانبُ الرحمة بمن حلف أيوبُ عليه السلام على ضربه، فهو حكم صدر على وجه الفتوى لأيوب خاصة، أو له ولقومه، وعلى كل حال، فهو شرع معناه: أن الضرب بضغث يشتمل على مئة عود - مثلاً - يحقق عند الله تعالى غرض الحالف على الضرب بمئة سوط.
أرأيتم ماذا قال صاحب المقال في محاولة الرد على هذا؟
قال: "يتحرج هذا الكاتب من أن أقول: دلَّ الله أيوبَ على الحيلة، ولكن لا يتحرج من أن يقول: شرع الله الحيلة، مع أن هذا أبشعُ وأفظع،
(1) مجلة الهداية الإِسلامية - الجزء الثالث من المجلد الثامن الصادر في شهر رمضان 1354 هـ.
وإنا إذا قدمنا الله عن أول المعنيين، كان أولى أن نقدسه عن الثاني؛ فإن شرع الحيل تعليم للمراوغة، وقضاء على الأعمال أن تكون صوراً خالية من "رواحها".
لو نظر صاحب المقال في المعنى الذي يقوله المفسرون من جهة أنه المعنى الذي اتفق عليه علماء الإِسلام من مفسرين ومحدثين وفقهاء، لخفف شيئًا من هذه النزعة، وتناول بحثه في شيء من الهوادة، شأنَ الباحثين الذين يعرفون أن رمي أولئك العلماء قاطبةً بأنهم نسبوا إلى الله ما لا يليق به، ليس بالأمر الهين الذي تكفي فيه حركة لسان، أو جرة قلم.
ولو ألقى صاحب المقال نظرة على كتب السنَّة، لوجد فيها شيئاً يدعوه إلى التثبت فيما يكتب، يجد فيها أحاديث مسندة إلى النبي صلى الله عليه وسلم صريحة في أن الضعيف الذي لا ترجى له صحة، ويثبت عنه الزنا، ويخشى من جلده مئة جلدة الهلاك، أن يُضرب بعُثكول فيه مئة شِمراخ ضربةً واحدة، ولم يطعن في هذه الأحاديث أحد بأنها نسَبت إلى الله، أو إلى النبي صلى الله عليه وسلم ما لا يليق به.
وهذا الحكم الذي تضمنته هذه الأحاديث قد قرره جمع عظيم من أئمة الدين؛ كالحنفية، والشافعية، والحنابلة، واتخذوه مذهباً.
ولا أورد هذا على معنى أنه حجة قاطعة عن البحث، وإنما أريد: أن أمرًا اتفق عليه المفسرون على اختلاف مذاهبهم، ووردت بمثله أحاديث قالوا في بعضها: إن رجاله رجال الصحيح، وقرره جمع عظيم من أئمة الدين في مذاهبهم، لا ينبغي لذي علم أن يهاجمه من غير أن يُعِدَّ له قوة.
والحق أن لله تعالى أن يشرع من الأحكام ما يرى الحكمة في شرعه، وله أن يغير حكماً أشدَّ إلى ما هو أخفُّ إن قضت الحكمة التخفيف، وليس
في تفسير الآية بالمعنى الذي يقوله المفسرون تعليمٌ للمراوغة، وإنما هو شرعُ حكمٍ أخفَّ من الضرب مئة سوط مفرقة، وليس في هذا التشريع قضاء على الأعمال أن تكون صوراً خالية من أرواحها؛ فإن في الضرب بالضغث إيلاماً، إذ المراد: الضرب به على الطريقة المعروفة في إقامة الحدود.
قال صاحب المقال في رده: "وإنا نسائل الكاتب، ونشتد في سؤاله: هل ما حلف عليه أيوب كان مما يتعذر أو يتعسر تنفيذه، أو لم يكن كذلك؟ فإن كان الأوّل، كان معنى هذا أن أيوب قد غلبه غضبه، فكان منه ما لا يكون إلا من شرار الناس دون خيارهم، وكيف ينزل أيوب وهو نبي إلى هذا الدرك، فيحلف على أمر يتعذر أو يتعسر عليه تنفيذه، ويحتاج في الخلوص منه إلى شرع حيلة، وإن كان الثاني، كان هينَ! التنفيذ يسيراً".
إن أيوب عليه السلام حلف على أمر يستطيع تنفيذه، ولكن في تنفيذه شيء من الشدة على المحلوف على ضربه، فاقتضت رحمة الله بالمحلوف على ضربه أن يخفف عنه العقاب، ومن الجائز أن يكون هذا المحلوف على ضربه بحال من ضعف البدن استحق بها هذا التخفيف على نحو ما ورد في تخفيف الحد على الضعيف الذي لا يرجى صحته.
ثم إن أيوب عليه السلام إنما ابتغى بحلفه على ما حلف رضا الله، ولا يمنع هذا من أن يرتاح لتخفيف حكم العقاب على بعض المؤمنين به، ويعده رحمة به، كما كان رحمة للمحلوف على ضربه، والأنبياء عليهم السلام يستقيمون على أمر الله، وينفذون أحكامه دون أن تأخذهم في دين الله رأفة، ويرتاحون لتخفيف الأحكام على أممهم، بل يطلبون لهم من الله تعالى التخفيف، ومن شواهد هذا: حديثُ الصلوات ليلة الإسراء، وطلب النبي صلى الله عليه وسلم تخفيفها
إلى أن صارت الخمسون خمساً.
قال صاحب المقال: "أما أنها حيلة، فليس للكاتب مناص من القول بذلك؛ إذ الحيلة ليست شيئًا غير معالجة الوصول إلى غاية من غير طريقها المقدر لها، حين يتعذر أو يتعسر سلوك هذا الطريق إليها، وما دام أيوب عليه السلام كان قد حلف على غير هذه الصورة، فحصول تلك الصورة للخلوص من يمينه يجعلها حيلة لا محالة".
بعد أن يشرع الله تعالى الضرب بالضغث، ويجعله كافياً عن الضرب مئة سوط مفرقة، يصير الضرب على نحو المشار إليه من قَبيل العمل الذي يوصل إلى غاية من طريقها المقدر لها.
وكان صاحب المقال قد قال في ذلك المقال: "وإذا كان الله قد أراد أن يُعفي أيوب من يمينه، فماذا يمنعه أن يُعفيه بدون تلك الحيلة، وهي منه ومن أجله؟ ".
فقلنا تعليقاً على هذا: "إن الكفارة عن اليمين إنما شُرعت في الإِسلام، فالحالف في عهد أيوب ليس له إلا فعلُ المحلوف عليه، فأرشد الله أيوبَ إلى وجه أخف. ومن الذي يستطيع أن ينكر أن الله قد يخفف بعض الواجبات المشتملة على مشقة، فيسقط بعضها، أو يقيم ما يشبهها من بعض الوجوه مقامها؟ ".
فكان من صاحب المقال أن قال في رده: "فلم لم يشرع الكفارة في هذا الوقت، وقد اقتضتها الأحوال والحوادث، بدلَ أن يشرع هذه الصورة التي إن لم يسلم الكاتب أنها حيلة، فهي على الأقل على صورة الحيلة؟ "، ثم قال: "أمَّا تلك الصورة التي يزعمها المفسرون، فهي أشبه شيء بالعبث،
لا يتحقق معه حكمة، ولا يليق بالله تشريعها".
ليست تلك الصورة من قبيل الحيلة، ونحن لا نعرف، ولا صاحب المقال يعرف: أن الأحوال والحوادث لذلك العهد قد اقتضت شرع الكفارة، أما أن حالة من حلف أيوب عليه السلام على ضربه تقتضي رحمة، فهذه الرحمة ترجع إلى تقدير علام الغيوب، فإذا شرع ما يخفف عنه أمر الضرب، فذلك تقدير حكيم.
وتعلق صاحب المقال بعد هذا بأمر صغير هو: أنه وقف عند قولي: "فأرشد الله أيوب إلى وجه أخف"، وقال:"ولا يفوتني أن ألفت الكاتب هنا إلى أنه قد رجع من أن هذا كان تشريعاً إلى كونه إرشاداً، وتلك هي عبارتي أو في معناها".
ومن الواضح الجلي أن قولي: "فأرشد" بعد أن صرح قبل ذلك وبعده بأن ما كان من الله إنما هو تشريع، يفهم منه القارئ لأول نظرة: أن المراد: الإرشاد على وجه التشريع، فأين هذا من قوله: إنه دلالة على الحيلة، وتعليم للمراوغة؟.
ثم قال صاحب المقال: "على أنه إذا كان ما حلف عليه أيوب قد بلغ حدّ المشقة، فقد صار من باب: الضرورات، والضروراتُ تبيح المحظورات، ويجب أن يكون هذا التشريع غير خاص بالإِسلام؛ فإن عدالة الله ورحمته أزليتان، فلا يكلف الله نفساً إلا وسعها، وإعفاء أيوب يكون على هذا الوجه غير تلك الصورة التي يجب أن يتنزه عن تشريعها رب العالمين".
قد يكون ما حلف أيوب عليه السلام ممكن التنفيذ، وليس هناك ضرورة من نوع الضرورات التي تبيح المحظورات، وإنما هناك حال اقتضى
تخفيفَ الحكم، وما يقتضي تخفيف حكم العقاب غيرُ ما يقتضي الإعفاء منه جملة.
ثم قال صاحب المقال في رده: "ولقد أتى الكاتب هنا بعبارة مجملة ملفوفة لا يفهم القارئ منها مراده، وهي قوله: "ومن الذي يستطيع أن ينكر أن الله قد يخفف بعض الواجبات المشتملة على مشقة، فيسقط بعضها، أو يقيم ما يشبهها من بعض الوجوه مقامها؟ ".
ثم كتب نحو صفحة تحدث فيها عن تخفيف بعض الواجبات، ولم يأت ولو بشبهة في رد هذا الذي قلته، فلنزد ما قلته بياناً، ثم نعرض عليك ماذا قال صاحب المقال في هذا المقام:
أما البيان، فذلك أن الله تعالى قد يخفف بعض الواجبات، فيسقط بعضها كما خفف عمن نذر التصدق بجميع ماله، فجعل الثلث مجزئاً عن الجميع، وقد يخفف بعض الواجبات، فيقيم ما يشبهها من بعض الوجوه مقامها، كما أقام التيمم مقام الوضوء، وكما أمر إبراهيم عليه السلام بذبح كبش مقام ذبح ابنه، وجعل ابن عباس قصة الذبيح موضع قياس، فأفتى فيمن نذر ذبح ابنه بذبح شاة، فشَرعْ الضرب بالضغث مكان الضرب بالسوط مئة مفرقة من قَبيل تخفيف الواجب بإقامة ما يشبهه من بعض الوجوه مقامه.
وأما حديث صاحب المقال، فإنه قسم تخفيف بعض الواجبات إلى نسخ، وإلى استثناء في أحوال مخصوصة، وخرج من هذا التقسيم: بأن الضرب بالضغث مكانَ الأسواط المفرقة لا يصح أن يكون من هذا القبيل، فقال: "ويجب أن يلتفت إلى أن إسقاط بعض الواجب نسخاً لا يكون إلا بعد تطور
في الأمة يقضي بتغيير صورة المشروع".
ذهب قوم من أهل العلم إلى أن الضرب بالضغث مكانَ الضرب بالسوط مفرقة، كان شريعة لأيوب عليه السلام ولقومه عامة، وليس لأحد أن ينازع هؤلاء بدعوى أن هذا نسخ، والنسخ لا يكون إلا بعد تطور الأمة؛ إذ حالة تلك الأمة غير معروفة لنا.
ثم إننا نعلم أن أحكاماً قد تغيرت في عهد نزول الوحي، ونعلم أنها لم تتغير إلا لحكمة، فمدار النسخ على تحقيق الحكمة، وإذا ثبت النسخ بنص أو إجماع، أو بمعرفة أن هذا الحكم متأخر عن هذا الحكم، ولم يمكن الجمع بين دليليهما، فقد تقرر النسخ عند أهل العلم، وليس لأحد أن يطالبهم بعد هذا بإثبات أن الأمة تطورت تطوراً يقتضي هذا التشريع.
فإذا وردت آية من القرآن الكريم، ورآها بعض النظار من قبيل الناسخ لحكم سابق؛ فللرد عليه طرق معقولة؛ كأن ينازع في إفادة النص تغيير الحكم على وجه القطع، أو في تأخره عن الحكم المدعى نسخه، أو في عدم صحة الجمع بين دليلي الحكمين.
وذهب قوم آخرون إلى أن حكم الضرب بالضغث رخصة لأيوب عليه السلام خاصة، ورجحوا مذهبهم بأن قوله تعالى:{إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا} [ص: 44]، يشير إلى وجه الترخيص، فيكون الترخيص مقصوراً على من وجد منه الصبر، وهو أيوب عليه السلام.
قال صاحب المقال في رده: "وأن الإسقاط استثناء إنما يكون لطوارئ تجعل الواجب شاقاً، وتكون تلك الطوارئ ليس للمكلف دخل في صورتها؛ لأنه إنما يستحق رحمة الله، فيخفف عنه الواجب؛ لأنه لا دخل له فيما صعب
به ذلك الواجب، أو يكون له تدخل بمباح؛ كالسفر في قصر الصلاة، على أن السفر قد يكون لطوارئ لا مدخل للمكلف فيها، بل تكون وليدة القدر البحت".
أخذ كاتب المقال في شروط الإسقاط: أن لا يكون للمكلف دخل في سببه الذي هو صعوبة القيام بالواجب، إلا أن يكون التدخل مباحًا، كالسفر في قصر الصلاة، وبنى على هذا: أن أيوب عليه السلام يكون بمقتضى قول المفسرين- قد تدخل في صعوبة الواجب تدخلًا غير مباح، فلا يستحق الرحمة بتخفيف الواجب عنه، فقال:"أما ما تزعمه الإسرائيليات - يعني: ما اتفق عليه المفسرون -، فمقتضاه أن أيوب عليه السلام هو الذي أراد أن يحمل نفسه هذه المشقة التي احتاجت إلى تلك الحيلة، واحتاجت إلى ذلك العبث الذي لا يعقل كونه تشريعاً عاماً، فإن كان التخفيف ليس عامًا، بل هو خاص بذلك الحادث، فقد قلنا: ما ضرورة هذا اللعب حينئذ؟ ".
نظر صاحب المقال فيما يقوله المفسرون نظرة مستعجلة، وكان من أثر هذا الاستعجال: أن صنع له مقتضيات لم تكن بينها وبينه صلة.
يقول المفسرون: إن أيوب عليه السلام حلف على أن يؤدب شخصاً قال أو فعل ما يستحق عليه التأديب، وما كان غضبه عند الحلف إلا لله، والنبي لا يؤدِّب إلا بحق، وليس في الحلف على الوعيد من إثم، فلم يتدخل أيوب عليه السلام في سبب الواجب الشاق من طريق محرم، فهو حقيق بالرحمة، وأهلٌ لأن يخفف عنه ما فيه مشقة.
وليس فيما شرعه الله من كفاية الضرب بالضغث من حيلة، ولا عبث،
ولا لعب، وإنما هو حكم من الأحكام التي ينزلها على رسوله حاملة شيئاً من التخفيف عنه وحده، أو عنه وعن أمته عامة، وليس بمستنكر أن يختص الله نبيًا من أنبيائه ببعض الأحكام، وليس بمستنكر أن يخفف الله عن الأمة بعض الواجبات الشاقة، وإن لم يظهر لنا أن مشقة الواجب ازدادت على ما كانت عليه شدة.
كان صاحب المقال ادعى: أن المعنى الذي يذكره المفسرون ينزل بالآية عن مستوى البلاغة الذي هو في متناول البشر، فضلًا عن الإعجاز الذي يجب أن يكون للقرآن الكريم، وعلل هذا بأنهم ذكروا قوله تعالى:{وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا} [ص: 44]، معنى يتوقف على ما لا يفيده سابقه، ولاحقه؛ لأنهم جعلوا:{وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا} متوقفا على خبر أن أيوب كان قد حلف ليضربن امرأته مئة سوط.
وقلنا في رد هذا: إن القرآن كتاب إرشاد، ومأخذ عبر، فقد يسوق من القصة أشياء هي موضع العبرة، وشملك في سوقها طريق الإيجاز، وقوله في هذه القصة:{وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ} [ص: 44]، يتبادر منه إلى الأذهان أن أيوب عليه السلام حلف أن يضرب شخصاً أسواطاً، فأوحى الله إليه أن يضرب بهذه الأسواط مجموعة، ولا يتوقف موضع العبرة في هذا على معرفة سبب الحلف، أو الشخص المحلوف عليه، أو عدد الأسواط.
كان من صاحب المقال أن قال في رده: "ولكن الله قد قص علينا من شؤون الأنبياء قصصاً مفصلاً مطولاً، وإن شئت أوضح شاهد على ذلك، فدونك سورة يوسف التي استغرقت شؤونه من طفولته إلى كهولته".
من الرسل عليهم السلام من لم يقص الله من أنبائهم شيئاً، ومنهم
من قص من أنبائهم، وما يقصه من أنباء هؤلاء يتفاوت قلة وكثرة، فقد يأتي من سيرة رسول على شؤون قليلة، ويأتي من سيرة آخر على شؤون أكثر من ذلك، وفي كُلٍّ حكمة ومأخذُ عبرة.
وقصة يوسف عليه السلام ذُكرت فيها شؤون من طفولته، وشؤون كهولته؛ لما في هذه الشؤون من عبر ذات أثر في الوعظ والإرشاد، ولا يستطيع أحد أن يقول: إن قصة يوسف قد استغرقت شؤون طفولته، وشؤون كهولته، وإن ذكر فيها من شؤونه أكثر مما ذكر في القرآن من شؤون غيره.
فالتفصيل في قصة يوسف عليه السلام إنما هو بالنسبة لما ذكر من شؤون غيره، ولو نظر صاحب المقال إلى أسلوب سوق القصة، وقاسه بأسلوب مؤرخ يعلم حالَ يوسف من نشأته إلى يوم وفاته، لظهر له كيف سلك القرآن - حتى في قصة يوسف - طريقةَ الإيجاز.
وأزيد على هذا: أني لم أقل: إن القرآن يسلك في القصص مسلك الإيجاز دائمًا، وإنما قلت:"فقد يسوق من القصة أشياء هي موضع عبرة، ويسلك في سوقها مسلك الإيجاز"، ومن القريب إلى اللهم حمل "قد" في قولي:"فقد يسوق من القصص" على التكثير، أو التقليل، فتكون عبارتي في معنى: أن القرآن يسوق في بعض الأوقات، أو أكثر الأوقات من القصص أشياء هي موضع العبرة، ويسلك في سوقها طريق الإيجاز، ومقتضى أدب البحث وقوانين المنطق الفطري أو اليوناني أن يقال في الرد علي: إن القرآن لم يسلك فيما يقص عليك مسلك الإيجاز قط، لا أن القرآن قد سلك في بعض القصص مسلك التفصيل أو التطويل.
ثم قال: "وليقل لنا هذا الكاتب بعد هذا: ما معنى إذن أن القرآن ليس
كتاب تاريخ، وإنما هو كتاب إرشاد؟ وليقل لنا: بماذا يسمّى ما قصه علينا القرآن من تاريخ الأنبياء؛ وهل التاريخ إلا إرشاد مبين وعبرة بالغة؟ ".
إذا قلنا: إن القرآن ليس بكتاب تاريخ، فلأنه أنزل ليعظ الناس، ويعلمهم الحكمة، وإذا أخبر ببعض شؤون من مضوا من الرسل وغيرهم، فلِما فيها من حكمة أو عبرة. أما المؤرخ، فإنَّه يقصد لتدوين أخبار الأفراد أو الدول أو الأمم، ولا يبالي أن يسوق من الأخبار ما لو عصرته لم تجد فيه شيئاً من العبرة أو الحكمة.
ثم قال صاحب المقال في رده: "ويقول هذا الكاتب: قد يسوق القرآن من القصة شيئاً هو موضع عبرة، وإنا نسائله، ونلُحف في سؤاله: ما هي تلك العبرة في أن حلف أيوب أن يضرب أحدًا من الناس ضربًا قد شق عليه تنفيذه، فاحتاج إلى تلك الحيلة للخلوص منه، أفي مثل هذه دلالة على صبر، أو على شجاعة، أو على أي فضيلة من الفضائل؟ إن مثل هذا إن دلَّ على شيء، فإنما يدلّ على خلق لا يليق بخواص الناس، فضلًا عن الأنبياء؛ إذ الاندفاع بأذى غير محتمل، شر، وشر منه الحلف على ذلك الوعيد".
إذا صدر من شخص قول أو فعل، فرأى النبي صلى الله عليه وسلم أنه يستحق جزاء على هذا القول أو الفعل، وقدر الجزاء بأسواط معدودة، ثم شرع الله حكماً فيه تخفيف هذا الجزاء، كان في هذا التخفيف رحمة بذلك الشخص، ورحمة بالنبي؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم- وإن كان يرى أن ما حلف عليه من العقاب حق، وأن تنفيذه عدل - قد يتمنى لو أن ذلك الشخص لم يأت ما استحق عليه هذه العقوبة، فإذا خفف الحكم ممن بيده الأمر، ارتاح له، وسرَّه أن كان هو، أو هو وأتباعه مظهراً لتلك الرحمة الأزلية.
فلا حرج على النبي صلى الله عليه وسلم أن يحلف متوعداً على تأديب من يستحق الأدب، بل يعد حلفه أثراً من أثر الغضب لله، وله في تنفيذه المثوبة. ولا حرج عليه في ارتياحه لأن يخفف الله عنه أو عن أتباعه حكماً فيه شيء من المشقة، فإذا دلت الآية على أشياء، فإنها تدل على فضيلة الغضب لله، وعلى جواز الوعيد بالعقوبة البدنية على فعل أو قول لم يراع فيه حق الله، وعلى إباحة الحلف على هذا الوعيد، وعلى أن للحلف بالله حرمةً توجب على الحالف فعلَ ما حلف عليه، فلا يتركه، ولا يفعله على غير وجهه المعروف إلا أن يأذن به الله، وتدل بعد هذا على الخلق العظيم، أو العمل الصالح يجعل الشخص بمقربة من رحمة الله، ويكون سبباً لتخفيف بعض الأحكام، كما أن المعاصي قد تكون سبباً لشدة بعض الأحكام:{فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا} [النساء: 160] الآية.
قال صاحب المقال في رده: "أما تبادر هذا المعنى الذي يذكره المفسرون، فإنما كان من وقوفهم أمام تلك الإسرائيليات مكتوفي الأذهان، مغلولي الأيدي، حتى أصبح هذا المعنى متوارثاً يأخذه اللاحق عن السابق، ولولا تلك الإسرائيليات، ما استطعت أن تفهم هذا من الآية".
الضغث: الحزمة من الأعواد، والحنث: الخلف في اليمين، فقوله:{وَلَا تَحْنَثْ} [ص: 44]، يدلّ على أن أيوب عليه السلام صدر منه يمين، وقوله:{وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ} [ص: 44]، يدل على أن الحلف كان على الضرب أسواطًا بقصد أن تكون مفرقة، وأن الله تعالى أراد تخفيف هذا العقاب، فجعل الضرب بالأعواد المجموعة مجزئاً.
ثم إن هذا المعنى هو الذي يرويه المفسرون والمحدثون عن بعض
الصحابة، ولم يرووا - فيما نعلم - عن أحد منهم معنى غير هذا المعنى، ودعوى أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وفضلاء التابعين وقفوا في تفسير الآية أمام تلك الإسرائيليات مكتوفي الأذهان، مغلولي الأيدي، لا نراها إلا دعوى ناشئة عن نظرة عجلى.
قال صاحب المقال في رده: "وإذا صحَّ أنه يفهم من الآية، فأي مناسبة بينها وبين الآيات قبلها؟ وما معنى قوله حينئذ بعد هذا: {إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا} [ص: 44]، وليس في ذلك دليل على صبر؟ ".
ذكر الله تعالى من قصة أيوب عليه السلام: أنه نادى ربه لاجئاً إليه مما مسه به الشيطان من النصب والعذاب: {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ} [ص: 41]، فاستجاب الله نداءه، وأراد كشفَ التفسير عنه على طريق معجزة، فأمره بضرب الأرض برجله، فنبعت عين بماء بارد، فأذن له في الاغتسال والشرب منه، فعوفي:{ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ} [ص: 42]، ثم أنعم عليه بعد المعافاة بنعمة أخرى هي جمعهم عليه بعد إنقطاعهم عنه:{وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ} [ص: 43]، ثم عطف على هذا نعمة أخرى هي: أَنْ خفف عنه حكم يمين تتعلّق ببعض أتباعه: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ} [ص: 44]،
فتضمنت الآيات: أن الله تعالى أنعم على أيوب عليه السلام بثلاث نعم، هي: معافاته من المرض، وجمع أهله حوله، وتخفيف حكم اليمين عنه، وعد هذا من النعم؛ لأنه كان يود أن المحلوف على تأديبه لم يأت الأمر الذي أوجب هذا الأدب، وبعث على هذه اليمين.
ثم ختمت القصة بالإيماء إلى أنه حقيق بأن يكون مظهراً للعناية، ومصباً
للنعم، فقال تعالى:{إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} [ص: 44]، والصبر والرجوع إلى الله تعالى في كل حال من أجل الوسائل التي تدني الإنسان من عناية الله ورحمته، فينقله من مقام الصبر على الضراء إلى مقام الشكر على السرّاء.
قال صاحب المقال: "أما إذا جرينا على ما فسرتُ أنا به الآيات، فإنك تجد الآيات كلها ترجع إلى أصل واحد، ويربطها نسب واحد، وكلها تصور موضوعًا واحدًا"، ثم أعاد ذكر ما فسر به الآيات، حتى تفسيره لقوله تعالى:{وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ} [ص: 44]؛ من حملها على معنى "لَوِّحْ إليهم بالأزهار والرياحين"، وجعلها كناية عن اللين في الدعوة؛ ثم قال:"وبذلك نجد موقعًا جدَّ مناسب لقوله تعالى: {إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا}؛ فإنَّه ليس أمضَّ على النفوس، ولا أغمض فيها من أن تدعو قوماً على حق مؤيد بالبرهان، ثم هم يعرضون ويستهزئون، ثم ترى نفسك بعد ذلك وأنت محتوم عليك ملاينتهم ومحاسنتهم".
قد أريناك وجه ارتباط قوله تعالى: {إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا} بالآيات قبله على الوجه الذي يقرره المفسرون، وهو جارّ على أن هذه الآية واقعة مما قبلها موقع السبب من المسبب، فيرجع نظم الآيات إلى معنى: أنعمنا عليه بالمعافاة، وجمع الشمل، وتخفيف حكم تلك اليمين؛ بما كان يتحلّى به من فضيلتي: الصبر، والإنابة إلى الله في كل شأن.
أما صاحب المقال، فإنَّه زعم في مقاله أن أيوب عليه السلام كان في وهن عزيمة، وضعف ثقة، وعدم قوة في السير إلى الغاية، فأمر أن يكون ذا عزم، وقيل له:{ارْكُضْ بِرِجْلِكَ} [ص: 42]؛ أي: اعقد عزمك، ثم فسر قوله
تعالى: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ} [ص: 44]، بمعنى: جادلهم بالرفق، ولما وصل إلى قوله تعالى:{إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا} ، ووجد هذا الثناء البليغ ينقض قوله: إن أيوب كان في وهن من العزم، وضعف في الثقة، جعل الصبر راجعاً إلى احتماله الإعراض والاستهزاء، ومقابلتها بالتلويح بالأزهار والرياحين بعد أن أمر بذلك.
ومقتضى هذا التأويل: أن الصبر في قوله تعالى: {إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا} حصل بعد أن ظهر منه وهن العزم، وضعف الثقة، ولكن المفسرين يذهبون في وجه الربط إلى أن أيوب عليه السلام كان مفطوراً على الصبر من أول أمره، فلم يهن عزمه، ولم تضعف ثقته، ولم تعدم قوته على السير إلى الغاية، ومن كان على هذه الصفة، فهو أهل لهذا الثناء البليغ:{إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} [ص: 44]، وأحقُ من رجل اصطفاه الله للرسالة، فظهر منه - كما يزعم صاحب المقال - وهنُ العزم، وضعف الثقة، وعدم القوة على السير إلى الغاية!.