الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قصة أيوب عليه السلام
الرد الثاني
(1)
كان أحد أهل العلم قد قام بحركة نقد غير معتدل، وجَّهه نحو المفسرين، ووقع في يدي المقال الثاني من مظاهر هذه الحركة، فلقيتني فيه آراء ناشزة، ووجدت صاحبه ينادي في آخره بأنه سيتمادى في هذا الشأن، فرأيت أن أنبه طلاب العلم لما في هذه الآراء من نشوز، ورجوت أن يتنبه صاحب المقال للانحراف الذي أخذ قلمه في بعض الجمل، فيسلك مسلك الاعتدال فيما يكتبه بعدُ في تقصير المفسرين.
اطِّلع صاحب المقال على ما كتبته، ونشُر في مجلتي "الفتح"، و"الهداية الإسلامية"، فكتب يحاول الرد عليَّ في مقال نشره في إحدى المجلات التي تصدر في القاهرة، فقرأت هذا المقال، فألفيته قد أعاد ذكر تلك الآراء، وأضاف إليها أخوات، فرأيتني مضطراً لأن أعلق على هذا المقال أيضاً جملاً تُنبه لما بينه وبين المنطق الصحيح من مجافاة.
افتتح صاحب المقال رده بكلمات عبر بها عن إخلاصه فيما كتب، ثم قال:
"ولا أدل على أني كنت كتبت ما كتبت مخلصاً: أن مقالي لم أحاول
(1) مجلة "الهداية الإسلامية" - الجزء الثاني عشر من المجلد السابع الصادر في جمادى الثانية 1354 هـ.
فيه إلا غاية واحدة، هي المحافظة على قدس الأنبياء، والإعلاء من شأن الأنبياء بمقدار ما يوجب لهم الإسلام".
لا يدل نقد الآراء على أن الناقد يتهم صاحبها بعدم الإخلاص، وإخلاصُ صاحب الرأي لا يمنع من نقد الرأي نفسِه إذا لم يكن واضحَ الدليل، وفيما قاله المحققون من المفسرين في تفسير قصة أيوب عليه السلام محافظة على قدس الأنبياء عليهم السلام، والإعلاء من شأنهم بمقدار ما يوجب الإسلام.
حكى صاحب المقال في رده قولي: "وقد وقفت في هذا المقال على آراء لا تدخل تحت قوانين المنطق، ولا تقبلها بلاغة القرآن، فأردت تنبيه طلاب العلم لما في تلك الآراء من نشوز حتى يكونوا على بينة من أمرها"، ثم قال:"أما غيرة الكاتب - يعنيني - على الطلاب، فكان من حقها أن تكون في حمايتهم من الوقوع في خرافات قد تصادم القطعيَّ من الدين، أو تزلزل أصلاً من أصوله، أو تشوه جمالَ الإسلام، أما حمايتُهم من خطأ في قانون منطقي أو بلاغي، فذلك أمر يسيرٌ ما دام لا يُفضي بهم إلى باطل من الدين".
حق طلاب العلم علينا أن نحميهم من الوقوع في خرافات تصادم المعلوم من الدين، أصلاً كان أم فرعاً، وحقهم علينا أن نحميهم من آراء نخشى أن تفضي بهم إلى الغفلة عن شيء من حقائقه، وإن صدرت عن إخلاص، وحملُ آياتٍ من الكتاب الحكيم على معانٍ تجعلها بمعزل عن البلاغة لم يكن بالأمر اليسير الذي تصرف عنه الأنظار، وكم من باطل لهج به النّاس، وهو لم ينحدر إلا من تأويل القرآن على خلاف مالا تقتضيه
قوانين البلاغة العربية!.
قال صاحب المقال في رده: "فيجب أن تدعهم - أي: طلاب العلم - في هذا لتفكيرهم وتقديرهم، ولهم بعدُ ما تسيغه عقولهم في حدود ما جعله الإسلام للأنبياء من تعظيم وتكريم".
لا أدري من أوجب علىَّ أن أدع آراء يُفسر بها القرآن، وهي - فيما أرى - خارجةٌ عن قانون المنطق أو البلاغة، وأكتفي في ذلك بتفكير طلاب العلم وتقديرهم، وكلٌّ من الشرع والعقل لا يوجب شيئاً من ذلك، أما الشرع، فالآيات الواردة في الإرشاد إلى الحق كثيرة جلية. وأما العقل، فإن السكوت عما يخالف المنطق والبلاغة يفضي إلى اختلال نظم العلم، ولو قبل النّاس هذا الذي أشار به صاحب المقال عليَّ، واتخذوه قاعدة يسيرون عليها في حياتهم العلمية، لامتلأت الدنيا بصيحات الباطل، وشغلت هذه الصيحات من الآذان مواضع أكثر مما تشغله اليوم.
قال صاحب المقال في رده: "فما دعا الأستاذَ أن يكتب تلك العبارة، وهي لا تكتب إلا حين يكون في المقال خطر ديني شارفَ أن يلتهم الطلاب، وليس في المسلمين غيور سواه".
لم نصف آراء صاحب المقال إلا بأن فيها نشوزاً، ونشوزُها تجافيها عن قانون العلم، وإذا عنينا بجانب طلاب العلم، فلأن في الطلاب من يفتح أذنه لكل رأي يقال فيه: إنه جديد، ولا يزهد فيه إلا حين يرى أن غيره أثبتُ أصلاً، وأقوى بينةً، فتلك العبارة تقال والطلاب في حصن منيع من كل خطر ديني، ويكتبها الكاتب ولو كان في المسلمين آلاف من أهل الغيرة سواه.
ولا نكتم صاحب المقال أن نزعته في التفسير، والنماذج التي قدمها،
ووعد بأنه سيذهب ويجيء في أمثالها، يشعران بخطر ديني إن أطلق له العنان، يقلبْ كثيراً من الحقائق، وإن كان صاحب تلك النزعة وأولئك النماذج مخلصاً.
قال صاحب المقال في رده: "ومن ذا الذي أحلَّ الكاتب هذه المنزلةَ حتى يكون هو من دون رجال العلم حاملَ لواء الطلاب؟ اللهم إنها شنشنة أعرفها من أخذم، وقد عرفها اليوم من الكاتب وأمثاله كثير من النّاس".
تنبيه طلاب العلم لنشوز بعض الآراء منزلةٌ يحلُّها كلُّ من يرى أن بيده حجةً، وليس في هذا التنبيه معنى حمل لوائهم، وإنما هي الصلة التي تكون بين الآباء والأبناء، وهذه الصلة وحدها تدعونا إلى أن نعرض عليهم ما ينشر في الصحف من الآراء المتصلة بالدين، ونحدثهم عنها بصراحة. وأما قول صاحب المقال: "اللهم إنها شنشنة
…
إلخ"، فذلك ما ندعه لتفكير القراء وتقديرهم.
كان صاحب المقال قد ذكر في حديثه عن المفسرين: "أنهم كثيراً ما يكتفون بذكر إسرائيليات ليس لها سند صحيح أصلاً".
فعلقنا على هذا: أن في المحققين من المفسرين من لا يعِّولون على الروايات الإسرائيليات، ويردُّونها في غير هوادة، وسقنا كلام أبي بكر بن العربي في "قانون التأويل" شاهداً على ذلك، فقال صاحب المقال في رده:"نقول للكاتب: هذا ما نحمد الله عليه إذ وافقَنا في أن بعض المفسرين جاؤوا في قصة أيوب بروايات غير صحيحة؛ فإنا لم نأخذ على المفسرين أكثر من هذا".
لم يكن تعليقنا على عبارته الأولى واقعاً في غير موضع؛ فإنه كان
يتحدث عن المفسرين من غير استثناء، فدفعنا بذلك التعليق ما يسبق إلى بعض الأذهان من أن جميع المفسرين يستندون في التفسير إلى الإسرائيليات، ولو لم ينازع المفسرين إلا في روايات غير صحيحة، لما تحرك قلم للرد عليه.
قال صاحب المقال: "ووافقنا الكاتب كذلك في أن المفسرين قد استندوا في تفسير القصة إلى إسرائيليات لم تصح، ولا يمكن تصحيحها".
الذي كتبته: أن أصل المعنى الذي اتفق عليه المفسرون في تفسير قصة أيوب عليه السلام لا يستند إلى إسرائيليات، والروايات الإسرائيليات التي يذكرها بعض المفسرين لا يتوقف عليها هذا المعنى الأصلي، وهذا أبو بكر ابن العربي الذي قال في الإسرائيليات ما قال، لا يخالف المفسرين في أصل تفسير القصة في أن أيوب عليه السلام ابتلي بمرض، وأنه أُمر بضرب رجله، فنبع ماء أُمر بالاغتسال والشرب منه، وأنه أمر بالضرب بضغث، فبرَّت يمينه بذلك.
ذكر صاحب المقال أني وافقته في أن المفسرين استندوا في تفسير القصة إلى إسرائيليات، وقال:"وإذا تم هذا، فنحن نسائل الكاتب: هل الآية قطعية في هذا المعنى الذي فسرها به المفسرون؟ أو الكاتب يوافقني على أن الآية ليست قطعية في هذا المعنى، بل تحتمل معنى آخر؟ ".
أصل البحث: أن صاحب المقال يدَّعي أن ما قاله المفسرون لا يُفهم من الآية، وأنه يستحيل أن يكون مقصوداً من الآية؛ لأنه جعل بعضه من نسبة العبث إلى الله تعالى، وجعل بعضه يفضي إلى أن الله تعالى يحتال لنفسه بنفسه، إلى آخر الوجوه التي حام بها حول ما قاله المفسرون.
فصاحب المقال يقول: إن ما قاله المفسرون باطل قطعاً، وإن آراءه هي المرادة من الآية، وكنا عندما رددنا عليه دعواه هذه، ذكرنا أن ما قاله المفسرون صحيح، مع صرف النظر عن كل رواية إسرائيلية، وأن ما أوّل به هو الآية مخالف لظاهر القرآن، وغير مراعًى فيه حسن البيان الذي يتم به وجه إعجاز القرآن.
فيكفي في صحة المعنى الذي يقوله المفسرون: أن لا يخالفه ظاهرُ القرآن، ولا يقوم دليل صادق على بطلانه.
قال صاحب المقال في رده: "وإذا كان الأمر كذلك - أي: لم يكن ما فسر به المفسرون قطعياً -، فللناظر في الآية أن يفسرها بمعنى غير هذا المعنى ما دام قد وجدت لديه مرجحات".
لم ننكر على الكاتب مجرد مخالفته للمفسرين، ولم نقل له: كيف تترك ما قاله المفسرون، وتأتي بآراء تخالفه؟ فإنا نقدر حرية النظر، ونقدر ما تأتي به من ثمر في العلم، وإنما موضع البحث في: أن ما قاله المفسرون هل هو معنى صحيح، أو غير صحيح؟ وأن آراء صاحب المقال هل هي معقولة، أو غير معقولة؟.
عاد صاحب المقال فحكى في رده ما سقناه من أن في محققي المفسرين من يأبى الرجوع إلى الإسرائيليات؛ كابن العربي، ثم قال:"ونقول للكاتب: إنه على هذا يكون فاتني أن أستثني أبا بكر مما أخذته على المفسرين، وقد يكون في عبارتي ما يصح أن يُعفي ابنَ العربي من هذا الحكم؛ فإني قلت: كثيراً ما يكتفون، ولم أقل: هم دائماً يكتفون".
كان لصاحب المقال مخرج في أن يقول: أردت من المفسرين ما عدا
أبا بكر بن العربي، أو أن أداة التعريف في قوله:"أن المفسرين كثيراً" للجنس، لا للاستغراق، وأما أنه قال:"كثيراً"، ولم يقل:"دائماً"، فذلك ما لا يفيده شيئاً؛ لأن الكثرة هنا أو الدوام مما يرجع إلى جهة القضية، والمعنى: أن المفسرين يكتفون في كثير من الأوقات بذكر الإسرائيليات، لا دائماً، وكثرة وقوع المحمول الذي هو الاكتفاء دون دوامه، لا أثر لها في نقص أفراد معنى الموضوع الذي هو كلمة "المفسرين"، فدوام النسبة لا يجعل القضية كلية، كما أن عدم دوامها لا يجعلها جزئية.
حكى صاحب المقال في رده ما نقلناه عن ابن العربي من إنكار الاستناد إلى الإسرائيليات، ثم قال:"ونقول للكاتب: إذا كان هذا ما قاله ابن العربي فيما قاله المفسرون في تفسير قصة أيوب، فما له لم يوجه الرد الذي كتبه إلى ابن العربي بدل أن يوجهه إليَّ، وأنا لم أقل أكثر من هذا؟ ".
لا أدري ماذا أرد على ابن العربي، وهو لم يزد على أن أنكر التعلق بالإسرائيليات، وهذا الإنكار حق، ولكن صاحب المقال يخيِّل إلى القراء: أني أخالف في إنكار التعلق بالإسرائيليات، وموضع الرد على صاحب المقال شيء آخر قاله هو، ولم يقله ابن العربي، وهو تلك الوجوه التي أثارها حول المعنى الذي اتفق عليه المفسرون، وتلك الآراء التي ساقها على أنها تفسير للقصة.
ثم قال صاحب المقال في رده: "اللهم إنك تعلم ما في نفسي، وتعلم ما في نفس هذا الكاتب، فإني أَكِلُ أَمْرَ جزائه إليك، فأنت العليم بذات الصدور".
دعوةٌ صالحة نرجو من الله قبولها، ونسأل الله تعالى أن يهدي صاحبَ
المقال إلى الطريقة المرضية في تفسير كتابه المجيد.
ثم قال صاحب المقال في رده: "يا هذا الكاتب! إذا كان ما جاء في قصة أيوب بعضُه باطل، وبعضه بعيد، وبعضه يفتقر إلى نقل، فماذا بقي بعد هذا؟ ".
بقي بعد هذا ظاهرُ القرآن؛ فإنه موافق للمعنى الذي عرف منذ عهد الصحابة والتابعين، ولم يخالف فيه، حتى العلماء الذين ينكرون الإسناد إلى الإسرائيليات أشدَّ النكير.
ثم قال صاحب المقال في رده: "وهل يكون من فهم في الآية معنى غير هذا المعنى الذي لم يستند إلا إلى إسرائيليات لم تصح، يكون قد خالف قوانين المنطق، وقال قولاً لم تتقبله بلاغة القرآن؟ أو يكون ذلك منك زعماً دفعتك إليه أغراض وغايات؟ ".
خالف صاحب المقال قوانين المنطق والبلاغة في الوجوه التي ادعى أنها تبطل أصل ما قاله المفسرون، وخالفهما في حمل آيات القصة على معان تجعل القرآن في ناحية، وحسنَ البيان في ناحية أخرى، وليس هناك أغراض وغايات إلا أن الله تعالى يقول:{وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ} [العصر: 3].
ذكرنا في مقالنا السابق: أن صاحب المقال ربما اقتصر في حكاية أقوال المفسرين على أقوال يراها أبعدَ من المعقول، ويهمل أقوالاً هي أقربُ إلى ظاهر الآية، ونبهنا على ما أردنا من ذلك، فقام في رده يدافع عن ذلك الصنيع.
من ذلك: أنه كان قد نقل أن "المفسرين قد فسروا النصب والعذاب في الآية بداء أصاب أيوب قد فعل به الأفاعيل، وبرح بجسمه أيَّ تبريح،
حتى نفر الناس منه، وحتى عجز عن الحركة، فلا ينتقل من مكان إلى مكان إلا أن يحمله حامل".
فنبهنا إلى أن حق صاحب المقال أن ينقل ما قاله بعض المحققين من أن مرض أيوب عليه السلام لم يكن من الأمراض المنفرة المستقذرة، وما زاد صاحب المقال في دفاع هذا على أن قال:"إن البعض الذي اقتصر على كونه مرضاً فحسب، لا يمكنه أن ينكر أن أيوب قد شكا منه كما حدثنا القرآن، فلا بد أن يكون مرضاً غير عادي، حتى يضج منه نبي من الأنبياء".
هو مرض غير عادي، ولكنه غير منفر، وفَرقٌ بين أن يكون المرض شديداً في نفسه، وبين أن يكون منفراً، فالأول يصيب به الله تعالى الأنبياء عليهم السلام لمضاعفة أجرهم؛ كما وقع للنبي صلى الله عليه وسلم في مرضه؛ فإنه كان يوعَك وعكاً شديداً، حتى قالت عائشة رضي الله عنها ما رأيت أحداً أشدَّ عليه الوجعُ من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال عليه الصلاة والسلام:"إني أُوعَك كما يوعَك رجلانِ منكم"، وأما المرض المنفر، فذلك ما نعتقد أن الله تعالى لا يصيب به أنبياءه عليهم السلام.
وكان صاحب المقال قد حكى في مقاله عن المفسرين: أنهم يقولون في تفسير قوله تعالى: {ارْكُضْ بِرِجْلِكَ} [ص: 42]: الآية أن أيوب أُمر من ربه بوساطة جبريل أن يضرب برجله الأرض، فضرب بها كما أمر، فنبع عينان
…
إلخ.
فنبهنا على أن صاحب المقال أهمل ذكر قول المحققين من المفسرين، وهو: أن الذي نبع عين واحدة، فقال صاحب المقال في رده: "وهل كون النابع عيناً أو عينين مما له أيُّ مدخل - عن قرب أو عن بعد - في أن يكون
تمهيداً لقبول ما قلته عن تفسير الآية؟! ".
من البين أن القول الذي أهمله هو ظاهر القرآن؛ إذ المشار إليه في الآية واحد، فلماذا ترك صاحب المقال هذا القول الذي هو ظاهر القرآن، ونقل القول الآخر الذي لا يُقبل إلا إذا ثبتت به رواية؟!.
كان صاحب المقال قد حكى عن المفسرين: أنهم يقولون في تفسير قوله تعالى: {وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ} [ص: 43]: إن الله أحيا له أولاده الذين كان قد أماتهم، وولد له مثلهم، فنبهنا على أن من المفسرين من ذهب إلى أن هبة الأهل في الآية بمعنى: جمعهم بعد تفرق، وفهمُ هذا من الآية أقربُ من حملها على معنى إحيائهم بعد إماتتهم، فقال صاحب المقال في رده:"إذا كنت قد تركت من أقوالهم هذا القول، فإني لم أكن في تركه إلا ضد نفسي؛ لأن هذا المعنى إن لم يكن هو ما قلته في تفسير الآية، فهو قريب منه، أو هو مصحح لما فهمته في الآية؛ لأني قد فهمت في هبة الأهل هدايةَ الله لهم بدعوة أيوب، وإنذاره إياهم، وهم إذا استجابوا لدعوة أيوب، فقد اجتمعوا عليه بعد تفرق".
إذا كان يرى أن ما فهمه من الآية هو الصواب، أفلا يكون من الإنصاف للمفسرين أن ينقل عنهم ما كان قريباً من هذا الصواب، أو مصححاً له، ولا يقتصر في حكاية آرائهم على ما كان بعيداً من هذا الصواب، أو مناقضاً له؟.
كان صاحب المقال قدِ حكى ما قاله المفسرون في قوله تعالى: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ} [ص: 44]، وقال:"ثم يزيدون على ذلك: أن هذه رخصة باقية إلى اليوم؛ بشرط أن يصيب كل أعواد الحزمة جسم المضروب".
ولما كان صاحب المقال يحكي أقوال المفسرين حكايةَ مَن ينكرها، ويحاول تقويضها، وحكى عنهم بإطلاق: أن الرخصة باقية إلى اليوم، نبهنا أن هناك قولاً آخر، وهو أن الآية شَرْعٌ خاص بأيوب عليه السلام، وأشرنا إلى أن كلاً من القولين مبني على وجه من النظر؛ لنهيئ القارئ لرفض ما سيقوله صاحب المقال في رد المعنى الذي قاله المفسرون، ولكن صاحب المقال أبى إلا أن يكتب، فقال:"وأقول لهذا الكاتب: ما هذا العبث؟ (كذا)، وهل أنا حين كنت أكتب كنت بصدد تلك المذاهب، حتى إذا اقتصرت على نقاء مذهب من مذاهبهم، ترد عليَّ بأن هناك مذهباً آخر للفقهاء؟ ".
غفل صاحب المقال عن أنه نسب القول الذي ذكره للمفسرين، لا للفقهاء؛ فإنه قال:"ويزيدون"؛ يعني: المفسرين، ولينظر ما هو السبب في ذكر هذا القول، ونسبته إليهم دون غيره؛ فإنه لا يريد إفادة القراء بذكر ما ذكره قطعاً؛ لأنه قول مبني على تفسير باطل في نظره، والمبني على الباطل باطل، ولا نستطيع أن نقول: لم يكن يعلم حالَ الكتابة إلا القولَ الذي ذكره؛ فإن قوله: "حتى إذا اقتصرت على نقل مذهب من مذاهبهم" يشعر بأنه كان مطلعاً على هذه المذاهب.
ثم قال صاحب المقال: "اللهم فاشهد، اللهم فاشهد، لو أنه الإخلاص يدفع الكاتب، لما وجدت في كتابته ما هو أبعد شيء عن الموضوع، ولما حاد به الغرض عن الجادة".
نترك التعليق على هذا لتفكير القراء وتقديرهم.
وكان صاحب المقال قد أورد على المعنى الذي اتفق عليه المفسرون وجوهاً ظهر له أنها تبطل ذلك المعنى قطعاً، فنقدنا تلك الوجوه وجهاً فوجهاً،
فذهبت من بين أيدينا هباء، فقام صاحب المقال يحاول في رده أن يعيد تلك الوجوه بعد ذهابها.
كان صاحب المقال قد قال: "ولم يدروا - أي: المفسرين -: أنه قد فاتهم أولاً: أن المقصود من أن يقص الله تعالى حال الرسل على خاتم أنبيائه صلى الله عليه وسلم إنما هو الاعتبار بما أصابهم في سبيل الله، وما احتملوه من أذى وبلاء في طريق الدعوة إلى الله، {وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ} [هود: 120].
ولا يخفى على من درس مبادئ اللغة العربية: أن عبارته تفيد حصر القصد من قصص الرسل عليهم السلام في الاعتبار بما أصابهم في سبيل الله، وما احتملوه من أذى وبلاء في طريق الدعوة، فقلنا له في ردنا: إن الله تعالى قد قص على خاتم أنبيائه صلى الله عليه وسلم من أنباء الرسل عليهم السلام ما لا يرجع إلى ما أصابهم في سبيل الله من أذى، وقلنا: إن الله تعالى يذكِّر رسوله - صلوات الله عليه - بما كان للرسل عليهم السلام من خلق عظيم، أو عمل خطير، أو حكمة بالغة، أو منزلة سامية، أوآية بيّنة، أو حكم عملي، وقلنا: إن الآية التي سقتها لا تشهد بأن قصص الأنبياء لا يقصد منها إلا الاعتبار بما أصابهم في سبيل الله؛ فإن تثبيت الفؤاد زيادة يقينه، وهذا قد يأتي من ناحية غير ناحية أنباء ما أصابهم في سبيل الله من أذى.
كتب صاحب المقال يحاول رد هذا، فقال:"إن ذكر الرسول بخلق عظيم، أو عمل خطير، أو حكمة بالغة، أو منزلة سامية، هذا لا يحدث به القرآن عن نبي من الأنبياء إلا في طريق الحديث عن دعوتهم، وما كان منهم مع قومهم"، ثم تحدث بحديث في شكل قاعدة هو: أن القرآن إن حدَّث عن
نبي من الأنبياء بخلق أو عمل أو حكمة أو منزلة، دون أن يذكر من أمر دعوته شيئاً، فُهم أن ذلك الخلق لا يتصل إلا بأمر دعوته.
هل يكفي صاحبَ المقال في التخلص من الآيات الواردة في خلق عظيم، أو حكمة بالغة، أو منزلة سامية أن يكون لذلك الخلق أو الحكمة المنزلة صلةٌ بالدعوة؟ وأنّى له ذلك وهو يقول على وجه الحصر:"إن المقصود من القصص إنما هو الاعتبار بما أصابهم في سبيل الله، وما احتملوه من أذى وبلاء في طريق الدعوة"، وليس كل ما يتصل بالدعوة فيه اعتبار بما أصاب في سبيلها!.
ثم إننا نرى القرآن قد يصف بعض الرسل بخصال لا صلة لها بالدعوة، ولا بما يلاقيه الرسول في سبيلها؛ كما قال الله تعالى في حق يحيى عليه السلام:{وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا} [مريم: 14] ، وبرُّ الوالدين عمل صالح يقوم به الرسول وغيرُ الرسول من النّاس الطيبين، وواجب على من تكون له دعوة، ومن لم تكن له دعوة.
وحاول أن يجيب عن الآيات الواردة في المعجزات والأحكام، فلم يزد كذلك على أن قال:"إنها تتصل بأمر الدعوة"، ولو قال: إني ذهلت في استعمال صيغة الحصر إذ قلت: "إنما هو الاعتبار بما أصابهم في سبيل الله"، أو نسيت أن صيغة "إنما هو" تفيد الحصر، لقلنا: كلنا يذهل، وكلنا ينسى، ولكنه قال ذلك، وزاد عليه قوله:" فليس للكاتب حق أن يذكر مثل هذا إلا أن يكون ممن يريد المغالطة؛ ليشوه آراء قد لا يحب لأشخاص أصحابها أن يكون لهم رأي جميل"، وعذره في هذا المزيد: أنه حريص على أن يكون رأيه في التفسير نافذاً.
قال صاحب المقال في رده: "وهو حين يحدث عن أمر أيوب، إنما يحدث الرسول الكريم؛ ليثبت فؤاده، وماذا في أمر المرض والصبر عليه من تثبت فؤاد الرسول، ذلك الفؤاد الذي لا يتزلزل إذا تزلزلت الجبال، فهو الذي يقول: "والله! يا عم! لو وضعوا الشمس في يميني، والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر، ما فعلت حتى يُظهره الله، أو أهلك دونه"؛ إذ مقتضى هذا أن فؤاد الرسول إنما يهتز أو يخف ثباته لأخطر الشؤون وأكبرها بما لا يعزّي فيه حديث عن مرض".
إن كان صاحب المقال يجري في بحثه على أن معنى آية: {وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ} [هود: 120]: أن كل ما نقصه عليك من أنباء الرسل هو ما نثبت به فؤادك حين يهتز لأمر خطير، أو تدركه خفة، فمن أنباء الرسل عليهم السلام ما لو نظرت إليه وحده، وجدت له حكمة غير تثبيت الفؤاد حالَ اهتزازه لأمر خطير؛ كالآيات المسوقة للثناء عليهم ببعض الأعمال الصالحة؛ نحو: صدق الوعد، وبر الوالدين، والآيات المشتملة على بعض أحكام شرعية.
ونحن نرى ما يراه أهل العلم من أن المراد من تثبيت الفؤاد: يقينه واطمئنانه، واليقين والاطمئنان يزدادان بكل نبأ يقصه الله تعالى من أنباء الرسل على اختلاف أنواعها، وتباين مقاصدها، وكلما ازدادت النفس من عند الله علماً، ازداد يقين صاحبها ضياء، فازداد فؤاده ثباتاً وسكينة.
قال صاحب المقال: "وإنه ليعد نابياً عن مكان التأسي من يجيء لقائد من القواد قد كان في عَدد وعُدد، فاندحر جيشه، وأسر القائد، واحتُلت العاصمة، وثُل العرش، وديس التاج، فيقول لذلك القائد المأسور: لا تحزن؛ فإن بستان فلان قد اجتاحته آفة، أو فلان قد مات له اليوم ولد".
أتى صاحب المقال إلى قائد اندحر جيشه، ووقع في يد العدو أسيراً، واحتلت العاصمة، وثل العرش وديس تاج الجالس عليه، وجعل ذلك مثلَ حال رسول صلى الله عليه وسلم كما أتى إلى رجل اجتاحت بعضُ الآفات بستانه، أو مات له ولد، وجعل حاله بمنزلة قصة أيوب عليه السلام بحسب المعنى الذي يقوله المفسرون، وقد وجد هذا المثل في ذوق صاحب المقال مساغاً، فعززه بآخر، وقال في الصفحة بعد: "يكون مثل القرآن في قَصِّ شأنِ أيوب على الرسول، مع أن معنى الآية ما يقوله المفسرون، كمثل من يقول لملك أنزل عن عرشه، واندحر جيشه، واحتلت عاصمته: تعزّ؛ فإن فلاناً قد مات ولده، أو إن فلاناً قد خسر في تجارته.
ينبغي لضارب الأمثال أن يأتي بالمثل مطابقاً لحال من يسوق من أجله المثل، وحالُ رسول الله صلى الله عليه وسلم بعيدة من هذين المثلين بُعدَ النور من الظلام، ومن العجب أن يضرب حال القائد المأسور مثلاً لحال رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم يقول:"بالله عليك أيها الكاتب! لا تصغِّر من شأن الأنبياء، ولا تحقر من جلالة القرآن".
ولا أدري كيف صغرَّتُ من شأن الأنبياء عليهم السلام، أو حقَّرتُ من جلال القرآن، وأنا لم أزد على أن قلت: إن المعنى الذي تتابَعَ عليه المفسرون من عهد الصحابة والتابعين، معنى يشهد له ظاهر القرآن.
وهل يريد صاحب المقال أن كل من رأى أن أيوب عليه السلام أُصيب بمرض، فصبر، فعافاه الله، يكون مصغراً من شأن الأنبياء، محقراً لجلال القرآن؟!.
وكان صاحب المقال قد أورد على المعنى الذي يقوله المفسرون: أن
القصة تكون خالية من العبرة، وقال:"وماذا عسى أن يكون من العبرة في أن يقص الله تعالى على نبيه صلى الله عليه وسلم: أنه اصطفى أيوب لرسالته، ثم أمرضه، فأعجزه عن القيام بأعباء الرسالة، وما تتطلبه الدعوة من قول وعمل؟ ".
فنبهنا على أن في ذلك عبرةً أيَّ عبرة، هي: أن رسولاً من كرم الرسل يكون في نعمة من صحة الجسم، وانتظام الشمل، فيصاب بالمرض، والانقطاع عن الأهل، ويتلقى هذا المصاب بالصبر الجميل، حتى إنه لم يصرح بالدعاء إلا تعريضاً إذْ قال: ربِّ! {أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [الأنبياء: 83]، ثم إن هذا النبأ يقوي يقينه صلى الله عليه وسلم بأن شدة البلاء قد تنزل حيث يكون رضاء الله عظيماً، والمقام عنده رفيعاً.
فقام صاحب المقال يفتش عن شيء يعلقه في رده على هذا الذي قلناه، فجاء برأي يدعو إلى التعجب، كما يدعو إليه نفيه العبرة من القصة على الوجه الذي ذكره المفسرون، ذلك أنه صدَّر تعليقه بإنكار أن يكون قاصداً تهوينَ المصيبة على المعنى المذكور في التفسير حتى قال:"ولو كان الكاتب يريد إحقاقَ حق، لما انزلق عن الموضوع إلى الكتابة في شيء لم يكن من غايتي حين كتبت، ثم قال: "ولتكن المصيبة على هذا الوجه من أعظم المصائب، ولكنها لم تكن بعد ذلك كله مما يمتاز به الرسل. فكم من أناس لم يكونوا رسلاً، وكانوا صالحين، وكانوا في مثل ما كان فيه أيوب من نعمة، ثم أصيبوا بمثل ما أُصيب أيوب - على ما زعمه المفسرون - ثم لم يكن منهم إلا الصبر الجميل! ".
وقد عرف القراء أن صاحب المقال أنكر أن يكون في القصة على تفسير ما أصاب أيوب عليه السلام من المرض عبرةٌ، فذكرنا أن في ذلك عبرة،
وتركنا الرد عليه في قوله: "فأعجزه عن القيام بأعباء الرسالة" إلى الكلام في دفع شبهته الثانية؛ لأنها واردة بهذا المعنى نفسه.
وأي حرج على الكاتب إذا وصف مرض أيوب عليه السلام بالشدة، وهو يقرر موضع العبرة التي نفاها صاحب المقال، ما دام الكاتب لم يقل له: إنك قد جعلت في هذا المقام أمر المرض هيناً، وهو عظيم؟.
ثم ما هو الدليل على أن الله تعالى لا يذكر الرسل عليهم السلام إلا بما كان من مميزاتهم، ونحن نرى أن الله تعالى يمدحهم بأخلاق سنية، أو أعمال زكية، يشاركهم فيها غيرهم من الصالحين، ولكن سناء أخلاقهم فوق كل سناء، وفضل أعمالهم فوق كل فضل، فقد مدح الله تعالى إسماعيل عليه السلام بأنه صادق الوعد، ومدح يحيى عليه السلام بأنه برٌّ بوالديه، وفي الصالحين صدقُ الوعد، وفيهم البرُّ بالوالدين، فلماذا لا يذكر الله تعالى أيوب عليه السلام بالصبر على بلاء المرض، والانقطاع عن الأهل، وإن كان في الصالحين من يصبر على مثل ذلك، ولا يظهر أن لصدق الوعد وبر الوالدين صلةً بالدعوة أشدَّ من صلة الصبر على البلاء المبين؟.
قال صاحب المقال في رده: "وأي مناسبة بعد هذا بين ما كان فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم من شدائد تتصل بالدعوة، وبين أن يكون أيوب قد أصيب بمرض، فصبر عليه، وبين الأمرين من الفرق ما بين الليل والنهار، وما بين الثلج والنار؟ ".
شأن ما يقصه الله تعالى من أنباء الرسل عليهم السلام أن يثبت فؤاد رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ أي: يزيد يقينه قوة؛ فإن دلائل الحق تضع في النفس قرارة اليقين، وكلما كثرت، ازداد بها اليقين قوة، وقصة أيوب عليه السلام -
التي هي وحي صادق تدل على أن الله تعالى يبتلي بعض أوليائه بأشد البلاء، حتى إذا وجد منه قلباً ساكناً، ونفساً راضية مطمئنة، كشف عنه البلاء، وكانت عاقبة ذلك الصبر أن يزيد الله منزلته رفعة، ويثني عليه ثناء يرفع به ذكره؛ كما قال تعالى في أيوب عليه السلام:{إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} [ص: 44].
فلهذه القصة مناسبة بما كان يلاقيه رسول الله صلى الله عليه وسلم من بلاء يأتي من ناحية الخلق، أو بلاء ينزل من السماء، وهي من القصص التي يكون لها أثر في تثبيت الفؤاد، وجعله الفؤاد الذي ينزل به البلاء، فيجده في درع من السكينة والثبات.
سبق أن صاحب المقال قد اعترف في رده بأن أنباء المعجزات والأحكام الشرعية مما يتصل بأمر الدعوة، وفي قصة أيوب عليه السلام مع المعنى الذي يقوله المفسرون معجزة:{ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ} [ص: 42]، وحكم شرعي:{وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ} [ص: 44] زيادة عما فيها من أدب جميل: {أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [الأنبياء: 83]، وخلق عظيم:{إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} .
قال صاحب المقال في رده: "ما كان رسول الله بحاجة إلى أن يقوى يقينه بأن الثواب على قدر المصيبة، وأن رفعة المقام لا تمنع من عظيم البلاء حتى يقص عليه شأن أيوب ليزيده يقيناً بهذا".
لم أقل إن قصة أيوب عليه السلام تقوي يقينه صلى الله عليه وسلم بأن الثواب على قدر المصيبة، ولم أعرج في مقالي السابق على هذا المعنى، وإنما قلت: يقوي بها يقين رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن شدة البلاء قد تنزل حيث يكون رضا الله
عظيماً، والمقام عنده رفيعاً، ومن أثر ذلك أن يخف عليه ما كان يلقاه من المكاره، وذلك معنى لا لبس فيه.
ثم ذكر صاحب المقال مخاصمة عشيرته له صلى الله عليه وسلم، وشدةَ عنادهم له، وإمعانهم في إيذائه، وقال:"أسائل الكاتب: أيُّ المعنيين أدخلُ تحت قوانين المنطق، وأيُّ المعنيين أكثرُ تقبلاً لبلاغة القرآن أأن يقال للرسول في تلك الحال: اصبر على ما أنت فيه؛ فإن أيوب قد مرض وصبر، أم أن يقال له: اصبر؛ فإن أيوب قد صابر في الدعوة، وجاهد قومه، ومع ذلك قد صرفهم الشيطان بوسوسة لا تستند إلا إلى الإغواء والإضلال، فصبر على ذلك صبراً جميلاً؟ ".
وردت أنباء كثيرة من قصص الرسل عليهم السلام في المصابرة على الدعوة، واحتمال الأذى في سبيلها، ولا يلزم شرعاً ولا عقلاً أن يكون جميع أنباء الرسل المسوقة في القرآن من هذا الباب، فإذا ورد نبأ في معنى غير الصبر على الأذى في سبيل الدعوة، وكان في هذا المعنى حكمة وعبرة، أخذ فيه بالظاهر، ولم يسغ إخراج الآية عن ظاهرها إلى معانٍ لا يصل إليها الذهن، إلا أن يقال له: إن هاهنا كنايات، واستعارات، فامش عليها إلى تلك المعاني، وإن لم توافق هذه الكناياتُ والاستعارات ما عهد في القرآن الحكيم من حسن بيان.
هذا ما رأينا تعليقه على ما كتبه صاحب المقال في رده من آراء، ومن الله تعالى الهداية والتوفيق.