الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
نقل معاني القرآن إلى اللغات الأجنبية
(1)
" يتحدث الناس عن نقل معاني القرآن إلى اللغات الأجنبية، وتأتينا الرسمائل في السؤال عن حكم هذا النقل، وذلك ما دعاني أن أنظر في هذا الموضوع الخطير، وأعرض ما وصلت إليه من نتيجة، وأرجو أن أكون ممن استقام في البحث حتى اهتدى إلى الحقيقة".
* هل في المستطاع ترجمة القرآن إلى لغة غير عربية؟
للقرآن -ككل كلام عربي بليغ- معانٍ أصلية، وهي ما يستوي في فهمه كل من عرف مدلولات الألفاظ المفردة، وعرف وجوهَ إعرابها؛ من فاعلية، ومفعولية، وحالية، وإضافية، وما يشاكل ذلك من الأحوال المبحوث عنها في علم النحو. فالمعنى الأصلي في قوله تعالى:{وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة: 179] يفهمه كل من له إلمام باللغة العربية، سواء عليه أكان خبيراً بطرق البلاغَة، أم فاقدَ الإحساس الذي يتذوق به طعمها، فكل عارف بمدلولات ألفاظ هذه الآية، ووجوه إعرابها، يعقل منها أن قَتْل الذي يَقتل نفساً بغير حق، يحمي من القتل فيما بعد، ويكون سبباً لحياة كثير من الناس؛ لما في القصاص من الزجر البالغ والإرهاب.
(1) مجلة "نور الإسلام" - الجزء الثاني من المجلد الثاني الصادر في شهر صفر 1350 هـ.
وللقرآن معانٍ ثانوية، ويسميها علماء البلاغة بـ: مستتبعات التراكيب، وهي خواص النظم التي يرتفع بها شأن الكلام، وتتسابق في مجالها فرسان البلاغة من الخطباء والشعراء، فقد يتحد الخطيبان أو الشاعران فيما يريدان إفادته من المعاني الأصلية، ويتفاضلان فيما يتبع هذه المعاني من لطائفَ ومعانٍ ثانوية.
والمعنى الأصلي قد يوافق فيها بعضَ الآيات منثورٌ أو منظوم من كلام العرب، ولا تمس هذه الموافقة إعجاز القرآن؛ فإن إعجازه ببديع نظمه، وروعة بيانه، وبما حفَّ به من المعاني الزائدة على أصل المراد، وبحكمة معنى كل آية؛ بحيث لا يجد أولو الأبصار في آياته تخاذلاً، ولا في كلماته لاغية، وبما يضاف إلى هذا من إخباره عن غيوب وقعت كما وصفها.
وإذا كان للقرآن معانٍ أصلية، وأخرى تابعة، وهي مظهر بلاغته، وملاك إعجازه، فإن ترجمته بالنظر إلى المعاني الثانوية غيرُ ميسورة، إلا أن توجد لغة توافق اللغة العربية في دلالة ألفاظها على هذه المعاني المسماة عند علماء البيان: خواص التراكيب، وذلك ما لا يسهل على أحد ادعاؤه، وممن نبَّه على هذا في القديم: أبو القاسم الزمخشري في "كشافة" إذ قال: "إن في كلام العرب -خصوصاً القرآن- من لطائف المعاني ما لا يستقل بأدائه لسان".
وليس في هذا إنكار أن يكون في اللغات الأخرى بلاغة، ويكفي في تعذر ترجمة ما يحمله اللفظ العربي من دقائق المعاني، أن هذه المعاني، أو بعضها، مما لا يشير إليه اللفظ المرادف له من اللغة الأجنبية، إلا أن تصاغ له جملة مستقلة، وأضرب المثل لهذا بأن تقديم المفعول على الفعل يدل
في اللغة العربية على الاهتمام بشأنه، وربما كانت اللغة الأخرى لا تدل بالتقديم على هذا المعنى، فيحتاج المترجم في الدلالة على معنى الاهتمام الذي يشير إليه اللفظ العربي بالتقديم إلى عبارة أخرى بعد العبارة التي ينقل بها أصل المعنى، وإذا كان التنكير يدلّ في اللغة العربية على التعظيم أو التحقير، ولم يعتد أهل اللغة الأجنبية أن يدلّوا به على هذا المعنى، فإن المترجم يقتصر في ترجمة الاسم النكرة على مدلوله اللغوي، ويفوته معنى التعظيم أو التحقير الذي يعدُّ من مقاصد المتكلم العربي، ويدخل فيما يورث الجملة العربية رفعة، وإذا زاد المترجم كلمة ترادف معنى عظيم أو حقير، ذهب رونق البلاغة الذي هو حلية اللفظ العربي؛ لأن لأخذ هذا المعنى من التنكير وقعاً في نفس السامع غيرَ الوقع الذي يكون له عندما ينطق المتكلم بلفظه الصريح.
وعلى فرض أنه يوجد لسان أجنبي يستقل بأداء ما في كلام العرب من لطائف المعاني، فلا يثق أحد بأنه وصل إلى كل ما في الآية من المعاني التي يرتفع بها شأن الكلام، حتى يصح له ادعاء أنه عبّر باللغة الأجنبية عن كل ما أريد من الآية، وأن نقله لها إلى تلك اللغة ترجمة طبق الأصل.
والذي يمكن نقله إلى لغة أخرى إنما هو معانيه الأصلية؛ حيث لا تقصر اللغات الأجنبية عن تأديتها.
قال أبو إسحق الشاطبي في كتاب "الموافقات": "إن ترجمة القرآن على الوجه الأول -يعني: النظر إلى معانية الأصلية- ممكن، ومن جهته صح تفسير القرآن، وبيان معانيه للعامة، ومن ليس له فهم يقوى على تحصيل معانيه، وكان ذلك جائزاً باتفاق أهل الإسلام، فصار هذا الاتفاق حجَّة في
صحة الترجمة على المعنى الأصلي".
وإذا كان نقل المعاني الأصلية قد يقع صحيحاً، وكان في مستطاع من يجيد لغة أجنبية أن ينقل هذه المعاني من اللغة العربية إلى اللغة التي أجاد معرفتها، لم يبق سوى النظر في تفصيل حكم هذا النقل، وبيان حال المنع منه، أو الإذن فيه.
ويرجع النظر في هذا البحث إلى مقامين:
المقام الأول: قراءة ترجمة القرآن في الصلاة.
والمقام الثاني: نقل معاني القرآن ليطلع عليها أهل ذلك اللسان لعلهم يهتدون.
المقام الأول:
نجد في المسائل التي هي موضع خلاف بين الأئمة: القراءة في الصلاة بألفاظ غير عربية يعبر بها عن طائفة من معاني القرآن الكريم.
يروى عن الإمام أبي حنيفة رضي الله عنه: أنه كان يرى جواز القراءة في الصلاة باللغة الفارسية، وبنى بعض أصحابه على هذا القول جوازها بالتركية والهندية، وغيرها من الألسنة، وظاهر هذه الرواية: جواز القراءة بالفارسية ونحوها، ولو كان المصلّي قادراً على النطق بالعربية، ومبنى هذا على أن القرآن اسم للمعاني التي تدل عليها الألفاظ العربية، والمعاني لا تختلف باختلاف ما يتعاقب عليها من الألفاظ واللغات.
أما صاحباه الإمامان أبو يوسف، ومحمد بن الحسن، فجعلا القراءة في الصلاة باللسان الأعجمي من قَبيل ما تدعو إليه الضرورة، فأجازاها للعاجز عن العربية، دون القادر على القراءة بها، وهذا ما تجري به الفتوى
في مذهب الحنفية.
قال في "معراج الدراية": "إنما جوّزنا القراءة بترجمة القرآن للعاجز إذا لم يخل بالمعنى؛ لأنه قرآن من وجه باعتبار اشتماله على المعنى، فالإتيان به أولى من الترك مطلقاً، إذ التكليف بحسب الوسع".
وما روي عن الإمام أبي حنيفة من جواز القراءة في الصلاة بترجمة القرآن قد صح رجوعه عنه، حكى هذا الرجوع عبد العزيز في "شرح البزدوي"، قال صاحب "البحر المحيط":"والذين لم يطلعوا على الرجوع من أصحابه قالوا: أراد به عند الضرورة، والعجز عن القرآن، فإن لم يكن كذلك، امتنع، وحكم بزندقة فاعله". وليس الإلحاد ممن قدر أن يقرأ في الصلاة بالعربية، فعدل عنها إلى الأعجمية ببعيد.
أما المالكية والشافعية والحنابلة، فقد منعوا القراءة بترجمة القرآن في الصلاة، سواء أكان المصلي قادراً على العربية، أم عاجزاً، ناظرين إلى أن ترجمة القرآن ليست قرآناً، إذ القرآن هو هذا النظم المعجز الذي وصفه الله تعالى بكونه عربياً، وبالترجمة يزول الإعجاز.
قال القاضي أبو بكر بن العربي -وهو من فقهاء المالكية- في تفسير قوله تعالى: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ} [فصلت: 44]: قال علماؤنا: هذا يبطل قول أبي حنيفة - رضي الله تعالى عنه -: إن ترجمة القرآن بإبدال اللغة العربية منه بالفارسية جائز؛ لأن الله تعالى قال: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ} نفى أن يكون للعجمة إليه طريق، فكيف يصرف إلى ما نفى الله عنه؟ ثم قال: "إن التبيان والإعجاز إنما يكون بلغة العرب، فلو قلب إلى
غير هذا، لما كان قرآناً ولا بياناً، ولا اقتضى إعجازاً".
وقال الحافظ ابن حجر-وهو من فقهاء الشافعية- في "فتح الباري": "إن كان القارئ قادراً على تلاوته باللسان العربي، فلا يجوز له العدول عنه، ولا تجزئ صلاته (أي: بقراءة ترجمته)، وإن كان عاجزاً"، ثم ذكر أن الشارع قد جعل للعاجز عن القراءة بالعربية بدلاً، وهو الذكر.
وقال الشيخ ابن تيمية -وهو من فقهاء الحنابلة- في الرسالة الملقبة بـ: "السبعينية": "وأما الإتيان بلفظ يبين المعنى؛ كبيان لفظ القرآن، فهذا غير ممكن أصلاً، ولهذا كان أئمة الدين: على أنه لا يجوز أن يقرأ بغير العربية، لامع القدرة عليها، ولا مع العجز عنها؛ لأن ذلك يخرجه عن أن يكون هو القرآن المنزَّل".
وخلاصة البحث: أن الخلاف في القراءة في الصلاة بغير العربية يرجع إلى مذهبين:
أولهما: أن ذلك محظور، والصلاة بهذه القراءة غير صحيحة، وهو مذهب الجمهور من أئمة الدين.
وثانيهما: جواز القراءة بالأعجمية عند العجز عن النطق بالعربية، وهو مذهب الإمامين: أبي يوسف، ومحمد بن الحسن، ولا يعد بجانب هذين المذهبين ما يعزى للإمام أبي حنيفة من صحة القراءة بالفارسية، ولو للقادر على العربية؛ لما عرفت من صحة رجوع الإمام عنه، والقول الذي يرجع عنه الإمام لا يعد قولاً في المذهب، وإذا نظرنا إلى أن من الفقهاء الحنفية من حمل ما روي عن الإمام أبي حنيفة على حال العجز عن العربية، لم يبق في المذهب الحنفي سوى قول واحد، وهو تقييد الجواز بحال
العجز عن النطق بالعربية.
المقام الثاني: في نقله للاطلاع على حكمته:
في النقل وجوه من الفساد تقتضي المنع منه، وفي النقل مصلحة تستدعي الإذن فيه، وها نحن أولاً نذكر لك وجوه الفساد، ونكشف عن وجه المصلحة، ونعرض عليك آراء أهل العلم، ونرجو أن يكون نقل ما يمكن نقله من المعاني الأصلية على وجه التفسير غير محظور.
* وجوه الفساد في ترجمته:
الترجمة نوعان:
أحدهما: أن يعمد المترجم إلى كل كلمة عربية، ويضع بدلها ما يرادفها من اللسان غير العربي، ثم يسوق الجملة مراعياً ترتيبها على قدر ما تسمح به قواعد ذلك اللسان، وهذا ما يسمى: ترجمة حرفية.
ثانيهما: أن يلم بمعنى الجملة العربية، ثم يصوغه في جملة من اللغة الأخرى، سواء أساوت ألفاظُ الترجمة ألفاظَ الأصل، أو اختلفتا إيجازاً وإطناباً، وهذا ما يسمى: ترجمة معنوية.
والخلل الذي تشترك فيه الترجمتان -الحرفية والمعنوية-: أن يكون اللفظ ذا معنيين، أو معان تحتملها الآية، فيضطر المترجم إلى أن يضع بدله من اللغة الأجنبية اللفظ الموضوع لما يختاره من المعنيين، أو المعاني؛ حيث لا يجد لفظاً يشاكل اللفظ العربي في احتمال تلك المعاني المتعددة.
ومثال هذا: ما صنع (ماكس هينج) مترجم القرآن للِّسان الألماني، فإنه ترجم الإبِلَ في قوله:{أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ} [الغاشية: 17] باللفظ الموضوع في الألماني للسحاب، وهو أحد المعاني التي حملت عليها الآية،
والجمهور يفسرون الإبل بالحيوان المعروف، وهو المتبادر، ولا داعي إلى صرف اللفظ عنه إلى ذلك المعنى المجازي، وهو السحاب.
ومن الخلل الذي يدخل الترجمة الحرفية: أن يستعمل القرآن اللفظ في معنى مجازي، فيأتي المترجم بلفظ يرادف اللفظ العربي في معناه الحقيقي.
وهذا ما صنع (مارماديوك بكتهول) مترجم القرآن إلى اللسان الإنكليزي في كثير من الآيات، وقد وقع من هذه الناحية في أخطاء لا تحصى، تجدونه -مثلاً- يترجم قوله تعالى:{فَيَدْمَغُهُ} من آية: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ} [الأنبياء: 18] بمعناها الأصلي، وهو:(فيشج رأسه)، ويترجم قوله تعالى:{وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ} [الإسراء: 29] بمدلولها الأصلي، وهو جمع اليد إلى العنق، وإطلاقها، والقارئ الإنكليزي لم يعتد أن يفهم من مثل شج الرأس معنى الغلب، ولا من جمع اليد إلى العنق وإطلاقها معنى البخل والإسراف.
ومن هذا القبيل: أن يطلق لفظاً عاماً، ويريد به خاصاً؛ كما أطلق الواقعة على يوم القيامة في قوله تعالى:{إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ} [الواقعة: 1]، فيأتي المترجم بما يرادف الواقعة دون ما يرادف يوم القيامة، وكذلك فَعل المترجم الألماني، إلا أنه كتب في أسفل الصحيفة منبهاً على أن المراد: يوم القيامة.
ومن هذا الباب: أن يستعمل القرآن الكلمة، ومعناها لا يظهر إلا بملاحظة متعلق محذوف، ويكون هذا المتعلق قريب المأخذ في النظم العربي، دون لغة الترجمة؛ كقوله تعالى:{وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ} [الواقعة: 10 - 11]؛ فإن ترجمتها من غير ذكر متعلق السابقين الواردة
أولاً، وهو:(في الدنيا)، ومتعلق السابقين الواردة ثانياً، وهو:(في الآخرة) لا تأتي للقارئ الألماني بفائدة.
وفي القرآن بعد هذا كلمات كثيرة اختلف فيها أهل العلم، فمنهم من يقف دون تفسيرها، فيؤمن بأن لها معاني صحيحة، ويدع تعيين هذه المعاني إلى علم الله وحده، ومنهم من يأخذها بالتأويل، ويذكر لها معاني معقولة، ويذهب هذا الفريق في التأويل مذاهب يحتاج ترجيح أحدها على غيره إلى ذوق في لغة العرب سليم، ونظر في فهم أصول الدين مستقيم، وهذا ما يسمونه: آيات الصفات في قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5].
وقد تعرض الإمام الغزالي في كتاب "إلجام العوام للأخبار الموهمة للتشبيه"، وقرر الإمساك عن التصرف في ألفاظها بتفسيرها بلغة غير عربية، وقال:"لا يجوز النطق إلا باللفظ الوارد، لأن من الألفاظ العربية ما لا يوجد لها فارسية تطابقها، ومنها ما يوجد لها فارسية تطابقها، لكن ما جرت عادة الفرس باستعارتها للمعاني التي جرت عادة العرب باستعارتها، ومنها ما يكون مشتركاً في العربية، ولا يكون مشتركاً في الفارسية".
ولما يعرض في ترجمة القرآن من الصعوبة، أجاز بعضهم ترجمة الآيات المحكمة والقريبة المعنى بمقدار الضرورة إليهما من التوحيد وأركان العبادات، وقال: لا يتعرض لما سوى ذلك، ويؤمر من أراد الزيادة على ذلك بتعلم اللسان العربي (1).
* الداعي إلى نقل معاني القرآن إلى اللغات الأجنبية:
كان المسلمون -فيما سلف- يقتحمون للسيادة كلَّ وعر، ويركبون
(1) نسبه الزركشي في "البحر المحيط" إلى بعض الأئمة المتأخرين من المغاربة.
لإظهار دين الله كل خطر، ويلبسون من برود البطولة والعدل وكرم الأخلاق ما يملأ عيون مخالفيهم مهابة وإكباراً، وكانت اللغة العربية تجر رداءها أينما رفعوا رايتهم، وتنتشر في كل واد وطئته أقدامهم، فلم يشعروا في دعواتهم إلى الإسلام بالحاجة إلى نقل معاني القرآن إلى اللغات الأجنبية، وربما كان عدم نقلها إلى غير العربية، وهم في تلك العزة والسلطان، من أسباب إقبال غير العرب على معرفة لسان العرب، حتى صارت أوطان أعجمية إلى النطق بالعربية.
ذلك الأمر الذي جعل اللغة العربية تتقلب في البلاد، والقرآن يُدرس باللسان الذي نزل به في كل واد، قد سكنت منذ حين ريحه، وتقطعت أسبابه، غشيت المسلمين فتن، وناموا عن واجب الدعوة إلى سبيل ربهم، فخسروا مظاهر عزِّهم، وفقدوا الوسائل التي كانت تسعد اللغة العربية، فتنطلق بها ألسنة المخالفين، ويدخلون منها إلى الاطلاع على ما في القرآن من بلاغة وحكمة.
أصبحنا أمام أمر واقع، هو: عدم استطاعتنا لنشر اللغة العربية في غير بلاد إسلامية يرأسها مسلم طاهر السريرة، وإبلاغ دعوة الإسلام إلى الشعوب غير الإسلامية فريضة لا تسقط إلا حين يسقط غيرها من الفرائض، فلا بد لنا من ابتغاء الوسيلة إلى القيام بهذه الفريضة، وليس في يدنا اليوم وسيلة إلَاّ نقل معاني القرآن إلى ألسنة من نريد دعوتهم إلى شريعته الغراء.
ومما يدعو اليوم إلى نقل معانيه إلى بعض اللغات الأجنبية على وجه التفسير: أن كئيراً من الأوربيين -ومنهم قُسس- قد ترجموا القرآن إلى لغاتهم تراجم مملوءة بالخطأ، وإنما يُكفى شر هذا الفساد بإراءة أصحاب تلك
اللغات معاني القرآن على وجهها الصحيح.
هذا ما يأخذ النظر إلى مذهب الإذن في نقل معاني القرآن إلى اللغات الأجنبية، وقد صرح بجواز هذا النقل طائفة من كبار أهل العلم.
قال ابن بطَّال: "إن الوحي كله -متلوّاً وغير متلوٍّ- إنما نزل بلسان العرب، ولا يرد على هذا كونه صلى الله عليه وسلم بعث إلى الناس كافة، عرباً وعجماً وغيرهم؛ لأن اللسان الذي نزل عليه به الوحي عربي، وهو يبلغه إلى طوائف العرب، وهم يترجمونه لغير العرب بألسنتهم".
وقال الحافظ ابن حجر: دافمن دخل الإسلام، أو أراد الدخول فيه، فقُرِى عليه القرآن، فلم يفهمه، فلا بأس أن يعرَّب له؛ لتعريف أحكامه، أو لتقوم عليه الحجة، فيدخل فيه" (1).
وقال ابن تيمية في "الرسالة السبعينية": "ولكن يجوز ترجمته كما يجوز تفسيره، وإن لم تجز قراءته بألفاظ التفسير، وهي إليه أقرب من ألفاظ الترجمة بلغات أخرى".
وبعض من منعوا ترجمة القرآن إلى اللغات الأجنبية صرحوا بما يقتضي جواز تفسيره بها.
قال القفّال من كبار علماء الشافعية: عندي أنه لا يقدر أحد على أن يأتي بالقرآن بالفارسية، قيل له: فإذاً لا يقدر أحد أن يفسر القرآن، قال: ليس كذلك؛ لأن هناك يجوز أن يأتي ببعض مراد الله، ويعجز عن بعضه، أما إذا أراد أن يقرأها بالفارسية، فلا يمكن أن يأتي بجميع مراد الله.
(1)"الفتح"، باب: ما يجوز من تفسير التوراة وكتب الله بالعربية.
* نتيجة البحث:
إذا كانت ترجمة القرآن إبدالَ اللفظ العربي بلفظ من لغة أجنبية يقوم مقامه في الدلالة على ما يفهم منه عربية، فإنا نرى كثيراً من الآيات لا يمكن ترجمتها على هذا الوجه ترجمةً صحيحةً، فترجمة القرآن من فاتحته إلى منتهاه غير متيسرة، ولو بالنظر إلى المعاني الأصلية؛ فإن الآيات المحتملة لوجوه متعددة لا يمكن نقلها إلى لغة أخرى إلا على وجه واحد، وهذا ليس بترجمة، وإنما يصح أن يسمى: تفسيراً، إذاً يجوز نقل معاني القرآن إلى اللغات الأجنبية على أنها تفسير، لا على أنها ترجمة مطابقة للأصل.
ولا بد في نقل معاني القرآن إلى اللغات الأجنبية من إشعار القارئين بأن هذا النقل تفسير لا ترجمة، ومن طرق التنبيه: جمل تكتب في حواشي الصحائف يبين بها أنَّ هذا أحد وجوه، أو أرجح وجوه تحتملها الآية، ومما يُدفع بمثل هذا البيان: توهُّمُ من يقرأ تراجم الأوربيين أن في القرآن اختلافاً؛ فإن المترجم الألماني -مثلاً- قد ترجم {الْإِبِلِ} في قوله تعالى: {أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ} [الغاشية: 17] بالسحاب، والمترجم الإنكليزي ترجمها بمعنى الحيوان المعروف، فالأورويي الذي يقرأ الترجمتين يتوهم أن هذا الاختلاف في أصل نسُخ القرآن، ولا يخطر له أن هذا الاختلاف نشأ من جهة أن كلاً من المترجمين نقل معنىً من معنيين يحتملهما لفظ الآية.
وإذا كانت الترجمة بمعناها الحقيقي -ولو للمعاني الأصلية- لا تتيسر في جميع آيات القرآن، وإنما المتيسر الترجمة على معنى التفسير، كانت الترجمة المعنوية أقرب إلى الصحة من الترجمة الحرفية، متى أفاد بها المترجم
معنى الآية في أسلوب من أساليب اللغة الأجنبية لا زيادة فيه ولا نقصان.
فلو قامت جمعية ذات نيات صالحة، وعقول راجحة، وتولت نقل معاني القرآن إلى بعض اللغات الأجنبية، وهي على بينة من مقاصده، وعلى رسوخ في معرفة تلك اللغات، وتحامت الوجوه التي دخل منها الخلل في التراجم السائرة اليوم في أوروبا، لفتحت لدعوة الحق سبيلاً كانت مقفلة، ونشرت الحنيفية السمحة في بلاد طافحة بالغواية قاتمة.