الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كتاب يلحد في آيات الله
(1)
قرر الإسلام للمرأة حقوقاً رفعت شأنها، وجعلتها عضواً عاملاً في دائرة الصيانة، وعلى وجه يحفظ بينها وبين زوجها وأقاربها المودةَ الصادقة، والعاطفةَ الفياضة بكل خير، وما زالت المرأة المسلمة تعيش مع الرجل القائم على آداب الإسلام مغتبطة هانئة، شأنها النظر في تربية الولد، وتدبير المنزل، وشأن الرجل معاشرتها بالمعروف، والقيامُ بحاجاتها، ومسايرة رغباتها ما دامت محفوفة بسياج الطهر والحياء. وما زال المصلحون يدعون إلى رعاية حقوقها المنبَّه عليها بقوله تعالى:{وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} [البقرة: 228] ، حتى ظهر نفر تخيَّلوا أن الرقي كله في مظهر المرأة الأوربية، فقاموا ينادون لأن تتبع المرأة المسلمةُ الأوربيةَ شبراً بشبر، وذراعاً بذراع.
نقول هذا بمناسبة الحديث عن كتاب ظهر في تونس منسوباً إلى بعض من لبست نفوسهم من التجافي عن الدين ما لبسته نفوس هؤلاء الذين يزعمون أنهم أنصار المرأة. ويقولون - والجهل ضارب في أدمغتهم -: إن الإسلام ظلم المرأة، ويذكرون: تعددَ الزوجات، وجَعْلَ الطلاقِ في يد الرجل،
(1) مجلة "نور الإسلام" - العدد الثامن من المجلد الأول الصادر في شهر شعبان 1349 هـ. وهو نقد كتابا "امرأتنا في الشريعة والمجتمع" تأليف الطاهر حداد.
وجَعْلَ نصيبها من الإرث نصفَ نصيب الرجل، ونحوَ هذه الأحكام مما قرره الإسلام، وعرفت العقول السليمة حكمتها، وموافقتها لما تقتضيه الحياة الراقية.
باطلٌ من القول لغط به نفر من غير المسلمين في الشرق، فوقع في آذان أحداث في تونس، ولم يجد لديهم من متانة العقيدة، وقوةِ البصيرة ما يدفع عنهم خبثه، فأساغوه، وردَّدوا صوته محاكاة لأولئك النفر، والمحاكاةُ في الباطل أدلُّ على قصر النظر من ابتكاره، ولكن المستعدين للتقليد فيما تشقى به الأمة لا يفقهون.
ظهر هذا الكاتب منسوباً لأحد من يحملون شهادة (التطوع)(1) بجامع الزيتونة، وقد سلك صاحبه طريقة مخادعة الغافلين من المسلمين بتأويل نصوص الشريعة، وتحريف كلمها عن مواضعه، ولم يتعظ هذا الكاتب بمن ذهب في الكيد للدين هذا المذهب، فخاب سعيه، ولم يزد على أن كشف للناس سريرة مغبرّة كانوا يظنونها نقية، بل أحيا شُعوراً دينياً كان في بعض النفوس خاملاً؛ إذ دلَّ المسلمين على أن من وراء هذه الأقلام ضمائر لا ترجو لله وقاراً، وأيدياً تعمل لتقويض بناء الشريعة ليلاً ونهاراً.
ظهر هذا الكتاب، فقابلته الأمة التونسية بالإنكار، وقامت الصحف هنالك بواجبها، فنقدته من الوجهتين: الدينية، والاجتماعية، وكتب بعض العلماء مقالات في بيان ما فيه من جهالة وغواية، وألَّفت النظارةُ العلمية
(1) شهادة يأخذها الطالب بعد أن يقضي في الطلب نحو سبع سنين. ولعلها تساوي الشهادة الأهلية في الأزهر الشريف، وسميت (تطوعاً)؛ لأنها تخول صاحبها أن يدرّس في الجامع متطوعاً.
بجامع الزيتونة لجنة من العلماء الذين درسوا أصول الشريعة على بصيرة، وعُرفوا باستنارةِ الفكر، وتمييزِ الجديد النافعِ مما هو جديد آثمٌ، فدرست اللجنة الكتاب، ووضعت تقريراً فيما احتواه من منكرات وضلالات.
لقي الكتاب ما يستحق من التفنيد، وسعي النظارة العلمية لتجريد صاحبه من الشهادة التي يحملها، ولكنه لم يعدم أن يجد أفراداً يموّهون باطله، ويروِّجون زائفة، فأقاموا لصاحبه حفلة تكريم، وعجلوا إلى بث دعاية له في مصر، ولفقوا مقالات حملوا فيها على العلماء وأرباب الصحف الذين نقدوا الكتاب بعقل، وفضحوا ما فيه من تضليل، ثم بعثوا بتلك المقالات إلى صحف لا ترعى للحقائق ذمة، فنشرتها لهم، ولم يكن لها من الأثر سوى ارتياح غيرِ المسلمين لأن يُرمى الدينُ الحنيف بيد منتسب إلى معهد أُسس ليكون حصناً للدين مانعاً.
وفي هذه المقالات اغتباط أولئك النفر بأن بعض الفرنسيين كانوا في جانب صاحب الكتاب، يدافعون عنه، وينقدون سلوك الصحافة التونسية في الرد عليه، ولم لا يكون الفرنسيون في جانبه، وهو يضرب الإسلام في الصميم، ويأتي لهدمه من باب لا يستطيع الفرنسيون أن يأتوه وهم فرنسيون؟؟!.
وفي هذه المقالات رمي للمستنيرين؛ كالمحامين، والأطباء في تونس بأنهم خذلوا صاحب الكتاب لغايات شخصية، ونحن نرى في مصر محامين وأطباء يؤمنون بالقرآن أبلغ الإيمان، ويرون أن ما منحه الإسلام للمرأة من الحقوق هو عين الصواب، وما عداه جهل بعواقب الأمور، ولم لا يكون المحامون والأطباء في تونس قد جمعوا إلى علم الحقوق والطب هداية وتوفيقاً؟
وزعم كاتب تلك المقالات أن النظارة العلمية عقدت لجنة من بعض
أعضائها، ومن بعض المدرسين، وقرروا - فيما بلغهم - أن المدرك التشريعي الذي يراه مؤلف الكتاب لا ينافي الإسلام، إلا أن المؤلف لم يبلغ رتبة الاجتهاد.
وقد اطلعنا في الصحف التونسية على ما يخالف هذا الزعم.
قالت جريدة "الزهرة" الغرَّاء: "بلغنا أن اللجنة التي ألفتها النظارة العلمية للنظر في كتاب "امرأتنا في الشريعة والمجتمع" قد أتمت أعمالها، وأنهت تقريراً في ذلك للوزارة الكبرى، وكان جميع أعضاء اللجنة على وفاق تام مجتمعين على أن الكتاب المذكور يحوي في عدة نواح منه أوجهاً كثيرة من الضلال والتضليل، وبهذه الصفة يعتبر مروقاً من الدين، وخروجاً على إجماع الأئمة من علماء الإسلام، ومحاربة لحضرة الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم ".
ونقلت جريدة "الوزير" الغرَّاء محادثات في شأن الكتاب جرت بين رئيس تحريرها، وفضيلة شيخ الإسلام (1) بتونس الشيخ "أحمد بيرم"، وبعض أعضاء اللجنة، ومما قاله شيخ الإسلام في حق الكتاب أنه:"يخالف الشريعة الإسلامية في كثير من المواقف؛ كمسألة تعدد الزوجات، ومسألة الميراث، ومسألة الحجاب".
وقال رئيس الإفتاء المالكي الشيخ محمد الطاهر بن عاشور: إنه "يشتمل على مخالفات كثيرة لأحكام الشريعة الإسلامية تعد ضلالات، وقد بتت اللجنة رأيها الذي يحوم حول هذا".
وقال المفتي المالكي الشيخ أبو الحسن النجار: "إنه يخالف النصوص الشرعية، لا في فروعها فقط، بل في أصولها، وما علم من الدين بالضرورة".
(1) هو لقب رئيس الإفتاء الحنفي.
وقال المفتي المالكي الشيخ عبد العزيز جعيط: "وفي رأيي الخاص: أن كثيراً مما تضمنه الكتاب يوجب المروق من الدين".
هذه آراء شيخ الإسلام بتونس، وبعض أعضاء اللجنة المكلفة بفحص الكتاب، وهي صريحة في أنهم يرون أن في محتوياته ما هو ضلالة ومروق من الدين، وليس من المعقول أن يقول عالم مسلم في الحكم على مثل ذلك الكتاب: إن المدرك التشريعي الذي يراه مؤلفه لا ينافي الإسلام، فقد وصلت إلينا نسخة من هذا الكتاب، فقرأناه، فإذا هو يعتسف طرقاً ملتوية، ويرمي بأقوال منكرة، ويتشبث بآراء منبوذة، ولو قصر صاحبه البحث على تعليم المرأة، وتربيتها، وإنكار ما يفعله بعض الرجال من الاستخفاف بحقوقها، والمبالغة في حجابها، لقلنا: كتاب يدعو إلى ناحية من نواحي حياتنا الاجتماعية، وكان حظه منا شكراً وتقريظاً، ولو ذهب صاحبه في البحث مذهب من لا يعرف الشريعة، فقرر آراءه الخاصة دون أن يتعرض للقرآن الكريم، لقلنا: نسي تعاليم الإسلام، وكانت خطة العلماء معه أن يذكروه بأن آراءه في واد، والدين في واد، وكان له الخيار بعد هذه التذكرة أن يتشبث بهذه الآراء المنحدرة من عقول داجية، أو يرجع إلى شريعة نزل بها الروحُ الأمين على خاتم النبيين؛ لتكون هداية للعالمين.
ولكن هذا الكاتب لم يتحر فيما كتب الطريقة الصالحة، ولم يتق الله في شريعته الغراء، فأقبل على القرآن يحرِّف آياته عن مواضعها، ويضاهي الذين يخادعون الله في تأويلها.
ولا حاجة بنا إلى تتبع خطيئات الكتاب بعد أن تصدى طائفة من علماء تونس ونبهائها إلى نقضه، وبيان ما يحمله من أباطيل.
وحسبنا أن نسوق إلى القراء أمثلة يعرفون بها كيف قام ذلك الكاتب يردد صوت هؤلاء المخالفين الذين يحاربون الإسلام في غير استحياء.
قال ذلك الكاتب: "يجب أن نعتبر الفرق الكبير بين ما أتى به الإسلام وجاء من أجله، وبين ما وجده من الأحوال العارضة للبشرية، والنفسيات الراسخة في الجاهلية قبله، دون أن تكون غرضاً من أغراضه"، وجعل الكاتب في القسم الأول: عقيدة التوحيد، ومكارم الأخلاق، وجعل في القسم الثاني: تعدد الزوجات، ونحوه، وقال عن هذا القسم:"لا يمكن اعتباره حتى كجزء من الإسلام".
جاء الإسلام لبيان العقائد الصحيحة، ومكارم الأخلاق، وجاء لتقرير أحكام العبادات والمعاملات، فالجميع جاء من أجله الإسلام، وإن اختلفت مراتب الأحكام شدة ورفقاً، وما يترتب عليها من المصالح قوة وضعفاً، وزعمُ أن الإسلام جاء من أجل العقائد والأخلاق، وأن في أحكام المعاملات ما لم يأت الدين من أجله، ولا يعد كجزء منه، إنكارٌ لجانب عظيم من الشريعة، وطرح أحكام المعاملات، وإباحة الحكم فيها بغير ما أنزل الله؛ باعتقاد أنه أحفظ للمصلحة، انسلاخٌ من الدين بلا شبهة، وتعدد الزوجات من قَبيل ما أنزل الله حكم إباحته.
قال تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ} [النساء: 3]، فمن قضى بالمنع قضاء عاماً معتقداً أن المصلحة في هذا المنع، فقد قضى بغير ما أنزل الله، وأصبح مصداق قوله تعالى:{وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة: 44].
اختلق الكاتب هذا الرأي ليبني عليه طرحَ كل حكم في الإسلام لا يوافق
ذوقَه أو هواه؛ بزعم أن الإسلام لم يجئ من أجله، وأنه لا يعد كجزء منه، وإن جاء به نص صريح في الكتاب أو السنة المتواترة، وهذا رأي لا يرتاح إليه إلا من يسره كثرةُ سواد المنسلخين من الدين؛ إذ لا مِعْول يفعل في هدم الشريعة فعلَه لو أنه وجد في الناس غفلة وجهالة.
وقال الكاتب: "إن الإسلام لم يقرر نزول ميراث المرأة عن الرجل كأصل من أصوله التي لا تتخطاها".
هذا مما بناه الكاتب على زعمه: أن من أحكام الإسلام ما لم يجئ الإسلام من أجله، يقول الله تعالى:{يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} [النساء: 11] إلى قوله تعالى: {وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ (12) تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (13) وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ} [النساء: 12 - 14].
فالله تعالى يوصي بأن تُعطى الأنثى نصفَ ما يُعطى الذكر، ويجعل هذه الوصية حداً من حدوده، ويتوعد على تعديها بالنار والعذاب المهين، وذلك الكاتب يريد من المسلمين أن يهملوا وصية ربهم، ويتعدوا حدوده، ويجعلوا ميراث الأنثى مساوياً لميراث الذكر، على الرغم من الحكم الواضحة فيما أوصى الله به من إعطاء الذكر مثل حظ الأنثيين.
وقال الكاتب: "لقد حكم الإسلام في آيات القرآن بتمييز الرجل عن المرأة في مواضع صريحة، وليس هذا بمانع أن يقبل بمبدأ المساواة الاجتماعية بينهما عند توافر أسبابها بتطور الزمن، ما دام يرمي في جوهره إلى العدالة
التامة، وروح الحق الأعلى".
الإسلام يرمي إلى العدالة التامة، وقد قرر أصلاً هو أن تكون المرأة في عفاف، فمن العدالة التامة أن ينهى عن اختلاطها بالرجل إلا أن يكون محرماً، وقرر على الرجل القيام بحاجاتها وحاجات ما يرزقان من ولد، فمن العدالة التامة أن يكون حظ الرجل من الميراث أكثر من حظها، وهل في الأزمنة طور يقتضي بطبيعته سقوطَ العفاف من حساب الفضيلة؟ وهل في الأزمنة طور يقتضي بطبيعته وضعَ نفقة الرجل وولده على عاتق المرأة؟ يكون هذا الطور عندما يخلق الرجل والمرأة خلقاً آخر. وذلك ما لا يقصد الكاتب الحديث عنه.
ومن جرأة الكاتب قوله: "ليس لي أن أقول: تعدد الزوجات في الإسلام؛ لأني لم أر للإسلام أثراً فيه، وإنما هي سيئة من سيئات الجاهلية الأولى".
يقول الله تعالى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ} [النساء: 3]، ويجمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في النكاح بين اثنين أو ثلاث أو أربع، والرسول عليه الصلاة والسلام يشهد ذاك، ويقرهم عليه، واستمر العمل على تعدد الزوجات جارياً في الأمة جيلا بعد جيل، حتى أتى هذا الكاتب، فرأى أن ينفيه من الإسلام، على الرغم من أنه منصوص في كتاب الله، والعمل به جارٍ منذ عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولا يظن بمسلم الجهل بأن تعدد الزوجات مما أباحه الإسلام، ولكن الكاتب أراد تقبيحه، وهو ممن يزعم أنه يتكلم بلسان الشريعة، فقدم جحوده لأن يكون من الإسلام؛ حتى يتيسر له أن يصفه بأنه سيئة من سيئات الجاهلية.
يجيء الكاتب إلى الحديث الصحيح، ويحاول رده بزعم أنه تُكلم في سنده، وليس لهذا الزعم وجه سوى أن الحديث لا يوافق الرأي الذي أحبَّ تقليده؛ كما قال:"وروى بعض أهل الحديث: أنه عليه السلام قال ما معناه: "النساء ناقصات عقل ودين"، ورغماً مما قيل في سند هذا الحديث إلى النبي، فإنه - على فرض صحته - لا يدرى أكان يحدثنا به عن أصل تكوين المرأة في جوهرها - ولا دليل على ذلك من لفظ الحديث -، أو هو يعبر عن حالتها في تلك العصور، يعتذر عن بعض هفواتها لسائليه أو سامعيه".
كلامه هذا يدل على أنه متهجم على الشريعة بهوّى أكَمَّهُ، وأنه لا يتكلم في الدين بعد البحث ولو قليلاً، والحديث الذي أشار إليه الكاتب مروي في "صحيحي البخاري ومسلم"، ولفظه في البخاري:"ما رأيتُ من ناقصاتِ عقل ودين أذهبَ للبِّ الرجلِ منكنَّ، قلن: وما نقصانُ ديننا وعقلنا يا رسول الله؟ قال: أليس شهادةُ المرأة مثلَ نصف شهادة الرجل؟ قلن: بلى، قال: فذلك نقصانُ عقلها. أليسَ إذا حاضت، لم تصلِّ، ولم تصم؟ قلن: بلى، قال: فذلك نقصان دينها".
فالحديث في الصحيح، وقد بيَّن النبي صلى الله عليه وسلم ماذا أراد منه، والوجه الذي ذكره في نقصان دين المرأة يرجع إلى أمر لازم لها من جهة الأنوثة، وهو الحيض، فإن كان للعصور طور ينقطع فيه الحيض عند النساء جملة حتى يؤدين الصلاة والصيام في أوقاتهما المحدودة، لم يكنَّ حينئذ ناقصات دين.
والوجه الذي ذكره عليه - الصلاة والسلام - في نقصان عقلها - أعني: عدم مساواة شهادتها لشهادة الرجل - مبني على ما يغلب على النساء من
النسيان، والأحكام العامة تبنى على الغالب.
ولعل الكاتب ينكر أن النسيان يعرض للنساء أكثر من الرجال، وإن دل عليه قوله تعالى:{أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى} [البقرة: 282]، فننبئه أن بعض علماء أوروبا قرروا أن في ذاكرة المرأة ضعفاً، وأنها لا تستحضر الماضي كما يستحضره الرجل.
فهذا الدكتور (أوتو فينجر) الطبيب الفيلسوف النمساوي شهد في كتابه المسمى: "الجنس والأخلاق"(1) في (صحيفة 94 - 116) بأن المرأة ضعيفة الذاكرة، فقال:"إن التذكر هو التغلب على ما مضى من الزمن، واستحضاره في الذهن، ولا يمكن للمرأة - لأسباب عضوية ونفسية - السيطرةُ على هذه الموهبة؛ لأن حياتها متقطعة، لا تذكر منها إلا اليسير؛ بخلاف الرجل؛ فإنه يمكنه تتبع سلسة حياته حلقة فحلقة، ولا يغيب عنه جوهرها في أي وقت من الأوقات". بل قرر في هذا الكتاب ضعفَ قوتها العاقلة، فقال في (صحيفة 76 - 84):"لا يمكن للمرأة التفرقة بين الشعور والتفكير - أي: بين حياتها الوجدانية والعقلية -، ولكن الرجل يمكنه فصلهما عن بعضهما فصلاً تاماً". وقال في (ص 85 - 93): "إن النبوغ إحدى ميزات الرجل، ولا يمكن أن تصل إليه المرأة مهما بلغت موهبتها".
ومن جرأة الكاتب على مقام الرسالة الأعظم قوله: "إن تعدد أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ليس تشريعاً لأمته كترغيب لها فيه، وإنما كان ذلك قبل التحديد،
(1) ظهر هذا الكتاب في اللسان الألماني في مايو سنة 1903 م، وأعيد طبعه 27 مرة، ونقل إلى نحو عشر لغات من اللغات الأوربية.
والنبي إنسان كالبشر، غيرُ سالم من تأثير عوارض البشرية عليه فيما لم ينزل به وحي سماوي".
معنى هذا: أن تعدد زوجاته عليه الصلاة والسلام لا يستند إلى وحي، وأن هذا من قبيل ما لا يليق فعله؛ إذ جعله من سيئات الجاهلية.
أما أن تعدد زوجاته لم يكن بوحي، وأنه عليه الصلاة والسلام مدفوع إليه بعوارض بشرية، فزعمٌ باطل؛ فإن الله تعالى يقول في حق زينب رضي الله عنها:{فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا} [الأحزاب: 37]، وقد تزوجها عليه الصلاة والسلام، وفي عصمته عائشة، وسودة، وحفصة رضي الله عنهن.
وورد في آيات كثيرة ذكر أمهات المؤمنين على وجه يدل على أن الله راضٍ عن هذا التعدد، قال تعالى:{يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ} [الأحزاب: 50]، وقال تعالى:{يَانِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ} [الأحزاب: 32] ، وإذا ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قد يفعل الشيء عن اجتهاد، فيجيء على خلاف الأولى، فيأتي الوحي منبهاً لما هو أولى، فمسألة تعدد زوجاته ليست من هذا القبيل في شيء؛ فقد نزل الوحي صريحاً في إباحته، ورضا الله عنه.
ولتعدد زوجاته عليه الصلاة والسلام حكم دينية اجتماعية تسمو عن عقول هؤلاء الذين لا يفهمون للزول حاجة غير قضاء الشهوة، ومن الحكم: تلقي أحكام الشريعة، وإبلاغها للناس؛ كما قال تعالى:{وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا} [الأحزاب: 34].
وسنعود إلى هذا البحث في مقال آخر - إن شاء الله - (1).
ودعا الكاتب إلى السفور مفتوناً بحال المرأة الأوربية، وزيَّن لقراء كتابه أن يجمعوا بين نسائهم وفتيانهم وأصدقائهم للمحادثة، ولم يكتف بقول بعض أهل العلم: إن الزينة الظاهرة المأذون في إبدائها بقوله تعالى: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [النور: 31] هي الوجه والكفان، فقال:"إن ما ظهر من الزينة وقع في القرآن مبهماً؛ اعتباراً منه لأعراف الناس في ذلك بتطور الزمان". والناظرون في الشريعة بإخلاص يرون أن القرآن إذا نهى عن إبداء الزينة، فإنما يريد: قطعَ وسائل الفجور، فليس لأحد أن يجعل هذا من قبيل ما يراعى فيه العرف، حتى إذا جرى عرف قوم بكشف المرأة لصدرها أو ساقيها، قضى فيه بالإباحة - على زعم أن القرآن أبهم ما أباح إبداءه من الزينة؛ ليؤخذ فيه بأعراف الناس -، والرجوع في مثل هذا إلى العرف يفتح طرقاً من الشر إنما جاء القرآن ليسدها.
ونحن ممن يدعو إلى تعليم البنات وتهذيبهن، وإكرام الزوجات ورعاية حقوقهن، والرفق بالنساء لضعفهن، ولكننا ننكر هذا الذي يدعو إليه الكاتب من الإغضاء عنهن إلى حد الاختلاط برجال ليسوا بمحارم لهن، فإن ذلك مما نهت عنه الشريعة، وأرتنا المشاهدُ رأيَ العين أنه أقربُ الوسائل إلى تلويث الأعراض، ونكدِ العيش، وهو إلى ابتذال المرأة أقربُ منه إلى كرامتها، وإلى عنائها أقربُ منه إلى راحة بالها، فالكاتب يعبث بحقوق المرأة المسلمة من وراء العبث بأحكام الشريعة، ويعمل لأن يفسد عليها دنياها قبل أن
(1) انظر كتاب: "الشريعة الإسلامية صالحة لكل زمان ومكان"، بحث: تعدد الزوجات في الإسلام - للإمام محمد الخضر حسين.
يفسد عليها آخرتها.
وقرأنا للكاتب بعد هذا جملاً كثيرة يطعن بها في علماء الإسلام، ويقذفهم فيها بأنهم لم يفهموا مقاصد الشريعة، ذلك لأنهم لم يمنعوا تعدد الزوجات، ولم ينزعوا حق الطلاق من يد الرجل، ولم يجعلوا ميراث الأنثى مساوياً لميراث الذكر، ولم يأذنوا للناس في أن يضعوا حبل الفتاة على غاربها تجتمع مع من تشاء، إلى نحو هذا من الشهوات التي لو طاشت إليها آراؤهم، لانطفأت حكمة الله، واندرست معالم الهداية، فلا قرآن يُتلى، ولا سنَّة تُروى، وعلى الدين الحقِّ يومئذ السلامُ.
وكان من رأينا صرف القلم عن ذكر هذا الكتاب؛ اكتفاء بما تناولته به أقلام أهل العلم في تونس من الرد المحكم، ولكن الدعاية التي قام بها شركاء صاحب الكتاب في مصر دعتنا إلى أن نذكره، ونُري القراء مثلاً من باطله؛ ليحذروا فتنة، ويعلموا أن في الشرق نفوساً تقضي باسم الشريعة مآرب قوم يبتغون فساد ما بقي فينا من عقيدة سليمة، وأدب نُغبط عليه، {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة: 50]