الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كتاب يهذي في تأويل القرآن المجيد
(1)
علم الله أن في البشر عقولاً لا تدرك وجوه الخير، وأن في وجوه الخير ما لا تصل إليه العقول بنفسها، وعلم أن فيمن يعقلون بعض هذه الوجوه أولي أهواء نزَّاعة إلى الشر، فأنزل كتاباً يدعو إلى توحيد الخالق، ويهدي إلى مكارم الأخلاق، ويسنُّ للقضاء والسياسة العامة أحكاماً عادلة، وينبه على بعض سننه في الخليقة لندرك بالغ حكمته، ويذكرنا بأيام أمم قد خلت من قبلنا لنتعظ بها، ونحذر سوء منقلبها، ويقصُّ علينا من أنباء رسله ما يصف لنا صبرهم على ما أوذوا، وتأييده لهم بما يقطع عذر المنكرين لرسالتهم، ويخبر عن بعض الحقائق الغائبة عن أبصارنا، لنزداد علماً بسعة خلقه، وكمالِ قدرته، ونفقه أن ما لدينا من وسائل العلم لا نكسب به من العلم إلا قليلاً.
وقد شاء الله تعالى أن ينزل هذا الكتاب على سيدنا محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، وقضت حكمته أن ينزله بلسان عربي مبين، بلسان أمة اختصت لذلك العهد بمزايا تهيئها لأن تتقبل دعوته، وتفقه مقاصده، وتشيد بجانبه دولة تقيم لمن
(1) مجلة "نور الإسلام" العدد الثاني من المجلد الثاني الصادر في صفر 1350 هـ - وهو نقد كتاب "الهداية والعرفان في تفسير القرآن بالقرآن" تأليف محمد أبو زيد الدمنهوري - طبعة مصطفى الحلبي عام 1349 هـ.
تقلدوه عزة، وتمد على رؤوس دعاته حماية يتقلبون في ظلالها، ويبلغون الأمة هداية الله تحت رايتها.
أنزل الله كتابه الكريم، وعهد ببيانه إلى رسوله العظيم صلى الله عليه وسلم، فتلقى عنه أصحابه ذلك الكتاب، وبيانَ ما كان يخفى عليهم من آياته، فما انتقل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى حتى تركها شريعة غرَّاء، ليلُها كنهارها، وما انقرض عهد أصحابه رضي الله عنهم حتى ورثها عنهم التابعون، وأدَّوها إلى الذين جاؤوا من بعدهم بأمانة وتقوى، وما زال القرآن يدرس، والراسخون في العلم لا يختلفون في فهم آياته، إلا آياتٍ لا يمس الخلاف فيها أصلاً من أصول الدين، وليس فيما يعتد به من هذا الخلاف ما يخرج فيه الفهم عن أساليب اللغة العربية، ومقتضى وضعِ ألفاظها، حتى ظهر أشخاص قلَّ في علم اللغة نصيبُهم، أو خفَّ في علم الشريعة وزنُهم، فتناولوا القرآن بعقول لا تراعي في فهمه قوانين البلاغة، ولا تدخل إلى تفسيره من باب السنَّة الصحيحة، فأدخلوا في تفسير القرآن آراء سخيفة، ومزاعم منبوذة، ووَجدت هذه الآراء وهذه المزاعم عند بعض العامة وأشباه العامة متقبَّلاً.
وشرٌّ من هؤلاء طائفة الباطنية، الذين هم رهط من المجوس، ائتمروا على أن يكيدوا الإسلام بتأويل القرآن على وجوه غير صحيحة؛ ليصرفوا الناس عن محجته البيضاء، ويأخذوهم إلى ما شاؤوا من نِحَل خاسرة وأهواء، ولولا رجال يدرسون الدين ببصائر تنفذ إلى لبابه، ويرزقون إيماناً يسوقهم إلى دفاع الخبائث عن حياضه، لكان لأولئك المضلين جولةٌ أوسعُ مما جالوا، واستدراج للنفوس أكثر مما استدرجوا.
وعلى الرغم مما في كتب العلماء المصلحين من حق واضح، وحجة
دامغة، لم ينقطع شر هذا الرهط الذين يمكرون بكتاب الله، ويحرفون كلمه عن مواضعه؛ ليقضوا مآرب، ويشفوا صدور قوم لا يؤمنون.
وها هي تلك الفرقة البهائية قامت منذ عهد غير بعيد تتبع خطا الباطنية: تجهد نفسَها إجهادهم، وتهذي في تأويل كتاب الله هذيانهم. وقد تسنَّى لها أن تستهوي بعض النفوس الغافلة أيام كان دعاتها يراؤون الناس، ويضعون على ألسنتهم مسحة من الدين الحنيف، أما اليوم، فقد غرَّهم الغرور، فأعلنوا نحلتهم، وجعلوا الناس على بينة من باطن أمرهم، فما لهم بعد هذه العلانية إلا أن يُنقض بناؤهم، ويحذر المسلمون أينما كانوا حبائل دعاتهم.
ويضاهي البهائيةَ وأسلافَهم الباطنيةَ في العمل لتقويض أصول الإسلام على طريقة التأويل نفر يضعون على رؤوسهم بياضاً، ويحملون في صدورهم سواداً، لم يرسموا لأنفسهم نحلة دينية، وإنما هي الغواية لعبت بعقولهم، وإكبارُ خصوم الدين ران على قلوبهم، فانطلقوا إلى القرآن الكريم يؤولونه على ما يوافق شهواتهم، ويقضي حاجات في نفوس ساداتهم، يفعلون هذا ولا يرقبون في اللغة العربية ذمة، ولا يرعون لسنَّة أفضل الخليقة حُرمة، وتراهم ينبذون ما يقرره أئمة العربية، أو أئمة الدين نبذاً لا يتكئ على دليل، ويطلقون ألسنتهم في هؤلاء الأئمة الذين خدموا الدين والعلم والأدب، وإنما يعرف فضلَهم العالم الناقدُ النبيل.
ومن هؤلاء النفر شخص سولت له نفسه أن يخوض في آيات الله كالذين خاضوا فيها على عماية، فكتب جملاً قصيرة قذف فيها شيئاً من وساوسه، وسماها: تفسيراً، بل تناهى في الافتتان بها، فسماها:"الهداية والعرفان".
والذي يقرأ هذه الجمل لا يرتاب في أن صاحبها جامد على المحسوسات،
جاحد لكثير مما أخبر به القرآن، منكرٌ لأحكام قررها القرآن والسنَّة، وأجمع عليها الصحابة وأئمة الإسلام من بعدهم جيلاً بعد جيل، ولكنه يريد أن يدل على إنكاره بما يرتكبه في الآيات من سوء التأويل.
ونضع بين أيدي القراء أمثلة من هذا الكتاب؛ ليعلموا أن رئاسة الأزهر الشريف قد قضت بسعيها في حجزه وإتلافه واجباً، هو حماية العامة من أن يقرؤوا إلحاداً في آيات الله غير مقرون بما يكشف القناع عن وجهه الفظيع، وضلاله البعيد.
* تأويله لآيات المعجزات:
ينكر ذلك المؤول المعجزات صراحة، فقد قال في صفحة (306):"وإن آيتهم - أي: الرسل - على صدق دعوتهم لا تخرج عن حسن سيرتهم، وصلاح رسالتهم، وأنهم لا يأتون بغير المعقول، ولا بما يبدل سنته ونظامه في الكون"، وقال في ص (161):"وبعد هذا تعلم أن الله ينادي الناس بأنهم لا ينبغي أن ينتظروا من الرسول آية على صدقه في دعوته، غير ما في سيرته ورسالته".
وقد جرى هذا المؤول وراء طائفة البهائية؛ فإنهم ينكرون للرسل - عليهم الصلاة والسلام - معجزات، صرَّح بإنكارها داعيتُهم المسمى: أبا الفضل، فقد ذكر المعجزات في كتابه المسمى بـ:"الدرر"، وقال: وكثير من أهل الفضل وفرسان مضمار العلم اعتقدوا أن جميع ما ورد في الكتب والأخبار من هذا القبيل كلها استعارات عن الأمور المعقولة والحقائق الممكنة مما يجوزه العقل المستقيم.
ثم أخذ يؤول بعض ما ورد في تلك المعجزات من قرآن وحديث
على نحو الوجهة التي ضلَّ فيها هذا المؤول من بعده.
لم ينقل عن أحد ممن يؤمن بالرسل - صلوات الله عليهم - إنكارُ المعجزات التي هي خوارق عادات يغير الله بها بعض سننه الظاهرة؛ لتكون حجة على صدق من يبعثه داعياً إلى سبيله، وإنما ينكرها طائفة ممن أنكروا بعثة الرسل إذ قالوا: إن الرسالة تتوقف على المعجزة، والمعجزة خرق للعادة، وخرق العادة محال. ودعوى استحالة خرق العادة قد أثخنتها الأدلة طعناً، فلا يقيم لها النظر الصحيح وزناً، وكم من عقول ضلت سبيل الرشد، وآفتها عدم التفرقة بين ما لا يكون عادة، وما يقتضي العقل بأن لا يكون، فيغلطون في تصور ما يستبعد العقل وقوعه استناداً للعادة، ويخالونه من قبيل ما لا يمكن وقوعه، واستبعاد العقل لشيء لم تجر العادة بوقوعه لا يقف أمام نصوص شريعة قامت الآيات البينات على أنها تنزيل من رب العالمين، وليس ما يقصه القرآن من معجزات الرسل - عليهم الصلاة والسلام - إلا تغييراً لبعض السنن الكونية الظاهرة، وتغيير هذه السنن لا يقتضي بمنعه عقل يقدر الخالق قدرها، ويسلم أن هذه السنن من صنعها.
وقوله تعالى: {وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ} [الإسراء: 59] نص في أن الله تعالى أرسل مع الرسل المتقدمين آياتٍ غيرَ سيرتهم وصلاح رسالتهم، وقد مرَّ المؤول على هذه الآية، ولم يمسها بتحريف.
وإذا كانت معجزات النبي صلى الله عليه وسلم التي هي خوارق عادات قد شهدها الصحابة، وعرفها السلف، لا تأخذهم في صدق أحاديثها ريبة، ونقلت إلى مَن بعدهم على طرق تكتنفها الصحة من كل جانب، وكانت بمجموعها بالغةً
حدَّ التواتر الموجب للعلم، استبان لنا أن المراد من الآيات التي منع من إرسالها: تكذيبُ الأولين آياتٍ خاصة هي ما اقترحته قريش؛ من نحو: إحياء الموتى، على ما ذكره المحدّثون والمفسِّرون في سبب نزول الآية، والمعنى: ما صرفنا عن إرسال ما يقترحونه من الآيات إلا أن أمثالهم من المطبوع على قلوبهم؛ كعاد، وثمود قد كذبوا بها، فتوغُّل المقترحين في الضلال إلى حد مَن لا يُرجى منه الانتفاع بالآيات يجعل إرسالَ الآيات التي اقترحوها بعد إراءتهم آيات تثبت الرسالة، وتقوم عليهم حجة، خالياً من الفائدة، وعدم إرسال هذه الآيات المقترحة لا يقتضي أن لا يظهر على يده صلى الله عليه وسلم آية من غيرها لم تقترح عليه، أو اقترحها عليه غيرُ من نزلت فيهم آية:{وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ} [الإسراء: 59]، فهذه الآية - بملاحظة أنها نزلت في آيات خاصة اقترحها عليه قوم بأعيانهم - لا تدل أن الله لا يرسل أي آية من غيرها.
ينكر ذلك المؤول المعجزات، فأخذ يتقصى الآياتِ الواردةَ في شأنها، وينحو بها نحواً يخرجها عن أن يكون فيما تدل عليه خارق للعادة، ولا يندى جبينهُ حياءً أن يتعسف في التأويل، فيأتي به بعيداً من مواقع حسن البيان، خارجاً عن المعقول من دلالة الألفاظ.
فانظر ماذا صنع في قوله تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ} [الأعراف: 117]، فقد ذهب بالعصا إلى معنى الحجَّة، وقال:"يصور لنا كيف كشفت حجته تزييف حجتهم حتى سلموا له وآمنوا به".
وقال في قوله تعالى: {أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ} ، وقوله تعالى: {اسْلُكْ يَدَكَ
فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ} [القصص: 32]: "تفهم من تمثيل هذه الرواية أن الله أعد موسى، وهيَّأة للدعوة، وأراه كَيف يتغلب على خصمهِ بالبرهان والحجة".
وقال عند قوله تعالى: {فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ (107) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ} [الأعراف: 107، 108]: "انظر كيف يكون التمثيل في قوة الحجة والبرهان".
وقد اتبع المؤول في هذه مهذار البهائية المسمى: أبا الفضل؛ فقد ذكر في (ص 51) من كتابه المسمى: "الدرر البهية": أن أهل الفضل - فيما يزعم - فسروا العصا بأمر الله وحكمه، وقال: إن موسى عليه السلام بهذه العصا غلب على فرعون وجنوده، ومحا حبائل عتوه وجحوده، وذكر في (صفحة 53) من ذلك الكتاب: أن اليد البيضاء عبَّر بها عن الرسالة.
في القرآن مجاز واستعارة وكناية، ولكنه يسلك هذه الطرق على الوجه الذي يأتيه البلغاء من العرب، وشأن البلغاء أن لا يخرجوا عن الحقيقة إلى أحد هذه الطرق إلا أن يكون سهل المأخذ، واضحَ المقصد، أما ما يبدو على وجهه تكلف، أو يكون في دلالته التواء، فمعدود في معيب الكلام، وداخل فيما يذهب بمزية الفصاحة، وتأويلُ الآيات - على ما قاله المؤول وسلفه البهائي - يجعلها من قبيل المجاز الذي ينبو عنه الذوق؛ لتعسفه، ويبعد منه الفهم؛ لخلوه من القرينة المشيرة إلى أنه مستعمل في غير ما وُضع له، فالمؤول ومعلمُه البهائي لم يقدروا الله حقَّ قدره؛ إذ صرفوا كلامه عما يدل على سعة قدرته، وخرجوا به عن حدود البلاغة، وهو مثلها الأعلى، والمختص بذروتها القصوى.
وانظر ماذا صنع في قوله تعالى: {أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ} [آل عمران: 49]؛ فقد حرف قوله: {أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ} عن حقيقته، وقال: يفيدكَ التمثيل لإخراج الناس من ثقل الجهل وظلماته إلى خفة العلم ونوره، وتردَّدَ هنا في معنى إبراء الأبرص، فقال: فهل عيسى يبرئ هذا بمعنى: أنه يكمل التكوين الجسماني بالأعمال الطيبة، أم بمعنى أنه يكمل التكوين الروحي بالهداية الدينية؟ ".
ويدلك على أنه يذهب في تأويل الآية إلى غير مذهب المسلمين قوله عند قوله تعالى: {اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ} [القصص: 32]: واعلم أن قصة موسى في العصا واليد كقصة عيسى في إحياء الموتى، وشفاء المريض، كلاهما يتشابه في معناه على الناس.
وقد مشى في هذا خلفَ ذلك البابي المسمَّى: أبا الفضل؛ إذ تصدى في كتابه المسمى: "الدرر البهية" لبيان معنى هذه المعجزة، فقال في (صفحة 53) يتحدث عن حال بني إسرائيل:"حتى انتهت دورتهم، وانقضت مدتهم، وماتت قلوبهم، وبرصت بالذل جباههم وجنوبهم، فرجعوا من أسر الفراعنة إلى أسر القياصرة، وعن عبادة المصريين إلى عبادة الرومانيين، حينئذ طلعت شمس الحقيقة عن أفق بلاد الجليل، وارتفعت نغمات الإنجيل، فأحيا الله تعالى بأنفاس عيسى عليه السلام بعضاً من تلك النفوس الميتة، وبرأ بيده المباركة جملة من الجباه المبروصة".
زخرف من القول، وتحت هذا الزخرف جحودٌ لمعجزات الرسل عليهم السلام، وصرفٌ لآيات الله عن معانيها المفرغة في لفظها العربي المبين، والتي عرفها المسلمون منذ نزل بها الروح الأمين متضافرين عليها
جيلاً بعد جيل.
يقول الله تعالى: {أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ} [آل عمران: 49]، والمعنى الذي يعقل من الآية: أني أصور لكم من الطين شيئاً على هيئة الطير، فأنفخ فيه، فيكون طيراً حياً بأمر الله، وأبرئ الأعمى، والذي به وَضَحٌ، وأعيد الحياة إلى جسم من فقد الحياة، أفعلُ كلَّ ذلك بأمر الله.
وأما نحو إخراج الناس من ثقل الجهل إلى خفة العلم، وإبراء الجباه المصابة ببرص الذل، فلا يصح حمل الآية عليها؛ إذ القرآن بريء من أمثال هذه الاستعارات البالغة في التكلف والتعقيد غاية تذهب عندها الفصاحة وحسن البيان.
وإذا قرأت في بعض كتب التفسير ما يسمونه: الإشارات، ووجدت في الحديث عن هذه الآيات ما يقارب أو يماثل كلام المؤولِ، أو البهائيِّ، فاعلم أن أصحاب الإشارات غيرُ من يسمونهم الباطنية، فالباطنية يصرفون الآية عن معناها المنقول أو المعقول إلى ما يوافق بغيتهم؛ بدعوى: أن هذا هو مراد الله دون ما سواه، وأما أصحاب الإشارات، فإنهم - كما قال أبو بكر بن العربي في كتاب "القواصم والعواصم" -:"جاءوا بألفاظ الشريعة من بابها، وأقروها على نصابها، لكنهم زعموا أن وراءها معانيَ غامضة خفية وقعت الإشارةُ إليها من ظواهر هذه الألفاظ، فعبروا إليها بالفِكر، واعتبروا منها في سبيل الذكر".
فأصحاب الإشارات لا ينفون - كما ينفي الباطنية وأذنابهم - المعنى
الذي يدل عليه اللفظ العربي من نحو: الأحكام، والقصص، والمعجزات، وإنما يقولون: إنهم يستفيدون من وراء تلك المعاني، وعلى طريق الاعتبار معانيَ فيها موعظة وذكرى.
وعلى ما بين مذهبهم ومذهب الباطنية من فرق واضح، نرى في أهل العلم من نازعهم في إلصاق تلك المعاني بألفاظ القرآن، وقال: إن ما جاء في صريح القرآن والسنَّة من مواعظ وحكم يغني عن ارتكاب هذه الطرق البعيدة، التي هي - في الأصل - نزعةُ قوم شأنهُم الصدُّ عن هدى الله، وتعطيلُ أحكام شريعته الغراء.
وأنكر ذلك المؤولُ أن يكون عيسى عليه السلام قد تكلم في المهد، فسام قولَه تعالى:{وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ} [آل عمران: 46] سوءَ التأويل، فقال:"في دور المهد، وهو دور الصبا، علامةٌ على الجرأة، وقوةِ الاستعداد في الصغر"، يريد: أنه يكلمهم في سن اعتيد فيها الكلام.
جاء في "الجامع الصحيح" للإمام البخاري ما يدل على أن عيسى عليه السلام تكلم قبل أوان الكلام، تجد هذا في حديث:"لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة"، وذكر في أولهم عيسى عليه السلام.
وروى ابن جرير الطبري بسنده إلى ابن عباس رضي الله عنه: أنه قال في تفسير المهد: "مضجع الصبي في رضاعه".
والمهد في الأصل: مصدر مَهَدَ؛ أي: بسط ووطَّأ، وهو كما في "لسان العرب": اسم لموضع الصبي الذي يُهيأ له ويوطأ لينام فيه، فكان على المؤول إذ فسره بدور التمهيد للحياة أن يقيم على هذا شاهداً من كلام العرب، ويبدي الوجه الذي دعاه إلى الإعراض عن حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإلا،
كان هذا التأويل علامة على جرأته، واستعداده لأن يخوض في آيات الله بغير علم، وعلى غير أصل.
أنكر أن يكون عيسى عليه السلام قد تكلم في المهد، وتأول آية:{وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ} [آل عمران: 46] على ما سمعت، وبمثل هذا التأويل تناول قوله تعالى:{فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا} [مريم: 29]، فقال:"أي: كان ذاك النهار ولداً صغيراً، فكيف يأمرنا وينهانا ونحن كبار القوم، فهذا ابن حرام".
ولما رأى أن ما قبل الآية، وهو قوله تعالى:{فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ} [مريم: 27] يدفعه عن هذا العبث، صرفه عن وجهه، فقال:"تحمله على ما يحمل عليه المسافر، ومنه تفهم أنه كان في سياحة طويلة".
لم يكف المؤولَ أن يخرج فيما يكتب عن قوانين اللغة، فطاش إلى أن يقول في التاريخ ما لا يعرفه التاريخ، فمن أين اطلع على أن مريم عليها السلام كانت في سياحة طويلة؟! كان على المؤول أن يثبت هذه السياحة الطويلة من التاريخ، أو من القرآن، ثم يقول:"ومنها تعلم أنها كانت تحمله على ما يحمل عليه المسافر"، ولكنه قلبَ الكلام، فأتى إلى قوله تعالى:{تَحْمِلُهُ} الذي هو ظاهر في أنها تحمله بنفسها، وحرَّفه إلى معنى: تحمله على مركوب، وأذن لك في أن تأخذ منه أنها كانت في سياحة طويلة!.
ومقتضى إنكاره لمعجزات الرسل: أن لا يسلم أن عيسى عليه السلام خُلق من غير أب.
وقد كتب عندما وصل إلى آيات هذه المعجزات بلسان يدل على إنكارها في غير صراحة، فقال في تأويل قوله تعالى: {قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي
غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ} [مريم: 20]: "استنكرت لما طرأ على فكرها أن الولد يأتيها من غير السبب الَمعروف".
وقال: "في قوله تعالى: {فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ} [مريم: 23] اختصار في التعبير لا يعوق دور الحمل الطبيعي".
وقال عند قوله تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ} [القصص: 7]: "فيه ملحوظة ظريفة هي: أن موسى لم يذكر له أب، ولكن قومه لم ينكروا أباه، أو يقولوا فيه كما قالت النصارى في المسيح: ابن الله؛ بناء على أن المسيح نسب إلى أمه، ولم يذكر له أب".
فإذا نظرت إلى قوله: "لما طرأ على فكرها أن الولد يأتيها من غير السبب المعروف"، ثم إلى قوله في حديثه عن موسى عليه السلام "بناء على أن المسيح نسب إلى أمه، ولم يذكر له أب" إذا لاحظت هذا، وهو صادر ممن ينكر المعجزات، عرفت أنه لا يعترف - كما لا يعترف اليهود - بأن عيسى- عليه السلام خلق من غير أب.
وحرَّف قوله تعالى: {فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ} [الشعراء: 63]، فقال:"اضرب بعصاك البحر: اطرقه، واذهب إليه"، وقال:"هذا بيان لحالة البحر يصوره لك بأنه مناطق بينها طرق ناشفة يابسة".
قال هذا، ولم يتحدث عن الفاء في قوله تعالى:{فَانْفَلَقَ} ، وظاهر تأويله أن يكون المعنى: فذهب إلى البحر، فانفلق، فيكون الانفلاق قد وقع عقب الذهاب إلى البحر، والمؤولُ يقول:"يصور لك البحر بأنه مناطق بينها طرق ناشفة يابسة".
ثم إن قوله تعالى: {فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ} [الشعراء: 63] ظاهرٌ في تصوير حال البحر عند انفلاقه؛ ليريك كيف ينجي رسله على طرق يفتحها من أجلهم، فتقف الأهوال حولهم، لا يمسكها أن تطغى عليهم إلا قدرتُه التي يدخل تحت سلطانها كل ما يدخل في حيز الإمكان.
ومما هو ظاهر في هذا المعنى: قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لَا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى (77) فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ (78) وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى} [طه: 77 - 79]، فالمعقول من هذه الآية: أن الطريق الذي سلكه موسى عليه السلام إنما تنحى عنه الماء حالَ مروره به، وأن فرعون اقتفى أثره عندما رأى الطريق الذي يسير فيه موسى وقومه يبساً، ولما انحدر فرعون وقومه في هذا الطريق، عاد الماء إلى حاله، وغشيهم من اليم ما غشيهم، فكانوا من المغرقين.
وأما قول المؤول: إن فرعون أضل الطريق اليبس الذي اهتدى إليه موسى، فمن الأشياء التي يفرضها، ويحمل عليها الآيات إنكاراً للمعجزة.
وحرَّف قوله تعالى: {قَالَ يَاأَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ} [النمل: 38]، فقال:"بعرشها: بملكها، يريد أن يضع خطط الحرب، ونظام الدخول في البلد، فطلب الخريطة التي فيها مملكه سبأ؛ ليهاجمها، ويريها أنه جادٌّ غيرُ هازل".
يقول الله تعالى: {أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا} ، ويقول هذا المؤول:"يأتيني بخريطة مملكتها"، وإذا كان طلب خريطة مملكتها لوضع خطط الحرب، فما وجه عرض هذه الخريطة عليها بعد أن جاءت مسلمة؟ وما حكمة سؤالها عن مطابقة هذه الخريطة؟!
عبثٌ يهذي به حول كتاب الله، فلا تقوى تحجمه عنه، ولا حكمة يفرق بها الجد والمزح، فترفعه عن أن يقول ما يضحك الناس منه.
وحرَّف قوله تعالى: {قُلْنَا يَانَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الأنبياء: 69]، فتأولها على وجه ينكر به أن يكون إبراهيم عليه السلام أُلقي في النار، وخرج منها سالماً، فقال: معناه: نجَّاه من الوقوع فيها. وذكر أن نجاته كانت بالهجرة؛ أي: من وطن قومه إلى ناحية فلسطين.
وظاهر الآية أنه أُلقي في النار، وقد سلب الله منها حرارتها، فإن حمل على معنى إيجاد حائل بين النار وجسم إبراهيم، فهو تأويل غير بعيد، أما صرفُ الآية إلى معنى عدم الوقوع في النار، فتأويل لا داعي إليه، ولا مسوغ له إلا ضيقُ الذهن عن تصور بشر يُلقى في النار، ولا تحرقه النار، وإذا لم يقل القرآن:"فألقوه، فقلنا: يا نار كوني برداً"، فلسبك الآية في إيجاز يلائم حد الإعجاز، فالجملة التي تدل على إلقائهم له في النار بالوضع والمطابقة حذفت من النظم استغناءً عنها بذكر ما يستلزمها، ولا يستقر معناه في ذهن السامع إلا بتقديرها، وهو قوله تعالى:{قُلْنَا يَانَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} .
وحرَّف قوله تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ} [الإسراء: 1]، فقال:"الإسراء: يستعمل في هجرة الأنبياء، والمسجد الحرام: الذي له حرمة، والأقصى: الأبعد: مسجد المدينة".
وقصد المؤول إنكار واقعة الإسراء، فحمل الآية على هجرته - عليه الصلاة السلام - من مكة إلى المدينة.
أجمع أهل العلم: أن أوائل هذه السورة نزل بمكة؛ أي: قبل الهجرة، ولو كان هذا المؤول ممن يفقه فائدة معرفة ما نزل بمكة، وما نزل بالمدينة في تفسير كتاب الله تعالى، لما تجاسر على تفسير الآية بواقعة الهجرة، وقد روى واقعة الإسراء من مكة إلى بيت المقدس جمعٌ عظيم من الصحابة رضي الله عنهم، منهم: جابر بن عبد الله، وابن عباس، وأنس بن مالك، وأبو هريرة، ومالك ابن صعصعة، وجاءت هذه الروايات في الكتب الصحيحة؛ مثل:"الجامع الصحيح" للإمام البخاري، "والجامع الصحيح" للإمام مسلم، فلو كان هذا المؤول ممن درس كتب السنَّة، وكان ممن يستضيء في تفسير كتاب الله تعالى بسنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، لما رمى بنفسه في حفرة لا يسمع صيحته فيها إلا فارغُ الذهن من مبادئ الدين، أو مزلزَلُ العقيدة ما لقي ضِلِّيلاً، إلا مال به عن السبيل.
* دعوته إلى الفسوق عن أحكام الشريعة:
يريد المؤول أن يفتح لذوي الأهواء باب الخروج عن الدين، وتعطيل أحكام الشريعة، فزعم أن المصلحة قد تكون في غير ما أمر الله به، فحرَّف قوله تعالى:{فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 63]، وقال:"يفيدك أن المخالفة المحذورة هي التي تكون للإعراض عن أمره، وأما التي تكون للرأي والمصلحة، فلا مانع فيها بل هي من حكمة الشورى".
المؤول يجيز تقرير رأي مخالف لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي هو أمر الله تعالى، ويرى في هذا الرأي المخالف مصلحة تجعله أهلاً لأن يعمل عليه بدلاً من أمر الله، يقول الله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ
الْكَافِرُونَ} [المائدة: 44]، ومصداق هذه الآية: من يحكم بغير ما أنزل الله، معتقداً أن المصلحة فيما حكم به، ويتناول من يفتي برأي، معتقداً أنه أحفظ للمصلحة مما أنزل الله، فمن يأذن للناس في تقرير رأي مخالف لأمر الله، فإنما يقودهم إلى حفرة من النار هي إنكار أن يكون الله تعالى أحكم الحاكمين. فإن زعم المؤول أنه قصد ما كان يراجعه فيه بعض أصحابه رضي الله عنهم من نحو بعض الآراء الحربية، قلنا له: إنك أطلقت في تأويلك، ولم تقصره على هذا النوع من أوامره عليه الصلاة والسلام ثم إن مخالفة الأمر عدمُ العمل به، وإبداءُ بعض الصحابة لآرائهم في شيء من تدابير الحروب لا يسمى: مخالفةً للأمر، بل كانوا يعرضون عليه الرأي، فتارة لا يراه صالحاً، فيرده، ولو عملوا على مقتضى رأيهم، لحق عليهم وعيدُ الآية، وتارة يرى فيه المصلحة، فيأمر بالعمل به، والعملُ على هذا النحو من قَبيل اتباع أمره، فأين المخالفة؟!.
* إنكاره للجن:
يجيء هذا المؤول إلى الآيات التي ذُكر فيها الجن، ويحمل الجن على غير المعنى الذي عرفه الصحابة ومَن بعدهم من أئمة الدين وعامة المسلمين، وأكتفي بأن أسوق ما قاله في آية هي من أظهر ما يدل على أن الجن خلق غير الإنس، وهي قوله تعالى:{قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا} [الجن: 1]؛ فإنه بعد أن أحال القارئ على آيات من سور متعددة، قال:"بعد هذا تفهم أنه يطلق الجن والجنة على الزعماء المستكبرين من السادة المتبوعين، ويعبر عن الإنس بسائر الناس المقلدين والتابعين المستضعفين"، ويفسر الجن في بعض الآيات بقواد الجيش.
لم ينقل عن أحد من المسلمين - على اختلاف فرقهم - إنكارُ الجن، وإنما ينكرهم طائفة من غير المسلمين.
قال ابن حزم من كتاب "الفصل": "لما أخبرت الرسل الذين شهد الله عز وجل بصدقهم بما أبدى على أيديهم من المعجزات المحيلة للطبائع، بنصِّ الله عز وجل على وجود الجن في العالم، وجب ضرورة العلمُ بخلقهم ووجودهم".
وقال: "وأجمع المسلمون على ذلك (وجود الجن)، نعم، والنصارى والمجوس والصابئون، وأكثر اليهود، حاشا السامرة فقط، فمن أنكر الجن، أو تأول فيهم تأويلاً يخرجهم عن هذا الظاهر كافرٌ ومشرك".
وإنما ينكر الجن من جمد عقلُه في دائرة من المحسوسات لا يتخطاها أنملة، ونحن نعلم أن العقل وحده لا يصل إلى العلم بوجودهم، كما أنه لا يستطيع إقامةَ الدليل على نفيهم، بل إذا سئل عنهم، وهو صحيح النظر، مجردٌ من كل تقليد، أقر بإمكان وجودهم؛ إذ ليس من شرط كل موجود أن يدرك بإحدى الحواس الخمس، فقدرة الله تعالى تسع خلقاً ينشأ من عنصر لطيف، فلا يقع عليه النظر، وإذا أقرَّت العقول إمكانَ شيء، وأخبر الدين القائم على البرهان بوجوده، تلقينا خبره بالقبول، ولم نفرق بينه وبين ما أدركناه بالمشاهدة، أو ثبت بالأدلة العقلية مباشرة.
* إنكاره للشياطين:
ينكر المؤولُ الجنَّ، وينكر أن يكون هناك مخلوق غير الإنسان يقال له: شيطان. تجد هذا الإنكار عندما يرد لفظ إبليس أو الشيطان في آية، فيأبى أن يبقيه على المعنى المعروف في الكتاب والسنَّة وإجماع المسلمين، فانظر إلى أصرح آية في هذا المعنى، وهي قوله تعالى: {فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ
أَبَى وَاسْتَكْبَرَ} [البقرة: 34] كيف تأول لفظَ إبليس فيها، فقال:"إبليس اسمٌ لكل مستكبر على الحق، ويتبعه لفظ الشيطان، والجان، وهو النوع المستعصي على الإنسان تسخيره". وكذلك تأول قوله تعالى: {فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ (36) وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ} [ص: 36، 37]، فقال:"والشياطين يطلقون على الصناع الماهرين، والأشقياء المجرمين"، ولما وجد قوله تعالى:{إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ} [الأعراف: 27] نصاً في أن الشيطان مخلوق يصل أثر فتنته إلى نفس الإنسان دون أن يأخذه بإحدى حواسه، ذهب في تأويل الآية مذهب من يتظاهر بتفسير القرآن، وهو يدس في تفسيره جحوداً، فقال:"من حيث لا ترونهم فيها شياطين، فيخدعونكم بأنهم من الأولياء الناصحين".
وإذا حمل بعض المفسرين لفظ الشياطين في بعض الآيات على أشرار من الإنس؛ كما قالت طائفة في قوله تعالى: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ} [البقرة: 102] المراد: شياطين الإنس، فما كان هؤلاء لينكروا ذلك الصنف من الجن المخلوق من نار السموم، وإنما هو تأويل بدا لهم أن اللفظ يحتمله قريباً أو بعيداً، ولا يستطيعون أن يذهبوا إلى مثل هذا التأويل دي قولى تعالى:{إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا} [الكهف: 50] ، فمن حمل مثل هذه الآية على فريق من الإنس، فهو ممن لا يؤمن إلا بما يلمس، أو يرى، ولم يجعل اللهُ للعقول المتحجرة على تفسير كتابه سبيلاً.
* تأويله للملائكة:
يتخبط المؤول عندما تجيئه آية فيها اسم الملائكة، فمرةً يفسره برسل
النظام والسنن في الكون؛ كما قال عند قوله تعالى: {أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ} [البقرة: 248]: "إشارة إلى أنه يأتيهم بسنن الله ونظامه؛ أي: بتغلبهم على العدو، وبقوة الحرب ونظامه، والملائكة كما قلنا في (ص 24) رسل النظام والسنن في الكون".
وقال عند قوله تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ} [البقرة: 34]: "الملائكة: رسل النظام وعالم السنن، وسجودُهم للإنسان معناه: أن الكون مسخر له".
ومرة يجعل الآية التي ذكر فيها الملائكة من قبيل التمثيل؛ كما قال في قوله تعالى: {جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ} [فاطر: 1]: "يمثل لك السرعة في إجراء سننه في الكون وتنفيذ أوامره في العالم".
وفسر جبريل وميكائيل في قوله تعالى: {مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ} [البقرة: 98] بأنهما قسمان من الملائكة، وقال:"الأول رسول الوحي والإلهام، والثاني رسول السنن والنظام".
وقال عِندَ تأويل الملائكة من قوله تعالى: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ} [البقرة: 177]: "وهذا تابع للإيمان بالله، فمن يؤمنُ بالله يؤمنُ بخلقه ونظامه. والملائكة رسل هذا الخلق والنظام".
فتحريفه الآية بادعاء التمثيل مرة، وذكره لسنن الكون ونظمه مرة أخرى، وجعله جبريل وميكائيل قسمين من الملائكة، دون الاعتراف بأنهما فردان منهم، يدل على أنه يريد من الملائكة معنى غيرَ المعنى المعروف في صريح الكتاب والسنَّة، ونصوص الشريعة في دلالتها على وجود الجن والملائكة
متساوية، وهما من جهة إمكان وجودهما في منزلة واحدة.
* إنكاره لأحكام معلومة من الدين بالضرورة:
أطلق المؤول قلمه في الإنكار حتى ألحدَ في آيات الحدود والأحكامِ المعلومة من الدين بالضرورة، فانظر إلى ما صنع في قوله تعالى:{وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] إذ قال: "يعطي معنى: التعوُّد؛ أي: إن السرقة صفة من صفاتهم الملازمة لهم، ويظهر لك من هذا المعنى أن من يسرق مرة أو مرتين، ولا يستمر في السرقة، ولم يتعود اللصوصية، لا يعاقَبُ بقطع يده".
وكذلك حرّف قوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2]، فقال:"يطلق هذا الوصف على المرأة والرجل إذا كانا معروفين بالزنا، وكان من عادتهما وخلقهما، فهما بذلك يستحقان الجلد"، وهذا الذي قاله في اسم الفاعل من أنه يدل على التكرار والتعود من بهتانه الذي لا يقف عند حد! فاسم الفاعل؛ نحو: السارق، أو الزاني إنما يدل على ذات قامت بها السرقةُ أو الزنا، ولا دلالة له على تجدد قيام الوصف بالذات، ولا على تعودها عليه، هذا ما يقوله علماء العربية في القديم والحديث.
قال ابن مالك في كتاب "التسهيل" معرّفاً اسم الفاعل: "اسم الفاعل: هو الصفة الدالة على فاعل، جارية في التذكير والتأنيث على المضارع من أفعالها، لمعناه، أو معنى الماضي".
فقوله: لمعناه، أو معنى الماضي، تنبيهٌ على أنه لا يدل على أزيدَ مما يدل عليه الفعل، وهذا وجه الفرق بينه وبين صيغ المبالغة؛ كفعَّال، ومفعال، وفَعول؛ فإن هذه الصيغ تدل على معنى زائد على حدوث الصفة لمن قامت
به، وهو قوتها فيه، أو كثرةُ صدورها منه.
والكوفيون يمنعون عمل صيغ المبالغة في نحو المفعول، ويعللون هذا المنع بعدم مجاراتها للفعل المضارع في وزنه، وبمخالفتها له في معناه؛ لأنها تزيد عليه بالمبالغة، ومقتضى هذا: أن اسم الفاعل عمل في نحو المفعول؛ لأنه لا يخالف المضارع في معناه، فعلماء العربية من كوفيين وبصريين مجمِعون على أن اسم الفاعل لا يدل على أكثر مما يدل عليه الفعل، وإذا كان علماء العربية الذين قضوا أعمارهم الطويلة في تقصِّي اللغة، والتفقه في كلام العرب قد تظاهروا على أن اسم الفاعل لا يدل على مقدار من الوصف أكثرَ مما يدل عليه أصل المضارع والماضي، أفيستطيع المؤول أن ينقض بناءهم بكلمة لا تمتُّ إلى البحث بسبب، وإنما هي وليدة الهوى، والانهماك في مخالفة أهل العلم؟!.
وعمد إلى الآيات الصريحة في ملك اليمين، وحَرَّفها بالتأويل تحريفاً لا يختلف عن صريح الإنكار، إلا أن عليه مسحةً من النفاق، فانظر كيف حرَّف قوله تعالى:{وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} [النساء: 25]، وحمل الفتيات على: الخادمات، فقال:"فيه عناية بالخادمات، وتسهيلٌ لمن يريدون الزواج ولا يستطيعون النفقات على ذوات البيوتات". وقال عند قوله تعالى: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ} [النور: 32]: "خادميكم، وخادماتكم".
وقد ارتكب في الآيات الواردة في هذا الشأن من التأويل ما لا يخطر على بالِ أصلبِ الباطنية جبهةٌ، فانظر إليه ماذا يقول في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ
يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} [النور: 33]، يقول:{وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ} : كتاب الله، وما كتب الله، وما كتب من الزواج والنسل. {فَكَاتِبُوهُمْ}: عاونوهم على أداء الكتاب".
ولو قلت له: إن الذين فسروا الآية بأن يكاتب الرجلُ رقيقَه على مال، حتى إذا أدى ما كتب عليه، صار حراً، قد أقاموا الشاهد على هذا من كتب السنَّة واللغة، فهل لك شاهد على ما تأولت عليه الآية، وما قلت في تأويلها من أن المكاتبة: المعاونة على أداء الكتاب، لما كان جوابه إلا أن هذا المعنى قد نفث في صدره، وهو لا يرجع في تفسير كتاب الله إلى السنَّة، ولا إلى قانون اللغة. ولا مرد لهذا الجواب إلا أن تتلو عليه قوله تعالى:{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44]، وتقرأ عليه قوله تعالى:{نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [الشعراء: 193 - 195].
ومن مقتضى إنكاره لأصل ملك اليمين: إنكارُه لأن يتمتع الرجل بما ملكت يمينه من الإماء، وكذلك تجده يحرف الآيات الواردة في هذا الشأن؛ كما قال تعالى:{وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} [المؤمنون: 5، 6]، فقال المؤول:"أو ما ملكت أيمانهم من الخدم؛ فإن لهم ما ليس لغيرهم، فقد يكونُ في الإنسان فروج؛ أي: نقائص وعيوب يسيئه أن يراها النّاس فيه، ولكن لا يسيئه أن يراها خدمه".
إذا كان في بعض تأويله ما ينادي بانحرافه عن الهدى إلى مكان بعيد، ففي بعضه ما ينادي بأن الرجل ليس له فكر يتحامى به فضيحةَ العَبَث، ويحبسه عن أن يقول ما يضحك منه المحزون، فالمؤول يصرف الآية عن أن تكون
للحث على الطهر والعفاف إلى الأمر بستر العيوب والنقائص عن الناس، إلا عن الأزواج والخدم، ولم يكتف بهذا التأويل السخيف، فقال عقبه:"ومن البلاغة في التعبير أن لفظ (أو) أفاد التنوع بين ما يباح للأزواج، وما يباح لملك اليمين؛ إذ يوجد من العيوب ما لا ينبغي كشفه على الخدم". ولا ندري كيف يفهم من (أو) العاطفة لـ {مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} على قوله: {أَزْوَاجِهِمْ} [المؤمنون: 6] التنويع بين ما يباح للأزواج، وما يباح لملك اليمين، وهذا الذي يباح للصنفين - فيما زعم - لم يذكر في نظم الآية؟
والإسلام جاء، فوجد عادة الرق جارية بين المتحاربين، فهذّبها، وترك الأخذ بها لاجتهاد الإمام، ولكنه أوصى بالإحسان إلى الرقيق، والرفق به، وندب إلى تحرير الرقاب، وجعله كفارة لبعض ما يرتكبه الإنسان من عمل سيئ؛ كالظهار، والفطر في رمضان، والحنث في اليمين، وقتل النفس خطأ، وجعل في يد الحاكم عتق الأرقاء الذي يلحقهم ممن هم تحت أيديهم ضرر فادح، وتفويضُ أمر الاسترقاق إلى الإمام يجعل له الحق في العدول عنه كما هو مفصل في كتب الأحكام.
وأنكر إباحة تعدد الزوجات الذي جرى عليه السلف من الصحابة
فمَن بعدهم، وجعل آية:{وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ} [النساء: 3] خاصةً باليتامى، فقال:" {مِنَ النِّسَاءِ}: نساء اليتامى الذين فيهم الكلام؛ لأن الزواج منهن يمنع الحرج في أموالهن"، ثم قال:"ولتعلم أن التعدد لم يشرع إلا في هذه الآية بذلك الشرط السابق"؛ يعني: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى} ، واللاحق؛ يعني:{فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا} [النساء: 3].
ومن البيِّن تجافي هذا المعنى الذي ذكره المؤول عن نظم الآية، ومن أظهر الوجوه التي يستقيم معها النظم، ولا تمس إجماعَ المسلمين من الصحابة فمَن بعدهم بشيء: أن يكون المعنى: وإن خفتم أن تهضموا شيئاً من حقوق اليتامى؛ لضعفهن، وتحرجتم منها، فدعوا التزوج بهن، وانكحوا ما طاب لكم من النساء غيرهن مثنى وثلاث ورباع.
* زعْمُه أن المسلمين يروون الأحاديث النبوية عن اليهود:
لا يبالي المؤول أن يتكلم في غير أمانة، ويقول ما لا يطابق الواقع، ومن أمثلة هذا: أنه تعرض عند تأويل قوله تعالى: {إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا} [الإسراء: 47] لما ورد في سحر بعض اليهود للنبي صلى الله عليه وسلم، وقال:"من الغريب - مع هذا الدليل المبين -: أن المسلمين ينقلون في كتبهم: أن النبي سُحر؛ بناء على حديث رواه اليهود، كما ينقل النصارى أن المسيح صُلب؛ بناء على رواية اليهود أيضاً".
من يقرأ هذه الجملة يفهم منها: أن حديث سحر النبي صلى الله عليه وسلم تلقاه المسلمون عن اليهود، والحقيقة أن الحديث مروي بأسانيد عن النبي صلى الله عليه وسلم نفسه، وفي هذا الحديث: أنه علم بهذا السحر من طريق الوحي، ومن رواته من الصحابة رضي الله عنهم: عائشة، وابن عباس، وزيد بن أرقم، ثم رواه عن هؤلاء جماعة من الثقات حتى بلغ الأئمة: البخاري، ومسلماً، والنسائي، والبيهقي، وغيرهم، ولا صلة لحديث السحر بيهودي سوى أن النبي صلى الله عليه وسلم أوحي إليه بما فعل اليهودي لَبيدُ بن الأعصم من السحر.
وأنكر بعض الناس هذا الحديث في القديم، وأخذهم الريب فيه من ناحيتين:
إحداهما: قوله تعالى: {إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا} [الإسراء: 47]، فهذا مما قصه الله تعالى عن كفار قريش من سياق الإنكار عليهم، ومقتضاه: نفي أن يكون قد سحر، والقرآن مقدم على الحديث.
ثانيتهما: أن تأثره بالسحر عليه الصلاة والسلام يقدح في الثقة بما يبلِّغه عن الله تعالى من أمر ونهي.
والذين لا يسارعون إلى تكذيب الأحاديث المروية بأسانيد صحيحة ما وجدوا لدفع ما يرد عليها من الشبه طريقاً، يقولون: إن قريشاً أرادوا من قولهم: {مَسْحُورًا} معنى اختلال العقل، فيكون مرادفاً لقولهم:{مَجْنُونٌ} ، أو أرادوا: أنه مسحور سحراً من أثره هذا الدين الذي يدعو إليه، وهذا موضع الإنكار عليهم بإجماع، ويقولون: إن السحر إنما تسلط على جسده وجوارحه الظاهرة، ولم يمس شيئاً من عقله وقلبه، ويدل لهذا: حديثُ ابن عباس رضي الله عنه في رواية ابن سعد: "مرض النبي صلى الله عليه وسلم، وأُخذ عن النساء والطعام والشراب".
وليس من غرضنا الآن البحث عن حقيقة السحر (1)، ولا بسط القول في حديث سحره عليه الصلاة والسلام، وإنما أردنا أن نريك كيف يحاول المؤول أن يقذف المسلمين بتهمة تَلقّي أحوال النبي صلى الله عليه وسلم عن اليهود.
وانظر إلى قوله: "إن المسلمين ينقلون في كتبهم"؛ فإنها كلمة لا أحسبها صدرت منه إلا في حال نسيانه أنه استعار ثوبَ الإسلام؛ ليتمكن من سحر أبناء المسلمين، وصدهم عن السبيل.
(1) انظر كتاب: "الشريعة الإسلامية صالحة لكل زمان ومكان" للإمام محمد الخضر حسين - باب: في حديث السحر.
هذه أمثلة من كتاب حشوُه الجحود والهذيان، نسوقها في هذه الرسالة؛ ليزداد المسلمون علماً بأن مؤلفه مهزول الفكر، منحرفٌ عن الرشد، {وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ} [الأعراف: 146].