المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌تحريف آيات الحدود عن مواضعها - موسوعة الأعمال الكاملة للإمام محمد الخضر حسين - ٢/ ١

[محمد الخضر حسين]

الفصل: ‌تحريف آيات الحدود عن مواضعها

‌تحريف آيات الحدود عن مواضعها

(1)

اطلعت على مقال نشره بعض الكاتبين في العدد السادس من "جريدة السياسة الأسبوعية" تحت عنوان: "التشريع المصري وصلته بالفقه الإسلامي"، فرأيت الكاتب قد أبدى رأياً هو: أن الأمر في آية حد السرقة، وآية حد الزنا، يحمل على الإباحة، لا على الوجوب.

وقد مهد الكاتب لهذا الرأي بكلام في الاجتهاد يشير إلى أن ما سيقوله في آيات الحدود من قبيل الاجتهاد المعروف بين علماء الإسلام. ونحن لا نريد التعرض لذلك التمهيد، فننظر في مرتبة الاجتهاد، وفي صفات من يقبل منه دعوى أنه بلغ تلك المرتبة، بل نقصر البحث على ذلك الرأي؛ حتى يستبين القارئ: أنه رأي لم يصدر عن اجتهاد، ولا تثبُّتٍ في فهم كلام الشارع الحكيم.

ذكر الكاتب في صدر مقاله: أن مقالاً كان قد نشر في "السياسة الأسبوعية" حوى أفكاراً أثارت في نفسه من الرأي ما كان يريد أن يرجئه إلى حين؛ لأن النفوس لم تتهيأ بعدُ لفتح باب الاجتهاد، ثم قال: "ولكني

(1) مجلة "الهداية الإسلامية" - الجزء السابع من المجلد التاسع الصادر في محرم سنة 1356 هـ- مارس آذار 1937 م. في الرد على مقال عبد المتعال الصعيدي المنشور في صحيفة "السياسة الأسبوعية" العدد السادس، 20 فبراير شباط 1937 م - القاهرة.

ص: 135

ساُقدم على ما كنت أريد إخفاءه من ذلك إلى حين، وسأجتهد ما أمكنني في ألا أدع لأحد مجالاً في ذلك التشنيع الذي يقف عقبة في سبيل كل جديد".

ثم تحدث الكاتب عن الحدود، مدعياً أن الأمر الذي سيثيره قد يصل فيه إلى إعادة النظر في النصوص التي وردت فيها لبحثها من جديد، وقال:"سأقتصر الآن على ذكر ما ورد في تلك الحدود من النصوص القرآنية، وذلك قوله تعالى في حد السرقة: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (38) فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة: 38، 39]، وقوله تعالى في حد الزنا: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النور: 2]، وقال: "فهل لنا أن نجتهد في الأمر الوارد في حد السرقة، وهو قوله تعالى:{فَاقْطَعُوا} ، والأمرِ الوارد في حد الزنا، وهو قوله تعالى:{فَاجْلِدُوا} فنجعل كلاًّ منهما للإباحة، لا للوجوب، ويكون الأمر فيهما مثل الأمر في قوله تعالى:{خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأعراف: 31]، فلا يكون القطعُ في السرقة حداً مفروضاً لا يجوز العدولُ عنه في جميع حالات السرقة، بل يكون القطع في السرقة هو أقصى عقوبة فيها، ويجوز العدول عنه في بعض الحالات إلى عقوبة أخرى رادعة، ويكون شأنه في ذلك شأنَ كل المباحات التي تخضع لتصرفات ولي الأمر، وتقبل التأثر بكل زمان ومكان، وهكذا الأمر في حد الزنا، سواء أكان رجماً، أم جلداً؟ ".

ص: 136

هذا ما يقوله الكاتب، وقد سمَّاه في صدر المقال: رأياً، وقال: إنه كان يريد إرجاءه إلى حين؛ لأن النفوس لم تتهيأ لفتح باب الاجتهاد، وأن الناس يسرعون إلى التشنيع والطعن في الدين. وقال:"فلا يجد من يرى شيئاً من ذلك إلا أن يكتمه، أو يظهره بين أخصائه ممن يأمن شرهم، ولا يخاف كيدهم "، وقال:"ولكني سأقدم على ما كنت أريد إخفاءه من ذلك إلى حين".

فنحن إذا نقدْنا هذا الذي يقوله الكاتب، فإنما ننقد رأياً كان يخفيه إلى حين، وإن كساه - في آخر المقال - ثوبَ المسائل التي يطرحها خالي الذهن؛ ليعرف وجه الحق مما تحرره أقلام الكاتبين.

من مقاصد الشريعة الغرّاء: حماية الأنفس، والأموال، والأعراض، والأنساب، فعمدت إلى ما يكون الاعتداء به على هذه الحقوق أكثر أو أشد ضرراً، فشرّعت له عقوبة معينة، وفوَّضت ما عدا ذلك إلى ولي الأمر ليجتهد فيه رأيه. فأشدُّ ما يُعتدى به على الأنفس القتلُ، فجعلت عقوبته القصاص، وأغلبُ ما يُعتدى به على الأموال السرقةُ، فجعلت عقوبته قطعَ اليد، وأغلبُ ما يتعدى به على عرض المرأة قذفُها بالزنا، فجعلت عقوبة القاذف أن يجلد ثمانين سوطاً، وأشد ما يُهتك به عرضها، ويجر العار إلى أسرتها، ويدخل الريبة في نسب أبنائها، ويجعلها منبت ذرية يعيشون بين الناس في مهانة وازدراء، فاحشةُ الزنا، فجعلت عقوبة الزاني البكر مئة سوط، والمحصن الرجم. وعقوبة الجلد ثابتة بنص القرآن، وأما الرجم، فثابت بالسنَّة.

وليس مقامنا هذا مقامَ بسط ما يترتب على هذه الجنايات من الفتن، والإخلال بالأمن، ولا بسط ما في إقامة هذه الحدود من حفظ الأنفس والأموال والأعراض، وإنما وجهة نظرنا نصوص آيات حد السرقة، وحد الزنا؛ لننبه على

ص: 137

أن هذه الآيات غير قابلة لذلك التأويل الذي لا يملك أحد تغييره، ولا يصح لمن بيده إنفاذه أن يعدل عنه إلى عقوبة يضعها من نفسه.

ومن ينظر في آيات حد السرقة، وحد الزنا مجرداً من كل هوى، لم يفهم منها سوى أن من يرتكب السرقة، عقوبتُه قطع اليد، ومن يرتكب فاحشة الزنا، عقوبتُه الجلد، وأن الأمر في قوله:{فَاقْطَعُوا} [المائدة: 38]، وقوله:{فَاجْلِدُوا} [النور: 2] واردٌ في الوجوب القاطع، فإن بناء الأمر بالقطع في آية حد السرقة على قوله:{وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ} [المائدة: 38]، وبناء الأمر بالجلد في آية حد الزنا على قوله:{الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي} [النور: 2] يصرفه عن احتمال الإباحة إلى الوجوب، ذلك أن تعليق الحكم على شخص موصوف بوصف يؤذن بأن المقتضي للحكم هو ذلك الوصف الذي قام بالشخص، وإذا كان الوصف جناية؛ مثل: السرقة، والزنا، ووضع لها حكماً في صيغة، ولم يذكر حكماً غيره، لا يصح أن يقال: إن هذا الأمر محتمل للإباحة؛ كما احتملها الأمر في قوله تعالى: {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف: 31] الآية.

ثم إن اتصال آية السرقة بقوله تعالى: {جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ} [المائدة: 38] صريحٌ في الدلالة على أن الأمر بالقطع للوجوب؛ لأنه واقع في الآية موقع المنبِّه على إن من تحقق فيه وصف السرقة، فهو مستحق لهذه العقوبة (عقوبة القطع)، وإذا قضى الشارع في جناية بعقوبة، وصرح أنها جزاء الجناية؛ أي: إنها على قدر جنايته، لم يكن للأمر بهذه العقوية وجه غير الوجوب، وفي وصفه الحد بأنه "نكال من الله" إيذانٌ بأن من وقف في سبيل إنفاذه، فقد حارب الله، ومن رأى أن غيره من العقوبات أحفظ للمصلحة، فقد زعم أن علمه فوق علم الله.

ص: 138

وكذلك اتصال آية حد الزنا بقوله تعالى: {وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ} [النور: 2] يمنع من حمل الأمر فيها على الإباحة؛ فقد عرف الشارع أن في الناس من تثور في نفسه العاطفة العمياء، ولا ينظر إلى المصالح بعقل سليم، فيرى أن في جلد الزاني إفراطاً في العقوبة، فحذر من الانقياد إلى تلك العاطفة الجاهلة بقوله تعالى:{وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ} ، ثم نبه على أن مقتضى الإيمان: تنفيذ أحكام الله في غير هوادة، فقال:{إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [النور: 2].

وإذا نظرت بعد هذا إلى قوله تعالى: {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النور: 2]، رأيته كيف أمر بأن يُقام هذا الحد بمرأى طائفة من المؤمنين؛ ليكون في إعلانه وإذاعته الزجرُ البالغ، وفي الأمر بإعلان العقوبة قصداً للمبالغة في الزجر ما يؤكد أن الأمر بالجلد وارد على سبيل الوجوب؛ لأن الشارع يكره إشاعة ما يصدر عن الأشخاص من آثام، فما أمر بإعلان الحد الذي يستدعي إشاعة ما وقع من الفاحشة إلا حيث أصبح الحد أمراً حتماً، وكان إعلانه من متممات ما يقصد بالحد من الزجر.

وقد مشى كاتب المقال في غير طريق؛ إذ جعل الحدود من المباحات التي تخضع لتصرف ولي الأمر، فقد عرفت أنها ليست من المباحات، بل هي من الواجب المعين. والدليل على أنها من الواجب الذي لا يقوم غيره مقامه متى تحقق معنى الجناية: أن القرآن أفردها بالذكر، وقرن الأمر بأبلغ وجوه التوكيد، وطريقته المعروفة في التخيير أن يذكر الأنواع المخير بينها؛ كقوله تعالى في كفارة اليمين: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ

ص: 139

أَيَّامٍ} [المائدة: 89]، وقوله في عقوبة البغاة:{إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ} [المائدة: 33].

ويدلكم على أن الحدود من قَبيل الواجب المعين: سنَّةُ رسول الله صلى الله عليه وسلم القولية، والعملية.

أما القولية: فإنّا نراه حين يذكر الجناية يذكر بجانبها الحد الشرعي، كما قال في السرقة:"لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده، ويسرق الحبل فتقطع يد"، وقوله:"وايم الله! لو أن فاطمة بنت محمد سرقت، لقطع محمد يدها".

وأما السنَّة العملية: فإنه لم يعاقب من شرعت في حقهم الحدود إلا بهذه الحدود.

وليصرف صاحب المقال نظره عما يزعمه غير المؤمنين؛ من أن هذه الحدود عقوبات لا تلائم حال المدنية، ويذكر لنا مثلاً من مصالح الزمان والمكان التي تقتضي أن تكون عقوبة مرتكب جريمة السرقة، أو فاحشة الزنا، غيرَ ما ورد في الشرع، ويقول لنا: ما هي العقوبة المبتدعة التي تفعل في حفظ الأموال والأعراض ما يفعله القطع أو الجلد؟

بقيت آيات الحدود منذ عهد النبوة محفوظة من عبث المؤوّلين، لا يختلف العلماء في أن الأوامر فيها للوجوب، وأن من أضاعها، وهو قادر على إقامتها، فهو فاسق أو جاحد، إلى أن ظهرت فئة خاسرة؛ مثل: زعيم طائفة القاديانية محمد علي؛ إذ حاول أن يفتح في حصن تلك الأوامر ثلمة، فقال - وتابعه في رأيه أبو زيد الدمنهوري - إن السارق: من اعتاد السرقة، والزاني:

ص: 140

من اعتاد الزنا، وهو تأويل خرج به عن قانون اللغة العربية، بعد أن خرج به عن سنَّة النبي القولية والعملية.

وجاء بعده كاتب المقال، فهجم على آيات الحدود بمعول ذلك التأويل الذي تنكره اللغة والسنَّة وحكمة التشريع، ولو جرى الناس على مثله من تفسير الكتاب المجيد، لكَفَوْا خصومَ الإسلام جانباً من العمل لهدم أركانه، وطمسِ معالمه. {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9].

ص: 141