المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌حقيقة ضمير الغائب في القرآن - موسوعة الأعمال الكاملة للإمام محمد الخضر حسين - ٢/ ١

[محمد الخضر حسين]

الفصل: ‌حقيقة ضمير الغائب في القرآن

‌حقيقة ضمير الغائب في القرآن

(1)

* تمهيد:

من الواضح أن الألفاظ المفردة إنما وضعت لأن يُضَم بعضُها إلى بعض، فتفيد المخاطب معنىً كان يجهله قبل أن تركَّب وتُلقى عليه.

(1) مجلة "الهداية الإسلامية" - العدد الثاني من المجلد الأول الصادر في شهر رجب 1347 هـ.

قدم الإمام بحث "حقيقة ضمير الغائب في القرآن" بالكلمات التالية:

رحل الدكتور طه حسين مندوباً إلى مؤتمر المستشرقين السابع عشر بجامعة (أكسفورد)، وألقى هنالك محاضرة عنوانها:"ضمير الغائب واستعماله اسم إشارة في القرآن"، وقد نشرت مجلة "الرابطة الشرقية" ملخص هذه المحاضرة، فإذا هي طائشة الوثبات، كثيرة العثرات، فرأينا من حق العلم علينا أن ننشر في هذه المجلة ما تراءى لنا فيها من أغلاط، وللقراء الأذكياء القول الفصل، وما خفي الحق عن باحث يتقصّى أثره بذكاء وتؤدة.

وقد اعتمدنا في هذا النقد على أن التلخيص مكتوب بإملاء من صاحب المحاضرة، وأخذنا في هذا بأمارات، منها: أنه قد يعبّر بضمير المتكلم في مقام لو كان الملخِّص غيره، لعبّر فيه بضمير الغائب، اقرأ قوله: "وقد تقصى صاحب البحث هذه الآيات التي لم تتم فيها المطابقة، فرأى أن ضمير الصلة أتى مفرداً في القرآن دائماً إلا مرتين، وهما قوله تعالى:{وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ} [يونس: 42]، وقوله: {وَمِنَ الشَّيَاطِينِ =

ص: 79

ففي الكلام معان هي ما يقصد إيصالها إلى أذهان المخاطبين، وفيه ألفاظ هي بمنزلة الجسور تعبر عليها المعاني من نفوس الناطقين إلى نفوس السامعين، وإذا كانت الألفاظ بمنزلة الوسائل، كانت في الدرجة الثانية بالنظر إلى المعاني التي هي المقصود من نظم الكلام.

صرف البلغاء هممهم إلى المعاني، وأبدعوا في تصويرها، وأعني من المعاني: تلك الصور التي تبقى قائمة في نفوس السامعين بعد سماع خطبة أو قصيدة، ثم نظروا إلى الألفاظ، فإذا هي عند تركيبها كالأجسام تجول فيها الأرواح، أو البرود تتجلى فيها الأجسام، فأحسّوا أن الروح الزاكية يجمل

= مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذَلِكَ} [الأنبياء: 82]، فأما ما عدا الصلة، فلم تتحقق فيه المطابقة نحو مئة مرة، غير أنا نجد أحياناً الضمير كما رأينا

إلخ".

فلا يستقيم لملخص غير صاحب المحاضرة أن يعبر بالاسم الظاهر، فيقول:"وقد تقصى صاحب المحاضرة"، ويعبر بضمير الغيبة في قوله:"فرأى"، ثم يعبر بعد هذا بضمير المتكلم فيقول:"غير أنا نجد أحياناً الضمير كما رأينا"! ولا تأويل لهذا سوى أن الذي أملى التلخيص هو صاحب المحاضرة نفسه، ولكنه تصنَّع في إسناده إلى غيره، ولم يلبث أن أدركته الغفلة عما تصنع له من إسناد التلخيص إلى كاتب آخر، فوردت عليه ضمائر المتكلم منساقة بنفسها، فلم يكن منه إلا نطق بها.

ويضاف إلى هذا أنه يسمي نفسه في التلخيص: الباحث، أو صاحب المحاضرة؛ شأن المتواضع، ولو كان الملخص غيره، لعلم أن المحاضر لا يرضى منه إلا بلقب: الدكتور، أو الأستاذ.

ولم نعن ببيان أنَّ ملخِّص المحاضرة هو صاحب المحاضرة إلا لنرفع عن قلمنا الحرج إذا قلنا عند حكاية جملة أو جمل من هذا التلخيص: قال المحاضر، أو صاحب المحاضرة.

ص: 80

بها أن تكون في جسم نقي اللون، متناسب الأعضاء، وأن الجسم الناضر يزيده حسناً على حسنه أن يظهر في ملبس بهي المنظر، رقيق الحاشية، كذلك المعاني تخطر على فكر البليغ، فيقتضي حالها أن تلقى في لفظ جيد السبك، محكم النظم، آخذٍ بالغرض من جميع نواحيه.

ومن أجل ذلك وجَّه بلغاء العرب جانباً عظيماً من عنايتهم إلى تخيُّر الألفاظ، وإحكام نسجها بمقدار ما تؤدي صور المعاني، وتضعها في نفس السامع الموضع اللائق بها من الإعجاب أو القبول.

وليس من شرط جودة الكلام أن يكون لكل جزء من صورة معناه التركيبي لفظٌ مفرد يختص بالدلالة عليه، بل مدار حسن البيان على أن تصير صور المعاني في نفس المخاطب بحالها التي كانت عليها في نفس المتحدث بها، وسواء بعد هذا أكانت الألفاظ مفصَّلة على قدر المعاني في الكثرة والقلَّة، أم كانت المعاني فوق ما تدل عليه الألفاظ بحسب أوضاعها اللغوية.

ولاعتماد حسن البيان على نقل صور المعاني إلى نفوس المخاطبين كما هي، لم يبال العرب أن يكتفوا في الدلالة على بعض المعاني بمساق الكلام، وما تقتضيه طبيعة المعنى، إلى نحو هذا من القرائن التي لا يضبطها حساب، بل يعدون في أصول بلاغتهم أن يطرحوا كثيراً من الألفاظ متى وثقوا بأن في نظم الكلام أو الأحوال الخارجة عنه ما ينبِّه السامع إلى مدلولاتها.

ومن ثمَّ نشأ فنُّ الإيجاز بوجه عام، وكان للحذف في كلامهم مجالٌ ذهب فيه علماء النحو والبيان كل مذهب، وتقلبوا في كل شعبة من شعابه، ففي أساليب البلغاء الإيجاز، وفي كلامهم الاعتماد في تصوير المعاني على ثقافة السامع، وما يغني غَناء الألفاظ من أحوال، ولو كانت خارجة عن مقتضيات

ص: 81

الكلِم وهيئة تأليفها.

فاطراح كثير من الألفاظ -مع القصد إلى إفادة مدلولاتها اللغوية- لا يمس بفصاحة الكلام، ولا يقدح في بلاغته، ما دام الكلام منسوجاً على المنوال الذي ينسج عليها الفصحاء، وما دامت المعاني التي يراد نقشها في نفس المخاطب سالمة من أن تصل إلى النفس مختلة الهيئة، أو مبتورة بعض الأجزاء.

والمنوال الذي يحرِز به الكلام وصفَ الفصاحة، إنما يؤخذ فيه بما يرد عن فصحاء اللغة، فما ورد في منظومهم أو منثورهم، كان النسج عليه سائغاً مقبولاً، وما لم يعرِّجوا عليه في أقوالهم، كان خارجاً عن فصاحتهم، متعدياً حدود بلاغتهم، ولا يُرجَع في الحكم على الأسلوب بالصحة أو الفساد إلى الذوق، حتى يُجعل للذوق مدخلٌ في تقرير القواعد النحوية، وشاهدنا في هذا: أن اللغات تختلف في هذا الباب اختلافاً كثيراً.

فالعرب -مثلاً- لا يفصلون بين أداة التعريف والمعرَّف في حال، والألمان يوردون بين أداة التعريف والمعرَّف جملاً كثيرة، أفيصح للناشئ على لغة العرب أن يعد هذا الفصل في لغة الألمان خروجاً عن حد الفصاحة، ويدْعوهم -باسم التجديد- إلى أن يَدَعوه، ويَصلوا أداة التعريف بالمعرَّف لزاماً؟!.

وتتفق اللغتان العربية والألمانية في تعريف الاسم الذي يراد منه الجنس، وكثيراً ما يحذفونها في الألمانية حيث لا يصلح حذفها في العربية، فيقول العربي مثلاً: أحبُّ الشجر، وكذلك يتكلم الألماني بما يرادف هذا في لغته، إلا أنه قد يسقط في هذا المقام أداة التعريف، فيكون تعريب كلامه حرفياً:

ص: 82

"أحبُّ شجراً"، وذلك ما لا يقوله العربي حين يقصد إلى أنه يحب جنس الشجر، أفيصح لمن شبَّ على لغة العرب أن يثور على لغة الألمان، ويرميها بالخلل في مثل هذا الاستعمال الذي ألفه فصحاؤهم، وأصبح معنى الجنس مفهوماً منه كما يفهم من استعمال الشجر مقروناً بأداة التعريف؟!.

هذا الاختلاف هو الذي يحتم علينا أن نرجع في تقرير قوانين اللغة من الوجهة النحوية إلى ما يجري عليه فصحاؤها، وحقيق علينا أن نتلقى كل ما جروا عليه في منظومهم ومنثورهم بالتسليم والقبول، ولا يضرّ شيئاً من أساليبهم أن ذوقاً لم يتقلَّب فيما تقلَّبت فيه أذواقهم، أو لبس صبغة لغة أخرى، أن يتنكر له ويطيش في القول إلى أن يرميه بالبعد عن مواقع الفصاحة.

وإذا كان مقياس الفصاحة عند أهل اللغة إنما يعتمد على استعمال الفصحاء، فكل ما يجيء في القرآن مما يرجع إلى قانون تأليف الألفاظ، ووضعِ كل مفرد موضعه اللائق به، لا نتردد في أنه استعمال عربي فصيح، ولا نرتاب في أنه وارد على وَفْق ما ينطق به فصحاء العرب من غير تجافٍ عنه، ولا تحرج منه، وحجتنا في هذا: أن آيات كثيرة تصف القرآن بأنه عربي؛ أي: أنزل بلغة العرب لفظاً وأسلوباً، قال الله تعالى:{إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [يوسف: 2]، وقال تعالى:{قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [فصلت: 3]، وقال تعالى:{وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} [النحل: 103]، ولو جرى شيء من القرآن على ما يخالف قوانين اللغة، لما صح أن يقال فيه: إنه نزل بلسان عربي مبين، ولوجد خصوم الإسلام من فصحاء العرب الطريقَ إلى أن يطعنوا في الآيات النازلة على غير القوانين المركوزة في طبائعهم، ويرموها

ص: 83

بعدم الفصاحة، وشيء من هذا لم يقصه القرآن، ولا حملته إلينا رواية، وقد قصَّ علينا القرآن، وحملت إلينا الروايات كثيراً من مطاعنهم، والشبه التي كانت تلابس عقولهم.

فتسليمُ أن ليس في القرآن ما هو خارج عن قانون اللسان العربي ضربةُ لازِب، فإن تخيَّل أحد في جملة من القرآن أنها حائدة عن مناهج الفصاحة، فليس له إلا أن يوجه طعنه فيما لم يرتضه منها إلى أصل اللسان العربي، وينفي عن هذا الاستعمال إن شاء وصف الفصاحة، فيكون للكاتبين في تقويمه بيان غير هذا البيان.

وإذا أبدع القرآن فأعجز، فليس معنى هذا أنه خرج عن قوانين كلام العرب النحوية، وإنما هو الإبداع في تأليف المعاني وصوغ الكلم في الأساليب الحكيمة، وهي -مع هذا- لا تخرج عن رعاية تلك القوانين.

ص: 84