الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحرية في الإسلام
منذ أن سلك - رضوان الله عليه - طريق الرشاد، وقد راقبت عيناه الجنود الأغراب في تونس، يجوسون خلال الديار، ويعتدون على الأعراض والأموال والأرواح، وينشرون المهانة والمذلة. منذ الخطوة الأولى التي ضربها على الطريق، وفي ذلك الجو المرعب المخيف الذي كان مخيماً على المدن التونسية، وعلى المغرب العربي من حولها، والاستعمار الفرنسي القبيح بوحشيته الكاسرة وجرائمه البشعة التي تهز كل فؤاد هلعاً وخوفاً. نجد الإمام ينظر إلى تلك الأمة المنكوبة في دينها وحريتها وكرامتها، ويرى فيها السكون والركود، فيدعوه إيمانه القوي المتين إلى أن يخوض ساحة المقاومة والمجابهة من أول أبوابها. وهو باب تهيئة النفوس للثورة على الظلم، وشحنها بمهيئات الانتفاضة والتمرد على الطغيان بوجهيه الممثل بالاستعمار الفرنسي البغيض، والخونة من عبيد الحكم الذين مهدوا الطريق له، وأعانوه على شروره وآثامه، ودافعوا عن مصالحهم ومآربهم الخبيثة من خلال تثبيت رأسه وقدمه في البلاد، وكانوا أعوانه وأعضاده، وفي بعض الأحيان المدافعين عن وجوده وبقاء احتلاله المقيت، وكانوا بيده سوطاً على العباد.
من يجرؤ أن يقول كلمة حق في وجه مستعمر جائر؟!
من يستطيع أن يهمس -حتى إلى نفسه- بكلمات الحرية والعدالة الاجتماعية والجهاد؟!
ويتقدم الإمام المؤمّن الصادق الصابر بخطا ثابتة وسط هذا الشعب الصامد الذي كاد أن يتمزق غيظاً، وفي أعماقه بركان مقفل عليه بالإرهاب.
ويعتلي منبر الخطابة ليفجر قنبلة طالما أقضَّت مضاجع الحكام الطغاة، وهزت عروش الممالك القائمة على الجماجم والأشلاء
…
وهي (الحرية).
والحديث عن الحرية في دولة الاستعباد والاستبداد لا يسر المستعمر، ولا يرتاح إليه الطاغوت، ولا يقبل به نظام القمع والتعذيب، ومن أين لفرنسا المستعمرة أن تقبل مثل هذا الحديث؟.
وعندما يخاطر المرء بحياته في ذلك الجو المكفهر، ويزاحم الصفوف لينادي على الأشهاد بكلمات تطرق أسماعهم، وتأخذ بألبابهم، فتطرب لها القلوب، وتعلو بها الهمم، ويقوى بها الضعيف، وتنزل كالصواعق على أعداء الحرية.
لا نقول: إِلا أنه رجل شجاع كبير، لم يرض الامتهان، ورفض قيود العبودية، وخاض مخاضاً صعباً لا يقدر عليه إِلا من آمن بالله رباً، وبالإسلام دينا، وابتغى ما عند الله من بشرى وثواب.
كم هي مضيئة مشرقة تلك الليلة المشهودة في تاريخ تونس ومطلع كفاحها من مساء يوم السبت 17 ربيع الثاني 1324 هـ، وقد انتظمت جموع الناس الظامئة إلى العدالة والحق في نادي "جمعية قدماء تلامذة الصادقية" في مدينة تونس؛ لينصتوا إلى عالم جليل (1)، يطرح على الجماهير (حقيقة الحرية
…
الشورى
…
المساواة
…
الحرية في الأموال
…
الحرية في
(1) كان الإمام محمد الخضر حسين في يوم المحاضرة مدرساً بجامع الزيتونة الأعظم، ومدرساً بالمدرسة الصادقية.
الأعراض
…
الحرية في الدماء
…
الحرية في الدين
…
الحرية في خطاب الأمراء
…
آثار الاستبداد).
هذه العناوين الثائرة التي تضمنتها المحاضرة، وفي كل عنوان منها صفعة مؤلمة على رقاب المستعمر وأعوانه. ثم ما تبع المحاضرة من آثار عميقة وبعيدة في ضمائر الأمة، وتداول هذه الألفاظ في المسامرات والنوادي وعلى كل لسان، ثم بعد أن طبعت انتشرت بين الناس، "وأضاءت على الأمة شموس الحرية، وضربت أشعتها في كل واد"(1).
ومن المفيد أن نذكر في سياق المقدمة: أن بعض الحاضرين كانوا من الفرنسبين، الذين استمعوا إلى المحاضر. وقام الإمام محمد الطاهر بن عاشور مخاطباً المحاضر بقوله: "يا أيها الأستاذ النحرير؛ ويا أيها السادة! يسرني أن أقف موقفي هذا؛ لأمثل على مرأى من السادة الحاضرين مقدار الابتهاج والسرور بمسامرتكم الفائقة التي سمح لنا بها هذا النادي أو السامر الشريف، فسمعنا منه فلسفة حقيقية لمبدأ عظيم من مبادئ شريعتنا الإسلامية، وشاهدنا مثالاً صحيحاً للفصاحة والبلاغة العربيتين
…
إلخ".
عالِم زيتوني شابٌ، هادئ الطبع، حسن السمت، ينطق همسًا، وثائر في فكره وقلبه، وبركان في صدره، يتحدث عن الحرية في بلد يسوده الظلام
(1) طبعت مسامرة "الحرية في الإسلام" للمرة الأولى سنة (1327 هـ - 1909 م) بالمطبعة التونسية - نهج سوق البلاط عدد 57 بتونس، وطبعت عدة مرات في البلدان العربية. ومنها طبعة ضمن كتاب "محاضرات إسلامية" للإمام.
وتحتاج هذه الرسالة إلى بحث عميق ومستقل في ألفاظها ومعانيها وآثارها في الحركة الوطنية التونسية.
الدامس، ويطمسه سواد الاحتلال، ويغمز من قناة المستعمر وأخيه الحاكم العبد الذليل، إنه أمر جلل، وخطب كبير، ومشهد لا يطيقه الكابوس الجاثم على صدر الأمة (1).
لذا نجد أن الإمام محمد الخضر حسين - بعد هذه المحاضرة - أصبح مطلوباً من السلطة، ومراقباً من عيون الاستعمار الفرنسي الذي أعلن عليه حرباً تمثلت في عدد من الإجراءات الإدارية.
لم تكن فرنسا المحتلة عاجزة عن القبض عليه، ولم تكن يدها قصيرة عن اغتياله على غفلة، أو إعدامه كما فعلت بالآلاف من الناس، ولأسباب تفتعلها.
والرأي عندي أن كلاً من حكومة الاستعمار وحكومة العبيد، لم تلجأ إلى هذا الأسلوب؛ للمكانة العلمية الباهرة التي كانت تحيط بالإمام في أعين طلابه ومحبيه ومعارفه، وللمركز المرموق الذي كان يتمتع به بين علماء الزيتونة. وإن المستعمر الفرنسي والحاكم الذليل كانا حريصين على عدم المساس بالشعور الديني؛ لأن أية محاولة من هذا القبيل تشعل نار أحداث دامية هما في غنى عنها.
إذن لا بدّ أن تكون المجابهة مع الإمام المجاهد في الخفاء، وعلى مراحل يمكن تلخيصها وإيجازها بالحؤول دون وصوله إلى الطبقة الأولى من المدرسين في جامع الزيتونة، رغم كفاءته العلمية التي شهد بها شيوخه
(1) يقول الكاتب الإسلامي الكيير الأستاذ محب الدين الخطيب عن محاضرة "الحرية في الإسلام": دلت على نزعته المبكرة إلى الحرية، وفهمه السليم لرسالة الاسلام من هذه الناحية.
والعلماء المنصفون. إِلا أن بعض الذين انتدبوا لامتحانه، وبتوجيه من السلطة، منعوا قبوله في عداد الطبقة الأولى (1).
وأقوى سلاح يشهر في وجه العالم: أن يضيق به ميدان العلم، ويضرب الجهلة من حوله القيود والسدود، ولا يجد سبيلاً للانطلاق في الحياة العلمية إلى أقصى غاية .. وهذا من أهم الأسباب والدوافع التي شجعته للهجرة إلى دمشق، والعمل في البحث العلّمي والقضية الإسلامية بقدر ما يستطيع، والرحيل من مضايقات الاستعمار الفرنسي، والانتقال إلى أرض تتمتع بحرية أكثر، واستعباد أقل.
ولتكون دمشق مرحلة من مراحل العمر يتطلع منها إلى ميدان فسيح، وأفق رحيب لم يجدهما في تونس التي ضاقت بعلمه ومعارفه.
(1) سمعت من العلامة الفاضل الشيخ محمد الشاذلي النيفر هذه الواقعة، وأسجلها هنا كما سمعتها منه حرفياً للتاريخ: عُرض اسم الشيخ محمد الخضر حسين والشيخ محمد العنابي للحصول على مرتبة الطبقة الأولى للمدرسين في جامع الزيتونة، فتدخل الشيخ بلحسن النجار، ومنع قبول الشيخ الخضر.
وقال الشيخ الصادق النيفر لولده الشيخ محمد الشاذلي النيفر: إنه لا شك أن للشيخ الخضر أخلاقاً رفيعة، ومع ذلك قد ترجم الشيخ الخضر لوالد الشيخ بلحسن النجار.
ومن شعر الإمام محمد الخضر حسين حول هذه الواقعة -لم ينشر في ديوانه "خواطر الحياة"-:
عجباً لهاتيك النظارة أصبحت
…
كالثوب يطرح في يدي قصّار
وأنامل (القصار) تعمل مثل آ
…
لات تحركها يد (النجار)
والقصار والنجار من شيوخ الزيتونة.