الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والتكفير هو من الوعيد. فإنه وإن كان القول تكذيبا لما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم، لكن قد يكون الرجل حديث عهد بإسلام، أو نشأ ببادية بعيدة. ومثل هذا لا يكفر بجحد ما يجحده حتى تقوم عليه الحجة وقد يكون الرجل لم يسمع تلك النصوص، أو سمعها ولم تثبت عنده، أو عارضها عنده معارض آخر أوجب تأويلها، وإن كان مخطئا.
وكنت دائما أذكر الحديث الذي في الصحيحين في الرجل الذي: "إذا أنا مت فاحرقوني، ثم اسحقوني، ثم ذروني في اليم، فوالله لئن قدر الله علي ليعذبني عذابا ما عذبه أحدا من العالمين. ففعلوا به ذلك، فقال الله له ما حملك على ما فعلت. قال: خشيتك: فغفر له"1.
فهذا رجل شك في قدرة الله، وفي إعادته إذا ذري، بل اعتقد أنه لا يعاد. وهذا كفر باتفاق المسلمين، لكن كان جاهلا لا يعلم ذلك وكان مؤمنا يخاف الله أن يعاقبه، فغفر له بذلك.
والمتأول من أهل الاجتهاد الحريص على متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم أولى بالمغفرة من مثل هذا.
1- متفق عليه.
هجر أهل البدع:
1
إن داعية أهل البدع يهجر فلا يستشهد ولا يروى عنه، ولا يستفتى ولا يصلى خلفه، قد يكون من هذا الباب، فإن هجره تعزير له وعقوبة له جزاء لمنع الناس من ذلك الذنب الذي هو بدعة أو غيرها، وإن كان في نفس الأمر تائبا أو معذورا، إذ الهجرة مقصودها أحد شيئين: إما ترك الذنوب المهجورة
1-ص376 ج10 مجموع الفتاوى.
وأصحابها، وإما عقوبة فاعلها ونكاله.
ومن هذا الباب هجر الإمام أحمد للذين أجابوا في المحنة قبل القيد ولمن تاب بعد الإجابة، ولمن فعل بدعة ما، مع أن فيهم أئمة في الحديث والفقه والتصوف والعبادة، فإن هجره لهم والمسلمين معه لا يمنع معرفة قدر فضلهم، كما أن الثلاثة الذين خلفوا لما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بهجرهم لم يمنع ذلك ما كان لهم من السوابق، حتى قد قيل إن الاثنين منهما شهدا بدرا، وقد قال الله لأهل بدر:"اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم" 1 وأحدهم كعب بن مالك شاعر النبي صلى الله عليه وسلم وأحد أهل العقبة، فهذا "أصل عظيم" أن عقوبة الدنيا المشروعة من الهجران إلى القتل لا يمنع أن يكون المعاقب عدلا أو رجلا صالحا كما بينت من الفرق بين عقوبة الدنيا المشروعة والمقدورة، وبين عقوبة الآخرة والله سبحانه أعلم.
1-البخاري: كتاب الأدب/ باب من أكفر أخاه بغير تأويل فهو كما قال. مسلم: كتاب الإيمان/باب بيان حال إيمان من قال لأخيه المسلم يا كافر.
ما يحبط من الأعمال:1
الذنوب إنما تقع إذا كانت النفس غير ممتثلة لما أمرت به، ومع امتثال المأمور لا تفعل المحظور، فإنهما ضدان. قال تعالى:{كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ} 2 الآية. وقال: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} 3 فعباد الله المخلصون لا يغويهم الشيطان، و"الغي" خلاف الرشد، وهو اتباع الهوى فمن مالت نفسه إلى محرم، فليأت بعبادة الله كما آمر الله مخلصا له الدين، فإن ذلك يصرف عنه السوء والفحشاء وخشية ومحبة، والعبادة له وحده، وهذا يمنع من السيئات.
1- ص 636 ج10 مجموع الفتاوى.
2-
الآية 24 يوسف.
3-
الآية 42 الحجر.
فإذا كان تائبا، فإن كان ناقصا، فوقعت السيئات من صاحبه كان ماحيا لها بعد الوقوع فهو كالترياق الذي يدفع أثر السم، ويرفعه بعد حصوله، وكالغذاء من الطعام والشراب، وكالاستمتاع بالحلال الذي يمنع النفس عن طلب الحرام، فإذا حصل له طلب إزالته، وكالعلم الذي يمنع من الشك، ويرفعه بعد وقوعه، وكالطب الذي يحفظ الصحة ويدفع المرض، وكذلك ما في القلب من الإيمان يحفظ بأشباهه مما يقوم به.
وإذا حصل منه مرض من الشبهات والشهوات أزيل بهذه، ولا يحصل المرض إلا لنقص أسباب الصحة، وكذلك القلب لا يمرض إلا لنقص إيمانه. وكذلك الإيمان والكفران متضادان، فكل ضدين: فأحدهما يمنع الآخر تارة، ويرفعه أخرى، كالسواد والبياض كذلك الحسنات والسيئات. (ويقول) المعتزلة إن الكبيرة تحبط الحسنات حتى الإيمان. (و) قالوا: من رجحت سيئاته خلد في النار.
وما ادعته المعتزلة مخالف لأقوال السلف، فإنه سبحانه ذكر حد الزاني وغيره، ولم يجعلهم كفارا حابطي الأعمال، ولا أمر بقتلهم كما أمر بقتل المرتدين، والمنافقون لم يكونوا يظهرون كفرهم، والنبي صلى الله عليه وسلم أمر بالصلاة على الغال، وعلى قاتل نفسه، ولو كانوا كفارا ومنافقين لم تجز الصلاة عليهم، فعلم أنهم لم يحبط إيمانهم كله، وقال عمن شرب الخمر "لا تلعنه فإنه يحب الله ورسوله" 1 وذلك الحب من أعظم شعب الإيمان، فعلم أن إدمانه لا يذهب الشعب كلها، وثبت من وجوه كثيرة:"يخرج من النار من في قلبه مثقال ذرة من إيمان" 2 ولو
1- البخاري: كتاب الحدود/ باب ما يكره من لعن شارب الخمر وأنه ليس بخارج من الملة.
2-
البخاري: كتاب الإيمان/ باب تفاضل أهل الإيمان.
مسلم: كتاب الإيمان/ باب إثبات الشفاعة.
حبط لم يكن في قلوبهم شيء منه. وقال تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَاب} 1 الآية. فجعل من المصطفين.
فإذا كانت السيئات لا تحبط جميع الحسنات، فهل تحبط بقدرها وهل يحبط بعض الحسنات بذنب دون الكفر؟ فيه قولان للمنتسبين إلى السنة، منهم من ينكره، ومنهم من يثبته، كما دلت عليه النصوص، مثل قوله:{لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى} 2 الآية. دل على أن هذه السيئة تبطل الصدقة، وضرب مثله بالمرائي. وقالت عائشة "أبلغي زيدا أن جهاده بطل"3 الحديث.
وأما قوله: {أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُم} 4 وحديث صلاة العصر ففي ذلك نزاع. وقال تعالى: {وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} 5 قال الحسن: بالمعاصي والكبائر، وعن عطاء: بالشرك والنفاق. وعن ابن السائب: بالرياء والسمعة، وعن مقاتل: بالمن. وذلك أن قوما منوا بإسلامهم، فما ذكر عن الحسن يدل على أن المعاصي والكبائر تحبط الأعمال.
فإن قيل: لم يرد إلا إبطالها بالكفر.
قيل: ذلك منهي عنه في نفسه، وموجب للخلود الدائم، فالنهي عنه لا يعبر عنه بهذا، بل يذكره على وجه التغليظ، كقوله: {مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ
1- الآية 32 فاطر.
2-
الآية 264 البقرة.
3-
أخرجه الدارقطني. وقال الشافعي: لا يصح. وقرر كلامه ابن كثير في الإرث وللحديث شواهد ترتقي به إلى الحسن.
4-
الآية 2 الحجرات.
5-
الآية 33 محمد.