الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
من الجن فأسلم أولئك الجن والإنس الذين كانوا يعبدونهم. ففي هذا أنه لم يضر الذين أسلموا عبادة غيرهم بعد الإسلام لهم، وإن كانوا هم أضلوهم أولا.
وأيضا فالداعي إلى الكفر والبدعة وإن كان أضل غيره فذلك الغير يعاقب على ذنبه، لكونه قبل من هذا واتبعه، هذا عليه وزره ووزر من اتبعه إلى يوم القيامة مع بقاء أوزار أولئك عليهم، فإذا تاب من ذنبه لم يبق عليه وزره ولا ما حمله هو لأجل إضلالهم، وأما هم فسواء تاب أو لم يتب حالهم واحد، ولكن توبته قبل هذا تحتاج إلى ضدما كان عليه من الدعاء إلى الهدى، كما تاب كثير من الكفار وأهل البدع، وصاروا دعاة إلى الإسلام والسنة، وسحرة فرعون كانوا أئمة في الكفر ثم أسلموا وختم الله لهم بخير.
توبة قاتل النفس:
ومن ذلك توبة قاتل النفس. والجمهور على أنها مقبولة، وقال ابن عباس لا تقبل، وعن أحمد روايتان. وحديث قاتل التسعة والتسعين في الصحيحين دليل على قبول توبته، وهذه الآية تدل على ذلك، وآية النساء إنما فيها وعيد في القرآن كقوله:{إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرا} 1 ومع هذا فهذا إذا لم يتب. وكل وعيد في القرآن فهو مشروط بعدم التوبة باتفاق الناس، فبأي وجه يكون القاتل لاحقا به وإن تاب؟ هذا في غاية الضعف، ولكن قد يقال لا تقبل توبته بمعنى أنه لا يسقط حق المظلوم بالقتل، بل التوبة تسقط حق الله والمقتول مطالبه بحقه، وهذا صحيح في جميع حقوق الآدميين حتى الدين، فإنه في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"الشهيد يغفر له كل شيء إلا الدين" 2 ولكن حق الآدمي يعطاء من
1-الآية 10 سورة النساء.
2-
أخرجه مسلم في كتاب الإمارة/ باب من قتل في سبيل الله كفرت خطاياه إلا الدين، وذكره أحمد (14/32) فتح رباني من حديث عبد الله بن عمرو.
حسنات القاتل.
فمن تمام التوبة أم يستكثر من الحسنات حتى يكون له ما يقابل حق المقتول، ولعل ابن عباس رأى أن القتل أعظم الذنوب بعد الكفر فلا يكون لصاحبه حسنات تقابله حق المقتول، فلا بد أن يبقى له سيئات يعذب بها، وهذا الذي قاله قد يقع من بعض الناس، فيبقى الكلام فيمن تاب وأخلص، وعجز عن حسنات تعادل حق المظلوم، هل يجعل عليه من سيئات المقتول ما يعذب به؟ وهذا موضع دقيق على مثله يحمل حديث ابن عباس، لكن هذا كله لا ينافي موجب الآية، وهو أن الله تعالى يغفر كل ذنب، الشرك والقتل والزنا، وغير ذلك من حيث الجملة، فهي عامة في الأفعال مطلقة في الأشخاص.
ومثل هذا قوله: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} 1 عام في الأشخاص مطلق في أحوال الأرجل، إذ قد تكون مستورة بالخف واللفظ لم يتعرض على الأحوال.
وكذلك قوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُم} 2 عام في الأولاد عام في الأحوال، إذ قد يكون الولد موافقا في الدين ومخالفا وحرا وعبدا. واللفظ لم يتعرض إلى الأحوال.
وكذلك قوله: {يَغْفِرُ الذُّنُوب} عام في الذنوب مطلق في أحوالها، فإن الذنب قد يكون صاحبه تائبا منه، وقد يكون مصرا، واللفظ لم يتعرض لذلك، بل الكلام يبين أن الذنب يغفر في حال دون حال، فإن الله أمر بفعل ما تغفر به الذنوب ونهى عما به يحصل العذاب يوم القيامة بلا مغفرة فقال:
1-الآية 5 التوبة.
2-
الآية 11 النساء.
{وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ، وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ، أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ، أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ، أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ، أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} 1 فهذا إخبار أنه يوم القيامة يعذب نفوسا لم يغفر لها، كالتي كذبت بآياتها واستكبرت وكانت من الكافرين، ومثل هذه الذنوب غفرها الله لآخرين لأنهم تابوا منها.
فإن قيل فقد قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْراً لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ} 2 وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْراً لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً} 3 قيل: إن القرآن قد بين توبة الكافر وإن كان قد ارتد ثم عاد إلى الإسلام في غير موضع، كقوله:{كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ، أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ، خَالِدِينَ فِيهَا لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ، إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} 4 وقوله: {كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ؟} أي أنه لا يهديهم مع كونهم مرتدين ظالمين، ولهذا قال:{وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} فمن ارتد عن دين الإسلام لم يكن إلا ضالا، لم يحصل له الهدى إلى أي دين ارتد.
1- الآية 54-59 الزمر.
2-
الآية 90 آل عمران.
3-
الآية 137 النساء.
4-
الآية 86-89 آل عمران.
وكذلك قال في قوله: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ} 1 ومن كفر بالله من بعد إيمانه من غير إكراه فهو مرتد، قال:{ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} 2.
وهو سبحانه في آل عمران ذكر التائبين منهم، ثم ذكر من لا تقبل توبته ومن مات كافرا، فقال:{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْراً لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ، إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} 3. وهؤلاء الذين لا تقبل توبتهم قد ذكروا فيهم أقوال: قيل لنفاقهم، وقيل لأنهم تابوا مما دون الشرك ولم يتوبوا منه، وقيل لن تقبل توبتهم بعد الموت، وقال الأكثرون كالحسن وقتادة وعطاء الخراساني والسدي، لن تقبل توبتهم حين يحضرهم الموت، فيكون كقوله: {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيما} 4.
وكذلك قوله: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْراً لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً} 5 قال مجاهد وغيره من المفسرين: ازدادوا كفرا ثبتوا عليه حتى ماتوا.
1-الآية 106 النحل.
2-
الآية 110 النحل.
3-
الآية 90-91 آل عمران.
4-
الآية 18 النساء.
5-
الآية 137 النساء.
قلت: وذلك لأن التائب راجع عن الكفر، ومن لم يتب فإنه مستمر يزداد كفرا بعد كفر، فقوله:{ثُمَّ ازْدَادُوا} بمنزلة قول القائل ثم أصروا على الكفر واستمروا على الكفر وداموا على الكفر، فهم كفروا بعد إسلامهم، ثم زاد كفرهم ما نقص، فهؤلاء لا تقبل توبتهم وهي التوبة عند حضور الموت، لأن من تاب قبل حضور الموت فقد تاب من قريب ورجع عن كفره، فلم يزدد بل نقص، بخلاف المصر إلى حين المعاينة، فما بقي له زمان يقع لنقص كفره فضلا عن هدمه.
وفي الآية الأخرى قال: {لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ} وذكر أنهم آمنوا ثم كفروا، ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفرا، قيل لأان المرتد إذا تاب غفر له كفره، فإذا كفر بعد ذلك ومات كافرا حبط إيمانه، فعوقب بالكفر الأول والثاني، كما في الصحيحين عن ابن مسعود قال: قبل يا رسول الله أنؤاخذ بما عملنا في الجاهلية؟ فقال: "منم أحسن في الإسلام لم يؤاخذ بما عمل في الجاهلية ومن أساء في الإسلام أخذ بالأول والآخر"1 فلو قال: إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفرا لم يكن الله ليغفر لهم، كان هؤلاء الذين ذكرهم في آل عمران فقال:{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْراً لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ} بل ذكر أنهم آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا بعد ذلك، وهو المرتد التائب، فهذا إذا كفر وازداد كفرا لم يغفر له كفره السابق أيضا، فلو آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا لم يكونوا قد ازدادوا كفرا فلا يدخلون في الآية.
والفقهاء إذا تنازعوا في قبوا توبة من تكررت ردته أو قبول توبة الزنديق، فذاك إنما هو في الحكم الظاهر، لأنه لا يوثق بتوبته أما إذا قدر أنه أخلص التوبة
1-متفق عليه: البخاري كتاب استتابة المرتدين/ باب قال الله تعالى إن الشرك لظلم عظيم. ومسلم، كتاب الإيمان/ باب هل يؤاخذ بأعمال الجاهلية من حديث عبد الله بن عمرو.
لله في الباطن فإنه يدخل في قوله: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} 1.
ونحن حقيقة قولنا أن التائب لا يعذب لا في الدنيا ولا في الآخرة، لا شرعا ولا قدرا، والعقوبات التي تقام من حد أو تعزير إما إن يثبت سببها بالبينة مثل قيام البينة بأنه زنا أو سرق أو شرب، فهذا إذا أظهر التوبة لم يوثق بها، ولو درئ من الحد بإظهار هذا لم يقم حد، فإنه كل من تقام عليه البينة يقول قد تبت، وإن كان تائبا في الباطن كان الحد مكفرا وكان مأجورا على صبره، وأما إذا جاء هو بنفسه فاعترف وجاء تائبا، فهذا لا يجب أن يقام عليه الحد في ظاهر مذهب أحمد، نص عليه في غير موضع، وهي من مسائل التعليق، واحتج عليها القاضي بعدة أحاديث، وحديث الذي قال:"أصبت حدا فأقمه علي فأقيمت الصلاة" يدخل في هذا لأنه جاء تائبا، وإن شهد على نفسه كما شهد به ماعز والغامدية واختار إقامة الحد أقيم عليه وإلا فلا، كما في حديث ماعز:"فهلا تركتموه؟ " والغامدية ردها مرة بعد مرة.
فالإمام والناس ليس عليهم إقامة الحد على مثل هذا، ولكن هو إذا طلب ذلك أقيم عليه كالذي يذنب سرا، وليس على أحد أن يقيم عليه حدا، لكن إذا اختار هو أن يعترف ويقام عليه الحد أقيم وإن لم يكن تائبا، وهذا كالقتل الذي ينغمس في العدو2 هو مما يرفع الله به درجة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:"لقد تابت توبة لو تائب صاحب مكس لغفر له، وهل وجدت أفضل من أن جادت بنفسها لله؟ ".
وقد قيل في ماعز إنه رجع عن الإقرار، وهذا هو أحد القولين فيه في
1-الآية 53 الزمر.
2-
ينغمس في العدو: يلتحم بالعدو غير هياب.