الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الجبرية المرجئة أكفر بالأمر والنهي والوعد والوعيد من المعتزلة الوعيدية القدرية.
وأما مقتصدة المرجئة الجبرية الذين يقرون بالأمر والنهي والوعد والوعيد وأن من أهل القبلة من يدخل النار، فهؤلاء أقرب الناس إلى أهل السنة. وقد روى الترمذي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"لعنت القدرية والمرجئة سبعين نبيا أنا آخرهم".
لكن المعتزلة من القدرية أصلح من الجبرية والمرجئة ونحوهم في الشريعة –علمها وعملها- فكلامهم في أصول الفقه وفي اتباع الأمر والنهي خير من كلام المرجئة من الأشعرية وغيرهم. فإن كلام هؤلاء في أصول الفقه قاصرا جدا، وكذلك هم مقصرون في تعظيم الطاعات والمعاصي. ولكن هم في أصول الدين أصلح من أولئك، فإنهم يؤمنون من صفات الله وقدرته مخلقه بما لا يؤمن به أولئك فلهذا كانت المرجئة في الجملة خيرا من القدرية، حتى إن الإرجاء دخل فيها الفقهاء من أهل الكوفة وغيرهم، بخلاف الاعتزال، فإنه ليس فيه أحد من فقهاء السلف وأئمتهم.
الرد على الوعيدية والواقفية:
1
قال شيخ الإسلام تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام ابن تيمية الحراني قدس الله روحه.
فصل: في قوله تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ، وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَه} 2. وقد ذكرنا في غير موضع أن هذه الآية في حق التائبين،
1-ص 18 ج 16 مجموع الفتاوى.
2-
الآية 53 -54 سورة الزمر.
وأما آيتا النساء قوله: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} 1 فلا يجوز أن تكون في حق التائبين، كما يقوله من يقوله من المعتزلة، فإن التائب من الشرك يغفر له الشرك أيضا بنصوص القرآن واتفاق المسلمين. وهذه الآية فيها تخصيص وتقييد، وتلك الآية فيها تعميم وإطلاق، هذه خص فيها الشرك بأنه لا يغفر، وما عداه لا يجزم بمغفرته، بل علقه بالمشيئة فقال:{وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} .
وقد ذكرنا في غير موضع أن هذه كما ترد على الوعيدية من الخوارج والمعتزلة، فهي ترد أيضا على المرجئة الواقفية الذين يقولون: "يجوز أي يعذب كل فاسق فلا يغفر لأحد، ويجوز أن يغفر للجميع فإنه قد قال:{وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} فأثبت أن ما دون ذلك فهو مغفور لكن لمن يشاء، فلو كان لا يغفره لأحد بطل قوله:{وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ} ولو كان يغفره لكل أحد بطل قوله: {لِمَنْ يَشَاءُ} فلما أثبت أنه يغفر ما دون ذلك وأن المغفرة هي لمن يشاء جدل ذلك على وقوع المغفرة العامة مما دون الشرك، لكنها لبعض الناس.
وحينئذ فمن غفر له لم يعذب، ومن لم يغفر عذب، وهذا مذهب السلف والصحابة والأئمة، وهو القطع بأن بعض عصاة الأمة يدخل النار وبعضه يغفر له، لكن هل ذلك على وجه الموازنة والحكمة ولا اعتبار للموازنة؟ فيه قولان للمنتسبين إلى السنة من أصحابنا وغيرهم، بناء على أصل الأفعال الإلهية هل يعتبر فيها الحكمة والعدل. وأيضا فمسألة الجزاء فيها نصوص كثيرة دلت على الموازنة، كما بسط في غير هذا الموضع.
والمقصود هنا أن قوله: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ
1-الآية48 سورة النساء.
رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً} 1 فيه نهي عن القنوط من رحمة الله وإن عظمت الذنوب وكثرت فلا يحل لأحد أن يقنط من رحمة الله وإن عظمت ذنوبه، ولا أن يقنط الناس من رحمة الله. قال بعض السلف إن الفقيه كل الفقيه الذي لا ييئس الناس من رحمة الله، ولا يجرئهم على معاصي الله.
والقنوط يكون بأن يعتقد أن الله لا يغفر له. إما لكونه إذا تاب لا يقبل الله توبته ويغفر ذنوبه، وإما بأن يقول نفسه لا تطاوعه على التوبة، بل هو مغلوب معها، والشيطان قد استحوذ عليه، فهو ييأس من توبة نفسه: وإن كان يعلم أنه إذا تاب غفر الله له، وهذا يعتري كثيرا من الناس. والقنوط يحصل بهذا تارة وبهذا تارة: فالأول كالراهب الذي أفتى قاتل تسعة وتسعين أن الله لا يغفر له فقتله وكمل به مائة. ثم دل على عالم فأتاه فسأله فأفتاه بان الله يقبل توبته. والحديث في الصحيحين. والثاني كالذي يرى للتوبة شروطا كثيرة، ويقال له لها شروط كثيرة يتعذر عليه فعلها فييأس من أن يتوب.
وقد تنازع الناس في العبد هل يصير في حال تمتنع منه التوبة إذا أرادها، والصواب الذي عليه أهل السنة والجماعة أن التوبة ممكنة من كل ذنب، وممكن أن الله يغفر له، وقد فرضوا في ذلك من توسط أرضا مغصوبة، ومن توسط جرحى فكيف ما تحرك قتل بعضهم، فقيل هذا لا طريق له إلى توبة، والصحيح أن هذا إذا تاب قبل الله توبته.
أما من توسط الأرض المغصوبة فهذا خروجه بنية تخلية المكان وتسليمه إلى مستحقه ليس منهيا عنه ولا محرما، بل الفقهاء متفقون على أن من غصب دارا وترك فيها قماشه وماله إذا أمر بتسليمها إلى مستحقها فإنه يؤمر بالخروج منها، وبإخراج أهله وماله منها، وإن كان ذلك نوع تصرف فيها، لكنه لأجل
1-الآية 53 الزمر.
إخلائها.
والمشرك إذا دخل الحرم أمر بالخروج منه وإن كان فيه، ومقل هذا حديث الأعرابي المتفق على صحته لما بال في المسجد فقام الناس إليه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"لا تزرموه"1 أي لا تقطعوا عليه بوله، وأمرهم أن يصبوا على بوله دلوا من الماء. فهو لما بدأ بالبول كان إتمامه خيرا من أن يقطعوه، فيلوث ثيابه وبدنه، ولو زنا رجل بامرأة ثم تاب لنزع، ولم يكن مذنبا بالنزع، وهل هو وطء؟ فيه قولان هما روايتان عن أحمد. فلو حلف أن لا يطأ امرأته بالطلاق الثلاث، فالذين يقولون: إنه يقع به الطلاق الثلاث إذا وطئها تنازعوا هل يجوز له وطؤها؟ على قولين: هما روايتان عن أحمد:
أحدهما: يجوز كقول الشافعي.
والثاني: لا يجوز كقول مالك فإنه يقول: إذا أجزت الوطء لزم أن يباشرها في حالة النزع وهي محرمة، وهذا إنما يجوز للضرورة لا يجوزه ابتداء، وذلك يقول النزع ليس بمحرم.
وكذلك الذين يقولون إذا طلع عليه الفجر وهو مولج فقد جامع، لهم في النزع قولان: في مذهب أحمد وغيره. وأما على ما نصرناه فلا يحتاج إلى شيء من هذه المسائل، فإن الحالف إذا حنث يكفر يمينه ولا يلزمه الطلاق الثلاث، وما فعله الناس حال التبين من أكل وجماع فلا بأس به، لقوله:"حتى".
والمقصود أنه لا يجوز أن يقنط أحد، ولا يقنط أحدا من رحمة الله فإن الله نهى عن ذلك، وأخبر أنه يغفر الذنوب جميعا.
1-متفق عليه. أخرجه البخاري في كتاب الطهارة باب ترك الأعرابي حتى يفرغ من بوله، وأخرجه مسلم في كتاب الطهارة باب غسل البول وغيره من النجاسات إذا حصلت في المسجد.
فإن قيل: {إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً} معه عموم على وجه الإخبار، فدل على أن الله يغفر كل ذنب، ومعلوم أنه لم يرد أن من أذنب من كافر وغيره فإنه يغفر له، ولا يعذبه لا في الدنيا ولا في الآخرة، فإن هذا خلاف المعلوم بالضرورة والتواتر والقرآن والإجماع، إذا كان الله أهلك أمما كثيرة بذنوبها، ومن هذه الأمة من عذب إما قدرا وإما شرعا في الدنيا قبل الآخرة.
وقد قال تعالى: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ} 1 وقال: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ، وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} 2 فهذا يقتضي أن هذه الآية ليست على ظاهرها، بل المراد أن الله قد يغفر الذنوب جميعا لأي ذلك مما قد يفعله أو أنه يغفره لكل تائب، لكمن يقال: فلم أتى بصيغة الجزم والإطلاق، موضع التردد والتقييد؟ قيل بل الآية على مقتضاها فإن الله أخبر أنه يغفر جميع الذنوب، فقال:{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} 3.
وقال في حق المنافقين: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّه} 4 لكن هذا اللفظ العام في الذنوب هو مطلق في المذنبين. فالمذنب لم يتعرض له بنفي ولا إثبات، لكن يجوز أن يكون مغفورا له، ويجوز أن لا يكون مغفورا له. إن أتى بما يوجب المغفرة غفر له، وإن أصر على ما يناقضها لم يغفر له.
وأما جنس الذنب فإن الله يغفره في الجملة: الكفر والشرك وغيرهما، يغفرها
1-الآية 123 سورة النساء.
2-
الآية 7-8 سورة الزلزلة.
3-
الآية 34 سورة محمد.
4-
الآية 6 سورة المنافقون.
لمن تاب منها، ليس في الوجود ذنب لا يغفره الرب تعالى، بل ما من ذنب إلا والله تعالى يغفره في الجملة.
وهذه آية عظيمة جامعة من أعظم الآيات نفعا، وفيها رد على طوائف، رد على من يقول إن الداعي إلى البدعة لا تقبل توبته ويحتجون بحديث اسرائيلي، فيه:"أنه قيل لذلك الداعية فكيف بمن أضللت؟ " وهذا يقوله طائفة ممن ينتسب إلى السنة والحديث وليس من العلماء بذلك، كأبي علي الأهوازي وأمثاله ممن لا يميزون بين الأحاديث الصحيحة والموضوعة، وما يحتج به وما لا يحتج به، بل يروون كلما في الباب محتجين به.
وقد حكى هذا طائفة قولا في مذهب أحمد أو رواية عنه، وظاهر مذهبه مع سائر أئمة المسلمين أنه تقبل توبته كما تقبل توبة الداعي إلى الكفر، وتوبة من فتن الناس عن دينهم.
وقد تاب قادة الأحزاب: مثل أبي سفيان بن حرب، والحارث بن هشام وسهيل بن عمرو، وصفوان بن أمية، وعكرمة بن أبي جهل، وغيرهم بعد أن قتل على الكفر بدعائهم من قتل، وكانوا من أحسن الناس إسلاما وغفر الله لهم، قال تعالى:{قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَف} 1. وعمرو بن العاص كان من أعظم الدعاة إلى الكفر والإيذاء للمسلمين، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لما أسلم "يا عمرو أما علمت أن الإسلام يجب ما كان قبله؟ 2 ".
وفي صحيح البخاري عن ابن مسعود في قوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَب} 3 قال كان ناس من الإنس يعبدون ناسا
1-الآية 38 سورة الأنفال.
2-
أخرجه مسلم في كتاب الإيمان/ باب كون الإسلام يهدم ما قبله.
3-
الآية 57 سورة الإسراء.