المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ أنواع شفاعة الرسول صلى الله عليه وسلم - نثر الورود شرح حائية ابن أبي داود

[عبد الرحمن بن عبد العزيز العقل]

فهرس الكتاب

- ‌المقدمة

- ‌منهجية التميُّز

- ‌نظم الحائية

- ‌ترجمة موجزة للناظم

- ‌ اسمه ونسبه:

- ‌ مولده ونشأته:

- ‌ شيوخه:

- ‌ تلاميذه:

- ‌ عقيدته ومذهبه:

- ‌ مكانته العلمية وثناء العلماء عليه:

- ‌مؤلفاته

- ‌ وفاته:

- ‌نبذة مختصرة عن المنظومة

- ‌ إثبات نسبة الحائية للناظم:

- ‌ أسماؤها:

- ‌ عدد أبياتها:

- ‌ شروحها:

- ‌ قيمتها العلمية ومكانتها عند العلماء:

- ‌ ما المراد بحبل الله

- ‌ أنواع الهداية

- ‌ حقيقة البدعة:

- ‌ قواعد نافعة في باب البدع

- ‌ هل يصح تقسيم البدعة إلى حسنة وسيئة

- ‌ لماذا عُدَّت الواقفة أخبث من الجهمية

- ‌ أيهم أشد خطرًا على المسلمين اليهود أم المنافقون

- ‌ هل يقال إن لله تعالى يدًا أخرى وهي الشمال أو لا يقال بذلك

- ‌ هل القدر هو القضاء أو بينهما فرق

- ‌ مراتب القدر

- ‌ هل الأخذ بالأسباب ينافي الإيمان بالقدر

- ‌ إشكالات وشبه حول القدر:

- ‌ حِكَم الله في خلق إبليس:

- ‌ الحكمة من إنظار الله إبليس

- ‌ هل يجب الرضا بكل ما قدره الله

- ‌ هل الإنسان مسير أو مخير

- ‌ أخطاءٌ في باب القدر:

- ‌ الطوائف التي ضلت في باب القدر

- ‌ الفرق بين القدرية والجبرية

- ‌ الطوائف التي ضلت في مسألة عصاة المؤمنين

- ‌ الفرق بين ذكر الشفاعة في القرآن وذكرها في السنة

- ‌ أنواع شفاعة الرسول صلى الله عليه وسلم

- ‌ هل زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم من أسباب الحصول على شفاعته

- ‌ مذهب الخوارج والمعتزلة في الشفاعة:

- ‌ حجة المعتزلة والخوارج في إنكار الشفاعة لأهل الكبائر:

- ‌ عذاب القبر ونعيمه يلحق مَنْ قُبِر ومنْ لم يقبر:

- ‌ قواعد مهمة في وسطية أهل السنة:

- ‌ موقف أهل السنة من المرجئة:

- ‌ أيهم أخطر الخوارج أم المرجئة

- ‌مناقشة على الشرح

الفصل: ‌ أنواع شفاعة الرسول صلى الله عليه وسلم

1 -

ابن خزيمة في كتاب التوحيد.

2 -

أبو جعفر الطحاوي في عقيدته.

3 -

الآجري في الشريعة.

4 -

ابن بطة في الإبانة.

5 -

اللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة.

6 -

الصابوني في عقيدة السلف.

7 -

الأصبهاني في كتاب الحجة في بيان المحجة.

وعند استقراء أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم في الشفاعة يتبين أنها تتنوع من حيث الشفعاء، ومن حيث نوع الشفاعة، كما سيأتي.

•‌

‌ أنواع شفاعة الرسول صلى الله عليه وسلم

-:

النوع الأول: الشفاعة العظمى:

وهي الشفاعة الأولى الخاصة بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم حينما يطول الموقف على الناس في الحشر ويشتد بهم الكرب وتدنو منهم الشمس وهم حفاة عراة ويأخذ منهم العرق كل مأخذ في هذا الموقف العظيم الذي قال الله عنه: {فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} [المعارج: 4]، فيشفع النبي صلى الله عليه وسلم من بين سائر إخوانه من الأنبياء والمرسلين، وذلك حين يتوسل الناس يوم القيامة إلى آدم ثم نوح ثم إبراهيم ثم موسى ثم عيسى عليهم الصلاة والسلام من أجل الشفاعة عند الله ليقضي بين خلقه؛ فيتدافع الشفاعةَ بعد آدم أولو العزم عليهم الصلاة والسلام حتى ينتهي الأمر إلى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فيشفع عند ربه عز وجل لأهل الموقف.

ص: 81

وهذه الشفاعة أعظم الشفاعات كلها؛ ولهذا تسمى الشفاعة العظمى، فهي شفاعة عامة لجميع أهل الموقف، على اختلاف أديانهم.

وهذه الشفاعة هي المقام المحمود - على قول أكثر العلماء - الذي وعد الله عز وجل نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم في قوله: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} [الإسراء: 79].

ومما يدل على الشفاعة العظمى ما أخرجه البخاري في صحيحه عن عبد الله بن عمر رضي الله عنها، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«مَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَسْأَلُ النَّاسَ، حَتَّى يَأْتِيَ يَوْمَ القِيَامَةِ لَيْسَ فِي وَجْهِهِ مُزْعَةُ لحم» ، وقال:«إِنَّ الشَّمْسَ تَدْنُو يَوْمَ القِيَامَةِ، حَتَّى يَبْلُغَ العَرَقُ نِصْفَ الأُذُنِ، فَبَيْنَا هُمْ كَذَلِكَ اسْتَغَاثُوا بِآدَمَ (1)، ثُمَّ بِمُوسَى، ثُمَّ بِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، فَيَشْفَعُ لِيُقْضَى بَيْنَ الخَلْقِ، فَيَمْشي حَتَّى يَأْخُذَ بِحَلْقَةِ البَابِ، فَيَوْمَئِذٍ يَبْعَثُهُ الله مَقَامًا مَحْمُودًا، يَحْمَدُهُ أَهْلُ الجَمْعِ كُلُّهُمْ» (2).

وأخرج البخاري أيضًا عن عبد الله بن عمر رضي الله عنها أنه قال: «إِنَّ النَّاسَ يَصِيرُونَ يَوْمَ القِيَامَةِ جُثًا (3)، كُلُّ أُمَّةٍ تَتْبَعُ نَبِيَّهَا يَقُولُونَ: يَا فُلَانُ اشْفَعْ، يَا فُلَانُ اشْفَعْ، حَتَّى تَنْتَهِيَ الشَّفَاعَةُ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَذَلِكَ يَوْمَ يَبْعَثُهُ الله المَقَامَ المَحْمُودَ» (4).

(1) أي: طلبوه.

(2)

أخرجه البخاري (2/ 123) رقم (1474) ومسلم (2/ 720) رقم (1040).

(3)

أي: جماعات.

(4)

صحيح البخاري (6/ 86) رقم (4718).

ص: 82

وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: أُتي رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا بلحم، فرُفع إليه الذراع، وكانت تعجبه فنهش منها نهشة فقال: «أَنَا سَيِّدُ النَّاسِ يَوْمَ القِيَامَةِ، وَهَلْ تَدْرُونَ مِمَّ ذَلِكَ؟ يَجْمَعُ الله النَّاسَ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ، يُسْمِعُهُمُ الدَّاعِي وَيَنْفُذُهُمُ البَصَرُ، وَتَدْنُو الشَّمْسُ، فَيَبْلُغُ النَّاسَ مِنَ الغَمِّ وَالكَرْبِ مَا لَا يُطِيقُونَ وَلَا يَحْتَمِلُونَ، فَيَقُولُ النَّاسُ: أَلَا تَرَوْنَ مَا قَدْ بَلَغَكُمْ، أَلَا تَنْظُرُونَ مَنْ يَشْفَعُ لَكُمْ إِلَى رَبِّكُمْ؟ فَيَقُولُ بَعْضُ النَّاسِ لِبَعْضٍ: عَلَيْكُمْ بِآدَمَ، فَيَأْتُونَ آدَمَ عليه السلام فَيَقُولُونَ لَهُ: أَنْتَ أَبُو البَشَرِ، خَلَقَكَ الله بِيَدِهِ، وَنَفَخَ فِيكَ مِنْ رُوحِهِ، وَأَمَرَ المَلَائِكَةَ فَسَجَدُوا لَكَ، اشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ، أَلَا تَرَى إِلَى مَا نَحْنُ فِيهِ، أَلَا تَرَى إِلَى مَا قَدْ بَلَغَنَا؟ فَيَقُولُ آدَمُ: إِنَّ رَبِّي قَدْ غَضِبَ اليَوْمَ غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ، وَلَنْ يَغْضَبَ بَعْدَهُ مِثْلَهُ، وَإِنَّهُ قَدْ نَهَانِي عَنِ الشَّجَرَةِ فَعَصَيْتُهُ، نَفْسِي نَفْسِي نَفْسِي، اذْهَبُوا إِلَى غَيْرِي، اذْهَبُوا إِلَى نُوحٍ، فَيَأْتُونَ نُوحًا فَيَقُولُونَ: يَا نُوحُ، إِنَّكَ أَنْتَ أَوَّلُ الرُّسُلِ إِلَى أَهْلِ الأَرْضِ، وَقَدْ سَمَّاكَ الله عَبْدًا شَكُورًا، اشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ، أَلَا تَرَى إِلَى مَا نَحْنُ فِيهِ؟ فَيَقُولُ: إِنَّ رَبِّي عز وجل قَدْ غَضِبَ اليَوْمَ غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ، وَلَنْ يَغْضَبَ بَعْدَهُ مِثْلَهُ، وَإِنَّهُ قَدْ كَانَتْ لِي دَعْوَةٌ دَعَوْتُهَا عَلَى قَوْمِي، نَفْسِي نَفْسِي نَفْسِي، اذْهَبُوا إِلَى غَيْرِي، اذْهَبُوا إِلَى إِبْرَاهِيمَ، فَيَأْتُونَ إِبْرَاهِيمَ فَيَقُولُونَ: يَا إِبْرَاهِيمُ أَنْتَ نَبِيُّ اللَّهِ وَخَلِيلُهُ مِنْ أَهْلِ الأَرْضِ، اشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ أَلَا تَرَى إِلَى مَا نَحْنُ فِيهِ، فَيَقُولُ لَهُمْ: إِنَّ رَبِّي قَدْ غَضِبَ اليَوْمَ غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ، وَلَنْ يَغْضَبَ بَعْدَهُ مِثْلَهُ، وَإِنِّي قَدْ كُنْتُ كَذَبْتُ ثَلَاثَ كَذَبَاتٍ (1)

(1) المراد التوريات وكانت لحاجة.

ص: 83

- فَذَكَرَهُنَّ أَبُو حَيَّانَ فِي الحَدِيثِ - نَفْسِي نَفْسِي نَفْسِي، اذْهَبُوا إِلَى غَيْرِي، اذْهَبُوا إِلَى مُوسَى فَيَأْتُونَ مُوسَى فَيَقُولُونَ: يَا مُوسَى أَنْتَ رَسُولُ الله، فَضَّلَكَ الله بِرِسَالَتِهِ وَبِكَلَامِهِ عَلَى النَّاسِ، اشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ، أَلَا تَرَى إِلَى مَا نَحْنُ فِيهِ؟ فَيَقُولُ: إِنَّ رَبِّي قَدْ غَضِبَ اليَوْمَ غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ، وَلَنْ يَغْضَبَ بَعْدَهُ مِثْلَهُ، وَإِنِّي قَدْ قَتَلْتُ نَفْسًا لَمْ أُومَرْ بِقَتْلِهَا، نَفْسِي نَفْسِي نَفْسِي، اذْهَبُوا إِلَى غَيْرِي، اذْهَبُوا إِلَى عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ، فَيَأْتُونَ عِيسَى، فَيَقُولُونَ: يَا عِيسَى أَنْتَ رَسُولُ الله، وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ، وَكَلَّمْتَ النَّاسَ فِي المَهْدِ صَبِيًّا، اشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ أَلَا تَرَى إِلَى مَا نَحْنُ فِيهِ؟ فَيَقُولُ عِيسَى: إِنَّ رَبِّي قَدْ غَضِبَ اليَوْمَ غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ قَطُّ، وَلَنْ يَغْضَبَ بَعْدَهُ مِثْلَهُ، وَلَمْ يَذْكُرْ ذَنْبًا، نَفْسِي نَفْسِي نَفْسِي اذْهَبُوا إِلَى غَيْرِي اذْهَبُوا إِلَى مُحَمَّدٍ، فَيَأْتُونَ مُحَمَّدًا فَيَقُولُونَ: يَا مُحَمَّدُ أَنْتَ رَسُولُ الله وَخَاتِمُ الأَنْبِيَاءِ، وَقَدْ غَفَرَ الله لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ، اشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ أَلَا تَرَى إِلَى مَا نَحْنُ فِيهِ، فَأَنْطَلِقُ فَآتِي تَحْتَ العَرْشِ، فَأَقَعُ سَاجِدًا لِرَبِّي عز وجل، ثُمَّ يَفْتَحُ الله عَلَيَّ مِنْ مَحَامِدِهِ وَحُسْنِ الثَّنَاءِ عَلَيْهِ شَيْئًا لَمْ يَفْتَحْهُ عَلَى أَحَدٍ قَبْلي، ثُمَّ يُقَالُ: يَا مُحَمَّدُ ارْفَعْ رَأْسَكَ، سَلْ تُعْطَهْ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ، فَأَرْفَعُ رَأْسِي، فَأَقُولُ: أُمَّتِي يَا

رَبِّ، أُمَّتِي يَا رَبِّ، أُمَّتِي يَا رَبِّ، فَيُقَالُ: يَا مُحَمَّدُ أَدْخِلْ مِنْ أُمَّتِكَ مَنْ لَا حِسَابَ عَلَيْهِمْ مِنَ البَابِ الأَيْمَنِ مِنْ أَبْوَابِ الجَنَّةِ، وَهُمْ شُرَكَاءُ النَّاسِ فِيمَا سِوَى ذَلِكَ مِنَ الأَبْوَابِ، ثُمَّ قَالَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، إِنَّ مَا بَيْنَ المِصْرَاعَيْنِ مِنْ مَصَارِيعِ الجَنَّةِ، كَمَا بَيْنَ مَكَّةَ وَحِمْيَرَ أَوْ كَمَا بَيْنَ مَكَّةَ وَبُصْرَى» (1).

(1) صحيح البخاري (6/ 84) رقم (4712)، وصحيح مسلم (1/ 184) رقم (194).

ص: 84

ولقد استدل ابن خزيمة بهذا الحديث على ثبوت الشفاعة العظمى لأهل الموقف لأجل الحساب.

النوع الثاني: الشفاعة في استفتاح باب الجنة لأهلها:

جاء في صحيح مسلم عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «أَنَا أَوَّلُ شَفِيعٍ فِي الجنَّةِ، لَمْ يُصَدَّقْ نَبِيٌّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ مَا صُدِّقْتُ، وَإِنَّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ نَبِيًّا مَا يُصَدِّقُهُ مِنْ أُمَّتِهِ إِلَّا رَجُلٌ وَاحِدٌ» (1).

وفي مسلم أيضًا عن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «آتِي بَابَ الجنَّةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَسْتفْتِحُ، فَيَقُولُ الخازِنُ: مَنْ أَنْتَ؟ فَأَقُولُ: مُحَمَّدٌ، فَيَقُولُ: بِكَ أُمِرْتُ لَا أَفْتَحُ لِأَحَدٍ قَبْلَكَ» (2).

وهذان الحديثان ونحوهما تدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم أول الشفعاء لأهل الجنة في دخولها.

ومن هذا الوجه فإن هذا النوع من الشفاعة خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عن هذه الشفاعة والتي قبلها: «وهاتان الشفاعتان خاصتان له صلى الله عليه وسلم» (3).

وكما أن نبينا صلى الله عليه وسلم أول من يستفتح باب الجنة فيفتح له، كما تقدم، فإن أول من يدخل الجنة من الأمم أمته صلى الله عليه وسلم، فقد جاء في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نَحْنُ الْآخِرُونَ الْأَوَّلُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَنَحْنُ أَوَّلُ مَنْ يَدْخُلُ الجنَّة

» (4).

(1) صحيح مسلم (1/ 188) رقم (196).

(2)

صحيح مسلم (1/ 188) رقم (197).

(3)

مجموع الفتاوى (3/ 147).

(4)

صحيح مسلم (2/ 585) رقم (855).

ص: 85

النوع الثالث: الشفاعة في تخفيف العذاب عمن يستحقه:

وهذه الشفاعة تكون من النبي صلى الله عليه وسلم لعمه أبي طالب:

ودليلها ما جاء في الصحيحين عن العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه أنه قال: «يَا رَسُولَ الله، هَلْ نَفَعْتَ أَبَا طَالِبٍ بِشَيْءٍ، فَإِنَّهُ كَانَ يَحُوطُكَ وَيَغْضَبُ لَكَ؟ قَالَ: نَعَمْ، هُوَ فِي ضَحْضَاحٍ (1) مِنْ نَارٍ، لَوْلَا أَنَا لَكَانَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ» (2).

وفي الصحيحين أيضًا من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: ذكر عنده عمه أبو طالب فقال: «لَعَلَّهُ تَنْفَعُهُ شَفَاعَتِي يَوْمَ القِيَامَةِ، فَيُجْعَلُ فِي ضَحْضَاحٍ مِنَ النَّارِ يَبْلُغُ كَعْبَيْهِ، يَغْلِي مِنْهُ أُمُّ دِمَاغِهِ» (3).

ويدل حديث العباس السابق أن سبب شفاعة الرسول صلى الله عليه وسلم لعمه في تخفيف العذاب هو دفاعه عن الرسول صلى الله عليه وسلم ونصرته له؛ ولذا كان أهون أهل النار عذابًا يوم القيامة، كما جاء في صحيح مسلم عن ابن عباس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«أَهْوَنُ أَهْلِ النَّارِ عَذَابًا أَبُو طَالِبٍ، وَهُوَ مُنْتَعِلٌ بِنَعْلَيْنِ يَغْلِي مِنْهُمَا دِمَاغُهُ» (4).

وينبغي أن نعلم هنا أن هذه الشفاعة التي نفعت أبا طالب، مع كونه كافرًا؛ شفاعة تخفيف فقط، لا شفاعة إخراج من النار.

(1) الضَّحْضاحُ في الأصل: ما رَقَّ من الماء على وجه الأرض ما يبلغ الكعبين واستعاره للنار. ينظر: غريب الحديث لابن الجوزي (2/ 6)، والنهاية في غريب الحديث والأثر (3/ 75).

(2)

صحيح البخاري (8/ 46) رقم (6208)، وصحيح مسلم (1/ 194) رقم (209).

(3)

صحيح البخاري (5/ 52) رقم (3885)، وصحيح مسلم (1/ 195) رقم (210).

(4)

صحيح مسلم (1/ 196) رقم (212).

ص: 86

النوع الرابع: في رفع درجات من يدخل الجنة:

والدليل على ذلك ما ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، وفيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث عمه أبا عامر رضي الله عنه على جيش إلى أوطاس، فرمي أبو عامر بسهم في ركبته فقال لأبي موسى: يا ابن أخي انطلق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقرئه مني السلام، وقل له: يقول لك أبو عامر: استغفر لي، ثم مات رضي الله عنه ثم رجع أبو موسى إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره خبر أبي عامر، وقال له: إن أبا عامر يقول لك: استغفر لي، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بماء، فتوضأ منه، ثم رفع يديه، ثم قال:«اللهُمَّ اغْفِرْ لِعُبَيْدٍ أَبِي عَامِرٍ - وَرَأَيْتُ بَيَاضَ إِبْطَيْهِ - ثُمَّ قَالَ: اللهُمَّ اجْعَلْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَوْقَ كَثِيرٍ مِنْ خَلْقِكَ، أَوْ مِنَ النَّاسِ، فَقُلْتُ: وَلِي، يَا رَسُولَ اللهِ فَاسْتَغْفِرْ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: اللهُمَّ اغْفِرْ لِعَبْدِ اللهِ بْنِ قَيْسٍ ذَنْبَهُ، وَأَدْخِلْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُدْخَلًا كَرِيمًا» (1).

وقد استدل بهذا الحديث عدد من الأئمة كابن كثير (2) وغيره، على هذا النوع من الشفاعة، والمقصود أن النبي صلى الله عليه وسلم هنا دعا لأبي عامر في رفع درجته في الجنة.

النوع الخامس: الشفاعة في دخول الجنة بلا حساب:

يدل عليه ما ثبت في الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «عُرِضَتْ عَلَيَّ الأُمَمُ، فَأَخَذَ النَّبِيُّ يَمُرُّ مَعَهُ الأُمَّةُ، وَالنَّبِيُّ يَمُرُّ مَعَهُ النَّفَرُ، وَالنَّبِيُّ يَمُرُّ مَعَهُ العَشَرَةُ، وَالنَّبِيُّ يَمُرُّ مَعَهُ الخَمْسَةُ، وَالنَّبِيُّ يَمُرُّ وَحْدَهُ، فَنَظَرْتُ فَإِذَا سَوَادٌ كَثِيرٌ، قُلْتُ: يَا جِبْرِيلُ، هَؤُلَاءِ أُمَّتِي؟ قَالَ: لَا، وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الأُفُقِ، فَنَظَرْتُ فَإِذَا سَوَادٌ كَثِيرٌ، قَالَ: هَؤُلَاءِ أُمَّتُكَ، وَهَؤُلَاءِ سَبْعُونَ أَلْفًا قُدَّامَهُمْ

(1) صحيح البخاري (5/ 155) رقم (4323)، وصحيح مسلم (4/ 1943) رقم (2498).

(2)

النهاية في الفتن والملاحم (2/ 206).

ص: 87

لَا حِسَابَ عَلَيْهِمْ وَلَا عَذَابَ، قُلْتُ: وَلِمَ؟ قَالَ: كَانُوا لَا يَكْتَوُونَ، وَلَا يَسْتَرْقُونَ، وَلَا يَتَطَيَّرُونَ، وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ، فَقَامَ إِلَيْهِ عُكَّاشَةُ بْنُ مِحْصَنٍ، فَقَالَ: ادْعُ الله أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ، قَالَ: اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ مِنْهُمْ، ثُمَّ قَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ آخَرُ قَالَ: ادْعُ الله أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ، قَالَ: سَبَقَكَ بِهَا عُكَّاشَةُ» (1).

وفيهما عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «يَدْخُلُ الجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِي زُمْرَةٌ هُمْ سَبْعُونَ أَلْفًا، تُضِيءُ وُجُوهُهُمْ إِضَاءَةَ القَمَرِ لَيْلَةَ البَدْرِ» فقام عكاشة

الحديث (2).

النوع السادس: الشفاعة في أهل الكبائر:

المراد بأهل الكبائر: العصاة من أهل التوحيد، الذين دخلوا النار بذنوبهم، فيشفع فيهم الرسول صلى الله عليه وسلم وغيره لإخراجهم من النار بعد دخولها.

يدل عليه حديث أنس في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إِذَا كَانَ يَوْمُ القِيَامَةِ مَاجَ النَّاسُ بَعْضُهُمْ فِي بَعْضٍ، فَيَأْتُونَ آدَمَ، فَيَقُولُونَ: اشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ، فَيَقُولُ: لَسْتُ لَهَا، وَلَكِنْ عَلَيْكُمْ بِإِبْرَاهِيمَ فَإِنَّهُ خَلِيلُ الرَّحْمَنِ، فَيَأْتُونَ إِبْرَاهِيمَ، فَيَقُولُ: لَسْتُ لَهَا، وَلَكِنْ عَلَيْكُمْ بِمُوسَى فَإِنَّهُ كَلِيمُ الله، فَيَأْتُونَ مُوسَى فَيَقُولُ: لَسْتُ لَهَا، وَلَكِنْ عَلَيْكُمْ بِعِيسَى فَإِنَّهُ رُوحُ الله، وَكَلِمَتُهُ، فَيَأْتُونَ عِيسَى، فَيَقُولُ: لَسْتُ لَهَا، وَلَكِنْ عَلَيْكُمْ بِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، فَيَأْتُونِي، فَأَقُولُ: أَنَا لَهَا، فَأَسْتَأْذِنُ عَلَى رَبِّي، فَيُؤْذَنُ لِي، وَيُلْهِمُنِي مَحَامِدَ أَحْمَدُهُ بِهَا لَا تَحْضُرُنِي الآنَ، فَأَحْمَدُهُ بِتِلْكَ المَحَامِدِ، وَأَخِرُّ لَهُ سَاجِدًا، فَيَقُولُ: يَا مُحَمَّدُ ارْفَعْ رَأْسَكَ، وَقُلْ يُسْمَعْ لَكَ، وَسَلْ تُعْطَ،

(1) صحيح البخاري (8/ 112) رقم (6541)، وصحيح مسلم (1/ 199) رقم (220).

(2)

صحيح البخاري (8/ 113) رقم (6542)، وصحيح مسلم (1/ 197) رقم (216).

ص: 88

وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ، فَأَقُولُ: يَا رَبِّ، أُمَّتِي أُمَّتِي، فَيَقُولُ: انْطَلِقْ فَأَخْرِجْ مِنْهَا مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ شَعِيرَةٍ مِنْ إِيمَانٍ، فَأَنْطَلِقُ فَأَفْعَلُ، ثُمَّ أَعُودُ، فَأَحْمَدُهُ بِتِلْكَ المَحَامِدِ، ثُمَّ أَخِرُّ لَهُ سَاجِدًا، فَيُقَالُ: يَا مُحَمَّدُ ارْفَعْ رَأْسَكَ، وَقُلْ يُسْمَعْ لَكَ، وَسَلْ تُعْطَ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ، فَأَقُولُ: يَا رَبِّ، أُمَّتِي أُمَّتِي، فَيَقُولُ: انْطَلِقْ فَأَخْرِجْ مِنْهَا مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ - أَوْ خَرْدَلَةٍ - مِنْ إِيمَانٍ فَأَخْرِجْهُ، فَأَنْطَلِقُ، فَأَفْعَلُ» (1).

من يشفع غير النبي محمد صلى الله عليه وسلم؟ :

الجواب: قد أعطى الله الشفاعة لغير محمد صلى الله عليه وسلم كما جاءت بذلك النصوص، والذين يشفعون هم:

1 -

الملائكة.

2 -

الأنبياء عليهم السلام.

3 -

المؤمنون.

4 -

الشهداء.

5 -

أولاد المؤمنين، كما جاء في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: في أطفال المؤمنين الذين يموتون صغارًا: «صِغَارُهُمْ دَعَامِيصُ (2) الْجَنَّةِ» (3).

6 -

مما يشفع القرآن يشفع لصاحبه.

7 -

ومما يشفع أيضًا الصيام يشفع لصاحبه.

(1) صحيح البخاري (9/ 146) رقم (7510)، وصحيح مسلم (1/ 182) رقم (193).

(2)

الدعاميص: جمع دعموص أي: صغار أهلها أي يكونون صغار أهل الجنة.

(3)

صحيح مسلم (4/ 2029) رقم (2635).

ص: 89