المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌مقدمة: إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور - نفح العبير - جـ ٢

[عبد الله بن مانع الروقي]

الفصل: ‌ ‌مقدمة: إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور

‌مقدمة:

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أما بعد:

فإن التفقه في الدين وتعلم ما أنزل الله على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، من أعظم الطاعات وأجل العبادات، والناس إزاء التنزيل وما بعث الله به رسوله هم كما قال عليه الصلاة والسلام كما في حديث أبي موسى الذي في الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم، قال:«مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضًا فكانت منها طائفة طيبة قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكان منها أجادب أمسكت الماء، فنفع الله بها الناس فشربوا منها وسقوا وزرعوا، وأصاب طائفة منها أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ، فذلك مثل من فَقُه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به فعلم وعلم، ومثل من لم يرفع بذلك رأسًا ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به» .

شبه صلى الله عليه وسلم، العلم والهدى الذي جاء به بالغيث؛ لما يحصل بكل واحد منهما من الحياة والمنافع والأغذية والأدوية وسائر مصالح العباد. وشبه القلوب بالأراضي التي يقع عليها المطر، لأنها المحل الذي يمسك الماء فينبت سائر أنواع النبات النافع، كما أن القلوب تعي العلم فيثمر فيها ويزكو وتظهر بركته وثمرته، ثم قسم الناس إلى ثلاثة أقسام بحسب قبولهم واستعدادهم لحفظه وفهم معانيه واستنباط أحكامه واستخراج حكمه وفوائده.

ص: 45

أحدهما: أهل الحفظ والفهم الذين حفظوه وعقلوه وفهموا معانيه واستنبطوا وجوه الأحكام والحكم والفوائد منه، فهؤلاء بمنزلة الأرض التي قبلت الماء وهذا بمنزلة الحفظ، فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وهذا هو الفهم فيه والمعرفة والاستنباط فإنه بمنزلة إنبات الكلأ والعشب بالماء، فهذا مثل الحفاظ الفقهاء أهل الرواية والدراية.

والقسم الثاني: أهل الحفظ الذين رزقوا حفظه ونقله وضبطه، ولم يرزقوا تفقُّهًا في معانيه ولا استنباطًا ولا استخراجًا لوجوه الحكم في والفوائد منه، فهم بمنزلة من يقرأ القرآن ويحفظه ويراعي حروفه وإعرابه ولم يرزق فيه فهمًا خاصًا عن الله كما قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه:(إلا فهمًا يؤتيه الله عبدًا في كتابه). والناس متفاوتون في الفهم عن الله ورسوله أعظم التفاوت، فَرُبَّ شخص يفهم من النص حكمًا أو حكمين، ويفهم الآخر منه مائة أو مئتين، فهؤلاء بمنزلة الأرض التي أمسكت الماء للناس فانتفعوا به، هذا يشرب، وهذا يسقي، وهذا يزرع، فهذان القسمان هم السعداء، والألوان أرفع درجة وأعلى قدرًا و {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الحديد: 21].

والقسم الثالث: الذي لا نصيب لهم منه لا حفظًا ولا فهمًا ولا رواية ولا دراية، بل هم بمنزلة الأرض التي هي قيعان لا تنبت ولا تمسك الماء، وهؤلاء هم الأشقياء، والقسمان الأولان اشتركا في العلم والتعليم كل بحسب ما قبله ووصله، فهذا يعلم ألفاظ القرآن ويحفظها، وهذا يعلم معانيه وأحكامه وعلومه، والقسم الثالث لا علم ولا تعليم، فهم الذين لم يرفعوا بهدى الله رأسًا ولم يقبلوه، وهؤلاء شر من الأنعام، وهم وقود النار، فقد اشتمل هذا الحديث الشريف العظيم على التنبيه على شرف العلم والتعليم وعظم موقعه وشقاء من ليس من أهله، وذكر أقتسام بني آدم بالنسبة إلى شقيهم وسعيدهم وتقسيم

ص: 46

سعيدهم إلى سابق مقرب وصاحب يمين مقتصد، وفيه دلالة على أن حاجة العباد إلى العلم كحاجتهم إلى المطر بل أعظم، وأنهم إذا فقدوا العلم فهم بمنزلة الأرض التي فقدت الغيث قال الإمام أحمد رحمه الله:«الناس محتاجون إلى العلم أكثر من حاجاتهم إلى الطعام والشراب، لأن الطعام والشراب يحتاج إليه في اليوم مرة أو مرتين والعلم يحتاج إليه بعدد الأنفاس ..» (1).

وإذا كان الأمر كذلك فقد عظم الخطب في إقامة الحجة، وانقطعت المعذرة في التساهيل في التعلم والعلم والتعليم، فمن رام النجاة، وأراد الفوز والفلاح فليقرع أبواب العلم، وليشمر عن ساعد الجد، وليبدأ بنفسه فيعلمها مالله عليها من حق ويثني بالأقرب من قراباته كأهله

ثم سائر الناس. قال البخاري رحمه الله: باب تعليم الرجل أمته وأهله وأسند عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: «ثلاثة لهم أجران

ورجل كانت عنده أمه فأدبها فأحسن تأديبها، وعلمها فأحسن تعليمها، ثم أعتقها فتزوجها فله أجران» قال الحافظ:(مطابقة الحديث للترجمة في الأمة بالنص وفي الأهل بالقياس، إذا الاعتناء بالأهل الحرائر في تعليم فرائض الله وسننه آكد من الاعتناء بالإماء). وصدق رحمه الله فتعليم الأهل العلم والأدب والعفة وحسن القوامة عليهن ومعاشرتهن بالمعروف مؤكد على الأزواج، وعلى المرأة كذلك مثل ما على الرجل من التعلم والتفقه في دين الله ومعرفة حدود ما أنزل على رسوله، خصوصًا أن الله قد كتب عليها ما لم يكتبه على الرجل كالحيض والنفاس، فجدير بكل مسلمة أن تتعلم هذه الأحكام وأن تتفقه فيها فقد بُليت بها وكتبها الله عليها، مع سائر أحكام دينها، ومؤكد عليها مع ذلك أن تحسن صحبة عشيرها، فحقه فوق حق الوالدين، وأن تقوم بذلك ابتغاء وجه الله واحتسابًا للأجر، ولها في الصالحات من الصحابيات رضي الله عنهن وعلى رأسهن أهل بيت النبوة فمن بعدهن أسوة حسنة.

ص: 47

وأقول لأختي طالبة العلم التي وفقت برجل صالح: رفقًا به، أعينيه على الطلب، ولا تستثقلي كثرة الكتب، وكثرة مطالعته لها، فهو والله خير، واعتبري وتأملي ما رواه الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد (14/ 438) بسند صحيح أنَّ المروذي قال: سمعت أبا عبد الله أحمد بن حنبل يقول: (أقامت أم صالح معي ثلاثين سنة، فما اختلفت أنا وهي في كلمة)!! فالله المستعان.

وأهمس في أذن أخي طالب العلم الذي وفق بامرأة صالحة رضيها أن تكون حليلته فأقول له: لعلك علمت ما رواه الحطيب في «تاريخه» (8/ 47) عن الزبير بن بكار قال: قالت ابنة أختي لأهلنا (يعني زوجته): خالي خير رجل لأهله، لا تيخذ ضرة ولا يشتري جارية قال: تقول المرأة: (والله لهذه الكتب أشد عليَّ من ثلاث ضرائر)!! فأعط كل ذي حق حقه ولا تشطط.

وهذا مما يعين على الفقه في أمور النساء، أن تقرأ المسلمة ما جاء في كتاب الله وتتدبر ما فيه، وأن تنظر في سنة رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم، وأن تنظر فيما كتب في هذه المواضيع الخاصة، وتطالع كذلك فتاوى العلماء الثقات من أهل عصرنا فيما يخص المرأة المسلمة حتى تعبد ربها على بصيرة، وتفيد بنات جنسها.

وقد جمعت جزءًا في مادة النفاس، وآخر في ختان النساء؛ رغبة في تحرير الكلام في هاتين المسألتين، ونصحًا لمن طالعه وبلغه من المسلمين.

والله أسأل أن ينفع كاتبه وقارئه وسامعه، وأن يمنحنا به رضوانه، وأن يعفو عن زلاتنا إنه جواد كريم وصلى الله على خير خلقه وأكرم رسله وعلى آله وأصحابه وسلم.

وكتبه

أبو محمد عبد الله بن مانع العتيبي

رجب /1417 ص. ب 9010

الرياض 11413

ص: 48

وروى أحمد في مسنده في مواضع (6/ 300)(6/ 302)(6/ 309)، والدارمي (960)، والموصلي (23/ 70)، وأبو داود (311)، وابن ماجه (648)، والترمذي (139)، والحاكم (1/ 175) وابن أبي شيبة [17455]، والبغوي (2/ 136)، وابن المنذر (2/ 250)، والدارقطني (1/ 222)، والطبراني في «الكبير» (23/ 370)، وابن حبان في «المجروحين» (2/ 224 - 225)، والبيهقي (1/ 341)، وغيرهم من طرق عن على بن عبد الأعلى عن أبي سهل (كثير بن زياد) عن مُسَّة الأزدية عن أم سلمة رضي الله عنها، قالت: (كانت النفساء في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، تقعد بعد نفاسها أربعين يومًا وكنا نطلي وجوهنا بالورس من الكلف، وقد روي بلفظ آخر مقارب (كانت النفساء تجلس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، أربعين يومًا

).

وبلفظ ثالث عن مُسَّة قالت: (حججت فدخلت على أم سلمة فقلت يا أم المؤمنين إن سمرة بن جندب يأمر النساء يقضين صلاة الحيض فقالت: لا يقضين كانت المرأة من نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم، تقعد من النفاس أربعين ليلة لا يأمرها النبي صلى الله عليه وسلم، بقضاء صلاة النفاس، وهذه الألفاظ الثلاثة كلها عند البيهقي، واعلم أن أحاديث الباب وما جاء في معناها من آثار قد طعن فيها بعلل أربع:

الأولى: ضعف حديث أم سلمة.

الثانية: نكارة بعض ألفاظه.

الثالثة: ضعف شواهده.

الرابعة: الاعتلال بوجود النفاس في الحس أكثر من أربعين.

ص: 49

والجواب عن ذلك بما يلي:

أما العلة الأولى فإن هذا الحديث مدارُهُ على علي بن عبد الأعلى عن أبي سهل عن مسة.

فأما علي بن عبد الأعلى وهو أبو الحسن الأحول الكوفي فقد روى له أهل السنن، قال أحمد والنسائي: ليس به بأس، وقال البخاري: ثقة كما نقله عنه الترمذي في سننه ووثقه الترمذي، وابن حبان، وقال أبو حاتم ليس بالقوي، ومثله قال الدارقطني في علله، وكلام أحمد والنسائي والبخاري مقدَّم على كلام غيرهم لو قدر أن كلام غيرهم جرح فكيف وهو لا يفيده (1) فحديثه حسن على أقل الأحوال وليس مدفوعًا عن الصحة.

وقد تابعه نافع عند أبي داود (312)، والحاكم (1/ 175)، ومن طريقه البيهقي (1/ 341)، وأما أبو سهل كثير بن زياد البُرساني فقد روى له الأربعة إلا النسائي، وقال ابن معين ثقة، وقال أبو حاتم ثقة م أكابر أصحاب الحسن، لا بأس به بصري وقال النسائي: ثقة، وكذلك قال البخاري كما نقله عنه الترمذي، وتناقض فيه ابن حبان فلم يصنع شيئًا، فهو ثقة لا مطعن فيه.

وأما مُسَّة الأزدية بضم الميم وتثقيل المهملة بضم الموحدة وتشديد السين المهملة روت عن أم سلمة وعنها أبو سهل كثير بن زياد، وذكر الخطابي وابن حبان أن الحكم بن عتيبة روى عنها أيضًا اهـ. من «التهذيب» .

قلت هي عند الدارقطني (1/ 223) من طريق عبد الرحمن بن محمد العرزمي عن أبيه عن الحكم بن عتيبة عن مُسَّة.

(1) كما في «مقدمة الفتح» و «تنكيل المعلمي» .

ص: 50

ومحمد بن عبيد الله العرزمي بالمهملة أولًا أجمع الأئمة على تركه فلا يصح أن الحكم روى عنها.

وقال في «عون المعبود» (1/ 501) قال ابن القطان: لا يعرف حالها ولا كنيتها ولا تعرف في غير هذا الحديث، وأجاب في «البدر المنير» فقال: لا نسلم جهالة عينها وجهالة حالها مرتفعة، فإنه روى عنها جماعة؛ كثير بن زياد والحكم بن عتيبة، وزيد بن على بن الحسين، ورواه محمد بن عبيد الله العرزمي عن الحسن عن مُسَّة أيضًا فهؤلاء أربعة رووا عنها، وقد أثنى على حديثها البخاري وصحح الحاكم إسناده فأقل أحواله أن يكون حسنًا. اهـ.

وقال ابن القيم في «تهذيب السنن» (1/ 195) وقد روى عنها أي مسة أبو سهل كثير ابن زياد، والحكم بن عتبة، ومحمد بن عبيد الله العزرمي وزيد بن علي بن الحسين. اهـ.

قلت تقدم كلام الحافظ وذكر من روى عنها فالصحيح أنه لم يرو عنها سوى أبي سهل، ولهذا قال الترمذي:(ولم يعرف محمد هذا الحديث إلا من حديث سهل).

وقال الخطابي في «معالم السنن» (1/ 196): وحديث مسة أثنى عليه محمد بن إسماعيل- يعني البخاري-.

وقال ابن حزم في «المحلي» (2/ 204): مسة مجهولة، وفي «التلخيص» (1/ 171) مجهولة الحال.

وقد رأيت كلامًا لأبي الفيض العماري في تخريج الأحاديث «بداية المجتهد» متعقبًا ابن القطان في جهالة مسة قال: (انتقاد مردود أما مسة وكنيتها أم بُسَّة فغير مجهولة العين لأنه روى عنها هذا الحديث ثقتان كثير بن زياد والحكم بن عُتيبة

ص: 51

وروايته عند الدارقطني وجهالة العين ترتفع برواية عدلين، وجهالة حالها لا تضر مع رواية الثقات عنها، وكونها امرأة من التابعيات وقد عرف بالاستقراء عدم وجود كذَّابة أو متهمة في النساء، ثم قد ورد الحديث من طريق سبعة من الصحابة، وإن كانت ضعيفة شاهد لصدقها. اهـ.

قلت هو كلام متين وتقدم الكلام على بعضه، وهذا مقام احتاج الناس فيه إلى مُسة، وإذا ضممت حديثها هذا إلى أثر ابن عباس علمت أنها حفظت وسيأتي الكلام عليه إن شاء الله.

وأما العلة الثانية وهي نكارة بعض ألفاظه قال ابن القطان على لفظ: (كانت المرأة من نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم، تقعد في النفاس أربعين

) إلخ، قال وأيضًا فأزواج النبي صلى الله عليه وسلم، لم يكن منهن نفساء معه إلا خديجة ونكاحها قبل الهجرة فلا معنى لقولها قد كانت المرأة من نساء النبي صلى الله عليه وسلم،

الحديث، وسبقه إلى هذا الترمذي في «علله الكبير» .

والجواب أن هذا اللفظ وقع من طريق يونس بن نافع ترجمه في «التهذيب» وفي ثقات ابن حبان (7/ 650) وقال يخطئ قلت خالفه على بن عبد الأعلى عن أبي سهل وهو أوثق منه فهذه اللفظة غير محفوظة، وعلى فرض أن يونس حفظ فإنه لم يقل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، بل قال: نساءه، وهذا يشمل بناته وإماءه وقراباته وأصهاره، فلا معنى لإنكار هذه اللفظة، والله أعلم.

وأما العلة الثالثة فهي ضعف شواهده ولنشرع الآن في سردها مع الكلام عليها على سبيل الإجمال.

فمنها حديث أنس رواه ابن ماجة في سننه (649) من طريق سلَّام بن سليم أو سلم شك أبو الحسن وأظنه هو أبو الأحوص [كذا في سنن ابن ماجه] عن

ص: 52

حميد عن أنس قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقت للنفساء أربعين يومًا إلا أن ترى الطهر مثل ذلك.

ورواه الموصلي (6/ 422)، والدارقطني (2/ 220)، وابن الجوزي في علله (1/ 385)، ووقع عندهم (سلَّام بن سلم) دون شك ورواه البيهقي (1/ 343)، ووقع عنده سلَّام الطويل، وهو ابن سلم ويقال له ابن سليم وابن سليمان، تركه صحيح ورجاله ثقات فظن أن سلامًا هو ابن سليم أبو الأحوص والصواب هو الطويل المدائني المتروك.

ومن وجه آخر عن أنس موقوفًا رواه عبد الرزاق (1/ 312)، وفيه جابر الجعفي تركه غير واحد، وشيخه خيثمة ليس بشيء قاله ابن معين، ورواه البيهقي (1/ 343)، من طريق زيد العميِّ عن أبي إياس عن أنس مرفوعًا بمعناه. والعمي ضعيف.

ومنها حديث عثمان بن أبي العاص رواه الدارقطني (1/ 220)، وابن أبي شيبة (17450)، من طريق حفص بن غياث عن أشعث عن الحسن عن عثمان أنه كان يقول لنسائه: لا تشوفن لي دون الأربعين، ولا تجاوز الأربعين في النفاس، وهو عند البيهقي (1/ 341) من وجه آخر عن الحسن بنحوه.

ورفعه عمر بن هارون البلخي عن أبي بكر الهذلي عن الحسن به، ولفظه: فقال عثمان: ألم أخبرك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرنا أن نعتزل النساء أربعين يوما ووقفه وكيع عن الهذلي به والهذلي وعمر بن هارون متروكان، لكن رواه أشعث بن سوَّار عن الحسن، وأشعث ضعيف وتابعه يونس بن عبيد، وكل هذه الآثار عند الدارقطني، وأخرج المتابعة المذكورة أيضًا الدارمي (1/ 184) عن

ص: 53

الفريابي عن الثوري عن يونس، وعبد الرزاق عن الثوري (1/ 313) وابن الجارود من طريق الدارمي سواء وهذا إسناد جيد إلا أن الحسن لم يسمع من عثمان، وحتى على قول من قال إنه سمع منه كابن المديني في علله ص 51، لكنه عنعنه وهو مدلس، وجاء رفعه من وجه آخر عن الحسن أخرجه الدارقطني (1/ 220)، والحاكم (1/ 176)، وابن الجوزي (1/ 386) من طريق أبي بلال الأشعري حدثنا أبو شهاب عن هشام بن حسان عن الحسن عن عثمان بن أبي العاص قال:(وقَّت لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، للنفساء في نفاسهن أربعين يومًا) قال الحاكم: وهذه سُنةَّ عزيزة فإن سلم الإسناد من أبي بلال فإنه مرسل صحيح، فإن الحسن لم يسمع من عثمان بن أبي العاص. اهـ.

قلت: لم يسلم، قال الدارقطني عصري الحاكم أبو بلال الأشعري ضعيف.

ومن الشواهد حديث عبد الله بن عمرو بن العاص أخرجه الدارقطني والطبراني في «الأوسط» (1/ 391)، «مجمع البحرين» ، والحاكم (1/ 176)، وابن الجوزي في علله (1/ 386)، وفيه عمرو بن الحصين وابن علاثة أما الأول فتركه الأئمة وأما الثاني فمختلف فيه، وأطلق الدارقطني أنهما متروكان.

ومنها أثر عمر رضي الله عنه، أخرجه الدارقطني وعبد الرزاق، وابن أبي شيبة (17451)، وابن المنذر في «الأوسط» (2/ 249 - 250)، وفيه جابر الجعفي.

ومنها أثر عائشة رضي الله عنها، مرفوعًا أخرجه الدارقطني وابن حبان في «المجروحين» (2/ 130)، وفيه عطاء بن عجلان وهو متروك، ورواه عبد الله بن أحمد في مسائله (ص50) من طريق حبان بن علي عن شيخ قد سماه عن ابن أبي ملكية عن عائشة مرفوعًا، ومن طريق حبان أخرجه الجوزي في علله (1/ 386) وسمى الرجل المبهم عطاء المذكور، ورواه ابن حبان في «المجروحين» (1/ 245 - 246) من حديث حسين بن علوان عن هشام ابن عروة عن أبيه عن عائشة. وحسين كذاب.

ص: 54

ومنها أثر عائذ بن عمرو وهو صحابي رواه الدارقطني وابن أبي شيبة (17449)، وابن المنذر (2/ 249)، وفيها الجلد بن أيوب وهو ضعيف كما في «الجرح» وغيره.

ومنها أثر أبي هريرة وأبي الدرداء رضي الله عنهما، مرفوعًا، أخرجه ابن عدى في كامله (5/ 1861)، وفيه العلاء بن كثير الدمشقي وهو متروك بل نسبه ابن حبان إلى الوضع.

ومنها أثر جابر موقوفًا أخرجه الطبراني في أوسطه (1/ 393)، مجمع البحرين، وفيه أشعت بن سوَّار وهو ضعيف.

ومنها أثر حديث معاذ مرفوعًا أخرجه ابن عدي في «كامله» (6/ 2152)، وفيه محمد بن سعيد المصلوب كذبوه، وصلب على الزندقة.

ومنها أثر ابن عباس رضي الله عنهما، أخرجه الدارمي (1/ 185) وابن أبي شيبة (17454)، وعبد الله بن أحمد في مسائله (ص49)، والبيهقي (1/ 341)، وابن الجارود (ج119)، وابن المنذر (2/ 249) كلهم (سوى ابن الجارود) من طريق أبي عوانة عن أبي بشر عن يوسف ابن ماهك عنه رضي الله عنه، قال: النفساء تنتظر أربعين يومًا أو نحوه، هذا لفظه عند البيهقي، وعبد الله بن أحمد، وابن المنذر، وعند الدارمي قريبًا منه ولفظه:(تتنتظر نحوًا من أربعين يومًا)، وعند ابن أبي شيبة (تجلس النفساء نحوًا من أربعين يومًا)، وعند ابن الجارود من طريق هشيم عن أبي بشر به (تمسك النفساء عن الصلاة أربعين يومًا) هكذا دون قوله أو نحوه، وهذا هو المحفوظ عنه إن شاء الله فإن هشيمًا أحفظ وأثبت من أبي عوانة لمن تأمل ترجمة الرجلين.

ص: 55

قال علي بن حُجر: هشيم في أبر بشر مثل ابن عيينة في «الزهري» ، وقال ابن المبارك من غيَّر الدهر حفظه فلم يغيِّر حفظ هُشيم، وقال عبد الرحمن بن مهدي هشيم أثبت عندي من حفظ أبي عوانة، وكتاب أبي عوانة أثبت من حفظ هشيم، وقال أبو حاتم هو أحفظ من أبي عوانة، ثم لو كان أبو عوانة حدَّث به من كتابه وكان محفوظًا فإن من معاني (نحو) مثل كما في «شرح القاموس التاج» وغيره.

وقد روى البيهقي (1/ 341) من طريق عبد الرحمن بن مهدي عن بشر بن منصور عن ابن جريج عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما، (تنتظر يعني النفساء سبعًا فإن طهرت وإلَّا فأربعة عشر فإن طهرت وإلَّا فواحدة وعشرين، فإن طهرت وإلَّا فأربعين ثم تصلي).

وفي سماع ابن جريج من عكرمة كلام، وكلام ابن عباس في «التحديد بالأربعين» تقدَّم عنه بالإسناد الصحيح فهو محفوظ عنه جدًا وإنما أطلت في هذا الأثر بعض الشيء لأن بعضهم شغَّب في الاستدلال بأثر ابن عباس على التحديد بأربعين لأجل كلمة «نحو» وتقدم الكلام على ذلك ورواية عكرمة عنه شاهد بأن الأربعين دون شك محفوظة، وبكل حال الطريق الأولى في غاية الصحة عن ابن عباس رضي الله عنهما، ومثله لا يُقال بالرأي، ولا يُعلم أحدٌ من الصحابة مخالف ولهذا قال الترمذي في سننه: وقد أجمع أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، والتابعين ومن بعدهم على أن النفساء تدع الصلاة أربعين يومًا، إلَّا أن ترى الطهر قبل ذلك، فإنها تغتسل وتصلي، فإن رأت الدم بعد الأربعين فإن أكثر أهل العلم قالوا: لا تدع الصلاة بعد الأربعين، وهو قول أكثر الفقهاء.

ونقل الإجماع أيضًا أبو عبيد القاسم بن سلَّام، وقال إسحاق هو السنة المجمع عليها.

وقال ابن عبد البر في «الاستذكار» (3/ 250): التحديد في هذا ضعيف؛ لأنه

ص: 56

لا يصح إلَّا بتوقيف، وليس في مسألة أكثر النفاس موضع للإتباع والتقليد إلَّا من قال بالأربعين، فإنهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا مخالف لهم منهم، وسائر الأقوال جاءت عن غيرهم ولا يجوز عندنا الخلاف عليهم بغيرهم؛ لأن إجماع الصحابة حجة على من بعدهم، والنفس تسكن إليهم، فأين المهرب عنهم دون سُنَّة ولا أصل؟ وبالله التوفيق. اهـ.

وهو كلام متين من حافظ المغرب وإمامه رحمه الله، فإذا ضممت هذا الإجماع إلى قول ابن عباس إلى حديث مُسَّة عن أم سلمة إلى أثر عثمان بن أبي العاص علمت الحق في ذلك.

قال العيني في «شرح الهداية» (1/ 699) في أحاديث الباب: وهذه الأحاديث يسند بعضها بعضًا هي حجة على الشافعي

إلخ، وقال ابن الهمام في «فتح القدير» (66/ 1) عن أحاديث التحديد بأربعين: وروي هذا من عدة طرق لم تخل عن الطعن لكنه يرتفع بكثرتها إلى الحسن.

وقال الشوكاني في «نيل الأوطار» (1/ 283): والأدلة الدالة على أن أكثر النفاس أربعون يومًا متعاضدة بالغة إلى حد الصلاحية والاعتبار فالمصير إليها متعيِّن، وفي «السيل الجرار» له (1/ 150) قال:(قد تعاضدت الأحاديث الواردة في الأربعين).

قلت: سبق تصحيح الحاكم لحديث أم سلمة، وقد حسنه النووي في «المجموع» (2/ 541)، وردَّ على تضعيف فقهاء الشافعية له بقوله: (واعتمد أكثر أصحابنا جوابًا آخر وهو تضعيف الحديث، وهذا الجواب مردود بل الحديث جيد كما سبق

).

وكذا حسَّنه ابن الملقن في «البدر المنير» وتقدم، أما العلة الرابعة التي أوردت على هذه الآثار: حملها على الغالب لأن النفاس، وجد في الحس أكثر من

ص: 57

أربعين

وأجيب بأنه خلاف ظاهر الحديث، فإنه يفيد أن المرأة تجلس في نفاسها أربعين يومًا إلَّا أن ترى الطهر قبل ذلك ولا تتجاوز الأربعين، ولهذا قال المجد أبو البركات في «المنتقى» (1/ 184) ومعنى الحديث: كانت تؤمر أن تجلس إلى الأربعين؛ لئلا يكون الخبر كذبًا إذ لا يمكن أن تتفق عادة نساء عصر في نفاس أو حيض. اهـ.

وبهذا يعلم أن دم النفاس حدَّه أربعون يومًا، وأن من قال بالزيادة لا دليل لديه، ولهذا قال الطحاوي ولم يقل بالستين أحد من الصحابة، وقال ابن حزم في «المحلى» (2/ 203) (فأما من حدَّ بالستين فما نعلم لهم حجة) وكذلك من حدَّ أكثره بأقل من الأربعين لا حجة له كابن حزم فإنه قال:(فأما أكثره فسبعة أيام لا مزيد.!).

وقال معللًا ذلك: (فلما لم يأت في أكثر مدة النفاس نص قرءان ولا سنة وكان الله تعالى قد فرض عليها الصلاة والصيام بيقين وأباح وطأها لزوجها لم يجزلها أن تمتنع من ذلك إلا حيث تمتنع بدم الحيض لأنه دم حيض).

وحكاية هذا مع علمك بما تقدم كافية عن الرَّدّ.

واعلم بعد هذا كله أن الدم قد ينقطع قبل الأربعين ولا يعود قبلها أو يعود، أو ينقطع بتمام الأربعين أو يزيد فهذه أربعة أحوال وهاك تفصيلها:

1 -

أن ينقطع دم النفاس قبل تمام الأربعين ولا يعود بعد ذلك فمتى انقطع دمها اغتسلت وصلت وصامت ولزوجها أن يطأها.

2 -

أن ينقطع دمها قبل تمام الأربعين فكما تقدم تغتسل وتصلي وتصوم ولزوجها غشيانها فإن عاد في الأربعين دمها فهو نفاس تجلسه وتدع الصلاة والصيام.

ص: 58

3 -

وإن انقطع بتمام الأربعين، فقد ذهب نفاسها وهي بعد الأربعين في عداد الطاهرات فتصلي وتصوم.

4 -

إن زاد الدم على الأربعين (والأربعون حد شرعي للنفاس كما قررنا) فإن ما بعد الأربعين فهو حيض ليس دم نفاس فتنتظر عادتها فإن وافقت أيامها بعد الأربعين فهو حيض تجلسه وإن لم توافق عادتها ما بعد الأربعين فإن ما بعد الأربعين والحال هذه دم استحاضة وحينئذٍ تغتسل عند تمام الأربعين، وتصلي وتصوم ولزوجها غشيانها، وتفعل ما تفعل المستحاضة من التلجُّم والتحفظ والوضوء بعد دخول الوقت كما هو مقرر في موضعه من كتب الحديث والفقه.

وختامًا أقول إن أهل العلم أثبتوا أحكامًا كثيرة في مواضع مختلفة من أبواب العلم لم تصل الآثار في قوتها ما وصلت إليه الآثار في مسألتنا هذه، مع ما في الأخذ بهذا القول من التسهيل والوضوح لدى المكلفات، ولم أرد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله.

وصلى الله ومسلم على خير خلقه وخليله ومجتباه

وكان الفراغ منه في ربيع الأول 1416هـ.

ص: 59