المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

وقوله: (كَانَ بَعْضُ مَنْ مَضَى) عياضٌ: هو عباسُ بن عبد - التوضيح في شرح مختصر ابن الحاجب - جـ ١

[خليل بن إسحاق الجندي]

الفصل: وقوله: (كَانَ بَعْضُ مَنْ مَضَى) عياضٌ: هو عباسُ بن عبد

وقوله: (كَانَ بَعْضُ مَنْ مَضَى) عياضٌ: هو عباسُ بن عبد الله بن سعيد بن العباس بن عبد المطلب، بباء موحدة وسين مهملة. والشيوخُ يقولون: عياش. وهو خطأٌ. والْمَشْهُورِ أن مُدَّ هشام مُدٌّ وثلثان بِمُدِّهِ صلى الله عليه وسلم.

‌الاسْتِنْجَاءُ

آدَابُهُ الإِبْعَادُ وَالسَّتْرُ

(الإِبْعَادُ) عن أعين الناس، بحيث لا يسمع له صوت وَلا يُرَى له شخص.

(وَالسَّتْرُ) أي عن أعين الناس.

ابن عبد السلام: ولو استغنى بالسترِ عن الإبعادِ لكان كافياً.

خليل: وفيه نظر؛ لأن الإنسان قد يستتر بجدارٍ، وَلا يكون بعيداً.

وَاتِّقَاءُ الْجِحَرَةِ

(الْجِحَرَةِ) جمعُ جُحْرٍ، لما قد يخرج مِنها مِن الهوامِّ فيؤذيه. وقال ابن حبيب في النوادر: ويكره أن يبول في المَهْواةِ، وَلْيَبُلْ دونها فيجرى البولُ إليها، وذلك مِن ناحية الجانِّ ومساكنِها. ابن عبد السلام: وكان ذلك سببَ موتِ سعدِ بن عُبادة رضي الله عنه.

وقال سيدى أبو عبد الله ابنُ الحاجِّ: وعلى التعليل الأوَّلِ، فاختُلف إذا بَعُدَ عنها، فكُرِهَ مِنْ خِيفَةِ حشراتٍ تَنبعثُ إليه مِن الكُوَّةِ. وقيل: يُباحُ لِبُعْدِه عن الحشرات.

وَالْمَلاعِنِ كَالطُّرُقِ وَالظُّلالِ وَالشَّاطِئ وَالْمَاءِ الرَّاكِدِ

(الْمَلاعِنِ) جمع مَلْعَنَةٍ. وروى أبو داود، وابم ماجه، عن أبى سعيد الحِمْيَرِيِّ المصريِّ، عن معاذ بن جبَلْ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اتَّقُوا الْمَلَاعِنَ الثَّلَاثَ الْبِرَازَ فِي الْمَوَارِدِ وَقَارِعَةِ الطَّرِيقِ وَالظِّلِّ)).

وسُمِّيَتْ بذلك؛ لأنَّ الناسَ يأتون إليها فيَجِدُونَ العَذِرَةَ هنالك، فيَلْعَنُونَ فاعِلَها.

ص: 128

وَإِعْدَادُ الْمُزِيلِ

أي: مِن حَجَرٍ أو ماءٍ.

والذِّكْرِ قَبْلَ مَوْضِعِهِ، وَفِيهِ إِنْ كَانَ غَيْرَ مُعَدٍّ لَهُ. وَفِي جَوَازِه فِي الْمُعَدِّ قَوْلانِ كَالاسْتِنْجَاءِ بِخَاتَمٍ فِيهِ ذِكْرٌ

مرادُه بالذِّكْرِ ما في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يَقول عند الدخولِ إلى الخلاءِ: ((اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الخُبُثِ وَالْخبَائِثِ)) الرِّجْسِ النَّجِسِ، الشيطانِ الرجيمِ.

فقوله: (قَبْلْ مَوْضِعِهِ) أي: قبل موضِعِ الحَدَثِ.

وقوله: (وَفِيهِ إِنْ كَانَ غَيْرَ مُعَدٍّ لَهُ) أي: ويَذكر في المحل إِنْ كان غيرَ مُعَدٍّ لقضاء الحاجة، (وَفِي جَوَازِهِ فِي الْمُعَدِّ قَوْلانِ) ثم شبه الخلاف فيه بمسألة الاستنجاء بالخاتم فيه ذِكْرُ الله تعالى، والمعروفُ في الخاتَمِ المنعُ، والروايةُ بالجوازِ منكرةٌ. ثم المنعُ في الخاتم أقوى مِن الذِّكْرِ لِمُلامَسَةِ النجاسةِ له.

وَالْجُلُوسُ، وَإِدَامَةُ السَّتْرِ إِلَيْهِ، وَلا بَاسَ بِالْقِيَامِ إِنْ كَانَ الْمَكَانُ رَخْواً

أي: الأفضل الجلوس. ويجوز القيام، وقد وَرَدَ في الحديث أن النبى صلى الله عليه وسلم:((أَتَى سُبَاطَةَ قَوْمٍ فَبَالَ قَائِماً)). رواه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذى.

وأنكرتْ ذلك عائشةُ رضي الله عنها وقالت: مَن حدَّثكم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يَبول قائماً فلا تُصَدِّقُوهُ، ما كان يبول إِلَّا قاعِداً. وكأنها –والله أعلم- أنكرتْ ذلك للغالبِ مِن فِعْلِه صلى الله عليه وسلم.

قال مجاهد: ما بَالَ قَطُّ قائماً إلا مَرَّةً واحدةً.

ص: 129

وقال الخَطَّابِيُّ: إنما فَعَلَ ذلك لِعِلَّةٍ به لم يَقْدِرْ على الجلوسِ معها، وكانت العربُ تَستشفي به مِن وَجَعِ الصُّلْبِ؛ ولذلك قال بعضُهم: بَوْلَة في الحمَّامِ قائماً خَيْرٌ من فِصَادَةٍ. وقيل: إنما فَعَلَه النبيُّ صلى الله عليه وسلم لقُرْبِ الناسِ منه، والبولُ قائماً يُؤْمَنُ معه خروجُ الصوتِ. وقيل: إنّما فَعَلَه لأنه خاف متى جَلَسَ أن يكون في السباطةِ نجاسةٌ فيَتَنَجَّسُ ثوبُه.

وقوله: (وَإِدَامَةُ السَّتْرِ إِلَيْهِ) أي: فيُستحبُّ أن يُدِيمَ السترَ إلى الجلوسِ؛ لأنه أَبْلَغُ في السترِ.

وقوله: (وَلا بَاسَ بِالْقِيَامِ إِنْ كَانَ الْمَكَانُ رَخْواً) مُقَيَّدٌ بالبولِ، أما الغائطُ فلا يجوز إلا جالساً.

وقد قسَّم بعضُهم موضعَ البولِ على أربعةِ أقسامٍ: إن كان طاهراً رِخْواً جاز القيامُ، والجلوسُ أَوْلَى لأنه أسترُ.

وإن كان صَلْباً نجساً تَنَحَّى عنه إلى غَيْرِه.

وإن كان طاهِراً صَلْباً [21/أ] تَعَيَّنَ الجلوسُ.

وإن كان نَجِساً رِخواً بال قائماً؛ مخافةَ أن تَتَنَجَّسَ ثيابُه.

وَلا يَتَكَلَّمُ

قالوا: إلا إِذا خَشِيَ فَوَاتَ مالٍ أو نَفْسٍ.

وَلا يَسْتَقْبِلُ الْقِبلَةَ وَلا يَسْتَدْبِرُهَا إِلا لِمِرْحَاضٍ مُلْجَأً إِلَيْهِ بسَاتِرٍ أَوْ غَيْرِهِ

لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا تَسْتَقْبِلُوا القِبْلَةَ ولا تَسْتَدْبِرُوهَا لِغَائِطٍ أو بَوْلٍ، ولكِنْ شَرِّقُوا أَوْ غَرِّبُوا" أخرجه البخاري ومسلم.

ص: 130

وخُصَّ قولُه صلى الله عليه وسلم: "شَرِّقُوا أَوْ غَرِّبُوا" بِمَن لم تكن قِبلتهم في المَشْرِقِ ولا في المَغْرِبِ.

قال في التهذيب: ولا يُكره استقبالُ القِبلةِ ولا استدبارُها لبولٍ أو غائطٍ أو مُجامَعَةٍ إلا في الفَلَواتِ، وأمَّا في المدائنِ والقُرَى، والمراحيضِ التي على السُّطوحِ فلا بأسَ به، وإن كانت تَلِي القبلةَ. وظاهرُه جوازُ الاستقبالِ في الكَنِيفِ، وإن لم تَكن مشقةٌ بدليل جوازِ المجامعةِ ولا ضرورةَ فيها. قاله اللخميّ وابنُ رشد وعياضٌ وسندٌ. وهذا كله مخالِفٌ لمفهومِ كلامِ المصنفِ؛ لأن مفهوم قوله (مُلْجَأ) أنه لو لم يكن ملجَأً، وأمكنه الانحرافُ، أنه لا يجوز حينئذٌ الاستقبالُ ولا الاستدبارُ. نَعَمْ يُوافِقُ كلامَ المصنفِ- على نظرٍ فيه- ما في الواضحة والمختصر أنه يَجوز الاستقبالُ والاستدبارُ في الكَنِيفِ مع المشقةِ.

وقد يُقال: ليس مرادُ المصنف ذلك بذكر الملجَإِ أنه لا يجوز في غيرِ الملجأ، بل أراد التنبيه على عِلَّةِ الجوازِ في المراحيضِ، وهو عُسْرُ التَّحوُّلِ.

سندٌ: وظاهرُ قوله فيها: والمراحيض التي على السطوحِ. الجوازُ، وإن لم يكن ساترٌ، وعلى ذلك حَمَلَه في تهذيب الطالب، ونقل أبو الحسن تأويلاً آخر: أن ما في المدونة مَحمولٌ على السَّاتِرِ. وقال ابن بشير: الموضعُ إن كان لا مراحيضَ فيه ولا ساترَ فلا يَجوز فيه الاستقبالُ ولا الاستدبارُ، أو تكون فيه المراحيضُ والساترُ فيجلس بحسب ما تقتضيه المراحيضُ، أو يكون ذا مراحيضَ ولا ساترَ فيجلس بحسب ما تقتضيه المراحيضُ أيضاً للضرورة، أو يكون ذا ساترٍ ولا مراحيضَ ففي المذهب قولان.

وسبب الخلاف: هل العِلَّةُ المُصَلُّونَ فيجوزُ بالساتِرِ، أو القِبْلَةُ فلا يجوز أصلاً؟

قال اللخمي: وعلَى مَن أَحَبَّ بناءَ ذلك أن يجعلَه إلى غيرِ القِبلةِ إلا أن لا يتيسرَ له ذلك.

وقوله: (بِسَاتِرٍ) متعلق بمحذوف، أي: كان ساتراً أو غ يره.

ص: 131

فَإِنْ كَانَ سَاتِراً فَقَوْلانِ تَحْتَمِلُهُمَا بِنَاءً عَلَى الْحُرْمَةَ لِلْمُصَلِّينَ أَوْ لِلْقِبْلَةِ

أي: إن كان ساتراً في غيرِ المراحيضِ- كالصحراء- ففي الجوازِ وعدمِه قولان، وتحتمل المدونةُ القولين، وقد قدّمنا نصَّ التهذيب، وهو محتملٌ للقولين كما ذكر المصنف. ومنشأُ الخلافِ هل المنعُ للمُصَلِّينَ، أي لئلا يَنظره بعضُ مَن يُصلي للقبلة؟ فإذا حَصَلَ ساترٌ جَازَ للأَمْنِ مِن عِلَّةِ المنعِ، أو المنعُ لأجْلِ حُرمِة القِبلة، وهي حاصلةٌ سواءٌ أكانَ ثَمَّةَ حائلٌ أم لا.

وَالْمَشْهُورِ: وَالْوَطْءُ كَذَلِكَ، بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ لِلْعَوْرَةِ أَوْ لِلْخَارِجِ

كذا في بعض النُّسِخِ، وفي بعضها:(والوطءُ) بحذف (الْمَشْهُورِ) وعليهما- معاً- فالوطءُ مبتدأٌ خبرُه محذوف، أي: والوطءُ كقضاءِ الحاجةِ.

ومقابِلُ الْمَشْهُورِ جوازُه مطلقاً، كذلك في الجواهر.

والْمَشْهُورُ ومقابلُه تأويلان على المدونة، ويبين لك هذا ما وَقَعَ في بعضِ النُّسَخِ:(والمشهور أن الوطء كذلك) ورأينا أن نَذْكُرَ لفظَ المدونة؛ لأن أبا سعيدٍ لم يَنْقُلْه على الوجهِ المرتضَى، فإنه حَذَفَ المحلَّ الذي أَخَذَ منه الأشياخُ، ولم يُبْقِ للتأويلِ محلاً. وقد قدَّمنا لفظَ أبي سعيد في المسألة التي قَبْلَ هذه. ثم نذكر كلامَ الأشياخِ ليتبين لك ما شَهَّرَه المصنفُ وغيرُه، وتَتَّضِحُ المسألةُ.

ولفظُ المدونةِ: قلتُ: أَيُجامعُ الرجلُ امرأتَه مستقبلَ القبلةِ في قولِ مالكٍ؟ قال: لا أحفظُ عن مالكٍ في هذا شيئاً، وأرى أنه لا بأٍ بذلك؛ لأنه لا يرى بالمراحيض في المدائنِ والقُرَى بَاساً وإن كانت مستقبلةَ القبلةِ.

ص: 132

قال ابن بشير: لقد تعلّق بعضُ الأشياخِ باللفظِ الأولِ فأجازوه مطلقاً، وتعلّق آخرون بالتشبيه فأَلْحَقُوه بالحَدَثِ. انتهى.

وكذلك ذَكر أبو الحسن الصغير هذا الكلامَ بعينِه. ونقل التأويل الثاني عن القابسي، وهو الذي شَهره المصنفُ، وهو الظاهر؛ لأن فيه اعتبارَ مجموعِ كلامِ ابن القاسم.

وأما التأويلُ الأولُ فينظر فيه إلى أولِ الكلام فقط، وهو لا ينبغي، وكان عبد الوهاب يَذهب إلى حَمْلِ المدونةِ على الجوازِ مطلقاً، فإنه قال: والجوازُ مذهبُ ابنِ القاسمِ، قال: وكَرِهه ابنُ حبيب. وحكى ابنُ سابق عن ابنِ حبيب أنه قال: لا يجوزُ في صحراءَ، ولا بنيانٍ. فعَبَّرَ عنه بعدمِ الجوازِ وعمّم المنعَ، فيحتمل أن يكونَ أَطلقَ المنع وأرادَ به الكراهةَ، ويحتمل أن يكون أرادَ المنعَ حقيقةً، ويكون قولُ ابنِ حبيب اخْتَلَفَ بالمنعِ والكراهةِ، والجمعُ بين قوليه أَولى.

وقوله: (بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ لِلْعَوْرَةِ أَوْ لِلْخَارِجِ) بناء صحيح، أي: إذا قلنا: إِنَّ المنعَ لأجل العورةِ استدبر، وإن قلنا للخارج جَاز الوطءُ مطلقاً؛ إِذْ لا خارِجَ، وهذا أحسن ما يحمل كلام المصنف عليه، والله أعلم.

ابن هارون: وجعلَ ابنُ عتاب محلَّ الخلاف إذا كانا منكشفين، قال: وأما إن كانا مستورين جاز في البيان وغيرِه. وفيه نظرٌ.

فرعان:

الأول: قال صاحب الطراز: ولا يُكره استقبالُ بيتِ المقدس؛ لأنه ليس بقِبلةٍ.

الثاني: يَجوز عندنا استقبالُ الشمسِ والقمرِ لعَدَمِ ورود النهيِ عنه. كذا قال ابن هارون. [21/ب].

ص: 133

وقال سيدي أبو عبد الله بن الحاج في ذكره آدابَ الاستنجاء: الثامنةُ منها: أن لا يَستقبلَ الشمسَ والقمرَ؛ فإنه وَرَدَ أنهما يَلعنانه. ومقتضى كلامِه أنه في المذهب، فإنه قال أولاً: قد ذكر علماؤنا- رحمهم الله تعالى- آدابَ التصرفِ في ذلك.

وَيُسْتَنْجَى مِمَّا عَدَا الرِّيحَ

قوله: (مِمَّا عَدَا الرِّيحَ) لا يخلو إما أن يُريد مِن الناقضِ أو مِن الخارج، والأولُ لا يصحُّ؛ لأنَّ مِن النواقضِ ما لا يُستنجى منه كالمَسِّ، وإِن أراد الخارجَ فليس على عمومِه، إِذْ منه ما لا يُستنجى منه كالحَصَى والدَّمِ والدُّودِ- على ما سيأتي إن شاء الله تعالى- فيُجْعَلُ الخارج صفةً لمحذوفِ، أي: مِن الحدثِ الخارجِ.

والحاصلُ أنه يُستنجى مِن جميعِ الأَحْدَاثِ إلا الريحَ، وزاد بعضُهم في المستثنى الصوتَ. قال بعضهم: وما أظن يَخرج بغيرِ ريحٍ.

وقوله: (مِمَّا عَدَا الرِّيحَ) أي: مِن الخارج مِن السبيلين، وفيه تنبيهٌ على مَن شَذَّ فَأَمَرَ بالاستنجاء مِن الريحِ. وقد ورد عنه عليه الصلاة والسلام:"ليسَ مِنَّا مَنِ اسْتَنْجَى مِنَ الرِّيحِ". أي: ليس على سُنَّتِنَا. رواه الحافظ أبو بكر الخطيب في كتاب المتفق والمفترق في ترجمة محمد بن زياد الكلبي.

وَيَكْفِي الْمَاءُ باتِّفَاقٍ وَالأَحْجَارُ وَجَوَاهِرُ الأَرْضِ، وَقَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: إِنْ عُدِمَ الْمَاءُ

لا خلافَ في المذهب- كما قال- أنَّ الماءَ يَكفي، وهو أفضلُ مِن الأحجارِ. وقولُ ابنِ المسَيّبِ: إنما ذلك وُضوءُ النساءِ. أي: الماءُ يَختصّ بالنساء؛ لتعذر الاستجمار في حَقِّهِنَّ عند البولِ- يُحْمَلُ على أَنَّه قال ذلك في مقابلةٍ مَن أنكر الاستجمارَ بالأحجارِ، فبَالَغَ في إنكارِه بهذه الصيغةِ ليمنعَه مِن الغُلُوِّ، وإن لم يُحْمَلْ على ما ذكرناه فهو مُشْكِلٌ؛ لحديث الإِدَاوَةِ خَرَّجَه الصحيحان، ولفظه: كان رسول الله صلى الله عليه يَدْخُلُ الخلاءَ، فأحْمِلُ أنا وغلامٌ نَحْوِي إِدَاوَةً مِن مَاءٍ وعَنَزَةً فَيَسْتَنْجِي بالماءِ.

ص: 134

وفي المدونة فيه: فأَخَذَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم الإدَاوَةَ مِنِّي وقال: "تَأَخَّرْ عَنِّي" فَفَعَلْتُ، فاسْتَنْجَى بالماءِ.

وروى النسائي والترمذي، وصححه عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: مُرْنَ أَزْوَاجَكُنَّ أَنْ يَسْتَطِيبُوا بالماءِ- فإني أَسْتَحِي منهم- لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يَفعله.

وقال المفسرون في قوله تعالى: {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} [التوبة: 108] أنها نزلت في أهل قُباءٍ، وأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم سألهم عن الطهارةِ فأخبروه أنهم يَسْتَنْجُونَ بالماءِ.

وأما قوله: (وَالأَحْجَارُ وَجَوَاهِرُ الأَرْضِ) فيعني: وتَكفي الأحجارُ وجواهرُ الأرض، أي: ما عليها مِن تراب وغيرِه. والجوهرُ عند الأصوليين موضعٌ لكل مُتَحَيِّزٍ.

وقال ابن حبيب: لا تُبَاحُ الأحجارُ إلا لمن عَدِمَ الماءَ. وتأوَّلَه الباجر على الاستحبابِ، قال: وإِلَاّ فهو خلافُ الإجماعِ، والْمَشْهُورِ أظهرُ لعمومِ الأحاديثِ في الاستجمارِ. والأحجارُ عطفٌ على الماءِ، ولا يَلزم أن يكون متفقاً عليه؛ لأن الواو إنما تُشَرِّكُ في الإعرابِ ومُطْلَقِ الحُكْمِ لا في التقييد بالمجرورِ والحالِ والصفةِ، أو نجعل الأحجارَ مبتدأ وخبرُه محذوفٌ، أي: والأحجارُ كافيةٌ. وليس قوله: (تكفي الأحجار) على عمومه؛ إذ الأحجارُ غيرُ كافية في المني والمذي.

وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا أَوْلَى

لا خلاف في ذلك.

ص: 135

فَإِنِ انْتَشَرَ فَالْمَاءُ بِاتِّفَاقس، فَإِنْ كَانَ قَرِيباً جِدّاً فَقَوْلانِ

أي: فإِنِ انْتَشَرَتِ النجاسةُ على أَحَدِ المَخْرَجَيْنِ كثيراً فلا يُجزئُ فيها الاستجمارُ، وإن كان قريباً جدّاً فقولان.

ابن رشد: مبنيان على الخلاف فيما قَرُبَ مِنَ الشيءِ هَلْ يُعْطَى حُكمُه أم لا؟ وهذه القاعدةُ كثيراً ما يذكرُها الفقهاءُ، ولم أَجِدْ دليلاً يَشهد لِعَيْنِها. فأمّا إعطاؤه حكمَ نفسِه فهو الأصلُ، وأما إعطاؤه حكمَ ما قارَبَهُ فإن كان مما لا يَتِمُّ إلا به فهو واجبٌ، كإمساكِ جزءٍ من الليل فهذا مُتَّجِهٌ، وإن كان على خلافِ ذلك فقد يُحتجُّ له بحديث:"مَوْلَى القَوْمِ مِنْهُمْ" وبقوله صلى الله عليه وسلم: "المَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ". انتهى.

وقوله: (قَرِيباً جِدّاً) أَحْسَنُ مِن قول ابن الجلاب: وما قارَبَ المخْرَجَ مما لا بُدَّ منه، ولا انْفِكَاكَ عنه- فَحُكْمُه- عندي في العفوِ- حُكْمُ المَخْرَجَيْنِ. وقال ابن عطاء الله: هو في العفوِ بخلافِه؛ لأنه إذا لم يُمْكِنُ الانفكاكُ عنه يلزمُ- على قولِ ابن عبد الحكم- تَرْكُ الاستجمارِ بالكُلِّيَّةِ.

وَالْمَنِيُّ بِالْمَاءِ

ابن عبد السلام: إن عَنَي به منيَّ الصِّحَّةِ- غيرَ مَنِيِّ صاحبِ السَّلَسِ- فغيرُ محتاجٍ إليه هنا؛ لا يجابِه غَسْلَ جميعِ الجسدِ، وإن عَنَى به منيَّ المَرَضِ- كمَنِيِّ صاحبِ السَّلَسِ- فلمَ لا يَكونُ كالبولِ على قولِ مَن رَأَى أنه مُوجِبٌ للوضوء؟ وقد يمكن أن يُريد القسم الأول في حق مَن كان فرضُه التيممَ لمرضٍ أو لعدمِ ماءٍ، ومعه ما يُزيل به النجاسةَ فقط.

ابنُ هارون: وكذلك دمُ الحيض والنفاس، فلا معنى لتخصيص المنيِّ بذلك. وأشار القاضي عياضٌ إلى أن البولَ مِن المرأة لا بُدَّ فيه أيضاً مِن الماء؛ لتعذر الاستجتمارِ في حقَّها وكذلك قال سندٌ أن المرأةَ والخصيَّ لا يكفيهما الاستجمارُ في البول، ونقله في الذخبرة.

ص: 136

وَالْمَذْيُ مِثْلُهُ عَلَى الْمَشْهُورِ

أي: فيتعين له الماءُ؛ لأَمْرِه صلى الله عليه وسلم بغسل الذَّكَرِ منه- خرجه في الصحيحين- وعليه حَمَلَ العراقيون قولَ الإمامِ: والمذي عندنا أشدُّ مِن الودي. لا على ما حَمَلَه المغاربةُ مِن أنه يَجِبُ منه غَسلُ جميعِ الذَّكر.

ووجهُ الشاذِّ أنه خارجٌ يَنقض الوضوءَ، فجاز الاستجمارُ منه كسائِرِ الأَحْداثِ.

وَفِي مَغْسُولِهِ قَوْلانِ تَحْتَمِلُهُمَا: جَمِيعُ الذِّكْرِ لِلْمَغَارِبَةِ، فَفِي النِّيَّةِ قَوْلانِ، وَمَوْضِعُ الأَذَى لِغَيْرِهمْ فَلا نِيَّةَ ....

الضمير في (مغسلوه)[22/ أ] يَعود على صاحبِ المذي، يَدُلُّ عليه السياقُ، ويَجوز أن يعود على المذي، أي: وفي المغسول له أو من أجله. وفي هذا الثاني نظر.

ووجهُ احتمال المدونة للقولين؛ لأنه قال فيها: والمذي عندنا أشدُّ من الودي؛ لأن الفرجَ يُغسل عندنا من المذي، والوديُ عندنا بمنزلة البول.

فقوله: (مع غسل الفرج) يحتمل أن يريد جميعَ الفرج أو بعضَه، وهو محلُّ الأذى منه، فهذا وجهُ احتمالِها للقولين. فإن قلتَ على احتمالِ غسلِ محلِّ الأذى فهو مساوٍ للودي في ذلك، فما وجهُ الأَشَدِّيَّةِ؟ فجوابه أن الودي يُجزئ فيه الاستجمارُ بخلاف المذي. والاحتمالُ الأولُ أظهرُ لحَمْلِ اللفظِ على حقيقتِه؛ ولأنه وقع في بعض نُسَخِ التهذيبِ: مع غَسل الذَّكَرِ كُلِّه. وهي على هذا لا تَحتمل إلا الاحتمالَ الأولَ، لكن قال أبو إبراهيم: ليس في الأمهات لفظة (كله) ونقلها بعضُ الشيوخِ، وأنكرها البغداديون. وبنى ابنُ بشير القولين على اختلافِ الأصوليين في الأَخْذِ بأوائلِ الأسماء أو بأواخرها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أَمَرَه بغَسْلِ الفرجِ، والفرجُ له أولٌ وآخرٌ.

ص: 137

ابن راشد: ووَهِمَ، فإنّ الخلافَ إنما هو في الاسم الذي له مراتبُ يُطلق على كلِّ واحد منها بطريقِ الحقيقةِ كلفظةِ الدراهمِ في حقِّ مَنْ أَقَرَّ لشخصٍ بدراهمَ مثلاً، وأما ما له حقيقةٌ ويُطلق على البعض بطريقِ المجاز- فلا خلافَ فيه؛ لأن الأصلَ الحقيقةُ، وإنما مستندُ العراقيين القياسُ على البولِ.

ثم الظاهرُ- على قول المغاربة- وجوبُ النية لظهور التعبد، وهو قول أبي العباس الإِبِّيَانِيّ، قال: وإن تَرَكَ النيةَ أعاد الصلاةَ. وقال ابن أبي زيد: لا يَفْتَقِرُ إلى نية؛ لأن المقصود بغسل الجميع قطعُ مادَّتِه.

قال بعضُ المتأخرين: وينبغي أن يكون غَسل المذي مقارِناً للوضوءِ، ورأى أنَّ غسلَه لما كان تعبداً أَشْبَهَ بعضَ أعضاءِ الوضوء.

واختُلف في بطلانِ صلاةِ مَن تَرَكَ غسلَ جميعِ الذَّكَرِ، فقال يحيى بن عمر: لا يُعيد، ويَغسل ذَكَرَه لما يُستقبل. وقال الإِبِّيَانِيّ: يُعيد أبداً. وأجراه بعضُ المتأخرين على أن غسلَ الجميعِ واجبٌ أو مستحبٌّ.

وَالْجَامِدُ كَالْحَجَرِ عَلَى الْمَشْهُورِ

وضابطُه كلُّ يابسٍ طاهرٍ مُنَقٍّ غيرِ مُؤْذٍ ولا محترمٍ، فاحتُرِزَ باليابس مِن المائعاتِ والخرقِ المبْتَلَّةِ؛ لأن الرطوبةَ تَنشر النجاسةَ، وبالطاهرِ مِن النَّجِسِ، وبمُنَقٍّ من الأَمْلَسِ كالزُّجاجِ، وبغيرِ مؤذٍ من الزُّجاجِ المُحَرَّفِ ونحوِه. وبالمحترمِ مِن جدارِ المسجد والبَعْرِ والرَّوْثِ والعَظْمِ؛ لأنه محترمٌ لحَقِّ الجانِّ. ومِن الذهبِ والفضةِ ونحوِهما لحقِّ الله تعالى. وذَكَرَ في الإكمال عن بعضِ شيوخِه أنه زاد في الشروط أَنْ يكونَ مُنْفَصِلاً؛ احترازاً مِن يَدِ نَفْسِه، لكن ذَكَرَ في الرسالة أنه يَستجمرُ بيدِه، ولفظُه: ثم يَمسحُ ما في المَخْرَجِ مِن الأَذَى بمَدَرٍ أو غيرِه أو بيدِه. وكذلك ذكر سيدي أبو عبد الله بن الحاج أنه قال: إذا عَدِمَ الأحجارَ فلا يَتْرُكُ فضيلةَ الاستجتمارِ، بل يَستجمر بأصبعِه الوسطى بَعْدَ غَسْلِها.

ص: 138

وقاسَ- في الْمَشْهُورِ- كلَّ جامدٍ على الحجرِ؛ لأنَّ القَصْدَ الإنقاءُ، ورأى في القول الأخيرِ أن ذلك رخصةٌ فيُقتصر فيها على ما وَرَدَ. والصحيحُ الأَوَّلُ؛ لأنَّ الرخصةَ في نَفْسِ الفعلِ لا في المفعولِ به، وتعليلُه صلى الله عليه وسلم طرحَه الروثةَ لكونها رِجْساً- تقتضي اعتبارَ غيرِ الحَجَرِ، وإلا لعَلَّلَ بأنها ليستْ بحَجَرٍ. رواه الدارقطني والبخاري.

وروى الدارقطني أنه صلى الله عليه وسلم قال: "إذا قَضَى أَحَدُكُمْ حَاجَتَه فَلْيَسْتَجْمِرْ بثَلاثةِ أَعْوَادٍ، أو بثَلاثَةِ أَحجارٍ، أو ثلاثِ حَثَياتٍ مِنْ تُرَابٍ". ولا دليل له بقوله صلى الله عليه وسلم: "أَوَلا يَجِدُ أَحَدُكُم ثَلاثةَ أَحجارٍ"؛ لأنَّ مفهومَ اللَّقَبِ مردودٌ ولم يَقُلْ به إلا الدَّقَّاق.

وَلا يَجُوزُ بِنَجِسٍ وَلا بِنَفِيسٍ وَلا بأَمْلَسَ وَلا بِذِي حُرْمَةٍ كَطَعَامٍ أَوْ جِدَارِ مَسْجِدٍ أَوْ شَيْءٍ مَكْتُوبٍ ......

لام كانت الأعيانُ ضربين: منها ما يُستجمر به، ومنها ما لا يستجمر به، وكان ما لا يَجوز محصوراً ذَكَرَهُ لِيُعْلَمَ بذلك أنَّ غَيْرَهُ جائِزٌ، كقولِه صلى الله عليه وسلم لما سُئل عمّا يَلبس المُحْرِمُ:"لا يَلبسُ القُمُصَ ولا العمائمَ، ولا السَّرَاوِيلاتِ، ولا البَرَانِسَ، ولا الخِفَافَ". وكفِعْلِ النحويين في قولهم: باب ما لا ينصرف. قال ابن راشد: وذَكَرَ وَصْفَ النفاسةِ تنبيهاً على عِلَّةِ المَنْعِ؛ لأنّ استعمالَها في ذلك تَخْسِيسٌ لها؛ ولأنها أجسامٌ فيها مُلُوسَةٌ فتزيدُ المحَلَّ تَلْطِيخاً. ثم قال: وقول المصنف (بِنَجِسٍ) ليس على إطلاقِه، بل إذا باشر المحلَّ؛ لأنه لو كان في أَحَدِ جَنْبَيْ حَجَرٍ نجاسةٌ، جاز بالجَنْبِ الطاهرِ.

وقوله: (كَطَعَامٍ) يعني: وإنْ كان مِن الأدويةِ والعقاقيرِ. قال في الإكمال: وقد تساهل الناسُ في المَسْحِ بالحِيطانِ، وهو مما لا يَجوزُ فِعْلُه؛ لِتَنْجِيسِها، ولأن للناس ضَرائِرَ في الانضمامِ إليها لا سيما عند نزولِ المطرِ وبَلَلِ الثياب. وهو كلامٌ ظاهرٌ، وعلى هذا فلا يَظهر لتخصيصِ جدارِ المسجدِ إلا الأولويةُ.

ص: 139

وقوله: (أو شىءٍ مكتوبٍ) يريد لحرمة الحروف، وتختلف الحرمة بحسب ما كتب فيه، وفي معنى المكتوب الغير مكتوبٍ لما فيه من النشاء.

وَكَذَلِكَ الرَّوْثُ وَالْعَظْمُ وَالْحُمَمَةُ عَلَى الأَصَحِّ

(الأَصَحِّ) راجعٌ إلى الثلاثة، أما الروثُ والعظمُ فيحتمل أن يُريد بهما إذا كانا طاهِرَين، ويحتمل [22/ب] أن يريد: إذا كانا نجسين يابسين، ويحتمل أن يريد المجموعَ. وقد حكى اللخميُّ في كل منهما قولين، ويكون وجه المنع فى الطاهرين حديثَ البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه حيث قال له:"لا تَاتِنِى بِرَوْثٍ ولا بعَظْمٍ".

وما رواه أبو داوود أنه قَدِمَ وَفْدٌ مِن الجِنِّ على النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا محمد، انهَ أُمَّتَكَ أن يَسْتَنْجُوا بعَظْمٍ أو رَوْثٍ أو حُمَمَةٍ، فإنَّ الله تعالى جَعل لنا فيها رزقاً. فنهى النبيُّ صلى الله عليه وسلم عن ذلك.

قال أبو عبيد: الحُمَمَةُ: الفحمة. وقيل في تَعليل العَظْمِ لأنه لا يُنْقِي لمُلُوسَتِه، وقيل لأنه من المطعوماتِ إِذْ قد يُؤْكَلُ فى الشدائد، وقيل لأنه لا يَعْرَى عن دَسَمٍ فيزيدُ المحلَّ تنجيساً.

ونَقل ابن يونس أن ابن القاسم روى عن مالك أنه كَرِهَ الاستجمارَ بالرَّوْثِ والعَظْمِ.

قال فى البيان: واجمعوا على أنه لا يجوز الاستجمار بما له حُرمة مِن الأطعمةِ، وكل ما فيه رُطوبةٌ من النجاسات.

وأما الحُمَمَةُ فقال المصنفُ: إن الأصحَّ فيها عدمُ الجوازِ. وقال التلمساني: إن ظاهرَ المذهبِ الجوازُ، والنقلُ يُؤيده. قال أشهب فى العتبية: سئل مالك عن الاستنجاء بالعظم والحممة، فقال: ما سمعت فيه نهياً عاماً، ولا أرى به بأساً فى عِلْمِي. وقال اللخمي: اختُلف فى العُودِ، والخِرَقِ، والفَحْمِ، وما أشبه ذلك مما هو طاهرٌ ولا حُرْمَةَ له، ولا يَتعلق

ص: 140

به حقُّ الغَيْرِ، وليس من انواعِ الأرضِ، فروى ابن وهب عن مالك إجازتَه، ومنعه أصبغُ، وقال: إنْ فَعَلَ أَعادَ فى الوقت. يُريد لأن النبى صلى الله عليه وسلم استَعْمَلَ الأحجارَ، وأنّ للأرض تَعَلُّقاً بالطهارة، وهو التيمم. انتهى.

قيل: وإنما مُنِعَتِ الحممة، لأنها تُسَوِّدُ المَحَلَّ، ولا تُزيل النجاسةَ.

فَلَوِ اسَتْجَمَرَ بِنَجِسٍ أَوْ مَا بَعْدَهُ فُفِي إِعَادَتِهِ فِي الْوَقْتِ قَوْلانِ

أى: ما ذَكَرَ بَعْدَ النجسِ مِن ذى الحُرْمَةِ، والروثِ، والقولُ بإعادته في الوقتِ لأصبغَ، والقولُ بعدمِ الإعادة لابن حبيب. قاله صاحب البيان.

ونَقل عن ابن عبد الحكم أنه إن استجمر بما نُهِىَ عنه، أو بحجرٍ واحدٍ فصلاتُه باطلةٌ. ابن عبد السلام: وهو الظاهرُ عندي؛ لأن الاستجمارَ رخصةٌ، فإن لم يأتِ بمحلَّ الرخصةِ بَقِىَ على أصلِ المنعِ كالمصلي بالنجاسة. انتهى. وفيه نظر؛ لأن الرخصةَ إنما هي فى الإزالةِ، لا فى ما يُزال به؛ لأن المقصودَ الإزالةُ وقد حَصَلَتْ. واستُشْكِلَ القولُ بعَدَمِ الإعادةِ في ما إذا استَجْمَرَ بنَجِسٍ، وقد يُقال: هو مبنيٌّ على القول بأنَّ إزالةَ النجاسةِ مستحبةٌ. والله تعالى أعلم.

وَصِفَتُهُ: أَنْ يَسْتَبْرِئَ بِالسَّلْتِ وَالنَّثْرِ الُخَفِيفَيْنِ وَيَغْسِلَ الْيُسْرَى، ثُمَّ مَحَلَّ الْبَوْلِ ثُمَّ الآخَرَ، وَيُوَالِي الصَّبَّ حَتَّى يَنْتَقِيَ، وَلا تَضُرُّ رَائِحَةُ الْيَدِ مَع الإنْقَاءِ

الضمير فى (وَصِفَتُهُ) لا ينبغي أن يَعُودَ على الاستنجاءِ؛ لأن الاستبراءَ ليس صِفَةً له، إذ هو استفراغُ ما فى المَخْرَجَيْنِ، وهو واجِبٌ. وأما الاستنجاءُ فهو مِن بابِ زوالِ النجاسةِ، ولا يَنبغي أن يَعود على الاستبراءِ لما يَلزم على ذلك مِن جعل الاستبراءِ بالسَّلْتِ والنَّتْرِ الخفيفين صفةً للاستبراءِ، وهو لا يَصِحُّ إلا بَتَجُّوزٍ، وعلى هذا فالظاهرُ عَوْدُه على فعِْلِ الفاعلِ الجامعِ للاستبراءِ والاستنجاءِ معاً.

ص: 141

وقوله: (بِالسَّلْتِ وَالنَّثْرِ) مخصوصٌ بالذَّكَرِ، ولا تحديدَ فى المرَّاتِ؛ لأن أمزجةَ الناس مختلفةٌ. وفي السليمانية: إذا استبرأتِ المرأةُ فليس عليها غَسْلُ ما بَطَنَ، وإنما عليها غسلُ ما ظَهَرَ والعاتِقُ والثَّيِّبُ في الوضوءِ واحدٌ.

وقوله: (وَيَغْسِلَ الْيُسْرَى) يحتمل أن ينصب اللام مِن يغسل بالعطف على يستبرئ، ويحتمل أن يرفعَ على الاستئناف. وإنما أَمَرَ بالغَسْلِ لئلا تَعْلَقَ بها الرائحةُ. وهذا أَوْلَى مما قاله ابن أبى زيد مِن غَسل اليدينِ؛ إذ لا مُوجِبَ لغَسْلِ اليُمْنَى، وينبغى أيضاً أن يكتفى بِبَلَلِ اليُسرى، إذ المقصودُ مِن ذلك إنما هو عدمُ تعلُّقِ الرائحةِ باليَدِ، ثم يغسلُ بعدَ غَسلِ يدِه محلَّ البولِ خوفاً مِن أن يصل إليه شيءٌ مِن النجاسة أَن لو بدأ بمحل الغائط.

(ثُمَّ الآخَرَ) أى الدبر (وَيُوَالِي الصَّبَّ) أى مع الاسترخاء (وَلا تَضُرُّ رَائِحَةُ الْيَدِ) لِلْحَرَجِ.

وَفِي الأَحْجَارِ الإِنْقَاءُ، وَفِي تَعْيِينِ ثَلاثَةٍ لِكُلِّ مَخْرَجٍ قَوْلانِ

والمطلوبُ في الأحجار– وما في معناها- الإنقاءُ، وأما الأثرُ فلا يُمكنُ زوالُه، والتقديرُ: والواجبُ أو المطلوبُ الإنقاءُ، فحذفَ المبتدأ.

وقوله: (وَفِي تَعْيِينِ

) إلى آخره، يعني أنه اختُلف في الواجب في الاستجمارِ، والْمَشْهُورِ أنه الإنقاءُ دُونَ العَدَدِ. وقال أبو الفرج وابن شعبان بوجوبِهما، واختاره بعضُهم لقوله صلى الله عليه وسلم حين سُئل عن الاستطابةِ:"أَوَلا يجدُ أحدُكم ثلاثةَ أحجارٍٍ" خَرَّجه في الموطأ.

وهذا خَرَجَ بياناً لأقلّ ما يُجزئ. وقوله صلى الله عليه وسلم: "مَنِ اسْتَجْمَرَ فَلْيُوتِر" خرجه الصحيحان.

ص: 142

وأُجيب بأنَّ الأَوَّلَ إنما يدل على مفهومِ العَدَدِ، ويُمْنَعُ، ولو سُلَّمَ فإنما ذلك ما لم تعارِضْه دلالةُ المنطوقِ، وقد روى أبو داوود "ومَن استجمرَ فليُوتِرْ، من فَعَلَ فقد أَحْسَنَ، ومَنْ تَرَكَ فلا حَرَجَ". وعن الثانى بأنه محمولٌ على الندبِ جمعاً بين الأَدِلَّةِ.

وعلى الْمَشْهُورِ: فهل يُطلب الوِتْرُ؟

ابن هارون: لم نرَ لأصحابِنا فيه [23/أ] نصّاً، والذى سمعتُ قديماً في المذاكرات أنه يُطْلَبُ الوترُ إلى السَّبْعِ، فإِنْ لم يُنْقِ بها لم يَطلب إلا الإنقاءَ فيما زاد من غيرِ مراعاةِ وِتْرٍ قياساً على غَسْلِ الإناء مِن ولوغ الكلب.

وقوله: (لِكُلِّ مَخْرَجٍ) ابن هارون: يحتمل أن يكون المعنى: ففي تعيينِ ثلاثةٍ أَوْ لا قولان، ويكون القولُ بعدم التعيين يُكتفى فيه بالحجرِ الواحدِ، وهو الْمَشْهُورِ، ويكون مقابلُ الْمَشْهُورِ –على هذا الاحتمال- قولَ ابن شعبان، وهو ظاهرُ لفظِه، ويحتمل أن يكونَ قَصَدَ ذِكْرَ الخلافِ فى تعيينِ ثلاثةٍ لكلِّ مخرجٍ، أو الاكتفاءِ بثلاثةٍ لهما معاً، وقد ذكر ابن بشير هذين القولين.

وَعَلَى تَعْيينِها فَفِي حَجَرٍ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ قَوْلانِ. وَفِي إِمْرَارِهَا عَلَى جَمِيعِ الْمَوْضِعِ أَوْ لِكُلِّ جِهَةٍ وَاحِدٌ وَالثَّالِثُ لِلْوَسَطِ قَوْلانِ ....

بناءً على الوقوفِ مع ظاهرِ اللفظِ، أو لأن المقصودَ مِن الثلاثةِ حاصلٌ، والأحسنُ أن لو قال: ثلاثة رؤوس؛ لأن الشُّعْبَةُ ما بين الرأسين.

وقوله: (وَفِي إِمْرَارِهَا عَلَى جَمِيعِ الْمَوْضِعِ) الخلافُ في ذلك راجعٌ إلى الخلافِ في شهادةِ أيّهما أَنْقَى، وهذا إنما هو في الدُّبُرِ، وأما القُبُلُ فلا بُدَّ مِن تعميمِ المحلِّ، والقولُ الأولُ أظهرُ، ووجهُ الثانى أن المسحَ مبنيٌّ على التخفيف.

ص: 143

وَلَوْ تَرَكَهُمَا سَاهِياً وَصَلَّى فَفِي إِعَادَتِهِ فِي الْوَقْتِ قَوْلانِ لابْنِ الْقَاسِمِ وَأَشْهَبَ، فَقَالَ ابْن أَبي زَيْدٍ: يُريِدُ الْمَاسِحَ وَالْمُبَعِّرَ. وَخَرَّجَ اللَّخْمِيُّ عَلَى وُجُوبِ إِزَالَةِ النَّجَاسَةِ يُعيد أبداً، وَعَرَقُ الْمَحَلِّ يُصِيبُ الثَّوْبَ مَعْفُوٌّ عَنْهُ عَلَى الأَصّحِّ ....

الضمير في (تَرَكَهُمَا) عائدٌ على الاستنجاءِ والاستجمارِ. والقولُ بالإعادة في الوقت لابنِ القاسم، وهو الجاري على الْمَشْهُورِ، وقولُ أشهب يأتي على القولِ بأنَّ إزالةَ النجاسةِ مستحبةٌ. وقد ذكره ابنُ رشد فى التقييد والتقسيم. وتأويلُ ابنِ أبي زيد غيرُ ظاهر، إذ المسحُ المخالفُ لِسُنَّةِ الاستجمارِ لا يَرفعُ حكمَ النجاسةِ.

وكذلك الذي يَبْعَرُ إِنْ كان به مِن اليُبْسِ ما يَظَنُّ معه أنه لا يَلتصق به شيءٌ مِن النجاسةِ فلا وجهَ لاختصاصِ الناسي، بل وكذلك المتعَمِّدِ، وإن لم يكنْ كذلك فقد يَنْجُسُ المحلُّ، وتخريجُ اللخميِّ صحيحٌ.

نَوَاقِضُ الْوُضُوءِ أَحْدَاثٌ وَأَسْبَابٌ

النواقضُ جمعُ ناقضٍ، وناقضُ الشيء ونقيضُه ما لا يُمْكِنُ جمعُه مَعَهُ.

وعبارةُ المصنفِ بالنواقضِ أَوْلَى مِمن عبّر عنها بما يُوجب الوضوء؛ لأن الناقضَ لا يكون إلا متأخراً عن الوضوءِ بخلاف الموجِبِ فإنه قد يَسْبِقُ.

وفَاعِلٌ إذا لم يكن وَصْفاً لمذَكَّرٍ عاقلٍ يجوزُ جمعُه على فواعل، كجارحٍ وجوارح، وناقض ونواقض، وطالق وطوالق، نص عليه سيبويه.

قال ابن مالك فى شرح الكافية: وقد غلطَ فيه كثيرٌ مِن المتاخرين فعَدُّوه مَسموعاً، وليس كذلك. انتهى.

ص: 144

وقولُ ابنِ عبد السلام: ففى صحةِ هذا الجمع نظرٌ. وكذلك قال في مواضع في باب الفرائض: إِنْ أراد به أنه لا يَصِحُّ فقد تبين أن ذلك غلطٌ، وإن أراد أن فيه خلافاً فى العربية من حيثُ الجَمْعِيَّةِ فقريبٌ.

الأَحْدَاثُ: الْمُعْتَادُ مِنَ السَّبِيلَيْنِ جِنْساً وَوَقْتاً، وَهُوَ الْبَوْلُ وَالْمَذْيُ وَالْوَدْيُ وَالْغَائِطُ وَالرِّيحُ، بِخِلافِ دُودٍ أَوْ حَصىً أَوْ دَمٍ أَوْ بَوَاسيرَ ......

احترز بقوله (جِنْساً) بالمعتادِ مِن الحصى والدُّودِ، والمرادُ بالسبيلين القُبُلُ والدُّبُرُ، واحترز به مما لو خَرَجَ مِن الجَوْفِ أو مِن الحَلْقِ، وبالوَقْتِ مِنَ السَّلَسِ، وسيأتى.

وقوله: (وَهُوَ الْبَوْلُ) تفسيرٌ للحَدَثِ، وجعله خمسةً: ثلاثةٌ مِن القُبُلِ، واثنان من الدُّبُرِ، وزاد بعضُهم الصوتَ، وإليه ذَهَبَ ابن رشد، والأولُ اختيارُ ابن بشير، قال: وما أظنه يَخرج بغيرِ ريحٍ. والدليلُ على حصولِ النقضِ بالخمسةِ ظاهرٌ.

وقوله: (بِخِلافِ دُودٍ أَوْ حَصىً ....) إلى آخره زيادةٌ فى البيان وإلا فليستْ معتادةً.

وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ: وَغَيْرُ الْجِنْسِ

قال فى البيان: في هذه المسألةِ ثلاثةُ أقوال: أحدُها أن لا وضوءَ عليه، خرجتِ الدودةُ نقيَّةً أم لا، وهو الْمَشْهُورِ فى المذهب أن لا وضوء عليه إلا فيما يَخرج من السبيلين مِن المعتادِ على العادة. والثانى: أنه لا وضوء عليه إِلَاّ أن لا تخرج نقيةً. وهذا على قولِ من برى الوضوءَ فيما يَخرج مِن السبيلين مِن المعتادِ، خَرَجَ على العادة أو على غيرِ العادة. والثالث: أن عليه الوضوء، وإن خرجتْ نقيةً، وهو قولُ ابنِ عبد الحكم خاصَّةً من أصحابنا؛ لأنه يرى الوضوءَ مما يَخرج مِن السبيلين مِن المعتادات أو غيرِ المعتادات.

ونقل ابنُ راشد أنه إذا صَحِبَتْهُ بِلةٌ يَنْقُضُ عند ابن نافع وابن القاسم.

ص: 145

وَقَاَلَ الْمَازِرِيُّ: وَإِنْ تَكَرَّرَ وَشَقَّ

لما قدّم أنه يُشترط أن يكون معتاداً فى الوقت ذَكَرَ هذا لمخالفته لما تقدم. وظاهرُه أن المازريَّ هو المخالفَ، وليس كذلك. وإنما قال فى شرح التلقين: وقد روى عن مالك ما ظاهرُه تركُ العُذْرِ بالتكرار. ودليلُ الْمَشْهُورِ أن فى إيجابِ الوضوءِ مع التكرارِ حرجٌ، وهو منفىٌّ مِنَ الدِّينِ، ولما وَرَدَ عن عمر رضى الله عنه أنه قال: إنى لأجِدُهُ يَتَحَدَّرُ مِنِّى مثلُ الخُرَيْزَةِ، يعنى فى الصلاة. خرّجه فى الموطأ.

واختُلف على الْمَشْهُورِ فى سببِ السقوطِ، فقال العراقيون: لكونه خَرج على غيرِ وجهِ الصحّة. وقال غيرهم: للحرجِ والمشقة. وهو اختيار ابن محرز.

وَعَلَى الْمَشْهُورِ إِنْ لازَمَ أَكْثَرَ الزَّمَانِ اسْتُحِبَّ إِلا فِي بَرْدٍ وَشِبْهِهِ، وَإِنْ تَسَاوَيَا فَقَوْلانِ، وَإِلا وَجَبَ عَلَى الْمَشْهُورِ، أَمَّا إِنْ لَمْ يُفَارِقُ فَلا فَائِدَةَ فِيهِ

اعلم أن لعلمائنا فى السَّلَسِ طريقين: طريقُ العراقيين: يُستحب منه الوضوءُ مطلقاً، ولا يُفَرِّقون. وطريقُ المغاربة: يُقسمونه على أربعةِ أقسام وهى التى ذكرها المصنف. أى: وإذا فرَّعْنَا على الْمَشْهُورِ –لا على رواية المازرى- فَلِلْخارجِ [23/ب] أربعةُ أحوالٍ: تارَةً تكون ملازمتُه أكثرَ، وتارةً تَستوي مفارقتُه وملازمتُه، وتارةً تكون مفارقتُه أكثرَ، وتارةً يُلازِم ولا يُفارِق.

فإن كانت ملازمتُه أكثرَ فالوضوءُ مستحبٌ. قال فى التهذيبِ وغيرِه: ما لم يَكن بَرْدٌ أو ضرورةٌ.

وإن تساويا فقولان: بالوجوب، والاستحباب.

ابن راشد: والْمَشْهُورِ لا يجب. ابن هارون: والظاهرُ الوجوبُ؛ لأنه لا حرجَ عليه في التَّرَبُّصِ حتى ينقطعَ فيتوضأ حينئذٍ؛ لأن الفرضَ انقطاعُه في بعضِ وقتِ الصلاةِ.

ص: 146

وقوله: (وَإِلا) أي: وإن كانت مفارقته أكثر –وهو القسم الثالث- فالْمَشْهُورِ الوجوبُ خلافاً للعراقيين في أنه عندهم مستحَبٌ.

وأشار إلى الرابع بقوله: (أَمَّا إِنْ لَمْ يُفَارِقُ فَلا فَائِدَةَ فِيهِ) أي: في الوضوء لا إيجاباً ولا استحباباً ، وهذا فى السَّلَسِ. وأما المعتادُ فلا إشكالَ فى وجوب الوضوء منه.

وهذا التقسيمُ لا يَخُصُّ حَدَثاً دون حدثٍ. وقد قال الإِبِّيَانِىّ فى من بجوفِه علةٌ أو شيخٍ يَستنكِحُهُما الريحُ: إنه كالبولِ.

وسُئل اللخميُّ عن الرجل إِنْ توضَّأَ انتقضَ وضوؤه، وإن تيمم لم ينتقض. فأجاب بأنه يتيممُ. ورَدَّهُ ابنُ بشير بأنه قادرٌ على استعمالِ الماءِ فهو مخاطَبٌ باستعمالِه، وما يَرِدُ عليه يُمنع كونُه ناقضاً. ابن عبد السلام: ومعنى الملازمة هنا –والله أعلم- أن يأتيه البولُ مقدارَ ثُلُثَيْ ساعةٍ مثلاً وينقطع عنه ثلثاً، ثم يأتى ثلثي ساعةٍ مثلَ ذلك، فيعمُّ سائرَ نهارِه وليلِه. وكان بعضُ مَن لقيناه يقول: إنما تُعتير ملازمتُه ومفارقتُه فى أوقاتِ الصلاةِ خاصةً؛ لأن الزمانَ الذى يُخاطب فيه بالوضوء، وهذا وإن كان فى نفسه مناسباً، لكنّه مِن الفَرْضِ النادِر. وأيضاً فإذا كان الأمرُ على ما قال فلا يَخلو وقتٌ مِن أوقات الصلاة مِن بولٍ، سواءٌ لازَمَ أكثرَ ذلك الوقتِ أو نصفَه أو أقله، فلا بُدَّ مِن وجودِ النقضِ، فيستوي مشقةُ الأقلِّ والأكثرِ، فيلزم استواءُ الحُكْمِ. انتهى.

ابن هارون: وهذا هو الظاهرُ؛ لأن غيرَ وقتِ الصلاةِ لا عِبْرَةَ بمُفارقتِه وملازمتِه، إِذْ ليس هو مخاطَباً حينئذٍ بالصلاةِ. انتهى.

وهذا الذى كان يَميل إليه شيخُنا –رحمه الله وكان يقول ما معناه: إنه لا ينبغي أن تُؤخذَ المسألةُ على عمومِها، بل يَنبغى أن تُقَيَّدَ بما إذا كان إتيانُ ذلك مختلفاً قي الوقت، فيُقَدِّرُ بذهنه أيهما أكثر فيعمل عليه، وأما إن كان وقتُ إتيانِه منضبطاً لعَمِلَ عليه، فإن كان أولَ الوقتِ أَخَّرَها، وإن كان آخرَ الوقتِ قَدَّمَها، وهو كلام حست فتأمله.

ص: 147

وما رَدَّ به ابنُ عبد السلام مِن أنه فرضٌ نادرٌ ليس بظاهرٍ؛ إذ هذه المسائل كلُّها مِن الفروض النادرةِ.

وَإِنْ كَثُرَ الْمَذْيُ لِلْعُزْبَةِ أَوْ لِلتَّذَكُّرِ فَالْمَشْهُورِ الْوُضُوءُ، وَفِي قَابِلِ التَّدَاوِي قَوْلانِ

ابن عبد السلام: الخلافُ إنما هو فى القادرِ لا كما يعطيه ظاهرُ كلامِ المصنفِ، وينبغى أن يكون –فى زمانٍ يَطلبُ فيه النكاحَ وشراءَ السُّرِّيَّةِ- معذوراً.

وجعل قوله: (وَفِي قَابِلِ التَّدَاوِي قَوْلانِ) راجعاً إلى سلسِ البولِ.

ابن عبد السلام: وعَيَّنَ الْمَشْهُورِ في المذي دونَ البولِ لحصولِ اللذةِ فى الأوَّلِ، فكان أقوى شَبَهاً بالمختار. خليل: وفيه نظرٌ، لأنى لم أَرَ أحداً ذكر هذا في البول، وإنما ذكروه في المذي. والظاهرُ في هذا المحلُ أن يُقال: الْمَشْهُورِ وجوبُ الوضوء لطول العُزبة أو التَّذَكُّرِ، ومقابلُ الْمَشْهُورِ لا يجب إلا بمجموعِهما، وذلك لأنه قال فى التهذيب: وإن كثر عليه المذي لطُولِ عزية أو تذكرٍ لزمة الوضوءُ لكلِّ صلاةٍ. وفى كتاب ابن المرابط: لِطُولِ عُزْبَةٍ وتَذَكُّرٍ. قاله أبو الحسنِ.

وقال ابن الجلاب: إن كان يستطيعُ رَفْعَه بتزويجٍ أو تسرٍّ فإنه يتوضأُ لكلِّ صلاةٍ. فخَرَجَ مِن هذا على روايةِ (أو تذكر) ثلاثةُ أقوالٍ، ثالثها قولُ ابن الجلاب. قال: ولا خلافَ أنه إذا تَذَكَّرَ أَنَّ عليه الوضوءَ. انتهى.

وقد ذكر ابن شاس القولين اللذين ذكرهماالمصنف في القادرِ على رَفْعِ المذي. ولفظه: وإِنْ قَدَرَ، أى على المعالجة، كالمذي يُلازمه لطولِ عُزبةٍ يَقدر على رفعِها –فقد اختلفَ فيه العراقيون على قولين، وسَببهما مَنْ مَلَكَ أن يَمْلُكَ فهل يُعَدُّ مَالِكاً أم لا؟ وكذلك قال ابنُ بشير.

ص: 148

ابن راشد: وكان شيخُنا القرافى يُنكر هذه القاعدةَ ويقول: أَرَأَيْتَ مَن كان عنده خمرٌ، وهو قادرٌ على شُرْبِها، وكذلك السرقةُ؟ ويقول: الذى ينبغى أن يقال: مَن جرى له سببٌ يَقتضى المطالبةَ بأن يَملك هل يُعَدُّ مالكاً لجريانِ السبب؟ أم لا لفقدان الشرط؟ مثالُه مَن سَرَقَ مِن الغَنِيمَةِ بعد الإيجابِ وقبلَ القسمةِ –في حَدِّهِ قولان بناءً على ما قَدَّرْناه، أمّا مَن لم يَجْرِ له سببٌ فكيف يُعَدُّ مالكاً.

وَالاسْتِحَاضَةُ كَالسَّلَسِ يُسْتَحَبُّ مِنْهُ الْوُضُوءُ

أشار ابنُ عبد السلام إلى أن معناه: الاستحاضةُ كالسلس في جميع الصور المتقدمة، فيَجِبُ حيث يَجِبُ، ويُستحب حيث يُستحب. وقَيَّدَ قول المصنف:(يُسْتَحَبُّ مِنْهُ الْوُضُوءُ) فقال: يريد: إن لازمت الاستحاضةُ أكثرَ الوقت. انتهى.

وقال الباجى: إذا ثبت أنه –أى دم الاستحاضة- لا يَجِبُ منه غُسْلٌ، فهل يجب به الوضوءُ؟ والْمَشْهُورِ من المذهب: لا يجِب به وضوء. وقال القاضى أبو الحسن: إنه على ضربين: منه ما يكون مَرَّةً بعد مرةٍ، فهذا يجب منه الوضوءُ. ومنه ما يكون بالساعات، فيستحب منه الوضوء، ولا يجب. ودليلُنا على نفيِ الوضوءِ أنه دمٌ لا يجب منه الغُسل، فلا يجب منه الوضوءُ، كما لو خرج مِن سائرِ الجسدِ. انتهى.

فنَقْلُ الباجى [24/أ] مخالِفٌ لكلام ابن عبد السلام، ومساعِدٌ لقولِ المصنف:(يُسْتَحَبُّ مِنْهُ الْوُضُوءُ) وأنه باق على إطلاقه، لكنْ يبقى على هذا فى تشبيهِه بالسلسِ نطرٌ.

وَحَيْثُ سَقَطَ الْوُضُوءُ فَفِي إِمَامَتِهِ لِلصَّحِيحِ قَوْلانِ، وَكَذَلِكَ ذُو الْقُرُوحِ

الْمَشْهُورِ الكراهةُ، ولا يُفهم مِن كلامه إرادةُ الاختلافِ فيها.

ابن عبد السلام: والأظهرُ الجوازُ؛ لأن عمرَ رضي الله عنه لم يُنقل عنه تَرْكُ الإمامةِ حين وَجَدَ سلسَ المذي. انتهى. وفيه نظرٌ لجوازِ أن يكون ذلك لأجلِ الإمامةِ الكبرى.

ص: 149

وفي التنبيهات: وفي قول عمرَ رضي الله عنه: إني لأجدُه ينحدرِ مني كالخُرَيْزَةِ. حُجَّةٌ لمن أجاز إمامةَ مَن به سَلَسٌ. وهو قولُ سحنون خلافاً لابن أبي سلمة.

وذهب بعضَ شيوخِنا إلى أن تَرْكَهُ أحسنُ، ولسحنون مثلُه؛ لأنَّ مَن به رخصةٌ فلا تتعداه إلى غيرِه، إلا أن يكون صالحاً فاضلاً كعمر رضي الله عنه، فإنْ فَعَلَ أجزَأَه. وظاهرُ كلامِه وكلامِ غيرِه أن هذا الخلافَ لا يختصُّ بإمامته للصحيحِ، وهو خلافُ تقييدِ المصنفِ فانظره. وفيه مجالٌ للنظرِ، فإنهم أجازوا إمامةَ المتيممِ للمتيممين، والعريانِ للعريانينَ في ليل مظلم، واختلفوا في إمامةِ المريضِ الجالسِ للمرضى جلوساً.

ابن هارون: وبالجملةِ فتقييدُ المصنف بالصحيح فيه نظرٌ، وقد خالفَه ابنُ بشير وابن شاس فى التقييد، وأطلقا وأَجْرَيا القولين على الرخصة في ترك الوضوء: هل هي مقصورة عليه أو يصير الخارجُ كالطاهر؟

وَلَوْ صَارَ يَتَقَيَّأُ عَادَةً بِصِفَةِ الْمُعْتَادِ فَلِلْمُتَأَخِّرِينَ قَوْلانِ

قوله: (عَادَةً) احترازٌ مما لو خرج ذلك نادراً، فلا يجب عليه الوضوءُ بلا خلافٍ.

وقوله: (بِصِفَةِ الْمُعْتَادِ) أي: بصفةٍ من صِفاتِه لا بكلِّ الصفات.

ابن عبد السلام: والأظهرُ أنه إن انقطعَ خروجُ الحَدَثِ مِن محله وصار موضعُ القيءِ محلاًّ له –وَجَبَ الوضوءُ، وكذلك إن كان خروجُه مِن محله أكثرَ لم يجب الوضوءُ.

وقال ابن بَزِيزَةَ: إن انْفَتَقَ لخروجِ الحدثِ مخرجٌ غيرُ السبيلين فلا يخلو أن يَسْنَدَّ المَخرَجَان المعلومان أم لا، فإنِ انْسَدَّا وكان المنْفَتِقُ تحت المَعِدَةِ- فهو كالمَخْرَجِ المعتادِ، وإن لم ينسدا فهل يَجري المنفتقُ مجرى المخرج المعتاد أم لا؟ فيه قولان في المذهب. وكذلك إذا كان فوقَ المعدةِ، وهذه حالة نادرة. انتهى.

ص: 150

الأَسْبَابُ ثَلاثَةٌ وَهُوَ مَا نَقَضَ بمَا يُؤَدِّي إِلَيْهِ: الأَوَّلُ: زَوَالُ الْعَقْلِ بِجُنُونٍ أَوْ إِغْمَاءٍ أَوْ سُكْرٍ ....

قوله: (وَهُوَ) عائد على بعض ما تقدم، وهو السببُ، والضميرُ، المجرور بإلى عائدٌ على الحَدَثِ، وهذا التعريفُ وقع بحكمٍ من أحكامِ المحْدُودِ، وهو مُجْتَنَبٌ في التعريفِ، ولو قال: وهو ما كان مؤدياً إلى خروجِ الحَدَثِ لكان أَحْسَنَ.

وحَصَرَها في ثلاثةٍ: زوالِ العقل، ولمسِ مَنْ تُشْتَهَى، ومَسِّ الذَّكَرِ.

ابن هارون: يَرِدُ عليه الرِّدَّةُ، ورَفْضُ الوضوءِ، والشَّكُّ، فإنه لم يَذْكُرْها في الأَحْدَاثِ ولا في الأسباب، ولعله قصدَ حَصْرَ المتفق عليه. انتهى.

وقد يقال: لا نُسلم أن هذه الأشياءَ نواقضُ؛ لأنها ليست أحداثاً ولا تُؤدي إلى خروج الحَدَثِ، وإنما يجب الوضوءُ عند مَن أوجبه بها بمعنىً آخَرَ، والله تعالى أعلم.

وظاهرُ كلامِ المصنفِ أن الجنونَ بصَرَعٍ أو غيرِه ليس ناقِضاً للطهارة الكبرى، وهو الْمَشْهُورِ، ورآه ابنُ حبيب من موجبات الغُسل في حقِّ المصروعِ، وأن الغالبَ عليه خروجُ المَنِيِّ، كذا نقل عنه ابنُ بشير. ونقل عنه ابنُ يونس إن أفاق بحِدْثَانِ ذلك ولم يَجِدْ مَنِيّاً فلا غُسل عليه، وإن أقام يوماً أو يومين فعليه الغُسلُ.

فرع:

إذا حصل له هَمٌّ أَذْهَبَ عقلَه، فقال مالك في المجموعة: عليه الوضوءُ. فقيل له: فهو قاعدٌ. قال: أحبُّ إليَّ أن يَتوضأ. قال صاحب الطراز: يحتمل الاستحباب أن يكون خاصاً بالقاعِد بخلافِ المضطجعِ، ويحتمل أن يكون عامّا فيهما.

ص: 151

وَفِي النَّوْمِ ثَلاثُ طُرُقٍ اللَّخْمِيُّ: الطَّوِيلُ الثَّقِيلُ يَنْقُضُ، مُقَابِلُهُ لا يَنْقُضَ، الطَّوِيلُ الْخَفِيفُ يُسْتَحَبُّ، مُقَابِلُهُ قَوْلانِ، الثَّانِيَة: مِثْلُهَا، وَفِي الثَّالِثِ قَوْلانِ

كان حقُّه أن يعطفَ النومَ على السُّكْرِ ثم يَذْكُرَ طرقَ الشيوخ فيه، وكأنه رأى أن حكاية طُرُقِه تستلزمُ كونَه مِن الأسبابِ، والْمَشْهُورِ أن النومَ سببٌ، ونُقِلَ عن ابنِ القاسم أنه حَدَثٌ، رواه أبو الفرج عن مالكٍ.

و (اللَّخْمِيُّ) يحتمل أن يرتفعَ على الفاعِلِيَّةِ، والتقديرُ قال اللخمي، أو على حذفِ مُضَافٍ أي قولُ اللخميِّ، وهو أَوْلَى.

والطريق الثانيةُ لابن بشيرٍ وهي كالأولى؛ لأن في القسم الثالثِ مُوجباً ومسقِطاً كما في الرابعِ.

الثَّالِثَةُ: عَلَى هَيْئَةٍ يَتَيَسَّرُ فِيهَا الطُّول وَالْحَدَثُ كَالسَّاجِدِ يَنْقُضُ، مُقَابِلُهُ كَالْقَائِمِ وَالْمُحْتَبِي لا يَنْقُضُ، وَفِي الثَّالِثِ كَالْجَالِسِ مُسْتَنِداً، وَفِي الرَّابِعِ كَالرَّاكِعِ قَوْلانِ

الطريقان الأولان راعَيَا حالةَ النوم، وهذه راعتْ حالةَ النائم، وهي طريقةُ عبد الحميد وغيرِه. و (على هيئة) يتعلق بمحذوف، أي: يكون النائم على هيئة، ويدخل في حكم الساجِد المُضْطَجِعُ.

قال اللخمي: وللمحتبي ثلاثةُ أقسامٍ: أن يَستيقظ قَبْلَ انحلالِ الحَبْوَةِ فلا [24/ب] وضوءَ، وإن استيقظَ لانحلالِها انتقَضَ على قولِ مَن قال: إن النومَ حدثٌ، لا على الْمَشْهُورِ، وكذلك إنِ انْحَلَّتْ ولم يَشْعُرْ ولم يَطُلْ، وإن طال وكان مُستنداً انتَقَضَ، وكذلك إن كانت في يدِه المروحةُ، فإن لم تَسقط مِن يَدِهِ فهو على طهارتِه، وإن استيقظَ لسقوطِها فعلى القولين، إلا أن يَطُولَ.

ص: 152

قال ابن عطاء الله: كونُه جعلَ الخلافَ في الحالةِ الثانيةِ والثالثةِ دونَ الأولى لا وجهَ له؛ لأنَّ الأُولى يَجري فيها أيضاً الخلافُ.

ابن عبد السلام: ويَنبغي أن يُقيد المحتبي بما إذا كان بيديه وشبهِهما، أما الحبوةُ المصنوعةُ فلا، وهي كالمستند.

والقولان في الثالثِ والرابعِ لتعارضِ موجِبٍ ومسقِطٍ، وقَيَّدَ بعضُ الأشياخِ المستندَ بما إذا كان مستوياً، وإلا فالمائلُ يلحق بالمضطجع.

خليل: ولو قِيلَ بمراعاةِ الشخصِ فيُفَرَّقُ بين أن يكون حديثَ عهدٍ باستبراءٍ أو لا، وبين الممتلئ طعاماً وغيرِه- ما بَعُدَ عَنِ القَواعِدِ.

وَفِيها: {إِذَا قُمْتُمْ} يَعْنِي مِنَ النَّوْمِ

هذا محكيٌّ في المدونة عن زيد بن أسلم، وهو يقتضي أن النومَ حَدَثٌ بِنَفْسِه. وقيل: معناها إذا قمتم مُحْدِثِينَ. وقيل: خِطابٌ لكلِّ قائمٍ للصلاة، ثم نُسِخَ بِفِعْلِهِ صلى الله عليه وسلم يومَ الفتحِ. وقيل: خطابٌ لكلِّ قائمٍ على سبيلِ الندبِ، وهو أولى لسلامتِه مِن الإضمارِ والنَّسْخِ.

الثَّانِي: لَمْسُ الْمُلْتَذِّ بِلَمْسِهَا عَادَةً فَلا أَثَرَ لِمَحْرَمٍ وَلا صَغِيرَةٍ لا تُشْتَهَى

ظاهر كلامه: ولو التَذَّ بالمَحْرَمِ، وهو ظاهرُ كلامِ ابن الجلاب. ونصَّ القاضي عبد الوهاب وغيرُه- أنه إذا وَجد اللذةَ- على النَّقْضِ، وبناه على الخلافِ في الصورِ النادرةِ.

وقوله: (وَلا صَغِيرةٍ لا تُشْتَهَى) قال في المجموعة: ليس في قُبلة أحدِ الزوجين الآخرَ لغيرِ شهوةٍِ وضوءٌ في مرض أو غيره، ولا في قُبلةِ الصبيةِ وضوءٌ ومَسِّ فَرْجِها إلا أن يكون لِلّذَّةٍ.

ص: 153

وروى علي عن مالك: ليس في مَسِّ فرج الصبيِّ والصبيةِ وضوءٌ. قال في النوادر: يُريد لغيرِ لَذَّةٍ. انتهى.

ولا تبالي بما وقع اللمس فيه سواء كان ظفراً أو شعراً أو يداً وهو المنصوص. ورأى بعضُ الشيوخ أن الظفرَ والشعرَ لا يُلحقان بما عداهما من الجسد؛ لأن اللذةَ ليست بلمسِهما، وإنما هي بالنظر إليهما، ولا أثَر له في نقضِ الطهارةِ.

فَإِنْ وَجَدَهَا فَالنَّقْضُ بِاتِّفَاقٍ قَصَدَهَا أَوْ لَمْ يَقْصِدْهَا، فَإِنْ قَصَدَهَا وَلَمْ يَجِدْ فَكَذَلِكَ عَلَى الْمَنْصُوصِ. وَخَرَّجَ اللَّخْمِيُّ مِنَ الرَّفْضِ لا يَنَْتَقِضُ، فَإِنْ لَمْ يَقْصِدْ وَلَمْ يَجِدْ لَمْ يَنْتَقِضْ، وَالْمَشْهُورِ أَنَّ الْقُبْلَةَ فِي الْفَمِ تَنْقُضُ لِلُزُومِ اللَّذَّّةِ

الضمير في (وَجَدَهَا) عائدٌ على اللذةِ؛ لأنها مفهومةٌ مِن السياق.

وقوله: (باتِّفَاقٍ قَصَدَهَا أَوْ لَمْ يَقْصِدْهَا) كذا قال ابن شاس، ونُقِضَ عليه.

ابن هارون: الاتفاقُ بما نقله ابن يونس عن سحنون في التي كَسَتْ زوجَها أو نزعتْ خُفَّه لا وضوءَ عليهما وإِنِ الْتَذَّا. وفيه نظرٌ فإنه ليس فيه نصٌّ صريحٌ على اللمسِ، بل الظاهرُ فيه أنه من باب الالتذاذِ بالنظرِ، والأصحُّ فيه عدمُ النقضِ كما سيأتي، فانظره. ويؤيد هذا قولُه في الروايةِ بإثْرِ الكلامِ المتقدمِ: وقد يُلْتَذُّ بالكلام. كذا في النوادرِ، وتخريجُ اللخمي ضعيفٌ؛ لأن رفضَ النيةِ قصدٌ منفردٌ، وهنا قصدٌ وفِعلٌ، ولا يَلزم مِن إلغاءِ الأخفِّ إلغاءُ الأشدِّ، ثم إن قولَ المصنفِ المنصوصَ مع تخريجِ اللخميِّ ظاهرُه أن مقابِلَ المنصوصِ مُخَرَّجٌ ليس بمنصوصٍ، وليس كذلك، فقد حكى ابنُ بشير فيما إذا قصد ولم يَجِدْ قولين منصوصين: النقضُ لابن القاسم، وعدمُه لأشهب. وينتقضُ الاتفاق الذي قاله المصنف بما قاله التلمساني في اللُّمعِ: واختُلِفَ إذا قصد ولم يَجِدْ، أو وَجَدَ ولم يقصد.

ص: 154

تنبيه:

ما ذكرنا من أنه إذا لم يَقصد ولم يَجِدْ لم ينتقض بالاتفاقِ- إنما هو ف يغيرِ القُبلة، وأما في القُبلة فاختلف فيها على قولين: إيجابُ الوضوء، وهي رواية أشهب عن مالك، وقول أصبغ، قال في المقدمات: وهو دليلُ المدونة، وعِلَّةُ ذلك أن القُبلة لا تنفَكُّ عن اللذة، إلا أن تكون صبيةً صغيرةً يُقَبِّلُها على قَصْدِ الرحمةِ، أو ذاتِ مَحْرَمٍ يُقبلها على سبيلِ الوُدِّ أو الوَدَاعِ أو نحوَ ذلك. والقولُ الثاني أنه لا وضوءَ كالملامسةِ والمباشرةِ، وهو قولُ ابنِ الماجشون.

وقوله: (وهو دليل المدونة) يُريد لقوله فيها: إذا مَسَّ أحدُ الزوجين صاحبَه للذةٍ من فوقِ الثوب أو تحتهِ، أو قبَّلَه على غيرِ الفمِ- فعليه الوضوءُ، أَنْعَظَ أم لا.

قال في التنبيهات: اشتراطُ اللذةِ على غيرِ الفَمِ دليلٌ على أنه لا يُشترط وجودها في القُبلة في الفم ولا قصدُها منهما جميعاً، وهو قول مالك في المجموعة.

قال ابن رشد: وأمّا إن قَصَدَ اللذةَ بالقبلةِ في الفمِ ولم يَجِدْها فالوضوءُ واجبٌ عليه، ولا أَعْلَمُ في ذلك خلافاً في المذهب، ولا يبعد دخول الخلاف فيها معنى. وعلى هذا فيحمل قوله:(وَالْمَشْهُورِ أَنَّ الْقُبْلَةَ فِي الْفَمِ تَنْقُضُ لِلُزُومِ اللَّّّذَّةِ) على الوجهِ الأَوَّلِ.

وذكر ابن بزيزة في القُبلة ثلاثةَ أقوالٍ في المذهب: النقضُ مطلقاً، والثاني اعتبارُ اللذة، والثالثُ إن كانت في الفم انتَقَضَ مطلقاً، وإن كانت في غيره اعتُبِرَتِ اللذةُ، ولا فَرْقَ بين الطوعِ والإكراهِ. فعن مالك في المجموعة: إذا قَبَّلَ امرأتَه مكرهةً فعليها الوضوءُ، وكذا روى ابن نافع أنها لو غلبتْه هي فقَبَّلَتْه فعليه الوضوءُ ولو لم يَلْتَذَّ.

ابن هارون: أما لو قَبَّلها [25/أ] على غير الفم لكان ذلك كالملامسةِ، ولا نَعلم في ذلك خلافاً بين الشيوخ إلا ما تأوّل ابنُ يونس في رواية ابنِ نافع المتقدمةِ في الذي استَغْفَلَتْهُ زوجتُه فقبَّلَتْه: أنه يتوضأ، فقال: هو يُريد سواءٌ قبّلَتْه في الفم أو في غيره، وفيه نظرٌ. انتهى.

قال صاحب الإرشاد في العمدة: والقبلةُ في الفم تَنْقُضُ، وفي غيرِه مِن الوجهِ خلافٌ.

ص: 155

وَالْحَائِلُ الْخَفِيفُ لا يَمْنَعُ وَفِي غَيْرِه قَوْلانِ

رواية ابن القاسم بالنقض مطلقاً، وقيّد ذلك ابنُ زياد بما إذا كان الحائلُ خفيفاً، وحَمَلَها المصنفُ على الخلافِ، وحمَلها في البيان والمقدمات على التفسير.

قال في التهذيب: والملموسُ إن وَجَدَ اللذةَ توضَّأ، وإلا فلا، قالوا: ما لم يقصدها فيكون لامساً.

وَاللَّذَّةُ بِالنَّظَرِ لا تَنْقُضُ عَلَى الأَصَحِّ

قال المازري: أما مَن نَظَرَ فالتَذَّ بقَلْبِه دونَ لَمسٍ، فالْمَشْهُورِ عن أصحابنا أن وضوءَه لا يَنتقضُ؛ لأنَّ إثباتَ الأحداث طريقُه الشرع، والذي وَرَدَ مِن الشرعِ في هذا ذِكْرُ اللمسِ، فأمّا مجردُ اللذةِ دونَ لمسٍ فلم يُوجَدْ ظاهراً لا في الكتابِ ولا في السُّنة؛ فلا يصحُّ إثباتُه بالدعاوى. انتهى.

وذهب ابن بَكير والإِبِّيَانِيّ إلى أن اللذةَ بالنظرِ ناقضةٌ، وظاهرُ نَقْلِ المازري مع المصنفِ. قال ابن شاسٍ: وأما مَن نَظَرَ فالتَذَّ بمداومةِ النظرِ، ولم ينتشرْ ذلك منه فلا يؤثرُ في نقضِ الطهارةِ، فقيَّدَ ذلك بمداومةِ النظرِ وعَدَمِ الإنعاظِ، ويمكن أن يُقال: إنما قيّدَ ذلك بالمداومة؛ لأن الغالبَ أن اللذةَ إنما تَحْصُلَ بذلك.

وَفِي الإِنْعَاظِ الْكَامِلِ قَوْلانِ بِنَاءً عَلَى لُزُومِ الْمَذْيِ أَمْ لا

هذا كلام واضحٌ، وحكى ابنُ بشير أن الأشياخَ رأوا أن يَنظر الشخصُ في نَفْسِه، فإن كانت عادتُه خروجَ المذي بذلك فعليه الوضوءُ، وإلا فلا.

وقيد الباجيُّ وابنُ شاسٍ الإنعاظَ بالكامل كما فَعَلَ المصنفُ، وهو يُؤْذِنُ بِنَفْيِ الخلافِ عمّن لم يَكمل إنعاظُه.

ص: 156

وقال ابن عطاء الله: الصحيحُ لا وُضوءَ فيه بمجردِه؛ فإِنِ انْكَسَرَ عن مذيٍ توضأ للمذي، وإلا فلا، وليس الإمذاءُ من الأمورِ الخَفِيَّةِ حتى تُجعل له مَظِنَّةٌ.

الثَّالِثُ: مَسُّ الذَّكَرِ بِتَقْييدٍ عَلَى الأَخِيرَة، فَفِيهَا ببَاطِنِ الْكَفِّ أَوْ بِبَاطِنِ الأَصَابِعِ، أَشْهَبُ: بِبَاطِنِ الْكَفِّ. فِي الْمَجْمُوعةِ: الْعَمْدُ. الْعِرَاقِيُّونَ: اللَّذَّّةُ. وَبِإِصْبَعٍ زَائِدَةٍ قَوْلانِ ....

يعني: أنه كان أولاً يقول بعدمِ النقضِ مِن مَسِّ الذَّكَرِ؛ للحديث: "إِنْ هو إلا بَضْعَةٌ مِنْكَ" رواه أبو داود والترمذي، وضعَّفه أبو حاتم وأبو زرعة، وحسَّنه الترمذي- ثم رَجَعَ إلى النقضِ بتقييدِ ما ذُكِرَ.

وقوله: (الْعِرَاقِيُّونَ: اللَّذَّةُ) يعني: سواءٌ حصلتْ بأيِّ عضوٍ كان، هكذا نص عليه السيوريُّ وغيرُه. وقد قال ابن القصار: الذي عليه العملُ أنّ مَن مَسَّ ذكرَه لشهوةٍ بباطنٍ كفِّه أو سائرِ أعضائه مِن فوق الثوب أو مِن تحته أن طهارتَه تنتقضُ.

قال الأبهري: وعلى هذا كان يَعْمَلُ شيوخُنا كلُّهم، ولا فرقَ على هذه الأقوالِ بين أولِه وآخرِه. وحكى ابنُ نافع أن المعتبرَ في النقضِ الحشفةُ دونَ سائرِه.

وأما الأصبعُ الزائدةُ فقال ابن راشد: الخلافُ خلافٌ في حالٍ: هل فيها من الإحساسِ ما في غيرِها، أم لا؟ وينبغي أن يقال: إن تساوتِ الأصبعُ في التصرفِ والإحساسِ- فالنقضُ، وإن لم تتساوَ فلا، وإن شَكَّ فعلى الخلافِ فيمن تيَقَّنَ الطهارةَ وشَكَّ في الحَدَثِ.

قال سند: يَنتقضُ على ظاهرِ قول ابن القاسم إذا مَسَّهُ بِبَيْنِ أصابِعِه، أو بحُرُوفِ كَفِّه. وكلامُه في الأَحْوَذِيّ يقتضي أن يَنتقض بجانبِ الأصابعِ.

ص: 157

وَمِنْ فَوْقِ حَاِئلٍ، ثَالِثُهَا: إِنْ كَانَ خَفِيفاً نَقَضَ، وَلا أَثَرَ لِلْمَقْطُوعِ وَلا مِنْ آخَرَ. وَقِيلَ: يَنْتَقِضُ الْمَمْسُوسُ ....

حكى المازري، وصاحب الأحوذي، وابن راشد في مذهبنا الثلاثةَ، وفي المقدمات: واختلف قولُ مالك إذا مَسَّه على حائلٍ رقيقٍ، روى عنه ابن وهب: لا وضوء عليه، وهو الأشهَرُ، وروى عنه ابنُ زياد: أن عليه الوضوء. قال في البيان: وأما إن كان الحائلُ كثيفاً فلا وضوءَ عليه قولاًَ واحداً. وهو خلافُ طريقة المصنفِ والمازريِ في حكايتهما الخلافَ مطلقاً. والظاهرُ عدمُ النقضِ مطلقاً لما في صحيح ابن حبان عنه صلى الله عليه وسلم: "مَن أفضَى بيدِه إلى فَرْجِه وليس بينهما سترٌ ولا حجابٌ فقد وَجَبَ عليه الوضوءُ للصلاةِ".

وقوله: (وَلا أَثَرَ لِلْمَقْطُوعِ) إلى آخرِه، يعني: إذا قُطع ذَكَرُه، ثم مَسَّه فلا أَثَر لذلك. ونَبَّه بذلك على خلافِ بعضِ الشافعيةِ، على أن ابن بزيزة حكاه في الَمذْهَبِ فقال: إذا مَسَّ ذَكَرَ غيرِه مِن جنسِه أو مِن غيرِ جنسِه أو ذَكَراَ مقطوعاً أو ذَكَرَ صبيٍّ أو فرج صبيةٍ، فهل عليه الوضوءُ أم لا؟ فيه قولان في المذهب. انتهى.

ابن هارون: ولو مَسَّ موضعَ الجَبِّ فلا نص عليه عندنا، وحكى الغزالي أن عليه الضوءَ، والجاري على أصلنا نفيُه لعدمِ اللذةِ منه غالباً. انتهى.

وقوله: (وَلا مِنْ آخَرَ) أي: ولا مِن مَسِّ ذَكَرِ رَجُلٍ غيرِه. وحكى ابنُ العربي وابن شاس عن الأَيْليِّ البَصْرِيِّ مِن أصحابنا أنه ينتقض وضوؤه. وكلامُه يقتضي أن الْمَشْهُورِ أنه لا أثرَ لذلك في حق الملموسِ، وليس كذلك. والذي حكى ابن شاس وابن عبد السلام أن ذلك يجري على حكمِ الملامسة، فإن المرأةَ لو لمستْ ذَكر زوجِها تلذذاً لوَجَبَ عليها الوضوءُ، وكذلك في الملموسِ ذَكَرُه إِنِ الْتّذَّ فعليه الوضوءُ، وإلا فلا.

ص: 158

وفِي مَسِّ الْمَرْأَةِ فَرْجَهَا ثَلاثُ رِوَاياتٍ [25/ب] لابْنِ زِيَادٍ، وَالْمُدَوَّنَةِ، وَابْنِ أَبي أُوَيْسٍ، ثَالِثُهَا: إِنْ أَلْطَفَتْ انْتَقَضَ. وَقَالَ: قُلْتُ لَهُ: مَا أَلْطَفَتْ؟ قَالَ: أَنْ تُدْخِلَ يَديْهَا بَيْنَ الشُّفْرَيْنِ. فَقِيلَ: عَلَى ظَاهِرِهَا. وَقِيلَ: بِاتِّفَاقِهَا ....

أي: روايةُ ابن زيادٍٍ الوضوءَ، والمدونةِ نَفْيُه، وابنِ أبي أُويسٍ التفصيلُ، وحكى ابنُ رشد روايةً رابعةً بالاستحباب. والظاهرُ روايةُ ابنِ زياد إن كانت الرواياتُ مختلفةٌ لما في صحيح ابن حبان عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:"مَنْ مَسَّ فَرْجَهُ فَلْيَتَوَضَّا، والمرأةُ مِثْلُ ذَلِكَ". انتهى.

ووجهُ مذهبِ المدونةِ قولُه صلى الله عليه وسلم: "مَنْ مَسَّ ذَكَرَهُ فَلْيَتَوَضَّا" ومفهومُه نفيُ الوضوءِ مِمَّنْ مَسَّ غيرَه، ورُدَّ بأنه مفهومُ لَقَبٍ. وزاد الباجي- في رواية ابنِ أبي أويسٍ- أنها إِنْ ألْطَفَتْ وقَبَضَتْ عليه بيدِها انتَقَضَ.

وقوله (فَرْجَهَا) يُريد القُبُلَ، وأما الدُّبُرَ فهي فيه كالرَّجُلِ.

واختلف الأشياخُ في الروايات، فمنهم مَنْ أجراها على ظاهرِها مِن الخلافِ، ومنهم مَن جَعَلَ الثالثَ تفسيراً للقولين، وأن من قال بالنقض محمولٌ على ما إذا أَلْطَفَتْ، ومن قال بعَدَمِه محمولٌ على ما إذا لم تُلْطِفْ. ومنهم مَن يَرى أن المذهبَ على قولين: الوجوبُ والتفصيلُ.

وَلا أَثَرَ لِمَسِّ الدُّبُرِ. وَخَرَّجَهُ حَمْدِيسٌ عَلَى مَسِّ الْمرفرج المرأة ورده عبد الحق باللذة

تصورُه ظاهرٌ. وأجاب ابنُ سابقٍ عن رَدِّ عبد الحق بأنْ قال: لا يَلْزَمُ هذا حمديساً لأنه لا يُعَلِّلُ باللَّذَّةِ، بل بمجردِ اللمسِ.

ووقع في بعض النُّسَخِ بإِثْرِ الكلامِ المتقدمِ ما نَصُّه: وابن بشير: ليس ذلك بقياسٍ. ومعناه أن ابنَ بشيرٍ رَدَّ إلحاقَ حمديسٍ بأنَّ الوضوءَ مِن مسِّ الفرجِ خارجٌ عن القياسِ؛ لأنه مِنَ الجَسَدِ، والحُكْمُ إذَا خَرَجَ على غيرِ قياسٍ لم يُقَسْ عليه. ويمكن أن يقال: لعل

ص: 159

حمديساً لم يرَ ذلك قياساً، وإنما ألحقه عَمَلاً بما علَّلَ به فرجَ المرأة مِن العمل بالرواية التي فيها ذِكْرُ الفَرْجِ، وهذا فَرْجٌ. وقاله ابنُ راشد، وهذا الذي ذكره المصنفُ عن ابنِ بشير ليس هو في تنبيهِه.

وَمَسُّ الْخُنْثَى فَرْجَهُ مُخَرَّجٌ عَلَى مَنْ شَكَّ فِي الْحَدَثِ

التخريجُ المذكورُ للمازري، وهذا إنما هو في الخنثى المُشْكِلِ، وأما غير المشكل فبحَسَبِ ما يَثْبُتُ له.

ابنُ العربيّ عن بعض شيوخه: إِنْ مَسَّ فَرْجَيْهِ معاً وَجَبَ الوضوءُ، وإن مسَّ أحدَهما- وقلنا: إن المرأةَ يَنتقض وضوؤها بمَسِّ فرجِها- فهو كمن تيقَّنَ الطهارةَ وشَكَّ في الحَدَثِ.

وَمَنْ تَيَقَّنَ الطَّهَارَةَ وَشَكَّ فِي الْحَدَثِ، فَفِيهَا: فَلْيُعِدْ وُضُوءَهُ كَمَنْ شَكَّ أَصَلَّى ثَلاثاً أَمْ أَرْبَعاً يُعيد. فَقِيلَ: وُجُوباً وَقِيلَ: اسْتِحْبَاباً ....

أجرى القاضيان أبو الفرج وأبو الحسن الأبهري الروايةَ على ظاهرِها من الوجوبِ، وحملَها أبو يعقوب الرازي على النَّدْبِ، والأوَّلُ أظهرُ للأمرِ، ولتشبيههِ بالصلاةِ. واستشكل الشيوخُ القياسَ؛ لأن الشكَّ في الحدثِ شَكٌّ في المانع، والأصلُ في الشكِّ الإلغاءُ، إِذِ الأصلُ في الوضوءِ دَوَامُه بخلافِ الركعاتِ فإنَّ الشكَّ فيها شَكٌّ في الشَّرْطِ، والأَصْلُ عِمَارَةُ الذِّمَّةِ بالعَدَدِ حتى يَتحققَ حصولُه، وحاصلُه أنَّ الأصلَ إلغاءُ الشكِّ، ويَلْزَمُ منه البناءُ على الأقلِّ في الركعاتِ، والبقاءُ على الطهارة، ويمكن أن يُوَجَّهَ الوجوبُ على الاحتياطِ للعبادةِ، إِذِ الأصلُ أن الصلاةَ في الذِّمَّةِ بيقينٍ فلا تبرأُ الذمةُ منها إلا بيقينٍ. ويمكن أن يُقال: منشأُ الخلاف: هل للشكِّ في الشرطِ تأثيرٌ في المشروطِ أم لا؟

قال صاحب النكت: وإنما يجب الوضوءُ في غير المُسْتَنْكَحِ، وأما المستنكَحُ فلا شيءَ عليه.

ص: 160

وَقَالَ اللَّخْمِيُّ: خَمْسَةٌ: ثَالِثُهَا يُسْتَحَبُّ، وَرَابِعُهَا: يَجِبُ مَا لَمْ يَكُنْ فِي صَلاةٍ، وخَامِسُهَا: يَجِبُ مَا لَمْ يَكُنِ الشَّكُّ فِي سَبَبٍ نَاجِزٍ كَمَنْ شَكَّ فِي رِيحٍ وَلم يُدْرِكْ صَوْتاً َولا ريحاً .......

الأقوالُ ظاهرةٌ مِن كلامِه، وتَبعَ المصنفُ في حكايةِ الأقوالِ الخمسةِ هكذا ابنَ بشير، وفيه نظرٌ؛ لأن قوله (ثَالِثُهَا) يقتضي أن القول الثاني لا يَجِبُ ولا يُستحبُّ، ولم يحكِه اللخمي، ولفظه: اختُلِفَ إذا كان ممن لا يتكررُ ذلك منه على خمسةِ أقوالٍ. فقال في المدونة: يتوضأ، وهو بمنزلةِ مَن شَكَّ في صلاتِه، وعلى هذا فيكون الوضوءُ عليه واجباً. وقال أبو الحسن بن القصار: روى ابن وهب عن مالك أنه قال: أحبُّ إليّ أن يتوضأ. قال: ورُوي عنه أنه قال: إِنْ شَكَّ في الحَدَثِ- وهو في الصلاة- بنى على يقينِه ولم يَقطع، وإن كان في غيرِ صلاتِه أَخَذَ بالشَّكِّ. قال: وروي عنه أنه قال: يَقْطَعُ وإن كان في صلاةٍ.

قال ابن حبيب: إذا خُيِّلَ إليه أن ريحاً خرجتْ منه فلا يتوضأُ إلا أن يُوقِنَ بها، وإن دخله الشكُّ بالحِسِّ فلا شيءَ عليه. قال: بخلافِ مَن شكَّ هل بالَ أو أَحْدَثَ فإنه يُعيد الوضوءَ. انتهى. وفيه نظر؛ لأن القولَ بالتفرقةِ بين أن يكون في صلاةٍ فلا يَقطعُ، وإن لم يكن في صلاة أَخَذَ بالشكَّ- راجعٌ إلى الاستحباب، والقولُ بالقطعِ مطلقاً راجعٌ إلى الوجوبِ، كذا قال ابن عطاء الله.

وعلى هذا فليس في المسألة إلا ثلاثةُ أقوالٍ: الوجوبُ والاستحبابُ وقولُ ابن حبيب. وقال الباجي في منتقاه: إذا قلنا بوجوب الوضوءِ بالشَّكِّ، فإن شكَّ خارجَ الصلاةِ فهذا حُكْمُه، وإن شكَّ في الصلاة فقدروى القاضي أبو الحسن عن مالك في ذلك روايتين: إحداهما: يَقطع الصلاةَ ويتوضأُ. والثانية: إن شَكَّ في نَفْسِ الصلاةِ فلا وضوءَ [26/أ] عليه، وإن شكَّ خارجَ الصلاةِ فعليه الوضوءُ. انتهى.

ففَهِمَ- رحمه الله أن الروايةَ بالفَرْقِ مبنيةٌ على الوجوب، فانظرْ ذلك.

ص: 161

فرع:

فإن افتَتَحَ الصلاةَ متيقناً الطهارةَ، ثم شك في الصلاة وتمادى على صلاته ثم تبين له أنه متطهر، فقال مالك: صلاته تامة لحصول الشرطِ في نَفْسِ الأَمْرِ. وقال أشهب وسحنون: لا تصحُّ لأنه غيرُ عاملٍ على قَصْدِ الصحةِ.

المازري: وكذلك اختُلف إذا افتَتَح تكبيرةَ الإحرامِ ثم شك فيها، وتمادى حتى أَكْمَلَ وتبين له بعد ذلك أنه أصاب في التمادي، أو زاد في الصلاةِ شيئاً تعمُّداً أو سهواً، ثم تبين أنه واجبٌ: هل يُجزئه عن الواجب أم لا؟ ومِن ذلك الاختلافُ فيمَنْ سَلَّمَ شاكّاً في إتمامِ الصلاة ثم تبَيَّنَ له بعد ذلك الكمالُ. انتهى.

وعلى هذا فيَخْرُجُ لنا مِن هاهنا قاعدةٌ، وهي: إذا شككنا في شيء لا تجزئ الصلاة بدونه، ثم تبين الإتيان به: هل تجزئ الصلاة أم لا؟ والله أعلم.

وَلَوْ شَكَّ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ وَجَبَ الْوُضُوءُ بِاتِّفَاقٍ

يدخل فيه خمسُ صُوَرٍ:

الأولى: تَيَقَّنَ الحدَثَ وشَكَّ في الطهارة، وحكى ابنُ بشير فيها الإجماعَ.

الثانية: تيقَّنَهما، ولم يَدْرِ السابقَ منهما، وحكى سندٌ فيها الاتفاق.

الثالثة: شَكَّ فيهما، فحكى ابنُ محرزٍ أن الوضوءَ يَجِبُ عليه؛ لأنه ليس عنده أمرٌ يتيقنُه يَبني عليه. وذكر ابنُ بشير في هذه الصورة أنه يطرح ما شَكَّ فيه ويَبني على ما كان عليه قَبْلَ الشكِّ، فإن كان محدِثاً لزِمَه الوضوءُ، وإن كان متوضِّئاً صار بمنزلةِ مَن تيقَّن الطهارةَ وشكَّ في الحَدَثِ.

الرابعة: يَتيقنُ الوضوءَ ويَشُكُّ في الحَدَثِ، وشك في ذلك أكان قَبْلَه أم بَعْدَه.

ص: 162

الخامسة: عكسُ هذه، يَتيقن الحدثَ ويَشُكُّ في فِعْلِ الوضوءِ، وشكَّ مع ذلك أكانَ قبلَه أو بعدَه. وحكى ابن محرز الوجوبَ فيها.

وَأَمَّا الْمُسْتَنْكَحُ فَالْمُعْتَبَرُ أَوَّلُ خَاطِرَيْهِ اتفاقاً

يُريد بالمستنكح مَن كثرتْ منه الشكوكُ. وما ذكره من اعتبارِ أولِ خاطريه هو قولُ بعضِ القَرويين، وتابعه عليه بعضُ المتأخرين، قالوا: لأنه في الخاطرِ الأولِ سليمُ الذهنِ، وفيما بعده شبيهٌ بغير العقلاءِ.

ابن عبد السلام: وظاهرُ المدونةِ وغيرِها السقوطُ من غيرِ نظرٍ إلى خاطرِه ألبتةَ، وهو الذي كان يُرجحه بعضُ مَن لقيناه ويقول به، ويَذكر أنه راجَعَ فيه بعضَ المشارقةِ، وكان يوجِّهه بأن المستنكحَ- ومن هذه صفته- لا يَنْضَبِطُ له الخاطرُ الأوَّلُ مما بَعْدَه، والوجودُ يَشْهَدُ لذلك.

وَفِي وُجُوبِ وُضُوءِ الْمُرْتَدِّ إِذَا تَابَ قَبْلَ نَقْضِ وُضُوئِهِ قَوْلانِ

هذه المسألةُ وقعتْ في بعضِ النُّسَخِ، والْمَشْهُورِ فيها الوجوبُ، ومنشأُ الخلافِ: هل الرِّدَّةُ بمُجَرَّدِها مُحْبِطةٌ للعمل، أو بشرط الوفاة؟ والأوَّلُ أَبْيَنُ؛ لقولِه تعالى:{لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر: 65].

وأما قوله تعالى: {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 217] فهو من بابِ اللَّفِّ والنَّشْرِ؛ لأنه إذا رَتَّبَ شيئين على شيئين جَعَلَ الأوَّلَ للأولِ، والثاني للثاني، وهنا رَتَّبَ الإحباطَ والخلودَ على الردةِ والوفاةِ عليها، قاله في الذخيرة.

وبنى اللخمي الخلافَ على الخلافِ في رفضِ النيةِ، ورُدَّ بأنه قد صاحَبَ النيةَ هنا فعلٌ.

ص: 163

وَلا يَجِبُ بِقَيْءٍ وَلا بحِجَامَةٍ وَلا لَحْمِ إِبِلٍ، وَفِيهَا: أَحَبُّ إِلَيَّ أَنْ يَتَمَضْمَضَ مِنَ اللَّبَنِ وَاللَّحْمِ، وَيَغْسِلَ الْغَمَرَ إِذَا أَرَادَ الصَّلاةَ ....

هذا ظاهر، ونبّه المصنفُ به على خلافٍ خارجَ المذهبِ.

والغَمَرُ- بفتح الغين المعجمة والميم-: الوَدَكُ، وبسكون الميم: الماءُ الكثيرُ، وبكسرِ الغين: الحِقْدُ، وبضمِّها: الجَهْلُ.

وَيُمْنَعُ الْمُحْدِثُ مِنَ الصَّلاةِ وَمَسِّ الْمُصْحَفِ أَوْ جِلْدِهِ وَلَوْ بِقَضِيبٍ، وَلا بَاسَ بِحَمْلِ صُنْدُوقٍ أَوْ خُرْجٍ هُوَ فِيهِ مَا لَمْ يَكُنِ الْمَقْصُودُ حَمْلَهُ ......

أما الصلاةُ فظاهرٌ، وأما مسُّ المصحف فهو مذهبُ الجمهورِ لما في كتابِه صلى الله عليه وسلم لعمرو بن حزم "أَنْ لا يَمَسَّ القرآنَ إلا طاهرٌ" خرّجه مالكٌ وغيرُه.

وفي حكمِ المصحفِ الجِلْدُ (وَلَوْ بِقَضِيبٍ) وأَحْرَى طُرَرُ المكتوبِ، وما بين الأَسْطُرِ مِن البياضِ.

وَلا بَاسَ بِالتَّفَاسِيرِ وَالدَّرَاهِم وَبالأَلْوَاحِ لِلْمُتَعَلِّمِ وَالْمُعَلِّمِ لِيُصَحِّحَهَا. ابْن حَبِيبٍ: يُكْرَهُ مَسُّهَا لِلْمُعَلَّمِ وَالْجُزْءُ لِلصَّبِيِّ كَاللَّوْحِ بِخِلافِ الْمُكَمَّلِ. وَقِيلَ: وَالْمُكَمَّلُ ......

ولو كان مثلَ تفسيرِ ابنِ عطيةَ؛ لأن المقصودَ منه ليسَ مَسّ القرآنِ، وأجاز مالكٌ للجُنُبِ أن يَكتب الصحيفةَ فيها: بسم الله الرحمن الرحيم، وآياتٌ مِن القرآن. وقوله (وَبالأَلْوَاحِ) حكى ابنُ يونس فيها ثلاثةَ أقوال: الجوازُ للمَُلِّمِ والمتعلم مِن رَجُلٍ أو صبيٍّ، لابنِ القاسمِ لضرورةِ التعليمِ. والكراهةُ مطلقاً لأشهب عن مالك لعموم الآية. والكراهةُ للرجال دون الصبيان لابن حبيب. وظاهرُ ما حكاه ابن يونس عن ابن حبيب أن الكراهةَ مطلقة في حَقِّ الرجال، وحكى عنه ابن شاس كما حكى عنه المصنف أنه يُكره مسها للمُعَلِّمِ لإمكان أن يُصححها غيرَه وهو ينظر؛ ولأنه يُمكنه أن يُصحح الألواحَ في

ص: 164