الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقتٍ واحدٍ. ونَقْلُه في النوادر يُرَجِّحُ نَقْلَ ابنِ شاسٍ لأنه قال: قال ابن حبيب: ولا يَمَسُّ مَن ليس على وضوءٍ مصحفاً، ولا جزءاً ولا ورقةً [26/ب] ولا لوحاً، ويُكره ذلك للمعلِّم إلا على وضوءٍ، ويُسْتَخَفُّ مَسُّ الجزءِ للمتعلِّمِ كالألواحِ والأَكْتَافِ، ويُكره له مسُّ المصحفِ الجامعِ إلا على وُضوءٍ. وبه تَعْلَمُ أنَّ قول المصنف:(بِخِلافِ الْمُكَمَّلِ) هو قول ابن حبيب. ورَخَّصَ مالكٌ في المختصر في مَسِّ المكمل للصغير، وإليه أشار بقوله:(وَقِيلَ: وَالْمُكَمَّلُ) وحكى ابنُ بشير الاتفاقَ على جواز مسِّ المصحف للمتعلم، وظاهرُه: ولو كان بالغاً، ونقل في المعلِّم قولين، وليس بجيِّدٍ.
فرع:
أجاز مالكٌ في العتبية الحِرْزَ للصبيِّ والحائضِ والحاملِ إذا كان عليه شيءٌ يُكِنُّه. قال: ولا يُعَلَّقُ، وليس عليه شيءٌ، وما رأيتُ مَنْ فَعَلَه. وأجاز ابن القاسم في رواية أبي زيدٍ مَسَّ الحائضِ اللوحَ، وتقرأُ فيه على وجهِ التعليمِ، نقله في النوادر.
الْغُسْلُ
مُوجِبَاتُهُ أَرْبَعَةٌ: الْجَنَابَةُ: وَهُوَ خُرُوجُ الْمَنِيِّ الْمُقَارِنِ لِلَّذّةِ الْمُعْتَادَةِ مِنَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ، أَوْ مَغِيبُ الْحَشَفَةِ أَوْ مِثْلِهَا مِنْ مَقْطُوعٍ فِي فَرْجِ آدَمِيٍّ أَوْ غَيْرِهِ: أُنْثَى أَوْ ذَكَرٍ، حَيٍّ أَوْ مَيِّتٍ، وَالْمَرْأَةُ فِي الْبَهِيمَةِ مِثْلُهُ
أي: الغُسل الواجبُ، و (الْجَنَابَةُ) خبرٌ لمبتدإٍ محذوفٍ، أي: الأول.
وقوله: (وَهُوَ) ذَكَّرَ الضميرَ مراعاةً لما بَعْدَه، ولو راعى ما قَبْلَه لقال: وهي. وكلاهما جائزٌ، وسيأتي ما احتَرَزَ عنه المصنفُ بهذه القيودِ.
وَلَوْ وَطِئَ الصَّغِيرُ كَبِيرَةً فَلَمْ تُنْزِلْ فَلا غُسْلَ عَلَيْهَا عَلَى الْمَشْهُورِ، وَتؤْمَرُ الصَّغِيرَةُ عَلَى الأَصَحِّ ....
الخلافُ إنما هو في المراهِق ونحوِه على ما قاله عبد الوهاب، وأما ما دون ذلك فلا غسلَ عليها اتفاقاً. ومنشأُ الخلافِ خلافٌ في شهادةِ هل يحصُلُ مِن وطءِ المراهق لذةٌ كالبالغ أم لا؟
وقوله: (وَتؤْمَرُ الصَّغِيرَةُ) أي: إذا وطئها الكبيرُ، بناءً على أن الغسلَ طهارةٌ كالوضوءِ، فتُؤْمَرُ به أَوْلاً؛ لعدم تكرُّرِه كالصومِ. والأصحُّ قولُ أشهب وابن سحنون، قالا: وإن صَلَّتْ بغيرِ غسلٍ أعادتْ. قال سحنون: إنما تُعيد بقُرْبِ ذلك، لا أبداً. ومقابلُ الأصحِّ في مختصرِ الوَقَارِ.
فرع:
فإن كانا غيرَ بالغَيْنِ فقال ابن بشير: مقتضى المذهبِ أن لا غُسْلَ. قال: وقد يؤمران به على جهةِ الندبِ.
وَلَوْ أَصَابَ دُونَ فَرْجِهَا فَأَنْزَلَ فَالْتَذَّتْ وَلَمْ تُنْزِلْ فَتَاوِيلُ ابْنُ الْقَاسِمِ: لا غُسْلَ عَلَيْهَا بِخِلافِ غَيْرِهِ ....
قال في المدونة: فإن جامَعَها دونَ الفرْجِ فوَصَلَ مِن مائه إلى داخل فرجِها فلا غُسْلَ عليها إلا أنْ تَلْتَذَّ. فمنهم مَن حَمَلَه على إطلاقِه، وهو تأويلُ الباجي وغيرِه، واختيارُ التونسي لأن التذاذَها مظنةُ الإنزالِ، وتأوّلَ ابنُ القاسم ذلك على أنها أَنْزَلَتْ.
وأما لو لم تَلتذ لم يجب عليها الغُسل اتفاقاً، قاله ابنُ هارون، وفيه نظر؛ لأن أبا الحسن الصغير نَقَلَ قولاً ثالثاً بوجوب الغسل بمجرد وصولِ الماء إلى فرجِها وإن لم تلتذ.
فَإِنْ أَمْنَى بِغَيْرِ لَذَّةٍ أَوْ بِلَذَّةٍ غَيْرِ مُعْتَادَةٍ كَمَنْ حَكَّ لِجَرَبٍ أَوْ لَدَغَتْهُ عَقْرَبٌ أَوْ ضُرِبَ فَأَمْنَى، فَقَوْلانِ ....
لما انتهى كلامُه على ما يتعلق بخروجِ المنيِّ ذَكَرَ ما يتعلق بقوله (المقارن للذة المعتادة) وهذا نالقولان جاريان على الخلافِ في الصورِ النادرةِ؛ لأن العادةَ خروجُ المني بلذَّةِ الجماعِ أو مقدماتِه، ولا فرقَ بين خروجِه بغيرِ لَذَة مطلقاً كالملدوغِ والمضروبِ، وبين خروجِه بلذةٍ غيرِ معتادةِ كحَكِّ والنزولِ ف يالماء السُّخْنِ. ابن بشير: والْمَشْهُورِ السقوطُ.
ولو أخَّرَ المصنفُ قوله: (كَمَنْ حَكَّ لِجَرَبٍ) عما بعده ليعودَ الأولُ إلى الأولِ والثاني للثاني لكان أَوْلَى. واخترا سحنون وأبو إسحاق القولَ بالوجوبِ.
وَعَلَى النَّفْيِ فَفِي الْوُضُوءِ قَوْلانِ
ويقع في بعضِ النُّسَخِ القولان مفسرين بالوجوب والاستحبابِ، وهو أحسنُ. فوجهُ الوجوبِ أن هذا الخارجَ له تأثيرٌ في الكرى وإن لم تؤثر فيها، فلا أقلَّ من الصغرى. ووجهُ العَدَمِ أن هذا الخارجَ غيرُ معتادٍ بالنسبة إلى الوضوءِ.
وَلَوِ الْتَذَّ ثُمَّ خَرَجَ بَعْدَ ذَهَابهَا جُمْلَةً، فَثَالِثُهَا: إِنْ كَانَ عَنْ جِمَاعٍ وَقَدِ اغْتَسَلَ فَلا يُعيد ....
هذه المسألةُ على وجهين: أحدُهما أن يُجامِعَ ولم يُنْزِل، ثم يغتسل ثم يخرج منه المنيُّ.
والثاني أن يلتذَّ بغيرِ جماعٍ، ولا يُنزل، ثم يُنزلُ، فقيل بالوجوبِ فيهما؛ لأنه مستندٌ إلى لذةٍ متقدمةٍ. وقيل: لا فيهما؛ لِعَدَمِ المقارَنَةِ، ولأن الجنابةَ في الأُولَى قد اغتُسِلَ لها.
والثالثُ التفرقةُ، فيجبُ في الثاني دونَ الأوّل؛ لأنه في الأوّل قد اغتسل لجنابتِه، والجنابةُ الواحدةُ لا يَتكرر لها الغُسل. وقد ذكر اللخميُّ والمازريُّ وغيرُهما الثلاثةَ الأقوالَ هكذا. وهكذا كان شيخُنا- رحمه الله تعالى- يُقَرِّرُ هذا المحل، وكذلك قرره ابن هارون.
وَعَلَى وُجُوبِهِ لَوْ كَانَ صَلَّى فَفِي الإِعَادَةِ قَوْلانِ
القولُ بالإعادةِ لأصبغَ، ومقابلُه لابن المواز، واختاره ابنُ رشد والمازريُّ وغيرُهما؛ لأنه إنما حُكِمَ له بالجنابةِ عِنْدَ الخروجِ.
وَعَلَى النَّفْيِ فَفِي الْوُضُوءِ قَوْلانِ
أي: بالإيجابِ والاستحبابِ. قال الباجي: وقال القاضي أبو الحسن: الظاهرُ مِن مذهبِ مالكٍ أنَّ الوضوءَ واجبٌ.
فَلَوِ انْتَبَهَ فَوَجَدَ بَلَلاً لا يَدْرِي: أَمَنِيٍّ أَمْ مَذْيٍّ وَلَمْ يَحْتَلِمْ، فَقَالَ مَالِكٌ: لا أَدْرِي مَا هَذَا. ابْنُ سَابِقٍ: كَمَنْ شَكَّ فِي الْحَدَثِ ....
هذه المسألة وقعت لمالك في المجموعةِ، يعني أن مالكاً توَقَّفَ. وقال ابن نافع: يغتسلُ. وظاهرُه الوجوبُ. وقال علي بن زياد: لا يَلزمه إلا الوضوءُ مع غَسْلِ الذَّكَرِ.
ابن الفاكهاني في شرح العمدة: والْمَشْهُورِ الوجوبُ كالوضوء.
وقوله: (ابْنُ سَابِقٍ) أي: وأجرى [27/أ] ابن سابق واللخمي وغيرُهما هذا الفرعَ على مَن شكَّ في الحَدَثِ، ولعل الفَرْقَ الذي أوجَبَ تَوَقُّفَ مالكٍ مشقةُ الغُسْلِ.
فرعان:
الأول: إذا قلنا بإنباتِ الغسلِ بالشكِّ فهل عليه أن يُضيف الوضوء إلى ذلك أم لا؟
المازريُّ: والْمَشْهُورِ أنه يَستغني بالغسل؛ لأنَّ مَن أَجْنَبَ يقيناً سَقَطَ عنه الوضوءُ واستغنى بالغسلِ، فمن شَكَّ هل أجْنَبَ أم لا- يَكْتَفِي بالغُسل، وقد رأيتُ بعضَ المخالفين ذَهَبَ إلى أنه يُضيف إلى غسلِه الوضوءَ. قال: وعندي أنه يَتخرَّجُ على قولِ مَن ذَهَبَ مِن أصحابِنا إلى وجوب الترتيبِ في الوضوءِ؛ لأن غسلَ الجنابة لا ترتيبَ فيه، والوضوءُ يَجِبُ ترتيبُه.
الثاني: لو استيقظ فذَكَرَ احتلاماً ولم يجِدْ بللاً فلا حُكْمَ له. قال المازري.
وَلَوْ رَأَى فِي ثَوْبِهِ احْتِلاماً اغْتَسَلَ، وَفِي إِعَادَتِهِ مِنْ أَوَّلِ نَوْمٍ أَوْ حَدَثِ نَوْمٍ قَوْلانِ
قوله: (احْتِلاماً) أي يابساً، وأما الطَّرِيُّ فيُعيد مِن أَحْدَثِ نومٍ اتفاقاً.
ومذهبُ الموطأ والمجموعةِ أنه يُعيد مِن أحدثِ نَوْمَةٍ. وقسم الباجي المسألة إلى قسمين: إن كان ينام فيه وقتاً دون وقتٍ- أعاد مِن أحدثِ نومةٍ اتفاقاً. وهل يُعيد ما قَبْلَ ذلك؟ قولان. وإن كان لا ينزعُه فروى ابن حبيب عن مالك أنه يُعيد من أوَّلِ نومةٍ.
الباجي: ورأيتُ أكثرَ الشيوخِ يَحملون هذا على أنه تفسيرٌ لمسألةِ الموطأ، وأن المسألتين مفترقتان، والصواب عندي أن يكون اختَلَفَ قولُه في الجميع. انتهى.
وعلى هذا فإطلاقُ المصنفِ موافقٌ لطريقِ الباجي، لا كما حكاه عن الأكثر، وذكر ابن راشد في المسألة ثلاثة أقوال: يُفَرِّقُ في الثالثة بينَ إِنْ كان ينزعُه فيُعيد مِن أحدثِ نومةٍ، وإن كان لا ينزعه فمِن أولِ نومةٍ.
قوله: (رَأَى فِي ثَوْبِهِ احْتِلاماً) أي: سواءٌ أَرَأَى أنه يُجامِعُ أم لا.
وَالْمَرْأَةُ كَالرَّجُلِ، وَمَنِيُّ الرَّجُلِ أَبْيَضُ ثَخِينٌ كَرَائِحَةِ الطَّلْعِ أَوِ الْعَجِينِ، وَمَنِيُّ الْمَرْأَةِ أَصْفَرُ رَقِيقٌ ......
أي في جميعِ ما تَقَدَّم، وهو كلامٌ واضحٌ.
الثَّانِي: انْقِطَاعُ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ، بخِلافِ انْقِطَاعِ دَمِ الاسْتِحَاضَةِ، ثُمَّ قَالَ: تَتَطَهَّرُ أَحَبُّ إِلَيَّ ..........
أي الموجبُ الثاني، لا إشكالَ في وجوبِ الغسلِ مِن دمِ الحيضِ والنفاسِ.
واختَلَفَ قولُ مالكٍ إذا انقطع دمُ الاستحاضةِ فقال أَوّلاً: لا يُسْتَحَبُّ الغُسْلُ؛ لأنها طاهرٌ، وليس ثَمَّ مُوجِبٌ؛ ولأنه دمُ عِلَّةٍ وفسادٍ، فأَشْبَهَ الخارجَ مِن الدُّبُرِز ثم رجع فقال: يُستحب لها الغُسْلُ؛ لأنه دمٌ خارجٌ مِن القُبُلِ، فتُؤمر بالغُسلِ منه كالحيضِ؛ ولأنها لا تخلو من دمٍ غالباً.
فَإِنْ وَلَدَتْ مِنْ غَيْرِ دَمٍ: فَرِوَايَتَانِ، وَإِنْ حَاضَتِ الْجُنُبُ أَوْ نُفِسَتْ أَخَّرَتْ
الظاهرُ مِن القولين الوجوبُ حَمْلاً على الغالب، ومنشأُ الخلافِ الخلافُ في الصُّوَرِ النادرةِ: هل تُعطى حُكمْ نَفْسِها أوم غالِبِها؟ وقال بعضهم: هل النفاسُ اسمٌ للدمِ ولم
يوجد، أو اسم لتَنَفُّسِ الرَّحِمِ وقد وُجِدَ؟ والروايتان بالوجوبِ والاستحبابِ لا كما يُعطيه كلامُ المصنفِ مِن السقوطِ.
وقوله: (وَإِنْ حَاضَتِ) إلى آخره، يعني أن الجنبَ إذا حاضتْ أو نُفِسَتْ فإنها تُؤَخِّرُ الغسلَ، وهذا هو الْمَشْهُورِ؛ لأن الحيضَ والجنابةِ حَدَثَانِ، فلا يَتَأَتَى رَفْعُ أحدِهما مع بقاءِ الآخرِ كالغائطِ والبولِ.
وقيل: إلا أن تُريدَ القراءةَ فتغتسلَ لتقرأَ القرآنَ؛ لأن الحائضَ تجوز لها القراءةُ، فكانت موانعُها مختلفةً، فأشبهت الجنابةَ والحدثَ الأصغرَ.
الثَّالِثُ: الْمَوْتُ. الرَّابِعُ: الإِسْلامُ: لأَنَّهُ جُنُبٌ عَلَى الْمَشْهُورِ. وَقِيلَ: تَعَبُّدٌ. وَعَلَيْهِمَا لَوْ لمَ ْتَتَقَدَّمْ له جَنَابَةٌ. وَقَالَ إِسْمَاعِيلُ الْقَاضِي: يُسْتَحَبُّ وَإِنْ كَانَ جُنُباً لِجَبَّ الإِسْلامِ، وَأُلْزِمَ الْوُضُوءَ ....
ما ذَكره في الموتِ مبنيٌّ على القولِ بالوجوبِ وسيأتي. ولا يَحْسُنُ عَدُّ الإسلامِ موجباً رابعاً إلا على الشاذِّ، وأما على الْمَشْهُورِ فقد دخل في الموجِبِ الأول. والتعبدُ حكاه المازري وابن شاس وغيرُهما عن القاضي إسماعيل، وينبني على الخلاف لو بَلَغَ بغيرِ احتلامٍ لم يغتسل على الْمَشْهُورِ، وعلى قول إسماعيل يُستحب، قاله المازري وابن شاس وابن عطاء الله. وعلى هذا ففي قولِ المصنفِ:(وَقَالَ إِسْمَاعِيلُ الْقَاضِي: يُسْتَحَبُّ وَإِنْ كَانَ جُنُباً لِجَبَّ الإِسْلامِ، وَأُلْزِمَ الْوُضُوءَ) نظرٌ لأن كلامَه يقتضي أن القائلين بالوضوء اختلفوا: فمنهم مَن قال: إنه للجنابة. ومنهم من قال: إنه تعبد. وأن قولَ إسماعيل ثالثٌ. وكلامُ هؤلاء الشيوخ يَقتضي أن مَن قال بالتعبدِ قال بالاستحباب، ولفظُ المازري: واختلَف أصحابُنا في غُسل الكافر هل هو للجنابةِ أو للإسلامِ؟ فمَنْ رآه للجنابةِ جعله واجباً إِذْ غُسْلُ النابة واجبٌ، ومَن رآه للإسلام جعله مستحَبّاً، وهو قول القاضي إسماعيل، لكنَّ المصنفَ تَبعَ ابنَ بشيرٍ، فإنه قال: اختلف القائلون بالوجوبِ هل ذلك للإسلامِ أو لأنَّ
الكافر يُجْنِبُ ولا يَغْتَسِلُ. وعلَّلَ الأولَ بقوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} [التوبة: 28] قال: والنجسُ لا يَقربُ الصلاةَ إلا بعد غسلِ نجاستِه. واعلم أنَّ التعليلَ بالجنابةِ لا يَضُرُّ؛ لأن الغسلَ قد يكونُ لانقطاعِ دمِ الحيضِ فيمن بلغتْ به وأَسْلَمَتْ. ويمكن أن يُجاب على ما استدل به إسماعيلُ بأن المرادَ جبُّ الإثمِ، وإلا سقطتْ حقوقُ الخلقِ. [27/ ب] وألزَمَه اللخميُّ وغيرُه القولَ بسقوطِ الوضوءِ؛ لأن الإسلامَ إن كان يَجُبُّ ما كان مِنْ حدثٍ في حالِ الكفرِ- جَبَّ فيهما، وإلا فلا.
فَإِنْ لَمْ يَجِدْ مَاءً فَالْمَنْصُوصُ يَتَيَمَّمُ إِلَى أَنْ يَجِدَ كَالْجُنُبِ. وَعَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ: وَلَوْ أَجْمَعَ عَلَى الإِسْلامِ فَاغْتَسَلَ لَهُ أَجْزَأَهُ وَإِنْ لَمْ يَنْوِ الْجَنَابَةَ لأَنَّهُ نَوَى الطُّهْرَ، وَهُوَ مُشْكِلٌ .....
قوله: (إِلَى أَنْ يَجِدَ كَالْجُنُبِ) ظاهرُ التَّصَوُّرِ. ومقابلُ المنصوص يأتي على التعبدِ؛ لأنه يرى أن الغسلَ مستحبٌّ كما تقدم، ولا يتيمم للمندوب.
وقوله: (وَعَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ) إلى آخره، يعني أن ابن القاسم يقول: إذا اغتَسَلَ بعدَ أن عَزَمَ على الإسلام، وقَبْلَ أن يتلفَّظَ بالشهادة- أجزَأَهُ ذلك في الجنابةِ وإن لم يَنْوِها. ونقل صاحبُ العمدة في المسألة قولين بالإجزاءِ وعدمِه. وقول ابن القاسم مشكل لوجهين: أحدهما أن الغسل عنده للجنابة وهو لم ينوها، وليس للإنسان إلا ما نوى. والثاني أنه قبل التَّلَفُّظِ على حُكْمِ الشِّرْكِ، فلا يَصِحُّ منه الغسلُ؛ لأن التلفظَ في حقِّ القادرِ شرطٌ على الْمَشْهُورِ، والْمَشْهُورِ عدمُ اشتراطِه مع العجزِ، نقله عياض. وهذا بخلافِ الكُفْرِ فإنه لا يَفتقر إلى لفظٍ؛ لأنه مقامُ خِسَّةٍ. وينبغي حَمْلُ قولِ ابن القاسم على ما إذا كان خائفاً أن ينطقَ بالشهادةِ. ابنُ هارون: وقد يُجاب عن الأوَّلِ بأنه- وإن لم ينوِ الجنابةَ- فقد نوى أن يكونَ على طُهْرٍ، وذلك يَستلزِمُ رَفْعَ الجنابةِ، وعن الثاني أنه إذا اعتقدَ الإسلامَ فهو ممن تَصِحُّ القُرْبَةُ بخلافِ مَن لم يعتقده؛ لما في الصحيحين مِن اغتسالِ ثُمَامَةَ قبل أن يُسْلِمَ، ثم أَسْلَمَ ولم يأمُره صلى الله عليه وسلم بإعادةِ الغُسْلِ.
وَالْجَنَابَةُ كَالْحَدَثِ، وَتَمْنَعُ الْقِرَاءَةَ عَلَى الأَصَحَّ، وَالآيَةُ وَنَحْوُهَا لِلتَّعَوُّذِ مُغْتَفَرٌ
أي: أن الجنابةَ في الموانعِ كالحَدَثِ الأصْغَرِ، وتَزيدُ عليه بمنعِ أشياء لا يَمنع منها الحدثُ الأصغرُ، منها القراءةُ على الْمَشْهُورِ.
ابنُ عطا الله وغيرُه: وأجاز مالكٌ في المختصر للجُنُبِ أن يَقرأ القليلَ والكثيرَ، وقال في سماعِ أشهب: يَقْرَأُ اليسيرَ.
ابن راشد: ولا وجهَ لما في المختصر؛ لأنَّ الحديثَ في المنعِ صحيحٌ، ففي النسائي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يَخرج من الخلاءِ فيقرأُ القرآنَ ويَأكلُ، ولم يَكُنْ يحجبُه عن القراءةِ شيءٌ سوى الجنابةِ.
وعنه أيضاً: قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اقْرَأِ الْقُرْآنَ على كلِّ حَالٍ ما لم تَكُنْ جُنُباً)).
وقوله: (وَالآيَةُ وَنَحْوُهَا) أي: والآيتان والثلاث، يعني: لا يُباح له ذلك على معنى القراءةِ، بل هو على معنى التَّعَوُّذِ أو الرُّقَي أو الاستدلالِ ونحوه للمشقةِ في المنعِ على الإطلاقِ. انتهى بالمعنى.
وَدُخُولَ الْمَسْجِدِ وَإِنْ كَانَ عَابِراً عَلَى الأَشْهَرِ
الأشهَرُ- كما قال- المَنْعُ مِن دُخولِ المسجدِ مطلقاً.
قال مالك: ولا بأسَ أن يَمُرَّ ويَقْعُدَ فيه مَن كان على غيرِ وضوءٍ. ونُقل عن مالك الجوازُ إذا كان عابرَ سبيلٍ. ومنشأُ الخلاف قوله تعالى: {وَلا جُنُباً إِلَاّ عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا} [النساء: 43] هل المرادُ مواضعُ الصلاةِ؟ فيكون في الآيةِ إضمارٌ، أي: ولا تقربوا مواضع الصلاة، أي: وأنتم سكارى، أو المرادُ الصلاةُ نفسهُا، والتقدير: ولا تقربوا
الصلاة جنباً إلا عابري سبيل، أي: إلا وأنتم مسافرون بالتيمم، وهو مرويٌّ عن عليٍّ رضي الله عنه، وعليه فيكونُ في الآية دليلٌ على أن التيممَ لا يرفع الحدث.
وقال ابن مسلمة: لا ينبغي للحائض أن تَدخل المسجدَ لأنها لا تَامَنُ أَنْ يَخرجَ منها ما يُنَزَّهُ المسجدُ عنه، ويَدْخُله الجُنُبُ لِلأَمْنِ مِنْ ذلك.
وقال اللخمي: وعلى قولِ ابنِ مسلمةَ يجوز كونُ الجنبِ فيه، وكذلك الحائضُ إذا استَثْفَرَتْ بثوبٍ.
(وَدُخُولَ الْمَسْجِدِ) مِن قَوْلِ المصنفِ معطوفٌ على القراءةِ.
وَيُمْنَعُ الْكَافِرُ وَإِنْ أَذِنَ لَهُ مُسْلِمٌ
المنعُ لِحُرْمَةِ المسجدِ، وهو حقٌّ للهِ تعالى فلا يَسْقُطُ، ونَبَّهَ بهذا على خلافِ مَن أجازَ ذلك إِنْ أَذِنَ له مُسْلِمٌ.
ابن عبد السلام: وهو ظاهرُ الأحاديث، وقد كان ثمامة رضي الله عنه مربوطاً في المسجد قَبْلَ أن يُسْلِمَ. انتهى.
وَجْهُ المْنْعِ قولُه تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} [التوبة: 28].
وإذا مُنِعُوا مِن المسجدِ الحرامِ للنجاسةِ وَجَبَ أن يُمنعوا مِن سائرِ المساجدِ للاتفاقِ على تنزيهِ سائرِها كالمسجدِ الحرامِ، ولعمومِ الحديثِ:"لا أُحِلُّ المسجدَ لحائضٍ ولا جُنُبٍ" رواه أبو داود. وقال النسائي: لا بأسَ به. ولأنه إذا مُنِعَ الجُنُبُ والحائض فالكافر أولى.
وَلِلْجُنُبِ أَنْ يُجَامِعَ وَيَاكُلَ وَيَشْرَبَ
هذا ظاهر. وقد روى البخاري ومسلم والترمذي والنسائي عن أنس رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يَدُورُ على نسائِه في الساعةِ الواحدةِ مِن الليلِ أو
النهارِ، وهن إحدى عشرةَ نسوةً. قيلَ لأنسٍ: أكان يُطِيقُه؟ قال: كُنَّا نتحدثُ أنه صلى الله عليه وسلم أُعْطِيَ قوةَ ثلاثين رجلاً. ولم يذكر في الحديث أنه اغْتَسَلَ قَبْلَ أن يَأتي الأُخْرَى.
واستحسَنُوا له غسلَ فرجِه قبلَ إعادةِ الجماعِ، وعليه حُمِلَ قولُه صلى الله عليه وسلم:"إذا أَتَى أحدُكم أهلَه ثم أَراد أن يَعُودَ فليتوضأ".
وفي الغَسْلِ فوائدُ: تقويةُ العُضْوِ، وإزالةُ النجاسةِ؛ فإنَّ رُطوبةَ فرجِ المرأةِ- عندنا - نجسةٌ لاختلاطِها بالبولِ وغيرِه.
وَفِي وُجُوبِ الْوُضُوءِ قَبْلَ النَّوْمِ وَاسْتِحْبَابِهِ قَوْلانِ بخِلافِ الْحَائِضِ عَلَى الْمَشْهُورِ، وَفِي تَيَمُّمِ الْعَاجِزِ قَوْلانِ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ لِلنَّشَاطِ أَوْ لِتَحْصِيلِ طَهَارَةٍ
قال القاضي عياض: ظاهِرَ المذهب أنه مستَحَبٌّ، وقد ورد في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم أَمَرَ به.
ورُوي عن عائشة رضي الله [28/أ] عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينام وهو جُنُبٌ ولا يَتوضأ. رواه أحمد، وأبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، وصححه البيهقي وغيرُه، وضعَّفَه بعضُهم.
وقال الترمذي: حديثُ الأَمْرِ أَصَحُّ مِن هذا الحديثِ.
فتأَوَّلَ الجمهورُ الأَمْرَ عَلَى النَّدْبِ، وهذا على سبيلِ الجوازِ جَمْعاً بين الأَدِلَّةِ. والوجوبُ قولُ ابنِ حبيبٍ.
والْمَشْهُورِ في الحائضِ عَدَمُ الأَمْرِ بناءً على التعليلِ بالنشاطِ، قال في النكت: ويستوي حُكمُها وحُكْمُ الجنبِ إذا انقطعَ الحيضُ.
وأما التيممُ فعلى النَّشَاطِ، لا يُؤْمَرُ به، وهو على قولِ مالكٍ في الواضحةِ. وعلى أنه لتحصيلِ الطهارةِ يُؤْمَرُ به، وهو قولُ ابنِ حبيبٍ.
الباجي: ولا يُبطل هذا الوضوءَ بَوْلٌ ولا غيرُه إلا الجماعُ. قاله مالك في المجموعة. وقال اللخميُّ: إن قُلنا: الغسلُ للنشاطِ لا يُعيد الوضوءَ وإِنْ أَحْدَثَ، وإن قُلنا لينامَ على إحدى الطهارتين أَعَادَ الوضوءَ استحباباً إِنْ أَحْدَثَ.
وَوَاجِبُهُ النِّيَّةُ وَاسْتِيعَابُ الْبَدَنِ بِالْغَسْلِ وَبِالدَّلْكِ عَلَى الأَشْهَرِ
ابن عبد السلام وابن هارون: اتُفِقَ هنا على وجوبِ النيةِ، وخَرَّجَ جماعةٌ قولاً بعدمِه مِن الوضوء.
ابن هارون: وقد يُفَرَّقُ بأن الوضوءَ فيه معنى النظافة؛ لكونه متعلقاً بالأعضاء التي يَتعلق بها الوَسَخُ غالباً، بخلافِ الغُسْلِ.
وقوله: (الْبَدَنِ) أي: الظاهرُ، فلا تَرِدُ عليه المضمضةُ والاستنشاقُ كما زَعَمَ ابنُ هارون، والدَّلْكُ هنا كالوضوءِ.
فَلَوْ كَانَ مَمَّا لا يَصِلُ إِلَيْهِ بِوَجْهٍ سَقَطَ، وَإِنْ كَانَ يَصِلُ باسْتِنَابَةٍ أَوْ خِرْقَةٍ فَثَالِثُهَا: إِنْ كَانَ كَثِيراً لَزِمَهُ
…
أي: إن كان بعضُ جسدِه لا يَصِلُ إليه بوَجْهٍ، أو لم يكن هناك مَن يَسْتَنيبُهُ، أو كان في موضعٍ لا يَطَّلِعُ عليه أحدٌ غيرُه لكونه عورةً- سَقَطَ، وإن كان مما يصل إليه باستنابة أو بخرقة، فثلاثة أقوال وهي ظاهرةٌ. والظاهرُ الوجوبُ لأنه مما لا يُتوصل إلى الواجبِ إلا به، وهو لسحنون، والسقوطُ في الواضحة، والثالثُ للقاضي أبي الحسن.
وَلَوْ تَدَلَّكَ عَقِيبَ الانْغِمَاسِ وَالصَّبِّ أَجْزَأَهُ عَلَى الأصَحِّ
الأصحُّ كما قاله المصنفُ؛ لأن في اشتراطِ المَعِيَّةِ حَرَجاً- وقد نفاه اللهُ- وهو قولُ أبي محمد، ومقابلُه لابن القابسي.
وَلا تَجِبُ الْمَضْمَضَةُ وَلا الاسْتِنْشَاقُ وَلا بَاطِنُ الأُذْنَيْنِ كَالْوُضُوءِ، وَيَجِبُ ظَاهِرُهُمَا، وَالْبَاطِنُ هُنَا الصِّمَاخُ
…
نَبَّهَ على عدمِ وجوبِ المضمضةِ والاستنشاقِ على خلافِ أبي حنيفةَ فإنه يَرى وجوبَهما.
وقوله: (وَلا بَاطِنُ الأُذْنَيْنِ) أي الصماخ، ومسحُه سُنَّةٌ.
وقوله: (كَالْوُضُوءِ) أي: أنهما سُنة في الغُسل كالوضوءِ. ومرادهُ بظاهِرِ الأذُنَيْنِ ظاهرُ الأَشْرَافِ مما يَلي الرَّاسَ ومما يُواجِه، بخلافِ داخلِ الأذنين في الوضوءِ؛ ولذلك قال:(وَالْبَاطِنُ هُنَا الصِّمَاخُ).
وَتَضْغَثُ الْمَرْأَةُ شَعْرَهَا مَضْفُوراً، وَالأَشْهَرُ وُجُوبُ تَخْلِيلِ اللِّحْيَةِ وَالرَّاسِ، وَغَيْرِهِمَا
(وَتَضْغَثُ) بفتح التاء والغين المعجمة والضاد المسكنة وآخره ثاء مثلثة، ومعناه: تَضُمُّه وتَجمعه وتُحرِّكُه وتعصرُه، قال عياض.
وقوله: (مَضْفُوراً) مبنيٌّ على الغالبِ، وإلا فلا فَرْقَ بين المضفورِ والمربوطِ، وفي الصحيح عن أم سلمة قالت:"جاءتِ امرأةٌ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول اللهَ إني امرأةٌ أَشُدُّ ضُفْرَ رَاسِي، فكيف أصنعُ إذا اغتسلتُ؟ فقال: احْفِنْي عليه مِن الماءِ ثلاثَ حَفَنَاتٍ، ثُمَّ اغمِزِيهِ على إِثْرِ كُلِّ حَفْنَةٍ بِكَفَّيْكِ" رواه مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه، واللفظُ المتقدِّمُ لأبي داود.
ولفظ مسلم: "إنما يَكْفِيكِ أَنْ تَحْثِي عليه ثَلاثَ حَثَيَات، ثم تُفِيضِي عليك الماءَ فتَطْهُرِينَ"، وفي رواية "أَفَأَنْقُضُهُ لِلْحَيْضَةِ والجَنَابةِ؟ فقال: لا".
وما ذكَرَه مِن الأشْهَرِ في اللحيةِ والرأسِ تَبعَ فيه ابنَ بشيرٍ، والذي في العتبية- ونَقله الباجي وغيره- مِن الخلافِ إنما هو في اللحيةِ، ففي العتبية: قال ابن القاسم: وسُئل
مالكٌ عن الجُنُبِ إذا اغتسل أَيُخَلَّلُ لِحْيَتَهُ؟ قال: ليس ذلك عليه. وقال أشهب عن مالك: إن عليه تخليلَ اللحيةِ من الجنابةِ.
ومقابلُ الأَشْهَرِ مِن كلامِ المصنفِ نَفْيُ الوجوبِ، وهو أَعَمُّ مِن الندبِ والسقوطِ، والذي حكاه الباجيُّ أنه السقوطُ، وحكى عياضٌ وابن شاس أنه الندبُ. وانظرْ كيف جَعَلَ الأَشْهَرَ رِوَايَةَ أشهبَ إلا أن يكونَ الأشهرُ ما قَوِيَ دليلُه، ففي الموطأ أنه صلى الله عليه وسلم كان يُخَلِّلُ أصولَ شعرهِ.
وأما الرأسُ فلم ينصَّ أصحابُنا فيه إلا على الوجوبِ، وقد حكى القاضي عياض أنه مُجمعٌ عليه. ابن هارون: وإنما اعتمد المصنفُ في نقلِ الخلافِ فيه على ابن بشير، ولم أَرَه لغيرِهما، نَعَمْ خَرَّجَ عبدُ الوهاب الخلافَ في الرأسِ مِن اللحيةِ.
وَالأَكْمَلُ أَنْ يَغْسِلَ يَدَيْهِ ثُمَّ يُزِيلَ الأَذَى عَنْهُ ثُمَّ يَغْسِلَ ذَكَرَهُ، ثُمَّ يَتَوَضَّأ
لِيَقَعَ الغَسْلُ في عضوٍ طاهرٍ، ومقتضى كلامِه أنه لو اغَتَسَلَ غسلةً واحدةً ينوي بذلك رَفْعَ الحَدَثِ، وزالتْ مع ذلك النجاسةُ أَجْزَأَهُ، ونحوُهِ لِلَّخْمِيِّ وابنِ عبد السلام وغيرِهما خلافَ ما يُعطيه كلامُ ابنِ الجلابِ مِن وجوبِ الإزالةِ أَوّلا، كما يفهمُه غيرُ واحدٍ مِن كلامِه، وكان شيخُنا- رحمه الله تعالى- يقول: كلامُ ابن الجلاب حقٌّ، ولا يمكن أن يُخَالِفَ فيه أحدٌ؛ إِذْ لا بُدَّ مِن انفصالِ الماءِ عن العضوِ مطلقاً، ولو انفَصَلَ متغيراً بالنجاسةِ لم يُمْكِنُ القولُ بحصولِ الطهارةِ لهذا المتطهرِ.
وعلى هذا فلا بُدَّ مِنْ إزالةِ النجاسةِ قَبْلَ طهارةِ الحَدَثِ.
وقوله: (وَالأَكْمَلُ أَنْ يَغْسِلَ يَدَيْهِ) يعني قَبْلَ إدخالهِما في الإناءِ كما في الوضوء.
وقوله: (ثُمَّ يَغْسِلَ ذَكَرَهُ) أي [28/ب] وإِنْ لم تَكُنْ عليه نجاسةٌ، فإِنَّ غَسْلَه للجنابةِ، ويُقَدِّمُ غَسْلَه ليَامَنَ مِنْ نَقْضِ الوضوءِ بمَسِّه، وعلى هذا فيَنوي عند غَسْلِ الفَرْجِ، وإلا فلا بُدَّ مِنْ غَسْلِه ثانياً لِيَعُمَّ جميعَ جَسَدِه، ذَكَرَ ذلك المازريُّ وغيرُه.
وقوله: (ثُمَّ يَتَوَضَّأ) أي: بنيةِ رَفْعِ الجنابةِ عن تلك الأعضاءِ، ولو نوى الفضيلةَ وَجَبَ عليه إعادةُ غَسْلِها.
عياضٌ: ولم يَأتِ تكْرَارُه في الأحاديثِ. وذكر بعضُ شيوخِنا أنه لا فضيلةَ في تكرارِه، يُريد لأنه مِن الغَسْلِ، ولا فضيلةَ في تكرارِه.
وَفِي تَأخِيرِ غَسْلِ الرِّجْلَيْنِ، ثَالِثُهَا: يُؤَخِّرُ إِنْ كَانَ مَوْضِعُهُ وَسِخاً
منشأُ الخلافِ حديثُ عائشةَ- رضي الله عنها فإن فيه تقديمَ غسلِهما رواه مالك والبخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي- وحديثُ ميمونةَ فإن فيه تأخيرَ غسلِهما، رواه البخاريُّ وغيرُه.
والقولُ الثالثُ منهم مَن عَدَّةُ ثالثاً- كما فَعَلَ المصنفُ- ومنهم مَن جَعَلَهُ جَمْعاً، وزاد بعضُهم التخييرَ. ابن الفاكهاني في شرح العمدة: والْمَشْهُورِ التقديمُ.
وَعَلَى تَاخِيرِهِمَا فَفِي تَرْكِ الْمَسْحِ رِوَايَتَانِ
وجهُ التَّرْكِ أنه لا فائدةَ للمَسْحِ؛ لأنه يغسلُه حينئذٍ، وأيضاً فإن المستحبَّ تخليلُ شعرِ الرأسِ قبلَ الغَسْلِ، وذلك يَنُوبُ له عن المَسْحِ، ووجهُ مقابلِه أن الأفضلَ تقديمُ أعضاءِ الوضوءِ، وخرجتِ الرجلانِ بدليلٍ ويَبْقَى ما عداهما على الأصلِ.
ثُمَّ يُفِيضُ الْمَاءَ عَلَى رَاسِهِ ثَلاثاً، وَالْمَوَالاةُ كَالْوُضُوءِ
اعلمْ أَنَّ الفَرْضَ في الغُسْلِ واحدةٌ، وليس في الغُسْلِ شيءٌ يُنْدَبُ فيه التكرارُ غير الرأسِ.
وقوله: (وَالْمَوَالاةُ كَالْوُضُوءِ) أي: فَتجِبُ على الْمَشْهُورِ.
وَيُجْزِئُ الْغُسْلُ عَنِ الْوُضُوءِ، وَالْوُضُوءُ عَنْ غُسْلِ مَحَلِّهِ
أي: وغَسْلُ الوضوءِ عن غَسْلِ محلِّه؛ لأن ممسوحَ الوضوءِ لا يُجزئُ عن غسل محلِّه.
واعْلَمْ أنَّ الأصغرَ يدخلُ تحتَ الأكبرِ، كما ذكر، وهل يَدخل الأكبرُ تحتَ الأصغرِ؟ لم يختلفِ العلماءُ أنه لا يُجزئ في الطهارةِ المائيةِ لاختلافِ الموجِبِ والموجَبِ مَعاً.
وفي التُرّابِيَّةِ قولان: الإجزاءُ لاتفاقِ الموجَبِ، ونَفْيُه لاختلاف الموجِبِ، حكاهما القاضي أبو محمدِ في التلقينِ والمازريُّ وغيرُهما.
قال ابنُ بَزِيزَةَ: وانظرْ لو لَزِمَهُ رَفْعُ الحَدَثِ الأصغرِ، فنوى الأكبرَ، هل يُجزئُه لاندراجِ الجزءِ تحتَ الكلِّ، أم لا يُجزئُه لخروجِه عن سَنَنِ الشَّرْعِ، وإفسادِه الأوضاعَ الشرعيةَ بالقَلْبِ والتغييرِ فصار كالعابِثِ؟
فرع:
قال الشيخ أبو إسحاق: مَن اغتسلَ يَنوي به الطهرَ، ولم ينوِ الجنابةَ، فقال مالكٌ مَرَّةً: يُجْزِئُه. وقال مرة: لا يجزئه. وعلى ذلك أكثرُ أصحابِنَا.
وإذا تقرر ذلك فيدخل في قوله: (وَيُجْزِئُ الْغُسْلُ عَنِ الْوُضُوءِ) لو اغتسل ثم ذَكَرَ أنه غيرُ جُنُبٍ، وقد نصَّ اللخميُّ فيها على الإِجزاءِ.
ويَدخل في قوله: (وَالْوُضُوءُ عَنْ غُسْلِ مَحَلِّهِ) ما لو توضأ ثم ذَكَرَ أنه جُنُبٌ أنه لا يَلْزَمُهُ أن يأتيَ في غَسْلِه على أعضاءِ الوضوءِ، وقد نصَّ اللخميُّ على ذلك أيضاً. وخرَّج المازريُّ فيها قولين، فمَنْ نوى بتيممِه الحدثَ الأصغرَ، هل يُجزئُه عن الأكبر أم لا؟
ويدخل أيضاً في قوله: (ويجزئ الوضوء عن غسل محله) ما لو كانت جبيرةٌ مَسَحَ عليها في غسلِ الجنابةِ، ثم سقطتْ وتَوضأ بَعْدَ ذَلِكَ، وكانت في مغسولِ الوضوءِ. وقد نَصَّ في المدونة في هذه على الإجزاءِ، وسيأتي مِن كلامِ المصنفِ.
ويَدخل أيضاً لو ترك لُمْعَةً في الجنابةِ ثم غَسَلَها في الوضوءِ، وظاهرُ كلامِه الإجزاءُ، فانظرْه.
وَفِيهَا: وَلا يَغْتَسِلُ فِي الْمَاءِ الرَّاكِدِ، وَإِنْ غَسَلَ الأَذَى لِلْحَدِيثِ
لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يَغْتَسِلُ أَحَدُكُمْ في الماءِ الدَّائِمِ وهو جُنُبٌ. فقالوا: كيفَ يَفْعَلُ يا أبا هريرةَ؟ قال: يَتَناوَلُه تَناوُلاً" رواه مسلم والنسائي وابن ماجه.
قال ابن القاسم في العتبية: وسُئل مالكٌ عن اغتسالِ الجنبِ في الماءِ الراكدِ، وقد غَسَلَ ما به مِن الأذى؟ فقال: قد نُهِيَ الجنبُ عن الاغتسالِ في الماءِ الراكدِ، وجاء به الحديثُ، ولم يَاتِ في الحديثِ أنه إذا غَسَلَ الأَذَى عنه جازَ له الاغتسالُ.
وقال ابن القاسم: وأنا لا أَرَى به بَاساً إن كان قد غَسَلَ ما به مِن الأَذَى، وإن كان الماء كثيراً يَحْمِلُ ما يَقَعُ فيه، فلا أَرَى به بأساً، غَسَلَ ما به مِن الأَذَى أم لم يَغْسِلْه. قال في البيان: فجَعَلَ مالكٌ العلةَ النهيَ مِنْ غيرِ عِلَّةٍ، وحَمَلَه ابنُ القاسم على أنه لاِنْتِجَاسِ الماءِ، فإذا ارتفعتِ العِلَّة ارتفعَ المعلولُ.
واعلمْ أنَّ بعضَهم ذَكَرَ الإجماعَ على إخراجِ الماءِ الكثيرِ جدّاً كالمُسْتَبْحِرِ، وعلى هذا فتَخْرُجُ هذه الصورةُ مِن الخِلافِ.
وَفِيهَا: فِي بِئْرٍ قَلِيلَةِ الْمَاءِ وَنَحْوِهَا، وَبيَدِهِ نَجَاسَةٌ يَحْتَالُ، يَعْنِي: بِآنِيَةٍ أَوْ بِخِرْقَةٍ أَوْ بِفِيهِ عَلَى الْقَوْلِ بِتَطْهِيرِهِ، فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ فَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: لا أَدْرِي. وَأُجْرِيَتْ عَلَى الأَقْوَالِ فِي مَاءٍ قَليلٍ تَحُلَّهُ النَّجَاسَةُ وَلَمْ تُغَيِّرْهُ، وَقَالَ: فَإِنِ اغْتَسَلَ فِيهَا أَجْزَأَهُ وَلَمْ يُنَجِّسْهَا إِنْ كَانَ مَعِيناً
تَصَوُّرُ هذه المسألةِ ظاهرٌ، وأشار ابنُ عبد السلام إلى بحثِ حَسَنٍ وهو أنَّ ظاهرَ المذهبِ أنه إذا أُزيلت النجاسةُ بغير المطلَقِ مِن الطاهر فإن محلَّها لا يُنَجِّسُ ما لاقاه، فعلى هذا يأخذ الماءَ بِفِيِهِ فيغسلُ يديه، ثم يأخذ الماءَ بيديه فيغسلُهما. ولا يضرُّه ذلك يعني إدخالَهما في الماءِ الراكدِ.